الأحد، 26 فبراير 2023

ج1وج2.كتاب الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي

 

ج1وج2.كتاب الاكتفاء بما تضمنه من

  مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي

مقدمة المؤلفقال الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الثبت الشهيد أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي البلنسي كرم الله مثواه وجعل الجنة مستقره ومأواه
الحمد لله الذي من علينا بالإسلام وأكرمنا بنبيه محمد عليه أفضل الصلوات والسلام وجعل آثاره الكريمة ضالتنا المنشودة والاقتداء بهديه الأهدى ونوره الأوضح الأبدي غايتنا المقصودة وأمنيتنا المودودة وأنعم على قلوبنا بالارتياح لذكراه والاهتزاز عند سماع خبر عنه مصدره أو إليه منتماه
وإنه لأثر رجاء في هذه القلوب البطالة وأثاره خير يرجى أن يذودها عن مشارع الجهالة ومنازع الضلالة فإن الارتياح للذكر شهادة الحب وأمارة المحب
وقد روى عنه صلوات الله عليه نقلة السنة أن من أحبه كان معه في الجنة
فنسأل الله أن يكتبنا في محبيه حقيقة ويسلك بنا من الوقوف عند مقتضيات أوامره ونواهيه طريقة بالسعادة خليقة
فما نزال طالبين ذلك من أكرم مطلوب لديه راغبين فيه إلى خير مرغوب إليه وإن لم نكن أهلا للإسعاف بتقصيرنا في الأعمال فإنه جل جلاله أهل الجود والإفضال
ونصلي قبل وبعد على هذا النبي المبارك الكريم صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتخبين خير صحب وخير آل
وهذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن سيرة رسول {صلى الله عليه وسلم} وذكر نسبه ومولده وصفته ومبعثه وكثير من خصائصه وأعلام نبوته ومغازيه وأيامه من لدن مولده إلى أن استأثر الله به وقبض روحه الطيبة إليه صلوات الله وبركاته عليه
مقدما لذلك ما يجب تقديمه ومتمما من ذكر أوليته المباركة بلدا ومحتدا بما يحسن علمه وتعليمه ملخصا جميعه من كتب أئمة هذا الشأن الذين صرفوا إليه اعتناءهم واستنفذوا في آناءهم ككتاب محمد بن إسحاق الذي تولى عبد الملك بن هشام تهذيبه واختصاره وكتاب موسى بن عقبة الذي استحسن الأئمة اقتصاده واقتصاره وغيرهما من المجموعات التي لا يديم الإنصاف قصد جامعها ولا يذم الاختبار اختياره

ولكن عظم المعول بحكم الخاطر الأول على كتاب ابن إسحاق إياه أردت وتجريده من اللغات وكثير من الأنساب والأشعار قصدت و على ترتيبه غالبا جريت ومنزعه في أكثر ما يخص المغازي تحريت
فإنه الذي شرب ماء هذا الشأن فأنقع ووقع كتابه من نفوس الخاص والعام أجل موقع
إلا أنه يتخلله كما أشرنا إليه قبل أشياء من غير المغازي تقدح عند الجمهور في إمتاعه و تقطع بالخواطر المستجمعة لسماعه
وإن كانت تلك القواطع عريقة في نسب العلم وحقيقة بالتقييد والنظم فعسى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخص إذ لكل مقام مقال لا يحسن في غيره الإيراد له والنص
ولذلك نويت فيه أن أحذف ما تخلله من مشبع الأنساب التي ليس احتياج كل الناس إليها بالضروري الحثيث ونفيس اللغات المعوق اعتراضها اتصال الأحاديث حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة و خلاصة المغازي التي هي في هذا المجموع المقصودة المعتمدة
ظنا منى أنه إذا أذن الله في تمامه وتكفل تعالى بتيسير محاولته وفق المأمول وتقريب مرامه استأنفت النفوس له قبولا و عليه إقبالا و لم يزده هذا النقص لدى جمهورهم إلا كمالا
ثم بدا لي أن أزيد على هذا المقدار ما يحسن في هذا المضمار وأعوض مما حذفت منه من اللغات والأنساب والأشعار بما يكون له إن شاء الله مزية الاختيار ويروق عليه رونق الإيثار منتقيا ذلك من الدواوين التي طار بها في الناس طائر الاشتهار ومتخيرا له من الأماكن التي لا يستقل بحصر فوائدها و انتقاء فرائدها كل مختار
ككتاب ابن عقبة وقد سميته فإنه وإن اختصره جدا فقد أحسن العبارة وأتى مواضع من المغازي حذاها بسطه و حماها اختصاره
وسأضع على كثير منها ميسمه وأرسمها في هذا المختصر على نحو ما رسمه
وقد وقفت على كتاب محمد بن عمر الواقدي في المغازي ولم يحضرني الآن لكني رأيته كثيرا ما يجري مع ابن إسحاق فاستغنيت عنه به لفضل فصاحة ابن إسحاق في الإيراد وحسن بيانه الذي لا يفقد معه استحسان الحديث المعاد

وللواقدي أيضا كتاب المبعث وهو مشبع في بابه ممتع باستيفائه واستيعابه قد نقلت هنا منه جملا تناسب الغرض المسطور وتصد المعترض أن يجور
وكذلك كتاب الزبير بن أبي بكر القاضي رحمه الله في أنساب قريش وهو كما سمعت شيخنا الخطيب أبا القاسم ابن حبيش رحمه الله يحكى عن شيخه أبي الحسن ابن مغيث أنه كان يقول فيه هو كتاب عجب لا كتاب نسب
التقطت أيضا من درره نفائس معجبة وتخيرت من فوائده نخبا لمتخيرها موجبة
ومثله التاريخ الكبير لأبي بكر ابن أبي خيثمة وناهيك به من بحر لا تكدره الدلاء وغمر لا ينفذه الأخذ الدراك ولا يستنزفه الورد الولاء
وكم شيء أستحسنه من غير هذه الكتب المسماة فأنظمه في هذا النظام وأضطر إلى الإفادة به مساق الكلام إما متمما لحديث سابق وإما مفيدا بغرض لما تقدمه مطابق
فإن لم يكن بينهم في الأحاديث اختلاف يشعر بنقض فكثيرا ما أدخل حديث بعضهم في حديث بعض ليكون المساق أبين والاتساق أحسن
وإن عرض عارض خلاف فالفصل حينئذ أرفع للإشكال وأدفع للمقال
وربما فصلت بين بعض أحاديثهم وإن اشتبهت معانيها بحسب ما تدعو إليه ضرورة الموضع أو تحمل على إعادته حلاوة الموقع
وكل ذلك يشهد الله أن المراد فيه بالقصد الأول وجهه الكريم وإحسانه العميم ورحمته التي منها شق لنفسه أنه الرحمن الرحيم
ثم القصد الثاني متوفر على إيثار الرغبة في إيناس الناس بأخبار نبيهم {صلى الله عليه وسلم} وعمارة خواطرهم بما يكون لهم في العاجل والآجل أنفع وأسلم
وقد عم عليه الصلاة والسلام ببركة دعائه سامع حديثه ومبلغه وقال {صلى الله عليه وسلم} ما أفاد المسلم أخاه المسلم أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه
ولا أحسن بعد كتاب الله الذي هو أحسن القصص وأصدق القصص وأفضل الحصص وأجلى الأشياء للغصص من أخبار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التي بالوقوف عليها توجد حلاوة الإسلام ويعرف كيف تمهدت السبل إلى دار السلام

فإنه لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله في أعداء تنزيله فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله أو يستمعوا ما امتحنه الله به من المحن التي لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله فيعتبروا بعظيم ما لقيه من شدائد الخطوب ويصطبروا لعوارض الكروب تأدبا بآدابه وجريا في الصبر على ما يصيبهم والاحتساب لما ينوبهم على طريقه صبره واحتسابه
وتلك غايات لن نبلغ عفوها بجهدنا ولن نصل أدانيها بنهاية ركضنا وشدنا وإنما علينا بذل الجهد في قصد الاهتداء وعلى الله سبحانه المعونة في الغاية والابتداء
وإذا استوفيت بفضل الله طلق هذا المعنى كما نويت وبلغت حاجة نفسي منه وقضيت فلى نية إن ساعدت المشيئة عليها في أن أصل هذا الغرض المتقدم من ذكر مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بذكر مغازي الخلفاء الثلاثة الأول رضي الله عنهم منتحلا على رجاء معونة الله أسبابها ومنتخلا من كتاب شيخنا الخطيب أبي القاسم رحمه الله ومن غيره مما هو في نحو معناه صفوها ولبابها لتنتظم الفائدتان معا ويكون الخبر عن مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومغازي خلفائه الذين بهديهم الائتمام في مكان واحد مجتمعا
وأرجو بحول الله الذي له الطول وبيده القوة والحول أن يكون هذا المجموع كافيا في البابين وافيا بالغرضين المنتابين ولذلك ترجمته بكتاب الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومغازي الخلفاء
وفضله جل جلاله نعم الكفيل أن يجزي به خير الجزاء ويجعله من عددنا النافعة يوم اللقاء فهو عز وجهه الملجأ والمعول وبه أستعين وعليه أتوكل لا إله إلا هو سبحانه هو حسبي وإليه أنيب

ذكر نسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تسليما وكيف طهره الله نفسا وخيما وشرفه حديثا وقديما وألقى إلى آبائه الأقدمين من الدلائل على اصطفائه إياه في الآخرين و ابتعاثه له رحمة للعالمين ما صيره لديهم قبل وجوده بطوائل السنين معلوما

في الصحيح من حديث و اثلة بن الأسقع قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
وفي حديث عن عبد الله بن عباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة صفيا مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما
وخرج أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي من حديث المطلب بن أبي وداعة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قام على المنبر فقال من أنا فقالوا أنت رسول الله عليك السلام قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا
وفي رواية فأنا خيرهم نفسا من خيرهم بيتا
وصدق {صلى الله عليه وسلم} والصدق شيمته وفوق العالمين طرا قدره الرفيع وقيمته هو أشرفهم حسبا وأفضلهم نسبا وأكرمهم أما وأبا
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصى واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
هذا الصحيح المجتمع عليه في نسبه وما فوق ذلك مختلف فيه
ولا خلاف في أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله ابن إبراهيم خليل الله عليهما السلام وإنما الاختلاف في عدد من بين عدنان وإسماعيل من الآباء فمقلل ومكثر
وكذلك من إبراهيم إلى آدم عليهما السلام لا يعلم ذلك على حقيقته إلا الله
روي عن ابن عباس قال كان النبي {صلى الله عليه وسلم} إذا انتهى إلى عدنان أمسك ثم يقول كذب النسابون قال الله تعالى وقرونا بين ذلك كثيرا 38 الفرقان
ومن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل
فولد عدنان رجلين معد بن عدنان وعك بن عدنان

فصارت عك في دار اليمن لأن عكا تزوج في الأشعريين منهم وأقام فيهم فصارت الدار واللغة واحدة
والأشعريون هم بنو أشعر بن نبت بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
وقحطان هو عند جمهور العلماء بالنسب أبو اليمن كلها وإليه يجتمع نسبها والعرب كلها عندهم من ولد إسماعيل وقحطان
وبعض اليمن يقول قحطان من ولد إسماعيل وإسماعيل أبو العرب كلها والله أعلم
وأما معد فذكر الزبير بن أبي بكر رحمه الله أن بختنصر لما أمر بغزو بلاد العرب وإدخال الجنود عليهم فيها وقتل مقاتلتهم لانتهاكهم معاصي الله واستحلالهم محارمه وقتلهم أنبياءه وردهم رسالاته أمر أرميا بن حلقيا وكان فيما ذكر نبي بني إسرائيل في ذلك الزمان أن ائت معد بن عدنان الذي من ولده محمد خاتم النبيين فأخرجه عن بلاده واحمله معك إلى الشام وتول أمره قبلك
ويقال بل المحمول عدنان والأول أكثر
وفي حديث عن ابن عباس أن الله بعث ملكين فاحتملا معدا فلما أدبر الأمر رداه فرجع إلى موضعه من تهامة بعدما دفع الله بأسه عن العرب فكان بمكة وناحيتها مع أخواله من جرهم وبها منهم بقية هم ولاة البيت يومئذ فاختلط بهم وناكحهم
فولد معد بن عدنان نفرا منهم قضاعة وكان بكره الذي به يكنى فيما يزعمون وقنص ونزار وإياد
فأما قضاعة فتيامنت إلى حمير بن سبأ وانتمت إلى ابنه مالك بن حمير حتى قال قائل منهم يفخر بذلك
نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر
قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر
في الحجر المنقوش تحت المنبر
وأنكر كثير من الناس منتماهم هذا وجرت بينهم وبين من قال به من القضاعيين في ذلك أقاويل معروفة وأشعار محفوظة
قال الزبير ولم يجتمع رأي قضاعة على الانتساب في اليمن بل أهل العلم منهم والدين مقيمون على نسبهم في معد
وأما قنص بن معد فهلكت بقيتهم فيما زعموا وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة

واحتج من قال ذلك بأن عمر رضي الله عنه حين أتى بسيف النعمان بن المنذر دعا جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي فسلحه إياه ثم قال ممن كان يا جبير النعمان بن المنذر
فقال كان من أشلاء قنص بن معد
وكان جبير أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة وكان يقول إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق
وكان أبو بكر رضي الله عنه أنسب العرب
وقد قيل في نسب النعمان غير ذلك مما سيأتي ذكره عند تأدية الحديث إليه إن شاء الله تعالى
وقد ذكر أيضا في بني معد الضحاك بن معد
ذكر الزبير بإسناد له إلى مكحول قال أغار الضحاك بن معد على بني إسرائيل في أربعين رجلا من بني معد عليهم دراريع الصوف خاطمي خيلهم
بحبال الليف فقتلوا وسبوا وظفروا فقالت بنو إسرائيل يا موسى إن بني معد أغاروا علينا وهم قليل فكيف لو كانوا كثيرا وأغاروا علينا وأنت نبينا فادع الله عليهم
فتوضأ موسى وصلى وكان إذا أراد حاجة من الله صلى ثم قال يا رب إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا وسألوني أن أدعوك عليهم
فقال الله تعالى يا موسى لا تدع عليهم فإنهم عبادي وإنهم ينتهون عند أول أمري وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته
قال يا رب ما بلغ من محبتك له
قال أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
قال يا رب ما بلغ من محبتك لأمته
قال يستغفرني مستغفرهم فأغفر له ويدعوني داعيهم فأستجيب له
قال يا رب فاجعلهم من أمتي
قال نبيهم منهم
قال يا رب فاجعلني منهم
قال تقدمت واستأخروا
قال الزبير وحدثني علي بن المغيرة قال لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه السلام فدعا عليهم فلم يجب فيهم ثم أغاروا فدعا عليهم فلم يجب فيهم ثلاث مرات
فقال يا رب دعوتك على قوم فلم تجبني فيهم بشيء
فقال يا موسى دعوتني على قوم منهم خيرتي في آخر الزمان

وأما نزار بن معد واسمه مشتق من النزر وهو القليل فيقال إن أباه معدا لما ولد له نظر إلى نور بين عينيه ففرح لذلك فرحا شديدا ونحر وأطعم وقال إن هذا كله لنزر في حق هذا المولود
وما كان الذي رآه إلا نور النبوة الذي لم يزل ينتقل في الأصلاب حتى انتهى إلى نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} فطبق الأرض نورا وهدى الله به من أراد سعادته من عباده صراطا مستقيما
وكل هذه الأنوار والآثار شاهدة له عليه السلام بعظيم عناية الله وكريم المكانة عنده فلم تزل بركته {صلى الله عليه وسلم} متعرفة في آبائه الماضين وظاهرة على أسلافه الأكرمين تشير المخايل اللائحة فيهم إليه وتدل الدلائل الواضحة في أوليتهم عليه صلوات الله وبركاته عليه
فولد نزار بن معد مضر وربيعة وأنمارا وإيادا وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة فيما ذكر الزبير
وأمهم سودة بنت عك بن عدنان
وقيل هي أم مضر خاصة وأم إخوته الثلاثة أختها شقيقة ابنة عك بن عدنان
وقد قيل إن إيادا شقيق لمضر أمهما معا سودة
فأنمار هو أبو بجيلة وخثعم وقد تيامنت بجيلة إلا من كان منهم بالشام والمغرب فإنهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار
وجرير بن عبد الله صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من سادات بجيلة وله يقول القائل
لولا جرير هلكت بجيله
نعم الفتى وبئست القبيلة
وكذلك تيامنت الدار أيضا بخثعم وهم بنو أقيل بن أنمار وإنما خثعم جبل تحالفوا عنده فسموا به وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار
وإذا كان بين مضر واليمن فيما هنالك حرب كانت خثعم مع اليمن على مضر
ويروى أن نزارا لما حضرته الوفاة قسم ماله بين بنيه الأربع مضر وربيعة وإياد وأنمار
فقال هذه القبة لقبة كانت له حمراء من أدم وما أشبهها من المال لمضر وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة وهذه الخادم وكانت شمطاء وما أشبهها لإياد وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه
وقال لهم إن أشكل عليكم الأمر في ذلك واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي وكان بنجران

فاختلفوا بعده وأشكل أمر القسمة عليهم فتوجهوا إلى الأفعى فبينا هم في مسيرهم إليه إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال إن البعير الذي رعي هذا لأعور
فقال ربيعة وهو أزور وقال إياد وهو أبتر وقال أنمار وهو شرود
فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل توضع به راحلته فسألهم عن البعير فقال له مضر أهو أعور قال نعم قال ربيعة أهو أزور قال نعم قال إياد أهو أبتر قال نعم قال أنمار وهو شرود قال نعم هذه والله صفة بعيري دلوني عليه فحلفوا له ما رأوه فلزمهم وقال كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته
فساروا حتى قدموا نجران فنزلوا بالأفعى الجرهمي فنادى صاحب البعير بعيري وصفوا لي صفته ثم قالوا لم نره
فقال لهم الأفعى كيف وصفتموه ولم تروه
فقال له مضر رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور
وقال ربيعة رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعلمت أنه أفسدها لشدة وطئه لازوراره
وقال إياد عرفت بتره باجتماع بعره ولو كان ذيالا لمصع به
وقال أنمار عرفت أنه شرود أنه كان يرعى في المكان المتلف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث
قال الشيخ ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه
ثم سألهم من هم
فأخبروه فرحب بهم وقال تحتاجون إلي وأنتم كما أرى فدعا لهم بطعام فأكل وأكلوا وشرب وشربوا
فقال مضر لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر
وقال ربيعة لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلبة
وقال إياد لم أر كاليوم رجلا سرني لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعى له
وقال أنمار لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا
وسمع صاحبهم كلامهم فقال ما هؤلاء إنهم لشياطين
ثم أتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها فوطئها فجاءت به
وقال للقهرمان الخمر التي شربناها ما أمرها قال من حبلة غرستها على قبر أبيك
وسأل الراعي عن اللحم فقال شاة أرضعناها من لبن كلبة ولم يكن ولد في الغنم غيرها

فأتاهم فقال قصوا علي قصتكم
فقصوا عليه ما أوصى به أبوهم وما كان من اختلافهم
فقال ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر
فصارت إليه الدنانير والإبل وهي حمر فسميت مضر الحمراء
قال وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال فهو لربيعة
فصارت له الخيل وهي دهم فسمي ربيعة الفرس
قال وما أشبه الخادم وكانت شمطاء من مال فيه بلق فهو لإياد
فصارت له الماشية البلق
وقضى لأنمار بالدراهم والأرض
فساروا من عنده على ذلك
وكان يقال مضر وربيعة هما الصريحان من ولد إسماعيل
وروي ميمون بن مهران عن عبد الله بن العباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين
وقال {صلى الله عليه وسلم} فيما روى عنه إذا اختلف الناس فالحق مع مضر
وسمع عليه السلام قائلا يقول
إني امرؤ حميري حين تنسبني
لا من ربيعة آبائي ولا مضرا
فقال {صلى الله عليه وسلم} ذلك أبعد لك من الله ومن رسوله
ومما يؤثر من حكم مضر بن نزار ووصاياه من يزرع شرا يحصد ندامة وخير الخير أعجله فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما أصلحكم واصرفوها عن هواها فيما أفسدها فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق
فولد مضر بن نزار رجلين إلياس بن مضر وعيلان بن مضر
قال الزبير وأمهما الحنفاء بنت إياد بن معد
وقال ابن هشام أمهما جرهمة
ولما أدرك إلياس بن مضر أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم وبان فضله عليهم ولان جانبه لهم حتى جمعهم رأيه ورضوا به رضا لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد
فردهم إلى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم تامة على أولها
وهو أول من أهدى البدن إلى البيت أو في زمانه
وأول من وضع الركن للناس بعد هلاكه حين غرق البيت وانهدم زمن نوح عليه السلام
فكان أول من سقط عليه إلياس أو في زمانه فوضعه في زاوية البيت للناس
ومن الناس من يقول إنما هلك الركن بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهو الأشبه إن شاء الله
ولم تبرح العرب تعظم إلياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة كلقمان وأشباهه

فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر مدركة وطابخة وقمعة
وأمهم خندف بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة واسمها ليلى واسم مدركة عامر واسم طابخة عمرو واسم قمعة عمير
وإنما حالت أسماؤهم إلى الذي ذكرنا أولا عنهم فيما ذكروا أن أرنبا أنفرت إبل إلياس بن مضر فصاح ببنيه هؤلاء أن يطلبوا الإبل والأرنب
فأما عمير فاطلع من المظلة ثم قمع فسمى قمعة
وخرج عامر وعمرو في آثار الإبل وخرجت أمهم ليلى تسعى خلفهم
فقال لها زوجها إلياس أين تخندفين أي أين تسعين فسميت خندف
ومر عامر وعمرو بظبي فرماه عمرو فقتله ويقال بل رمى الأرنب التي أنفرت الإبل فقال له عامر اطبخ صيدك وأنا أكفيك الإبل فطبخ عمرو فسمى طابخة
وأدرك الإبل عامر فسمى مدركة
واشتهر بنو خندف هؤلاء بأمهم خندف للذي سار من فعلها في الناس
وذلك أنه لما مرض زوجها إلياس وجدت لذلك وجدا شديدا ونذرت إن هلك ألا تقيم في بلد مات فيه ولا يظلها بيت بعده وأن تسيح في الأرض
وحرمت الرجال والطيب
فلما هلك إلياس خرجت سائحة في الأرض حتى هلكت حزنا
وكانت وفاته يوم الخميس فكانت كلما طلعت الشمس من ذلك اليوم تبكيه حتى تغيب فصارت خندف وما صنعت عجبا في الناس يتحدثون به ويذكرونه في أشعارهم
فقيل لرجل من إياد أو همدان وقد هلكت امرأته ألا تبكي عليها
فقال لو كان ذلك يردها لفعلت كما فعلت خندف على إلياس
ثم اندفع يقول
لو أنه يغني بكيت كخندف
على إلياس حتى ملها الشر تندب
إذا مونس لاحت خراطيم شمسه
بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب
ولم تر عيناها سوى الدفن قبره
فساحت وما تدري إلى أين تذهب
فلم يغن شيئا طول ما بلغت به
وما طلها دهر وعيش معذب
وفقدت امرأة من غسان أخاها ثم أباها فمكثت دهرا تبكي عليهما فنهاها قومها فقالت
تلحون سلمى أن بكت أباها
وقبل ما قد ثكلت أخاها
فحولوا العذل إلى سواها
عصتكم سلمى إلى هواها
كما عصت خندف من نهاها
خلت بنيها أسفا وراها
تبكي على ألياس فما أتاها

فولد مدركة بن ألياس نفرا منهم خزيمة بن مدركة وهذيل بن مدركة
وأمهما امرأة من قضاعة قيل هي سلمى بنت سويد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة و قيل غير ذلك
فولد خزيمة بن مدركة كنانة و أسدا و أسدة والهون
وأم كنانة منهم عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر وقيل هند بنت عمرو بن قيس بن عيلان قرأته بخط أحمد بن يحيى بن جابر
وأم سائر بنيه برة بنت مر أخت تميم بن مر بن أد بن طابخة
فولد كنانة بن خزيمة جماعة منهم النضر وبه كان يكنى ونضير ومالك وملكان وعمرو وعامر و أمهم برة بنت مر خلف عليها كنانة بعد أبيه خزيمة على ما كانت الجاهلية تفعله إذا مات الرجل خلف على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها فنهى الله عن ذلك بقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف
ويقال إن برة هذه لما أهديت أولا إلى خزيمة بن مدركة قالت له إني رأيت في المنام كأني ولدت غلامين من خلاف بينهما سابياء فبينا أنا أتأملهما إذا أحدهما أسد يزأر وإذا الآخر قمر ينير
فأتى خزيمة كاهنة بتهامة فقص عليها الرؤيا فقالت لئن صدقت رؤياها لتلدن منك غلاما يكون لولده قلوب باسلة ثم لتموتن عنها فيخلف عليها ابن لك فتلد منه غلاما يكون لولده عدل وعدد و قروم مجد وعز إلى آخر الأبد
ثم توفي خزيمة فخلف عليها كنانة بعد أبيه فولدت له النضر و إخوته
وإنما سمى النضر لنضارة وجهه وجماله
وأتي أبوه كنانة بن خزيمة وهو نائم في الحجر فقيل له تخير يا أبا النضر بين الصهيل والهدر وعمارة الجدر وعز الدهر
فقال كل يا رب
فصار هذا كله في قريش
والنضر هو جماع قريش في قول طائفة من أهل العلم بالنسب والأكثر على أن فهر بن مالك بن النضر هو قريش
فمن كان من ولده فهو قرشي ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي
وذكر الزبير أن هذا هو رأي كل من أدرك من نساب قريش
فولد النضر بن كنانة مالكا ويخلد والصلت

فولد مالك فهر بن مالك وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعيد بن الحارث بن مضاض الجرهمي وهو جماع قريش عند الأكثر
قال الزبير قد اجتمع النساب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت عن فهر ويقال إن قريشا هو اسمه الذي سمته به أمه ولقبته فهرا
فولد فهر بن مالك غالبا ومحاربا والحارث وأسدا وأختهم جندلة وأم جميعهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة
ولما حضرت الوفاة فهر بن مالك قال لابنه غالب يا بني إن في الحزن إقلاق النفوس قبل المصائب فإذا وقعت المصيبة برد حرها وإنما القلق في غليانها فإذا أنا مت فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك وعن يمينك وعن شمالك وبما ترى من آثارها في محيي الحياة ثم اقتصر على قليلك وإن قلت منفعته فقليل ما في يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك
فولد غالب بن فهر لؤيا وتيما وهو الأدرم كان منقوص الذقن
ويقال لقومه بنو الأدرم
وأمهما في قول ابن إسحاق سلمى بنت عمرو الخزاعي
وفي قول الزبير عاتكة بنت يخلد بن النضر
وروي أن لؤي بن غالب قال لأبيه وهو غلام حديث يا أبت من رب معروفة قل إخلاقه و نضر ماؤه ومن أخلقه أخمله وإذا أخلق الشيء لم يذكر وعلى المولى تكبير صغيره ونشره وعلى المولى تصغير كبيره وستره
فقال له أبوه غالب إني لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك وأستدعى لك به الطول على قومك فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك وكف غرب جهلهم بحلمك ولم شعثهم برفقك فإنما تفضل الرجال الرجال بأفعالها ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل ولم تعل به درجة على أحد وللعليا فضل أبدا على السفلى
فولد لؤي بن غالب كعبا وعامرا وسامة وعوفا وسعدا وخزيمة
فدخل بنو خزيمة في شيبان ويسمون فيهم بعائذة وهي امرأة من اليمن كانت أم بني عبيد بن خزيمة فنسبوا إليها
وكذلك دخل بنو سعد أيضا في شببان ويسمون فيهم ببنانة حاضنة كانت لهم من قضاعة وقيل من النمر بن قاسط فنسبوا إليها

وأما سامة بن لؤي فخرج إلى عمان ويزعمون أن عامر بن لؤي أخرجه
وذلك أنه كان بينهما شيء ففقأ سامة عين عامر فأخافه عامر فخرج إلى عمان
فيزعمون أن سامة بن لؤي بينا هو يسير على ناقته إذ وضعت رأسها ترتع فأخذت حية بمشفرها فهصرتها حتى وقعت الناقة لشقها ثم نهشت ساقه فقتلته
فقال سامة حين أحس بالموت فيما يزعمون
عين فابكى لسامة بن لؤي
علقت ما بسامة العلاقة
لا أرى مثل سامة بن لؤي
يوم حلوا به قتيلا لناقة
بلغا عامرا وكعبا رسولا
أن نفسي إليهما مشتاقة
إن تكن في عمان داري فإني
غالبي خرجت من غير فاقة
رب كأس هرقت يا بن لؤي
حذر الموت لم تكن مهراقة
رمت دفع الحتوف يا بن لؤي
ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة
وخروس السري تركت رديا
بعد جد وحدة ورشاقة
قال ابن هشام وبلغني أن بعض ولده أتى رسول {صلى الله عليه وسلم} فانتسب إلى سامة ابن لؤي فقال رسول {صلى الله عليه وسلم} الشاعر فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت قوله
رب كأس هرقت يابن لؤي
حذر الموت لم تكن مهراقة
قال أجل
قال ابن اسحاق وأما عوف بن لؤي فإنه خرج فيما يزعمون في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن غيلان أبطئ به فانطلق من كان معه من قومه فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان فحبسه والتاطه وآخاه وزوجه فانتسب بتلك المؤاخاة إلى سعد ابن ذبيان أبي ثعلبة
وثعلبة يزعمون هو القائل له
احبس على ابن لؤي جملك
تركتك القوم ولا مترك لك
ويروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لو كنت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع يعني عوف بن لؤي
وهم في نسب غطفان مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وهم يقولون إذا ذكر لهم هذا النسب ما ننكره ولا نجحده وإنه لأحب النسب إلينا

وقيل إن عمر بن الخطاب قال لرجال من بني مرة إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه وكان القوم أشرافا في غطفان هم سادتهم وقادتهم منهم هرم بن سنان بن أبي حارثة وأخوه خارجة بن سنان والحارث بن عوف والحصين بن الحمام وهشام بن حرملة قوم لهم صيت وذكر في غطفان وقيس كلها فأقاموا على نسبهم
على أن الحصين بن الحمام قد تحير في هذا واختلف رأيه فلما سمع قول الحارث بن ظالم أحد بني مرة بن عوف حين هرب من النعمان بن المنذر ولحق بقريش
وما قومي بثعلبة بن سعد
ولا بفزارة الشعر الرقابا
فقومي إن سألت بنو لؤي
بمكة علموا مضر الضرابا
سفهنا باتباع بني بغيض
وترك الأقربين لنا انتسابا
سفاهة مخلف لما تروى
هراق الماء واتبع السرابا
فلو طوعت عمرك كنت منهم
وما ألفيت انتجع السحابا
قال الحصين بن الحمام يرد عليه وينتمي إلى غطفان
ألا لستم منا ولسنا إليكم
برئنا إليكم من لؤي بن غالب
أقمنا على عز الحجاز وأنتم
بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
يعني قريشا
ثم ندم الحصين على ما قال وعرف صدق الحارث فأكذب نفسه وقال
ندمت على قول مضي كنت قلته
تبينت فيه أنه جد كاذب
فليت لساني كان نصفين منهما
بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
أبونا كناني بمكة قبره
بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
لنا الربع من بيت الحرام وراثة
وربع البطاح عند دار ابن حاطب
يعني أن بني لؤي كانوا أربعة كعبا وعامرا وسامة وعوفا
وفي بني مرة بن عوف كان البسل وذلك ثمانية أشهر حرم لهم من كل سنة من بين العرب يسيرون به إلى أي بلاد العرب شاءوا ولا يخافون منهم شيئا قد عرفوا ذلك لهم لا يدفعونه ولا ينكرونه
وكان سائر العرب إنما يأمنون في الأشهر الحرم الأربعة فقط

وذكر الزبير عن أبي عبيدة أنه كانت لقريش في هذا مزية على سائر العرب قاطبة وذلك أن العربي لم يكن ليخرج من داره في غير الأشهر الحرم إلا في جماعة وكان القرشي يخرج حيث شاء وأني شاء فيقال رجل من أهل الله فلا يعرض له عارض ولا يريبه أحد بمكروه ويعظمه من لقيه أو ورد عليه ولذلك قال من قال منهم القرشي بكل بلد حرام
وأما كعب بن لؤي وعامر بن لؤي فهما أهل الحرم وصريح ولد لؤي
وكان كعب منهما عظيم القدر في العرب وأرخوا بموته إعظاما له إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به
وكان بين موته والفيل فيما ذكروا خمسمائة سنة وعشرون سنة وكان يوم الجمعة يسمى العروبة فسماه كعب الجمعة لاجتماع قومه فيه يخطبهم ويذكرهم فيقول فيما يقول
أيها الناس اسمعوا وعوا وافهموا وتعلموا ليل ساج ونهار ضاح والسماء بناء والأرض مهاد والنجوم أعلام لم تخلق عبثا فتضربوا عن أمرها صفحا الآخرون كالأولين والدار أمامكم واليقين غير ظنكم صلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم وأوفوا بعهدكم وثمروا أموالكم فإنها قوام مروءاتكم ولا تصونوها عما يجب عليكم وعظموا هذا الحرم وتمسكوا به فسيكون له نبأ عظيم وسيخرج به بني كريم
ثم ينشد أبياتا منها
صروف وأنباء تقلب أهلها
لها عقدة ما يستحيل مريرها
على غفلة يأتي النبي محمد
فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها
ثم يقول
يا ليتني شاهد فحواء دعوته
حين العشيرة تبغي الحق خذلانا
أما والله لو كنت ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت فيها تنصب الفحل ولأرقلت فيها إرقال الجمل فرحا بدعوته جذلا بصرخته
فولد كعب بن لؤي مرة وهصيصا وعديا
وأمهم وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك
وقيل إن أم عدي وحده امرأة من فهر وهي حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
فولد مرة بن كعب كلابا وتيما ويقظة

فولد كلاب رجلين قصيا وزهرة وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد الجدرة من خثعمة الأسد من اليمن حلفاء في بني الديل بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة ويقال خثعمة الأسد
واسم سيل خير وإنما سمي سيلا لطوله وسيل اسم جبل
وهو خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن خثعمة ابن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن الأزد
وسمي عامر الجادر لأنه بني جدارا للكعبة كان وهي من سيل أتى أيام ولاية جرهم البيت
وكان عامر تزوج منهم بنت الحارث بن مضاض وقيل لولده الجدرة لذلك
وذكر الشرفي بن القطامي أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة ويأخذون من طينها وحجارتها تبركا بذلك وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعث من جدرها فسمي الجادر والله أعلم
وسعد بن سيل جد قصي بن كلاب هو أول من حلى السيوف بالفضة والذهب وأهدى إلى كلاب بن مرة مع ابنته فاطمة سيفين محليين فجعلا في خزانة الكعبة
وقصى هو الذي جمع الله به قريشا وكان اسمه زيدا فسمي مجمعا لما جمع من أمرها وسمي قصيا لتقصيه عن بلاد قومه مع أمه فاطمة بعد وفاة أبيه كلاب بن مرة
وحديثه في ذلك طويل وسنذكره إن شاء الله عند ذكر ولايته البيت وهناك نذكر مآثره وعظيم غنائه في إقامة أمر قومه إن شاء الله فإن القصد هنا الإيجاز ما أمكن في إيراد هذا النسب المبارك لتحصل لسامعه الفائدة بانتظامه واتصاله ولا يضل ذلك عليه بما تخلل أثناءه من القواطع التي تباعد بين أطرافه
فولد قصي بن كلاب أربعة نفر وامرأتين
عبد مناف وعبد الدار وعبدالعزي وعبدا وتخمر وبرة
وأمهم جميعا حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي
وساد عبد مناف في حياة أبيه وكان مطاعا في قريش وهو الذي يدعى القمر لجماله واسمه المغيرة
ذكر الزبير عن موسى بن عقبة أنه وجد كتابا في حجر فيه أنا المغيرة ابن قصي آمر بتقوى الله وصلة الرحم
وإياه عني القائل بقوله
كانت قريش بيضة فتفلقت
فالمح خالصه لعبد مناف

فولد عبد مناف أربعة نفر هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفلا
وكلهم لعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر
إلا نوفلا منهم فإنه لوافدة بنت عمرو المازنية مازن بن منصور بن عكرمة
فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر و خمس نسوة
عبد المطلب و أسدا و أبا صيفي و نضلة والشفاء و خالدة وضعيفة و رقية و حية
وأم عبد المطلب منهم سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار
فولد عبد المطلب عشرة نفر و ست نسوة
العباس وحمزة و عبد الله وأبا طالب واسمه عبد مناف والزبير والحارث وهو أكبرهم والحجل والمقوم وضرارا وعبد العزي أبا لهب وصفية وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة وأروى وبرة
فأم عبد الله وأبي طالب وجميع النساء غير صفية فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي
فولد عبد الله بن عبد المطلب محمدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين ونخبة الخلق أجمعين فنسبه {صلى الله عليه وسلم} أشرف الأنساب وسببه إلى الله سبحانه باصطفائه إياه واختياره له أفضل الأسباب وبيته في قريش أوسط بيوتها الحرمية وأعرق معادنها الكرمية لم تخل قط مكة من سيد منهم أو سادات يكونون خير جيلهم ورؤساء قبيلهم حتى إذا درجوا سما قسماؤهم في المجد الصميم وشركاؤهم في النسب الكريم إلى ذلك المقام فعرجوا فصحبوا على ذلك الزمان
لواؤهم على من ناوأهم منصور وسؤدد البطحاء عليهم مقصور والعيون إليهم أية سلكوا صور
ثم أتى الوادي فطم على القرى وشد الله أركان مجدهم العريق العتيق بهذا النبي الأمي فاحتازوا المجد عن آخره وفازوا من شرف الدين والدنيا بما تعجز ألسنة البلغاء عن أدنى مفاخره
وأمه {صلى الله عليه وسلم} هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب قسيمة أبيه من هذا الأب وكريمة قومها أولى المكان النبيه والحسب

وحسبها من الشرف المتين والكرم المبين والفخر الممكن غاية التمكين أن كانت أما لخاتم النبيين {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله أجمعين
فكيف ولها من نصاعة الحسب المحسب وعتاقة المنسب والمنصب ما يقف عند البطاح وتعترف له قريش البطاح
فرسول الله صلوات الله وبركاته عليه خيرة الخير من كلا طرفيه
وقد اعتنى الناس بنسبه الكريم نثرا ونظما ونقبوا عن آبائه الأمجاد وأمهاته الطاهرات الميلاد أبا فأبا وأما فأما
فرادوا من ذلك الفخار حدائق غلبا وسادوا من شرف تلك الآثار مراقي شما
وقد تقدمت من ذلك نبذ منثورة أثناء الكلام وستأتي إن شاء الله منظومة مع أشكالها تفوق العقد في النظام في قصيدة فريدة مفيدة لأبي عبد الله ابن أبي الخصال خاتمة رؤساء الآداب والعلماء المبرزين في هذا الباب سماها معراج المناقب ومنهاج الحسب الثاقب في ذكر نسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومعجزاته ومناقب أصحابه قرأتها على شيخنا الخطيب أبي القاسم ابن حبيش عنه فقد رأيت أن أورد منها هنا ما يختص بهذا النسب الكريم على اختصار يفي إن شاء الله بالغرض المروم إذ الكلام المنظوم أعذب جريا على الألسن وأهذب رأيا في الإفادة بالمستحسن
وأولها
إليك فهمي والفؤاد بيثرب
وإن عاقني عن مطلع الوحي مغربي
أعلل بالآمال نفسا أغرها
بتقديم غاياتي وتأخير مذهبي
وديني على الأيام زورة أحمد
فهل ينقضي ديني ويقرب مطلبي
وهل أردن فضل الرسول بطيبة
فيا برد أحشائي ويا طيب مشربي
وهل فضلت من مركب العمر فضلة
تبلغني أم لا بلاغ لمركب
ألا ليت زادي شربة من مياهها
وهل مثلها ريا لغلة مذنب
ويا ليتني فيها إلى الله صائر
وقلبي عن الإيمان غير مقلب
وإن امرأ وارى البقيع عظامه
لفي زمرة تلقى بسهل ومرحب
وفي ذمة من خير من وطئ الثرى
ومن يعتلقه حبله لا يعذب
ومالي لا أشري الجنان بعزمة
يهون عليها كل طام وسبسب
وماذا الذي يثني عناني وإنني
لجواب آفاق كثير التقلب
أفقر ففي كفي لله نعمة
وبين فقد فارقت قبل بني أبي
وقد مرنت نفسي على البعد وانطوت

على مثل حد السمهري المدرب
وكم غربة في غير حق قطعتها
فهلا لذات الله كان تغربي
وكم فاز دوني بالذي رمت فائز
وأخطأني ما ناله من تغرب
أراه وأهوى فعله البر قاعدا
فيا قعدي البر قم وتلبب
أماني قد أفنى الشباب انتظارها
وكيف بما أعيي الشباب لأشيب
وقد كنت أسري في الظلام بأدهم
فهأنا أغدو في الصباح بأشهب
فمن لي وأنى لي بريح تحطني
إلى ذروة البيت الرفيع المطنب
إلى الهاشمي الأبطحي محمد
إلى خاتم الرسل المكين المقرب
إلى صفوة الله الأمين لوحيه
أبي القاسم الهادي إلى خيرمشعب
إلى ابن الذبيحين الذي صيغ مجده
ولما تصغ شمس ولا بدر غيهب
إلى المنتقي من عهد آدم في الذرى
يردد في سر الصريح المهذب
إلى من تولى الله تطهير بيته
وعصمته من كل عيص مؤشب
فجاء بريء العرض من كل وصمة
فما شئت من أم حصان ومن أب
كروض الربا كالشمس في رونق الضحى
كنا شيء ماء المزن قبل التصوب
عليه من الرحمن عين كلاءة
تجنبه إلمام كل مجنب
إذا أعرضت أعراقه عن قبيلة
فما أعرضت إلا لأمر مغيب
وما عبرت إلا على مسلك الهدى
ولا عثرت إلا على كل طيب
فمن مثل عبد الله خير لداته
وآمنة في خير ضنء ومنصب
إذا اتصلت جاءتك أفلاذ زهرة
كأسد الشري من كل أشوس أغلب
ولا خال إلا دون سعد بن مالك
ولو كان في عليا معد ويعرب
ومن ذا له جد كشيبة ذي الندى
وساقى الحجيج بين شرق ومغرب
له سؤدد البطحاء غير مدافع
وحومة ما بين الصفا والمحصب
أبو الحارث السامي إلى كل ذروة
يقصر عن إدراكها كل كوكب
به وبما في برده من أمانة
حمى الله ذاك البيت من كل مرهب
وأهلك بالطير الأبابيل جمعهم
فيا لهم من عارض غير خلب
وفيما رآه شيبة الحمد آية
تلوح لعين الناظر المتعجب
وفي ضربه عنه القداح مروعا
ومن يرم بين العين والأنف يرهب
وما زال يرمي والسهام تصيبه
إلى أن وقبه الكوم من نسل أرحب
وكانوا أناسا كلما أمهم أذى
تكشف عن صنع من الله معجب
وعاش بنو الحاجات فيهم وأخصبوا
وإن أصبحوا في منزل غير مخصب

وعمرو المعالي هاشم وتريده
بمكة يدعو كل أغبر مجدب
بمثنى جفان كالجواب منيخة
ملئن عبيطات السنام المرعب
هو السيد المتبوع والقمر الذي
على صفحته في الرضا ماء مذهب
بني الله للإسلام عزا بصهره
إلى منتهى الأحياء من آل يثرب
وعبد مناف دوحة الشرف الذي
تفرع منها كل أروع محرب
مطاع قريش والكفيل بعزها
ومانعها من كل ضيم ومنهب
وزيد ومن زيد قصي مجمع
سمعت وبلغنا وحسبك فاذهب
به اجتمعت أحياء فهر وأحرزت
تراث أبيها دون كل مذبذب
وأصبح حكم الله في آل بيته
فهم حوله من سادنين وحجب
وما أسلمته عن تراخ خزاعة
ولكن كما عض الهناء بأجرب
ولاذت قريش من كلاب بن مرة
بجذل حكاك أو بعذق مرحب
ومرة ذو نفس لدى الحرب مرة
وفي السلم نفس الصرخدي المذوب
وكعب عقيد الجود والحكم والنهي
وذو الحكم الغر المبشر بالنبي
خطيب لؤي واللواء بكفه
لخطبة ناد أو لخطة مقنب
وأول من سمي العروبة جمعة
وصدر أما بعد يلحي ويطبي
وأرخ آل الله دهرا بموته
سنين سدى يتعبن كف المحسب
وأضحى لؤي غالبا كل ماجد
ومن غالب يمنيه للمجد يغلب
وفهر أبو الأحياء جامع شملها
وكاسبها من فخره خير مكسب
تقرش فامتازت قريش بفضله
وسد فسدوا خلة المتأوب
وغادره اسما في الكتاب منزلا
يمر به في آية كل معرب
ومالك المربي على كل مالك
فتى النضر حابته السيادة بل حبي
هو الليث في الهيجاء والغيث في الندى
وبدر الدياجي حين يسري ويحتبي
تردى بفضفاض على المجد نسجه
وليس عليه فليجر ويسحب
وللنضر يا للنضر من كل مشهد
هو الشمس صعد في سناها وصوب
وأعرض بحر من كنانة زاخر
يساق إلى أمواجه كل مذنب
وخير حكما في الصهيل أو الرغا
أو البيت أوعز على الدهر مصحب
فلم يقتصر واختار كلا فحازه
إلى غاية العز المديد المعقب
له البيت محجوبا وعز مخلد
وأجرد يعبوب إلى جنب أصهب
وخزم آناف العتاة خزيمة
فلاذوا بأخلاق الذلول المغرب
عظيم لسلمى بنت سود بن أسلم
لكل قضاعي كريم معصب
ومدركة ذو اليمن والنجح عامر
وخير مسمى في العلا وملقب

تراءى مطلا إذ تقمع صنوه
ففاز بقدح ظافر لم يخيب
لأم الجبال الشم والقطر والحصى
لخندف إن تستركب الأرض تركب
وإلياس مأوى الناس في كل أزمة
ومهربهم في كل خوف ومرهب
وزاجرهم إذ بدلوا الدين ضيلة
وأضحوا بلا هاد ولا متحوب
وجاءهم بالركن بعد هلاكه
وقد كان في صدع من الأرض أنكب
وما هو إلا معجز لنبوة
وبشرى وعقبي للبشير المعقب
وحج وأهدى البدن أول مشعر
لها وفروض الحج لم تترتب
وكم حكمة لم تسمع الأذن مثلها
له إن تلح في ناظر العين تكتب
إلى قنص تنميه سوداء نبته
كلا طرفيه من معد لمنسب
وفي مضر تاه الكلام وأقبلت
مآثر سدت كل وجه ومذهب
وحينا وكاثرنا النجوم بجمعها
بأكثر منها في العديد وأثقب
هنالك آتى الله من شاء فضله
وقيل لهذا سر وللآخر اركب
وكانا شقيقي نبعة فتفاوتا
لعلم وحكم ماله من معقب
وما منهما إلا حنيف ومسلم
على نهج إسماعيل غير منكب
وقد سلم الأفعى بنجران حكمه
إليهم ولم ينظر إلى متعقب
رأى فطنا أبدت له عن نجاره
وكان لنبع فاستحال لأثأب
وتلك علامات النبوة كلها
تشير إلى منظورها المترقب
وقال رسول الله مهما اختلفتم
ولم تعرفوا قصد السبيل الملحب
ففي مضر جرثومة الحق فاعمدوا
إلى مضر تلفوه لم يتنقب
وما سيد إلا نزار يفوته
ومن فاته بدر الدجى لم يؤنب
قريع معد والذي سد نقده
متى يأتهم شعب من الدهر يرأب
أبو أبحر الدنيا وأطوادها التي
بها ثبتت طرا فلم تتقلب
ولم يكفه حتى أعانت معانة
بكل عتيق جرهمي مهذب
وجاء معد والسماء شموسها
وأقمارها في ذيله المتسحب
وبين يديه الأنجم الزهر بثها
على الأرض حتى لا مساغ لأجنبي
وقدما تحفى الله من بختنصر
به والورى من هالك ومعذب
وجنبه أرض البوار وحازه
إلى معقل من حرزه متأشب
وحل بأرمينية تحت حفظه
لدى ملك عن جانبيه مذبب
فلما تجلى الروع أسرى بعبده
إلى حرم أمن لأبنائه اجتبي
وقد كان رد الله عنهم كليمه
ليالي يدعو دعوة المتغضب
وجاء بنو يعقوب يشكون منهم
ينادونه هذا قتيل وذا سبي

فقال له لا تدع موسى عليهم
فمنهم نبي اصطفيه وأجتبي
أحبهم فيه رضا وأحبه
كذلك من أحببه يكرم ويحبب
وأغفر إن يستغفروني ذنوبهم
ومهما دعا داع أجبه وأقرب
فقال إذن فاجعلهم رب أمتي
فمن ترضه يا رب يرض ويرغب
فقال هم في آخر الدهر صفوتي
يقضون أعدائي ويستنصرون بي
دعائم إيمان وأركان سؤدد
مضت بعلاها مهدد بنت جلحب
ومصعد عدنان إلى جذم آدم
بأبين من قصد الصباح وألحب
ونهي رسول الله صد وجوهها
وكان لنا في نظمها شد ملهب
وإلا فأد بن الهميسع ماثل
ونبت بن قيدار سلالة أشجب
وواجه أعراق الثري كل من ترى
وأسمع إسماعيل دعوة مكثب
وقام خليل الله يتلوه آزر
أغر صباحي لأدهم غيهب
إلى الناحر ابن الشارع الغمر يرتقي
وللداع ثم القاسم الشامخ الأب
ويعبر ينميه إلى المجد شالخ
إلى الرافد الوهاب برك وطيب
لسام أبي السامين طرا سما بهم
لنوح للمكان العلي لمثوب
لإدريس ثم الرائد بن مهلهل
لقينن ثم الطاهر المتطيب
إلى هبة الرحمن شيث بن آدم
أبي البشر الأعلى لطين لأثلب
فمنه خلقنا ثم فيه معادنا
ومنه إلى عدن فسدد وقارب
وهنا انتهى ما يخص المنتمى العلي من هذه الكلمة التي فرى ناظمها في الإحسان الفري المحمود فاقتصرت منها على ما وفى بالغرض المقصود واستوفى رجال النسب المجيد والحسب التليد تعجيلا لقرى المستفيد واكتفاء من القلادة بالقدر المحيط بالجيد وإنها إن شاء الله لكافية في الباب ومقدمة الكلام اللباب وتحفة إنما يعرف قدرها أولو الألباب
والله يجزي قائلها الحسني وينفعه بمقصده الأسنى
وإذ قد انتهينا إلى ما حسن لدينا إيراده في هذا المعنى وصفا وذكرا وخدمنا النسب الأشرف نظما ونثرا فلنعرج على ذكر البقعة التي اختارها الله لرسوله الكريم منشأ وجعلها لقومه قرارا ومتبوأ وأولية البيت العتيق الذي جعله الله مثابة وأمنا للناس ورفعه على أفضل القواعد وأكرم الأساس ثم دحا الأرض من تحته رفعا للشبهة في شرفه والإلتباس

ثم نذكر من وليه من آبائه الكرام إذ هم أهله الأعلون وأولياؤه الأحقاء به الأولون وهو مأثرتهم التي لم يزالوا إياها يراعون ومن جرائها يراعون وتراث المجد الذي إليهم يعزى وإليه يعزون وبسيما شرفه يعرفون وباسمه يدعون
ونشير إلى حرمته العظيمة في الحرمات وما أنزل الله تعالى بمن بغاه بسوء أو أتى فيه بأمر مذموم مشنوء من أليم العقوبات وعظيم النقمات
لنخدم البلد كما خدمنا المحتد ونقضي حق المكان الشريف كما قضينا حق الحسب التليد والطريف
حتى نخلص إلى ذكر المولد المبارك الذي منه نتدرج إلى المقصود الذي نحن عليه عاملون ولتمامه آملون رجاء أن نجد ذلك مذخورا عند المولى الذي يضاعف لعبيده الحسنات ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون

ذكر أولية بيت الله المحرم وركنه المستلم ومن تولى بناءه من ملائكته وأنبيائه صلى الله على جميعهم وسلمقال الله العظيم إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم 96 آل عمرا
وفي الصحيح من حديث أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول {صلى الله عليه وسلم} أي مسجد وضع في الأرض أول فقال له المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال ثم المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون عاما
وذكر الزبير بن أبي بكر بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال كنت مع أبي محمد بن علي بمكة في ليالي العشر قبل التروية بيوم أو يومين وأبي قائم يصلي في الحجر وأنا جالس وراءه فجاء رجل أبيض الرأس واللحية جليل العظام بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر عليه ثوبان غليظان في هيئة محرم فجلس إلى جنبه فخفف أبي الصلاة فسلم ثم أقبل عليه فقال له الرجل يا أبا جعفر أخبرني عن بدء خلق هذا البيت كيف كان
فقال له أبو جعفر محمد بن علي ممن أنت يرحمك الله قال رجل من أهل الشام فقال له محمد بن علي إن أحاديثنا إذا سقطت إلى الشام جاءتنا صحاحا وإذا سقطت إلى العراق جاءتنا وقد زيد فيها ونقص

ثم قال بدء خلق هذا البيت أن الله تبارك وتعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فردوا عليه أتجعل فيها من يفسد فيها الاية
وغضب عليهم فعاذوا بالعرش وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضي عنهم وقال لهم ابنوا لي في الأرض بيتا فيعوذ به من سخطت عليه من بني آدم ويطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم
فبنوا له هذا البيت
فهذا يا عبد الله بدء خلق هذا البيت
فقال الرجل يا أبا جعفر فما بدء خلق هذا الركن
فقال إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق قال لبني آدم ألست بربكم قالوا بلى وأقروا وأجرى نهرا أحلى من العسل وألذ من الزبد ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة ثم ألقم ذلك الكتاب هذا الحجر فهذا الاستلام الذي ترى إنما هو بيعة على إقرارهم بالذي كانوا أقروا به
وقال جعفر بن محمد كان أبي إذا استلم الركن قال اللهم أمانتي أديتها وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء
قال وقام الرجل فذهب
قال جعفر بن محمد فأمرني أبي أن أرده عليه فخرجت في أثره وأنا أراه يحول بيني وبينه الزحام حتى دخل نحو الصفا فتبصرته على الصفا فلم أراه ثم ذهبت إلى المروة فلم أره عليها فجئت إلى أبي فأخبرته فقال لي أبي لم تكن لتجده وذلك الخضر عليه السلام
وخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عباس وصححه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم
ومن حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا وموقوفا قال إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب
ومن حديث ابن عباس أيضا قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قي الحجر والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق يشهد على من استلمه بحق

وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري من حديث عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول إن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره قال يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدسك غيري
قال الله تعالى أني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري ويسبح فيها خلقي ويذكر فيها اسمي وسأجعل من تلك البيوت بيتا أخصه بكرامتي وأوثره باسمي فأسميه بيتي وعليه وضعت جلالي ثم أنا مع ذلك في كل شيء ومع كل شيء أجعل ذلك البيت حرما آمنا يتحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب بذلك كرامتي ومن أخاف أهله فقد أخفر ذمتي وأباح حرمتي أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركا يأتونه شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق يزجون بالتلبية زجيجا ويثجون بالبكاء ثجيجا ويعجون بالتكبير عجيجا
فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إلى وزارني وضافني وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وأن يسعف كلا بحاجته
تعمره يا آدم ما كنت حي ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن
وفي حديث غير هذا عن عطاء وقتادة أن آدم عليه السلام لما أهبطه الله من الجنة وفقد ما كان يسمعه ويأنس إليه من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله تعالى في دعائه وصلاته فوجهه إلى مكة وأنزل الله تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن
وقال الله يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي
فانطلق إليه آدم فطاف به هو ومن بعده من الأنبياء إلى أن كان الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام ببناء البيت فبناه فذلك قوله تعالى وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت

وعن ابن عباس أن الله أوحى إلى آدم أن لي حرما بحيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم حف به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي فهنالك أستجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي
فقال آدم أي رب وكيف لي بذلك لست أقوى عليه ولا أهتدي لمكانه
فقيض الله له ملكا فانطلق به نحو مكة فكان آدم عليه السلام إذا مر بروضة ومكان يعجبه قال للملك انزل بنا هاهنا فيقول له الملك أمامك
حتى قدم مكة فبني البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتا ومن لبنان والجودي وبني قواعده من حراء
فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم ثم قدم به مكة فطاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات بها
وفي رواية أنه حج من الهند أربعين حجة على رجليه
وذكر الواقدي عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة العدوى قال قلت لأبي جهم ابن حذيفة يا عم حدثني عن بناء البيت ونزول إسماعيل عليه السلام الحرم
قال يابن أخي سلني عنه على نشاط مني فإني أعلم من ذلك ما لا يعلمه غيري
قال فمكثت شهرا أذكره المرة بعد المرة فيقول مثل قوله الأول وكان قد كبر ورق وضعف فدخلت عليه يوما وهو مسرور فقال لي اسمع حديثك الذي سألتني عنه
إن البيت بناؤه حرم في السماء السابعة وفي الأرض السابعة يعني أن ما يقابله حرم
وإن آدم عليه السلام أمر بأساسه فبناه هو وحواء أسساه بصخر أمثال الخلفات يعني النوق التي في بطونها أجنة واحدتها خلفة أذن الله عز وجل للصخر أن يطيعهما
ثم نزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم عليه السلام ونزل الركن وهو يومئذ درة بيضاء فوضع موضعه اليوم من البيت وطاف به آدم وصلى فيه
فلما مات آدم عليه السلام وليه بعده ابنه شيث فكان كذلك حتى حجه نوح عليه السلام

فلما كان الغرق يعني الطوفان بعث الله جل ثناؤه سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء كي لا يصيبه الماء النجس وبقيت قواعده وجاءت السفينة فدارت به سبعا ثم دثر البيت فلم يحجه من بين نوح وبين إبراهيم أحد من الأنبياء على جميعهم السلام
وعن غير الواقدي في غير حديث أبي الجهم أن شيث بن آدم عليهما السلام هو أول من بنى الكعبة وأنها كانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس بها لأنها أنزلت إليه من الجنة وكان قد حج إلى موضعها من الهند
وفي الخبر أن موضعها كان غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض فلما بدأ الله خلق الأشياء خلق التربة قبل السماء فلما خلق السماء وقضاهن سبع سماوات دحا الأرض أي بسطها وإنما دحاها من تحت الكعبة فلذلك سميت مكة أم القرى
وذكر ابن هشام أن الماء لم يصل الكعبة حين الطوفان ولكنه قام حولها وبقيت هي في هواء إلى السماء وأن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت إنكم في حرم الله عز وجل وحول بيته فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة وجعل بينهم وبين النساء حاجزا فتعدى حام فدعا عليه نوح بأن يسود الله لون بنيه فأجابه الله على وفق ما دعاه واسود كوش بن حام وولده إلى يوم القيامة
وقد قيل في سبب دعوته غير هذا فالله أعلم
ويروى أنه لما نضب ماء الطوفان بقي مكان البيت ربوة من مدرة فحج إليه بعد ذلك هود وصالح ومن آمن معهما وأن يعرب قال لهود عليه السلام ألا تبنيه قال إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعدي يتخذه الرحمن خليلا

قال أبو الجهم من حديث الواقدي حتى أراد الله بإبراهيم ما أراد فولد له إسماعيل وهو ابن تسعين سنة فكان بكر أبيه فلما أراد الله عز وجل أن يبوئ لإبراهيم مكان البيت وأعلامه أوحى الله إليه يأمره بالمسير إلى بلده الحرام فركب إبراهيم البراق وحمل إسماعيل أمامه وهو ابن سنتين وهاجر خلفه ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم فكان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم بهذه أمرت يا جبريل فيقول جبريل لا حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاة وسلم وسمر والعماليق يومئذ حول الحرم وهم أول من نزل مكة ويكونون بعرفة وكانت المياه يومئذ قليلة وكان موضع البيت قد دثر وهو ربوة حمراء مدرة وهو يشرف على ما حوله فقال جبريل حين دخل من كداء وهو الجبل الذي يطلعك على الحجون والمقبرة بهذا أمرت قال إبراهيم بهذا أمرت قال نعم
فانتهى إلى موضع البيت فعمد إبراهيم إلى موضع الحجر فآوى فيه هاجر وإسماعيل وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا فلما أراد إبراهيم أن يخرج ورأت أم إسماعيل أنه ليس بحضرتها أحد من الناس ولا ماء ظاهر تركت ابنها في مكانه وتبعت إبراهيم فقالت يا إبراهيم إلى من تدعنا فسكت عنها حتى إذا دنا من كداء قال إلى الله عز وجل أدعكم فقالت فالله عز وجل أمرك بهذا قال نعم قالت فحسبي تركتنا إلى كاف
وانصرفت هاجر إلى ابنها وخرج إبراهيم حتى وقف على كداء ولا بناء ولا ظل ولا شيء يحول دون ابنه فنظر إليه فأدركه ما يدرك الوالد من الرحمة لولده فقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء

ثم انصرف إبراهيم راجعا إلى الشام وعمدت هاجر فجعلت عريشا في موضع الحجر من سمر وثمام ألقته عليه ومعها شن فيه شيء من ماء فلما نفد الماء عطش إسماعيل وعطشت أمه فانقطع لبنها فأخذ إسماعيل كهيئة الموت فظنت أنه ميت فجزعت وخرجت جزعا أن تراه على تلك الحال وقالت يموت وأنا غائبة عنه أهون علي وعسى الله أن يجعل لي في ممشاي خيرا
فانطلقت فنظرت إلى جبل الصفا فأشرفت عليه تستغيث ربها عز وجل وتدعوه ثم انحدرت إلى المروة فلما كانت في الوادي خبت حتى انتهت إلى المروة فعلت ذلك سبع مرار كلما أشرفت على الصفا نظرت إلى ابنها فتراه على حاله وإذا أشرفت على المروة فمثل ذلك
فكان ذلك أول ما سعى بين الصفا والمروة وكان من قبلها يطوفون بالبيت ولا يسعون بين الصفا والمروة ولا يقفون المواقف حتى كان إبراهيم
فلما كان الشوط السابع ويئست سمعت صوتا فاستمعت فلم تسمع إلا الأول فظنت أنه شيء عرض لسمعها من الظمأ والجهد
فنظرت إلى ابنها فإذا هو يتحرك فأقامت على المروة مليا ثم سمعت الصوت الأول فقالت إني سمعت صوتك فأعجبني فإن كان عندك خير فأغثني فإني قد هلكت وهلك ما عندي
فخرج الصوت يصوت بين يديها وخرجت تتلوه قد قويت له نفسها حتى انتهى الصوت عند رأس إسماعيل ثم بدا لها جبريل فانطلق بها حتى وقف على موضع زمزم فضرب بعقبة مكان البئر فظهر الماء فوق الأرض حين فحص بعقبه وفارت بالرواء وجعلت أم إسماعيل تحظر الماء بالتراب خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنتها فاستقت وبادرت إلى ابنها فسقته وشربت فجعل ثدياها يتقطران لبنا فكان ذلك اللبن طعاما وشرابا لإسماعيل وكانت تجتزئ بماء زمزم فقال لها الملك لا تخافي أن ينفد هذا الماء وأبشرى فإن ابنك سيشب ويأتي أبوه من الشام فتبنون ها هنا بيتا يأتيه عباد الله من أقطار الأرضين ملبين لله جل ثناؤه شعثا غبرا فيطوفون به ويكون هذا الماء شرابا لضيفان الله عز وجل الذين يزورون بيته

فقالت بشرك الله بخير وطابت نفسها وحمدت الله عز وجل
ويقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرا لهما أخطأهما فقد عطشا وأهلهما بعرفة فنظرا إلى طير يهوي قبل الكعبة فاستنكرا ذلك وقالا أنى يكون الطير على غير ماء فقال أحدهما لصاحبه أمهل حتى نبرد ثم نسلك في مهوى الطير
فأبردا ثم تروحا فإذا الطير ترد وتصدر فاتبعا الواردة منها حتى وقفا على أبي قبيس فنظرا إلى الماء وإلى العريش فنزلا وكلما هاجر وسألاها متى نزلت فأخبرتهما وقالا لمن هذا الماء فقالت لي ولابني فقالا من حفره فقالت سقيا الله جل ثناؤه
فعرفا أن أحدا لا يقدر على أن يحفر هناك ماء وعهدهما بما هناك قريب وليس به ماء
فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما فأخبراهم فتحولوا حتى نزلوا معها على الماء فأنست بهم ومعهم الذرية فنشأ إسماعيل مع ولدانهم
وكان إبراهيم يزور هاجر في كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام
فزارها بعد ونظر إلى من هناك من العماليق وإلى كثرتهم وغمارة الماء فسر بذلك
ولما بلغ إسماعيل عليه السلام تزوج امرأة من العماليق فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل وإسماعيل في ماشية يرعاها ويخرج متنكبا قوسه فيرمى الصيد مع رعيته فجاء إبراهيم عليه السلام إلى منزله فقال السلام عليكم يا أهل البيت
قال فسكتت فلم ترد إلا أن تكون ردت في نفسها فقال هل من منزل فقالت لا هيم الله إذن قال فكيف طعامكم وشرابكم وشاؤكم فذكرت جهدا فقالت أما الطعام فلا طعام وأما الشاء فإنما نحلب الشاة بعد الشاة المصر وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ قال فأين رب البيت قالت في حاجته
قال فإذا جاء فأقرئيه السلام وقولي له غير عتبة بيتك
ورجع إبراهيم إلى منزله وأقبل إسماعيل راجعا إلى منزله بعد ذلك بما شاء الله عز وجل فلما انتهى إلى منزله سأل امرأته هل جاءك أحد فأخبرته بإبراهيم وقوله وما قالت له ففارقها وأقام ما شاء الله أن يقيم

وكانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة الحرم واستحلوا منه أمورا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون فقام فيهم رجل منهم يقال له عموق فقال يا قوم أبقوا على أنفسكم فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من هذه الأمم فلا تفعلوا تواصلوا ولا تستخفوا بحرم الله عز وجل وموضع بيته
فلم يقبلوا ذلك منه وتمادوا في هلكة أنفسهم
ثم إن جرهما وقطوراء وهما أبناء عم خرجوا سيارة من اليمن أجدبت البلاد عليهم فساروا بذراريهم وأموالهم فلما قدموا مكة رأوا فيها ماء معينا وشجرا ملتفا ونباتا كثيرا وسعة من البلاد ودفئا في الشتاء
فقالوا إن هذا الموضوع يجمع لنا ما نريد
فأعجبهم ونزلوا به وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم سنة فيهم جروا عليها واعتادوها ولو كانوا نفرا يسيرا
فكان مضاض بن عمرو على قومه من جرهم وكان على قطوراء السميدع رجل منهم
فنزل مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة بقعيقعان فما حاز
ونزل السميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد فما حاز
وذهبت العماليق إلى أن ينازعوهم أمرهم فعلت أيديهم على العماليق وأخرجوهم من الحرم كله فصاروا في أطرافه لا يدخلونه
وجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما فكثروا وأثروا فكان مضاض يعشر كل من دخل مكة من أعلاها وكان السميدع يعشر كل من دخل من أسفلها وكل على قومه لا يدخل أحدهما على صاحبه وكانوا قوما عربا وكان اللسان عربيا
وكان إبراهيم يزور إسماعيل فلما نظر إلى جرهم نظر إلى لسان عجيب وسمع كلاما حسنا ونظر إسماعيل إلى رعلة بنت مضاض بن عمرو فأعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها
فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل فجاء إلى بيت إسماعيل فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله فقامت إليه المرأة فردت عليه ورحبت به فقال كيف عيشكم ولبنكم وماشيتكم فقالت خير عيش بحمد الله عز وجل نحن في لبن كثير ولحم كثير وماؤنا طيب قال هل من حب قالت يكون إن شاء الله ونحن في نعم قال بارك الله لكم

قال أبو جهم فكان أبي يقول ليس أحد يخلى عن اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه ولعمري لو وجد عندنا حبا لدعا فيه بالبركة فكانت أرض زرع
ويقال إن إبراهيم قال لها ما طعامكم قالت اللحم واللبن قال فما شرابكم قالت اللبن والماء قال بارك الله لكم في طعامكم وشرابكم فاللبن طعام وشراب
قالت فانزل رحمك الله فاطعم واشرب قال إني لا أستطيع النزول قالت فإني أراك شعثا أفلا أغسل رأسك وأدهنه قال بلى إن شئت فجاءته بالمقام وهو يومئذ حجر رطب أبيض مثل المهاة ملقى في بيت إسماعيل فوضع عليه قدمه اليمنى وقدم إليها رأسه وهو على دابته فغسلت شق رأسه الأيمن فلما فرغت حولت له المقام حتى وضع قدمه اليسرى وقدم إليها رأسه فغسلت شق رأسه الأيسر فالأثر الذي في المقام من ذلك قال أبو الجهم فقد رأيت موضع العقب والإصبع
وعن الواقدي من غير حديث أبي الجهم أن أبا سعيد الخدري سأل عبدالله بن سلام عن الأثر الذي في المقام فقال كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم إلا أن الله جل ثناؤه أراد أن يجعل المقام آية من آياته
قال أبو الجهم فلما فرغت يعني المرأة من غسل رأس إبراهيم عليه السلام قال لها إذا جاء إسماعيل فقولي له أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة
فلما جاء إسماعيل قال هل جاءك أحد بعدي فأخبرته بإبراهيم وما صنعت به ثم قال لها هل قال لك أن تقولي لي شيئا قالت قال لي أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة
ففرح إسماعيل وقال أتدرين من هو قالت لا قال هذا خليل الله إبراهيم أبي وأما قوله أثبت عتبة بابك فقد أمرني أن أقرك وقد كنت علي كريمة وقد ازددت علي كرامة فصاحت وبكت فقال مالك قالت ألا أكون علمت بمن هو فأكرمه وأصنع به غير الذي صنعت فقال لها إسماعيل لا تبكي ولا تجزعي فقد أحسنت ولم تكوني تقدرين أن تفعلي فوق الذي فعلت ولم يكن ليزيدك على الذي صنع بك
فولدت لإسماعيل عشرة ذكور أحدهم نابت

فلما بلغ إسماعيل ثلاثين سنة وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة أوحى الله جل ثناؤه إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا قال إبراهيم أي رب أين أبنيه فأوحى الله إليه أن اتبع السكينة وهي ريح لها وجه وجناحان ومع إبراهيم الملك والصرد
فانتهوا بإبراهيم إلى مكة فنزل إسماعيل إلى الموضع الذي بوأه الله جل وعز لإبراهيم وموضع البيت ربوة حمراء مدرة مشرفة على ما حولها
فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وليس معهما غيرهما أساس البيت يريدان أساس آدم الأول
فحفرا عن ربض البيت يعني حوله فوجدا صخرة لا يطيقها إلا ثلاثون رجلا وحفرا حتى بلغا أساس آدم ثم بنى عليه وحلقت السكينة كأنها سحابة على موضع البيت فقالت ابن علي
فلذلك لا يطوف بالبيت أحد أبدا كافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة
فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فجعل طوله في السماء تسع أذرع وعرضه ثلاثين ذراعا وطوله في الأرض اثنين وعشرين ذراعا وأدخل الحجر وهو سبعة أذرع في البيت وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل
وإنما بناه بحجارة بعضها على بعض ولم يجعل له سقفا وجعل له بابا وحفر له بئرا عند بابه خزانة للبيت يلقى فيها ما أهدي للبيت وجعل الركن علما للناس
فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجرا ونزل جبريل بالحجر الأسود وكان قد رفع إلى السماء حين غرقت الأرض كما رفع البيت فنزل به جبريل فوضعه إبراهيم موضع الركن وجاء إسماعيل بالحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع الحجر فقال من أين هذا من جاءك به قال إبراهيم من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك
وعن الواقدي أيضا من غير حديث أبي الجهم أن يزيد بن رومان قال سمعت ابن الزبير يقول إن إبراهيم عليه السلام ابتغى الحجر فناداه من فوق أبي قبيس ألا أنا هذا فرقى إليه إبراهيم فأخذه فوضعه الذي هو فيه اليوم
وكان الله جل ثناؤه لما غرقت الأرض استودع أبا قبيس الركن وقال إذا رأيت خليلي يبني لي بيتا فأعطه الركن فأعطاه الركن

وعن غير ابن الزبير أن أبا قبيس لذلك كان يسمى في الجاهلية الأمين لوفائه بما استودعه الله إياه
قال أبو جهم ولما فرغ إبراهيم من بناء البيت وأدخل الحجر في البيت جعل المقام لاصقا بالبيت عن يمين الداخل فلما كانت قريش قصر الخشب عليهم فأخرجوا الحجر وكان ما أخرجوا منه سبعة أذرع
وأمر إبراهيم بعد فراغه من البناء أن يؤذن في الناس بالحج فقال يا رب وما يبلغ صوتي
قال الله جل ثناؤه أذن وعلي البلاغ
فارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت فارتفع به المقام حتى كان أطول الجبال فنادى وأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه شرقا وغربا يقول أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم عز وجل
فأجابه من تحت البحور السبعة ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها لبيك اللهم لبيك أفلا تراهم يأتون يلبون
فمن حج من يومئذ إلى يوم القيامة فهو ممن استجاب لله عز وجل
وذلك قول الله جل ثناؤه فيه آيات بينات مقام إبراهيم ( 97 آل عمران ) يعني نداء إبراهيم على المقام بالحج فهي الآية
قال الواقدي وقد روى أن الآية هي أثر إبراهيم على المقام
قال أبو الجهم فلما فرغ إبراهيم من الأذان ذهب به جبريل فأراه الصفا والمروة وأقامه على حدود الحرم وأمره أن ينصب عليها الحجارة ففعل إبراهيم ذلك وكان أول من أقام أنصاب الحرم ويريه إياها جبريل
فلما كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب إبراهيم عليه السلام بمكة حين زاغت الشمس قائما وإسماعيل جالس ثم خرجا من الغد يمشيان على أقدامهما يلبيان محرمين مع كل واحد منهما إداوة يحملها وعصا يتوكأ عليها فسمى ذلك اليوم يوم التروية

فأتيا مني فصليا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح وكانا نزلا في الجانب الأيمن ثم أقام حتى طلعت الشمس على ثبير ثم خرج يمشي هو وإسماعيل حتى أتيا عرفة وجبريل معهما يريهما الأعلام حتى نزلا بنمرة وجعل يريه أعلام عرفات وكان إبراهيم قد عرفها قبل ذلك فقال إبراهيم قد عرفت فسميت عرفات
فلما زاغت الشمس خرج بهما جبريل عليه السلام حتى انتهى بهما إلى موضع المسجد اليوم فقام إبراهيم فتكلم بكلمات وإسماعيل جالس ثم جمع بين الظهر والعصر ثم ارتفع بهما إلى الهضاب فقاما على أرجلهما يدعوان إلى أن غابت الشمس وذهب الشعاع ثم دفعا من عرفة على أقدامهما حتى انتهيا إلى جمع فنزلا فصلى إبراهيم المغرب والعشاء في ذلك الموضع الذي يصلى فيه اليوم ثم باتا حتى إذا طلع الفجر وقفا على قزح فلما أسفر قبل طلوع الشمس دفعا على أرجلهما حتى انتهيا إلى محسر فأسرعا حتى قطعاه ثم عادا إلى مشيهما الأول ثم رميا جمرة العقبة بسبع حصيات حملاها من جمع ثم نزلا من منى في الجانب الأيمن ثم ذبحا في المنحر اليوم وحلقا رءوسهما ثم أقاما أيام منى يرميان الجمار حين تزيغ الشمس ماشيين ذاهبين وراجعين وصدرا يوم الصدر فصليا الظهر بالأبطح وكل هذا يريه جبريل عليه السلام
قال أبو الجهم فلما فرغ إبراهيم من الحج انطلق إلى منزله بالشام فكان يحج البيت كل عام وحجته سارة وحجه إسحاق ويعقوب والأسباط والأنبياء هلم جرا
وحجه موسى بن عمران عليه السلام
روي الواقدي بإسناد له عن ابن عباس قال مر موسى عليه السلام بصفاح الروحاء يلبي تجاوبه الجبال عليه عباءتان قطوانيتان من عباء الشام
وعن جابر بن عبد الله قال حج هارون نبي الله البيت فمر بالمدينة يريد الشام فمرض بالمدينة فأوصى أن يدفن بأصل أحد ولا تعلم به يهود مخافة أن ينبشوه فدفنوه فقبره هناك
وعن ابن عباس أن الحواريين كانوا إذا بلغوا الحرم نزلوا يمشون حتى يأتوا البيت

وعن ابن الزبير أن الحواريين خلعوا نعالهم حين دخلوا الحرم إعظاما أن ينتعلوا فيه
ثم توفى الله خليله إبراهيم {صلى الله عليه وسلم} بعد أن وجه إليه ملك الموت فاستنظره إبراهيم ثم أعاده إليه لما أراد الله قبضه فأخبره بما أمر به فسلم إبراهيم لأمر ربه عز وجل فقال له ملك الموت يا خليل الله على أي حال تحب أن أقبضك
قال تقبضني وأنا ساجد فقبضه وهو ساجد وصعد بروحه إلى الله عز وجل ودفن إبراهيم عليه السلام بالشام
وعاش إسماعيل عليه السلام بعد أبيه ما عاش وتوفي بمكة فدفن داخل الحجر مما يلي باب الكعبة وهنالك قبر أمه هاجر دفن معها وكانت توفيت قبله
ولما توفي إسماعيل عليه السلام ولي البيت بعده ابنه نابت ولم يله أحد من ولد غيره
ثم مات فدفن في الحجر مع أمه رعلة بنت مضاض
فولى البيت بعده جده مضاض بن عمرو ثم أخواله من جرهم وقاموا عليه فكانوا هم ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة
وكان البيت قد دخله السيل من أعلى مكة فانهدم فأعادته جرهم على بناء إبراهيم وجعلت له مصراعين وقفلا
قال ابن إسحاق ثم إن جرهما وقطوراء بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها ومع مضاض يومئذ بنو إسماعيل وبنو نابت وإليه ولاية البيت دون السميدع
فسار بعضهم إلى بعض فخرج مضاض من قعيقعان في كتيبته سائرا إلى السميدع ومع كتيبته عدتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب يقعقع بذلك معه
فيقال ما سمي قعيقعان قعيقعان إلا لذلك
وخرج السميدع من أجياد ومعه الخيل والرجال
فيقال ما سمي أجياد أجيادا إلا لخروج الجياد من الخيل مع السميدع منه
وغير ابن إسحاق يقول إنما سمي أجيادا لأن مضاضا ضرب في ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة وقيل بل أمر بعض الملوك غير مسمى بضرب رقاب فيه فكان يقول لسيافه توسط الأجياد وهذا ونحوه أصح في تسمية الموضع بأجياد مما قال ابن إسحاق
قال فالتقوا بفاضح فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل السميدع وفضحت قطوراء فيقال ما سمي فاضح فاضحا إلا بذلك

ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح فساروا حتى نزلوا المطابخ شعبا بأعلى مكة فاصطلحوا به وأسلموا الأمر إلى مضاض
فلما رجع إليه أمر مكة فصار ملكها له نحر للناس وأطعمهم فاطبخ الناس وأكلوا فيقال ما سميت المطابخ المطابخ إلا لذلك وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت بذلك لما كان تبع نحر بها وأطعم وكانت منزله
فكان الذي كان بين مضاض والسميدع أول بغي كان بمكة فيما يزعمون
ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخئولتهم وقرابتهم وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغي أو قتال
فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا في البلاد فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فوطئوهم
ثم إن جرهم بغوا بمكة واستحلوا حلالا من الحرمة وظلموا من دخلها من غير أهلها وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها فرق أمرهم
فلما رأت ذلك بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان من خزاعة أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة فآذنوهم بالحرب
فاقتتلوا فغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من مكة
وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته فكانت تسمى الناسة ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه فيقال ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا
فلم يزل أهلها على وجه الدهر يصونون جنابها ويحافظون على حرمتها

يقال إنه اجتمع رأى بني إسماعيل وخيارهم على أن لا يدعوا أحدا أحدث في حرم الله حدثا إلا غربوه منه ثم لم يرجع فيه ويقال بل كان ذلك مما سن لهم أولوهم فصارت سنة فيهم يدينون بها ثم خلف من خلف بعدهم على ذلك يرون فيه رأيهم وتكبر مواقعة الظلم في حرم الله والتعدي به في نفوسهم ويعتقدون أن الباغي فيه معاقب في دنياه في نفسه وماله وأن الحالف عند البيت حانثا مخوف عليه مما أصاب قبله ممن فعل فعله وأن دعاء المظلوم عنده وخصوصا في الشهر الحرام مجاب في ظالمه ويؤثرون في ذلك أشياء أراها الله إياهم صونا لحرمه الكريم وتنزيها لبيت خليله إبراهيم
ذكر الواقدي من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال عدا رجل من بني كنانة بن هذيل على ابن عم له وظلمه واضطهده فناشده بالرحم وعظم عليه فأبى إلا ظلمه فقال والله لألحقن بحرم الله في هذا الشهر ولأدعون الله عليك فقال له ابن عمه مستهزئا به هذه ناقتي فلانة فأنا أفقرك ظهرها فاذهب فاجتهد
فأعطاه ناقة وخرج حتى جاء الحرم في الشهر الحرام فقال اللهم إني أدعوك جاهدا مضطرا على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له
ثم انصرف فيجد ابن عمه قد رمى في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق
قال عبد المطلب لحدثت بهذا الحديث ابن عباس فقال أنا رأيت رجلا دعا على ابن عم له بالعمى يعني في الحرم فرأيته يقاد أكمة العميان
وعن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يسأل رجلا من بني سليم عن ذهاب بصره فقال الرجل يا أمير المؤمنين كنا في بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه ونضطهده فكان يذكرنا بالله والرحم وكنا أهل بيت نرتكب كل الأمور فلما رأى ابن عمنا أنا لا نكف عنه ولا نرد إليه ظلامته أمهل حتى دخلت الأشهر الحرم انتهى إلى الحرم فجعل يرفع يديه إلى الله جل ثناؤه ويقول
لا هم أدعوك دعاء جاهدا
اقتل بني الضبعاء إلا واحدا
ثم اضرب الرجل ودعه قاعدا
أعمى إذا قيد يعنى القائدا

قال فمات إخوتي تسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي وكمهت فليس يلائمني قائد
قال ابن عباس فسمعت عمر يقول سبحان الله إن هذا لهو العجب
قال وسمعت عمر يسأل ابن عمهم الذي دعا عليهم فقال دعوت عليهم كل ليلة في ليالي رجب الشهر كله بهذا الدعاء فأهلكوا في تسعة أشهر وأصاب الباقي ما أصابه
قال ابن عباس وعدا رجل على ابن عم له فاستاق ذودا له فخرج يطلبه حتى أصابه في الحرم فقال ذودي فقال اللص كذبت ليس لك قال فاحلف قال إذا أحلف فحلف عند المقام بالله الخالق رب هذا البيت ما هن لك
فقيل له لا سبيل لك عليه
فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطا يديه يدعو على صاحبه فما برح مقامه يدعو عليه حتى فذهب عقله فجعل يصيح بمكة مالي وللذود مالي ولفلان رب الذود
فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود فدفعها إلى المظلوم فخرج بها وبقي الآخر مدلها حتى تردى من جبل فمات فأكلته السباع
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لو وجدت قاتل الخطاب في الحرم ما هجته
وكان يقول لأن أذنب بركبة سبعين ذنبا أحب إلى من أن أذنب ذنبا واحدا في الحرم
وركبة خارج الحرم محاذية لذات عرق
وذكر رضي الله عنه يوما وهو خليفة ما كان يعاقب به من حلف ظلما يعني في الحرم زمن الجاهلية فقال إن الناس ليرتكبون ما هو أعظم منها ثم لا يعجل لهم من العقوبة مثل ما كان يعجل لأولئك فما ترون ذلك
فقالوا أنت أعلم يا أمير المؤمنين
قال إن الله جل ثناؤه جعل في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وعظمها وشرفها وجعل العقوبة لمن استحل شيئا مما حرم ليتنكب عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} أوعدهم فيما انتهكوا مما حرم الساعة فقال والساعة أدهى وأمر ( 46 البقرة )
فأخر العقاب إلى يوم القيامة وأراهم الله الاستجابة بعضهم لبعض ليتناهوا عن الظلم وأخر أهل الإسلام ليوم الجمع ويستجيب الله لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين

ومن المشهور في هذا الباب أمر إساف ونائلة وهما صنما قريش اللذان أقاموهما على زمزم ينحرون عندهما ذكروا أنهما كانا رجلا وامرأة من جرهم إساف بن بغي ونائلة بنت ديك فوقع إساف على نائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين ويقال أحدثا فيها فمسخهما الله فالله أعلم
وأمرهما معدود فيما بلغت إليه جرهم من الاستخفاف بحرمة الحرم وقلة مبالاتهم بالبغي فيه مع ما أراهم الله من عظيم الآية بمسخهما حجرين فما نهاهم ذلك عن قبيح ما كانوا عليه حتى أخرجهم الله عن جوار بيته بأيدي آخرين من عباده فكان من أمرهم مع خزاعة ما كان
فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن وحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا
فقال عمرو بن الحارث بن مضاض في ذلك وليس بمضاض الأكبر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت
بعز فما يحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا
فليس لحي غيرنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته
فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
فإن تنثني الدنيا علينا بحالها
فإن لها حالا وفيها التشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة
كذلك يا للناس تجري المقادر
أقول إذا نام الخلي ولم أنم
أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منها أوجها لا أحبها
قبائل منها حمير ويحابر
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة
بذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة
بها حرم أمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه
يظل به أمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة
إذا خرجت منه فليست تغادر
وقال عمرو بن الحارث أيضا يذكر بكر بكرا او غبشان وساكني مكة الذين خلفوا فيما بعدهم
يا أيها الناس سيروا إن قصركم
أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها
قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا
دهر فأنتم كما كنا تكونونا
قال ابن هشام هذا ما صح له منها وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم لنا قائلها
ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة
وغبشان لقب واسمه الحارث وخزاعة يقال إنهم من ولد قمعة بن إلياس بن مضر وأن أباهم عمرو بن لحي هو عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف وخزاعة يأبون هذا النسب ويقولون إنهم من ولد كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن غسان
وقد روى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أريت عمرو بن لحي بن قمعة بن بن خندف يجر قصبة في النار فسألته عمن بيني وبينه من الأمم فقال هلكوا
فقيل له ومن عمرو بن لحي قال أبو هؤلاء الحي من خزاعة وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم وأول من من نصب الأوثان حول الكعبة
فإن كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال هذا فرسول الله أعلم وما قال فهو الحق
وعمرو بن ربيعة الذي تنتسب إليه خزاعة يقال هو عمرو بن لحي وإن حارثة بن ثعلبة بن عمرو خلف على أم لحي ولحي هو ربيعة بعد أن تأيمت من قمعة ولحي صغير فتبناه حارثة وانتسب إليه
فيكون النسب على هذا صحيحا بالوجهين إلى قمعة بالولادة وفق ما روى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قاله وإلى حارثة بن ثعلبة بالتبني والانتساب به موجود كثيرا في العرب
فلما وليت خزاعة البيت حفظوه مما كانت جرهم استباحته وتوافروا على تعظيمه والذب عنه وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني ثم قومه من بعده وقريش إذ ذاك حلول وصرم متقطعون و بيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة
فأقامت خزاعة على ولاية البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي
وبعده انتقلت ولاية البيت إلى قصي بن كلاب

وكان من حديث قصي أنه لما هلك أبوه كلاب بن مرة خلف ولديه زهرة وقصيا مع أمها فاطمة بنت سعد بن سيل من عذرة وزهرة يومئذ رجل وقصي فطيم فقدم مكة بعد مهلك كلاب حاج من قضاعة فيهم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد كبير بن عذرة فتزوج فاطمة بنت سعد فاحتملها إلى بلاده فاحتملت ابنها قصيا لصغره وأقام زهرة في قومه
فولدت فاطمة لربيعة رزاحا فكان أخا قصي لأمه وكان لربيعة بنون ثلاثة من امرأة أخرى وهم حن ومحمود وجلهمة بنو ربيعة
وأقام قصي بأرض قضاعة لا ينسب إلا إلى ربيعة بن حرام
فناضل يوما رجلا من قضاعة يدعى رفيعا فنضله قصي وهو يومئذ شاب فغضب المنضول فوقع بينهما حتى تقاولا وتنازعا فقال رفيع ألا تلحق ببلدك وبقومك فإنك لست منا
فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال فسألها عن ذلك فقالت أوقد قال هذا أنت والله يا بني أكرم منه نفسا ووالدا ونسبا وأشرف منزلا أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي وقومك بمكة عند البيت الحرام وفيما حوله تفد
العرب إلى ذلك البيت وقد قالت لي كاهنة رأتك هذا يلي أمرا جليلا فطب نفسا
فأجمع قصي الخروج إلى قومه و اللحوق بهم وكره الغربة بأرض قضاعة وضاق ذرعا بالمقام فيهم فقالت له أمه لا تعجل حتى يدخل عليك الشهر الحرام فتخرج في حاج العرب فإني أخشى عليك أن يصيبك بعض الناس
فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام وخرج حاج قضاعة خرج معهم وهم يظنون أنه إنما يريد الحج ثم يرجع إلى بلاده حتى قدم مكة فلما فرغ من الحج أقام بها وعالجه القضاعيون على الخروج معهم فأبى
وكان رجلا جلدا نهدا نسيبا فلم ينشب أن خطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبي فعرف حليل النسب ورغب في الرحل فزوجه وحليل يومئذ يلي أمر مكة والحكم فيها وحجابة البيت
فأقام قصي معه بمكة وولدت له حبي بنيه عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبدا

فلما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر وأن قريشا قرعة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وصريح ولده
فكلم رجالا من قريش وبني كنانة ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة فأجابوه إلى ذلك فكتب عند ذلك قصي إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة يدعوه إلى نصرته والقيام معه فخرج رزاح ومعه إخوته لأبيه حن ومحمود وجلهمة فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب وهم مجمعون لنصر قصي والقيام معه
فلما إجتمع الناس بمكة وفرغوا من الحج ولم يبق إلا أن يصدر الناس كان أول ما تعرض له قصي من المناسك أمر الإجازة للناس بالحج
وكانت صوفة هي التي تلي ذلك مع الدفع بهم من عرفة ورمى الجمار وهم ولد الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر
والغوث هو أول من ولي ذلك منهم
وذلك أن أمه كانت امرأة من جرهم وكانت لا تلد فنذرت لله إن هي ولدت ولدا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها فولدت الغوث وكان يقوم على الكعبة في الدهر الأول مع أخواله من جرهم فولى الإجازة بالناس من عرفة لمكانه الذي كان به من الكعبة وولده من بعده حتى انقرضوا
فقال مر بن أد أبو الغوث لوفاء نذر أمه
إني جعلت رب من بنيه
ربطه بمكة العلية
فباركن لي بها إليه
واجعله لي من صالح البرية
وكان الغوث بن مر زعموا إذا دفع بالناس قال
لا هم إني تابع تباعه
إن كان إثم فعلى قضاعه

وذلك أن قضاعة كان منهم أحياء يستحلون الحرمة في الجاهلية فكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة وتجيز بهم إذا نفروا من منى إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار ورجل من صوفة يرمي للناس لا يرمون حتى يرمي فكان ذوو الحاجات المتعجلون يأتونه فيقولون له قم فارم حتى نرمي معك فيقول لا والله حتى تميل الشمس فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك ويقولون له ويلك قم فارم بنا فيأبي عليهم حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه
فإذا فرغوا من رمى الجمار وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبي العقبة فحبسوا الناس وقالوا أجيزي صوفة فلم يجز أحد من الناس حتى
يمروا فإذا نفذت صوفة ومضت خلى سبيل الناس فانطلقوا بعدهم فكانوا كذلك حتى انقرضوا
فورثهم ذلك من بعدهم بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد
فكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة ثم بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام كرب بن صفوان
وفي ذلك يقول ابن مغراء السعدي
لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم
حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
فأما قول ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن عمرو وقيل له ذو الإصبع لحية لذعته في إصبعه فقطعها
عذير الحي من عدوان
كانوا حية الأرض
بغي بعضهم ظلما
فلم يرع على بعض
ومنهم كانت السادات
والموفون بالقرض
ومنهم من يجيز الناس
بالسنة والفرض
ومنهم حكم يقضي
فلا ينقض ما يقضي
وإنما قال ذلك لأن الإفاضة من المزدلفة كانت في عدوان وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيارة عميلة بن الأعزل
قال حويطب بن عبد العزي رأيت أبا سيارة يدفع بالناس من جمع على أتان له عقوق وذكروا أنه أجاز عليها أربعين سنة

قالوا وكان إذا وقف بالناس قال اتقوا الله ربكم وأصلحوا أموالكم واحفظوا جيرانكم وقاتلوا أعداءكم اللهم حبب بين نسائنا وبغض بين رعائنا واجعل أمر الناس بأيدي صلحائنا ثم يقول أفيضوا على بركة الله
وفيه يقول شاعر من العرب
نحن دفعنا عن أبي سياره
وعن مواليه بني فزاره
حتى أجاز سالما حماره
مستقبل القبلة يدعو جاره
قوله حكم يقضي يعني عامر بن ظرب العدواني وكانت العرب لا يكون بينها ثائرة ولا عضلة في قضاء إلا أسندوا ذلك إليه ثم رضوا بما قضى فيه
فاختصم إليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه في رجل خنثي له ما للرجل وله ما للمرأة أيجعله رجلا أو امرأة ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه
فقال حتى أنظر في أمركم فو الله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب
فاستأخروا عنه فبات ليلته ساهرا يقلب أمره وينظر في شأنه فلا يتوجه له منه وجه وكانت له جارية يقال لها سخيلة ترعى عليه غنمه فكان يعاتبها إذا سرحت فيقول صبحت والله يا سخيل وإذا راحت عليه يقول مسيت والله يا سخيل وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى يسبقها بعض الناس وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس
فلما رأت سهره وقلة قراره على فراشه قالت مالك لا أبا لك ما عراك في ليلتك هذه قال ويلك دعيني أمر ليس من شأنك ثم عادت له بمثل قولها فقال في نفسه عسى أن تأتي مما أنا فيه بفرج فقال ويحك اختصم إلي في ميراث خنثي أأجعله رجلا أو امرأة فو الله ما أدري ما أصنع وما يتوجه لي فيه وجه
فقالت سبحان الله لا أبالك أتبع القضاء المبال أقعده فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة
قال مسي سخيل بعدها أو ضحي فرجتها والله
ثم خرج على الناس حين أصبح فقضى بالذي أشارت إليه
وهذا كله من الخبر معترض قطع اتصال حديث صوفة وقصي فنرجع الآن إليه ونصله بموضع انقطاعه

حيث ذكر أن صوفة هي التي كانت تلي الإجازة بالناس من منى والدفع بهم من عرفة وأن قصيا عزم على انتزاع ذلك من أيديهم والقيام به دونهم واستدعى لمظاهرته على ذلك أخاه رزاحا فوصله مع من ذكر وصوله معه
فلما كان ذلك العام فعلت صوفة مثل ما كانت تفعل قد عرفت ذلك لها العرب وهو دين في أنفسهم من عهد جرهم وخزاعة
فأتاهم قصي بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة فقال لنحن أولى بهذا الأمر منكم
فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك
وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة فلما انحازوا عنه بادأهم وأجمع لحربهم وخرجت له خزاعة وبنو بكر فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا بالأبطح حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا وفشت الجراح فيهم وأكثر ذلك في خزاعة
ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن قصي
فقضي بينهم أن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة ومكة
فسمي يعمر بن عوف يومئذ الشداخ لما شدخ من الدماء ووضع منها ويقال الشداح أيضا
فولى قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه إلا أنه قد أقر العرب على ما كانوا عليه وذلك أنه كان يراه دينا في نفسه لا ينبغي تغييره
فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله
وبنو مرة بن عوف هم أهل البسل وقد تقدم ذكرهم
وأما النسأة فهم بنو فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر

وهم الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله سبحانه إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين 37 التوبة
وكان أول من نسأ الشهور منهم على العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي وتوارث ذلك بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة وهو القلمس
قال الزبير وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمرا يقال إنه نسأ أربعين سنة
وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فحرم الأشهر الحرم الأربعة رجبا وذا القعدة وذا الحجة والمحرم فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفرا فحرموه ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم
فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين الصفر الأول ونسأت الآخر للعام المقبل
وفي ذلك يقول عمير بن قيس جذل الطعان أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة يفخر بالنسأة على العرب
لقد علمت معد أن قومي
كرام الناس إن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر
وأي الناس لم نعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
فهذا كان شأن النسأة في الجاهلية فأقره قصي على ما كان عليه مع سائر ما ذكر إقراره العرب عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله
فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله وقطع مكة رباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها

ويزعم الناس أن قريشا هابوا قطع الشجر من الحرم في منازلهم فقطعها قصي بيده وأعوانه فسمته قريش مجمعا لما جمع من أمرها وتيمنت بأمره فما تنكح امرأة ولا يزوج رجل من قريش ولا يشاورون في أمر نزل بهم ولا يعقدون لواء لحرب قوم غيرهم إلا في داره يعقده لهم بعض ولده ولا يعذر غلام إلا في داره ولا تدرع جارية من قريش إلا في داره يشق عليها فيها درعها إذا بلغت ذلك ثم تدرعه ثم ينطلق بها إلى أهلها
ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا من داره ولا يقدمون إلا نزلوا في داره
فكان أمره في قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره
واتخذ لنفسه دار الندوة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة ففيها كانت قريش تقضي أمورها
ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح إلى بلاده بمن معه من قومه فلما استقر في بلاده نشره الله ونشر حبا فهما قبيلا عذرة اليوم
فهذا حديث قصي في ولاية البيت بعد حليل بن حبشية وإخراج خزاعة عنه
وخزاعة تزعم أن حليلا أوصى بذلك قصيا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر وقال أنت أولى بالكعبة وبالقيام عليها وبأمر مكة من خزاعة فعند ذلك طلب قصي ما طلب
قال ابن إسحاق ولم يسمع ذلك من غيرهم فالله أعلم
وقد ذكر الواقدي الأمرين على نحو ما ذكر ابن إسحاق
قال وقد سمعنا في ذلك وجها آخر ذكر أن أبا غبشان رجلا من خزاعة كان ولي الكعبة فباع حجابتها من قصي بن كلاب بيعا وذكر غيره أنه باع منه مفتاح الكعبة بزق خمر فلذلك قيل أخسر صفقة من أبي غبشان

وذكر الواقدي أيضا بإسناد له أن رجلا من قضاعة يقال له أبو الشموس حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة حديث قصي بن كلاب وكيف استعان بإخوته على خزاعة فاستمع له عمر وتعجب لأول الحديث وقال ذكرتنا أمرا كان دثر منا فالحمد لله رب العالمين إن الله عز وجل ليصنع لهذا الحي من قريش وهم أولى الناس أن يتقوا الله وتحسن سيرة من ولي منهم بصنع الله لهم جعل فيهم الإمامة وقبل ذلك النبوة
قالوا فلما كبر قصي ورق وكان عبد الدار بكره وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب كل مذهب وعبد العزي وعبد قال قصي لعبد الدار أما والله يا بني لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك
لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له ولا يعقد لقريش لواء إلا أنت بيدك ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك ولا يأكل أحد من أهل الحرم طعاما إلا من طعامك ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك
فأعطاه دار الندوة التي لا تقضي قريش أمرا من أمورها إلا فيها وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة
وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع به طعاما للحاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد
وذلك أن قصيا فرضها على قريش فقال لهم حين أمرهم به يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم وإن الحجاج ضيف الله وزوار بيته وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم
ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه فيصنعه طعاما للناس أيام منى فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام إلى يومنا هذا فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج
فمضى أمر قصي في عبد الدار ابنه وجعل إليه كل ما كان بيده من أمر قومه وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه
ثم إن قصيا هلك فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده

فاختطوا مكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه بها فكانوا يقطعونها في قومهم وفي غيرهم من حلفائهم ويبيعونها
فأقامت قريش على ذلك معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع
ثم إن بني عبد مناف بن قصي عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا أجمعوا أن يأخذوا ما في يدي بني عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم فتفرقت عند ذلك قريش فكانت طائفة منهم مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم وكانت طائفة مع بني عبد الدار يرون ألا ينزع منهم ما كان قصي جعل إليهم
فكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف وذلك أنه كان أسنهم
وكان صاحب أمر بني عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار
وكانت بنو أسد بن عبد العزي بن قصي وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم ابن مرة بن كعب وبنو الحارث بن فهر مع بني عبد مناف
وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب وبنو جمح بن عمرو بن هصيص وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فهر فلم يكونوا مع واحد من الفريقين
فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة
فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين
وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف
ثم سوند بين القبائل ولز بعضها ببعض فعبئت عبد مناف لبني سهم وعبئت بنو أسد لبني عبد الدار وعبئت زهرة لبني جمح وعبئت تيم لبني مخزوم وعبئت بنو الحارث بن فهر لبني عدي ثم قالوا لتغن كل قبيلة من أسند إليها

فبينما الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت ففعلوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجز الناس عن الحرب وثبت كل قوم مع من حالفوا حتى جاء الله بالإسلام فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة
فهذا حلف المطيبين
وقد كان في قريش حلف أخر بعده وهو حلف الفضول تداعت إليه قبائل من قريش فاجتمعوا إليه في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة لشرفه وسنه فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا
على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول
واختلف في السبب الذي دعا قريشا إلى هذا الحلف ولم سمي بهذا الاسم
فأما ما دعاهم إليه فذكر الزبير وغيره أن رجلا من أهل اليمن من بني زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة له فاشتراها رجل من بني سهم ويقال أنه العاص بن وائل فلوى الرجل بحقه فسأله ماله فأبي عليه وسأله متاعه فأبى فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا له فعرف أن لا سبيل إلى ماله فطوف في قبائل قريش يستعين بهم فتخاذلت القبائل عنه فلما رأى ذلك قام على الحجر ويقال بل أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها ثم نادى بأعلى صوته ثم قال
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض حرمته
بين الإله وبين الحجر والحجر
أقائم من بني سهم بذمتهم
أم ذاهب في ضلال مال معتمر
فلما سمعت ذلك قريش أعظموه وتكلموا فيه فقال المطيبون والله لئن تكلمنا في هذا ليغضبن الأحلاف وقال الأحلاف والله لئن قمنا في هذا لتغضبن المطيبون فقال ناس من قريش تعالوا فلنكن حلفا فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف
فلذلك قيل له حلف الفضول

فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وصنع لهم طعاما كثيرا وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه فاجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب وزهرة وأسد وتيم فتحالفوا على أن لا يظلم بمكة قريب ولا غريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه ويردوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم ثم عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت فيه أركانه ثم أتوا به فشربوه ثم انطلقوا إلى الرجل الذي تعدى على
الرجل المستصرخ العاص بن وائل أو غيره فقالوا والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه
فأعطى الرجل حقه فمكثوا كذلك لا يظلم أحد حقه بمكة إلا أخذوه له
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت
وحكى الزبير أيضا أنه إنما سمي حلف الفضول لأنهم تحالفوا على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه
وقيل إنما سمي بذلك لأنه لما تداعى له من ذكر من قبائل قريش كره ذلك سائر المطيبين والأحلاف بأسرهم وسموه حلف الفضول عيبا له وقالوا هذا من فضول القوم
وقيل بل كان هذا الحلف على مثل حلف تقدم إليه نفر من جرهم يقال لهم الفضل و فضال و الفضيل فسمي لذلك هذا الآخر حلف الفضول
وأيا ما كان من ذلك فهي مأثرة لقريش من مآثرها الكرام وآثارها العظام نالتهم فيه بركة حضور رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فهو وإن كان فعلا جاهليا دعتهم السياسة إليه فقد صار لحضور رسول الله {صلى الله عليه وسلم} له وما قاله بعد النبوة فيه وأكده من أمره حكما شرعيا وفعلا نبويا
وقد نشأ بين حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان زمن معاوية والوليد يومئذ أمير المدينة من قبله منازعة في مال كان بينهما بذي المروة فكأن الوليد تحامل على حسين في حقه لسلطانه فقال له حسين أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم لأدعون بحلف الفضول

فقال عبد الله بن الزبير وهو عند الوليد وأنا أحلف بالله لئن دعا به لأخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا
وبلغت المسور بن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك
وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك
فلما بلغ ذلك الوليد أنصف الحسين من حقه حتى رضي
ولم تكن بنو عبد شمس دخلت في هذا الحلف
وقد سأل عبد الملك بن مروان عن ذلك محمد بن جبير ين مطعم إذ قدم عليه حين قتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان وكان محمد ابن جبير أعلم قريش فلما دخل عليه قال يا أبا سعيد ألم نكن نحن وأنتم يعني بني عبد شمس وبني نوفل ابني عبد مناف في حلف الفضول قال أنت أعلم قال عبد الملك لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك فقال لا والله لقد خرجنا منه نحن وأنتم قال صدقت
فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول
وكانت لقريش أحلام عظام كانوا منها في جاهليتهم على مثل السلطان الضابط عناية من الله بهم ومنا منه سبحانه عليهم هم سكان الحرم وأهل الله وحجاب بيته وأهل السقاية والرفادة والرياسة واللواء والندوة ومكارم مكة وكانوا على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما من قرى الضيف ورفد الحاج وتعظيم الحرم ومنعه من البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم
إلا أنه دخلت على أوليتهم أحداث غيرت أصول الحنيفية عندهم وطال الزمان حتى أفضى ذلك بهم إلى جهالات بشرائع الدين وضلالات عن سنن
التوحيد فتدارك الله ذلك كله بنبيه {صلى الله عليه وسلم} فهدى من الضلالة وعلم من الجهالة
فيقال أنه كان أول من غير الحنيفية دين إبراهيم ونصب الأوثان حول الكعبة ودعا إلى عبادتها عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر

روي أبو هريرة أنه سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لأكثم بن الجون الخزاعي يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه
فقال أكثم عسى أن يضرني بشبهه يا نبي الله قال لا لأنك مؤمن وهو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي
فالبحيرة عند العرب الناقة تشق أذنها ولا يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو يتصدق به وتمهل لآلهتهم
والسائبة التي ينذر الرجل إن بريء من مرضه أو أصاب أمرا يطلبه أن يسيبها ترعى لا ينتفع بها
والوصيلة التي تلد أمها إثنين في كل بطن فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها ولنفسه الذكور فتلدها أمها ومعها ذكر في بطن فيقولون وصلت أخاها فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به
والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى
ظهره فلم يركب ولم يجز وبره وخلي في إبله يضرب فيها لا ينتفع منه بغير ذلك
فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} أنزل عليه ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون 103 المائدة
وذكر بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم من ولد عملاق ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون قالوا هذه أصنام نعبدها ونستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا
فقال لهم أفلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه
فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه

قال ابن إسحاق ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسيح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة
حتى سلخ ذلك بهم إلا أن كانوا يعبدون ما استحسنوه من الحجارة وأعجبهم حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات
وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدى البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه
فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك
فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون 106 يوسف أي ما يوحدونني بمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي
وقد كانت لقوم نوح أصنام عكفوا عليها قص الله تبارك وتعالى خبرها على رسوله {صلى الله عليه وسلم} فقال وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا 23 نوح
وذكر الواقدي بإسناد له عن أبي هريرة أن أول ما عبدت الأصنام في زمن نوح عليه السلام وأن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا رجالا صالحين من قوم نوح أهل عبادة وفضل فماتوا فوجد عليهم أهلوهم وتوحش الناس لفقدهم فقال لهم رجل ألا أصورهم لكم صورا من خشب فتنظرون إليهم وتسكنون إلى رؤيتهم قالوا بلى إن قدرت قال أنا أقدر على تصويرهم ولا أقدر أن أنفخ الروح فيهم
فجاء بالصور كهيئتهم أحياء فأخذ أهل كل بيت صورة صاحبهم فوضعوها في منزلهم ينظرون إليها فأذهب ذلك بعض حزنهم

فكانوا على ذلك ما شاء الله حتى هلك ذلك القرن ثم خلف قرن آخر ثم ثالث بعده فكانوا على ما كان عليه القرن الأول حتى هلكوا
ثم خلف القرن الرابع فقالوا لو أنا عبدنا هؤلاء لقربونا إلى الله وشفعوا لنا
عنده ولا يزيدوننا إلا خيرا إنما نريد ما يقربنا منه فعبدوها حتى هلكوا وعبدها من بعدهم
فلما غرقت الأرض زمن نوح عليه السلام غرقت تلك الأصنام فمكثت ما شاء الله أن تمكث ثم استخرجها عمرو بن لحي ففرقها في القبائل فالله تعالى أعلم
وقد خرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس موقوفا عليه في التفسير نحو ما ذكره الواقدي مختصرا أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام فلما هلكوا أوحى الشياطين إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت
قال ابن إسحاق واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره وإذا قدم من سفره تمسح به وكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله
فلما بعث الله رسوله محمد {صلى الله عليه وسلم} بالتوحيد قالت قريش أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب 5 ص
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي إليها كما تهدي للكعبة وتطوف بها كطوافها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده
وسيمر في تضاعيف هذا الكتاب بعض أخبار هذه الطواغيت وكيف جعل الله عاقبة أمرها خسرا فأزهق الحق باطلها وعفي الإسلام أثارها وأكمل الله تعالى دينه وتمم نوره ونعمته ونصر دين الهدى والحق فأظهره على الدين كله

ومع إصفاق العرب مضرها ويمنها على هذا الضلال فقد كان وقع إلى بعضهم باليمن دين اليهودية فدانوا به ووقع أيضا دين النصرانية بنجران من أرض العرب على ما نذكره
فأما موقع اليهودية باليمن فمن جهة تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب بن كلكي كرب بن زيد وهو تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار
وتبان أسعد هو الذي قدم المدينة وساق الحبرين من يهود إلى اليمن وعمر البيت الحرام وكساه
وكان قد جعل طريقه حين أقبل من المشرق على المدينة وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها
فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن ظلة أخو بني النجار
وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له أحمر عدا على رجل من أصحاب تبع حين نزل بهم فقتله وذلك أنه وجده في عذق له يجده فضربه بمنجله فقتله وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم
فاقتتلوا فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم ويقول والله إن قومنا لكرام
فبينا تبع على ذلك من حربهم إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة عالمان راسخان حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فقال لهما ولم ذلك قالا هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره
فتناهى ورأى أن لهما علما وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما
وهذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم وإنما أراد هلاكهم فمنعوهم منه ثم انصرف عنهم ولذلك قال في شعره
حنقا على سبطين حلا يثربا
أولى لهم بعقاب يوم مفسد
وذكر ابن هشام أن الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع

وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فوجه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين غسفان وأمج أتاه نفر من هذيل بن مدركة فقالوا له أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة قال بلى قالوا بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده
فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك فقالا ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك وما نعلم بيتا لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا
قال فماذا تأمراني أن أصنع إذا قدمت عليه قالا تصنع عنده ما يصنع أهله تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذلل له حتى تخرج من عنده
قال فما يمنعكما أنتما من ذلك قالا أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهريقون عنده وهم نجس أهل شرك أو كما قالا له
فعرف نصحهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم
ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل
وأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء والوصائل
فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت
وأوصى به ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاة وهي المحائض وجعل له بابا ومفتاحا
ثم خرج موجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن
ويقال إنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا

فدعاهم إلى دينه وقال إنه خير من دينكم
قالوا فحاكمنا إلى النار
قال نعم وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأكل الظالم ولا تضر المظلوم
فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار عليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير
وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما
فأصفقت عند ذلك حمير على دينه
من هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن
قال ابن إسحاق وقد حدثني محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها وقالوا من ردها فهو أولى بالحق فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها فدنت منهم لتأكلهم وحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها ودنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة وتنكص عنهما حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه
فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما فالله أعلم أي ذلك كان
وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم فقال الحبران لتبع إنما هو شيطان يفتنهم فخل بيننا وبينه قال فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت
قال ابن إسحاق فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه وتبع هذا هو أحد الملوك الذين وطئوا البلاد ودوخوا الأرض ودانت لهم الممالك
ويقال إنه المسمى في قوله تعالى أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم 37 الدخان
وذلك لأنه لما آمن في أخر عمره ووحد خالفته حمير فتفرقوا عنه فانتقم الله منهم
وحكى الحسن بن أحمد الهمداني أنه أول ملك بشر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وآمن به وهو رتب الملوك وأبناء الملوك من قومه في قبائل العرب والعجم ومدائنها

و أمصارها وكان لكل قبيلة من العرب ولكل حي من العجم ملك من قومه إما حميري وإما كهلاني يسمع له ويطاع
ويذكر انه جمع الملوك وأبناء الملوك والأقاول وأبناء الأقاول من قومه وقال لهم
أيها الناس إن الدهر نفد أكثره ولم يبقى إلا أقله وإن الكثير إذا قل إلى النقصان أجرى منه إلى الزيادة سارعوا إلى المكارم فإنها تقربكم إلى الفلاح واعملوا على أنه من سلم من يومه لم يسلم من غده ومن سلم من الغد لا يسلم مما بعده وإنكم لتؤوبون مآب الآباء والأجداد وتصيرون إلى ما صاروا إليه والموت كل يوم أقرب إلى المرء من حياته منه ولكل زمان أهل ولكل دائرة سبب وسبب عطلان هذه الفترة التي من عز فيها بز من هو دونه ظهور نبي يعز الله به دينه ويخصه بالكتاب المبين على يأس من المرسلين رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم بعدكم وأبناء أبنائكم قرنا فقرنا وجيلا فجيلا ليتوقعوا ظهوره وليؤمنوا به وليجتهدوا في نصره على كافة الأحياء حتى يفيء الناس له إلى أمر الله
وأنشد له
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد دهري إلى دهره
لكنت وزيرا له وابن عم
وألزمت طاعته كل من
على الأرض من عرب أوعجم
ولكن قولي له دائما
سلام على أحمد في الأمم )
في أبيات ذكرها وأشعار غير هذا أثبت في إكليله كثيرا منها
قال وذكروا أن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان لم تزل تتوقع ظهور النبي {صلى الله عليه وسلم} وتبشر به وتوصي بالطاعة له والإيمان به والجهاد معه والقيام بنصره منذ ذلك العصر إلى أن ظهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكانوا بذلك حين بعث من أحرص الناس على نصره وطاعته
فمنهم من سمع له وأطاع وآمن به قبل أن يراه ومنهم من وصل إليه كتابه فسمع وأطاع وآمن وصدق ومنهم من آواه ونصره وأيده وجاهد في سبيل الله دونه

نطق بذلك الكتاب المنير في قوله والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة 9 الحشر
وقوله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم إلى أخر الآية 54 - 55 المائدة
قال الهمداني عن أبي الحسن الخزاعي يقال إنهم همدان
ثم أشار إلى ذكر سيف بن ذي يزن للنبي {صلى الله عليه وسلم} وما ألقاه من أمره إلى جده عبد المطلب عند وفادته عليه
قال وذكروا أنه لم يكن لسيف بن ذي يزن ذلك العلم في قصة النبي {صلى الله عليه وسلم} إلا من جهة تبع وما تناهي إليه مما كان ألقاه إليهم وعرفهم به من خبر النبي {صلى الله عليه وسلم}
وسنذكر خبر سيف هذا في موضعه إن شاء الله
وأما موقع النصرانية بأرض العرب فقد كان بنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على الإنجيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له فيميون وقع بين أظهرهم فحملهم عليه فدانوا به
فحدث وهب بن منبه أن فيميون كان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل القرى لا يعرف في قرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها وكان لا يأكل إلا من كسب يده وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى فيها حتى يمسي

قال وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح فأحبه صالح حبا لم يحب شيئا كان قبله مثله فكان يتبعه حيث ذهب ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع وقد أتبعه صالح وفيميون لا يدري فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه لا يحب أن يعلم بمكانه وقام فيميون يصلي فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين الحية ذات الرءوس السبعة فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخاف عليه فعيل عوله فصرخ يا فيميون التنين قد أقبل نحوك
فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها
وأمسى فانصرف وعرف أنه قد عرف وعرف صالح أنه قد رأى مكانه فقال له يا فيميون تعلم والله أني ما أحببت شيئا قط حبك وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت
قال ما شئت أمري كما ترى فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم
فلزمه صالح وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه وكان إذا ما جاءه العبد به الضر دعا له فشفي وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فسأل عن شأن فيميون فقيل له أنه لا يأتي أحدا دعاه ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته وألقى عليه ثوبا ثم جاءه فقال يا فيميون
إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه
فانطلق معه حتى دخل حجرته ثم قال له ما تريد أن تعمل في بيتك هذا قال كذا وكذا ثم انتشط الثوب عن الصبي وقال يا فيميون عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له
فدعا له فيميون فقام الصبي ليس به بأس
وعرف فيميون أنه قد عرف فخرج من القرية واتبعه صالح فبينا هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة فناداه منها رجل فقال يا فيميون ما زلت أنتظرك وأقول متى هو جاء حتى سمعت صوتك فعرفت أنك هو لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت الآن
قال فمات وقام عليه حتى واراه

ثم انصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب فاحتفظتهما سيارة من بعض العرب فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران وأهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلى النساء ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يوما
فابتاع فيميون رجل من أشرافهم وابتاع صالحا أخر فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيت أسكنه إياه سيده استسرج له البيت نورا حتى يصبح من غير مصباح فرأى ذلك سيده فأعجبه ما يرى منه فساله عن دينه فأخبره به وقال له فيميون إنما أنتم في باطل إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع لو دعوت عليها إلهي الذي أعبد أهلكها وهو الله وحده لا شريك له فقال له سيده فافعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه
فقام فيميون فتطهر وصلى ركعتين ثم دعا الله عليها فأرسل الله ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها
فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض فمن هنالك كانت النصرانية بنجران فيما ذكر وهب بن منبه في حديثه هذا
وأما محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران فذكروا أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر فلما نزلها فيميون ولم يسمه محمد بن كعب ولا شركاؤه في الحديث قالوا رجل نزلها ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر فبعث الثامر ابنه عبد الله مع غلمان أهل نجران فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه فقال يا بن أخي إنك لن تحمله أخشى عليك ضعفك عنه

والثامر أبو عبد الله بن الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان
فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا حتى إذا مر بذلك الاسم الأعظم قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه فقال وما هو
قال هو كذا وكذا قال وكيف علمته فأخبره بما صنع قال أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال له يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء فيقول نعم فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفي
حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي
حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك
قال لا تقدر على ذلك
فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع فيها أحد فيها إلا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس
فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر إنك والله لاتقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك إن فعلت سلطك الله علي فقتلتني
فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله وهلك الملك مكانه
واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وكان على ما جاء به عيسى من الإنجيل وحكمه ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث
فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران
قال ابن إسحاق فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر فالله أعلم أي ذلك كان

وحديث عبد الله بن الثامر هذا قد ورد في الصحيح مرفوعا إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} من طرق ثابتة خرجه مسلم بن الحجاج من حديث صهيب وبينه وبين حديث ابن إسحاق اختلاف وفيه مع ذلك زوائد تحسن لأجلها إعادة الحديث
فروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر
فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب افضل
فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس
فرماها وقتلها ومضى الناس
فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس سائر الأدواء فسمع به جليس للملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني
قال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن أمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص وتفعل و تفعل فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب
فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه

ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه
ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به وصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا
وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقورة فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك
فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله
فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به
قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم
وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات
فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام
فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس
فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه يعني فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم
ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق
فهذا حديث مسلم عن عبد الله بن الثامر وأهل نجران وإن وقعت الأسماء فيه مبهمة فقد فسرها العلماء بما ورد من ذلك مبينا في حديث ابن إسحاق وغيره وجعلوا ذلك كله حديثا واحدا

وذكر ابن إسحاق أنه لما كان من اجتماع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر ما تقدم الحديث به سار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل فاختاروا القتل فخد لهم الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ففي ذي نواس وجنده ذلك أنزل الله على نبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد إلى أخر الآيات
والأخدود هنا هو الحفر المستطيل في الأرض كالخندق والجدول ويقال أيضا لأثر السيف والسوط والسكين ونحوه في الجلد أخدود
قال ابن إسحاق ويقال كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله بن الثامر رأسهم وإمامهم
وحدث عن عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن رجلا من أهل نجران حفر خربة من خرب نجران في زمن عمر بن الخطاب فوجدوا عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة في رأسه ممسكا عليها بيده فإذا أخرت يده عنها تثعبت دما وإذا أرسلت يده ردها عليها فأمسك دمها في يده خاتم مكتوب فيه ربي الله فكتب فيه إلى عمر فكتب إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا
وذو نواس هذا هو زرعة بن تبان أسعد أبي كرب وهو تبع الآخر وقد تقدم خبره وابنه زرعة ذو نواس هذا كان من صغار بنيه وصار إليه ملك اليمن وأمر حمير بعد أبيه بزمان
وذلك أنه ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة ربيعة بن نضر بن أبي حارثة ابن عمرو بن عامر وكان من سادات اليمن وأهل الشرف منها
وهو صاحب الرؤيا التي يعرف من تأويلها استيلاء الحبشة على اليمن والشارة بظهور النبي {صلى الله عليه وسلم}

وذلك أنه رأى رؤيا هالته وفظع بها فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها قالوا اقصصها علينا نخبرك بتأويلها قال إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها
فقال له رجل منهم فإن كان الملك يريد هذا فلبيعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما فهما يخبرانه بما سأل عنه
فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق فقال إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها
فقال أفعل رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة فقال له الملك ما أخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في تأويلها
فقال أحلف ما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش
فقال الملك وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده قال لا بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين
قال أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع قال بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقاتلون ويخرجون منها هاربين
قال ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم قال يليه إرم بن ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن
قال أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع
قال ومن يقطعه قال نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي
قال ومن هو هذا النبي
قال رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر
قال وهل للدهر من آخر قال نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون ويشقى فيها المسيئون
قال أحق ما تخبرني قال نعم والشفق والغسق والقمر إذا اتسق إن ما أنبأتك لحق
ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان
قال نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة

فلما قال له ذلك عرف أن قد اتفقا وأن قولهما واحد إلا أن سطحيا قال بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة وقال شق وقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة
فقال الملك ما أخطأت يا شق منها شيئا فما عندك في تأويلها قال أحلف بما بين الحرتين من إنسان ليهبطن أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن ما بين أبين إلى نجران
فقال له الملك وأبيك يا شق إن هذا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده فقال لا بل بعده بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ويذيقهم أشد الهوان
قال ومن هذا العظيم الشأن قال غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن
قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع
قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل
قال وما يوم الفصل قال يوم يجزى فيه الولاة يدعى فيه من السماء بدعوات يسمع منها الأحياء والأموات ويجمع فيه الناس للميقات يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات
قال أحق ما تقول قال إي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما أنبأتك لحق ما فيه أمض
فوقع في نفس ربيعة بن نضر ما قالا فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق ما يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاد فأسكنهم الحيرة
فمن بقية ولد ربيعة بن نضر فيما يزعمون النعمان بن المنذر فهو في نسب اليمن وعلمهم النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نضر ذلك الملك
وقد تقدم قول من قال من العلماء أن النعمان من ولد قنص بن معد وقد قيل أيضا إن النعمان من ولد الساطرون صاحب الحضر وهو حصن عظيم كالمدينة على شاطئ الفرات وهو الذي ذكره عدي بن زيد في قوله
وأخو الحضر إذا بناه وإذ دجلة
تجبي إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا
فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد الملك
عنه فبابه مهجور
وأما شق وسطيح فإن شقا هو ابن صعب بن يشكر من بني أنمار بن نزار أبي بجيلة وخثعم

وكان شق إنسان فيما زعموا إنما له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحد ولذلك سمي بشق
وسطيح هو ربيع بن ربيعة من بني ذبيان بن عدي بن مازن بن غسان وكانت العرب تسميه الذيبي وإياه عني ميمون بن قيس الأعشى بقوله
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها
حقا كما نطق الذيبي إذ سجعا
وإنما قيل له سطيح لانه كان جسدا ملقى له رأس وليس له جوارح فيما ذكروا
وكان لا يقدر على الجلوس فإذا غضب انتفخ وجلس
وذكر أنه قيل له أني لك هذا العلم فقال لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله منه موسى عليه السلام فهو يؤدي إلي من ذلك ما يؤديه وعاش سطيح بعد هذا الحديث زمانا طويل حتى أدرك مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فذكر الخطابي وغيره من حديث هانئ بن هانئ المخزومي وأتت عليه مائة وخمسون سنة أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارتجس إيواء كسرى فسقط منه أربع عشر شرفة وغاضت بحيرة ساوة وفاض وادي السماوة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف عام وأري الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها
فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فصبر عليه تشجعا حتى إذا عيل صبره رأى ألا يدخر ذلك عن قومه ومرازبته فلبس تاجه وقعد على سريره ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال أتدرون فيم بعثت فيكم قالوا لا إلا أن يخبرنا الملك
فبينا هم كذلك إذ ورد عليه كتاب بخمود النار فازداد غما إلى غمه
ثم أخبر بما رأى وما هاله من ذلك فقال الموبذان وأنا أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان قال حدث يكون من ناحية العرب وكان أعلمهم في أنفسهم
فكتب عند ذلك كسرى إلى النعمان بن المنذر أن يوجه إليه برجل عالم بما يريد أن يسأله عنه فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني

فلما قدم عليه قال له الملك ألك علم بما أريد أن أسألك عنه قال ليخبرني الملك عما أحب فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه
فأخبره بالذي وجه إليه فيه فقال له علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال فائته فسله عما سألتك عنه ثم أئتني بتفسيره
فخرج عبد المسيح حتى أتى إلى سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه وكلمه فلم يرد عليه سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول
أصم أم يسمع غطريف اليمن
أم فاد فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن
اتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن
أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم ينمى للوسن
لا يرهب الوغد ولا ريب الزمن
تجوب بي الأرض علنداة شزن
ترفعني وجنا وتهوى فيه وجن
حتى أتى عاري الجآحي والقطن
تلفه في الريح بوغاء الدمن
فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول عبد المسيح أتى إلى سطيح على جمل مشيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها
عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت
ثم قضى سطيح مكانه فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بمقالة سطيح فقال إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور
فملك منهم عشرة إلى أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه
فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب فسار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم حتى إذا كان بأرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه في جيشه فقالوا له أقتل أخاك حسان ونملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم

فاجتمعوا على ذلك إلا ذورعين الحميري فإنه نهاه عن ذلك ولم يقبل منه فقال ذورعين الحميري
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين
ثم كتبهما في رقعة وختم عليها ثم أتى بها عمرا فقال له ضع لي هذا الكتاب عندك ففعل
ثم قتل عمرو أخاه حسان ورجع بمن معه إلى اليمن
فلما نزل اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به فقال له قائل منهم إنه والله ما قتل رجل أخاه أو ذا رحمة بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر
فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن حتى خلص إلى ذي رعين
فقال له ذو رعين إن لي عندك براءة قال وما هي قال الكتاب الذي دفعت إليك
فأخرجه فإذا فيه البيتان فتركه ورأى أنه قد نصحه
وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم فقال قائل من حمير
تقتل أبناها وتنفي سراتها
وتبني بأيديها لها الذل حمير
تدمر دنياها بطيش حلومها
وما ضيعت من دينها فهو أكثر
كذاك القرون قبل ذاك بظلمها
وإسرافها تأتي الشرور فتخسر
وكان لخنيعة امرءا فاسقا يعمل عمل قوم لوط فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه وجنده قد أخذ مسواكا فجعله في فيه علامة للفراغ من خبيث فعله

حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان وكان صبيا صغيرا حين قتل حسان ثم شب غلاما جميلا وسيما ذات هيئة وعقل فلما أتاه رسوله عرف ما يريد به فأخذ سكينا حديدا لطيفا فخبأه بين قدمه ونعله ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ووضع مسواكه في فيه ثم خرج على الناس فسألوه فأشار لهم إلى الرأس فنظروا فإذا رأس لخنيعة مقطوع فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه فقالوا ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث
فملكوه واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن فكان آخر ملوك حمير ويسمى يوسف فأقام في ملكه سنين
قال ابن قتيبة ثمانيا وستين سنة
إلى أن كان منه في أهل نجران ما تقدم ذكره فكان ذلك سببا لاستئصال ملكه واستيلاء الحبشة على اليمن

ذكر دخول الحبشة أرض اليمن واستيلائهم على ملكها وذكر السبب في ذلك مع ما يتصل به من أمر الفيلولما انتهى زرعة ذو نواس إلى ما انتهى إليه بأهل نجران من التحريق والقتل أفلت منهم رجل من سبأ يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر صاحب الروم فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم فقال له بعدت بلادك منا ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين وهو أقرب إلى بلادك
فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط ومعه في جنده أبرهة الأشرم فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس فسار إليه ذو نواس في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر ثم ضربه فدخل به فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمره فأدخله فيه فكان آخر العهد به
ودخل أرياط اليمن فملكها

فأقام بها سنين في سلطانه ذلك ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي حتى تفرقت الحبشة عليهما فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم ثم سار أحدهما إلى الآخر فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا فأبرز لي وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده فأرسل إليه أرياط أنصفت
فخرج إليه أبرهة وكان رجلا قصيرا لحيما وكان ذا دين في النصرانية وخرج إليه أرياط وكان رجلا عظيما جميلا طويلا وفي يده حربة له وخلف أبرهة غلام له يقال له عتودة يمنع ظهره فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته فبذلك سمى أبرهة الأشرم
وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله
فانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن وودى أبرهة أرياط
فلما بلغ ذلك النجاشي غضب غضبا شديدا وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته
فحلق ابرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي وكتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك اختلفنا في أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة واضبط لها وأسوس منه وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه في
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري
فأقام بها ثم إن أبرهة بني القليس بصنعاء فبني كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ثم كتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب

فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النسأة أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة فخرج حتى أتى القليس فأحدث فيها ثم لحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فقال من صنع هذا فقيل له رجل من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك أصرف إليها حج العرب غضب فجاء فقعد فيها أي أنها ليست لذلك بأهل
فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه
ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم ساروا وخرج معه بالفيل
وسمعت بذلك العرب فأعظموه و فظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله وما يريد من هدمه و إخرابه
فأجابه من أجابه إلى ذلك ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا فلما أراد قتله قال له ذو نفر أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلى
وكان أبرهة رجلا حليما فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به فلما هم بقتله قال له نفيل أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم شهران وناهس بالسمع والطاعة
فخلى سبيله وخرج به معه يدله
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك الثقفي في رجال ثقيف فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه

فجاوز عنهم واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة فبعثوا معه أبا رغال يدل على الطريق إلى مكة
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس
فلما نزل ابرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها
فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له سل عن سيد أهل هذا البلد و شريفهم ثم قل له إن الملك يقول لك إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرض حربي فائتني به
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له عبد المطلب بن هاشم
فجأه فقال له ما أمر به أبرهة فقال له عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا بذلك منه طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم أو كما قال فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمته وإن يخل بينه وبينه فوا لله ما عندنا دفع عنه فقال حناطة فانطلق إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه في محبسه فقال له يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال له ذو نفر وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك قال حسبي

فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت قال أفعل
فكلم أنيس أبرهة قال له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك فأذن له فليكلمك في حاجته
ووصفه له بما وصفه ذو نفر لأنيس
فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجمله وأعظمه فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه قل له حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه قل
له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه
قال عبد المطلب أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه قال ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك
ويزعم بعض أهل العلم أنه كان ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد بني بكر وخويلد بن واثلة الهذلي وهو يومئذ سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم فالله أعلم أكان ذلك أم لا
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفا عليهم من معرة الجيش
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده
فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة
لا هم إن العبد يمنع
رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
و محالهم غدوا محالك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبي جيشه وكان اسم الفيل محمودا وأبرهة مجمع لهدم البيت والانصراف إلى اليمن فلما وجهوا الفيل إلى مكة قام نفيل بن حبيب إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال له ابرك محمود وارجع
راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل
وضربوا الفيل ليقوم فأبي وضربوه في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته
أين المفر والإله الطالب
والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال نفيل أيضا
ألا حييت عنا يا ردينا
نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت ولا تريه
لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري
ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا
وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل
كأن علي للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة منها أتبعتها مدة تمث قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون

ويقال أنه أول ما رئيت الحصبة و الجدرى بأرض العرب ذلك العام وإنه أول ما رئي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام
فلما بعث الله محمدا {صلى الله عليه وسلم} كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال تبارك وتعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل الم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
وقالت عائشة رضي الله عنها لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان
قال ابن إسحاق فلما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم به من النقمة أعظمت العرب قريشا وقالوا هم أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم فقالوا في ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم فقال عبد الله بن الزبعري السهمي
تنكلوا عن بطن مكة إنها
كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعري ليالي حرمت
إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الحبش عنها ما رأى
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم
بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عادوجرهم قبلهم
والله من فوق العباد يقيمها
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمي من قصيدة سيأتي ذكرها بجملتها
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق
غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمشي ورجله
على القاذفات في رءوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم
جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب
إلى قومه ملحبش غير عصائب
وقالت سبيعة بنت الأحب بن زبينة من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور لابنها خارجة بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغي فيها وتذكر تبعا وتذلله لها والفيل وهلاك جيشه عندها
أبني لا تظلم بمكة
لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بني
ولا يغرنك الغرور

أبني من يظلم بمكة
يلق أطراف الشرور
أبني يضرب وجهه
ويلح بخديه السعير
أبني قد جربتها
فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما
بنيت بعرصتها قصور
والله آمن طيرها
و العصم تأمن في ثبير
ولقد غزاها تبع
فكسا بنيتها الحبير
وأذل ربي ملكه
فيها فأوفى بالنذور
يمشي إليها حافيا
بفنائها ألفا بعير
ويظل يطعم أهلها
لحم المهارى والجزور
يسقيهم العسل المصفي
والرحيض من الشعير
والفيل أهلك جيشه
يرمون فيهابالصخور
والملك في أقصى البلاد
وفي الأعاجم و الجزير
فاسمع إذا حدثت وافهم
كيف عاقبة الأمور
ولم يزل شعراء أهل الجاهلية يذكرون ذلك في أشعارهم معتدين بصنع الله فيه وقد جرى على ذلك شعراء الإسلام فقال الفرزدق بن غالب التميمي يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويعرض للحجاج بن يوسف ويذكر الفيل وجيشه
فلما طغى الحجاج حين طغى به
غنى قال إني مرتق في السلالم
فقال كما قال ابن نوح سأرتقى
إلى جبل من خشية الماء عاصم
رمى الله في جثمانه مثل ما رمى
عن القبلة البيضاء ذات المحارم
جنودا تسوق الفيل حتى أعادهم
هباء وكانوا مطرخمي الطراخم
نصرت كنصر البيت إذ ساق فيله
إليه عظيم المشركين الأعاجم
قال ابن إسحاق فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى فلما هلك يكسوم ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة
فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكا إليه ما هم فيه وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو ويبعث إليهم من شاء من الروم فلم يشكه
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان إن لي على كسرى وفادة في كل عام فأقم حين يكون ذلك ففعل

ثم خرج معه فأدخله على كسرى وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكان تاجه مثل القلنقل العظيم فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشفت عنه الثياب فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له
فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك وقيل إنه لما دخل عليه طأطأ رأسه فقال الملك إن هذا لأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه
فقيل ذلك لسيف فقال إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء
ثم قال أيها الملك غلبنا على بلادنا الأغربة
فقال كسرى أي الأغربة الحبشة أم السند
قال بل الحبشة فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك
قال بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك
ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف وكساه كسوة حسنة
فلما قبض ذلك سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس
فبلغ ذلك الملك فقال إن لهذا لشأنا
ثم بعث إليه فقال عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس فقال وما أصنع بهذا ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها
فجمع كسرى مرازبته فقال ماذا ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له فقال قائل أيها الملك إن في سجونك رجالا حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت وإن ظفروا كان ملكا ازددته
فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمائة رجل واستعمل عليهم رجلا منهم يقال له وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصلت إلى ساحل عدن ست سفائن
فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا قال وهرز أنصفت
وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنوده فأرسل إليهم

وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم
فلم تواقف الناس على مصافهم قال وهرز أروني ملكهم قالوا له أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء قال نعم قالوا ذلك ملكهم قال اتركوه
فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا قد تحول على الفرس قال أتركوه
فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا على البغلة قال وهرز بنت الحمار ذل وذل ملكه إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم
ثم أوتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها وأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رمى فصك الياقوتة التي بين عينيه فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ونكس عن دابته واستدارت الحبشة ولاثت به وحملت عليهم الفرس وانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه
وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا الباب فهدم ثم دخلها ناصبا رايته
وقال في ذلك أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي وتروى لابنه أمية بن أبي الصلت
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن
مذيم في البحر للأعداء أحوالا
يهم قيصر لما حاز رحلته
فلم يجد عنده بعض الذي سالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم
إنك عمري لقد اسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا
ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غلبا أساورة
أسدا تربب في الغيضات أشبالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد
أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا
في رأس غمدان دارا منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم
وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم

وكان ملك الحبشة باليمن منذ دخلها أرياط إلا أن أخرجتهم الفرس عنها اثنتين وسبعين سنة وفق ما ذكره سطيح وشق في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر
ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان بن المرزبان ثم مات فأمر كسرى ابن التينجان ثم عزله وولى باذان فلم يزل عليها حتى بعث الله محمدا {صلى الله عليه وسلم}
فلما بلغ مبعثه كسرى كتب إلى باذان إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه
فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكتب إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا
فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر وقال إن كان نبيا فسيكون ما قال
فقتل الله كسرى على يد ابنه شيرويه في اليوم الذي قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقالت الرسل من الفرس إلى من نحن يا رسول الله قال أنتم منا وإلينا أهل البيت
قال الزهري فمن ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سلمان منا أهل البيت
وكل هذه الأخبار وإن قطعت بعض ما كنا بسبيله من أمر بني قصي فلها أيضا من الإفادة بنحو ما قصدناه وحسن الإمتاع بالشأن المناسب لما اعتمدناه ما يحسن اعتراضها وينظم في سلك واحد مع ما مر من ذلك أو يأتي أغراضها
وعلينا بمعونة الله في تجويد الترتيب لذلك كله تطبيق المنفصل ورد هذه الأحاديث المتفرقة في حكم الحديث المتصل فنطيل ولا نمل ونقصر فلا نخل كل ذلك ببركة المختار الذي يممنا تخليد أوليته وتيمنا بخدمة آثاره وسيرته صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين وصحابته
وكنا انتهينا من شأن بني قصي بعده إلى ما تراضوا به بينهم من الصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف وتكون حجابة البيت واللواء والندوة لبني عبد الدار على نحو ما جعله قصي إلى أبيهم
فولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف

وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة وكان مقلا ذا ولد كثير وكان هاشم موسرا وكان فيما يزعمون إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذي الحجة فيسند طهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيحض قومه على رفادة الحاج التي سنها لهم قصي و يقول لهم في خطبته يا معشر قريش أنتم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما وأوسط العرب أنسابا وأقرب العرب بالعرب أرحاما
يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله أكرمكم الله بولايته وخصكم بجواره دون بني إسماعيل حفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح وقد أزحفوا وأرملوا فأقروهم وأعينوهم فورب هذه البنية لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتكموه وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم تقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فواضعه
فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعله وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم تقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا
فكانت بنو كعب بن لؤي وسائر قريش يجتهدون في ذلك ويترافدون عليه ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشم بن عبد مناف فيضعوه في داره حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير على قدرهم وكان هاشم يخرج في كل سنة مالا كثيرا وكان قوم من قريش أهل يسار ربما أرسل كل إنسان منهم بمائة مثقال هرقلية
وكان هاشم يأمر بحياض من أدم فتجعل في موضع زمزم من قبل أن تحفر ثم يستقي فيها من البيار التي بمكة فيشرب الحاج
وكان يطعمهم أول ما يطعمهم بمكة قبل التروية بيوم ثم بمنى وبجمع وعرفة يثرد لهم الخبز واللحم والخبز والسمن والسويق والتمر ويحمل لهم الماء فيطعمهم ويسقيهم حتى يصدروا

وكان اسم هاشم عمرا ويقال له عمرو العلا وإنما سمي هاشما لهشمه الخبز بمكة لقومه وهو فيما يذكرون أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف وفي ذلك يقول بعض شعرائهم
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما
سفر الشتاء ورحلة الإصياف
وذلك أن قريشا كانوا قوما تجارا وكانت تجارتهم لا تعدو مكة إنما يقدم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم ويبيعون ممن حولهم من العرب
فلم يزالوا كذلك حتى ذهب هاشم إلى الشام فكان يذبح كل يوم شاة فيصنع جفنة ثريد ويدعو من حوله فيأكلون
وكان هاشم من أحسن الناس وأجملهم إلى شرف نفسه وكرم فعاله فذكر لقيصر فدعا به فلما رآه وكلمه أعجب به وأدناه
فلما رأى هاشم مكانه منه طلب منه أمانا لقومه ليقدموا بلاده بتجاراتهم فأجابه إلى ذلك وكتب لهم قيصر كتاب أمان لمن أتى منهم
فأقبل هاشم بذلك الكتاب فكلما مر بحي من أحياء العرب أخذ من أشرافهم إيلافا لقومه يأمنون به عندهم وفي أرضهم من غير حلف وإنما هو أمان الطريق
واستوفى أخذ ذلك ممن بين مكة والشام فأتى قومه بأعظم شيء أتوا به قط بركة فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم ليوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب فلم يزل يوفيهم إياه ويجمع بينهم وبين العرب حتى قدم بهم الشام
فهلك هاشم في سفره ذلك بغزة من أرض الشام
وكان أول بني عبد مناف هلكا
وخرج المطلب بن عبد مناف وهو يسمى الفيض لسماحته وفضله إلى اليمن فأخذ من ملوكهم أمانا لمن تجر من قومه إلى بلادهم ثم أقبل يأخذ لهم الإيلاف ممن كان على طريقه من العرب كما فعل أخوه هاشم حتى أتى مكة ثم رجع إلى اليمن فمات بردمان
وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة فأخذ منه أمانا كذلك لمن تجرمن قريش إلى بلاده ثم أخذ الإيلاف من العرب الذين على الطريق إليها حتى بلغ مكة وتوفي بها فقبره بالحجون

وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه إلى العراق فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب حتى قدم مكة ثم رجع إلى العراق فمات بسلمان من ناحية العراق
فجبر الله قريشا بهؤلاء النفر الأربعة من بني عبد مناف فنمت أموالهم واتسعت تجارتهم فكان بنو عبد مناف يسمون لأجل ذلك المجيزين والعرب تسميهم أقداح النضار لطيب أحسابهم وكرم فعالهم
وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكيهم جميعا حين أتاه نعي نوفل منهم وكان آخرهم هلكا
يا ليلة هيجت ليلاتي
إحدى ليالي القسيات
وما أقاسي من هموم وما
عالجت من رزء المنيات
إذا تذكرت أخي نوفلا
ذكرني بالأوليات
ذكرني بالأرز الحمر والأردية
الصفر القشييبات
أربعة كلهم سيد
أبناء سادات لسادات
ميت بردمان وميت بسلمان
وميت بين غزات
وميت أسكن لحدا لدى الحجون
شرقي البنيات
أخلصهم عبد مناف فهم
من لوم من لام بمنجاة
إن المغيرات وأبناءها
من خير أحياء وأموات
وإنما سماهم المغيرات لأن عبد مناف أباهم كان اسمه المغيرة
فقيل لمطرود فيما يزعمون لقد قلت فأحسنت ولو كان أفحل مما هو كان أحسن
فقال أنظروني ليالي فمكث أياما ثم قال
ياعين جودي وأذري الدمع وانهمرى
وابكي على السر من كعب المغيرات
يا عين واستحنفري بالدمع واحتفلي
وابكي خبيئة نفسي في الملمات
وابكي على كل فياض أخي ثقة
ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات
محض الضريبة عالي الهم مختلق
جلد النحيزة ناء بالعظيمات
صعب البديهة لا نكس ولا وكل
ماضي العزيمة متلاف الكريمات
صقر توسط من كعب إذا نسبوا
بحبوحة المجد والشم الرفيعات
ثم اندبي الفيض والفياض مطلبا
واستخرطي بعد فياض بجمات
أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا
يا لهف نفسي عليه بين أموات
وابكي لك الويل إما كنت باكية
لعبد شمس بشرقي البنيات
وهاشم في ضريح وسط بلقعة
تسفي الرياح عليه بين غزات
ونوفل كان دون القوم خالصتي
أمسى بسلمان في رمس بمومات
لم ألق مثلهم عجما ولا عربا

إذا استقلت بهم أدم المطيات
أمست ديارهم منهم معطلة
وقد يكونون زينا في السريات
أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم
أم كل من عاش أزواد المنيات
أصبحت أرضي من الأقوام بعدهم
بسط الوجوه وإلقاء التحيات
يا عين وابكي أبا الشعث الشجيات
يبكينه حسرا مثل البليات
يبكين أكرم من يمشي على قدم
يعولنه بدموع بعد عبرات
يبكين شخصا طويل الباع ذا فخر
آبي الهضيمة فراج الجليلات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه
سمح السجية بسام العشيات
يبكينه مستكينات على حزن
يا طول ذلك من حزن وعولات
يبكين لما جلاهن الزمان له
خضر الخدود كأمثال الحميات
محتزمات على أوساطهن لما
جر الزمان من احداث المصيبات
أبيت ليلى أراعي النجم من ألم
أبكي وتبكي معي شجوي بنياتي
ما في القروم لهم عدل ولا خطر
ولا لمن تركوا شروى بقيات
أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم
خير النفوس لدى جهد الأليات
كم وهبوا من طمر سابح أرن
ومن طمرة نهب في طمرات
ومن سيوف من الهندي مخلصة
ومن رماح كأشطان الركيات
ومن توابع مما يفضلون بها
عند المسائل من بذل العطيات
فلو حسبت وأحصى الحاسبون معي
لم أحص أفعالهم تلك الهنيات
هم المدلون إما معشر فخروا
عند الفخار بأنساب نقيات
زين البيوت التي خلوا مساكنها
فأصبحت منهم وحشا خليات
أقول والعين لا ترقا مدامعها
لا يبعد الله أصحاب الرزيات
وكان هاشم بن عبد مناف قد قدم المدينة فتزوج بها سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح فيما ذكر ابن إسحاق
قال وكانت لا تنكح الرجال لشرفها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها إن كرهت رجلا فارقته
فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا أو فوق ذلك
ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه فقالت له سلمى لست بمرسلته معك

فقال لها المطلب إني غير منصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه ونحن أهل بيت شرف في قومنا نلي كثيرا من أمرهم ورهطه وعشيرته وبلده خير له من الإقامة في غيرهم أو كما قال
وقال شيبة لعمه المطلب فيما يزعمون لست بمفارقها إلا أن تأذن لي
فأذنت له ودفعته إليه فاحتمله فدخل به مكة مردفة على بعيره فقالت قريش عبد المطلب ابتاعه
فبها سمي شيبة عبد المطلب
فقال المطلب ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم قدمت به من المدينة
وذكر الزبير أن شيبة إنما سمي عبد المطلب لأن عمه المطلب لما قدم به من يثرب ودخل به مكة ضحوة مردفه خلفه والناس في أسواقهم ومجالسهم قاموا يرحبون به ويقولون من هذا معك فيقول عبد لي ابتعته بيثرب فلما كان العشية ألبسه حلة ابتاعها له ثم أجلسه في مجلس بني عبد مناف وأخبرهم خبره
فجعل بعد ذلك يخرج في تلك الحلة فيطوف في سكك مكة وكان أحسن الناس فيقولون هذا عبد المطلب لقول المطلب فيه ذلك فلج اسمه عبد المطلب وترك شيبة
وكان يقال لعبد المطلب شيبة الحمد وإنما سمي شيبة لأنه كان في ذؤابته شعرة بيضاء
ثم ولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم من أمرهم قبله وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه وأحبه قومه وعظم خطره فيهم
ويقال كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة وهيبة الملك
قال الزبير ومكارم عبد المطلب أكثر من أن أحيط بها كان سيد قريش غير مدافع نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وفعالا وكمالا
فصلي الله على المنتخب من ذريته المخصوص بأولية الفخر وآخريته وعلى آلة الأكرمين وعترته وسلم تسليما

ذكر حفر عبد المطلب زمزموما يتصل بذلك من حديث مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قد تقدم الخبر عن زمزم أنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام التي سقاه الله حين ظمأ وهو صغير

وكانت جرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة بين صنمي قريش إساف ونائلة عند منحر قريش فبقي أمرها كذلك إلى أن أمر عبد المطلب بن هاشم بحفرها
فذكر ابن إسحاق وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة قلت وما طيبة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر برة فقلت وما برة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر المضنونة قلت وما المضنونة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر زمزم قلت وما زمزم
قال لا تنزف أبدا ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل
فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له يومئذ ولد غيره فحفر
فلما بدا لعبد المطلب الطي كبر
فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها
قال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم
قالوا له فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها
قال اجعلوا بيني وبينكم من شئتم نحاكمكم إليه
قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال نعم وكانت بأشراف الشام
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة من قريش نفر قال والأرض إذ ذاك مفاوز
قال فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال ماذا ترون قالوا ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت

قال فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا
قالوا نعم ما أمرت به فقام كل رجل منهم فحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا
فارتحلوا حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم
ثم دعا القبائل من قريش فقال هلم إلي الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا
فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا
فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها
وفي غير حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عبد المطلب قيل له حين أمر بحفر زمزم
ثم ادع بالماء الروي غير الكدر
يسقي حجيج الله في كل مبر
ليس يخاف منه شيء ما عمر
فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا فهل بين لك أين هي قال لا قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك
فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتي فقيل له أحفر زمزم إنك إن حفرتها لم تندم وهي تراث من أبيك الأعظم لا
تنزف أبدا ولا تذم تستقي الحجيج الأعظم مثل نعام حافل لم يقسم ينذر فيها ناذر لمنعم تكون ميراثا وعقدا محكم ليست كبعض ما قد تعلم وهي بين الفرث والدم

فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال وأين هي قيل له عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا
فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين إساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحهم
فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش حين رأوا جده فقالوا والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما
فقال عبد المطلب لابنه الحارث ذب عني فو الله لأمضين لما أمرت به
فلما عرفوا أن غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطي فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا
فقالت له قريش يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق قال لا ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم فضرب عليها بالقداح قالوا وكيف نصنع قال أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن خرج قدحاه على شيء فهو له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا أنصفت
فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش
ثم أعطوا القداح الذي يضرب بها عند هبل وهبل صنم في جوف الكعبة وهو
أعظم أصنامهم وهو الذي عنى أبو سفيان بن حرب لما نادى يوم أحد اعل هبل أي ظهر دينك
وقام عبد المطلب يدعوا الله وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب وتخلف قدحا قريش
فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حليته الكعبة فيما يزعمون
وذكر الزبير أن عبد المطلب لما أنبط الماء في زمزم حفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف ثم بنى عليها حوضا فطفق هو وابنه ينزعان عليها فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه الحاج

وكان قوم حسدة من قريش لا يزالون يكسرون حوضه ذلك بالليل ويغتسلون فيه فيصلحه عبد المطلب حين يصبح
فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فقيل له في المنام قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل
فقام عبد المطلب في المسجد فنادى بالذي أرى ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش أو يغتسل فيه إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه ذلك وسقايته فرقا
وذكر الزبير أيضا أن عبد المطلب لما حفر زمزم وأدرك منها ما أدرك وجدت قريش في أنفسها مما أعطي فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال يا ابن سلمى لقد سقيت ماء رغدا ونثلت عادية حتدا قال يا ابن أسد أما أنك تشرك في فضلها والله لا يساعفني أحد عليها ببر ولا يقوم معي بأزر إلا بذلت له خيرا لصهر فقال خويلد بن أسد
أقول وما قولي عليهم بسنة
إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم
حفيرة إبراهيم يوم ابن آجر
وركضة جبريل على عهد آدم
فقال عبد المطلب ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد
ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة وكانت خارجا من مكة آبار حفائر قديمة من عهد مرة بن كعب وكلاب بن مرة وكبراء قريش الأول منها يشربون فعفت زمزم على تلك البئار التي كانت قبلها يسقى عليها الحاج
وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه ولأنها بئر اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب
وكان عبد المطلب فيما يزعمون والله أعلم قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة

فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء به فأطاعوه وقالوا وكيف نصنع قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب اسمه فيه ثم ائتوني ففعلوا ثم اتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة وكان على بئر في جوف الكعبة فيها يجمع ما يهدى للكعبة وكان عند هبل قداح سبعة بها يضربون على ما يريدون وإلى ما تخرج به القداح ينتهون في أمورهم
فقال عبد المطلب لصاحب القداح اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه
وأخبره بنذره الذي نذر وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه وكان عبد الله بن عبد المطلب أحب بني أبيه إليه فيما زعموا فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى
فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من أنديتها وقالوا ماذا تريد يا عبد المطلب قال أذبحه فقالت له قريش وبنوه والله لا تذبحه أبدا حتى تعذرفيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه فما بقاء الناس على هذا
وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان عبد الله ابن أخت القوم أمه وأم أخويه الزبير وأبي طالب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه وقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع فتسألها ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه ذبحته وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته
فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها فيما يزعمون بخيبر فركبوا حتى جاءوها فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه وما أراد به ونذره فيه فقالت لهم ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله

فرجعوا من عندها فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله ثم غدو عليها فقالت لهم قد جاءني الخبر كم الدية فيكم قالوا عشرة من الإبل وكانت كذلك قالت فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرة من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى
يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم
فخرجوا حتى قدموا مكة فلما أجمعوا ذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل وعبد المطلب عند هبل يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل عشرين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل وما زالوا كذلك يزيدون عشر فعشرا من الإبل ويضربون عليها كل ذلك يخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة من الابل وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فقالت قريش قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب
فزعموا أن عبد المطلب قال لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات فضربوا على عبد الله وعلى الإبل وقام عبد المطلب يدعو الله فخرج القدح على الإبل ثم عادوا الثانية والثالثة وعبد المطلب قائم يدعو الله فخرج القدح في كلتيهما على الإبل
فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع
ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد الله فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزي وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد وهي عند الكعبة
قال الزبير وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط فقالت له حين نظرت إلى وجهه أين تذهب يا عبد الله قال مع أبي قالت لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن
كلاب بن مرة وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا

فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها مالك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس قالت له فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل وكان تنصر واتبع الكتب أنه كائن في هذه الأمة نبي
ويقال إن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة ابنة وهب وقد عمل في طين له وبه آثار من الطين فدعاها إلى نفسها فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك ثم خرج عائدا إلى آمنة فمر بتلك المرأة فدعته إلى نفسها فأبى عليها وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها فحملت بمحمد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مر بامرأته تلك فقال لها هل لك قالت لا مررت بي وبين عينيك غرة فدعوتك فأبيت ودخلت على آمنة فذهبت بها
فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس قالت فدعوته رجاء أن تكون تلك بي فأبى علي ودخل على آمنة فأصابها فحملت برسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أوسط قومه نسبا وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمه {صلى الله عليه وسلم}
ويزعمون فيما يتحدث الناس والله أعلم أن أمه كانت تحدث أنها أتيت حين حملت به فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي
أعيذه بالواحد
من شر كل حاسد
ثم سميه محمدا
ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن هلك وأمه حامل به
هذا قول ابن إسحاق وخالفه كثير من العلماء فقالوا إن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان في المهد حين توفي أبوه ذكره الدولابي وغيره وذكر ابن أبي خيثمة أنه كان ابن شهرين وقيل أكثر من ذلك والله أعلم
وولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول عام الفيل قيل بعد الفيل بخمسين يوما

وحكى الواقدي عن سليمان بن سحيم قال كان بمكة يهودي يقال له يوسف فلما كان اليوم الذي ولد فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن يعلم به أحد من قريش قال يا معشر قريش قد ولد نبي هذه الأمة في بحرتكم هذه اليوم وجعل يطوف في أنديتهم فلا يجد خبرا حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل فقيل له ولد لابن عبد المطلب غلام فقال هو نبي والتوراة
وقال حسان بن ثابت والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما أسمع إذا سمعت يهوديا يصرخ على أطمة بيثرب يا معشر يهود حتى إذا
اجتمعوا قالوا له ويلك مالك قال طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به
وذكر ابن السكن من حديث عثمان بن أبي العاص عن أمه فاطمة بنت عبد الله أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليلا
قالت فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي
وذكر ابن مخلد في تفسيره أن إبليس رن أربع رنات رنة حين لعن ورنة حين أهبط ورنة حين ولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب
قال ابن إسحاق فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب أنه قد ولد لك غلام فائته فانظر إليه فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه
فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها
ويروى أن عبد المطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها
زعموا أنه أري في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها
فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض فلذلك سماه محمدا مع ما حدثته أمه

ولا يعرف في العرب أحد تسمى بهذا الاسم قبله سوى نفر سموا به من أجله منهم محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي ومحمد بن أحيحة بن الجلاح وآخر من ربيعة
وكان آباؤهم قد وفدوا على بعض الملوك ممن كان عنده علم بالكتاب الأول فأخبرهم بمبعث النبي {صلى الله عليه وسلم} وتقارب زمانه وباسمه وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا
ففعلوا ذلك رجاء أن يكونه
والله أعلم حيث يجعل رسالاته
وقد وقع في مواضع أخر أن هؤلاء النفر كانوا أربعة ولم يذكر فيهم محمد بن أحيحة وحديثهم مخالف لما ذكرناه خلافا يسيرا
روينا من حديث عبد الملك بن أبي سوية عن أبيه عن جده قال سألت محمد بن عدي بن ربيعة كيف سماك أبوك محمدا فقال سألت أبي عما سألتني عنه فقال خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا فيهم وسفيان بن مجاشع بن دارم وأسامة بن مالك بن خندف ويزيد بن ربيعة نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا إلى غدير عليه شجرات وقربه شخص نائم فتحدثنا فاستمع كلامنا وأشرف علينا فقال إن هذه لغة ما هي لغة أهل هذه البلاد فقلنا نحن قوم من مضر قال من أي المضريين قلنا من خندف قال أما إنه يبعث فيكم وشيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا
فقلت له ما اسمه قال محمد فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل رجل منا ابن سماه محمدا
والتمس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} الرضعاء فاسترضع له من امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب
وكانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء قالت وفي سنة شهباء لم تبق لنا شيئا
قالت فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة ولا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكنا نرجوا الغيث والفرج
فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا

حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك
فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري
فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه
قال لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة
قالت فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره
فلما أخذته رجعت به إلى رحلى فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا
فبتنا بخير ليلة يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة قلت والله إني لأرجو ذلك
ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي فوالله لقطعت بالركب ما يقدر علي شيء من حميرهم حتى إن صواحبي ليقلن يا بنت أبي ذؤيب ويحك اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى والله إنها لهي فيقلن والله إن لها لشأنا
قالت ثم قدمنا منازلنا من بني سعد ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمى تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغناهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا
فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتان وفصلته
وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا
فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته

فكلمنا أمه وقلت لها لو تركت بني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة
فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به
فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه
قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه
قالت فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا ما لك يا بني
قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو
قالت فرجعنا به إلى خبائنا وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به
قالت فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك
قلت قد بلغ و الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه فأديته عليك كما تحبين
قالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك
قالت فلم تدعني حتى أخبرتها
قالت أفتخوفت عليه الشيطان قلت نعم
قالت كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وإن لبني لشأنا أفلا أخبرك خبره قلت بلى
قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام
ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء
دعيه عنك وانطلقي راشدة
ويروى أن نفرا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قالوا له يا رسول الله أخبرنا عن نفسك
قال نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ابن مريم ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام واسترضعت في بني سعد بن بكر
فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا فأخذاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه

فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني بهم فوزنتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بهم فوزنتهم فقال دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنها
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول ما من نبي إلا وقد رعى الغنم قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا
وكان يقول لأصحابه أنا أعربكم أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر
وزعم الناس فيما يتحدثون والله أعلم أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس وهي مقبلة به نحو أهله فالتمسته فلم تجده فأتت عبد المطلب فقالت له إني قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت بأعلى مكة أضلني فوالله ما أدري أين هو
فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به عبد المطلب فقالا هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له ثم أرسل به إلى أمه آمنة
وذكر بعض أهل العلم أن مما هاج أمه السعدية على رده ما ذكرت لأمه ما أخبرتها عنه أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا لها لنأخذن هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره فلم تكد تنفلت به منهم

وذكر الواقدي أن أمه حليمة السعدية بعد أن رجعت به من عند أمه حضرت به سوق ذي المجاز وبها يومئذ عراف من هوازن يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم فلما نظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وإلى الحمرة في عينيه وإلى خاتم النبوة صاح يا معشر العرب فاجتمع إليه أهل الموسم فقال اقتلوا هذا الصبي وانسلت به حليمة فجعل الناس يقولون أي صبي هو فيقول هذا الصبي فلا يرون شيئا قد انطلقت به أمه فيقال له ما هو فيقول رأيت غلاما وآلهته ليغلبن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم فطلب بعكاظ فلم يوجد
ورجعت به حليمة إلى منزلها فكانت بعد هذا لا تعرضه لأحد من الناس
ولقد نزل بهم عراف فأخرج إليه صبيان أهل الحاضر وأبت حليمة أن تخرجه إليه إلى أن غفلت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرج من المظلة فرآه العراف فدعاه فأبى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودخل الخيمة فجهد بهم العراف أن يخرج إليه فأبت فقال هذا نبي
وقد عرضه عمه أبو طالب على عائف من لهب كان إذا قدم من مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فأتاه به أبو طالب وهو غلام مع من يأتيه قال فنظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم شغله عنه شيء فقال الغلام علي به
فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه فجعل يقول ويلكم ردوا علي الغلام الذي رأيت آنفا فوالله ليكونن له شأن
وانطلق به أبو طالب
وكانت حليمة بعد رجوعها به من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا
فغفلت عنه يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه حتى تجده مع أخته فقالت في هذا الحر فقالت أخته يا أمه ما وجد أخى حرا رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع
تقول أمها أحقا يا بنية قالت إي والله قال تقول حليمة أعوذ بالله من شر ما يحذر على ابني
فكان ابن عباس يقول رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين
وكان غيره يقول رجع إليها وهو ابن أربع سنين
هذا كله عن الواقدي

قال ابن إسحاق فكان النبي {صلى الله عليه وسلم} مع أمه آمنة وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته
فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ست سنين توفيت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة
وكانت قد قدمت به إلى أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم فماتت وهي راجعة به إلى مكة
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مع جده عبد المطلب
وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا ابني فوالله إن له لشأنا
ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع
قالوا وكانت أم أيمن تحدث تقول كنت أحضن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول يا بركة قلت لبيك قال أتدرين أين وجدت ابني قلت لا أدري قال وجدته مع غلمان قريبا من السدرة لا تغفلي عن ابني فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة وأنا لا آمن عليه منهم
وكان لا يأكل طعاما إلا قال علي بابني فيؤتي به إليه
وحدث كعب بن مالك عن شيوخ من قومه أنهم خرجوا عمارا وعبد المطلب يومئذ حي بمكة ومعهم رجل من يهود تيماء صحبهم للتجارة يريد مكة أو اليمن فنظر إلى عبد المطلب فقال إنا نجد في كتابنا الذي لم يبدل أنه يخرج من ضئضي هذا نبي يقتلنا وقومه قتل عاد
وجلس عبد المطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران وكان صديقا له وهو يحادثه وهو يقول إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسماعيل هذه مولده من صفته كذا وكذا
وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على هذا الحديث فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه فقال هو هذا فقال الأسقف ما هذا منك قال ابني
قال الأسقف لا ما نجد أباه حيا قال عبد المطلب هو ابن ابني مات أبوه وأمه حبلى به قال صدقت قال عبد المطلب تحفظوا بابن أخيكم ألا تسمعون ما يقال فيه

وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوما يلعب مع الغلمان حتى بلغ الردم فرآه قوم من بني مدلج فدعوه فنظروا إلى قدميه وإلى أثره ثم خرجوا في طلبه حتى صادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه فقالوا لعبد المطلب ما هذا منك قال ابني قالوا فاحتفظ به فإنا لم نر قدما قط أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه
فقال عبد المطلب لأبي طالب اسمع ما يقول هؤلاء فكان أبو طالب يحتفظ به
وقد روي أبو داود السجستاني من حديث ابن عباس قال أتى نفر من قريش امرأة كاهنة فقالوا أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام
قالت إن جررتم على السهلة عباءة ومشيتم عليها أنبأتكم بأقربكم شبها به
فجروا عليها عباءة ثم مشوا عليها فرأت أثر قدم لمحمد {صلى الله عليه وسلم} فقالت هذا والله أقربكم شبها به
قال ابن عباس فمكثوا بعد عشرين سنة ثم بعث محمد {صلى الله عليه وسلم}
ولما ظهر سيف بن ذي يزن على الحبشة وذلك بعد مولد النبي {صلى الله عليه وسلم} أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها يهنئونه ويمدحونه ويذكرون من حسن بلائه وطلبه بثأر قومه
فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فأذن لهم فلما دخلوا عليه دنا عبد المطلب منه فاستأذنه في الكلام فقال إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك
فقال عبد المطلب إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك منبتا طابت أرومته وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن
وأنت أيها الملك رأس العرب الذي به تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد سلفك لك خير سلف وأنت لنا فيه خير خلف فلم يخمل من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه نحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا بكشف الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة
فقال له سيف وأيهم أنت أيها المتكلم فقال أنا عبد المطلب بن هاشم قال ابن أختنا قال نعم قال أدنه فأدناه

ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال لهم مرحبا وأهلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم وأنتم أهل الليل والنهار فلكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم
ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف
ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فقال له إني مفوض إليك من
سني علمي أمرا لو يكون غيرك لم أبح له به ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه فليكن عندك مكنونا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره
إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اختزناه لأنفسنا واجتبيناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة
فقال له عبد المطلب مثلك أيها الملك سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر
فقال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة
فقال له عبد المطلب لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياي ما أزداد به سرورا
فقال له ابن ذي يزن هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه يضرب بهم الناس عن عرض ويستبيح بهم كرائم الأرض ويكسر الصلبان ويخمد النيران ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهي عن المنكر ويبطله
فقال له عبد المطلب عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك فهل الملك ساري بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح
فقال له ابن ذي يزن والبيت والحجب والعلامات والنصب إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب
فخر عبد المطلب ساجدا فقال له ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك هل أحسست بشيء مما ذكرت لك

فقال عبد المطلب كان لي ابن وكنت عليه رفيقا فزوجته كريمة كرائم قومه فجاء بغلام فسميته محمدا فمات أبوه وأمه وكفلته أنا
فقال له ابن ذي يزن إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم أعداؤه ولن يجعل الله عليه سبيلا واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لا آمن أن تدخلهم التعاسة من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم ولولا أني أعلم أن الموت مخترمي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهل النصرة له وموضع قبره ولولا أني أخاف عليه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه بذكره ولكني صارف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك
ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلس من البرود ومائة من الإبل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنبرا
وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك كله وقال له إذا حال الحول فائتني
فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول يا معشر قريش لا يغبطني أحدكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنه إلى نفاد ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه
فإذا قيل له فما ذاك قال ستعلمون نبأه ولو بعد حين
وحديث سيف بن ذي يزن هذا عن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد وقد تقدم ما ألقاه تبع الآخر إلى ملوك حمير وأبنائهم من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأن علم سيف بذلك إنما كان من تلك الجهات والله أعلم
ثم إن عبد المطلب بن هاشم هلك عن سن عالية مختلف في حقيقتها
أدناها فيما انتهى إلي ووقفت عليه خمس وتسعون سنة ذكره الزبير وأعلاها فيما ذكر الزبير أيضا عن نوفل بن عمارة قال كان عبيد بن الأبرص ترب عبد المطلب وبلغ مائة وعشرين سنة وبقي عبد المطلب بعده عشرين سنة

وقال محمد بن سعيد بن المسيب لما حضرت الوفاة عبد المطلب وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ستا صفية وبرة وعاتكة وأم حكيم البيضاء وأميمة وأروى فقال لهن ابكين علي حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت
فقالت كل واحدة منهن شعرا ترثيه به وأنشدته إياه فاشار برأسه وقد أصمت أن هكذا فابكينني
وذكر إبن اسحاق تلك الأشعار
وقال ابن هشام إنه لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها
قال ابن إسحاق وقال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب يبكي عبد المطلب بن هاشم ويذكر فضله وفضل قصي على قريش وفضل ولده من بعده عليهم
أعيني جودا بالدموع على الصدر
ولا تسأما أسقيتما سبل القطر
وجودا بدمع واشفحا كل شارق
بكاء امرئ لم يشوه نائب الدهر
وسحا وجما واسجما ما بقيتما
على ذي حياء من قريش وذي ستر
على رجل جلد القوى ذي حفيظة
جليل المحيا غير نكس ولا هذر
على المزد البهلول ذي البأس والندى
ربيع لؤي في القحوط وفي العسر
على خير حاف من معد وناعل
كريم المساعي طيب الخيم والنجر
على شيبة الحمد الذي كان وجهه
يضيء سواد الليل كالقمر البدر
وساقي الحجيج ثم للخير هاشم
وعبد مناف ذلك السيد الفهري
طوى زمزما عند المقام فأصبحت
سقايته فخرا على كل ذي فخر
ليبك عليه كل عان بكربة
وآل قصي من مقل وذي وفر
بنوه سراة كهلهم وشبابهم
تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر
قصي الذي عادى كنانة كلها
ورابط بيت الله في العسر واليسر
فإن تك غالته المنايا وصرفها
فقد عاش ميمون النقيبة والأمر
وأبقى رجالا سادة غير عزل
مصاليت أمثال الردينية السمر
أبو عتبة الملقي إلي حباءه
أغر هجان اللون من نفر غر
وحمزة مثل البدر يهتز للندى
نقي الثياب والذمام من الغدر
وعبد مناف ماجد ذو حفيظة
وصول لذي القربى رحيم بذي الصهر
كهولهم خير الكهول ونسلهم
كنسل الملوك لا تبور ولا تحري
متى ما تلاقي منهم الدهر منهم ناشئا
تجده بإجريا أوائله يجري
هم ملأوا البطحاء مجدا وسؤددا
إذا استبق الخيرات في سالف العصر

وهم حضروا والناس باد فريقهم
وليس بها إلا شيوخ بني عمرو
بنوها ديارا جمة وطووا بها
بئرا تسح الماء من ثبح بحر
لكي يشرب الحجاج منها وغيرهم
إذا ابتدروها صبح تابعة النحر
ثلاثة أيام تظل ركابهم
محبسة بين الأخاشب والحجر
وقدما غنينا قبل ذلك حقبة
ولا نستقي إلا بخم أو الحفر
هم يغفرون الذنب ينقم دونه
ويعفون عن قول السفاهة والهجر
أخارج إما أهلكن فلا تزل
لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
ولا تنس ما أسدى ابن لبنى فإنه
قد أسدي يدا محقوقة منك بالشكر
وأنت ابن لبنى من قصي إذا انتموا
بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر
وأمك سر من خزاعة جوهر
إذا حصل ألأنساب يوما ذوو الخبر
إلى سبأ الأبطال تنمي وتنتمي
وأكرم بها منسوبة في ذري الدهر
ابن لبني هذا أبو لهب عبد العزي بن عبد المطلب وهو أبو عتبة الذي ذكره قبل في هذا الشعر
وكانت أمه امرأة من خزاعة اسمها لبنى بنت هاجر ولذلك قال وأمك سر من خزاعة
ونماها إلى سبأ الأبطال بناء على ما قدمناه من انتماء خزاعة إلى عمرو بن عامر من غسان وانتفائهم من المضرية
واليد التي ذكر هذا الشاعر أنها ترتبت عليه لأبي لهب وذكر ابن إسحاق أنه كان أخذ بغرم أربعة ألف درهم بمكة فوقف بها فمر به أبو لهب فافتكه
ونسب الزبير هذا الشعر لحذافة بن غانم ودليله قوله فيه أخارج إما أهلكن البيت
فإن خارجه هو ابن حذافة وحذيفة الذي نسب ابن إسحاق إليه الشعر هو أخو حذافة ولا يعرف له ابن يسمى خارجة وانما هو والد أبي جهم بن حذيفة واسم أبي جهم عبيدوهو الذي بعث إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالخميصة ذات الأعلام التي ألهته عن صلاته وأمر أن يؤتي بأنبجانية
ولما هلك عبد المطلب ولي زمزم والسقاية عليها ابنه العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهي بيده فأقرها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما مضى من ولايته وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يجله إجلال الولد الوالد

يقول كريب مولى ابن عباس وما ينبغي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يجل إلا والدا أوعما فضيلة خص الله بها العباس دون من سواه
وقال {صلى الله عليه وسلم} احفظوني في عمي عباس فإن عم الرجل صنو أبيه
وطلع يوما على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال هذا العباس أجود قريش كفا وأوصلها
ولم يزل العباس سيدا في الجاهلية والإسلام يمنع الجار ويبذل المال ويعطي في النوائب
قال الزبير وكان يقال كان للعباس بن عبد المطلب ثوب لعارى بني هاشم وجفنة لجائعهم ومقطرة لجاهلهم والمقطرة خشبة ذات سلسلة يحبس فيها الناس
وفي ذلك يقول إبراهيم بن علي بن هرمة
وكانت لعباس ثلاث نعدها
إذا ما جناب الحي أصبح أشهبا
فسلسلة تنهي الظلوم وجفنة
تناخ فيكسوها السنام المرغبا
وحلمة عصب ما تزال معدة
لعار ضريك ثوبه قد تهدبا
وقال ابن شهاب لقد جاء الله بالإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بني هاشم وإن قيده وسوطه لمعد لسفهائهم
قال فكان ابن عمر يقول هذا والله الشرف يطعم الجائع ويؤدب السفيه
وكان أبو بكر وعمر في ولايتهما لا يلقي العباس واحد منهما وهو راكب إلا نزل عن دابته وقادها ومشى مع العباس حتى يبلغ منزله أو مجلسه فيفارقه
وبقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد مهلك جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب
وكان عبد المطلب يوصيه به فيما يزعمون
وذلك أن عبد الله أبا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبا طالب أخوان لأب وأم فكان أبو طالب هو الذي يلي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد جده فكان إليه ومعه
وذكر الواقدي أن أبا طالب كان مقلا من المال وكانت له قطعة من الإبل تكون بعرنة فيبدو إليها فيكون فيها ويؤتي بلبنها إذا كان حاضرا بمكة
فكان عيال أبي طالب إذا أكلوا جميعا وفرادى لم يشبعوا وإذا أكل معهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شبعوا
فكان أبو طالب إذا أراد أن يعشيهم أو يغديهم يقول كما أنتم حتى يأتي ابني

فيأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم وإن كان لبنا شرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولهم ثم يناول العيال القعب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم من القعب الواحد وإن كان أحدهم ليشرب قعبا
فيقول أبو طالب إنك لمبارك
وكان الصبيان يصبحون شعثا رمضا ويصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دهينا كحيلا
وقالت أم أيمن وكانت تحضنه ما رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شكا جوعا قط ولا عطشا وكان يغدوا إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغذاء فيقول لا أريده أنا شبعان
قال ابن إسحاق ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام فلما تهيأ للرحيل صب به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يزعمون فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا أو كما قال
فخرج به معه فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيري في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابر عن كابر
فلما نزلوا ذلك العام ببحيري وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى استظل تحتها فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم
فقال له رجل منهم والله يا بحيري إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم
قال له بحيري صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم

فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم فلما نظر بحيري في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي
قالوا يا بحيري ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم فقال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم فقال رجل من قريش واللات والعزى إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم
فلما رآه بحيري جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته
حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيري فقال يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيري ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيري فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه قال له سلني عما بدا لك
فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيوافق ذلك ما عند بحيري من صفته وأموره ويخبره ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك قال ابني قال ماهو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به
قال صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام
فزعموا أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مثل ما رأى بحيري في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم

عنه بحيري وذكرهم الله و ما يجدون في الكتاب من ذكره وصفاته وأنهم إن أجمعوا إلى ما أرادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه
فشب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته
حتى بلغ أن رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما
حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة
وكان {صلى الله عليه وسلم} يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال شد عليك إزارك
قال فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي
وذكر البخاري عنه {صلى الله عليه وسلم} أنه قال ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين
وروى غيره أن إحدى المرتين كان في غنم يرعاها هو وغلام من قريش فقال لصاحبه اكفني أمر الغنم حتى آتي مكة وكان بها عرس فيها لهو فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقي عليه النوم فنام حتى ضربته الشمس عصمة من الله له
والمرة الأخرى مثل الأولى سواء
وذكر الواقدي عن أم أيمن قالت كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة فكان أبو طالب يحضره مع قومه ويكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يحضر ذلك العيد معهم فيأبى ذلك


قالت حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوبا فزعا فقلن له ما دهاك قال إني أخشى أن يكون بي لمم فقلن ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت قال إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي وراءك يا محمد لا تمسه
قالت فما عاد إلى عيد لهم حتى نبيء {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله
وما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد فيما ذكره غير واحد من أهل العلم
وذكر الواقدي بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية وقد رويناه أيضا من طريق أبي علي ابن السكن وحديث أحدهما داخل في حديث الآخر مع تقارب اللفظ وربما زاد أحدهما الشيء اليسير وكلاهما ينمى إلى نفيسه قالت لما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين لما تكاملت فيه من خصال الخير قال أبو طالب يا بن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليست لنا مادة ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع
فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود ولكن لا تجد من ذلك بدا
وكانت خديحة امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام فتكون عيرها كعامة عير قريش وكانت تستأجر الرجال وتدفع اليهم المال مضاربة
وكانت قريش قوما تجارا ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلعلها ترسل إلي في ذلك


فقال أبو طالب إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرا مدبرا فافترقا وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له وقبل ذلك ما قد بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكريم أخلاقه فقالت ما علمت أنه يريد هذا
ثم أرسلت إليه فقالت إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك
ففعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولقى أبا طالب فذكر له ذلك فقال إن هذا لرزق ساقه الله إليك
فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم الشام فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له نسطورا فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه فقال يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة فقال ميسرة رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي ثم قال له في عينيه حمرة قال ميسرة نعم لا تفارقه
فقال الراهب هو هو وهو آخر الأنبياء ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج فوعى ذلك ميسرة
ثم حضر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة فقال الرجل احلف باللات والعزى فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما حلفت بهما قط فقال الرجل القول قولك
ثم قال لميسرة وخلا به يا ميسرة هذا نبي والذي نفسي بيده إنه لهو تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم
فوعى ذلك ميسرة
ثم انصرف أهل العير جميعا
وكان ميسرة يرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكان يظلانه من الشمس وهو على بعيره
قال وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المحبة من ميسرة
فكان كأنه عبد لرسول الله فلما فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها معها نساء فيهن نفيسة بنت منية فرأت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه فأرته نساءها فعجبن لذلك


ودخل عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخبرها بما ربحوا فسرت بذلك فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت فقال لها ميسرة قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام وأخبرها بقول الراهب نسطورا وقول الآخر الذي خالفه في البيع
قالوا وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح وأضعفت له ما سمت له
فلما استقر عندها هذا وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو يقدر عليه عرضت عليه نفسها
فقالت له فيما يزعمون يا بن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وصيتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك
فلما قالت له ذلك ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها
هكذا ذكر ابن إسحاق وذكر الواقدي وغيره من حديث نفيسة أن خديجة أرسلت إليه دسيسا فدعته إلى تزوجها
فلما أجاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد فحضر ودخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في عمومته فزوجه أحدهم
وقال عمرو هذا الفحل لا يقدع أنفه
قال ابن هشام وأصدقها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عشرين بكرة
وكانت أول إمرأة تزوجها ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت
قال ابن إسحاق فولدت خديجة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولده كلهم إلا إبراهيم القاسم وبه كان يكنى والطاهر والطيب وزينب ورقية وأم
كلثوم وفاطمة
فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا في الجاهلية
وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه
هذا قول ابن إسحاق في ذكور البنين أنهم هلكوا في الجاهلية
وقال الزبير بن بكار وهو من أئمة هذا الشأن ولدت له القاسم وعبد الله وهو الطاهر والطيب ولد بعد النبوة ومات صغيرا
وفي مسند الفريابي ما يدل على أنه مات قبل أن يتم رضاعه وبعد النبوة


وذلك أن خديجة دخل عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد موت القاسم وهي تبكي عليه فقالت يا رسول الله لو كان عاش حتى تكمل رضاعته لهون علي فقال إن له مرضعا في الجنة تستكمل رضاعته فقالت لو أعلم ذلك لهون علي فقال إن شئت أسمعتك صوته في الجنة فقالت بل أصدق الله ورسوله
قال ابن هشام وأما إبراهيم فأمه مارية سرية النبي {صلى الله عليه وسلم} التي أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصناء وهي قبطية من قبط مصر وهذا هو الصهر الذي ذكره لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في قوله الله الله في أهل الذمة أهل المدرة السوداء السحم الجعاد فإن لهم نسبا وصهرا
قال مولى غفرة نسبهم أن أم إسماعيل النبي عليه السلام منهم وصهرهم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تسرر فيهم
وفي حديث آخر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إذا إفتتحتم معر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما
قال ابن إسحاق وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن
أسد بن عبد العزى وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه
فقال ورقة لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه أو كما قال
فجعل ورقة يستبطى ء الأمر و يقول حتى متى وقال في ذلك
لججت وكنت في الذكرى لجوجا
لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي
حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود يوما
ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور
يقيم به البرية أن تموجا
فيلقي من يحاربه خسارا
ويلقي من يسالمه فلوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم
شهدت فكنت أولهم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش
ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجي بالذي كرهوا جميعا
إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
وهل أمر السفاهة غير كفر
بمن يختار من سمك البروجا
فإن يبقوا وأبق تكن أمور


يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى
من الأقدار متلفة حروجا
الوافر وقال ورقة بن نوفل أيضا في ذلك وهو مما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق
أتبكر أم أنت العشية رائح
وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم
كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد
يخبرها عنه إذا غاب ناصح )
فتاك الذي وجهت يا خير حرة بغدو وبالنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت وهن من الأحمال قعص دوالح
فخبرنا عن كل حبر بعلمه وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي بن غالب شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي عن أرضك في الأرض العريضة سائح
الطويل

ذكر بنيان قريش الكعبة مع ذكر ما أحدثوه في المناسكولما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة
قال موسى بن عقبة وإنما حمل قريشا على ذلك أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوا فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة
فأرادوا أن يشدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لايدخلها إلا من شاءوا وأعدوا لذلك نفقة وعمالا ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر من أن يمنعهم الله الذي أرادوا
قال ابن إسحاق وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة
قال وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة قال إبن هشام فقطعت قريش يده
وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك


قال وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها فتتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا ما يدخلها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينا هي يوما تتشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها
فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا تدخلوا فيها معر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس
والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب رهو الحطيم
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع ويقال لم نزغ اللهم إنا لا نريد إلا الخير
ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء هدمنا فقد رضي الله ما صنعنا
فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا
انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا


وقال ابن إسحاق فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس
قال وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها في الماء واللبن
وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل لا يحلها أول من أهلها
وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي {صلى الله عليه وسلم} بأربعين سنة إن كان ما يذكر حقا مكتوبا فيه من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب
قال ابن إسحاق ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنيانها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تجاوزوا وتحالفوا وأعدو للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنوا عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلها قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم ففعلوا
فكان أول داخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمد


فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال {صلى الله عليه وسلم} هلم إلي ثوبا فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده {صلى الله عليه وسلم} ثم بني عليه
وكانت الكعبة على عهد النبي {صلى الله عليه وسلم} ثماني عشرة ذراعا كانت تكسي القباطي ثم كسيت البرود
وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف هذا قول ابن إسحاق
وقال الزبير أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير
وذكر جماعة سواهما منهم الدار قطني أن نتلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت قد أضلت العباس يومئذ وهو صغير فنذرت إن هي وجدته أن تكسو الكعبة الديباج ففعلت ذلك حين وجدته
وذكر الزبير أن الذي أضلته نتلة بنت جناب إنما هو ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس ونذرت أن تكسو البيت إن وجدته فكسته حين وجدته ثيابا بيضا فالله تعالى أعلم
قال ابن إسحاق وكانت قريش لا أدري أقبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأيا رأوه وأداروه
فقالوا نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقاطن مكة وساكنها فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا فلا تعظمون شيئا من الحل كما تعظمون الحرم فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم
فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وان يفيضوا منها إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم وليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس والحمس أهل الحرم
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم
وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك


ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم حتى قالوا لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط ولا يسألوا السمن وهم حرم ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما
ثم رفعوا في ذلك فقالوا لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب أحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها ولم
يمسها هو ولا أحد غيره أبدا فكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقي
فحملوا على ذلك العرب فدانت به فوقفوا على عرفات وأفاضوا منها وطافوا بالبيت عراة أما الرجال فيطوفون عراة وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا ثوبا مفرجا عليها ثم تطوف فيه
فكانوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه وشرع له سنن حجة ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الآية البقرة 199 يعني قريشا والناس والعرب فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها
وأنزل عليهم فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت حين طافوا عند البيت عراة وحرموا ما جاءوا به من الحل من الطعام يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية كلها ( التوبة 374 )
فوضع الله أمر الحمس وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بالإسلام حيث بعث الله به رسوله
ولم يكن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالموافق قومه على تغيير مشاعر الحج والعدول عن مواقف الناس قال جبير بن مطعم لقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه لواقف على بعيره بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من الله له


وقد تقدم ما أحدثوه في النسيء وما أبطل الله من حكمه بقوله سبحانه إنما النسيء زيادة في الكفر ( الأعراف 31 - 32 )
فأغني ذلك عن إعادته
ذكر ما حفظ عن الأخبار والرهبان
والكهان من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل مبعثه سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شيء مما سمع من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف
قال ابن إسحاق وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل مبعثه لما تقارب من زمانه
أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين فيما تسترق من السمع إذ كانت لا تحجب عن ذلك وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه الله ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها
فلما تقارب أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها لاستراقه فرموا بالنجوم فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله في العباد
يقول الله لنبيه {صلى الله عليه وسلم} حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا
يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبه ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشبها وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) ( الجن 1 - 10 )


فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه لوقوع الحجة وقطع الشبهة فآمنوا به وصدقوا ثم ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ( الأحقاف 29 - 30 )
وقول الجن وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن الآية هو أن الرجل من العرب من قريش وغيرهم كان إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه قال إني أعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة من شر ما فيه
وذكر أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها ثقيف وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا فقالوا له يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم
قال بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها
وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لنفر من الأنصار ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به
قالوا يا نبي الله كنا نقول حين رأيناها يرمى بها مات ملك ملك ملك ولد مولود مات مولود


فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليس ذلك كذلك ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا فسبح من تحتهم لتسبيحهم فسبح من تحت ذلك فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض مم سبحتم فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم فيقولون ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش فيقال لهم مم سبحتم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا للأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثوا به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف ثم يأتون به الكهان فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا
ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة
وذكر أبو جعفر العقيلي بإسناد له إلى لهيب بن مالك اللهبي قل حضرت عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذكرت عنده الكهانة فقلت بأبي أنت وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها
فقال ائتوني بسحر أخبركم الخبر ألخير أم ضرر ولأمن أو حذر
قال فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه يا خطر يا خطر فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا
فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه خامره عقابه عاجله عذابه أحرقه شهابه زايلة جوابه يا ويحه ما حاله بلبله بلباله عاوده خباله تقطعت حباله وغيرت أحواله


ثم أمسك طويلا وقال يا معشر بني قحطان أخبركم بالحق والبيان أقسمت بالكعبة والأركان والبلد المؤتمن السدان لقد منع السمع عتاة الجان بثاقب بكف ذي سلطان من أجل مبعوث عظيم الشأن يبعث بالتنزيل والقرآن وبالهدى وفاصل الفرقان تبطل به عبادة الأوثان
قال فقلنا يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك
فقال
أرى لقومي ما أرى لنفسي
أن يتبعوا خير بني الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس
يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
الرجز
فقلنا له يا خطر وممن هو
فقال والحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حلمه طيش ولا في خلقه هيش يكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل أيش فقلنا بين لنا من أي قريش هو
فقال والبيت ذي الدعائم إنه لمن نجل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم وقتل كل ظالم
ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان
ثم قال الله أكبر جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر
ثم سكت وأغمى عليه فما أفاق إلا بعد ثالثة فقال لا إله إلا الله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده
قال ابن إسحاق وحدثني بعض أهل العم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي فانقض تحتها ثم قال بدر ما بدر يوم عقر ونحر
فقالت قريش حين بلغها ذلك ما يريد
ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها ثم قال شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب لجنوب
فلما بلغ ذلك قريشا قالوا ماذا يريد إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو
فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته
قال وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانتشر في العرب قالت له جنب انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا له في أسفل جبله


فنزل عليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم جعل ينزو ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا
واصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل ثم أسند في جبله راجعا من حيث جاء
وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس في الناس في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذ أقبل رجل من العرب يريد عمر فلما نظر إليه عمر قال إن الرجل لعلى شركه ما فارقه أو لقد كان كاهنا في الجاهلية
فسلم عليه الرجل ثم جلس فقال له عمر هل أسلمت قال نعم يا أمير المؤمنين قال فهل كنت كاهنا في الجاهلية فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت
فقال عمر اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام
قال نعم والله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية
قال فأخبرني ما جاء به صاحبك
قال جاءني قبيل الإسلام بشهر أو شيعه فقال ألم تر إلى الجن وإبلاسها وإياسها من دينها و لحوقها بالقلاص وأحلاسها
قال ابن هشام هذا الكلام سجع وليس بشعر وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر
عجبت للجن وإبلاسها
وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمن الجن كأنجاسها
السريع
فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك يحدث الناس والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش قد ذبح لهم رجل من العرب عجلا فنحن
ننتظر قسمه ليقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت قط أنفذ منه وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه يقول يا ذريح أمر نجيح رجل يصيح يقول لا إله إلا الله
قال ابن هشام ويقال رجل يصيح بلسان فصيح يقول لا إله إلا الله
وهذا الرجل الذي ظن به عمر رضي الله عنه ما ظن هو سواد بن قارب الدوسي وكان يتكهن في الجاهلية


وقد ذكر خبره غير ابن إسحاق فساقه سياقة أحسن من هذه وأتم وذكر فيه أنه كان نائما على جبل من جبال السراة ليلة من الليالي فأتاه آت فضربه برجله وقال
قم يا سواد بن قارب أتاك رسول من لؤي بن غالب
قال فرفعت رأسي وجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وتطلابها
وشدها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
ليس قداماها كأذنابها
السريع
وأتاه في الليلة الثانية فضربه برجله وقال قم يا سواد بن قارب أتاك رسول من لؤي بن غالب قال فرفعت رأسي وجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وأخبارها
ورحلها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمنوها مثل كفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
ليس قداماها كأدبارها
السريع
وأتاه في الليلة الثالثة بعدما نام فضربه برجله وقال قم يا سواد بن قارب أتاك رسول الله من لؤي بن غالب قال فرفعت رأسي فجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وإبلاسها
ورحلها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
وارم بعينيك إلى رأسها
السريع
قال فلما أصبحت اقتعدت بعيري فأتيت مكة فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد ظهر فأخبرته الخبر وبايعته
وفي بعض طرق حديثه أنه أنشد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شعرا منه في معنى ما جاءه به رئيه
أتاني رئيي بعد هدء وهجعة
ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة
أتاك رسول من لؤي بن غالب
فرفعت أذيال الإزار وشمرت
بي العرمس الوجنا هجول السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدني المرسلين وسيلة
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا
وإن كان فيما جئت شيب الذوائب
وكن لي شفيعا حين لا ذو قرابة
بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
الطويل


ولسواد بن قارب هذا مقام حميد في قومه دوس حين بلغهم وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يثبتهم في الدين ويحضهم على التمسك بالإسلام سنذكره إن شاء الله مع نظائره بعد استيفاء الخبر عن وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وذكر الواقدي بإسناد له قال كان أبو هريرة يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم فيقال لأبي هريرة هل كنت أنت تفعل ذلك فيقول قد والله فعلت فأكثرت فالحمد لله الذي تنقذني بمحمد {صلى الله عليه وسلم}
قال أبو هريرة فبينا الخثعميون عند صنمهم إذ سمعوا هاتفا يهتف
يا أيها الناس ذوو الأجسام
ومسندو الحكم إلى الأصنام
أكلكم أوره كالكهام
ألا ترون ما أرى أمامي
من ساطع يجلو دجي الظلام
ذاك نبي سيد الأنام
من هاشم في ذروة السنام
مستعلن بالبلد الحرام
جاء بهدم الكفر بالإسلام
أكرمه الرحمن من إمام
السريع
قال أبو هريرة فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا فلم تمض بهم ثالثة حتى فجأهم خبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قد ظهر بمكة قال فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند صنمهم
وذكر الواقدي أيضا أن رجلا من الأنصار حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال انطلقت أنا وصاحبان لي نريد الشام حتى إذا كنا بقفرة من الأرض نزلنا بها فبينا نحن كذلك لحقنا راكب فكنا أربعة وقد أصابنا سغب شديد والتفت فإذا أنا بظبية عضباء ترتع قريبا مني فوثبت إليها فقال الرجل الذي لحقنا خل سبيلها لا أبا لك والله لقد رأيتنا ونحن نسلك هذا الطريق ونحن عشرة أو أكثر فيختطف بعضنا بعضا فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فما يهاج بها أحد
فأبيت وقلت لا لعمر الله لا أخليها فارتحلنا وقد شددتها معي حتى إذا ذهب سدف من الليل إذا هاتف يهتف بنا ويقول
يا أيها الركب السراع الأربعة
خلوا سبيل النافر المفزعة
خلوا عن العضباء في الوادي سعه
لا تذبحن الظبية المروعه
فيها لأيتام صغار منفعه
الرجز


قال فخليت سبيلها ثم انطلقنا حتى أتينا الشام فقضينا حوائجنا ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الذي كنا فيه هتف بنا هاتف من خلفنا
إياك لا تعجل وخذها من ثقه
فإن شر السير سير الحقحقه
قد لاح نجم فأضاء مشرقه
يخرج من ظلما عسوف موبقه
ذاك رسول مفلح من صدقة
الله أعلى أمره وحققه
الرجز
قال الرجل فأتيت مكة فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يدعو إلى الإسلام
فقال عمر الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد {صلى الله عليه وسلم}
وروينا عن أبي المنذر هشام بن محمد الكلبي بإسناد متصل إليه قال لقيت شيوخا من شيوخ طييء المقدمين فسألتهم عن قصة مازن يعني مازن بن الغضوبة الطائي وسبب إسلامه ووفوده على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وإقطاعه أرض عمان وذلك بمن الله وفضله
وكان مازن بأرض عمان بقرية تدعى سنابل قال مازن فعترت ذات يوم عتيرة وهي الذبيحة فسمعت صوتا من الصنم يقول يا مازن أقبل أقبل فاسمع ما لا تجهل هذا نبي مرسل جاء بحق منزل فآمن به كي تعزل عن حر نار تشعل وقودها بالجندل
قال مازن فقلت إن هذا والله لعجب ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا أبين من الأول وهو يقول يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر بعث نبي من مضر بدين الله الأكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر
قال مازن فقلت إن هذا والله لعجب وإنه لخير يراد بي وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا ما الخبر وراءك قال خرج بتهامة رجل يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله يقال له أحمد
فقلت هذا والله نبأ ما سمعت
فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وشددت راحلتي ورحلت حتى أتيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فشرح لي الإسلام فأسلمت فأنشأت أقول
كسرت يا جر أجذاذا وكان لنا
ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا
ولم يكن دينه منا على بال
يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها
أني لمن قال ربي ياجر قالي
البسيط


وقلت يا رسول الله إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك إلى النساء وألحت علي السنون فأذهبن الأموال واهزلن الذراري والرجال وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحياء ويهب لي ولدا
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال واتهم بالحياء وهب له ولدا
قال مازن فأذهب الله عني كل ما أجد وأخصبت عمان وتزوجت أربع حرائر ووهب الله لي حيان بن مازن وأنشأت أقول
إليك رسول الله سقت مطيتي
تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطيء الحصي
فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم
فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرءا بالزعب والخمر مولعا
شبابي حتى أذن الجسم بالنهج
فأصبحت همي في جهاد ونيتي
فلله ما صومى ولله ما حجي
الطويل
ومما يلحق بهذا الباب من حسان أخبار الكهان وإن كان بعد المبعث بزمان ولكنه يجتمع مع الأحاديث السابقة في الدلالة على صدق الرسول والإعلام بالغيب المجهول والإرشاد إلى سواء السبيل ما ذكره أبو علي إسماعيل بن القاسم في أماليه بإسناد له إلى ابن الكلبي عن أبيه قال
كان خنافر بن التوأم الحميري كاهنا وكان قد أوتى بسطة في الجسم وسعة في المال وكان عاتيا فلما وفدت وفود اليمن على النبي {صلى الله عليه وسلم} وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر فحالف جودان بن يحيى الفرضمي وكان سيدا منيعا ونزل بواد من أودية الشحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين


قال خنافر وكان رئيي في الجاهلية لا يغيب عني فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة وساءني ذلك فبينا أنا ليلة في ذلك الوادي نائما إذ هوي هوي العقاب فقال خنافر قلت شصار فقال اسمع أقل قلت أسمع فقال عه تغنم لكل مدة نهاية وكل ذي أمد إلى غاية قلت أجل فقال كل دولة إلى أجل ثم يتاح لها حول انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها الملل إنك سجير موصول والنصح لك مبذول إني آنست بأرض الشام نفرا من أهل العزام حكاما على الحكام يذكرون ذا رونق من الكلام ليس بالشعر المؤلف ولا بالسجع المتكلف فأصغيت فزجرت فعاودت فظلفت فقلت بم تهينمون وإلام تعتزون فقالوا خطاب كبار جاء من عند الملك الجبار فاسمع يا شصار عن أصدق الأخبار واسلك أوضح الآثار تنج من أوار النار
قلت وما هذا الكلام قالوا فرقان بين الكفر والإيمان رسول من مضر ابتعث فظهر فجاء بقول قد بهر وأوضح نهجا قد دثر فيه مواعظ لمن اعتبر ومعاذ لمن ازدجر ألف بالآي الكبر
فقلت ومن هذا المبعوث من مضر قالوا أحمد خير البشر فإن آمنت أعطيت الشبر وإن خالفت أصليت سقر
فآمنت يا خنافر وأقبلت إليك أبادر فجانب كل نجس كافر وشايع كل مؤمن طاهر وإلا فهو الفراق عن لا تلاق
قلت من أين أبغي هذا الدين
قال من ذات الإحرين والنفر الميامين أهل الماء والطين
قلت أوضح قال الحق بيثرب ذات النخل والحرة ذات النعل فهنالك أهل الفضل والطول والمواساة والبذل
ثم املس عني فبت مذعورا أراعي الصباح فلما برق لي النور امتطيت راحلتي وآذنت أعبدي واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقايها وأقبلت أريد صنعاء فأصبت فيها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبايعته على الإسلام وعلمني من القرآن فمن الله علي بالهدى بعد الضلالة والعلم بعد الجهالة وقلت في ذلك
ألم تر أن الله عاد بفضله
فأنقد من لفح الزخيخ خنافرا
وكشف لي عن حجمتي عماهما
وأوضح لي نهجي وقد كان داثرا
دعاني شصار للتي لو رفضتها


لأصليت جمرا من لظى الهوب واهرا
فأصبحت والإسلام حشو جوانحي
وجانبت من أمسى عن الحق نائرا
وكان مضلي من هديت برشده
فلله مغو عاد بالرشد آمرا
نجوت بحمد الله من كل قحمة
تؤرث هلكا يوم شايعت شاصرا
فقد أمنتني بعد ذاك يحابر
بما كنت أغشى المنديات يحابرا
فمن مبلغ فتيان قومي ألوكة
بأني من أقتال من كان كافرا
عليكم سواء القصد لا فل حذكم
فقد أصبح الإسلام للكفر قاهرا
الطويل
وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم حدثه أنه كان لمرداس أبي عباس بن مرداس السلمي وثن يعبده وهو حجر يقال له ضمار فلما حضر مرداسا
الموت قال لعباس أي بني اعبد ضمار فإنه ينفعك ويضرك فبينما العباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول
قل للقبائل من سليم كلها
أودى ضمار وعاش أهل المسجد
إن الذي ورث النبوة والهدى
بعد ابن مريم من قريش مهتدي
أودى ضمار وكان يعبد مرة
قبل الكتاب إلى النبي محمد
الكامل
فحرق العباس ضمار ولحق بالنبي {صلى الله عليه وسلم} فأسلم
والأخبار في هذا الباب مما نقل من ذلك عن الكهان أو سمع عند الأصنام أو هتفت به هواتف الجان كثيرة جدا وقد أتينا منها بما استحسناه مما ذكره ابن إسحاق أو ذكره سواه
قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله لنا وهداه لما كنا نسمع من أحبار يهود
كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم
فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم
فلما بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به فبادرنا إليه فآمنا به وكفروا به
ففينا وفيهم نزلت هذه الآية من البقرة ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( البقرة 89 )


قال وحدثني صالح بن إبراهيم عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن
وقش وكان من أصحاب بدر قال كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت
فقالوا له ويحك يا فلان أوتري هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم
قال نعم والذي يحلف به ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا
فقالوا له ويحك يا فلان وما آية ذلك
قال نبي مبعوث من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة واليمن
قالوا ومتى نراه
قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا فقال إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه
قال سلمة فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا
فقلنا له ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت
قال بلى ولكن ليس به
قال وحدثني عاصم بن عمر عن شيخ من بني قريظة قال قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد نفر من هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام قال قلت لا
قال فإن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل
الإسلام بيسير فحل بين أظهرنا لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه
فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة فنقول له كم فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير
فنخرجهما ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقي لنا فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى


قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال يا معشر يهود ما ترون أنه أخرجني من أرض الخمر والحمير إلى أرض البؤس والجوع
قلنا أنت أعلم
قال فإنما قدمت هذه البلدة أتو كف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه
فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية وكنا شبابا أحداثا يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم
قال ابن إسحاق فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود
قال وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن محمود عن ابن عباس قال حدثني سلمان الفارسي من فيه قال
كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان قريته وكنت أحب خلق الله إليه لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها ولا يتركها تخبو ساعة
وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها وأمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري
فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته
فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام


فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت قلت يا أبت مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت في دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس
قال أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه
فقلت له كلا والله إنه لخير من ديننا
قال فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته
وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم
قال فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام
فلما قدمتها قلت من أفضل أهل هذا الدين علما قالوا الأسقف في الكنيسة فجئته فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك وأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلى معك قال ادخل
فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق
فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع
ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا
فقالوا لي وما علمك بذلك فقلت أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه أبدا
فصلبوه ورجموه بالحجارة
وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله فأقمت معه زمانا ثم حضرته
الوفاة فقلت له يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني


فقال أي بني والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه
فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره فقال لي أقم عندي
فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه
فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني فقال يا بني والله ما أعلم رجلا على ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي فقال أقم عندي
فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فو الله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وبم تأمرني
قال يا بني والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عموريه فأخبرته خبري فقال أقم عندي
فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع
فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وبم تأمرني
قال أي بني والله ما أعلمه أصبح علي مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل
ثم مات وغيب


فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه فقالوا نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا فكنت عنده فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي
فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي فأقمت بها
وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له به بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق
ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي
فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ماذا تقول فغضب سيدي فلكمني لكمة
شديدة ثم قال مالك ولهذا أقبل على عملك فقلت لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال
وقد كان عندي شيء جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأصحابه كلوا وأمسك يده فلم يأكل
فقلت في نفسي هذه واحدة
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا وتحول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة ثم جئته به فقلت إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منها وأمر أصحابه فأكلوا معه
فقلت في نفسي هاتان ثنتان


ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه علي شملتان لي وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رآني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أستدير به عرف أني أستثبت في شيء وصف لي فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تحول فتحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس
فأعجب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يسمع ذلك أصحابه ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بدر وأحد
قال سلمان ثم قال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كاتب يا سليمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية
والرجل بعشرين ودية والرجل بخمس عشرة والرجل بعشر يعين الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت إلي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي
ففقرت وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته فخرج معي إليها فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيده حتى فرغت فو الذي نفس سليمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة
فأديت النخل وبقي علي المال فأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال ما فعل الفارسي المكاتب فدعيت له فقال خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي قال خذها فإن الله سيؤدي بها عنك فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم فشهدت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخندق حرا ثم لم يفتني معه مشهد
وعن سلمان أنه قال لما قلت واين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله أخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلبها على لسانه ثم قال خذها فأوفهم منها فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية


وعنه أيضا أنه قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أخبره خبره أن صاحب عمورية قال له أيت كذا وكذا من أرض الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فسله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه
قال سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصف لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى
الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي وغلبوني عليه فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه فتناولته فقال من هذا والتفت إلي فقلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم قال إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فائته فهو يحملك عليه ثم دخل فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى ابن مريم
ومن حديث غير ابن إسحاق عن أبي سفيان بن حرب قال خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت وآخر سقط اسمه من كتابي تجارا إلى الشام قال أبو سفيان فكلما نزلنا منزلا أخرج أمية سفرا يقرأه علينا فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى فرأوه وعرفوه وأهدوا له فذهب معهم إلى بيعتهم ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما ثم قال يا أبا سفيان هل لك في عالم من علماء النصارى إليه تناهي علم الكتب تسله عما بدا لك قال قلت لا أرب لي فيه والله لئن حدثني ما أحب لا أثق به ولئن حدثني ما أكره لأوجلن منه


قال وذهب يخالفه شيخ من النصارى فدخل علينا فقال يعني له وللأخر الذي كان معه ما منعكما أن تذهبا إلى هذا الشيخ قلنا لسنا على دينه قال وإن فإنكما تسمعان عجبا وتريانه قال قلنا لا أرب لنا في ذلك قال أثقفيان أنتما قلنا لا ولكن من قريش قال فما منعكما من الشيخ فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم وخرج من عندنا ومكث أمية عنا حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فوالله ما قام ولا نام حتى أصبح قال فاصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه ما يكلمنا ثم قال ألا ترحلان قلنا وهل بك من رحيل قال نعم فارحلا
فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين من همه وبثه ثم قال ليلة ألا تحدث يا أبا
سفيان قلت وهل بك من حديث فوالله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك قال أما إن ذلك شيء لست فيه إنما ذلك شيء وجلت به من منقلبي قلت وهل لك من منقلب قال إي والله لأموتن ولأحاسبن قلت فهل أنت قابل أماني قال وعلى ماذا قلت على أنك لا تبعث ولا تحاسب فضحك ثم قال بلى والله يا أبا سفيان لنبعثن ولنحاسبن وليدخلن فريق في الجنة وفريق في النار قلت في أيتهما أنت أخبرك صاحبك قال لا علم لصاحبي بذلك ولا في نفسه
فكنا في ذلك ليلتنا يعجب منا ونضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق وإياها كنا نريد فبعنا متاعنا وأقمنا بذلك شهرين ثم ارتحلنا حتى نزلنا بتلك القرية من قرى النصارى فلما رأوه جاءوه فأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم حتى جاءنا مع نصف النهار فلبس ثوبيه الأسودين فذهب ولم يدعنا إليه كما دعانا أول مرة ثم جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم رمى بنفسه على فراشه فوالله ما نام ولا قام فأصبح مبثوثا حزينا لا يكلمنا ولا نكلمه ثم قال لي ألا ترحلان قلت بلى إن شئت قال فارحلا


فرحلنا فسرنا كذلك من بثه وحزنه ليالي ثم قال لي ليلة يا أبا سفيان هل لك في المسير وتخلف هذا الغلام يستأنس بأصحابنا ويستأنسون به قلت له ما شئت قال فسر فسرنا حتى برزنا قال هي يا صخر قلت مالك قال هي عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم قلت إي والله قال ويصل الرحم ويأمر بصلتها قلت نعم ويصل الرحم ويأمر بصلتها قال وكريم الطرفين واسط في العشيرة قلت كريم الطرفين واسط في العشيرة قال فهل تعلم قرشيا أشرف منه قلت لا والله ما أعلم قال ومحوج هو قلت لابل ذو مال قال فكم أتي له قلت هو ابن سبعين نظر إليها قد قاربها هو لها هو ابنها قال فالسن والشرف أزريا به قلت وما لهما أزريا به لا والله بل هما زاداه خيرا قال هو ذاك هل لك في المبيت قلت هل لك فيه حاجة قال فاضطجعنا حتى مر الثقل فسرنا حتى نزلنا فكنا في المنزل وبتنا
ثم رحلنا فلما كان الليل قال يا أبا سفيان قلت لبيك قال هل لك في البارحة قلت هل لي قال فسرنا على ناقتين ناجيتين حتى إذا برزنا قال يا صخر إيه عن عتبة قلت إيه عنه قال أيجتنب المحارم والمظالم ويأمر بصلة الرحم ويصلها قلت ويفعل قال ومحوج قلت ومحوج
قال هل تعلم قرشيا أسود منه قلت والله ما أعلمه قال اوكم أتى له قلت سبعون هو لها هو ابنها قد واقعها قال فإن السن والشرف أزريا به قلت لا والله ما أزريا به ولكنهما زاداه وأنت قائل شيئا فقله قال والله لا تذكر حديثي حتى يأتي ما هو آت قلت والله لا أذكره قال الذي رأيت أصابني فإني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء قلت أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر قال هو رجل من العرب قلت قد علمت فمن أي العرب قال هو من أهل بيت تحجه العرب قلت فينا بيت تحجه العرب قال لا هم إخوتكم وجيرانكم من قريش قال فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن أكون أنا هو


قلت فإذا كان ما كان فصفه لي قال بلى هو شاب حين دخل في الكهولة بدء أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم ويصل الرحم ويأمر بصلتها وهو محوج ليس ينازع شرفا كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر جنده من الملائكة قلت وما آية ذلك قال قد رجف بالشام منذ هلك عيسى ابن مريم ثمانون رجفة كلها فيهم مصيبة عامة وبقيت رجفة عامة فيها مصيبة يخرج على أثرها
قال أبو سفيان قلت وإن هذا هو الباطل لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا شريفا مسنا
قال والذي يحلف به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان هل لك في المبيت فبتنا حتى مر بنا الثقل فرحلنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا
الخبر من خلفنا أصاب الشام بعدكم رجفة دمر أهلها وأصابتهم فيها مصيبة عظيمة
قال كيف ترى يا أبا سفيان قلت أرى والله ما أظن صاحبك إلا صادقا
وقدمنا مكة فقضيت ما كان معي ثم انطلقت حتى جئت أرض الحبشة تاجرا فمكثت بها خمسة أشهر ثم أقبلت حتى قدمت مكة فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي حتى جاءني في آخرهم محمد بن عبد الله {صلى الله عليه وسلم} وعندي هند جالسة تلاعب صبية لها فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقدمي ثم انطلق فقلت والله إن هذا الفتى لعجب ما جاءنا أحد من قريش له معي بضاعة إلا سألني عنها وما بلغت ووالله إن له معي لبضاعة ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني فقالت أو ما علمت بشأنه قلت وفزعت ما شأنه قالت والله إنه ليزعم أنه رسول الله قال فوقذني ذلك وذكرني قول النصراني ووجمت حتى قالت لي مالك فانتبهت وقلت إن هذا والله لهو الباطل لهو أعقل من أن يقول هذا قالت بلى والله إنه ليقوله ويؤتي عليه وإن له لصحابة معه على أمره قلت هو والله باطل


فخرجت فبينا أنا أطوف إذ لقيته فقلت إن بضاعتك قد بلغت وكان فيها خير فأرسل إلي فخذها ولست آخذا فيها ما آخذ من قومك قال فإني غير آخذها حتى تأخذ مني ما تأخذ من قومي قلت ما أنا بفاعل قال فوالله إذا لا آخذها قلت فأرسل إليها فأخذت منها ما كنت آخذ وبعثت إليه ببضاعته
ولم أنشب أن خرجت تاجرا إلى اليمن فقدمت الطائف فنزلنا على أمية فتغديت معه ثم قلت يا أبا عثمان هل تذكر حديث النصراني قال أذكره قلت فقد كان قال ومن قلت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ثم قصصت عليه خبر هند قال فالله يعلم أنه تصبب عرقا ثم قال يا أبا سفيان لعله وإن
صفته لهيه ولئن ظهر وأنا حي لأبلين الله في نصرته عذرا
ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هناك استهلاله وأقبلت حتى قدمت الطائف فنزلنا على أمية بن أبي الصلت قلت قد كان من هذا الرجل ما قد بلغك وسمعت قال قد كان قلت فأين أنت قال ما كنت لأومن برسول ليس من ثقيف قال أبو سفيان فأقبلت إلى مكة ووالله ما أنا منه ببعيد حتى جئت فوجدته هو وأصحابه يضربون ويقهرون فجعلت أقول فأين جنده من الملائكة ودخلني ما دخل الناس من النفاسة
ووقع في هذا الحديث من قول أبي سفيان أن عتبة بن ربيعة ذو مال ووقع بعد ذلك من قول أبي سفيان أيضا أنه محوج ولا يصح أن يجتمع الأمران وأحدهما غلط من الناقل والله أعلم
والمشهور من حال عتبة أنه كان فقيرا وكان يقال لم يسد من قريش مملق إلا عتبة وأبو طالب فإنهما سادا بغير مال
وأما أمية بن أبي الصلت فرجل من ثقيف لم يرض دين أهل الجاهلية ولا وفقه الله للدخول في السمحة الحنيفية
فكان كما روي عن عروة بن الزبير قال سئل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن أمية بن أبي الصلت فقال أوتي علما فضيعه
وكما روي عن الحسن وقتادة أنهما قالا في قول الله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ( الأعراف 175 ) أنه أمية بن أبي الصلت


ولغيرهما من العلماء في المعنى بهذه الآية قول أشهر من هذا وهو أن المراد بها بلعام بن باعوراء فالله تعالى أعلم
قال إبن اسحاق واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم
كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده فخلص منهم أربعة نفر نجيا ثم قال بعضهم لبعض تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض
قالوا أجل وهم ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزي وزيد بن عمرو بن نفيل فقال بعضهم لبعض تعلموا والله مل قومكم على شيء لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم ما حجر نظيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء
فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها
وذكر الزبير بن أبي بكر بإسناد له إلى عروة بن الزبير قال سئل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن ورقة بن نوفل فقال لقد رأيته في المنام عليه ثياب بيض فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض
وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه وهو الذي يقول
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم
فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد
سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له
رب البرية فرد واحد صمد
سبحان ذي العرش سبحانا نعود له
وقبل سبحه الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له
لا ينبغي أن ينادي ملكه أحد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
والإنس والجن فبما بينها برد
أين الملوك التي كانت لعزتها
من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود هناك بلا كذب
لا بد من ورده يوما كما وردوا
الكامل
وفي هذا الشعر ألفاظ عن غير الزبير والبيت الأخير كذلك وفيه أبيات
تروي لأمية بن أبي الصلت


قال ابن إسحاق وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة ومعه امرأته ام حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فلما قدماها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانيا وخلف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعده على امرأته أم حبيبة وكان حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقول فقحنا وصأصأتم أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده
وذكر الزبير أن قيصر ملكه على أهل مكة وكتب له إليهم كتابا فأنفت قريش أن يدينوا لأحد وصاح فيه ابن عمه أبو زمعة الأسود بن المطلب بن أسد والناس في الطواف إن قريشا لقاح لا تملك ولا تملك فمضت قريش على كلامه ومنعوا عثمان ما جاء يطلب فرجع إلى قيصر ومات بالشام مسموما يقال سمه عمرو بن حفنة الغساني الملك وكان يقال لعثمان هذا البطريق ولا عقب له
قال ابن إسحاق وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة وقال أعبد رب إبراهيم وبادي قومه بعيب ما هم عليه
قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما لقد رأيت زيد بن عمرو ابن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول يا معشر قريش والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ثم يقول اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ولكن لا أعلمه ثم يسجد على راحلته
وسأل ابنه سعيد بن زيد وابن عمه عمر بن الخطاب بن نفيل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنستغفر لزيد بن عمرو قال نعم فإنه يبعث أمة وحده
وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزي أدين ولا ابنتيها
ولا صنمى بني عمرو أزور
ولا غنما أدين وكان ربا
لنا في الدهر إذ حلمي يسير

======

ج2. كتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي


عجبت وفي الليالي معجبات
وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا
كثيرا كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم
فيربل منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوما
كما يتروح الغصن المطير
ولكن أعبد الرحمن ربي
ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها
متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا ما تضيق به الصدور
الوافر
وقال زيد بن عمرو بن نفيل وذكر ابن هشام أن أكثرها لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا
وقولا رصينا لا يني الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه
إله ولارب يكون مدانيا
ألا أيها الإنسان إياك والردي
فإنك لا تخفي من الله خافيا
فإياك لا تجعل مع الله غيره
فإن سبيل الرشد أصبح باديا
حنانيك إن الجن كانت رجاؤهم
وأنت إلهي ربنا ورجائيا
رضيت بك اللهم ربا فلن أرى
أدين إلها غيرك الله ثانيا
وأنت الذي من فضل من ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له إذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له آآنت سويت هذه
بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له آآنت رفعت هذه
بلا عمد أرفق إذا بك بانيا
وقولا له آآنت سويت وسطها
منيرا إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يرسل الشمس غدوة
فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثري
فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رءوسه
وفي ذاك آيات لمن كان واعيا
وأنت بفضل منك نجيت يونسا
وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وإني وإن سبحت باسمك ربنا
لأكثر إلا ما غفرت خطائيا
فرب العباد ألق سيبا ورحمة
علي وبارك في بني وماليا
الطويل
وقال زيد بن عمرو أيضا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا
المتقارب


ويروي أن زيدا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال لبيك حقا حقا تعبدا ورقا عذت بما عاذ به إبراهيم مستقبل القبلة وهو قائم إذ قال إني لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم البر أبقى لا الخال ليس مهجر كمن قال
ويقال البر أبقى لا الحال
وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيدا حتى أخرجه إلى أعلى مكة فنزل حرا مقابل مكة
وكان الخطاب عمه وأخاه لامه وكل به شبابا من شباب قريش وسفهائهم فقال لهم لا تتركوه يدخل مكة
فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقه
وكان زيد قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم فكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما رأته تهيأ للخروج أو أراده آذنت به الخطاب بن نفيل وكان الخطاب وكلها به وقال إذا رأيته هم بأمر فآذنيني به
ثم خرج يطلب دين إبراهيم ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل فجال الشام كلها حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية فالحق به فإنه مبعوث الآن هذا زمانه
وقد كان زيد شام اليهودية والنصرانية فلم يرض منها شيئا فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه فقال ورقة بن نوفل يبكيه
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما
تجنبت تنورا من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله
وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته
ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت في دار كريم مقامها
تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل الله فيها ولم تكن
من الناس جبارا إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة به


ولو كان تحت الأرض سبعين ودايا
الطويل
قال ابن إسحاق وكان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مما أثبت لهم يحنس الحواري حين نسخ لهم الإنجيل من عهد عيسى ابن مريم إليهم في رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال من أبغضني فقد أبغض الرب ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزونني وأيضا للرب ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجانا أي باطلا فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط هو الذي من عند الرب خرج فهو شهيد علي وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معي هذا قلت لكم لكيلا تشكوا
والمنحمنا بالسريانية هو محمد {صلى الله عليه وسلم} وهو بالرومية البرقليطس
قال ابن هشام وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي {صلى الله عليه وسلم} يمشي فعثر فقال ابنه تعس الأبعد يريد النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال له أبوه لا تفعل فإنه نبي واسمه في الوضائع يعني الكتب فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم فوجد ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} فأسلم فحسن إسلامه وحج
وهو الذي يقول
إليك تعدو قلقا وضينها
معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
الرجز
وقد جاءت أحاديث حسان بما وقع من صفة النبي {صلى الله عليه وسلم} في التوراة لم يذكر ابن إسحاق منها شيئا
فمن ذلك ما ذكره الواقدي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في التوراة


فقال أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في الفرقان يا آيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله يفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
قال عطاء ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف
وذكر الواقدي أيضا عن النعمان السبئي قال وكان من أحبار اليهود باليمن فلما سمع بذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} قدم عليه فسأله عن أشياء ثم قال إن أبي كان يختم على سفر يقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه
قال نعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة وإذا فيه ما تحل وما تحرم وإذا فيه أنك خير الأنبياء وأمتك خير الأمم وأسمك أحمد {صلى الله عليه وسلم} وأمتك الحمادون قربانهم دماؤهم وأناجيلهم صدورهم لا يحضرون قتال إلا وجبريل معهم يتحنن الله إليهم كتحنن الطير على أفراخه
ثم قال لي إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدق به
فكان النبي {صلى الله عليه وسلم} يحب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} يا نعمان حدثنا
فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتبسم ثم قال أشهد أني رسول الله
ويقال أن النعمان هذا هو الذي قتله الأسود العنسي وقطعه عضوا عضوا وهو يقول أشهد أن محمدا رسول الله وأنك كذاب مفتر على الله عز وجل ثم حرقه بالنار

ذكر المبعث قال ابن إسحاق فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين وكافة للناس
وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق


فيه يقول الله تعالى لنبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري أي ثقل ما حملتكم من عهدي قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( آل عمران - 81 )
فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له والنصر وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين
وعن عائشة رضي الله عنها أن أول ما ابتدى ء به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح
وحبب الله إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده
وعن بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أراده الله بكرامته وابتدائه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها فلا يمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحجر ولا شجرة إلا قال السلام عليك يا رسول الله فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجرو الحجارة
فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث
ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في رمضان
وعن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي يحدث كيف كان بدء ما ابتدى ء به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من النبوة حين جاءه جبريل قال
كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر
فكان يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله ثم يرجع إلى بيته
حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته وذلك الشهر رمضان خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبريل بأمر الله


قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال إقرأ قلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ماذا أقرأ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع
قال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ( العلق 1 - 5 )
فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا
فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل
فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك
فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وانصرفت عنه راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها
فقالت يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي
ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأخبرته بما أخبرها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه رأى وسمع فقال ورقة قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت
فرجعت خديجة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبرته بقول ورقة


فلما قضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يا بن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت
فأخبره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه ولئن أن أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه
ثم أدنى رأسه منه فقبل يا فوخه ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى منزله
ويروى عن خديجة أنها قالت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال نعم قالت فإذا جاءك فأخبرني به
فجاءه جبريل كما كان يصنع فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا خديجة هذا جبريل قد جاءني قالت قم يا بن عم فاجلس على فخذي اليسرى فقام فجلس عليها قالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فتحول فقعد على فخذها اليمنى فقالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول فجلس في حجرها ثم قالت له هل تراه قال نعم فتحسرت
وألقت خمارها ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا
قالت يا ابن عم اثبت وأبشر فو الله إنه لملك ما هذا بشيطان
ويروي أن خديجة أدخلت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل
وابتدى ء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالتنزيل في رمضان
يقول الله عز وجل شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ( البقرة )
وقال إنا أنزلناه في ليلة القدر ( القدر 1 - إلى فاتحة السورة )
وقال حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين ( الدخان 1 - 4 )
وقال إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ( الأنفال 42 ) يعني ملتقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمشركين ببدر وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان


هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذه الآيات كالمستشهد بها على ابتداء التنزيل في شهر رمضان على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وفي صورة هذا الاستشهاد نظر
فإن ظاهر قوله سبحانه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن عموم نزول القرآن بجملته فيه وكذلك قوله إنا أنزلناه في ليلة القدر و إنا أنزلناه في ليلة مباركة
ولم يقع الأمر في إنزاله على رسوله {صلى الله عليه وسلم} هكذا بل أنزله الله عليه في رمضان
وفي غيره متفرقا آيات وسورا بحسب سؤال السائلين أو أحداث المحدثين أو ما شاء الله من هداية العالمين
وقد قيل في قوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس أي الذي أنزل في شأنه القرآن أي نزل الأمر من الله عز وجل بصيامه كتابا يتلى وقرآنا لا يدرس ولا يبلى
كما يقال نزل القرآن بالصلاة أي نزل جزء منه بفرضها ونزل القرآن في عائشة رضي الله عنها وإنما نزلت منه آيات ببراءتها من الإفك
ومثل هذا الإطلاق موجود في الأحاديث والآثار كثيرا
ولنسلم أن معنى قوله أنزل فيه القرآن أي ابتدئ فيه إنزاله فقد قيل ذلك وليس ببعيد في المفهوم ولا مما تضيق عنه سعة الكلام ثم نجري ذلك المجرى الآيتين الأخيرتين وهما إنا أنزلناه في ليلة مباركة و إنا أنزلناه في ليلة القدر وإن بعد ذلك فيهما لما ورد من الآثار المصححة لحكم عمومهما حسبما نذكره بعد فما بال الآية الأخرى التي هي وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان تنتظم في هذا النظام وقد أعقبها مفسرا بأن المعني بذلك يوم بدر وهو الحق
وهل كان يوم بدر إلا في السنة الثانية من الهجرة وبعد اثنتي عشرة سنة من البعث ونزول الوحي أو بعد خمس عشرة سنة على ما ورد من الخلاف في مدة مكث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة بعد النبوة وما زال القرآن المكي والمدني ينزل في ماضي تلك السنين


فإن كان ابن إسحاق عني ما ذكرناه عنه ونسبناه إليه فقد بينا وجه رده واستوفينا التنبيه عليه وإن كان عني غير ذلك فقصر عنه تحرير عبارته أو سقط على الناقل من كلامه ما كان يفي لو بقي بإفهامه فالله تعالى أعلم
والرجل أولى منا بأن يصيب ويسلم إلا أنه لا ينكر أن يغلط هذا البشر
ونعوذ بالله أن نقصد بهذا الاعتداد على ذي علم أو الغض من ذي حق فإن العلماء هم آباؤنا الأقدمون وهداتنا المتقدمون بأنوارهم نسري فنبصر ونستبصر وإلى غاياتهم نجري فطورا نصل وأطوارا نقصر فلهم دوننا قصب السبق ولهم علينا في كل الآحوال أعظم الحق إذا أصابوا اعتمدنا وإذا أخطأوا استفدنا وإذا أفادوا استمددنا فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء ووفقنا لتوفية حقوق الأئمة والعلماء
وبعد فمن أحسن ما يتقلد في تلك الآيات الثلاث التي صدر بها كلامه مما يحفظ حكم عمومها ويطابق ظاهر مفهومها ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن القرآن أنزل جملة واحدة في شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ثم أنزل على النبي {صلى الله عليه وسلم} شيئا فشيئا إلى حين وفاته
وقيل للشعبي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أما كان ينزل في سائر السنة
قال بلى ولكن جبريل عليه السلام كان يعارض محمدا {صلى الله عليه وسلم} في شهر رمضان ما أنزل في ماضي السنة فيمحو الله ما يشاء ويثبت
قال ابن إسحاق ثم تتام الوحي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو مؤمن بالله مصدق لما جاءه منه قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم
وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله عز وجل
فمضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى
وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله وآزرته على أمره
فكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء منه


فخفف الله بذلك عن رسوله لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس
يرحمها الله
ثم فتر عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الوحي حتى شق عليه وأحزنه
فجاءه جبريل بسورة والضحى يقسم له ربه جل وعلا وهو الذي أكرمه بما أكرمه به ما ودعه ولا قلاة
فقال والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى يقول ما حرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبك
وللآخرة خير لك من الأولى أي لما عندي من مرجعك إلي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا
ولسوف يعطيك ربك فترضى من الفلج في الدنيا والثواب في الآخرة
ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى
يعرفه بما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه وعيلته وضلالته واستنقاذه من ذلك كله برحمته
فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر أي لا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا فظا على الضعفاء من عباد الله
وأما بنعمة ربك فحدث اذكرها وادع إليها
فجعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا إلى من يطمئن به إليه من أهله
وافترضت عليه الصلاة فصلى صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته
قالت عائشة رحمها الله افترضت الصلاة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أول ما افترضت ركعتين ركعتين كل صلاة ثم إن الله أتمها في الحضر أربعا وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين
وعن بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت له منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينظر ليريه كيف الطهور للصلاة ثم توضأ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بصلاته ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خديجة فتوضأ ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها ثم صلى بها كما صلى به جبريل فصلت بصلاته


وعن نافع بن جبير بن مطعم وكان كثير الرواية عن ابن عباس قال لما افترضت الصلاة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتاه جبريل فصلى به الظهر حين مالت الشمس ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ثم صلى به الظهر حين كان ظله مثله ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ثم صلى به العشاء
الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق
ثم قال يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس
قال ابن إسحاق ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصلى وصدق بما جاءه من الله تبارك وتعالى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ابن عشر سنين يومئذ
وكان مما أنعم الله به عليه أنه كان في حجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل الإسلام
وذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للعباس عمه وكان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه قال العباس نعم
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا إنا نريد نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما ويقال عقيلا وطالبا
فأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليا فضمه إليه وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه فلم يزل علي مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا


ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول الله يابن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به
قال أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم أو كما قال {صلى الله عليه وسلم} بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه أو كما قال
فقال أبو طالب أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت
وذكروا أنه قال لعلي أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه
فقال يا أبت آمنت برسول الله وصدقت بما جاء به وصليت معه لله واتبعته
فزعموا أنه قال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
قال ابن إسحاق ثم أسلم زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب
وعن غير ابن إسحاق أن زيدا أصابه في الجاهلية سباء فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد وقيل بل وهبه لها فوهبته خديجة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأعتقه وتبناه وذلك قبل أن يوحي إليه وكان حارثة أبوه قد جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده فقال
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل
أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإني لسائل
أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
ويا ليت شعري هل لك الدهر أوبة
فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها
وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره
فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا
ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي
فكل امرئ فان وإن غره الأمل
الطويل
ثم إن أناسا من كلب حجوا فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه وعند من هو
فخرج أبوه حارثة وعمه كعب ابنا شراحيل لفدائه


وقدما مكة فسألا عن النبي {صلى الله عليه وسلم} فدخلا عليه فقالا يا بن عبد المطلب بن هاشم يا بن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير جئناك في ابننا عبدك فامنن عليه وأحسن إلينا في فدائه
قال من هو قالوا زيد بن حارثة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فهلا غير ذلك قالوا ما هو
قال أدعوه فأخيره فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا قالا قد زدتنا على النصف وأحسنت
فدعاه فقال هل تعرف هؤلاء قال نعم قال من هذا قال أبي وهذا عمي قال فأنا من قد عملت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما
قال زيد ما أنا بالذي اختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم
فقالا ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك
قال نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا
فلما رأى ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرجه إلى الحجر فقال يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفوا
فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فنزلت ادعوهم لآبائهم فدعى من يومئذ زيد بن حارثة
قال ابن إسحاق ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة واسمه عتيق وقيل عبد الله وعتيق لقب لحسن وجهه وعتقه فيما قال ابن هشام
واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي
فلما أسلم أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله
وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته


فجعل يدعوا إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه قال فأسلم بدعائه فيما بلغني عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب وسعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة
فجاء بهم إلى رسول {صلى الله عليه وسلم} حين استجابوا له فأسلموا وصلوا
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول فيما بلغني ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه
قال فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا وصدقوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصدقوا بما جاءه من الله
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة ابن الحارث بن فهر
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
والأرقم بن أبي الأرقم بن أسد أبي جندب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي
وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون
وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي
وامرأته فاطمة بنت عمه الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب
وأسماء بنت أبي بكر الصديق
وعائشة بنت أبي بكر الصديق وهي صغيرة
وخباب بن الأرت حليف بني زهرة
وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص
وعبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة
وجماعة سوى هؤلاء سماهم ابن إسحاق
قال ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به


ثم إن الله عز وجل أمر رسوله {صلى الله عليه وسلم} أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره ويدعوا إليه وكان بين ما أخفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمره واستسر به إلى أن أمره الله
بإظهاره ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه ثم قال الله له فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( الحجر 94 )
ثم قال وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( الشعراء 114 - 115 ) وفي موضع آخر واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين ( الحجر 489 )
قال وكان أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم ناس من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد يومئذ رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه
فكان أول دم هريق في الإسلام
فلما بادي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها
فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون
وحدب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله مظهرا له لا يرده عنه شيء
فلما رأت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم
يسلمه لهم مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب وأبو البختري بن هشام والحارث بن أسد بن عبد العزي بن قصي والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي وأبو جهل بن هشام بن المغيرة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج والعاص بن وائل ومن مشى منهم
فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكيفه


فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه
ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاعنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا له
ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا خذلانه
وذكر أن أبا طالب حين قالت له قريش هذه المقالة بعث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقال له يا بن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا للذي قالوا له فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق
فظن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قد بدا لعمه فيه بداء وأنه خاذله ومسلمه وأنه
قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته
ثم استعبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبكى
ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا بن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وإسلامه مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقلته فإنما هو رجل كرجل
قال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا


فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا
فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال
فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادي بعضهم بعضا
قال ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين أسلموا معه
فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم
قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته
ثم استعبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبكى
ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا بن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وإسلامه مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقلته فإنما هو رجل كرجل
قال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا
فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا
فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال
فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادي بعضهم بعضا
قال ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين أسلموا معه
فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم


ومنع الله تبارك وتعالى رسوله منهم بعمه أبي طالب وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم وفضل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيهم ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره فقال
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر
فعبد مناف سرها وصميمها
فإن حصلت أشراف عبد منافها
ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا
هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديما لا نقر ظلامة
إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة
ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذوي وإنما
بأكنافنا تندى وتنمي أرومها
الطويل
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا
قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول فيه
قال بل أنتم فقولوا أسمع قالوا نقول كاهن
قال والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول شاعر قال ما هو بشاعر
لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول ساحر قال ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده


قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس قال والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها
فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي يعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودد فيها أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه وأولها
ولما رأيت القوم لاود فيهم
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة
يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة
وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه
لدى حيث يقضي حلفه كل نافل
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم
بمفضي السيول من إساف ونائل
موسمة الأعضاء أو قصراتها
مخيسة بين السديس وبازل
ترى الودع فيها والرخام وزينة
بأعناقها معقودة كالعثاكل
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسي ثبيرا مكانه
وراق ليرقي في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة
وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر الأسود إذ يمسحونه
إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر وطأة
على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا
وما فيهما من صورة وتماثل
ومن حج بيت الله من كل راكب
ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له


إلال إلى مفضى الشراج القوابل
وتوقافهم فوق الجبال عشية
يقيمون بالأيدي صدور الرواحل
وليلة جمع والمنازل من منى
وهل فوقها من حرمة ومنازل
وجمع إذا ما المقربات أجزنه
سراعا كما يخرجن من وقع وابل
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها
يؤمون قذفا رأسها بالجنادل
وكندة إذ هم بالحصاب عشية
تجيز بهم حجاج بكر من وائل
حليفان شدا عقد ما اختلفا له
وردا عليه عاطفات الوسائل
وحطمهم سمر الصفاح وسرحه
وشبرقه وخد النعام الجوافل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ
وهل من معيذ يتقى الله عاذل
يطاع بنا الأعدا وودوا لو اننا
تسد بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت الله نترك مكة
ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه
من الطعن فعل الأنكب المتحامل
وإنا لعمرو الله إن جد ما أرى
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وما ترك قوم لا أبالك سيدا
يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بكفه
ثمال اليتامي عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في رحمة وفواضل
جزي الله عنا عبد شمس ونوفلا
عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة
له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا
بني خلف قيضا بنا والغياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم
وآل قصي في الخطوب الأوائل
وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا
علينا العدي من كل طمل وخامل
فعبد مناف أنتم خير قومكم
فلا تشركوا في أمركم كل واغل
لعمري لقد وهنتم وعجزتم
وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل
فإن يك قوما نتئر ما صنعتم
وتحتلبوها لقحة غير باهل
فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا
وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل
ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة
إذا ما لجأنا دونهم في المداخل
ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم
لكنا أسى عند النساء المطافل


فإن تك كعب من لوي صميمة
فلا بد يوما مرة من تزايل
فكل صديق وابن أخت نعده
لعمري وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة
براء إلينا من معقة خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب
زهير حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمي
إلى حسب في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها
وزينا لمن والاه رب المشاكل
فمن مثله في الناس أي مؤمل
إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش
يوالى إلها ليس عنه بغافل
فأيده رب العباد بنصره
وأظهر دينا حقه غير باطل
فوالله لولا أن أجيء بسبة
تجر على أشياخنا في القبائل
لكنا اتبعناه على كل حالة
من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة
تقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه بالذري والكلاكل
الطويل
والقصيدة أطول من هذا وإنما تركنا ما تركنا منها اختصارا
وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها
قال وحدثني من أثق به قال أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فشكوا إليه ذلك فصعد المنبر فاستسقى فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم حوالينا ولا علينا
فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت لقوله
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال أجل
قال ابن إسحاق فلما انتشر أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة ولم يك حي من العرب أعلم بأمر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين ذكر وقبل أن يذكر من الأوس والخروج وذلك لما كانوا يسمعون من أخبار يهود وكانوا لهم حلفاء ومعهم في بلادهم


فلما وقع ذكره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الأسلت الأوسي وكان يحب قريشا وكان يقيم فيهم السنين بامرأته
أرنب بنت أسد بن عبد العزي بن قصي قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهي قريشا عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض وعن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه الفيل عنهم فقال
ويا راكبا إما عرضت فبلغن
مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرى ء قد راعه ذات بينكم
على النأي محزون بذلك ناصب
وقد كان عندي للهموم معرس
ولم أقض منها حاجتي ومآربي
أعيذكم بالله من شر صنعكم
وشر تباغيكم ودس العقارب
وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة
كوخز الأثافي وقعها حق صائب
فذكرهم بالله أول وهلة
وإحلال إحرام الظباء الشوازب
وقل لهم والله يحكم حكمه
ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
هي الغول للأقصين أو للأقارب
تقطع أرحاما وتهلك أمة
وتبري السديف من سنام وغارب
فإياكم والحرب لا تغلقنكم
وحوضا وخيم الماء مر المشارب
تزين للأقوام ثم يرونها
بعاقبة إذ بينت أم صاحب
تحرق لا تشوي ضعيفا وتنتحي
ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس
فتعتبروا أو كان في حرب حاطب
وكم قد أصابت من شريف مسود
طويل العماد ضيفه غير خائب
وماء هريق في الضلال كأنما
أذاعت به ريح الصبا والجنائب
يخبركم عنها امرؤ حق عالم
بأيامها والعلم علم التجارب
فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا
حسابكم والله خير محاسب
ولي امريء فاختار دينا فلا يكن
عليكم رقيبا غير رب الثواقب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم
لنا غاية قد يهتدي بالذوائب
وأنتم لهذا الناس نور وعصمة
تؤمنون والأحلام غير عوازب
وأنتم إذا ما حصل الناس جوهم
لكم سره البطماء شم الأرانب
تصونون أجسادا كراما عتيقة
مهذبة الأنساب غير أشائب
ترى طالبي الحاجات نحو بيوتكم
عصائب هلكى تهتدي بعصائب
لقد علم الأقوام أن سراتكم
على كل حال خير أهل الجباجب


فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق
غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمسى ورجله
على القاذفات في رءوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم
جنود إله بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب
إلى قومه ملحبش غير عصائب
فإن تهلكوا نهلك وتهلك عصائب
يعاش بها قول امرى ء غير كاذب
الطويل
ثم إن قريشا اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن أسلم معه منهم
فأغروا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} سفهاءهم فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون
ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} مظهر لأمر الله لا يستخفي به مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم واعتزال أوثانهم وفراقه إياهم على كفرهم
فحدث عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما كانوا يظهرون من عداوته
قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا
فبينما هم في ذلك طلوع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول
قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف ثم قال أتسمعون يا معشر قريش والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح قال فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى أن أشدهم وصاة فيه قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا
قال فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه


فبيناهم في ذلك طلع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا للذي يقول من عيب آلهتهم فيقول رسول الله نعم أنا الذي أقول ذلك
فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله
ثم انصرفوا عنه
فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط

ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه قال ابن إسحاق وحدثني رجل من أسلم كان واعية أن أبا جهل مر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينة والتضعيف لأمره فلم يكلمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك
ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم
فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة
فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بيته قالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته فخرج يسعى لم يقف على أحد معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به
فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه بها شجة منكرة ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد علي إن استطعت
فقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا
وتم حمزة على إسلامه وعلى ما بايع عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قوله
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد عز وامتنع وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه


وعن محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش والنبي {صلى الله عليه وسلم} جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا
وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يزيدون ويكثرون
فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل يا أبا الوليد أسمع
قال يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده من نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حنى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه أو كما قال له
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يسمع منه قال أقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل
قال بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ( فصلت 1 - 4 )
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيها يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه ثم انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى السجدة منها فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به


فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أن سمعت قولا ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به
قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه
قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم
قال ابن إسحاق ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء وقريش تحبس من قدرت على حبسه وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين
ثم إن أشراف قريش من كل قبيله اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه
فبعثوا إليه فجاءهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سريعا وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم
حتى جلس إليهم فقالوا يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك أو كما قالوا له
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تريد به الشرف فينا فنحن نسودك علينا وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا فربما كان كذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك


فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما بي ما تقولون ما جئت به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لحكم الله حتى يحكم الله بيني وبينكم أو كما قال {صلى الله عليه وسلم}
قالوا يا محمد فإن كنت غير قابل شيئا مما عرضنا عليك فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا إلينا كما تقول
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم بما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة
وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
قالوا فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا أو كما قال
فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
قالوا فأسقط علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لا نؤمن بك إلا أن تفعل
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل


قالوا يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به إنه بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد وإنا والله لا نتركك وما بلغت بنا حتى نهلكك أوتهلكنا
وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا
فلما قالوا ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} قام عنهم وقام معه عبد الله بن أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم
تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل أو كما قال له فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك
ثم انصرف عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه
فلما قام عنهم قال أبو جهل يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله أو كما قال فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم
قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد


فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينتظره وغدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما كان يغدو وكان بمكة وقبلته إلى الشام فكان إذا صلى صلى بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام
فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصلي وقد غدت قريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل فلما سجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده
وقامت إليه رجال قريش فقالوا ما لك يا أبا الحكم قال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإيل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فهم بي أن يأكلني
قال ابن إسحاق فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ذلك جبريل لو دنا لأخذه
فلما قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فقال لهم يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانه حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر قد رأينا السحر نفثهم وعقدهم وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه يا معشر قريش انظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أ هل الكتاب الاول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء


فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا
فقالت لهما أحبار يهود سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وأن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب
وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه وسلوه عن الروح ما هو
فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم
فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة فقالا يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد
أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يقل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم
فجاءوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسألوه عن تلك الأشياء فقال لهم أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن
فانصرفوا عنه ومكث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله عزوجل إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل حتى أرجف آل مكة وقالوا وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة
ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح
فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لجبريل حين جاءه لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا فقال له جبريل وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ( مريم 64 )


فلما جاءهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بما عرفوا من الحق وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ولجوا فيما هم عليه من الكفر فقال قائلهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبونه
أي اجعلوه لغوا وباطلا واتخذوه هزوا لعلكم تغلبون بذلك فإنكم إن ناظر تموه وخاصمتموه غلبكم
فقال أبو جهل بن هشام يوما وهو يهزأ برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما جاء به من الحق يا معشر قريش يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أعظم الناس عددا وكثرة أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم
فأنزل الله في ذلك من قوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ( المدثر 31 إلى آخر القصة )
فلما قال ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع وإن خفض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صوته فظن الذي يستمع أنهم لا يسمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ يستمع له
وقال عبد الله بن عباس إنما نزلت هذه الآية ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( الإسراء 110 ) من أجل أولئك النفر يقول لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يستمع فينتفع بذلك
وكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة عبد الله بن مسعود فيما حدث به عروة بن الزبير قال


اجتمع يوما أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط فمن رجل يسمعهموه فقال عبد الله بن مسعود أنا قالوا إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه
قال دعوني فإن الله سيمنعني
قال فغدا ابن مسعود حتى أتي المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم رافعا بها صوته الرحمن علم القرآن ثم استقبلها يقرؤها وتأمموه فجعلوا يقولون ما قال ابن أم عبد ثم قالوا إنه ليتلوا بعض ما جاء به محمد
فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه فقالوا هذا الذي خشينا عليك قال ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها قالوا لا حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون
وذكر الزهري أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتي أبا سفيان في
بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها


قال الأخنس وأنا والذي حلفت به
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد قال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء
فمن يدرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه
فقام عنه الأخنس وتركه
قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله قالوا يستهزئون به قلوبنا في أكنة لا نفقه ما تقول وفي آذاننا وقر لا نسمع ما تقول ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك فاعمل بما أنت عليه إنا عاملون بما نحن عليه إنا لا نفقه عنك شيئا
فأنزل الله عليه في ذلك من قولهم وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا إلى قوله وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( الإسراء 45 - 46 )
أي كيف فهموا توحيدك ربك إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وبينك وبينهم حجابا بزعمهم أي أني لم أفعل
نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( الإسراء 47 )
أي ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( الإسراء 48 )
أي أخطأوا المثل الذي ضربوا لك فلا يصيبون به هدى ولا يعتدل بهم فيه قول
وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ( الإسراء 49 ) ى
أي قد جئت تخبرنا أنا سنبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا وذلك ما لا يكون
قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ( الإسراء 50 - 51 )
أي الذي خلقكم مما تعرفون فليس خلقكم من تراب بأعز من ذلك عليه
وسئل ابن عباس عن قول الله عز وجل أو خلقا مما يكبر في صدوركم ما الذي أراد الله به فقال الموت


قال ابن إسحاق ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم منهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم
فكان بلال بن رباح وهو ابن حمامة لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وكان صادق الإسلام طاهر القلب فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات
والعزى فيقول وهو في ذلك البلاء أحد أحد
وكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك وهو يقول أحد أحد فيقول أحد أحد والله يا بلال ثم يقبل على أمية ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا
أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما والحنان الرحمة
حتى مر به أبو بكر الصديق يوما وهم يصنعون ذلك به فقال لأمية ألا تتقي الله في هذا المسكين حتى متى
قال أنت الذي أفسدته فأنقذه فقال أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به قال قد قبلت قال هو لك
فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه
وأعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم
عامر بن فهيرة وأم عبيس وزنيرة فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان فرد الله إليها بصرها


وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول والله لا أعتقكما أبدا فقال أبو بكر حلا يا أم فلان فقالت حل أنت أفسدتهما فأعتقهما قال فبكم هما قالت بكذا وكذا قال قد أخذتهما وهما حرتان ارجعا إليها طحينها قالتا أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها قال أو ذلك إن شئتما
ومر بجارية بني نوفل حي من بني عدي وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك فابتاعها أبو بكر فأعتقها
وقال له أبوه أبو قحافة يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما
فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك فقال أبو بكر يا أبت إني إنما أريد ما أريد
فيتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى إلى آخر السورة ( الليل 7 )
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وكانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقول فيما بلغني صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة
فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام
وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش إذا سمع بالرجل له شرف ومنعة قد أسلم أنبه وأخزاه فقال تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك ولنضعن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به
وقال سعيد بن جبير لعبد الله بن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم
قال نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له اللات والعزى إلهك من دون الله فيقول نعم حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له أهذا الجعل إلهك من دون الله فيقول نعم افتداء منهم مما يبلغون من جهده

ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة قال ابن إسحاق فلما رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله
فكانت أول هجرة كانت في الإسلام
وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي معه امرأته أم سلمة وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب بن نفيل معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة وسهل بن بيضاء من بني الحارث بن فهر وأبو سبرة بن أبي رهم ويقال بل أبو حاطب بن عمرو ويقال هو كان أول من قدمها
و كان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا
بهم صغارا أو ولدوا بها ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم وهو يشك فيه
وكان مما قيل من الشعر في الحبشة أن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشي وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا قال
يا راكبا بلغن عني مغلغلة
من كان يرجو بلاغ الله والدين
كل امرى ء من عباد الله مضطهد
ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة
تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخزي
في الممات وغيب غير مأمون
إنا تبعنا رسول الله واطرحوا


قول النبي وعالوا في الموازين
فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا
وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني
البسيط وقال عبد الله بن الحارث أيضا يذكر نفي قريش إياهم من بلادهم ويعاتب بعض قومه في ذلك
أبت كبدي لا أكذبنك قتالهم
علي وتأباه علي أناملي
وكيف قتالي معشرا أدبوكم
على الحق ألا تأشبوه بباطل
نفتهم عباد الجن من حر أرضهم
فأضحوا على أمر شديد البلابل
فإن تك كانت في عدي أمانة
عدي بن سعد عن تقي أو تواصل
فقد كنت أرجو أن ذلك فيهم
بحمد الذي لا يطبى بالجعائل
وبدلت شبلا شبل كل ضعيفة
بذي فجر مأوى الضعاف الأرامل
الطويل
وقال عبدالله بن الحارث أيضا
وتلك قريش تجحد الله حقه
كما جحدت عاد ومدين والحجر
فإن أنا لم أبرق فلا يسعنني
من الأرض بر ذو فضاء ولا بحر
بأرض بها عبد الإله محمد
أبين ما في النفس إذ بلغ النفر
الطويل
فسمي عبد الله يرحمه الله المبرق ببيته الذي قال
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف وهو ابن عمه وكان يؤذيه في إسلامه وكان أمية شريف قومه في زمانه ذلك
أتيم بن عمرو للذي جاء بغضة
ومن دونه الشرمان والبرك أكتع
أأخرجتني من بطن مكة آمنا
وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها
وتبري نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة
وأهلكت أقواما بهم كنت تقرع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة
وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع
الطويل
وتيم بن عمرو الذي يدعو عثمان هو جمح بن عمرو كان اسمه تيما
قال ابن إسحاق فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها
فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ثم بعثوهما


فقال أبو طالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتا يحض النجاشي على حسن جوارهم والدفع عنهم
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر
وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نالت افعال النجاشي جعفرا
وأصحابه أم عاق ذلك شاغب
تعلم أبيت اللعن أنك ماجد
كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلم فإن الله زادك بسطة
وأسباب خير كلها بك لازب
وأنك فيض ذو سجال غزيرة
ينال الأعادي نفعها والأقارب
الطويل
وذكر ابن إسحاق من حديث أم سلمة زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} قالت لما نزلنا أرض الحبشة تعني مع زوجها الأول أبي سلمة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه
فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جليدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته إلا أهدوا لهم ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم
قالت فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلماه وقالا لكل بطريق إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما نعم
ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها ثم قالا له أيها الملك إنه ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك جاءوا بدين


ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه
قالت ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن لا يسمع كلامهما النجاشي
فقالت بطارقته صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم
فغضب النجاشي ثم قال لاها الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن
فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل
قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب قال أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن
المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قالت فعدد عليه أمور الإسلام


فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم الله علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بينا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك
فقال له النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء فقال له جعفر نعم قال فاقرأه علي فقرأ عليه صدرا من كهيعص
فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما يتلى عليهم
ثم قال له النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكماأبدا ولا يكادون
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص والله لآتينه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم
قالت فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أبقى الرجلين فينا لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا
قال والله لأخبرته أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد
ثم غدا عليه فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فسلهم عما يقولون فيه
قالت فأرسل إليهم ليسألهم عنه ولم ينزل بنا مثلها قط
فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا
سألكم عنه فقالوا نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن
قالت فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى ابن مريم قالت فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا نقول عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول
قالت فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود


قالت فتناحرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي أي آمنون من سبكم غرم من سبكم غرم من سبكم غرم فما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم ويقال دبرا وهو الجبل بلسان الحبشة فيما قال ابن هشام
ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه
قالت فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار
قالت فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه فوالله ما علمتنا حزنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه
وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل فقال أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر فقال الزبير بن العوام أنا قالوا فأنت وكان من أحدث القوم سنا
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم
قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذا طلع الزبير يسعى فلمع بثوبه يقول ألا أبشروا فقد ظهر النجاشي وأهلك الله عدوه فو الله ما علمتنا فرحنا فرحه قط مثلها
ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال الزهري فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث فقال هل تدري ما قوله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه قلت لا والله


قال فإن عائشة أم المؤمنون حدثتني أنا أباه كان ملك قومه ولم يكن له ولد إلا النجاشي وكان للنجاشي عم له من صلبه إثنا عشر رجلا وكان أهل بيت مملكة الحبشة فقالت الحبشة بينها لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام وإن لأخيه من صلبه إثني عشر رجلا فتوارثوا ملكهم من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا
فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوا أخاه فمكثوا على ذلك حينا ونشأ النجاشي مع عمه وكان لبيبا حازما من الرجال فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه وإنا لنتخوف أن يملكه علينا وإن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه
فمشوا إلى عمه فقالوا إما أن تقتل هذا الفتى أو لتخرجنه من بين أظهرنا فإنا قد خفناه على أنفسنا
قال ويلكم قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم بل أخرجه من بلادكم
فخرجوا به إلى السوق فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم فقذفه في سفينه فانطلق به حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم هاجمت سحابة منه سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته
ففزعت الحبشه إلا ولده فإذا هو محمق ليس في ولده خير فمرج على الحبشة أمرهم فلما ضاق عليهم ما هم فيه قال بعضهم لبعض تعلموا والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتموه غدوة فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قالت فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه فأخذوه منه ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك فجائهم التاجر الذي كان باعوه منه فقال إما أن تعطوني مالي إما أن أكلمه في ذلك فقالوا لا نعطيك شيئا قال إذا والله أكلمه قالوا فدونك
فجاءه فجلس بين يديه فقال أيها الملك ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم فأسلموا إلي غلامي وأخذوا دراهمي حيث إذا سرت أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي


فقال لهم النجاشي لتعطنه دراهمه أو ليضعن غلامه يده في يده فليذهبن به حيث شاء
قالوا بل نعطه دراهمه
وكان ذلك أول ماخبر من صلابته في دينه وعدله في حكمه رحمه الله تعالى
وعن عائشة قالت لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لايزال يرى على قبره نور
وذكر ابن أسحاق أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن الحبشة اجتمعت فقالوا للنجاشي يعني عندما وافق جعفر بن أبي طالب على قوله في
عيسى ابن مريم إنك فارقت ديننا و خرجوا عليه فأرسل إلى جعفر وأصحابه وهيأ لهم سفنا وقال اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم وإن ظفرت فاثبتوا
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم
ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصفوا له فقال يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم قالوا بلى قال فكيف رأيتم سيرتي فيكم قالوا خير سيرة قال فما لكم قالوا فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد قال فما تقولون أنتم في عيسى قالوا نقول هو أبن الله قال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئا و إنما يعني علي ما كتب
فرضوا وانصرفوا
فبلغ ذلك النبي {صلى الله عليه وسلم} فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له
قال ابن إسحاق ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وردهما النجاشي بما يكرهون وأسلم عمرو بن الخطاب رضي الله عنه وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبحمزة حتى عازوا قريشا
فكان عبد الله بن مسعود يقول ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه


وقال ابن مسعود في رواية الكبائي عن غير ابن إسحاق إن إسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن إمارته كانت رحمة ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر وذكر مثل ما تقدم نصا إلى آخره

ذكر الحديث عن إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت ابي حثمة قالت والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه قالت وكنا نلقي منه البلاء أذى لنا وشدة علينا فقال إنه للانطلاق يا أم عبد الله
فقلت نعم والله لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا فقال صحبكم الله
ورأيت له رقة لم يكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا
قالت فجاء عامر بحاجته تلك فقلت له يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته علينا
قال أطمعت في إسلامه قالت نعم قال لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب قالت يأسا منه لما كان يرى منه من غلظته وقسوته عن الإسلام
قال ابن إسحاق وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول {صلى الله عليه وسلم} إلى الحبشة
قال وكان إسلامه فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر وكان نعيم بن عبد الله النحام من بني عدي قد أسلم وكان يستخفي بإسلامه
فرقا من قومه وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن
فخرج عمر متوشحا سيفه يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم اجتمعوا في بيت عند الصفا قريبا من أربعين بين رجال ونساء ومع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمه حمزة وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين
فلقيه نعيم فقال أين تريد يا عمر قال أريد محمدا هذا الصابيء الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وأعاب دينها وسب آلهتها فأقتله


فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم
قال أي أهل بيتي قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما
فرجع عمر عائدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب معه صحيفة فيها طه يقرؤهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت قالا ما سمعت شيئا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمد على دينه
وبطش بختنه سعيد فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وارعوى وقال لها أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها
فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس على شركك و انه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه
فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الأسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر
فقال عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم فقال له خباب هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه
فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف


فقال حمزة بن عبد المطلب فأذن له فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه
فقال الرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ائذن له فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة
وقال ما جاء بك يا أبن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة
فقال عمر يا رسول الله جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عنده
قال فكبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن عمر قد أسلم
فتفرقوا من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة
وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وينتصفون بهما من عدوهم
فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر
وقد روي غيرهم أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول كنت للأسلام مباعدا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك فلم أجد فيه منهم أحد فقلت لو أني جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها فجئته فلم أجده
فقلت فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين فجئت أريد ذلك فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل بينه وبينها الكعبة فكان مصلاه بين الركنين الكن الأسود و الركن اليماني فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أستمع ما يقول
فقلت لئن دنوت منه لأروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة
فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام فلم أزل قائما في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صلاته ثم انصرف وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين وكانت طريقه حتى يخرج المسعى ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب وبين دار ابن أزهر


فتبعته حتى إذا دخل بينهما أدركته فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني ثم قال ما جاء بك يابن الخطاب هذه الساعة قلت جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله
فحمد الله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال قد هداك الله يا عمر ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات ثم انصرفت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيته
قال ابن إسحاق فالله أعلم أي ذلك كان
وذكر محمد بن عبد الله بن سنجر الحافظ في إسلام عمر رضي الله عنه زيادة لم يذكرها ابن إسحاق فروي بإسناد له إلى شريح بن عبيد قال قال عمر بن الخطاب خرجت أتعرض لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ( الحاقة 40 - 41 ) قال قلت كاهن علم ما في نفسي فقرأ ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ( الحاقة 42 ) إلى آخر السورة
قال فوقع الأسلام في قلبي كل موقع
قال ابن إسحاق وحدثني نافع عن ابن عمر قال لما أسلم عمر قال أي قريش أنقل للحديث قيل له جميل بن معمر الجمحى فغدا عليه وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد
فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إن ابن الخطاب قد صبأ
قال يقول عمر من خلفه كذب ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم
قال وطلع فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا
فبيناهم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشي


حتى وقف عليهم فقال ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم
هكذا عن الرجل فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه
فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك جزاه الله خيرا قال أي بني ذلك العاص بن وائل السهمي لا جزاه الله خيرا
وهذا الدعاء عليه وله مما زاده ابن هشام عن غير ابن إسحاق
وعن بعض آل عمر قال عمر لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أي الناس أشد عداوة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت قال قلت أبو جهل وكان عمر ابنا لحنتمة بنت هشام بن المغيرة فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي فقال مرحبا وأهلا يا بن أختي ما جاء بك قلت جئتك أخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به
فضرب الباب في وجهي وقال قبحك الله وقبح ما جئت به
وفيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن عمر رضي الله عنه قال حين أسلم
الحمد لله ذي المن الذي وجبت
له علينا أياد كلها عبر
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا
صدق الحديث نبي عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدي
ربي عشيه قالوا قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زلل
بظلمها حين تتلى عندها السور
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة
والدمع من عينها عجلان يبتذر
أيقنت أن الذي تدعوه خالقها
تكاد تسبقني من عبرة درر
فقلت أشهد أن الله خالقنا
وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبي صدق أتى بالحق من ثقة
وافى الأمانة ما في عوده خور
البسيط
قال ابن إسحاق فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو و حمزة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه وجعل الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم


فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم
فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم ولقي هندا بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا فقال لها يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما قالت نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة
وقال أبو طالب فيما صنعت قريش من ذلك واجتمعوا عليه
ألا أبلغا عني على ذات بيننا
لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا
نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة
ولا خير ممن خصه الله بالحب
وأن الذي لصقتم من كتابكم
لكم كائن نحسا كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى
ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا تبتغوا أمر الوشاة وتقطعوا
أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربما
أمر على من ضاقه حلب الحرب
فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان ولا كرب
ولما تبن منا ومنكم سوالف
وأيد أترت بالقساسية الشهب
بمعترك ضنك ترى كسر القنا
به النسور الطخم يعكفن كالشرب
كأن مجال الخيل في حجراته
ومعمعة الأبطال معركة الحرب
أليس أبونا هاشم شد أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا
ولا نتشكى ما قد ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفائظ والنهي
إذا طار أرواح الكماة من الرعب
الطويل
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش
وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهي مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام إلى بني هاشم فقال له أبو البختري طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل


فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه فشجه ووطئه وطأ شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فيشمتوا بهم
ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهرا مباديا لأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس
فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم من سمي لنا ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار
فكان من سمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب وإنما سماها الله عز وجل حمالة الحطب أنها كانت فيما بلغني تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيث يمر
وكان أبو لهب يقول في بعض ما يقول يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يدي بعد ذلك ثم ينفخ في يديه ويقول تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد
فأنزل الله عز وجل فيهما تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ( سورة المسد )
قال ابن إسحاق فذكر لي أن أم جميل حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلا ترى إلا أبا بكر فقالت يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه أما والله إني لشاعرة ثم قالت
( مذمما عصينا
وأمره أبينا ) البسيط
وعن غير ابن إسحاق ودينه قلينا
ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك فقال ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها عني


وكانت قريش إنما تسمي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مذمما ثم يسبونه فكان عليه السلام يقول ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد
وأمية بن خلف الجمحي كان إذا رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} همزه ولمزه فأنزل الله فيه ويل لكل همزة لمزة سورة الهمزة إلى آخر السورة
والعاص بن وائل السهمي كان خباب بن الأرت قد باع منه سيوفا عملها له وكان قينا بمكة فجاءه يتقاضاه فقال له يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة
أو ثياب أو خدم قال بلى قال فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك فو الله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله مني ولا أعظم حظا في ذلك
فأنزل الله في ذلك أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم أتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ( مريم 77 - 80 )
ولقي أبو جهل بن هشام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني فقال له والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي بعثك
فأنزل الله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ( الأنعام 108 )
فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله
والنضر بن الحارث بن كلدة من شياطين قريش ممن كان يؤذي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وينصب له العداوة وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس فكان إذا جلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مجلسا فذكر فيه بالله ودعا فيه إلى الله وحذر قومه ما أصاب الأمم الخالية من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلم فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدثهم عن رستم الشيذ واسبنديار وملوك فارس ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثا مني والله ما محمد بأحسن حديثا مني وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها


فأنزل الله عز وجل فيه وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ( الفرقان 5 - 6 ) وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن
وأنزل أيضا فيه ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم ( الجاثيه 7 - 8 )
وهو القائل سأنزل مثل ما أنزل الله فيما ذكر ابن هشام
قال ابن إسحاق وجلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم في المجلس وفيه غير واحد من رجال قريش
فتكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فعرض له النضر فكلمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ( الأنبياء 98 - 100 )
ثم قام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس فقال له الوليد والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم
فقال ابن الزبعري أما والله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم
فعجب الوليد ومن كان معه من قول ابن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم
فذكر ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لهم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته فأنزل الله عليه إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون
حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ) ( الأنبياء 101 ) أي عيسى وعزيرا ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله


ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون إلى قوله ومن يقل منهم إني إله من دونه فلذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( الأنبياء 26 - 29 )
وأنزل فيما ذكر من أمر عيسى أنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ثم قال إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم ( الزخرف 57 - 61 ) أي ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم
والأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه فكان يصيب من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويرد عليه فأنزل الله فيه ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ( ن 10 - 13 ) إلى قوله زنيم
ولم يقل زنيم لعيب في نسبه إن الله لا يعب أحدا بنسبه ولكنه حقق بذلك نعته ليعرف والزنيم العديد للقوم قال الخطيم التميمي في الجاهلية
( زنيم تداعاه الرجال زيادة
كما زيد في عرض الأديم الأكارع ) الطويل
والوليد بن المغيرة قال أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين
فأنزل الله فيه فيما بلغني وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا إلى قوله ورحمة ربك خير مما يجمعون ( الزخرف 20 - 21 )


وأبي بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط وكانا متصافيين حسنا ما بينهما فكان عقبة بن أبي معيط قد جلس إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسمع منه فبلغ ذلك أبيا فأتى عقبة فقال ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه ثم قال وجهي من وجهك حرام أن أكلمك واستغلظ من اليمين إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل في وجهه
ففعل ذلك عدو الله عقبة فأنزل الله فيه ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ( الفرقان 27 - 29 )
ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعظم بال قد ارفت فقال يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرى ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار
فأنزل الله فيه وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ( يس 78 - 80 )
واعترض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه
فأنزل الله فيهم قل يا أيها الكافرون السورة كلها
أي إن كنتم لا تعبدون الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لي بذلك منكم لكم دينكم ولي دين
وأبو جهل بن هشام لما ذكر الله شجرة الزقوم تخويفا بها لهم قال يا معشر قريس هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد قالوا لا قال عجوة يثرب بالزبد والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما


فأنزل الله فيه إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ( الدخان 443 )
وأنزل الله فيه والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( الإسراء 60 )
ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورسول الله يكلمه وقد طمع في إسلامه فبينا هو في ذلك مر به ابن أم مكتوم الأعمى فكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وجعل يستقرئه القرآن فشق ذلك منه على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أضجره وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه فأنزل الله فيه عبس وتولى أن جاءه الأعمى إلى قوله في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ( عبس 1 - 14 )
أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا لم أخص بك أحدا دون أحد فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصد به لمن لا يريده
قال ابن إسحاق ولما بلغ أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ذلك كان باطلا فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا
وذكر موسى بن عقبة أن رجوع هؤلاء الذين رجعوا كان قبل خروج جعفر
وأصحابه إلى أرض الحبشة وأنهم الذين خرجوا أولا قبله ثم رجعوا حين أنزل الله سورة النجم
قال وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذبيهم وأحزنته ضلالتهم وكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة والنجم قال أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ( النجم 19 - 20 ) ألقى الشيطان عندها على لسانه كلمات حين ذكر الطواغيت فقال وإنهم لمن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى


كان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين أبائه فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} آخر والنجم سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه
فعجب الفريقان كلاهما من اجتماعهم في السجود لسجود رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين
وأما المشركون فاطمأنت نفوسهم إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه لما ألقي الشيطان في أمنية النبي {صلى الله عليه وسلم} فسجدوا لتعظيم آلهتهم
وفشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفيه وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وقال عز من قائل وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( الحج 52 - 54 )
فلما بين الله قضاءه فبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم للمسلمين فاشتدوا عليهم
فلهذا الذي ذكره ابن عقبة لم يستطع أحد ممن رجع من أرض الحبشة أن يدخل مكة إلا بجوار أو مستخفيا كما ذكر ابن إسحاق


قال فكان جميع من قدم مكة منهم ثلاثة وثلاثين رجلا دخل منهم بجوار فيمن سمى لنا عثمان بن مظعون الجمحي دخل بجوار من الوليد بن المغيرة وأبو سلمة بن عبد الأسد بجوار خاله أبي طالب
فأما عثمان فإنه لما رأى ما فيه أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان الوليد قال والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي
فمشي إلى الوليد بن المغيرة فقال له يا أبا عبد شمس وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك قال لم يا بن أخي لعله آذاك أحد من قومي قال لا ولكني أرضي بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره قال فانطلق إلى المسجد فرد علي جواري علانية كما أجرتك علانية
فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان جاء يرد علي جواري قال صدق قد وجدته وفيا كريم الجوار ولكني أحببت أن لا أستجير بغير الله
ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة في مجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان فقال لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان صدقت قال
وكل نعيم لا محالة زائل
الطويل
قال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول
قال لبيد يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم إن هذا سفيه في سفهاء معه فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك منه
فرد عليه عثمان حتى شري أمرهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فحضرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية لقد كنت في ذمة منيعة
قال بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس
فقال له الوليد هلم يا ابن أخي إن شئت إلى جوارك
فقال لا


وأما أبو سلمة بن عبد الأسد فإنه لما استجار بأبي طالب مشي إليه رجال بني مخزوم فقالوا يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا فما لك ولصاحبنا تمنعه منا فقال إنه استجار بي وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي فقام أبو لهب فقال يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه في جواره من بين قومه والله لتنتهن عنه أو
لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد
فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأبقوا على ذلك
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما قال ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يحرضه على ذلك
و إن امرءا أبو عتيبة عمه
لفي روضة ما إن يسام المظالما
أقول له وأين منه نصيحتي
أبا معتب ثبت سوادك قائما
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة
تسب بها إما هبطت المواسما
وول سبيل العجز غيرك منهم
فإنك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى
أخا الحرب يعصي الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة
ولم يخذلوك غانما أو مغارما
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
بتفريقهم من بعد ود وألفة
جماعتنا كيما ينالوا المحارما
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا
ولما تروا يوما لدى الشعب قائما
الطويل
وكان أبو بكر رضي الله عنه كما حدثت عائشة رضي الله عنها حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى ورأى من تظاهر قريش على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه ما رأى قد استأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فأذن له فخرج مهاجرا حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش فقال أين يا أبا بكر
قال أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي قال لم فوالله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم فارجع فأنت في جواري


فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال يا معشر قريش إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرضن له أحد إلا بخير
قالت فكفوا عنه وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته
فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا له إنك لم تجر هذا لؤذينا إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحو فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم فائته فأمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء
فمشى ابن الدغنة فقال يا أبا بكر إني لم أجرك لتؤذي قومك إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت
قال أو أرد عليك جوارك وأرضي بجوار الله
قال فاردد علي جواري قال قد رددته عليك
فقام ابن الدغنة فقال يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم
وعن القاسم بن محمد أن أبا بكر لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه التراب فمر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال أبو بكر ألا ترى ما يصنع هذا السفيه قال أنت فعلت هذا بنفسك وهو يقول أي رب ما أحلمك أي رب ما أحلمك
قال ابن إسحاق ثم إنه قام في نقض الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش ولم يبل أحد فيها أحسن من بلاء
هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه فكان هشام لبني هشام واصلا وكان ذا شرف في قومه فكان فيما بلغني يأتي ليلا بالبعير قد أوقره طعاما حتى إذا أقبله في فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه ليدخل الشعب عليهم ويأتي به قد أوقره برا فيفعل به مثل ذلك


ثم إنه مشى إلى زهير بن أمية بن المغيرة وأمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد عملت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم عودته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا
فقال ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها قال قد وجدت رجلا قال من هو قال أنا قال له زهير ابغنا ثالثا
فذهب إلي المطعم بن عدي فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال ويحك فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد قال قد وجدت ثانيا قال من هو قال أنا قال أبغنا ثالثا قال قد فعلت قال من هو قال زهير بن أبي أمية قال ابغنا رابعا
فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي فقال وهل من أحد يعين على هذا قال نعم قال من هو قال زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك قال ابغنا خامسا
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه وذكر له قرابتهم ومكانهم فقال وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد قال نعم ثم سمى له القوم
فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة
قال أبو جهل وكان في ناحية المسجد كذبت والله لا تشق


قال زمعة بن الأسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به قال المطعم بن عدي صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك
فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل تشوور فيه بغير هذا المكان
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم
وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يزعمون
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لأبي طالب يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو الله إلا أثبتته ونفت منها القطيعة والظلم والبهتان قال أربك أخبرك بهذا قال نعم قال فوالله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش فقال يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا
وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي قال القوم رضينا فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فزادهم ذلك شرا فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا
قال ابن إسحاق فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك الذين قاموا في نقضها يمدحهم
ألا هل أتي بحرينا صنع ربنا
على نأيهم والله بالناس أرود
فنخبرهم أن الصحيفة مزقت
وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تراوحها إفك وسحر مجمع
ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا
على ملأ يهدي لحزم ويرشد
قعودا لدى خطم الحجون كأنهم
مقاولة بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه
إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد
جري على جل الخطوب كأنه
شهاب بكفي قابس يتوقد
من الأكرمين من لؤي بن غالب
إذا سيم خسفا وجهه يتربد
طويل النجاد خارج نصف ساقه
على وجهه نسقى الغمام ونسعد
عظيم الرماد سيد وابن سيد
يحض على مقري الضيوف ويحشد
ويبني لأفياء العشيرة صالحا


إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد
ألظ بهذا الصلح كل مبرا
عظيم اللواء أمره ثم يحمد
قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا
على مهل وسائر الناس رقد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا
وسر أبو بكر بها ومحمد
متى شرك الأقوام في جل أمرنا
وكنا قديما قبلها نتودد
كنا قديما لا نقر ظلامة
وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيا لقصي هل لكم في نفوسكم
وهل لكم فيما يجيء به غد
فإني وإياكم كما قال قائل
لديك البيان لو تكلمت أسود
الطويل
أسود هنا اسم جبل كان قتل فيه قتيل لم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول هذه المقالة يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القاتل ولعرف بالجاني ولكنه لا يتكلم فذهبت مقالتهم تلك مثلا
قال ابن إسحاق فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب
فكان طفيل بن عمرو الدوسي وكان رجلا شريفا شاعرا لبيبا يحدث أنه قدم مكة ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بها فمشى إليه رجال من قريش فقالوا له يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق به بين الرجل وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه
قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه
قال فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي واثكل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر وما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته


فمكثت حتى انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا فوالله ما برحوا يخوفونني
أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثم أبى الله إلا أن يسمعني فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك
فعرض علي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الإسلام وتلا علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه فقال اللهم اجعل له آية
فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت على ثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح قلت اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم قال فتحول فوقع في رأس سوطي فجعل أهل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم
فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت إليك عني يا أبه فلست منك ولست مني قال لم يا بني قلت أسلمت وتابعت دين محمد قال أي بني فديني دينك فقلت فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم
ثم أتتني صاحبتي فقلت لها إليك عني فلست منك ولست مني قالت لم بأبي أنت وأمي قلت فرق بيني وبينك الإسلام وتابعت دين محمد قالت فديني دينك قلت فاذهبي إلى حنا ذي الشري قال ابن هشام ويقال حمى ذي الشرى فتطهري منه وكان ذو الشري صنما لدوس والحنا حمى حموه له به وشل من ماء يهبط من جبل فقالت بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشري شيئا قلت لا أنا ضامن لذلك فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت
ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا علي ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة فقلت


يا نبي الله إنه غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال اللهم اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم
فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق ثم قدمت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمن أسلم معي من قومي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ثم لحقنا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين
ثم لم أزل مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى فتح الله عليه مكة قلت يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه
قال ابن إسحاق فخرج إليه فجعل وهو يوقد عليه النار يقول
يا ذا الكفين لست من عبادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
الرجز
ثم رجع فكان بالمدينة حتى قبض الله رسوله فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي رأيت أن رأسي حلق وأنه خرج من فمي طائر وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني
قالوا خيرا قال أما أنا والله فقد أولتها قالوا ماذا قال أما حلق رأسي فوضعه وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي وأغيب فيها وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني
فقتل رحمه الله شهيدا باليمامة وجرح ابنه جراحة شديدة ثم استقل منها ثم قتل
عام اليرموك في زمان عمر شهيدا
وذكر ابن هشام أن أعشى بني قيس بن ثعلبة خرج إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يريد الإسلام وقال قصيدة يمدحه فيها نذكرها بعد


فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليسلم فقال له يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب فقال يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر فقال أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم
فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
هذا ما ذكر ابن هشام في قصة الأعشى وظاهره يقتضي أن قصده كان إلى مكة وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيها حينئذ لم يهاجر بعد
ويعارض هذا الظاهر ما ذكر من تحريم الخمر فإن أهل النقل مجمعون على أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد أن مضى بدر وأحد ونزل تحريمها في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن فإن صح أن خروج الأعشى كان قبل الهجرة كما في ظاهر الخبر فلعل المشرك الذي لقيه وأخبره عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتحريم الخمر أراد بهذا القول تنفيره عن الإسلام وإبعاده عنه مع ما كان من كراهية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبدا للخمر وتنزيه الله إياه عنها
ألا تراه ليلة الإسراء لما عرضت عليه آنية الخمر واللبن اختار اللبن فقيل له هديت للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك والإسراء إنما كان بمكة في صدر الإسلام
وقد يمكن أن يكون قصد الأعشى إلى المدينة بعد الهجرة وبعد تحريم الخمر فتلقاه بعض المشركين من قريش ممن لم يكن أسلم بعد
ولعل هذا هو الأولى بدليل قوله في قصيدته الآتية بعد
ألا أيهذا السائلي أين يممت
فإن لها في أهل يثرب موعدا
والله أعلم بالحقيقة في ذلك كله
والقصيدة التي مدح بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هي قوله
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
وبت كما بات السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما
تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن
إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
كهولا وشبانا فقدت وثروة
فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع
وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وأبتذل العيس المراقيل تعتلى


مسافة ما بين النجير فصرخدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت
فإن لها في أهل يثرب موعدا
فإن تسألي عني فيا رب سائل
حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
أجدت برجليها النجاء وراجعت
يداها خنافا لينا غير أحردا
وفيها إذا ما هجرت عجرفية
إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا
وآليت لا آوي لها من كلالة
ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
تراحي وتلقى من فواضله ندا
نبيا يرى ما لا ترون وذكره
أغار لعمرى في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسمع وصاة محمد
نبي الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
فترصد للموت الذي كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها
ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا
وذا النصب المنصوب لا تسكننه
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
ولا تقربن حرة كان سرها
عليك حراما فانكحن أو تأبدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه
لعاقبة ولا الأسير المقيدا
وسبح على حين العشيات والضحى
ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة
ولا تحسبن المال للمرء مخلدا
الطويل
قال ابن إسحاق وقد كان عدو الله أبو جهل مع عداوته رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبغضه إياه يذله الله إذا رآه
حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثقفي وكان واعية قال قدم رجل من إراش بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس في ناحية المسجد فقال يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي
فقال له أهل ذلك المجلس أترى ذلك الرجل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} يهزأون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة اذهب إليه فهو يؤديك عليه


فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام غلبني على حق لي قبله وأنا غريب ابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه يأخذ لي حقي منه فأشاروا لي إليك فخذ لي حقي منه يرحمك الله
قال انطلق إليه وقام معه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فأنظر ما يصنع
قال وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال من هذا فقال محمد فاخرج إلي فخرج إليه وما في وجهه من رائحة لقد انتقع لونه فقال أعط هذا حقه قال نعم لا يبرح حتى أعطيه الذي له
فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك
المجلس فقال جزاه الله خيرا فقد والله أخذ لي حقي
وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا ويحك ماذا رأيت
قال عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال أعط هذا الرجل حقه قال نعم لا يبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه
ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء فقالوا ويلك ما لك والله ما رأينا مثل ما صنعت قط
قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط والله لو أبيت لأكلني
وذكر الواقدي عن يزيد بن رومان قال بينا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالسا في المسجد معه رجال من أصحابه أقبل رجل من بني زبيد يقول يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المادة أو يجلب إليكم جلب أو يحل تاجر بساحتكم وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم يقف على الحلق حلقة حلقة
حتى انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أصحابه فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن ظلمك فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال كانت خيرة إبله فسامه أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم قال فأكسد علي سلعتي وظلمني قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأين أجمالك قال هي هذه بالحزورة


فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معه وقام أصحابه فنظر إلى الجمال فرأى جمالا فرها فساوم الزبيدي حتى ألحقه برضاه فأخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه وأبو جهل جالس في ناحية من السوق لا يتكلم
ثم أقبل إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا عمرو إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابي فترى مني ما تكره فجعل يقول لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد
فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقبل عليه أمية بن خلف ومن حضر من القوم فقالوا ذللت في يدي محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه قال لا أتبعه أبدا إن الذي رأيتم مني لما رأيت معه لقد رأيت رجالا عن يمينه وشماله معهم رماح يشرعونها إلي لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي
وذكر محمد بن إسحاق عن أبيه قال كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب أشد قريش فخلا يوما برسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بعض شعاب مكة فقال له يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه قال لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق قال نعم قال فقم حتى أصارعك فقام إليه ركانة فصارعه فلما بطش به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أضجعه لا يملك من نفسه شيا
ثم قال عد يا محمد فعاد فصرعه فقال يا محمد إن ذا للعجب أتصرعني قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري
قال ما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني قال ادعها فدعا بها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لها ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها
فذهب ركانة إلى قومه فقال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى وصنع
قال ابن إسحاق ثم قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى يقال إنهم من أهل نجران حين بلغهم خبره من الحبشة


فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا
فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا
فيقال والله أعلم فيهم نزلت هؤلاء الآيات الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين إلى قوله لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ( القصص 52 - 55 )
فقال وقد سألت الزهري فقال ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه والآيات من المائدة قول عز وجل ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( المائدة 82 - 83 )
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا جلس في المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه خباب وعمار وأبو فكيهة يسار وصهيب وأشبائهم هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض هؤلاء أصحابه كما ترون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا
بالهدى والحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا


فأنزل الله فيهم ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( الأنعام 52 - 54 )
وهؤلاء أيضا ومن قال بقولهم هم الذين عنى الله سبحانه بقوله وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ( الاحقاف 11 )
قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر عبد لبني الحضرمي وكانوا يقولون والله ما يعلم محمد كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني فأنزل الله في ذلك من قولهم إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( النحل 103 )
وكان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال دعوه فإنما هو رجل أبتر لو قد مات لقد انقطع ذكره واسترحتم منه فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شأنئك هو الأبتر ( سورة الكوثر ) أي أعطيناك ما هو خير من الدنيا وما فيها والكوثر العظيم وقيل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما الكوثر الذي أعطاك الله قال نهر كما بين
صنعاء إلى أيلة آنيته كعدد نجوم السماء ترده طير لها أعناق كأعناق الإبل قال عمر بن الخطاب إنها يا رسول الله لناعمة قال آكلها أنعم منها


ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قوما إلى الإسلام فقال له زمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث وأبي بن خلف والعاص بن وائل لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( الأنعام 8 - 49 )
ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل فهمزوه واستهزأوا به فغاظه ذلك فأنزل الله عليه ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( الأنعام 10 )

ذكر الحديث عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ابن إسحاق ثم أسري برسول الله {صلى الله عليه وسلم} من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها
فكان من الحديث فيما بلغني عن مسراه {صلى الله عليه وسلم} عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} ومعاوية بن أبي سفيان وأم هانئ بنت أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أسري به
وكان في مسراه وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من الله في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولى الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق
وكان من أمر الله على يقين فأسري به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يصنع بها ما يريد
فكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول أتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالبراق وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها فحمل عليه ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السموات والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء


عليهم السلام قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتي بثلاثة آنية إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء قال فسمعت قائلا يقول إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمته
قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال له جبريل هديت وهديت أمتك يا محمد
قال وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج بي إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه
يضع يديه في منتهي طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته
وفي حديث قتادة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لما دنوت منه لأركبه شمش فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه فاستحيا حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته
وفي حديث الحسن من انتهاء جبريل بالنبي {صلى الله عليه وسلم} إلى بيت المقدس وإمامته فيه بمن وجد عنده من الأنبياء على جميعهم السلام نحو ما تقدم من ذلك في حديث ابن مسعود
قال ثم أتي بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن فأخذ إناء اللبن وترك إناء الخمر فقال له جبريل هديت للفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر
وذكر تحريم الخمر هنا غريب جدا والذي عليه العلماء أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد سنين من الهجرة
قال الحسن ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى مكة فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر فقال أكثر الناس هذا والله الإمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة


قال فارتد كثير ممن كان أسلم وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة فقال لهم أبو بكر إنكم تكذبون عليه فقالوا بلى ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس
فقال أبو بكر والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أبعد مما تعجبون منه
ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا نبي الله أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة قال نعم قال يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته
قال الحسن فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرفع لي حتى نظرت إليه فجعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر صدقت أشهد أنك رسول الله كلما وصف له منه شيئا قال صدقت أشهد أنك رسول الله
حتى إذا انتهى قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر وأنت يا أبا بكر الصديق فيومئذ سماه الصديق
قال الحسن وأنزل الله فيمن ارتد عن إسلامه لذلك وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( الاسراء 60 )
فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما دخل فيه من حديث قتادة
قال ابن إسحاق وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول ما فقد جسد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولكن الله أسري بروحه
وكان معاوية بن أبي سفيان إذا سئل عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال كانت رؤيا من الله صادقة
فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك قول الله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ولقوله تعالى في الخبر عن إبراهيم إذ قال لابنه يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ( الصافات 102 9 ثم مضى على ذلك فعرفت أن الوحي من الله يأتي الأنبياء أيقاظا ونياما
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول تنام عيني وقلبي يقظان


فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله على أي حاليه كان نائما أو يقظان كل ذلك حق وصدق
وزعم الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة صلوات الله على جميعهم فقال أما إبراهيم فلم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس تخال رأسه يقطر ماء وليس فيه ماء أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفي
قال ابن هشام وكانت صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر عمر مولى غفرة عن
إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب قال كان علي إذا نعت النبي {صلى الله عليه وسلم} يقول لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد كان ربعة من القوم ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم وكان أبيض مشربا أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكند دقيق المسربة أجرد شثن الكفين والقدمين إذا تمشى تقلع كأنما يمشي في صبب وإذا التفت التفت معا بين كتفيه خاتم النبوة وهو {صلى الله عليه وسلم} خاتم النبيين أجود الناس كفا وأجرأ الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس بذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله {صلى الله عليه وسلم}
قال ابن إسحاق وكان فيما بلغني عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها كانت تقول ما أسري برسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا وهو في بيتي نام عندي تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت معكم صلاة الغداة الآن كما ترين


ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه وكأنه قبطية مطوية فقلت يا نبي الله لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك قال والله لأحدثنهموه فقلت لجارية لي حبشية ويحك اتبعي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى تسمعي ما يقول للناس وما يقولون له
فلما خرج إلى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا ما آية ذلك يا محمد فإنا لم نسمع بمثل هذا قط قال آية ذلك أنى مررت بعير بني فلان بوادي كذا
فأنفرهم حس الدابة فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء
فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوء ماء ثم غطوه وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوا ولم يجدوا فيه ماء وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا صدق والله لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر وند لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه
قال ابن إسحاق وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري أنه قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج ولم أر شيئا قط أحسن منه وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر
فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة عليه ملك من الملائكة يقال له إسماعيل تحت يديه اثنا عشر ألف ملك تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك
يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين حدث بهذا الحديث وما يعلم جنود ربك إلا هو ( المدثر 31 )
فلما دخل بي قال من هذا يا جبريل قال محمد قال أو قد بعث قال نعم فدعا لي بخير وقاله
قال وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال ثم


تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا يقول خيرا ويدعو به حتى لقيني ملك من الملائكة فقال مثل ما قالوا ودعا بمثل ما دعوا به إلا أنه لم يضحك ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره فقلت لجبريل من هذا الملك الذي قال لي مثل ما قالت الملائكة ولم يضحك ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت منهم فقال جبريل أما إنه لو كان ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك ولكنه لا يضحك هذا مالك صاحب النار
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت لجبريل وهو من الله بالمكان الذي وصف لكم مطاع ثم أمين ( التكوير 21 ) ألا تأمره أن يريني النار فقال بلى يا مالك أر محمدا النار فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذ ما أرى
فقلت لجبريل مره فليردها إلى مكانها فأمره فقال لها اخبي فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها
قال أبو سعيد الخدري في حديثه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل لما دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرا ويسر به ويقول روح طيبة خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عرضت عليه أف ويعبس بوجهه روح خبيثة خرجت من جسد خبيث
قال قلت من هذا يا جبريل قال هذا أبوك آدم تعرض عليه أرواح ذريته فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها
قال ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل في أيديهم قطع من نار
كالأفهار يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما
ثم رأيت رجلا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كلإبل المهيومة حتى يعرضوا على النار يطأونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا


ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن
ثم رأيت نساء معلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم
قال ثم صعد بي إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا
قال ثم أصعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر قلت من هذا يا جبريل قال هذا أخوك يوسف بن يعقوب ثم أصعد بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها رجل فسألته من هو فقال هذا إدريس قال يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورفعناه مكانا عليا ( مريم 57 )
قال ثم أصعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية عظيم العثنون لم أر كهلا أجمل منه قلت من هذا يا جبريل قال هذا المحبب في قومه هارون بن عمران
قال ثم أصعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها رجل آدم طويل أقني كأنه من رجال شنوءة فقلت من هذا جبريل قال هذا أخوك موسى بن عمران
ثم أصعد بي إلى السماء السابعة فإذا كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة لم أر
رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه قلت من هذا يا جبريل قال هذا أبوك إبراهيم
ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها لمن أنت وقد أعجبتني فقالت لزيد بن حارثة فبشر بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيدا
ومن حديث عبد الله بن مسعود أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن في دخولها من هذا يا جبريل فيقول محمد فيقولون أو قد بعث فيقول نعم فيقولون حياه الله من أخ وصاحب
حتى انتهى به إلى السماء السابعة ثم انتهى به إلى ربه ففرض عليه خمسين صلاة كل يوم


قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأقبلت راجعا فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم سألني كم فرض عليك من الصلاة فقلت خمسين صلاة في كل يوم قال إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك فسله أن يخفف عنك وعن أمتك فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه فأرجع فأسأل حتى انتهيت إلى أن وضع عني ذلك إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة
ثم رجعت على موسى فقال لي مثل ذلك فقلت قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه فما أنا بفاعل
فمن أداهن منكم إيمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة
قال ابن إسحاق فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله صابرا محتسبا مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقي منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء وكان عظماء المستهزئين خمسة نفر من قومه وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم
الأسود بن المطلب الأسدي أبو زمعة وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه به فقال اللهم أعم بصره وأثكله ولده
والأسود بن عبد يغوث الزهري والوليد بن المغيرة المخزومي و العاص بن وائل السهمي والحارث بن الطلاطلة الخزاعي
فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} الاستهزاء أنزل الله عليه فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ( الحجر 94 - 96 )
فأتي جبريل عليه السلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم يطوفون بالبيت فقام وقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى جنبه فمر به الأسود بن المطلب فرمي في وجهه بورقة خضراء فعمي وسيأتي بعد أنه أصيب له يوم بدر ثلاثة من ولده ابناه زمعة وعقيل وابن ابنه الحارث بن زمعة فاستوفى الله سبحانه بذلك فيه لرسوله {صلى الله عليه وسلم} إجابة دعوته عليه بالعمي والثكل
ثم مر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حبنا


وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل إنا كفيناك المستهزئين ( الحجر 95 ) نزل جبريل عليه السلام فحنا ظهر الأسود بن عبد يغوث الزهري فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خالي خالي فقال له جبريل خله عنك ثم حناه حتى قتله
قال ابن إسحاق ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى اثر جرح بأسفل كعب رجله أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجر سبله فانتقض به فقتله
ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته
و مر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا فقتله
قال وكان النفر الذين يؤذون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بيته أبو لهب والحكم بن أبي العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط وعدي ابن حمراء الثقفي وابن الأصداء الهذلي وكانوا جيرانه لم يسلم أحد منهم إلا الحكم
فكان أحدهم فيما ذكر لي يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له حتى اتخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حجرا يستتر به منهم إذا صلى
فكان {صلى الله عليه وسلم} إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق
قال ابن إسحاق ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد فتتابعت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المصائب بهلك خديجة وكانت له وزير صدق على الإسلام يسكن إليها وبمهلك أبي طالب عمه وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا فدخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لها لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك ويقول بين ذلك ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب


قال ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قال بعضها لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه ولنعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا
فمشوا إلى أبي طالب فكلموه وهم أشراف قومه عتبة وشيبة ابنا ربيعة
وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم فقالوا يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه
فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال يا بن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال أبو جهل نعم وأبيك وعشر كلمات قال تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه
قال فصفقوا بأيديهم ثم قالوا أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب
ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا
فقال أبو طالب لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} والله يا بن أخي ما رأيتك سألتهم شططا فلما قالها طمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه فجعل يقول له أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة فلما رأى حرص رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال يا بن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلي بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقتلها لا أقولها إلا لأسرك بها
فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنيه فقال يا بن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لم أسمع
وخرج مسلم بن الحجاج من صحيحه من حديث المسيب بن حزن قال لما


حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فوجد عنده أبا جهل وعبد الله ابن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب
فلم يزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبي أن يقول لا إله إلا الله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( التوبة 113 ) وأنزل في أبي طالب فقال لرسوله {صلى الله عليه وسلم} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ( القصص 56 )
وفي الصحيح أيضا أن العباس قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح
وفيه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه
وعن ابن عباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه
ويروي أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم السيد المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا احتزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة


ولهم به إليكم الوسيلة وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة صلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإن في صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعي وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيها محبة في الخاص ومكرمة في العام وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن وأيم الله لكأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أخطأهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منهم سبيله إلا رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهي

ذكر خروج النبي {صلى الله عليه وسلم} إلى الطائف بعد مهلك عمه أبي طالب قال ابن إسحاق ولما هلك أبو طالب ونالت قريش من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما لم تكن تنال منه في حياته خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الطائف وحده يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل ومسعود وخبيب بنو عمرو بن عمير ابن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح
فجلس إليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه


فقال له أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك
فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقد قال لهم فيما ذكر لي إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وكره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبلغ قومه فيذئرهم ذلك عليه
فلم يفعلوا أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس
قال موسى بن عقبة وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه
وزاد سليمان التيمي أنه {صلى الله عليه وسلم} كان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشي رجموه وهم يضحكون
قال ابن عقبة فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع وإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله
وذكر ابن إسحاق أن الحائط كان لهما وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما اطمأن يعني في ظل الحبلة قال اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك


قال فلما رآه ابنا ربيعة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس فقالا له خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال له كل فلما وضع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه يده قال بسم الله ثم أكل فنظر عداس في وجهه ثم قال له والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك قال نصراني وأنا من أهل نينوي فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمن قرية الرجل الصالح يونس ابن متى قال له عداس وما يدريك ما يونس ابن متى قال
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقبل رأسه ويديه وقدميه فلما جاءهما عداس قالا له ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي قالا ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه
وقد خرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي {صلى الله عليه وسلم} هل أتي عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد
فقال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني وقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم
فناداني ملك الجبال فسلم علي فقال يا محمد ذلك لك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا


وذكر ابن هشام أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته سار إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس ابن شريق ليجيره فقال أنا حليف والحليف لا يجير فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال إن بني عامر لا تجير على بني كعب فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد ثم
بعث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن ادخل فدخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله
ولأجل هذه السابقة التي سبقت للمطعم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أساري بدر لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتني لتركتهم له
وفي انصراف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف مر به النفر من الجن الذين ذكر الله تعالى في كتابه ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنخلة قد قام من جوف الليل يصلي فمر به أولئك النفر من الجن فيما ذكر ابن إسحاق قال وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا فقص الله خبرهم عليه {صلى الله عليه وسلم} قال عز من قائل وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ( الاحقاف 29 - 30 )
ذكر عرض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نفسه على قبائل العرب
قال ابن إسحاق ثم قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعرض نفسه في المواسم إذا كانت على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به


قال ربيعة بن عباد الدؤلي إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقف على منازل القبائل من العرب فيقول يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية فإذا فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل يا بني فلان إن هذا يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه
قال ربيعة فقلت لأبي من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما قال قال هذا عمه عبد العزي بن عبد المطلب أبو لهب
وعن غير ربيعة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتى كندة في منازلهم فدعاهم إلى الله
وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه وأتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول لهم يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم وعرض نفسه على بني حنيفة فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم
ذكر الواقدي بإسناد له عن عامر بن سلمه الحنفي وكان قد أسلم في آخر عمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال نسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا الجنة لقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ وبمجنة وبذي المجاز يدعونا إلى الله عز وجل وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه ويشرط لنا الجنة فما استجبنا له ولا رددنا جميلا لقد أفحشنا عليه وحلم عنا
قال عامر فرجعت إلى حجر في أول عام فقال لي هوذة بن علي هل كان في موسمكم هذا خبر فقلت رجل من قريش يطوف على القبائل يدعوهم إلى الله وحده وإلى أن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة فقال هوذة من أي قريش قلت هو من أوسطهم نسبا من بني عبد المطلب


قال هوذة أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قلت هو هو قال أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا فقلت ها هنا قط من بين البلدان قال وغير ما ها هنا
ثم وافيت السنة الثانية فقدمت حجرا فقال ما فعل الرجل فقلت رأيته على حاله في العام الماضي قال ثم وافيت في السنة الثالثة وهي آخر ما رأيته وإذا بأمره قد أمر وإذا ذكره كثير من الناس وأسمع أن الخزرج تبعته فقدمت حجرا فقال لي هوذة ما فعل الرجل فقلت رأيت أمره قد أمر ورأيت قومه عليه أشداء فقال هوذة هو الذي قلت لك ولو أنا تبعناه كان خيرا لنا ولكنا نضن بملكنا وكان قومه قد توجوه وملكوه
قال عامر فمر بي سليط بن عمرو العامري حين بعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى هوذة فضيفته وأكرمته وأخبرني من خبر هوذة أنه لم يسلم وقد رد ردا دون رد
قال فأخبرت سليطا خبري لهوذة فأخبره سليط رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأسلم عامر ابن سلمة ومات هوذة بن علي سنة ثمان من الهجرة كافرا على نصرانيته
ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني عبس إلى الإسلام فلم يقبلوا


قال أبو وابصة العبسي فيما ذكر الواقدي جاءنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في منزلنا بمنى فدعانا إلى الله فو الله ما استجبنا له وما خير لنا وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا أحلف بالله لو صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط رحالنا لكان الرأي فقال له القوم من بين العرب نفعل هذا قال نعم من بين العرب فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ فقال له القوم دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به وطمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ميسرة فكلمه فقال ميسرة ما أحسن كلامك وأنوره ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخرج القوم صادرين إلى أهليهم فقال لهم ميسرة ميلوا بنا إلى فدك فإن بها يهود نسألهم عن هذا الرجل فمالوا إلى يهود فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} الأمي العربي يركب الحمار ويجتزيء بالكسرة وليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط في عينيه حمرة مشرب اللون قالوا فإن كان هذا الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه ولنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى في العرب أحد إلا تبعه أو قتله فكونوا ممن يتبعه قال ميسرة يا قوم والله ما بقي شيء إن هذا لأمر بين قال القوم نرجع إلى الموسم ونلقاه ورجع القوم إلى بلادهم فأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقيه ميسرة فعرفه فقال يا رسول الله والله ما زلت حريصا على اتباعك منذ يوم رأيتك أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله عز وجل إلا ما ترى من تأخر إسلامي وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مات على غير الإسلام فهو في النار فقال ميسرة الحمد لله الذي تنقدني فأسلم فحسن إسلامه وكان له عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه مكان


وعن ابن إسحاق أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له أرأيت إن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك
قال الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء
قال أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم موسمهم فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا
فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال يا بني عامر هل لنا من تلاف هل لذباباها من مطلب والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق فأين رأسكم كان عنكم
وزاد الواقدي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما قام عن بني عامر وانصرف إلى راحلته ليركبها أتاه بيجرة ونسبه الواقدي بيجرة بن عبد الله بن سلمة ورجلان معه فنخسوا به راحلته حتى سقط عنها ويقال قطعوا بطان راحلته
قال فقامت امرأة منهم يقال لها ضباعة بنت قرط وكانت قد أسلمت وكانت تحت عبد الله بن جدعان فكرهته ففارقها وخلف عليها بعده هشام بن المغيرة وهي أم ابنه سلمة وصاحت يا بني عامر أيؤذي محمد وأنا شاهدة فقام إليهم غطيف وغطفان ابنا سهيل وعذرة بن عبد الله بن سلمة بن
قشير فضربوهم حتى هزموهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين رآهم صنعوا ما صنعوا اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء الآخرين فأسلم الذين بارك عليهم جميعا ومات الذين لعن وهم كفار


وذكر الواقدي أيضا من حديث جهم بن أبي جهم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقف على بني عامر يدعوهم إلى الله فقام رجل منهم فقال له عجبا لك والله أعياك قومك ثم أعياك أحياء العرب كلها حتى تأتينا وتردد علينا مرة بعد مرة والله لأجعلنك حديثا لأهل الموسم
ونهض إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان جالسا فكسر الله عز وجل ساقه فجعل يصيح من رجله وانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنه
قال الواقدي بإسناد ذكره وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غسان في منازلهم بعكاظ وهم جماعة كثيرة فجلس إليهم فدعاهم إلى الله تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا
قال وأن تمنعوا لي ظهري حتى أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة
فقال رجل منهم هذا والله يا قوم الذي تذكر النصارى في كتبها والذي يقولون بقي من الأنبياء نبي اسمه أحمد فتعالوا نؤمن به ونتبعه فنكون من أنصاره وأوليائه فإنهم يزعمون أنه يظهر على ما بلغ الخف والحافر فيجتمع لنا شرف الدنيا مع ما يكون بعد الموت
قال القوم فنكون نحن أول العرب دخل في هذا الأمر فتنصب لنا العرب قاطبة ويبلغ ملوك بني الأصفر فيخرجوننا من ديارهم ولكننا نقف عنه وننظر ما تصنع العرب ثم ندخل فيما يدخل فيه الناس
قال الرجل يا محمد تأبي عشيرتي أن يتبعوا قولي فيك ولو أطاعوني رشدوا
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن هذه القلوب بيد الله عز وجل
فانصرف عنهم ثم عاد بعد ذلك إليهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا نرجع إلى من وراءنا ثم نلقاك قابلا
فرجعوا فوفد منهم نفر إلى الحارث بن أبي شمر فذكروا له أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال الحارث إياكم أن يتبعه رجل منكم إذا يبيد ملكي من الشام ويتهمني هرقل
قال فأمسكوا عن ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم}


قال وأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني محارب بن خصفة بعكاظ فوجدهم في محالهم فيهم شيخ منهم وهو جالس في أصحابه فنزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن راحلته ودعا إلى الله وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه فرد على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أقبح الرد وقال له عجبا لك يأبى قومك أن يتبعوك وتأتي إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم اذهب فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر
ويقبل إليه سفيه منهم فقال يا محمد ما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فلعمري إنك لتدعي من العلم أعظم مما سألتك عنه تزعم أن الله يوحي إليك ويكلمك
فأسكت عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وأقبل إليه رجل منهم يقال له سلمة بن قيس وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالسا قريبا من منزلهم فأراد أن يطرحه في البئر فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتنحى عن البئر فجعل سلمة يقول لو وقعت في البئر استراح منك أهل الموسم
وأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بزمام راحلته يقودها وهم يرمونها بالحجارة حتى تواري عنهم وهو يقول اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا وإن قلوبهم بيدك وأنت أعلم بهم فإن كان هذا عن سخط بك علي فلك العتبي ولا حول ولا قوة إلا بك
وذكر قاسم بن ثابت بن حزم العوفي من حديث عبد الله بن عباس عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لما أمر الله ورسوله {صلى الله عليه وسلم} أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وكان رجلا نسابة ومقدما في كل خير
فقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال ومن أي ربيعة أمن هامتها أم من لهازمها قالوا بل من هامتها العظمى قال وأي هامتها العظمى أنتم قالوا ذهل الأكبر
فذكر الحديث في مناسبة أبي بكر إياهم ومقاولته لهم وانبراء دغفل بن حنظلة النسابة إليهم من بينهم وهو يومئذ غلام حين بقل وجهه وموافقته لأبي بكر حتى اجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو حديث مشهور تركته لشهرته مع أن المقصود فيما بعده


قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم وكان مقدما في كل خير فقال ممن القوم قالوا من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر في قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر
فقال له أبو بكر كيف العدد فيكم قال له مفروق إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة فقال أبو بكر فكيف المنعة فيكم قال علينا الجهد ولكل قوم جد قال أبو بكر فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا لعلك أخو قرش
فقال أبو بكر أوقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا
فقال مفروق قد بلغنا أنه يذكر ذلك فالإم تدعو يا أخا قريش
فتقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وإلى أن تؤوني وتنصروني فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد
فقال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش
فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( الأنعام 151 9
فقال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( النحل 90 )


فقال مفروق دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانيء بن قبيصة
فقال وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا
فقال هانئ قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا
فقال المثنى قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ ابن قبيصة في ترك ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإنما منزلنا بين صريي اليمامة والسمامة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما هذان الصريان فقال أنهار كسرى ومياه العرب فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه
هو مما تكرهه الملوك فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه
فقال النعمان اللهم لك ذا
فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( الأحزاب 45 )
ثم نهض النبي {صلى الله عليه وسلم} فأخذ بيدي فقال يا أبا بكر يا أبا حسن أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم


قال ابن إسحاق فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله تعالى من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده
وقدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعاه إلى الله وإلى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معي
قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما الذي معك قال مجلة لقمان يعني حكمة لقمان
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اعرضها علي فعرضها عليه فقال إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله علي هو هدى ونور
فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا القول حسن
ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل بعاث
فإن كان رجال من قومه ليقولون إنا لنراه قد قتل وهو مسلم
وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره و شرفه ونسبه وهو القائل
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى
مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهدا
وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه
نميمة غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم
من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
فرشني بخير طال ما قد بريتني
وخير الموالي من يريش ولا يبري
الطويل
ولما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم هل لكم في خير مما جئتم له فقالوا له وما ذاك قال أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأنزل علي الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن
فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا أي قوم هذا والله خير لكم مما جئتم له


فيأخذ أبو الحيسر جفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا
فصمت إياس وقام عنهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج
ثم لم يلبث إياس أن هلك فأخبر من حضر من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات
فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما سمع
بدء إسلام الأنصار وذكر العقبة الأولى
قال ابن إسحاق فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعوده له خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا فقال لهم من أنتم قالوا نفر من الخزرج
قال أمن موالي يهود قالوا نعم قال أفلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن
وكان مما صنع الله به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا قد عزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم
فلما كلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه
فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا


وهم فيما ذكر لي ستة نفر من الخزرج منهم من بني النجار أسعد بن زرارة أبو أمامة وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء ومن بني زريق رافع بن مالك بن العجلان ومن بني سلمة قطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر ابن نابي وجابر بن عبد الله بن رئاب
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
حتى إذا كان العام المقبل وافي الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فيهم من الستة المسمين قبل أبو أمامة وعوف ورافع و قطبة و عقبة ومن غير الستة من الخزرج أيضا ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزرقي وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة من بني غصينة من بلى حليف لهم والعباس بن عبادة بن نضلة العجلاني ومعاذ بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء ومن الأوس أبو الهيثم ابن مالك بن التيهان وعويم بن ساعدة فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى
قال عبادة بن الصامت كنت ممن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا بايعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي بهتانا نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف
قال فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر
قال ابن إسحاق فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معهم مصعب
ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين فكان مصعب يسمى المقرئ بالمدينة وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة وكان يصلي بهم وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض
إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير علي يدي مصعب بن عمير رضي الله عنه


ذكر ابن إسحاق عمن سمي من شيوخه أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب ابن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم
فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما يومئذ سيدا قومهما بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه قال سعد لأسيد لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما
فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه
قال فوقف عليهما متشتما فقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة
فقال له مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره
قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا فيما ذكر عنهما والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله
ثم قال ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين قالا له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تتشهد شهادة الحق ثم تصلي
فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ
ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به
فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك


فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذي ذكر له من بني حارثة فأخذ الحربة من يده ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئا
ثم خرج إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال يا أبا أمامه والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني أتغشانا في دارينا بما نكره
وقد قال أسعد لمصعب بن عمير أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان
فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره
قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن
قالا فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله ثم قال لهما كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين
قالا تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين
فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به
فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا أفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة قال فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله
قال فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة
وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومضى بدر وأحد والخندق وقال فيما رأى من الإسلام وما اختلف الناس فيه من أمره
أرب الناس أشياء ألمت
يلف الصعب منها بالذلول


أرب الناس إما إن ضللنا
فيسرنا لمعروف السبيل
فلولا ربنا كنا يهودا
وما دين اليهود بذي شكول
ولولا ربنا كنا نصارى
مع الرهبان في جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذ خلقنا
حنيفا ديننا عن كل جيل
نسوق الهدي ترسف مذعنات
مكشفة المناكب في الجلول
الوافر

ذكر العقبة الثانية قال ابن إسحاق ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله
حدث كعب بن مالك وكان ممن شهد العقبة وبايع بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال لنا البراء يا هؤلاء إني قد رأيت رأيا و والله ما أدري أتوافقوني عليه أم لا فقلنا وما ذاك قال رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر يعني الكعبة وأن أصلي إليها فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه فقال إني لمصل إليها فقلنا له لكنا لا نفعل
فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة فلما قدمناها وقد كنا عبنا عليه ما صنع قال لي يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه
فخرجنا نسأل عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عنه فقال هل تعرفانه فقلنا لا فقال هل تعرفان العباس عمه قلنا نعم وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس
فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس معه فسلمنا ثم


جلسنا إليه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للعباس هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال نعم هذ البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك
فوالله ما أنسى قول رسول الله ألشاعر قال نعم فقال له البراء بن معرور {صلى الله عليه وسلم} يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر إليها وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي منه شيء فماذا ترى يا رسول الله
قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها
فرجع البراء إلى قبلة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصلى معنا إلى الشام
قال وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات وليس كما قالوا نحن أعلم به منهم
قال كعب ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العقبة من أوسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بمبعاد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إيانا العقبة فأسلم وشهد معنا وكان نقيبا فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار وأسماء بنت عدي بن عمرو بن نابي أم منيع إحدى نساء بني سلمة فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى جاءنا ومعه عمه العباس وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له
فلما جلس كان أول متكلم العباس فقال يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها إن محمدا منا


حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده
فقلنا له قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت
فتكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر
فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا ونحن قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا
قال فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم
قال كعب وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس من الخزرج أبو أمامة أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك بن العجلان و البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة بن دليم والمنذر بن عمرو ومن الأوس أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر
قال ابن هشام وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي قالوا نعم


وحدث عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سالم بن عوف يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل قالوا نعم قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة
قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة
قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه
قال عاصم والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أعناقهم وقال غيره ما قاله إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم فالله أعلم أي ذلك كان
قال ابن إسحاق فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده وبنو عبد الأشهل يقولون بل أبو الهيثم بن التيهان
وفي حديث معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه قال كان أول من ضرب على يد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} البراء بن معرور ثم بايع القوم فلما بايعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صرح الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط يا أهل الجباجب وهي المنازل هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب ويقال ابن أزيب أتسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارفضوا إلى رحالكم فقال له العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لم أومر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها


فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم
فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموه وبعضنا ينظر إلى بعض
ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام المخزومي وعليه نعلان له جديدان فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا أبا جابر ما تستطيع وأنت سيد من ساداتنا أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي فقال والله لتنتعلنهما
قال يقول أبو جابر مه أحفظت والله الفتى فاردد إليه نعليه قلت والله لا أردهما فأل والله صالح والله لئن صدق الفأل لأسلبنه
وفي حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم إن هذا لأمر جسيم ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل هذا وما علمته كان فانصرفوا عنه
ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان وخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة وكلاهما كان نقيبا فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه
إلى عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته وكان ذا شعر كثير
قال سعد فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش فيهم رجل وضيء أبيض شعشاع حلو من الرجال
قال فقلت في نفسي إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا
فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي لا والله ما عندهم بعد هذا من خير


فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوي إلي رجل ممن معهم فقال لي ويحك أما بينك وبين أحد من قريش تجارة ولا عهد فقلت بلى والله لقد كنت أجيز لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية قال ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما
قال ففعلت وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما عند الكعبة فقال لهما إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ليهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوارا قالا ومن هو قال سعد بن عبادة قالا صدق والله إن كان ليجيز لنا تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده
قال فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو
قال ابن هشام والذي أوى له أبو البحتري بن هشام
قال ابن إسحاق فكان أول شعر قيل في الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر قال
تداركت سعدا عنوة فأخذته
وكان شفاء لو تداركت منذرا
ولو نلته ظلت هناك جراحة
وكان حقيقا أن يهان ويهدرا
الطويل
فأجابه حسان بن ثابت فقال
ولست إلى عمرو ولا المرء منذر
إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا
فلولا أبو وهب لمرت قصائد
على شرف البرقاء يهوين حسرا
أتفخر بالكتان لما لبسته
وقد تلبس الأنباط ريطا مقصرا
فلا تك كالوسنان يحلم أنه
بقرية كسرى أو بقرية قيصرا
ولا تك كالثكلى وكانت بمعزل
عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا
ولا تك كالشاة التي كان حتفها
بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا
ولا تك كالعاوي فأقبل نحره
ولم يخشه سهم من النبل مضمرا
فإنا ومن يهدي القصائد نحونا
كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا
الطويل


قال فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم عمرو بن الجموح وكان ابنه معاذ شهد العقبة وبايع بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان عمرو سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناة كما كانت الأشراف يصنعون يتخذه إلها يعظمه ويطهره فلما أسلم فتيان بني سلمة ابنه معاذ ومعاذ بن جبل في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه فإذا أصبح عمرو قال ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثم قال أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته فإذا أمسي ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهره ويطيبه ثم
يعدون عليه إذا أمسي فيفعلون به مثل ذلك فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسي ونام عمرو عدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه فخرج يتتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف يذكر صنمه ذلك وما أبصره من أمره ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمي والضلالة
والله لو كنت إلها لم تكن
أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلها مستدن
الآن فتشناك من سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن
الواهب الرازق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن
أكون في ظلمة قبر مرتهن
الرجز


قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل فكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم فهم من بين مفتون في دينه وبين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد منهم بأرض الحبشة ومنهم بالمدينة وفي كل وجه
فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه أذن الله تبارك وتعالى لرسوله {صلى الله عليه وسلم} في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم
فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن
بغى عليهم فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء قول الله تبارك وتعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( الحج 39 - 41 )
ثم أنزل الله عليه وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون الدين الله ( البقرة 1935 ) أي وحتى يعبد الله لا يعبد غيره
بدء الهجرة إلى المدينة
قال ابن إسحاق فلما أذن الله تبارك وتعالى لرسوله في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أصحابه من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها


فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة
فكان أول من هاجر إليها من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قريش من بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد هاجر إليها قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة وكان قدم مكة من أرض الحبشة فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجرا
قالت أم سلمة لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه وحمل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج بي يقود بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد
قالت فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة فقالوا لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا فتجابذوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد
وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة ألا تحرجون من هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها
فقالوا لي الحقي بزوجك إن شئت ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني فارتحلت بعيري ثم أخذت بني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله قلت أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي
حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال إلى أين يا بنت أبي أمية قلت أريد زوجي بالمدينة قال أو ما معك أحد قلت لا والله إلا الله وبني هذا قال والله مالك من مترك


فأخذ بخطام البعير يقودني معه يهوي بي فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله ثم استأخر عني فقال اركبي فإذا ركبت واستويت علي بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي
فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظرنا إلى قرية بني عمرو بن عوف وكان أبو سلمة بها قال زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله
ثم انصرف راجعا إلى مكة
فكانت أم سلمة تقول ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة وما رأيت صاحبا كان أكرم من عثمان بن طلحة
قال ابن إسحاق ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة
عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم ثم عبد الله بن جحش بن رئاب من بني غنم بن ذودان بن أسد بن خزيمة حليف بني أمية بن عبد شمس احتمل بأهله وبأخيه أبي أحمد عبيد بن جحش وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد وكان شاعرا وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب
فغلقت دار بني جحش هجرة فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن فتنفس الصعداء ثم قال
وكل دار وإن طالت سلامتها
يوما ستدركها النكباء والحوب
البسيط
ولما خرج بنو جحش من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي فذكر ذلك عبد الله بن جحش لما بلغه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها قال بلى قال فذلك لك


فلما افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال الناس لأبي أحمد يا أبا أحمد إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله فأمسك عن كلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وكان بنو غنم بن ذودان أهل الإسلام قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هجرة رجالهم ونساءهم فقال أبو أحمد بن جحش يذكر هجرة بني أسد بن خزيمة من قومه إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله وإيعابهم في ذلك حين دعوا إلى الهجرة
ولو حلفت بين الصفا أم أحمد
ومروتها بالله برت يمينها
لنحن الأولى كنا بها ثم لم نزل
بمكة حتى عاد غثا سمينها
بها خيمت غنم بن ذودان وانبنت
وما أرعدت غنم وخف قطينها
إلى الله تعدو بين مثنى وواحد
ودين رسول الله بالحق دينها
الطويل
وقال أبو أحمد أيضا
ولما رأتني أم أحمد غاديا
بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لا بد فاعلا
فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب
فقلت لها ما يثرب بمظنة
وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي والرسول ومن يقم
إلى الله يوما وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم مناصح
وناصحة تبكي بدمع وتندب
يرى أن وترا نأينا عن بلادنا
ونحن نرى أن الرغائب نطلب
دعوت بني غنم لحقن دمائهم
وللحق لما لاح للناس ملحب
أجابوا بحمد الله لما دعاهم
إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا
وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى
أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا
كفوجين أما منهما فموفق
على الحق مهدي وفوج معذب
طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم
عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا
ورغنا إلي قول النبي محمد
فطاب ولاة الحق منا وطيبوا
نمت بأرحام إليهم قريبة
ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب
فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم
وأية صهر بعد صهري يرقب
ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا
وزيل أمر الناس للحق أصوب
الطويل
ثم خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعياش بن أبي ربيعة المخزومي حتى قدما المدينة


قال عمر رضي الله عنه لما أردنا الهجرة إلى المدينة اتعدت أنا وعياش ابن أبي ربيعة وهشام بن العاص التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف وقلنا أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه فأصبحت أنا وعياش عندها وحبس عنا هشام وفتن فاتتن
فلما قدمنا المدينة نزلنا بقباء وخرج أبو جهل والحارث أخوه إلى عياش وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا فقالا له إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك
فرق لها فقلت له يا عياش والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت
فقال أبر قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه
قلت والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهما
فأبى علي إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قلت أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها
فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه قال بلى قال فأناخ وأناخا ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن
وفي غير حديث عمر أنهما دخلا به مكة نهارا موثقا ثم قالا يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا
قال عمر رضي الله عنه في حديثه فكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة أنزل الله تبارك وتعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم


من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ) ( الزمر 53 )
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص
قال فقال هشام لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت اللهم فهمنيها فألقى الله في قلبي أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة
هذا ما ذكر ابن إسحاق في شأن هشام
وذكر ابن هشام عمن يثق به أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال وهو بالمدينة من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة أنا لك يا رسول الله بهما فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها أين تريدين يا أمة الله فقالت أريد هذين المسجونين تعنيهما فتبعها حتى عرف موضعيهما وكانا محبوسين في بيت لا سقف له فلما أمسي تسور عليهما ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهماثم ضربهما بسيفه فقطعهما فكان يقال لسيفه ذو المروة لذلك
ثم حملهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت إصبعه فقال
( هل انت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت ) السريع
ثم قدما بهما المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ثم تتابع المهاجرون أرسالا فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف بالسبخ ويقال بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة
قال ابن هشام وذكر لي أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش
أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغته ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك
فقال لهم صهيب أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي قالوا نعم قال فإني قد جعلت لكم مالي
فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ربح صهيب ربح صهيب
قال ابن إسحاق وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه أحد بمكة من المهاجرين إلا من حبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق


وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فيقول له لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكونه
ولما رأت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعرفوا أنه مجمع لحربهم
فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون ما يصنعون في أمره
فاعترض لهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بت فوقف على باب الدار في اليوم الذي اتعدوا له ويسمى يوم الزحمة فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش وغيرهم
فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا
فتشاوروا ثم قال قائل احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم
فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره
فتشاوروا ثم قال قائل منهم نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا وألفتنا كما كانت


قال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال لما يأتي به والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد أديروا فيه رأيا غير هذا
فقال أبو جهل والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد
قالوا وما هو يا أبا الحكم
قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسبيا وسيطا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم
فقال الشيخ النجدي القول ما قاله الرجل هو الرأي لا رأي غيره
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له
فأتي جبريل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه
فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسج بردى هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينام في برده ذلك إذا نام
فاجتمعوا له وفيهم أبو جهل فقال وهو على بابه إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان لكم فيه ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها
وخرج عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال نعم أنا الذي أقول ذلك أنت أحدهم


وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه وجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين إلى قوله تعالى وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ( يس 9 )
حتى فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنتظرون ها هنا قالوا محمدا قال خيبكم الله قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفلا ترون ما بكم
فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يطلعون
فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقولون والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا
فكان مما أنزل الله من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قول الله سبحانه وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( الأنفال 30 )
وأذن الله تبارك وتعالى عند ذلك لنبيه في الهجرة

ذكر الحديث عن خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبي بكر الصديق رضي الله عنه مهاجرين إلى المدينة حدث عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت كان لا يخطئ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهراني قومه أتانا بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها قالت فلما رآه أبو بكر قال ما جاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذه الساعة إلا من حدث
فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرج عني من عندك فقال يا نبي الله إنما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمي
فقال إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة


فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال الصحبة
قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ
ثم قال يا نبي الله إن هاتين الراحلتين قد كنت أعددتهما لهذا
وكان أبو بكر رجلا ذا مال فكان حين استأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فقال له لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا قد طمع بأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك
واستأجر عبد الله بن أريقط رجلا من بنى الديل بن بكر وكان مشركا يدلهما الطريق ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما
قال ابن إسحاق ولم يعلم بخروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرج أحد إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر
أما علي فإن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخبره بخروجه وأمر أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الودائع التي كانت عنده للناس ولم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته
فلما أجمع عليه السلام الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور جبل بأسفل مكة فدخلاه
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر فكان يفعل ذلك وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار فكان عامر يرعى في رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما فاحتلبا وذبحا فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندها إلى مكة تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفي عليه وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام بما يصلحهما
وذكر ابن هشام عن الحسن بن أبي الحسن قال انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر إلى الغار ليلا فدخل أبو بكر قبله فلمس الغار لينظر فيه سبع أو حية يقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنفسه


ولما فقدت قريش رسول الله {صلى الله عليه وسلم} طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة يتبعون أثره في كل وجه فوجد الذي ذهب قبل ثور أثره هناك فلم يزل يتبعه حتى انقطع له لما انتهى إلى ثور وشق على قريش خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنهم وجزعوا لذلك فطفقوا يطلبونه بأنفسهم فيما قرب منهم ويرسلون من يطلبه فيما بعد عنهم وجعلوا مائة ناقة لمن رده عليهم ولما انتهوا إلى فم الغار وقد كانت العنكبوت ضربت على بابه بعشاش بعضها على بعض بعد أن دخله
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكروا قال قائل منهم ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف وما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد
قالوا فنهى النبي {صلى الله عليه وسلم} يومئذ عن قتل العنكبوت وقال إنها جند من جنود الله
وخرج أبو بكر البزار في مسنده من حديث أبي مصعب المكي قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يحدثون أن النبي {صلى الله عليه وسلم} لما كان ليلة بات في الغار أمر الله تبارك وتعالى شجرة فنبتت في وجه الغار فسترت وجه النبي {صلى الله عليه وسلم} وأمر الله العنكبوت فنسجت علي وجه الغار وأمر الله عز وجل حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار وأتى المشركون من كل بطن حتى إذا كانوا من النبي {صلى الله عليه وسلم} على قدر أربعين ذراعا معهم قسيهم وعصيهم تقدم رجل منهم فنظر فرأى الحمامتين فرجع فقال لأصحابه ليس في الغار شيء رأيت حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد
فسمع قوله النبي {صلى الله عليه وسلم} فعرف أن الله قد درأ بهما عنه فشمت عليهما وفرض جزاءهما واتخذت في حرم الله ففرخن أحسبه قال فأصل كل حمام في الحرم من فراخهما
وذكر قاسم بن ثابت فيما تولى شرحه من الحديث أن الله أنبت الراءة على باب الغار لما دخله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر رضي الله عنه قال وهي شجرة معروفة
قال غيره تكون مثل قامة الإنسان ولها زهر أبيض تحشى به المخاد للينه وخفته
وحكى الواقدي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما دخل الغار دعا بشجرة كانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار فحجبت أعين الكفار وهم يطوفون في الجبل


وقال أبو بكر لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى
قدميه لأبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر معه في الغار ثلاثا حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيريهما وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم تعلقها به فكان يقال لها ذات النطاق لذلك فيما ذكر ابن إسحاق
وأما ابن هشام فذكر أنها إنما يقال لها ذات النطاقين وهو المشهور عنها رضي الله عنها وذكر أنه سمع غير واحد من أهل العلم يفسره بأنها شقت نطاقها باثنين فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر
قال ابن إسحاق فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قدم له أفضلهما ثم قال اركب فداك أبي وأمي فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إني لا أركب بعيرا ليس لي قال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به قال كذا وكذا قال قد أخذتها بذلك فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر خلفه مولاه عامر بن فهيرة ليخدمهما في الطريق
قال فحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فقالوا أين أبوك يا ابنة أبي بكر قلت لا أدري والله فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب
وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
الطويل
قالت أسماء فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأن وجهه إلى المدينة


وعن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد من طرق أن أم معبد هذه امرأة من بني كعب من خزاعة وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى شاة في كسر الخيمة فقال ما هذه الشاة يا أم معبد قالت شاة خلفها الجهد عن الغنم قال هل بها من لبن قالت هي أجهد من ذلك قال أتأذنين أن أحلبها قالت نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها فدعا بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت وسقي أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم ثم أراضوا ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها
فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا ضخامهن قليل فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاء عازب حيال ولا حلوب في البيت قالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال صفيه لي يا أم معبد قالت رأيت


رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم يعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره غطف وفي عنقه سطع وفي صوته صحل وفي لحيته كثافة أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء أجمل وأبهاه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ربعة لا يائس من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود لا عابس ولا مفند
قال أبو معبد هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا
وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به
فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم
به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب
يرددها في مصدر ثم مورد
الطويل
فلما سمع بذلك حسان بن ثابت جعل يجاوب الهاتف ويقول
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
وقدس من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم
وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا
عمى وهداة يهتدون بمهتدي
لقد نزلت منهم على أهل يثرب
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده
بصحبته من يسعد الله يسعد
الطويل


وذكر أبو منصور محمد بن سعد الماوردي بإسناد له إلى قيس بن النعمان قال لما انطلق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر معه يستخفيان في الغار فمرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه من اللبن فقال والله ما لي شاة تحلب غير أن ها هنا عناقا حملت أول الشاء فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ائتنا بها فدعا لها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالبركة ثم حلب عسا فسقى أبا بكر ثم حلب آخر فسقى الراعي ثم حلب فشرب
فقال العبد من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتراك إن حدثتك تكتم علي قال نعم قال فإني محمد رسول الله قال أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ قال إنهم ليقولون ذلك قال العبد فإني أشهد أنك رسول الله وأن ما جئت به الحق وأنه ليس يفعل فعلك إلا نبي ثم قال العبد أتبعك قال لا حتى تسمع بنا أنا قد ظهرنا
وخرج البرقاني في مصافحته من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وأورده الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديثه قال اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء أن يحمله إلى أهلي فقال له عازب حتى تحدثني كيف صنعت أنت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم قال
ارتحلنا من مكة فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوى إليه فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظل لها فنظرت بقية ظلها فسويته وفرشت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فروة وقلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع


ثم ذهبت أنظر ما حوله هل أرى من الطلب أحدا فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أريد يعني الظل فسألته فقلت لمن أنت يا غلام قال لفلان رجل من قريش سماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت هل أنت حالب لي قال نعم فاعتقل شاة من غنمه فأمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى يديه على الأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد رويت معي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فانتهيت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد استيقظ قلت يا رسول الله اشرب فشرب حتى رضيت وقلت قد آن الرحيل يا رسول الله
فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت قال لا تحزن إن الله معنا
قال فلما دنا فكان بيننا وبينه قدر رمحين أو ثلاثة قلت هذا الطلب يا رسول الله قد بلغنا وبكيت قال ما يبكيك فقلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك
فدعا عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم اكفناه بما شئت فساخت فرسه في الأرض إلى بطنها فوثب عنها وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجني مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا حاجة لي في إبلك ودعا له فانطلق راجعا إلى أصحابه
وفي حديث البخاري ومسلم فجعل لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما هنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا
وعن سراقة بن مالك بن جعشم فيما أورده ابن إسحاق قال لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مكة مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم
قال فبينما أنا جالس في نادي قومي أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفا إني لأراهم محمدا وأصحابه


قال فأومأت إليه يعني أن أسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم قال لعله ثم سكت
فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي وبسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها ثم انطلقت فلبست لامتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة
فركبت على أثرة فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فبينما فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فلما بدا لي القوم عثر بي فرسي وذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه ثم انتزع يديه من الأرض وتبعها دخان كالإعصار فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني وأنه ظاهر
فناديت القوم أنا سراقه بن جعشم انظروني أكلمكم فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر رضي الله عنه قل له من تبتغي قال تكتبوا لي كتابا يكون آيه بيني وبينك قال اكتب يا أبا بكر فكتب لي كتابا في عظم أو في رقعة أو في خرقة ثم ألقاه إلي فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك إليك ماذا تريد


فدنوت من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو على ناقته والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن جعشم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم وفاء وبر ادن فدنوت فأسلمت ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنه فما أذكره إلا أني قلت يا رسول الله الضالة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لأبلي هل لي من أجر في أن أسقيها قال نعم في كل ذات كبد حرى أجر
ثم رجعت إلى قومي فسقت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صدقتي
وفي حديث آخر عن غير ابن إسحاق أن سراقة بن مالك بن جعشم هذا كان شاعرا مجيدا وأنه قال يخاطب أبا جهل بن هشام بعد انصرافه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
أبا حكم والله لو كنت شاهدا
لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني
أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم
بأن جميع الناس طرا يسالمه
الطويل
وذكر ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه شعرا نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يذكر فيه مسيره مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقصة الغار وأمر سراقة وهو
قال النبي ولم يجزع يوقرني
ونحن في سدفة من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا
وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره
كيد الشياطين كادته لكفار
والله مهلكهم طرا بما كسبوا
وجاعل المنتهى منهم إلى النار
وأنت مرتحل عنهم وتاركهم
إما غدوا وإما مدلج ساري
وهاجر أرضهم حتى يكون لنا
قوم عليهم ذوو عز وأنصار
حتى إذا الليل وارتنا جوانبه
وسد دون الذي نخشى بأستار
سار الأريقط يهدينا وأنيقه
ينعين بالقرم نعيا تحت أكوار
يعسفن عرض الثتايا بعد أطولها
وكل سهب رقاق الترب موار
حتى إذا قلت قد أنجدن عارضها
من مدلج فارس في منصب وار
يردي به مشرف الأقطار معتزم
كالسيد ذي اللبدة المستأسد الضاري
فقال كروا فقلنا إن كرتنا
من دونها لك نصر الخالق الباري
إن يخسف الأرض بالأحوى وفارسه
فانظر إلى أربع في الأرض غوار


فهيل لما رأى أرساغ مقربه
قد سخن في الأرض لم تحفر بمحفار
فقال هل لكم أن تطلقوا فرسي
وتأخذوا موثقي في نصح أسرار
وأصرف الحي عنكم إن لقيتهم
وأن أعور منهم عين عوار
فادع الذي هو عنكم كف عدوتنا
يطلق جوادي وأنتم خير أبرار
فقال قولا رسول الله مبتهلا
يا رب إن كان منه غير إخفار
فنجه سالما من شر دعوتنا
ومهره مطلقا من كلم آثار
فأظهر الله إذ يدعو حوافره
وفاز فارسه من هول أخطار
البسيط
وسراقة بن مالك هذا الذي أظهر الله فيه هذا العلم العظيم من أعلام نبوة نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} قد أظهر الله فيه أثرا آخر من الأثار الشاهدة له عليه السلام بأن الله أطلعه من الغيب في حياته ما ظهر مصداقه بعد وفاته
روى سفيان بن عيينه عن أبي موسى عن الحسن أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لسراقة بن مالك كيف بك إذا لبست سواري كسرى
قال فلما أتى عمر رضي الله عنه بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة ابن مالك فألبسه إياهما
وكان سراقه رجلا أزب كثير شعر الساعدين وقال له ارفع يديك فقل الله أكبر الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بني مدلج
ورفع بها عمر رضي الله عنه صوته
قال ابن إسحاق وذكر إسنادا رفعه إلى أسماء بنت أبي بكر قالت
لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله خمسة آلاف أو ستة فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعلكم بماله مع نفسه فقلت يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا
فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه ثم قال لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم
ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك


وذكر ابن إسحاق الطريق التي سلك برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبأبي بكر الصديق رضي الله عنه دليلهما عبد الله بن أريقط والمناقل التي سار بهما عليهما إلى أن قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحى وكادت الشمس تعتدل
وقال غير ابن إسحاق قدمها لثمان خلون من ربيع الأول
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد بن أبي زهير وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلو سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والنعة قال خلوا سبيلها
حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء فلما بركت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عتها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته


ونزل عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بنى مسجده ومساكنه وسأل عن المربد لمن هو فقال له معاذ بن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان له وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا
فأمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبنى وعمل فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليرغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون و الأنصار ودأبوا فقال قائل من المسلمين
ونزل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنج ويقال على خارجة بن زيد بن أبي زهير منهم
وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنزل معه
فكان علي رضي الله عنه وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين يقول كانت بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه
قال فاستربت شأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك
قالت هذا سهل بن حنيف قد عرف أني امرأة لا أحد لي فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا
فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك في أمر سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق
قال ابن إسحاق فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم ثم أخرجه الله تعالى من بين أظهرهم يوم الجمعة
وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك فالله أعلم
فأدركت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة
فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم فقالوا يا رسول الله صلى الله عليك أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة لناقته فخلوا سبيلها


فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد بن أبي زهير وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلو سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والنعة قال خلوا سبيلها
حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء فلما بركت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عتها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته
ونزل عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بنى مسجده ومساكنه وسأل عن المربد لمن هو فقال له معاذ بن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان له وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا
فأمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبنى وعمل فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليرغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون و الأنصار ودأبوا فقال قائل من المسلمين
لئن قعدنا والنبي يعمل
لذلك منا العمل المضلل
الرجز


وحدث أبو أيوب قال لما نزل علي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو فقلت له يا نبي الله بأبي أنت وأمي إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي فاظهر أنت فكن في العلو ونزل نحن فنكون في السفل فقال يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت
فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منه شيء فيؤذيه
فكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة حتى بعثنا إليه بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا وثوما فرده رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولم أر ليده فيه أثرا فجئته فزعا فقلت يا رسول الله بأبي وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك وكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة قال إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجي فأما أنتما فكلوه فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد
قال ابن إسحاق وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم يبقى بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله {صلى الله عليه وسلم} إلا أهل دور مسمون
بنو مظعون من بني جمح وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء بني عدي بن كعب فإن دورهم غلقت بمكة هجرة ليس فيها ساكن
فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة بني له فيها مسجده ومساكنه


قال وكانت أول خطبة خطبها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن نعوذ بالله أن نقول على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما لم يقل أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك
فلينظرن يمينا وشمالا فلا ترى شيئا ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم
فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزي الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال ابن إسحاق ثم خطب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس مرة أخرى فقال إن الحمد لله أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقس عنه قلوبكم فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي فقد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم
قال ابن إسحاق وكتب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم


وآخى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل تآخوا في الله أخوين أخوين ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال هذا أخي فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب أخوين
ثم سمى ابن إسحاق نفرا ممن آخى بينهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أصحابه تركنا ذكرهم اختصارا
قال وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبنى أخذته الذبحة أو الشهقة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بئس الميت أبو أمامة ليهود ولمنافقي العرب يقولون لو كان نبيا لم يمت صاحبه ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا
ولما مات أبو أمامة اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان أبو أمامة نقيبهم فقالوا يا رسول الله إن هذا كان منا حيث قد علمت فاجعل منا رجلا مكانه يقيم في أمرنا ما كان يقيم
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنتم أخوالي وأنا أولى بكم فأنا نقيبكم وكره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يخص بها بعضهم دون بعض
فكان من فضل بني النجار الذي يعدون على قومهم أن كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نقيبهم
قال ابن إسحاق فلما اطمأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم وكان هذا الحي من الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان
وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدمها إنما يجتمع إليه الناس للصلاة في حين مواقيتها بغير دعوة فهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به المسلمين للصلاة


فبيناهم على ذلك رأى عبد الله بن زيد أخو بلحارث بن الخزرج النداء فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له يا رسول الله إنه طاف في هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس قال وما تصنع به قلت ندعوا به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على خير من ذلك قلت وما هو قال تقول الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله ألا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله
فلما أخبر بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك
فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يجر رداءه وهو يقول يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلله الحمد
وذكر ابن هشام عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب بينا هو يريد أن
يشتري خشبتين للناقوس عندما ائتمر به النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه إذ رأى في المنام أن لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا بالصلاة
فذهب عمر إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} ليخبره بالذي رأى فما راعه إلا بلال يؤذن وقد جاء النبي {صلى الله عليه وسلم} الوحي بذلك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أخبره سبقك بذلك الوحي
قال ابن إسحاق فلما اطمأنت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} داره وأظهر الله بها دينه وسره بما جمع من المهاجرين والأنصار من أهل ولايته قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس أخو بني عدي بن النجار يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى به من الإسلام وما خصهم به من نزول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليهم
ثوى في قريش بضع عشرة حجة
يذكر لو يلقي صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه
فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأنت به النوى
وكان له عونا من الله هاديا
يقص لنا ما قال نوح لقومه


وما قال موسى إذ أجاب المناديا
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا
قريبا ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره
ونعلم أن الله أفضل هاديا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
أقول إذا أدعوك في كل بيعة
تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا
أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة
حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة
وإنك لا تبقى لنفسك باقيا
فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي
إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولا تجعل النخل المقيمة ربها
إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا
الطويل
وكان أبو قيس هذا رجلا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه طامث ولا جنب وقال أعبد رب إبراهيم حتى قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير وكان قوالا بالحق معظما لله في جاهليته يقول في ذلك أشعارا حسانا هو الذي يقول
يقول أبو قيس وأصبح غاديا
ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
أوصيكم بالله والبر والتقى
وأعراضكم والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم
وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا
وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم
فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
وإن ناب غرم فادح فارفقوهم
وما حملوكم في الملمات فاحلموا
وإن أنتم أمعرتم فتعففوا
وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا
الطويل
وقال أبو قيس أيضا
سبحوا الله شرق كل صباح
طلعت شمسه وكل هلال
عالم السر والبيان لدينا
ليس ما قال ربنا بضلال
وله الطير تستدير وتأوي
في وكور من آمنات الجبال
وله الوحش بالفلاة تراها
في حقاف وفي ظلال الرمال
وله هودت يهود ودانت
كل دين إذا ذكرت عضال
وله شمس النصارى وقاموا
كل عيد لديهم واحتفال
وله الراهب الحبيس تراه
رهن بؤس وكان ناعم بال
يا بني الأرحام لا تقطعوها


وصلوها قصيرة من طوال
واتقوا الله في ضعاف اليتامي
ربما يستحل غير الحلال
واعلموا أن لليتيم وليا
عالما يهتدي بغير السؤال
ثم مال اليتيم لا تأكلوه
إن مال اليتيم يرعاه والي
يا بني النجوم لا تخزلوها
إن خزل النجوم ذو عقال
يا بني الأيام لا تأمنوها
واحذروا مكرها ومر الليالي
واعلموا أن أمرها لنفاد الخلق
ما كان من جديد وبالي
واجمعوا أمركم على البر والتقوى
وترك الخنا وأخذ الحلال
الخفيف
قال ابن إسحاق ونصب عند ذلك أحبار يهود لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم
وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج ممن كان عسى على جاهليته فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه فظهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل ونافقوا في السر فكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبي {صلى الله عليه وسلم} وجحودهم الإسلام
وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويتعنتوته ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق فكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها
وكان من حديث عبد الله بن سلام وإسلامه وكان حبرا عالما قال لما سمعت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم المدينة
فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كبرت فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيرتي خيبك الله لو كنت سمعت موسى بن عمران قادما ما زدت
فقلت لها أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به
فقالت أي ابن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة فقلت لها نعم فقالت فذاك إذا


قال ثم رحت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأسلمت ثم رجعت إلى أهلي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من يهود
ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت يا رسول الله إن يهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني
قال فأدخلني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم أي رجل الحصين بن سلام فيكم فقالوا سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا
فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه قالوا كذبت ثم وقعوا بي
فقلت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ألم أخبرك يا نبي الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور
قال فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة فحسن إسلامها
قال ابن إسحاق وكان من حديث مخيريق وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل وكان يعرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بصفته وما يجد في علمه وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد وكان يوم السبت قال يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق
قالوا إن اليوم يوم السبت قال لا سبت لكم ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه بأحد وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله
فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل وقبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمواله فعامة صدقاته بالمدينة منها
وكان {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني يقول مخيريق خير يهود


قال وحدثني عبد الله بن أبي بكر قال حدثت عن صفية ابنة حيي أنها قالت كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر لم ألقهما مع ولد لهما إلا أخذاني دونه فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة غدا عليه أبي وعمي مغلسين فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهويني فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي أهو هو قال نعم والله قال أتعرفه وتثبته قال نعم قال فما في نفسك منه قال عداوته والله ما بقيت
وكان هذان الأخوان الشقيان من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله {صلى الله عليه وسلم} فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله عز وجل فيهما ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ( البقرة 109 )
ومر شأس بن قيس وكان شيخا قد عمى عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار
فأمر شابا من يهود كان معه فقال اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس وكان عليها يومئذ حضير أبو أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي فقتلا جميعا


ففعل الشاب ما أمره به شأس فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظي وجبار بن صخر فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم رددناها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا موعدكم الظاهرة وهي الحرة السلاح السلاح
فخرجوا إليها وبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم
فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سامعين مطيعين وقد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس
فأنزل الله تبارك وتعالى في شأن شأس وما صنع يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن
سبيل الله من آمن تبغونهاعوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ) ( آل عمران 99 )
وأنزل الله في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقانه ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ( آل عمران 100 - 103 )


قال وحدثت عن سعيد بن جبير أنه قال أتي رهط من يهود رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا له يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه قال فغضب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه فجاءه جبريل فسكنه فقال خفض عليك يا محمد وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
فلما تلاها عليهم قالوا فصف لنا يا محمد كيف خلقه كيف ذراعة كيف عضده
فغضب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشد من غضبه الأول وساورهم فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال أول مرة وجاءه من الله تبارك وتعالى بجواب ما سألوه عنه يقول الله جل وعلا وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ( الزمر 67 )
ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدارس على يهود فوجد منهم
ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر من أحبارهم يقال له أشيع
فقال أبو بكر لفنحاص ويلك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل
فقال فنحاص لأبي بكر والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه إلينا كما يتضرع وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا
فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله
فذهب فنحاص إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال أبو بكر يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما إنه زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه
فجحد ذلك فنحاص وقال ما قلت ذلك


فأنزل الله عز وجل فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ( آل عمران 181 )
ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( آل عمران )
وكان ممن انضاف إلى يهود من المنافقين من الأوس والخزرج فيما ذكروا والله أعلم من الأوس جلاس بن سويد بن الصامت من بني حبيب بن عمرو بن عوف وهو القائل وكان ممن تخلف عن غزوة تبوك لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر
وكان في حجره عمير بن سعد خلف جلاس على أمه بعد أبيه فقال له عمير والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنه عندي وأعزه علي أن يصيبه شيء يكرهه ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك ولئن صمت عليها ليهلكن ديني ولإحداهما أيسر علي من الأخرى
ثم مشي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذكر له ما قال جلاس فحلف جلاس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالله لقد كذب علي عمير وما قلت ما قال
فأنزل الله فيه يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ( التوبة 74 )
فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير
وأخوه الحارث بن سويد قتل المجذر بن زياد البلوي
وذلك أن المجذر فيما ذكر ابن هشام قتل أباه سويد بن الصامت في بعض الحروب إذ كانت بين الأوس والخزرج فلما كان يوم أحد طلب الحارث غرة المجذر ليقتله بأبيه فقتله
وذكر ابن إسحاق أن سويدا إنما قتله معاذ بن عفراء غيلة في غير حرب رماه بسهم فقتله قبل يوم بعاث
قال وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يذكرون قد أمر عمر بن الخطاب بقتل


الحارث إن هو ظفر به ففاته فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله تبارك وتعالى فيه كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين ( آل عمران 86 ) إلى آخر القصة
ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة بن زيد بن مالك وهو القائل إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه
فأنزل الله تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ( التوبة 61 )
وفيه قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان جسيما أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين
وذكر أن جبريل أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال إنه يجلس إليك رجل أدلم ثائر شعر الرأس أسفع الخدين أحمر العينين كأنهما قدران من صفر كبده أغلظ من كبد الحمار ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره
وكانت تلك صفة نبتل بن الحارث فيما يذكرون
وعمرو بن خدام وعبد الله بن نبتل وحارثة بن عامر بن العطاف وابناه زيد ومجمع وهم ممن اتخذ مسجد الضرار
وكان مجمع غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره وكان يصلي بهم فيه فلما كان زمان عمر بن الخطاب كلم في مجمع ليصلي بقومه بني عمرو بن عوف في مسجدهم فقال لا أو ليس بإمام المنافقين في مسجد الضرار
فقال له مجمع يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو ما علمت بشيء من أمرهم ولكني كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا لا قرآن معهم فقدموني أصلي بهم وما أرى أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا
فزعموا أن عمر رضي الله عنه تركه فصلى بقومه
ومن الخزرج ثم من بني عوف عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون
وهو الذي قال في غزوة بني المصطلق لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وسيأتي ذكر ذلك مستوفي وبيان سببه عند الانتهاء إلى غزوة بني المصطلق إن شاء الله تعالى


وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبي هذا لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين
حتى جاء الإسلام ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد وهو أبو حنظلة الغسيل يوم أحد وكان قد ترهب ولبس المسوح فكان يقال له الراهب فشقيا بشرفهما
أما عبد الله بن أبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ويملكوه عليهم فجاءهم الله تبارك وتعالى برسوله {صلى الله عليه وسلم} وهم على ذلك فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد استلبه ملكا فلما رأى قومه قد أبو إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن
وحدث أسامة بن زيد حب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ركب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه ألحاف فوقه قطيفة فركبه فخطمه بحبل من ليف وأردفني خلفه فمر بعبد الله بن أبي وحوله رجال من قومه فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تذمم أن يجاوزه حتى ينزل فنزل فسلم ثم جلس فتلا القرآن ودعا إلى الله وذكر به وحذر وبشر وأنذر وعبد الله زام لا يتكلم حتى إذا فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه ومن لم يأتك فلا تغشه به ولا تأته في مجلسه بما يكره
فقال عبد الله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين بل فاغشنا به وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا فهو والله ما نحب ومما أكرمنا الله به وهدانا له
فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى
متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل
تذل ويصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازي بغير جناحه
وإن جد يوما ريشه فهو واقع
الطويل
قال وقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدخل على سعد بن عبادة وفي وجهه ما قال عدو الله ابن أبي فقال والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئا لكأنك سمعت شيئا تكرهه قال أجل ثم أخبره بما قال ابن أبي فقال سعد يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا
وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدم المدينة فقال ما هذا الدين الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال فأنا عليها فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنك لست عليها
قال إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها قال ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية قال الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا يعرض برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أجل فمن كذب يفعل الله ذلك به
فكان هو ذلك عدو الله خرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تقولوا الراهب ولكن قولوا الفاسق
فلما افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة خرج إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدا غريبا وحيدا
قال ابن إسحاق وكان ممن تعوذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد بن حنيف ونعمان بن أوفى وعثمان بن أوفى وزيد بن اللصيت وهو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودل على ناقته وجاءه الخبر بما قال عدو الله في رحله إن قائلا قال يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها فهي في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها
فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكما وصف
وكان هؤلاء المنافقون المسمون وغيرهم ممن لم يسم يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-الي هنا ---------------------------