الأحد، 26 فبراير 2023

ج7وج8.كتاب الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي

 

ج7وج8.كتاب الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي

 ثم إن أبا عبيدة جاء من الغد فخرجوا أيضا فاستقبلوه بما يحب فلبث يومين أو ثلاثة ثم أمر خالدا فسار حتى بلغ بعلبك وأرض البقاع فغلب على أرض البقاع وأقبل قبل بعلبك حتى نزل عليها فخرج إليه منها رجل فأرسل إليهم فرسانا من المسلمين نحوا من خمسين فيهم ملحان بن زياد الطائي وقنان ابن دارم العبسي فحملوا عليهم حتى أقحموهم الحصن فلما رأوا ذلك بعثوا في طلب الصلح فأعطاهم ذلك أبو عبيدة وكتب لهم كتابا
ثم إنه خرج نحو حمص فجمع له أهلها جمعا عظيما ثم استقبلوه بجوسية فرماهم بخالد بن الوليد فلما نظر إليهم خالد قال يا أهل الإسلام الشدة الشدة ثم حمل عليهم خالد وحمل المسلمون معه فولوا منهزمين حتى دخلوا مدينتهم وبعث خالد ميسرة بن مسروق فاستقبل خيلا لهم عظيمة عند نهير قريب من حمص فطاردهم قليلا ثم حمل عليهم فهزمهم وأقبل رجل من المسلمين من حمير يقال له شرحبيل فعرض له منهم فوارس فحمل عليهم وحده فقتل منهم سبعة ثم جاء إلى نهر دون حمص مما يلي دير مسحل فنزل عن فرسه فسقاه وجاء نحو من ثلاثين فارسا من أهل حمص فنظروا إلى رجل واحد فأقبلوا نحوه فلما رأى ذلك أقحم فرسه وعبر الماء إليهم ثم ضرب فرسه فحمل عليهم فقتل أول فارس ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم
انهزموا وتبعهم وحده فلم يزل يقتل واحدا واحدا حتى انتهوا إلى دير مسحل وقد صرع منهم أحد عشر رجلا فاقتحموا جوف الدير واقتحم معهم فرماه أهل الدير بالحجارة حتى قتلوه رحمه الله


وجاء ملحان بن زياد وعبد الله بن قرط وصفوان بن المعطل إلى المدينة فأخذوا يطيفون بها يريدون أن يخرج إليهم أهلها فلم يخرجوا وجاء المسلمون حتى نزلوا على باب الرستن فزعم النضر بن شفي أن رجلا من آل ذي الكلاع كان أول من دخل مدينة حمص وذلك أنه حمل من جهة باب الشرقي فلم يرد وجهه شيء فإذا هو في جوف المدينة فلما رأى ذلك ضرب فرسه فخرج كما هو على وجهه ولا يرى إلا أنه قد هلك حتى خرج من باب الرستن فإذا هو في عسكر المسلمين
وحاصر المسلمون أهل حمص حصارا شديدا فأخذوا يقولون للمسلمين اذهبوا نحو الملك فإن ظفرتم به فنحن كلنا لكم عبيد فأقام أبو عبيدة على باب الرستن بالناس وبث الخيل في نواحي أرضهم فأصابوا غنائم كثيرة وقطعوا عنهم المادة والميرة واشتد عليهم الحصار وخشوا السباء فأرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتابا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وعلى أن يضيفوا المسلمين يوما وليلة وعلى أن على أرض حمص مائة ألف دينار وسبعين ألف دينار وفرغوا من الصلح وفتحوا باب المدينة للمسلمين فدخلوها وأمن بعضهم بعضا
وكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد فأحمد الله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة بالشام أكثرها أهلا وقلاعا وجمعا وخراجا وأكبتهم للمشركين كبتا وأيسره على المسلمين فتحا أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله أنا قدمنا بلاد حمص وبها من المشركين عدد كثير والمسلمون يزفون إليهم ببأس شديد فلما دخلنا بلادهم ألقى الله الرعب في قلوبهم ووهن كيدهم وقلم أظفارهم فسألونا الصلح وأذعنوا بأداء الخراج فقبلنا منهم وكففنا عنهم ففتحوا لنا الحصون واكتتبوا منا الأمان وقد وجهنا الخيول إلى الناحية التي بها ملكهم وجنوده


نسأل الله ملك الملوك وناصر الجنود أن يعز المسلمين بنصره وأن يسلم المشرك الخاطئ بذنبه والسلام عليك
فكتب إليه عمر
أما بعد فقد بلغني كتابك تأمرني فيه بحمد الله على ما أفاء علينا من الأرض وفتح علينا من القلاع ومكن لنا في البلاد وصنع لنا ولكم وأبلانا وإياكم من حسن البلاء فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا ليس له نفاد ولا يحصى له تعداد وذكرت أنك وجهت الخيول نحو البلاد التي فيها ملك الروم وجموعهم فلا تفعل ابعث إلى خيلك فأضممها إليك وأقم حتى يمضي هذا الحول ونرى من رأينا ونستعين الله ذا الجلال والإكرام على جميع أمرنا والسلام عليك
فلما أتى أبا عبيدة الكتاب دعا رءوس المسلمين فقال لهم إني قد كنت قدمت ميسرة بن مسروق إلى ناحية حلب وأنا أريد الإقدام والغارة على ما دون الدرب من أرض الروم وكتبت بذلك إلى أمير المؤمنين فكتب إلي أن أصرف إلى خيلي وأن أتربص بهم الحول حتى يرى من رأيه فقالوا لم يألك أمير المؤمنين والمسلمين نظرا وخيرا فسرح إلى ميسرة وقد كان أشرف على حلب ودنا منها فيجامعه كتاب إلى ميسرة
أما بعد فإذا لقيت رسولي فأقبل معه ودع ما كنت وجهتك إليه حتى نرى من رأينا وننظر ما يأمرنا به خليفتنا والسلام
فأقبل ميسرة في أصحابه حتى انتهى إلى أبي عبيدة بحمص فنزل معه
وخرج أبو عبيدة فعسكر بالناس ودعا خالد بن الوليد فقال له اخرج إلى دمشق فأنزلها في ألف رجل من المسلمين وأقيم أنا هاهنا ويقيم عمرو بن العاص في مكانه الذي هو فيه فيكون بكل جانب من الشام طائفة من المسلمين فهو أقوى لنا عليها وأحرى أن نضبطها فخرج خالد في ألف رجل حتى أتى دمشق وبها سويد بن كلثوم بن قيس القرشي من بني محارب بن فهر وكان أبو عبيدة خلفه بها في خمسمائة رجل فقدم خالد فعسكر على باب من أبوابها ونزل سويد في جوفها


وعن أدهم بن محرز بن أسد الباهلي قال أول راية دخلت أرض حمص ودارت حول مدينتها راية ميسرة بن مسروق ولقد كانت لأبي أمامة راية ولأبي راية وإن أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين لأبي إلا أن يكون رجل من حمير فإنه حل هو وأبي جميعا فكل واحد منهما قتل في حملته رجلا فكان أبي يقول أنا أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين بحمص لا أدري ما الحميري فإني حملت أنا وهو فقتل كل رجل منا في حملته رجلا ولا أخال إلا أني قتلت قتيلي قبل قتيله
وقال أدهم إني لأول مولود بحمص وأول مولود فرض له بها وأول من رئى فيها بيده كتف يختلف إلى الكتاب ولقد شهدت صفين وقاتلت
وقال عبد الله بن قرط عسكر أبو عبيدة ونحن معه حول حمص نحوا من ثمان عشرة ليلة وبث عماله في نواحي أرضها واطمأن في عسكره وذهبت منهزمة الروم من فحل حتى قدمت على ملك الروم بأنطاكية وخرجت فرسان من فرسان الروم ورجال من عظمائهم وذوي الأموال والغنى والقوة منهم ممن كان
أوطن بالشام فدخلوا قيسارية وتحصن أهل فلسطين بإيلياء


ولما قدمت المنهزمة على هرقل دعا رجالا منهم فقال لهم أخبروني ويلكم عن هؤلاء القوم الذين تلقونهم أليسوا بشرا مثلكم قالوا بلى قال فأنتم أكثر أم هم قالوا نحن أكثر منهم أضعافا وما لقيناهم في موطن إلا ونحن أكثر منهم قال ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم فسكتوا فقام شيخ منهم فقال أنا أخبرك أيها الملك من أين يؤتون قال فأخبرني قال إنهم إذا حمل عليهم صبروا وإذا حملوا لم يكذبوا ونحن نحمل فنكذب ويحمل علينا فلا نصبر قال وما بالكم كما تصفون وهم كما تزعمون قال الشيخ ما أراني إلا قد علمت من أين هذا قال له ومن أين هذا قال من أجل أن لقوم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وإنا نشرب الخمر ونرتكب المحارم وننقض العهد ونأمر بما يسخط الله وننهي عما يرضيه ونفسد في الأرض قال صدقتني لأخرجن من هذه القرية ولأدعن هذه البلدة وما لي في صحبتكم من خير وأنتم هكذا قال نشدتك الله أيها الملك أن تفعل تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولما تقاتل وتجهد قال قد قاتلتموهم غير مرة بأجنادين وفحل ودمشق والأردن وفلسطين وحمص وفي غير موطن كل ذلك تنهزمون وتفرون وتغلبون قال الشيخ حولك من الروم عدد الحصى والثرى والذر لم يلقهم منهم إنسان ثم تريد أن تخرج منها وترجع بهؤلاء جميعا من قبل أن يقاتلوا
فإن هذا الشيخ ليكلمه إذ قدم عليه وفد قيسارية وإيلياء وسيأتي خبرهم بعد إن شاء الله
وذكر الطبري عن سيف أن هرقل لما بلغه الخبر بمقتل أهل المرج أمر أمير حمص بالمضي إليها وقال له إنه بلغني يعني عن المسلمين أن طعامهم لحوم الإبل وشرابهم ألبانها وهذا الشتاء فلا تقاتلوهم إلا في كل يوم بارد فإنه
لا يبقى إلى الصيف منهم أحد هذا جل طعامه وشرابه وارتحل في عسكره ذلك حتى أتى الرها


وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها فكان أهلها يغادون المسلمين ويراوحونهم في كل يوم بارد ولقي المسلمون بها بردا شديدا والروم حصارا طويلا فأما المسلمون فصبروا ورابطوا وأفرغ الله عليهم الصبر وأعقبهم النصر حتى انصرم الشتاء وإنما تمسك الروم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء فكانوا يتواصون فيما بينهم ويقولون تمسكوا فإنهم جفاة فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون فكانت الروم ترجع وقد سقطت أقدام بعضهم في خفافهم وإن المسلمين لفي النعال ما أصيب أصبع أحد منهم حتى إذا انخنس الشتاء قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين قالوا كيف والملك في عزه وملكه ليس بيننا وبينهم شيء فتركهم وقام فيهم آخر وقال ذهب الشتاء وانقطع الرجاء فما تنتظرون قالوا البرسام فإنما يسكن في الشتاء ويثور في الصيف قال إن هؤلاء قوم يعانون ولأن تأتوهم بعهد وميثاق خير من أن تؤخذوا عنوة أجيبوني محمودين قبل أن تجيبوني مذمومين فقالوا شيخ خرف ولا علم له بالحرب وأثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص فيما حكي عن بعض أشياخ من غسان وبلقين أن زلزل بأهل حمص وذلك أن المسلمين ناهدوهم فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم في المدينة وتصدعت الحيطان ففزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك ثم كبروا الثانية فتهافتت دور كثيرة وحيطان وفزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم فقالوا ألا ترون إلى عذاب الله فأجابوهم لا يطلب الصلح غيركم فأشرفوا ينادون الصلح الصلح ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم وعلى أن يترك المسلمون أموال ملوك الروم وبنيانهم لا ينزلونه عليهم فتركوه لهم فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام على كل جريب أبدا


أيسروا أو أعسروا وصالح بعضهم على قدر طاقته إن زاد ماله زيد عليه وإن نقص نقص وعلى هذين الوجهين كان صلح دمشق والأردن وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه
حديث حمص آخر
قالوا وغزى هرقل أهل حمص في البحر واستمد أهل الجزيرة واستشار أهل حمص فأرسلوا إليه بأنا قد عاهدنا فنخاف أن لا ننصر
واستمد أبو عبيدة خالد فأمده بمن معه جميعا لم يخلف أحدا فكفر أهل قنسرين بعده وتابعوا هرقل وكان أكثر من هنالك تنوخ الحاضر
ودنا هرقل من حمص وعسكر وبعث البعوث إلى حمص فأجمع المسلمون على الخندقة والكتاب إلى عمر إلا ما كان من خالد فإن المناجزة كانت رأيه فخندقوا على حمص وكتبوا إلى عمر واستصرخوه
وجاء الروم ومن أمدهم حتى نزلوا عليهم فحصروهم وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم فبلغوا من المسلمين كل مبلغ
وجاء الكتاب إلى عمر وهو موجه إلى مكة للحج فمضى لحجة وكتب إلى سعد بن أبي وقاص إن أبا عبيدة قد أحيط به ولزم حصنه فبث المسلمين بالجزيرة واشغلهم بالخيول عن أهل حمص وأمد أبا عبيدة بالقعقاع بن عمرو
فخرج القعقاع ممدا لأبي عبيدة وخرجت الخيول نحو الرقة ونصيبين وحران فلما وصلوا الجزيرة وبلغ ذلك الروم الذين كانوا منها وهم بحمص تقوضوا إلى مدائنهم وبادروا المسلمين إليها فتحصنوا ونزل عليهم المسلمون فيها ولما دنا القعقاع من حمص راسلت طائفة من تنوخ خالدا ودلوه وأخبروه بما عندهم من الخبر فأرسل إليهم خالد والله لولا أني في سلطان غيري ما
باليت قللتم أم كثرتم أو أقمتم أو ذهبتم فإن كنتم صادقين فانفشوا كما انفش أهل الجزيرة فساموا سائر تنوخ ذلك فأجابوهم وراسلوا خالدا إن ذلك إليك فإن شئت فعلنا وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم وأوثقوا له فقال بل أقيموا فإذا خرجنا فانهزموا بهم


فقال المسلمون لأبي عبيدة قد أنفش أهل الجزيرة وقد ندم أهل قنسرين وواعدوا من أنفسهم وهم العرب فاخرج بنا وخالد ساكت فقال يا خالد ما لك لا تتكلم فقال قد عرفت الذي كان من رأيي فلم تسمع من كلامي قال فتكلم فإني أسمع منك وأطيعك قال فاخرج بالمسلمين فإن الله تعالى قد نقص من عدتهم وبالعدد يقاتلون ونحن إنما نقاتل منذ أسلمنا بالنصر فلا تجفلك كثرتهم
قالوا فجمع أبو عبيدة الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال
أيها الناس إن هذا يوم له ما بعده أما من حي منكم فإنه يصفوا له ملكه وقراره وأما من مات منكم فإنها الشهادة فأحسنوا بالله الظن ولا يكرهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة فإني أشهد وليس أوان الكذب أني سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة
فكأنما كانت بالناس عقل تنشطت فخرج بهم وخالد على الميمنة وقيس على الميسرة وأبو عبيدة في القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل فاجتلدوا بها فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا في مائة فانهزم أهل قنسرين بالروم فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم وقد انكسر أحد جناحيه فما أفلت منهم مخبر وذهبت الميسرة على وجهها وآخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا بلامهم تخففا فأصيبوا وتغنموا
ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم وقال لهم لا تتكلوا ولا تزهدوا في الدرجات

فتح قنسرينوبعث بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين فلما نزل بالحاضر زحف إليه الروم وعليهم ميناس وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل فالتقوا بالحاضر فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب وأنهم إنما حشدوا ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهم


ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أمر خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم الرجال مني وكان قد عزله والمثنى بن حارثة عند قيامه بالأمر وقال إني لم أعزلهما عن ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما
ويروى أنه قال حين ولي والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه لا إياهما فلما كان من أمر خالد في قنسرين ما كان رجع عن رأيه
وسار خالد حتى نزل على قنسرين فتحصنوا منه فقال إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلنكم إلينا فنظروا في أمرهم وذكروا ما لقي أهل حمص وقنسرين فسألوه الصلح على مثل صلحها فأبى إلا على إخراب المدينة فأخربها
واتطأت حمص وقنسرين فعند ذلك خنس هرقل وخرج نحو القسطنطينية وأفلت رجل من الروم كأن أسيرا في أيدي المسلمين فلحق بهرقل فقال له أخبرني عن هؤلاء القوم فقال أحدثك كأنك تنظر إليهم فرسان بالنهار ورهبان بالليل ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ولا يدخلون إلا بسلام يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه فقال لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين
وكان هرقل كلما حج بيت المقدس فخلف سورية وظعن في أرض الروم التفت فقال السلام عليك يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره وهو عائد فلما توجه المسلمون نحو حمص عبر الماء فنزل الرها فلم يزل بها حتى إذا فتحت قنسرين وقتل ميناس خنس عند ذلك إلى شمشاط حتى إذا فصل منها نحو أرض الروم على شرف فالتفت نحو سورية وقال عليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا حتى يولد المولود المشؤوم ويا ليته لا يولد ما أحلى فعله وما أمر عاقبته على الروم ثم مضى حتى نزل قسطنطينية
وهذا مقتضب من أحاديث متفرقة ذكرها سيف في كتابه
جمع الروم للمسلمين


ثم نعود إلى صلة ما قطعنا قبل من الحديث عن وفد أهل إيلياء وقيسارية القادم على هرقل إذ قد وعدنا بذكره حسب ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام في كتبهم
وذلك أن أهل قيسارية وأهل إيلياء تواطأوا بعد يوم فحل وتآمروا أن يبعثوا وفدا منهم إلى هرقل بأنطاكية فيخبروه بتمسكهم بأمره وإقامتهم على طاعته وخلافهم العرب ويسألونه المدد والنصر فلما جاءه وفدهم هذا رأى أن يبعث الجنود ويقيم هو بأنطاكية فأرسل إلى رومية والقسطنطينية وإلى من كان من جنوده وعلى دينه من أهل الجزيرة وأرمينية وكتب إلى عماله أن يحشروا إليه كل من أدرك الحلم من أهل مملكته فما فوق ذلك إلى الشيخ الفاني فأقبلوا إليه وجاء منهم ما لا تحمله الأرض وجاءه جرجير صاحب أرمينية في ثلاثين ألفا وآتاه أهل الجزيرة ونزع إليه أهل دينه وجميع من كان في طاعته فدعا باهان وكان من عظمائهم وأشرافهم فعقد له على مائة ألف ودعا ابن قماطر فعقد له على مائة ألف فيهم جرجير ومن معه من أهل أرمينية ودعا الدرنجار فعقد له على مائة ألف ثم أعطى الأمراء مائة ألف مائة ألف وأعطى باهان مائتي ألف وقال لهم إذا اجتمعتم فأميركم باهان ثم قال
يا معشر الروم إن العرب قد ظهروا على سورية ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقصى بلادكم وهم لا يرضون بالبلاد والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأمهات والبنات والأخوات والأزواج ويتخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيدا فامنعوا حرمتكم وسلطانكم ودار ملككم


قال عبد الله بن قرط والحديث له ثم وجههم إلينا فقدمت عيوننا من قبلهم فخبرونا بمقالة ملكهم وبمسيرهم إلينا وجمعهم لنا ومن أجلب معهم م غيرهم علينا ممن كان على دينهم وفي طاعتهم فلما جاء أبا عبيدة الخبر عن عددهم وكثرتهم رأى أن لا يكتم ذلك المسلمين وأن يستشيرهم فيه لينظر ما يؤول إليه رأي جماعتهم فدعا رءوس المسلمين وأهل الصلاح منهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله عز وجل قد أبلاكم أيها المؤمنون فأحسن البلاء وصدقكم الوعد وأعزكم بالنصر وأراكم في كل موطن ما تسرون به وقد سار إليكم عدوكم من المشركين بعدد كثير ونفروا إليكم فيما حدثني عيوني نفير الروم الأعظم فجاؤوكم برا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم بأنطاكية ثم قد وجه إليكم ثلاثة عساكر في كل عسكر منها ما لا يحصيه إلا الله من البشر وقد أحببت أن أ لا أغركم من أنفسكم ولا أطوي عنكم خبر عدوكم ثم تشيرون علي برأيكم وأشير عليكم برأيي فإنما أما كأحدكم فقام يزيد بن أبي سفيان فقال
نعم ما رأيت رحمك الله إذ لم تكتم عنا ما أتاك من عدونا وأنا مشير عليكم فإن كان صوابا فذاك ما نويت وإن يكن الرأي غير ما أشير به فإني لا أتعمد غير ما يصلح المسلمين أرى أن نعسكر على باب مدينة حمص بجماعة المسلمين وندخل النساء والأبناء داخل المدينة ثم نجعل المدينة في ظهورنا ثم نبعث إلى خالد فيقدم عليك من دمشق وإلى عمرو بن العاص فيقدم عليك من الأردن فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين
وقام شرحبيل بن حسنة فقال
إن هذا مقام لا بد فيه من النصيحة للمسلمين وإن خالف الرجل منا أخاه وإنما على كل رجل منا أن يجتهد رأيه وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد وهو والله عندي من الناصحين لجماعة المسلمين ولكن لا أجد بدا من أن أشير عليكم بما أظنه خيرا للمسلمين


إني لا أرى أن ندخل ذراري المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدونا هذا الذي قد أقبل إلينا ولا آمن إن وقع بيننا وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا فيتقربوا بهم إلى عدونا
فقال له أبو عبيدة إن الله قد أذلهم لكم وسلطانكم أحب إليهم من سلطان عدوكم وأما إذ ذكرت ما ذكرت وخوفتنا ما خوفت فإني أخرج أهل المدينة منها وأنزلها عيالنا وأدخل رجالا من المسلمين يقومون على سورها وأبوابها ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا أخواننا
فقال له شرحبيل إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم على ألا نخرجهم منها
فأقبل أبو عبيدة على جماعة من عنده فقال ماذا ترون رحمكم الله
فقالوا نرى أن نقيم ونكتب إلى أمير المؤمنين فنعلمه نفير الروم إلينا وتبعث إلى من بالشام من أخوانك المسلمين فيقدموا عليك
فقال أبو عبيدة إن الأمر أجل وأعظم مما تحسبون ولا أحسب القوم إلا سيعاجلونكم قبل وصول خبركم إلى أمير المؤمنين
فقام إليه ميسرة بن مسروق فقال
أصلحك الله إنا لسنا بأصحاب القلاع ولا الحصون ولا المدائن وإنما نحن أصحاب البر والبلد والقفر فأخرجنا من بلاد الروم ومدائنها إلى بلادنا أو إلى بلاد من بلادهم تشبه بلادنا إن كانوا قد جاشوا علينا كما ذكرت ثم اضمم إليك قواصيك وابعث إلى أمير المؤمنين فليمددك
فقال كل من حضر ذلك المجلس الرأي ما رأى ميسرة فقال لهم أبو عبيدة فتهيأوا وتيسروا حتى أرى من رأي
وكان رأي أبي عبيدة أن يقيموا ولا يبرحوا ولكنه كره خلافهم ورجا أن يكون في اجتماع رأيهم الخير والبركة


ثم بعث إلى حبيب بن مسلمة وكان استعمله على الخراج فقال انظر ما كنت جبيت من حمص فاحتفظ به حتى آمرك فيه ولا تجبين أحدا ممن بقي حتى أحدث إليك في ذلك ففعل فلما أراد أبو عبيدة أن يشخص دعا حبيبا فقال له اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم وقل لهم نحن على ما كان بيننا وبينكم من الصلح لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا وإنما رددنا عليكم أموالكم كراهية أن نأخذها ولا نمنع بلادكم ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض ونبعث إلى أخواننا فيقدموا علينا ثم نلقى عدونا فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم إلا ألا تطلبوا ذلك
ثم أخذ الناس في الرحيل إلى دمشق ورد حبيب بن مسلمة إلى أهل البلد ما كان أخذ منهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة فقالوا ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملوكننا من الروم لكنهم والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا
وأعلم أبو عبيدة عمر بن الخطاب بكل ما قبله قال سفيان بن عوف بن معقل بعثني أبو عبيدة ليلة غدا من حمص إلى دمشق فقال ائت أمير المؤمنين فأبلغه مني السلام وأخبره بما قد رأيت وعاينت وبما جاءتنا به العيون وبما استقر من كثرة العدو وبالذي رأى المسلمون من التنحي عنهم وكتب إليه معه
أما بعد فإن عيوني قدمت علي من أرض قنسرين ومن القرية التي فيها ملك الروم فحدثوني بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه قط لأمة كانت قبلنا وقد دعوت المسلمين فأخبرتهم الخبر واستشرتهم في الرأي
فاجتمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك وقد بعثت إليك رجلا عنده علم ما قبلنا فاسأله عما بدا لك فإنه بذلك عليم وهو عندنا أمين ونستعين الله العزيز الحكيم وهو حسبنا ونعم الوكيل والسلام عليك


قال سفيان فلما قدمت على أمير المؤمنين سلمت عليه فقال أخبرني عن الناس فأخبرته بصلاحهم ودفاع الله عنهم ثم أخذ الكتاب فقرأه فقال لي ويحك ما فعل المسلمون فقلت أصلحك الله خرجت من عندهم ليلا من حمص وتركتهم يقولون نصلي الغداة ثم نرحل إلى دمشق قال فكأنه ه حتى عرفت الكراهة في وجهه ثم قال لله أبوك ما رجوعهم عن عدوهم وقد أظفرهم الله بهم في غير موطن وما تركهم أرضا قد فتحها الله عليهم وصارت في أيديهم إني لأخاف أن يكونوا قد أساءوا الرأي وجاءوا بالعجز وجرأوا عدوهم عليهم فقلت أصلحك الله إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب إن صاحب الروم قد جمع لنا جموعا لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا ولقد أخبرنا بعض عيوننا أن عسكرا واحدا من عساكرهم أمر بالعسكرة في اصل جبل فهبطوا من الثنية نصف النهار إلى معسكرهم فما تكاملوا فيه حتى أمسوا ثم ما تكاملوا فيه إلى نصف الليل فهذا عسكر واحد من عساكرهم فما ظنك أصلحك الله بما بقي فقال لولا أني ربما كرهت الشيء من أمرهم يضيعونه فأرى الله تعالى يخير لهم في عواقبه لكان هذا رأيا أنا له كاره أخبرني اجتمع رأي جميعهم على التحول قلت نعم قال فالحمد لله إني لأرجو إن شاء الله أن لا يكون جمع الله رأيهم إلا على ما هو خير لهم فقلت يا أمير المؤمنين اشدد أعضاء المسلمين بمدد يأتيهم من قبلك قبل الوقعة فإن هذه الوقعة هي الفيصل فيما بيننا وبينهم فقال لي أبشر بما يسرك ويسر المسلمين و احمل كتابي هذا إلى أبي عبيدة وإلى المسلمين وأعلمهم أن سعيد بن عامر ابن حذيم قادم عليهم بالمدد وكتب
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن
الجراح وإلى الذين معه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان والمجاهدين في سبيل الله سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو


أما بعد فإنه قد بلغني توجهكم من أرض حمص إلى أرض دمشق وترككم بلادا فتحها الله عليكم وخليتموها لعدوكم وخرجتم منها طائعين فكرهت هذا من رأيكم وفعلكم ثم إني سألت رسولكم عن رأي من جميعكم كان ذلك فزعم أن ذلك كان رايا من أماثلكم وأولي النهي منكم فعلمت أن الله لم يكن يجمع رأيكم إلا على توفيق وصواب ورشد في العاجلة والعاقبة فهون ذلك علي ما كان داخلني من الكراهية قبل ذلك لتحولكم وقد سألني رسولكم المدد وأنا ممدكم لن يقرأ عليكم كتابي حتى يشخص إليكم المدد من قبلي إن شاء الله واعلموا أنه ليس بالجمع الكثير تهزم الجموع وينزل الله النصر ولربما خذل الله الجموع الكثيرة فوهنت وقلت وفشلت ولم تغن عنهم فئتهم شيئا ولربما نصر الله العصابة القليل عددها على الكثير من أعداء الله
فأنزل الله عليكم نصره وبعدو المسلمين بأسه ورجزه والسلام عليكم
فجاء سفيان بالكتاب إلى أبي عبيدة فقرأه على الناس وسروا به
وعن عبد الله بن قرط في حديثه المتقدم عما اجتمع عليه رأي المسلمين مع أبي عبيدة من الرحيل عن حمص قال فلما صلينا صلاة الغداة بحمص خرجنا مع أبي عبيدة نسير حتى قدمنا دمشق وبها خالد بن الوليد وتركنا أرض حمص ليس فيها منا ديار بعدما كنا قد افتتحناها وأمنا أهلها وصالحناهم عليها وخلا أبو عبيدة بخالد بن الوليد فأخبره الخبر وذكر له مشورة الناس عليه بالرحلة ومقالة العبسي في ذلك فقال له خالد أما أنه لم يكن الرأي إلا الإقامة بحمص حتى نناجزهم فأما إذ اجتمع رأيكم على أمر واحد فوالله إني لأرجو أن لا يكون الله قد جمع رأيكم إلا على ما هو خير
فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين وأمر سويد بن كلثوم أن يرد على أهل دمشق الذين كانوا أمنوا وصولحوا ما كان جبى منهم ففعل وقال لهم المسلمون نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم


ثم إن أبا عبيدة جمع أصحابه فقال لهم ماذا ترون أشيروا علي فقال يزيد بن أبي سفيان أرى أن تخرج حتى تنزل الجابية ثم تبعث إلي عمرو بن العاص فيقدم عليك بمن معه من المسلمين ثم نقيم للقوم حتى يقدموا علينا فنقاتلهم ونستعين الله عليهم
فقال شرحبيل بن حسنة لكني أرى إذ خلينا لهم ما خلينا من أرضهم أن ندعها كلها في أيديهم وننزل التخوم بين أرضنا وأرضهم فندنو من خليفتنا ومن مددنا فإذا أتانا من المدد ما نرجو أن نكون لهم به مقرنين قاتلناهم إن أتونا وإلا أقدمنا عليهم إن هم أقاموا عنا
فقال رجل من المسلمين لأبي عبيدة هذا أصلحك الله رأي حسن فاقبله واعمل به
فقال معاذ بن جبل وهل يلتمس هؤلاء القوم من عدوهم أمرا اضر لهم ولا أشد عليهم مما تريدون أنتم بأنفسكم تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم فإذا خرج المسلمون منها وتركوها لهم فكانوا فيها على مثل حالهم الأول فما اشد على المسلمين دخولها بعد الخروج منها وهل يصلح لكم أن تدعوها وتدعوا البلقاء والأردن وقد جبيتم خراجهم لتدفعوا عنهم أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لتكابدن من ذلك مشقة
فقابو عبيدة صدق والله وبر ما ينبغي أن تترك قوما قد جبينا خراجهم وعقدنا العهد لهم حتى نعذر إلى الله في الدفع عنهم فإن شئتم نزلنا وبعثنا إلى عمرو بن العاص يقدم علينا ثم أقمنا للقوم حتى نلقاهم بها
فقال له خالد كأنك إذا كنت بالجابية كنت على أكثر مما أنت عليه في مكانك الذي أنت فيه
فإنهم لكذلك يجيلون الرأي إذ قدم على أبي عبيدة عبد الله بن عمرو بن العاص بكتاب من أبيه يقول فيه


أما بعد فإن أهل إيلياء وكثيرا ممن كنا صالحناهم من أهل الأردن قد نقضوا العهد فيما بيننا وبينهم وذكروا أن الروم قد أقبلت إلى الشام بقضها وقضيضها وأنكم قد خليتم لهم عن الأرض وأقبلتم منصرفين عنها وقد جرأهم ذلك علي وعلى من قبلي من المسلمين وقد تراسلوا وتواثقوا وتعاهدوا ليسيرون إلي فاكتب إلي برأيك فإن كنت تريد القدوم علي أقمت لك حتى تقدم علي وإن كنت تريد أن تنزل منزلا من الشام أو من غيرها وأن أقدم عليك فأعلمني برأيك أوافك فيه فإني صائر إليك أينما كنت وإلا فابعث إلي مددا أقوى به على عدوي وعلى ضبط ما قبلي فإنهم قد أرجفوا بنا واغتمزوا فينا واستعدوا لنا ولو يجدون فينا ضعفا أو يرون فينا فرصة ما ناظرونا والسلام عليك
فكتب إليه أبو عبيدة أما بعد فقد قدم علينا عبد الله بن عمرو بكتابك تذكر فيه إرجاف المرجفين واستعدادهم لك وجرأتهم عليك للذي بلغهم من انصرافنا عن الروم وما خلينا لهم من الأرض وأن ذلك والحمد لله لم يكن من المسلمين عن ضعف من بصائرهم ولا وهن عن عدوهم ولكنه كان رأيا من جماعتهم كادوا به عدوهم ليخرجوهم من مدائنهم وحصونهم وقلاعهم وليجتمع بعض المسلمين إلى بعض وينتظروا قدوم أمدادهم ثم يناهضونهم إن شاء الله وقد اجتمعت خيلهم وتتامت فرسانهم فعند ذلك فارتقب نصر الله أولياءه وإنجاز موعوده وإعزاز دينه وإذلاله المشركين حتى لا يمنع أحد منهم أمه ولا حليلته ولا نفسه حتى يتوقلوا في شغف الجبال ويعجزوا عن منع الحصون
ويجنحوا للسلم ويلتمسوا الصلح سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا 62 الأحزاب
ثم أعلم من قبلك من المسلمين أني قادم عليهم بجماعة أهل الإسلام إن شاء الله فليحسنوا بالله الظن ولا يجدن عدوكم فيكم ضعفا ولا وهنا ولا تؤبسوا منكم رعبا فيطعموا فيكم ويجترئوا عليكم أعزنا الله وإياكم بنصره وعمنا بعافيته وعفوه والسلام عليك


وقال لعبد الله بن عمرو اقرأ على أبيك السلام وأخبره أني في أثرك وأعلم بذلك المسلمين وكن يا عبد الله بن عمرو ممن يشد الله به ظهور المسلمين ويستأنسون به فإنك رجل من الصحابة وقد جعل الله للصحابة فضلا على غيرهم من المسلمين بصحبتهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا تتكل على أبيك وكن أنت في جانب تحرض المسلمين وتمنيهم النصر وتأمرهم بالصبر ويكون أبوك يفعل ذلك في جانب آخر
فقال إني أرجو أن يبلغك عني إن شاء الله من ذلك ما تسر به
ثم خرج حتى قدم على أبيه بكتاب أبي عبيدة فقرأه أبوه على الناس ثم قال
أما بعد فقد برئت ذمة الله من رجل من أهل عهدنا من أهل الأردن ثقف رجلا من أهل إيلياء فلم يأتنا به ألا ولا يبقين رجل من أهل عهدنا إلا تهيأ واستعد ليسير معي إلى أهل إيلياء فإني أريد السير إليهم والنزول بساحتهم ثم لا أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم وأسبي ذراريهم أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون
ثم نادى في المسلمين أن ارتحلوا إلى إيلياء فسار نحوا من ميلين قبل أرض إيلياء ثم نزل وعسكر وقال لأهل الأردن أخرجوا إلينا الأسواق ونادى مناديه برئت الذمة من رجل من أهل الصلح لم يخرج بسلاحه حتى يحضر معنا
معسكرنا وينتظر ما نأمر به من أمرنا فاجتمع أهل الصلح كلهم إليه وخرجوا بعدتهم وسلاحهم فقدمهم مع ابنه عبد الله في خمسمائة من المسلمين وأمره أن يعسكر بهم ففعل
وإنما أراد أن يشغل أهل الأردن عن الإرجاف وأن يبلغ أهل إيلياء أنه يريد المسير إليهم والنزول بهم فيرعب قلوبهم ويشغلهم في أنفسهم وحصونهم عن الغارة عليهم
فخرج التجار من أهل الأردن ومن كان فيها من أهل إيلياء عند حميم أو ذوي قرابة فلحقوا بإيلياء فقالوا لهم هذا عمرو بن العاص قد أقبل نحوكم بالناس فاجتمعوا من كل مكان وتراسلوا وجعلوا لا يجيئهم أحد من قبل الأردن إلا أخبرهم بمعسكره فأيقنوا أنه يريدهم فكانوا من ذلك في هول شديد وزادهم خوفا ووجلا كتاب كتبه إليهم عمرو بن العاص مضمنه


بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص إلى بطارقة أهل إيلياء سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله الذي لا إله إلا هو وبنبوة محمد {صلى الله عليه وسلم} أما بعد
فإنا نثني على ربنا خيرا ونحمده حمدا كثيرا كما رحمنا بنبيه وشرفنا برسالته وأكرمنا بدينه وأعزنا بطاعته وأيدنا بتوحيده فلسنا والحمد لله نجعل له ندا ولا نتخذ من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا والحمد لله الذي جعلكم شيعا وجعلكم في دينكم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون فمنكم من يزعم أن لله ولدا ومنكم من يزعم أن الله ثاني اثنين ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة فبعدا لمن أشرك بالله وسحقا وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا والحمد لله الذي قتل بطارقتكم وسلب عزكم وطرد من هذه البلاد ملوككم وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم وأذلكم بكفركم بالله وشرككم به وترككم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله وبرسوله فأعقبكم الله لباس الخوف والجوع ونقصا في الأموال والأنفس وما الله بظلام للعبيد
فإذا بلغكم كتابي هذا فأسلموا تسلموا وإلا فأقبلوا إلي حتى أكتب لكم
أمانا على دمائكم وأموالكم وأعقد لكم عقدا على أن تؤدوا إلي الجزية عن يد وأنتم صاغرون وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لأرمينكم بالخيل بعد الخيل وبالرجال بعد الرجال ثم لا أقلع عنكم حتى أقتل المقاتلة وأسبي الذرية وحتى تكونوا كأمة كانت فأصبحت كأنها لم تكن


وأرسل بالكتاب إليهم مع فيج نصراني على دينهم وقال له عجل علي فإني إنما أنتظرك فلما قدم عليهم قالوا له ويحك ما وراءك قال لا أدري إلا أن هذا الرجل بعثني إليكم بهذا الكتاب وقد وجه عسكره نحوكم وقال لي ما يمنعني من المسير إليهم إلا انتظار رجوعك فقالوا انتظرنا ساعة من النهار فإنا ننتظر عينا لنا يقدم علينا من قبل أمير العرب الذي بدمشق ومن قبل جند الملك الذي أقبل إلينا فننظر ما يأتينا به فإن ظننا أن لنا بالعرب قوة لم نصالحهم وإن خشينا ألا نقوى عليهم صنعنا ما صنع أهل الأردن وغيرهم فما نحن إلا كغيرنا من أهل الشام فأقام العلج حتى أمسى ثم إن رسول أهل إيلياء الذي بعثوه عينا لهم أتاهم فأخبرهم أن باهان قد أقبل من عند ملك الروم في ثلاثة عساكر في كل عسكر منها أكثر من مائة ألف مقاتل وأن العرب لما بلغهم ما سار إليهم م تلك الجموع علموا أنه لا قبل لهم بما جاءهم فانصرفوا راجعين وقد كان أوائل العرب دخلوا أرض قنسرين فأخرجوهم منها ثم أتوا أرض دمشق فأخرجوهم منها ثم أقبلت العرب الآن نحو الأردن نحو صاحبهم هذا الذي كتب إليكم والروم يسوقونهم سوقا عنيفا فتباشروا بذلك وسروا به ودعوا العلج الذي بعث به إليهم عمرو بن العاص وقالوا اذهب بكتابنا هذا إلى صاحبك وكتبوا معه
أما بعد فإنك كتبت إلينا تزكي نفسك وتعيبنا وقول الباطل لا ينفع قائله نفسه ولا يضر عدوه وقد فهمنا ما دعوتنا إليه وهؤلاء ملوكنا وأهل ديننا قد جاؤوكم فإن أظهرهم الله عليكم فذلك بلاؤه عندنا في القديم وإن ابتلانا بظهوركم فلعمري لنقرن لكم بالصغار وما نحن إلا كمن ظهرتم عليه من
إخواننا ثم دانوا لكم وأعطوكم ما سألتم
فقدم الرسول بهذا الكتاب على عمرو فقال له ما حبسك فأخبره الخبر فلم يكن إلا يومه ذلك حتى قدم خالد بن الوليد في مقدمة أبي عبيدة فجاء حتى نزل اليرموك وأقبل عمرو حتى نزل معه
وقعة اليرموك على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام


قالوا ولما اجتمع جمع المسلمين باليرموك استشار أبو عبيدة أهل الرأي من المسلمين أين ترون أن نعسكر حتى يقدم مددنا فقال يزيد بن أبي سفيان أرى أن نسير بمن معنا إلى أيلة فنقيم بها حتى يقدم علينا المدد فقال عمرو ما أيلة إلا كبعض الشام ولكن سر بنا حتى ننزل الحجر فننتظر المدد فقال قيس ابن هبيرة لا ردنا الله إذا إليها إن خرجنا لهم عن الشام أكثر مما خرجنا لهم عنه أتدعون هذه العيون المتفجرة والأنهار المطردة والزروع والأعناب والذهب والفضة والحرير وترجعون إلى أكل الضباء ولبس العباء والبؤس والشقاء وأنتم تعلمون أن من قتل منكم صار إلى الجنة وأصاب نعيما لا يشاكله نعيم فأين تدعون الجنة وتهربون منها وتزهدون فيها وتأتون الحجر لا صحب الله من سار إلى الحجر ولا حفظه فقال له خالد بن الوليد جزاك الله خيرا يا قيس فإن رأيك موافق لرأيي
وفي حديث عن أبي معشر أن الروم حين جاشت على المسلمين ودنوا منهم دعا أبو عبيدة رءوس المسلمين واستشارهم فذكر من مشورة يزيد بن أبي سفيان عليه وعمرو بن العاص نحوا مما تقدم قال وخالد بن الوليد ساكت يسمع ما يقولون وكان يرحمه الله إذا كانت شدة فإليه وإلى رأيه يفزعون إذ كان لا يهوله من أمر الروم شيء ولا يزداد بما يبلغه عنهم إلا جرأة عليهم فقال له أبو
عبيدة ماذا ترى يا خالد فقال أرى والله أنا إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا وإن كنا إنما نقاتلهم بالله ولله فما أرى أن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعا تغني عنهم شيئا ثم غضب فقال لأبي عبيدة أتطيعني أنت فيما آمرك به قال نعم قال فولني ما وراء بابك وخلني والقوم فإني والله لأرجو أن ينصرنا الله عليهم قال قد فعلت فولاه ذلك فكان خالد من أعظم الناس بلاء وأحسنه غناء وأعظمه بركة وأيمنه نقيبة وكانوا أهون عليه من الكلاب


وعن مالك بن قسامة بن زهير عن رجل من الروم يدعى جرجة كان قد أسلم فحسن إسلامه قال كنت في ذلك الجيش الذي بعث قيصر من أنطاكية مع باهان فأقبلنا ونحن لا يحصي عددنا إلا الله ولا نرى أن لنا غالبا من الناس فأخرجنا أوائل العرب من أرض قنسرين ثم أقبلنا في آثارهم حتى أخرجناهم من حمص ثم أقبلنا في آثارهم حتى أخرجناهم من دمشق قال ولحق بنا كل من كان على ديننا من النصارى حتى إن كان الراهب لينزل عن صومعته وقد كان فيها دهرا طويلا من دهره فيتركها وينزل إلينا ليقاتل معنا غضبا لدينه ومحاماة عليه وكان من كان من العرب بالشام ممن كان على طاعة قيصر ثلاثة أصناف فأما صنف فكانوا على دين العرب وكانوا معهم وأما صنف فكانوا نصارى وكانت لهم في النصرانية نية فكانوا معنا وأما صنف فكانوا نصارى ليس لهم في النصرانية تلك النية فقالوا نكره أن نقاتل أهل ديننا ونكره أن ننصر العجم على قومنا وأقبلت الروم تتبع أهل الإسلام وقد كانوا هائبين لهم مرعوبين منهم ولكنهم لما رأوهم قد خلوا لهم البلاد وتركوا لهم ما كانوا افتتحوا جرأهم ذلك عليهم مع عددهم الذي لم يجتمع قط لأحد من قبلهم
وعن عبد الله بن قرط قال لما أقبلت الروم من عند ملكهم أخذوا لا


يمرون بأرض قد كنا افتتحناها ثم أجلينا لهم عنها إلا أوقعوا بهم ولاموهم وشتموهم وخوفوهم فيقولون لهم أنتم أولى باللائمة منا أنتم وهنتم وعجزتم وتركتمونا وذهبتم وأتانا قوم لم تكن لنا بهم طاقة فكانوا يعرفون صدقهم فيكفون عنهم وأقبلوا يتبعون آثار المسلمين حتى نزلوا بمكان من اليرموك يدعى دير الجبل مما يلي المسلمين والمسلمون قد جعلوا نساءهم وأولادهم على جبل خلف ظهورهم فمر قيس بن هبيرة بنسوة من نساء المسلمين مجتمعات فلما رأينه قامت إليه أميمة بنت أبي بشر بن زيد بن الأطول الأزدية وكانت تحت عبد الله بن قرط وكان أشبه خلق الله به في الحرب فرسه يشبه فرسه وباده يشبه باده وكل شيء منه كذلك فظنت أنه زوجها فقالت له اسمع بنفسي أنت فعلم قيس أنها شبهته بزوجها فقال أظنك شبهتني بزوجك فقالت واسوأتاه وانصرفت فأقبل قيس عليها وعلى من كان معها من النساء فقال لهن قبح الله امرأة منكن تضطجع لزوجها وهذا عدوه قد نزل بساحته إن لم يقاتل عنها وإذا أراد ذلك منها فلتتمنع عليه ولتحث في وجهه التراب ثم لتقل له أخرج قاتل عني فلست لك بامرأة حتى تمنعني فلعمري ما تقرب النساء على مثل هذه الحال إلا أهل الفسولة والنذالة ثم مضى فقالت المرأة واسوأتاه منه إنما ظننت أنه ابن قرط فإنه لم يتعش البارحة إلا عشاء خفيفا آثر بعشائه رجلين من إخوانه تعشيا عنده فكنت هيأت له غداءه فأردت أن ينزل فيتغدى
قال ابن قرط ولما نزل الروم منزلهم الذي نزلوا فيه دسسنا إليهم رجالا من أهل البلد كانوا نصارى قد أسلموا فأمرناهم أن يدخلوا عسكرهم فيكتموا إسلامهم ويأتونا بأخبارهم فكانوا يفعلون ذلك قال فلبثوا أياما مقابلينا ثلاثا أو أربعا لا يسألوننا عن شيء ولا نسألهم ولا يتعرضون لنا ولا نتعرض لهم فبينا نحن كذلك إذ سمعنا جلبة شديدة وأصواتا عالية فظننا أن القوم يريدون


النهوض إلينا فتهيأنا وتيسرنا ثم دسسنا إليهم عيونا ليأتونا بالخبر فما لبثنا إلا قليلا حتى رجعوا إلينا فأخبرونا أن بريدا جاءهم من قبل ملك الروم فبشرهم بمال يقسم بينهم وبمدد يأتيهم ففرحوا بذلك ورفعوا له أصواتهم واجتمعوا إلى باهان النائب فيهم عن ملكهم فقام فيهم فقال إن الله لم يزل لدينكم هذا معزا وناصرا وقد جاءكم قوم يريدون أن يفسدوا عليكم دينكم ويغلبوكم على دنياكم وأنتم عدد الحصى والثرى والذر والله إن في هذا الوادي منكم لنحوا من أربعمائة ألف مقاتل سوى اتباعكم وأعوانكم ومن اجتمع إليكم من سكان بلادكم وممن هو معكم على دينكم فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم فإن عددهم قليل وهم أهل الشقاء والبؤس وجلهم حاسر جائع وأنتم الملوك وأهل الحصون والقلاع والعدة والقوة فلا تبرحوا العرصة حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم فقام إليه بطارقتهم فقالوا له مرنا بأمرك ثم انظر ما نصنع قال فتيسروا حتى آمركم
وعن أبي بشر رجل من تنوخ كان مع باهان قال كنت نصرانيا فنصرت النصارى على العرب فأقبلت مع الروم فإذا من نمر به من أهل البلد أحسن شيء ثناء على العرب في سيرتهم وفي كل شيء من أمرهم وأقبلت الروم فجعلوا يفسدون في الأرض ويسيئون السيرة ويعصون الأمراء حتى ضج منهم الناس وشكاهم أهل القرى فلا تزال جماعة تجيء معها بالجارية قد افتضت وجماعة يشكون أن أغنامهم ذبحت وآخرون أنهم خربوا وسلبوا فلما رأى ذلك باهان قام فيهم خطيبا فقال يا معشر أهل هذا الدين إن حجة الله عليكم عظيمة إذ بعث إليكم رسولا وأنزل عليه كتابا وكان رسولكم لا يريد الدنيا ويزهدكم فيها وأمركم أن لا تظلموا أحدا فإن الله لا يحب الظالمين وأنتم الآن تظلمون فما عذركم غدا عند خالقكم وقد تركتم أمره وأمر نبيكم


وما أتاكم به من كتاب ربكم وهذا عدوكم قد نزل بكم يقتل مقاتليكم ويسبي ذراريكم وأنتم تعملون بالمعاصي ولا ترعون منها خشية العقاب فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم فاتقوا الله وانزعوا عن ظلم الناس
فقام إليه رجل من أهل البلد من أهل الذمة يشكو مظلمة فتكلم بلسانهم وأنا أفقه كلامهم فقال أيها الملك عشت الدهر ووقيناك بأنفسنا مكروه الأحداث إني امرؤ من أهل البلد من أهل الذمة وكانت لي غنم أظنها مائة شاة أو تنقص قليلا وكان فيها ابن لي يرعاها فمر به عظيم من عظماء أصحابك فضرب بناءه إلى جنبها وأخذ حاجته منها وانتهب بقيتها أصحابه فجاءته امرأتي تشكو إليه انتهاب أصحابه غنمي وتقول له أما ما أخذت أنت لنفسك فهو لك ولكن ابعث إلى أصحابك يردوا علينا غنمنا فلما رآها أمر بها فأدخلت بناءه وطال مكثها عنده فلما رأى ذلك ابنها دنا من باب البناء فاطلع فيه فإذا هو بصاحبكم ينكح أمه وهي تبكي فصاح الغلام فأمر به فقتل فأخبروني ذلك فأقبلت إلى ابني فأمر بعض أصحابه فشد علي بالسيف ليضربني فاتقيته بيدي فقطعها فقال له باهان فهل تعرفه قال نعم قال وأين هو قال هو ذا لعظيم حاضر عنده من عظمائهم قال فغضب ذلك العظيم وغضب له ناس من أصحابه وكان فيهم ذا شارة وشرف فأقبل ناس من أصحابه أكثر من مائة فشدوا على المستعدي فضربوه بأسيافهم حتى مات ثم رجعوا وباهان ينظر إلى ما صنعوا فقال بلسانه العجب كل العجب كيف لا تنهد الجبال وتنفجر البحار وتتزلزل الأرض وترعد السماء لهذه الخطيئة التي عملتموها وأنا أنظر ولأعمالكم العظام التي تعملونها وأنا أرى وأسمع إن كنتم تؤمنون أن لهؤلاء المستضعفين المظلومين إلها ينصف المظلوم من الظالم فأيقنوا بالقصاص ومن الآن يعجل لكم الهلاك وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فأنتم والله عندي شر


من الكلاب والحمر ولعمري إنكم لتعملون أعمال قوم لا يؤمنون ولقد سخط الله أعمالكم وليكلنكم إلى أنفسكم فأما أنا فأشهد الله أني بريء من أعمالكم وسترون عاقبة الظلم إلى ما تؤديكم وإلى أي مصير تصيركم ثم نزل


قال التنوخي وكنا نزلنا بالمسلمين ونحن لهم هائبون وقد كان بلغنا أن نبيهم {صلى الله عليه وسلم} قال لهم إنكم ستظهرون على الروم وقد كانوا واقعونا غير مرة كل ذلك يكون لهم الظفر علينا غير أنا إذا نظرنا إلى عددنا وجموعنا طابت أنفسنا وظننا أن مثل جمعنا لا يفل فأقام باهان أياما يراسل من حوله من الروم ويأمرهم أن يحملوا إلى أصحابه الأسواق فكانوا يفعلون ولم يكن ذلك يضر المسلمين لأن الأردن في أيديهم فهم مخصبون بخير فلما رأى باهان أن ذلك لا يضرهم وأنهم مكتفون بالأردن بعث خيلا عظيمة لتأتيهم من وراءهم وعليها بطريق من بطارقتهم يريد أن يكبتهم بجنوده من كل جانب فعلم المسلمون ما يريد فدعا أبو عبيدة خالد بن الوليد فبعثه في ألفي فارس وألفي راجل فخرج حتى اعترض العلج فلما استقبله نزل خالد في الرجالة وبعث قيس بن هبيرة في الخيل فحمل عليهم قيس فاقتتلوا قتالا شديدا حتى هزمهم الله ومشى خالد في الرجالة حتى إذا دنا شد برايته وشد معه المسلمون فضاربوهم بالسيوف حتى تبددوا وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وقال قيس لرجل من بني نمير وقد مر به البطريق يركض يا أخا بني نمير لا يفوتنك البطريق فإني والله لقد كددت فرسي على هذا العدو اليوم حتى ما عنده جري فحمل عليه النميري فركض في أثره ساعة ثم أدركه فلما رآه البطريق قد غشيه وأحرجه عطف عليه فاضطربا بسيفيهما فلم يصنع السيفان شيئا واعتنق كل واحد منهما صاحبه فوقعا إلى الأرض فاعتركا ساعة ثم صرعه النميري فوقع على صدر البطريق في ساقيه فضمه البطريق إليه وكان مثل الأسد فلم يستطع النميري يتحرك وجاء قيس حتى وقف عليهما فقال يا أخا بني نمير قتلت الرجل إن شاء الله قال لا والله ما أستطيع أن أتحرك ولا أضربه بشيء ولقد ضمني


بفخذيه وأمسك يدي بيديه فنزل إليه قيس فضربه فقطع إحدى يديه ثم تركه وانطلق وقال للنميري شأنك به وقام النميري فضربه بسيفه حتى قتله ومر به خالد بن الوليد فقال من قتل هذا فقال له قيس هذا النميري قتله ولم يخبره هو بما صنع
وفي حديث عبد الله بن قرط أن معاذ بن جبل ورجالا معه من المسلمين قالوا لأبي عبيدة حين سار من دمشق إلى اليرموك ألا تكتب إلى أمير المؤمنين تعلمه علم هذه الجيوش التي جاءتنا وتسأله المدد قال بلى فكتب إليه
أما بعد فإن الروم نفرت إلينا برا وبحرا ولم يخلفوا وراءهم أحدا يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا وخرجوا معهم بالقسيسين والأساقفة ونزلت إليهم الرهبان من الصوامع فاستجاشوا أهل أرمينية والجزيرة وجاؤونا وهم نحو من أربعمائة ألف رجل وإنه لما بلغني ذلك من أمرهم كرهت أن أغر المسلمين من أنفسهم فكشفت لهم عن الخبر وصرحت لهم عن الأمر وسألتهم عن الرأي فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى جانب من أرض الشام ثم نضم إلينا قواصينا وننتظر المدد فالعجل العجل علينا يا أمير المؤمنين بالمدد بعد المدد والرجال بعد الرجال وإلا فاحتسب نفوس المسلمين إن هم أقاموا أو دينهم إن هم هربوا فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من عنده والسلام عليك
قال عبد الله بن قرط وبعثني بكتابه فلما قدمت على عمر دعا المهاجرين والأنصار فقرأ عليهم كتاب أبي عبيدة فبكى المسلمون بكاء شديدا ورفعوا أيديهم ورغبتهم إلى الله عز وجل أن ينصرهم وأن يعافيهم ويدفع عنهم واشتدت شفقتهم عليهم وقالوا يا أمير المؤمنين ابعثنا إلى إخواننا وأمر علينا أميرا ترضاه لنا أو سر أنت بنا إليهم فوالله إن أصيبوا فما في العيش خير


بعدهم قال ولم أر منهم أحدا كان أظهر جزعا ولا أكثر شفقا من عبد الرحمن ابن عوف ولا أكثر قولا لعمر سر بنا يا أمير المؤمنين فإنك لو قدمت الشام شد الله قلوب المسلمين ورعب قلوب الكافرين قال واجتمع رأي أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أن يقيم عمر ويبعث المدد ويكون ردءا للمسلمين قال فقال لي عمر رحمه الله كم كان بين الروم وبين المسلمين يوم خرجت فقلت نحو من ثلاث ليال فقال عمر هيهات متى يأتي هؤلاء غياثنا
ثم كتب معي إلى أبي عبيدة
أما بعد فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين برا وبحرا وربما جاشوا به عليكم من أساقفتهم ورهبانهم وأن ربنا المحمود ذا الصنع العظيم والمن الدائم قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث محمدا {صلى الله عليه وسلم} بالحق فنصره بالرعب وأعزه بالنصر وقال وهو لا يخلف الميعاد هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون 9 الصف فلا يهولنك كثرة من جاءك منهم فإن الله منهم بريء ومن برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرته وأن يكله الله إلى نفسه ويخذله ولا يوحشنك قلة المسلمين في المشركين فإن الله معك وليس قليلا من كان الله معه فأقم بمكانك الذي أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم إن شاء الله وستظهر بالله عليهم وكفى بالله ظهيرا ووليا وناصرا
وقد فهمت مقالتك احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا أو دينهم إن هم هربوا فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله وأيم الله لولا استثناؤك هذا لقد كنت أسأت لعمري لئن أقام المسلمون وصبروا فأصيبوا لما عند الله خيرا للأبرار ولقد قال الله تعالى فيهم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا 23 الأحزاب فطوبى للشهداء ولمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين أسوة


بالمصرعين حول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في مواطنه فما عجز الذين قاتلوا في سبيل الله ولا هابوا لقاء الموت في جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا استكانوا لمصيبتهم ولكن تأسوا بهم وجاهدوا في سبيل الله من خالفهم وفارق دينهم ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم فقال وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين 146 - 148 آل عمران فأما ثواب الدنيا فالفتح والغنيمة وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة
واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة
وأما قولك إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به فإلا يكن لهم به قبل فإن لله تعالى بهم قبلا ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا ولو كنا إنما نقاتل عدونا بحولنا وقوتنا وكثرتنا لهيهات ما قد بدنا وهلكنا ولكنا نتوكل على الله ربنا ونفوض إليه أمرنا ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله النصر والرحمة وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال فأخلصوا لله نياتكم وارفعوا إليه رغبتكم واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون والسلام
قال عبد الله بن قرط فدفع إلي عمر الكتاب وأمرني أن أعجل السير وقال لي إذا قدمت على المسلمين فسر في صفهم وقف على كل صاحب راية منهم وأخبرهم أنك رسولي إليهم وقل لهم إن عمر يقرئكم السلام ويقول يا أهل الإسلام اصدقوا وشدوا على أعدائكم شد الليوث وأعضوا هامهم السيوف وليكونوا أهون عليكم من الذر ولا تهلكم كثرتهم ولا تستوحشوا لمن لم يلحق بكم منكم
قال فركبت راحلتي وأقبلت مسرعا أتخوف ألا آتي الناس حتى تكون


الوقعة فانتهيت إلى أبي عبيدة يوم قدم عليه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي في ألف رجل مددا من قبل عمر رضي الله عنه فسر بمقدمه المسلمون وشجعهم ذلك على عدوهم ودفعت إلى أبي عبيدة كتاب عمر فقرأه على الناس فاشتد سرورهم برأيه لهم وبما أمرهم به من الصبر وما رجا لهم في ذلك من الأجر
وكان أبو عبيدة بعث سفيان بن عوف من حمص إلى عمر يستمده حين بلغه أن الروم قد جاشوا واختلفوا في الاجتماع للمسلمين فعند ذلك بعث عمر رحمه الله سعيد بن عامر بالمدد وقد كان أبو بكر رضي الله عنه وجه سعيدا هذا إلى الشام في جيش فكان مع أبي عبيدة حتى شهد معه وقعة فحل ثم أرسله أبو عبيدة إلى عمر بالفتح فقدم به عليه ثم حج بعد ورجع إلى المدينة فلم يزل مقيما بها حتى بعثه عمر بهذا المدد
قال حسان بن عطية لما عقد له عمر على من وجهه معه قال له يا سعيد إني قد وليتك على هذا الجيش ولست بخير رجل منهم إلا أن تكون أتقى لله منه فلا تشتم أعراضهم ولا تضر أبشارهم ولا تحقر ضعيفهم ولا تؤثر قويهم وكن للحق تابعا ولا تتبع هواك سادرا فإنه إن بلغني عنك ما أحب لم يعدمك مني ما تحب فقال له سعيد يا أمير المؤمنين إنك قد أوصيتني فاستمعت منك فاستمع مني أوصك قال هات فقد آتاك الله علما يا سعيد قال يا أمير المؤمنين خف الله في الناس ولا تخف الناس في الله واحبب لقريب الناس وبعيدهم تحب لنفسك وأهل بيتك واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك وألزم الأمر ذا الحجة يكفك الله ما أهمك ويعنك على ما أمرك وما ولاك ولا تقضين في أمر واحد بقضائين فيختلف قولك وفعلك ويلتبس الحق بالباطل ويشتبه عليك الأمر فتزيغ عن الحق وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته ولا يأخذك في الله لومة لائم


قال فأكب عمر طويلا وفي يده عصا له وهو واضع جبهته عليها ثم رفع رأسه ودموعه تسيل فقال لله أبوك يا سعيد ومن يستطيع هذا الذي تذكر قال من طوق ما طوقت وحمل ما حملت من هذا الأمر وإنما عليك أن تأمر فتطاع أو تعصي فتبوء بالحجة ويبوء القوم بالمعصية
عن الحارث بن عبد الله الأزدي قال لما نزل أبو عبيدة اليرموك وضم إليه قواصيه وجاءتنا جموع الروم يجرون الشوك والشجر ومعهم القسيسون والرهبان والأساقفة يقصون عليهم ويحرضونهم خافهم المسلمون فما كان شيء أحب إليهم من أن يخرجوا لهم ويتنحوا عن بلادهم حتى يأتيهم مدد يرون أنهم يقوون به على من جاءهم من الروم فاستشار أبو عبيدة الناس فكلهم أشار عليه بالخروج من الشام إلا خالد بن الوليد فإنه أشار عليه بالمقام وقال له خلني والناس ودعني والأمر وولني ما وراء بابك فأنا أكفيك بإذن الله أمر هذا العدو فقال له أبو عبيدة شأنك بالناس فخلاه وإياهم قال وكان قيس بن هبيرة على مثل رأي خالد ولم يكن في المسلمين أحد يعدلهما في الحرب وشدة البأس قال فخرج خالد في الناس وهم أحسن شيء دعة ورعة وهيئة وأشدهم في لقاء عدوهم بصيرة وأطيبهم أنفسا فصفهم خالد ثلاثة صفوف وجعل ميمنة وميسرة ثم أتى أبا عبيدة قال من كنت تجعل على ميمنتك قال معاذ بن جبل قال أهل ذلك هو الرضي الثقة فولها إياه فأمر أبو عبيدة معاذا فوقف في الميمنة ثم قال من كنت تول الميسرة قال غير واحد قال فولها إن رأيت قباث بن أشيم فأمره أبو عبيدة فوقف في الميسرة وكان فيها كنانة وقيس وكان قباث كنانيا وكان شجاعا بئسا قال خالد وأنا على الخيل وول على الرجالة من شئت قال أوليها إن شاء الله من لا يخاف نكوله ولا صدوده عند البأس أوليها هاشم بن عتبة بن أبي وقاص قال أصبت ووفقت ورشدت قال أبو عبيدة انزل يا هاشم فأنت على الرجالة وأنا معك


وقال خالد لأبي عبيدة أرسل إلى أهل كل راية فمرهم أن يطيعوني فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس فأمره بذلك فخرج الضحاك يسير في الناس ويقول لهم إن أميركم أبا عبيدة يأمركم بطاعة خالد بن الوليد فيما أمركم به فقال الناس سمعنا وأطعنا وقال ذلك أيضا معاذ بن جبل لما أنهى إليه الضحاك أمر أبي عبيدة ثم نظر معاذ إلى الناس فقال أما إنكم إن أطعتموه لتطيعن مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغناء حسن الحسبة والنية قال الضحاك فحدثت خالدا بذلك فقال رحم الله أخي معاذا أما والله إن أحبني إني لأحبه في الله لقد سبقت له ولأصحابه سوابق لا ندركها فهنيئا ما خصهم الله به من ذلك قال الضحاك فأخبرت معاذا بما رد علي خالد فقال إني لأرجو أن يكون الله قد أعطاه بصيرة على جهاد المشركين وشدة عليهم مع بصيرته وحسن نيته في إعزاز دينه أحسن الثواب وأن يكون من أفضلنا بذلك عملا فقال خالد وقد لقيته بذلك ما شيء على الله بعزيز
قال ثم إن خالدا سار في الصفوف يقف على أهل كل راية ويقول يا أهل الإسلام إن الصبر عز وإن الفشل عجز وإن مع الصبر تنصرون والصابرون هم الأعلون وما زال يقف على أهل كل راية يعظهم ويحضهم ويرغبهم حتى مر بجماعة الناس ثم إنه جمع إليه خيل المسلمين ودعا قيس بن هبيرة وكان يساعده ويوافقه ويشبهه في جلده وشدته وشجاعته وإقدامه على المشركين فقال له خالد أنت فارس العرب ولقل من حضر اليوم يعدلك عندي فاخرج معي في هذه الخيل وبعث إلى ميسرة بن مسروق العبسي وكان من أشراف العرب وفرسانهم وإلى عمرو بن الطفيل ذي النور بن عمرو الدوسي فخرجوا معه ثم قسموا الخيل أرباعا فبعث كل رجل منهم على ربع وخرج خالد في ربع منها حتى دنوا من عسكر الروم الأعظم الذي فيه باهان فلما رأتهم الروم فزعوا لمجيئهم وقد كانوا أخبروا أن العرب تريد الانصراف عن أرض الشام ويخلونهم وإياها فكان ذلك قد وقع في نفوسهم


وطمعوا به ورجوا أن لا يكون بينهم قتال وصدق ذلك عندهم خروجهم من بين أيديهم يسوقونهم وهم يدعون لهم الأرض والمدائن التي كانوا قد غلبوا عليها فلما رأوا خالدا قد أقبل إليهم في الخيل فزعهم ذلك وخرجوا على راياتهم بصلبهم والقسيسون والرهبان والبطارقة معهم فصفوا عشرين صفا لا ترى أطرافها ثم اخرجوا إلى المسلمين خيلا عظيمة تكون أضعاف المسلمين مضاعفة فلما دنت خيلهم من خيل المسلمين خرج بطريق من بطارقتهم يسأل المبارزة ويتعرض لخيل المسلمين فقال خالد أما لهذا رجل يخرج إليه ليخرجن إليه بعضكم أو لأخرجن إليه فنفلت إليه عدة من المسلمين ليخرجوا إليه وأراد ميسرة بن مسروق ذلك فقال له خالد أنت شيخ كبير وهذا الرومي شاب ولا أحب أن تخرج إليه فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقوى على الشاب الحديث السن فقف لنا يرحمك الله في كتيبتك فإنك ما علمت حسن البلاء عظيم الغناء وأراد عمرو بن الطفيل الخروج إليه فقال له خالد يا ابن أخي أنت غلام حدث وأخاف أن لا تقوى عليه قال الحارث بن عبد الله وكنت في خيل خالد التي خرجت معه فقلت أنا أخرج إليه فقال ما شئت فلما ذهبت لأخرج قال لي هل بارزت رجلا قط قبله قلت لا قال فلا تخرج إليه فقال قيس ابن هبيرة كأنك يا خالد علي تحوم قال أجل وإني أرجو إن خرجت إليه أن تقتله وإن أنت لم تخرج إليه لأخرجن إليه أنا قال قيس بل أنا أخرج إليه فخرج وهو يقول
سائل نساء الحي في حجلاتها
ألست يوم الحرب من أبطالها
ومقعص الأقران من رجالها
الرجز
فخرج إليه فلما دنا منه ضرب فرسه ثم حمل عليه فما هلل أن ضربه


بالسيف على هامته فقطع ما عليها من السلاح وفلق هامته فإذا الرومي بين يدي فرسه قتيلا وكبر المسلمون فقال خالد ما بعد ما ترون إلا الفتح احمل عليهم يا قيس ثم أقبل خالد على أصحابه فقال احملوا عليهم فوالله لا يفلحون وأولهم فارسا متعفرا في التراب قال فحملنا عليهم وعلى من يلينا منهم ومن خيلهم وهي مستقدمة أمام صفوفهم وصفوفهم كأنها أعراض الجبال فكشفنا خيلهم حتى لحقت بالصفوف وحمل خالد وأصحابه على من يليه منهم فكشفوهم حتى ألحقوهم بالصفوف وحمل عمرو بن الطفيل وميسرة بن مسروق في أصحابهما حتى ألحقوهم بالصفوف ثم إن خالدا أمر خيله فانصرفت عنهم ثم أقبل بها حتى لحق بجماعة المسلمين وقد أراهم الله السرور في المشركين


قال وتلاومت بطارقة الروم وقال بعضهم لبعض جاءتكم خيل لعدوكم ليست بالكثيرة فكشفت خيولكم من كل جانب فأقبلت منهم كتائب في أثر كتائب فطيفوا الأرض مثل الليل والسيل كأنها الجراد السود وظن المسلمون أنهم يخالطونهم والمسلمون جراء عليهم سراع إليهم فأقبلوا حتى إذا دنوا من جماعة المسلمين وقفوا ساعة وقد هابوا المسلمين وامتلأت صدورهم خوفا منهم فقال خالد للناس قد رجعنا عنهم ولنا الظفر عليهم فاثبتوا لهم ساعة فإن أقدموا علينا قاتلناهم وإن رجعوا عنا كان لنا الظفر والفضل عليهم فأخذوا يقتربون ثم يرجعون والمسلمون في مصافهم وتحت راياتهم سكوت لا يتكلم رجل منهم كلمة إلا أن يدعوا الله في نفسه ويستنصره على عدوه فلما نظرت الروم إلى خيل المسلمين ورجالتهم ومصافهم وحدهم وجدهم وصبرهم وسكونهم ألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم منهم فواقفوهم ساعة ثم انصرفوا راجعين عنهم إلى عسكرهم فاجتمعت بطارقتهم وعظماؤهم إلى باهان وهو أصبر جماعتهم فقال لهم باهان إني قد رأيت رأيا وأنا ذاكره لكم إن هؤلاء القوم قد نزلوا بلادكم وركبوا من مراكبكم وطعموا من طعامكم ولبسوا من ثيابكم فعدل الموت عندهم أن يفارقوا ما تطعموه من عيشكم الرفيع ودنياكم التي لم يروا مثلها قط


وقد رأيت أن اسألهم إن رأيتم ذلك أن يبعثوا إلينا رجلا منهم له عقل فنناطقه ونشافهه ونطمعهم في شيء يرجعون به إلى أهاليهم لعل ذلك يسخى بأنفسهم عن بلادنا فإن هم فعلوا ذلك كان الذي يريدون منا قليلا فيما نخاف وندفع به خطر الوقعة التي لا ندري أعلينا تكون أم لنا فقالوا له قد أصبت وأحسنت النظر لجماعتنا فاعمل برأيك فبعث رجلا من خيارهم وعظمائهم يقال له جرجة إلى أبي عبيدة فقال له إني رسول باهان عامل ملك الروم على الشام وعلى هذه الجنود وهو يقول لك أرسل إلي الرجل الذي كان قبلك أميرا فإنه ذكر لي أنه رجل ذو عقل وله فيكم حسب وقد سمعنا أن عقول ذوي الأحساب أفضل من عقول غيرهم فنخبره بما نريد ونسأله عما تريدون فإن وقع فيما بيننا وبينكم أمر لنا ولكم فيه صلاح أو رضى أخذنا به وحمدنا الله عليه وإن لم يتفق ذلك كان القتال من ورائنا هنالك
فدعا أبو عبيدة خالدا فأخبره بالذي جاء فيه الرومي وقال لخالد القهم فادعهم إلى الإسلام فإن قبلوا فهو حظهم وكانوا قوما لهم ما لنا وعليهم ما علينا وإن أبوا فاعرض عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون فإن أبوا فأعلمهم أنا نناجزهم ونستعين الله عليهم حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين
قال وجاء رسولهم هذا الرومي عند غروب الشمس فلم يمكث إلا يسيرا حتى حضرت الصلاة فقام المسلمون يصلون صلاتهم فلما قضوها قال ذلك الرومي هذا الليل قد غشينا ولكن إذا أصبحت غدوت إلى صاحبنا إن شاء الله وجعل ينظر إلى رجال من المسلمين يصلون وهم يدعون الله ويتضرعون إليه وجعل ما يفيق وما يصرف بصره عنهم فقال عمرو إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون فقال أبو عبيدة كلا والله إني لأرجو أن يكون الله قد قذف في قلبه الإيمان وحببه إليه وعرفه فضله أو ما تنظر إلى نظره إلى المصلين ولبث الرومي بذلك قليلا ثم أقبل على أبي عبيدة فقال أيها الرجل


أخبرني متى دخلتم في هذا الدين ومتى دعوتم الناس إليه فقال أبو عبيدة دعينا إليه منذ بضع وعشرين سنة فمنا من أسلم حين أتاه الرسول ومنا من أسلم بعد ذلك فقال هل كان رسولكم أخبركم أنه يأتي من بعده رسول قال لا ولكنه أخبرنا أنه لا نبي بعده وأخبرنا أن عيسى بن مريم قد بشر به قومه قال الرومي وأنا على ذلك من الشاهدين إن عيسى بن مريم قد بشرنا براكب الجمل وما أظنه إلا صاحبكم ثم قال أخبرني عن قول صاحبكم في عيسى فقال له أبو عبيدة قول صاحبنا فيه قول الله تعالى فيه وهو أصدق القائلين وأبرهم قال الله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون 59 آل عمران وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه إلى قوله لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون 171 - 172 النساء فلما فسر له الترجمان ذلك وبلغ هذا المكان قال أشهد أن هبذه صفة عيسى وأشهد أن نبيكم صادق وأنه الذي بشر به عيسى وأنكم قوم صدق وقال لأبي عبيدة ادع لي رجلين من أول أصحابك إسلاما وهما فيما ترى أفضل من معك فدعا أبو عبيدة معاذ بن جبل وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقال له هذان من أفضل المسلمين فضلا ومن أولهم إسلاما فقال لهما الرومي ولأبي عبيدة أتضمنون لي الجنة إن أنا أسلمت وجاهدت معكم فقالوا له نعم إن أنت أسلمت واستقمت ولم تغير حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة قال فإني أشهدكم أني من المسلمين فأسلم وفرح المسلمون بإسلامه وصافحوه ودعوا له بخير وقالوا له إنا إن أرسلنا رسولنا إلى صاحبكم وأنت عندنا ظنوا أنا حبسناك عنهم فنتخوف أن يحبسوا صاحبنا فإن شئت أن تأتيهم الليلة وتكتم إسلامك حتى نبعث إليهم رسولنا غدا وننظر علام ينصرم الأمر بيننا وبينهم فإذا رجع رسولنا إلينا أتيتنا عند ذلك فما أعزك علينا وأرغبنا فيك وأكرمك

علينا وما أنت الآن عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأبي وأمه
قال فإنكم نعم ما رأيتم فخرج فبات في أصحابه وقال لباهان غدا يجيئكم رسول القوم الذي سألتم وانصرف إلى المسلمين لما رجع إليهم خالد فأسلم وحسن إسلامه
ولما أصبح المسلمون من تلك الليلة بعث خالد بن الوليد بقبة له حمراء من أدم كان اشتراها بثلاثمائة دينار فضربت له في عسكر الروم ثم خرج حتى أتاها فأقام فيها ساعة وكان خالد رجلا طويلا جميلا جليدا مهيبا لا ينظر إليه رجل إلا ملأ صدره وعرف أنه من جلداء الرجال وشجعانهم وأشدائهم وبعث باهان إلى خالد وهو في قبته أن ألقني وصف له في طريقه عشرة صفوف عن يمينه وعشرة صفوف عن شماله مقنعين في الحديد عليهم الدروع والبيض والسواعد والجواشن والسيوف لا يرى منهم إلا الحدق وصف من وراء تلك الصفوف خيلا عظيمة وإنما أراد أن يريه عدد الروم وعدتهم ليرعبه بذلك وليكون أسرع له إلى ما يريد أن يعرض عليه فأقبل خالد غير مكترث لما رأى من هيآتهم وجماعتهم ولكانوا أهون عليه من الكلاب فلما دنا من باهان رحب به ثم قال بلسانه ها هنا عندي اجلس معي فإنك من ذوي أحساب العرب فيما ذكر لي ومن شجعانم ونحن نحب الشجاع ذا الحسب وقد ذكر لي أن لك عقلا ووفاء والعاقل ينفعك كلامه والوفي يصدق قوله ويوثق بعهده وأجلس فيما بينه وبين خالد ترجمانا له يفسر لخالد ما يقول وخالد جالس إلى جنبه
قال الحارث بن عبد الله الأزدي قال لي خالد يوم غدا إلى عسكر الروم اخرج معي وكنت صديقا له قل ما أفارقه وكان يستشيرني في الأمر إذا نزل به فكنت أشير عليه بمبلغ رأيي فكان يقول لي إنك ما علمت لميمون الرأي ولقل ما أشرت علي بمشورة إلا وجدت عاقبتها تؤدي إلى سلامة فخرجت يومئذ معه حتى إذا دخلنا عسكرهم وضربت قبته وبعث إليه باهان


ليلقاه قال لي انطلق معي فقلت له إن القوم إنما أرادوك ولا أراهم يدعونني أدنو إليهم معك فقال لي امضه فمضيت معه فلما دنونا من باهان وعلى رأسه ألوف رجال بعضهم خلف بعض وحوله لا يرى منهم إلا أعينهم وفي أيديهم العمد جاءنا الترجمان فقال أيكما خالد أنا فقال أقبل أنت وليرجع هذا فقام خالد وقال هذا رجل من أصحابي ولست أستغني عن رأيه فرجع إلى باهان فأخبره فقال دعوه فليأت معه فأقبلنا نحوه فلم يمش إلا خطا خمسا أو ستا حتى جاء نحو من عشرة فقالوا لي ضع سيفك ولم يقولوا لخالد شيئا فنظرت ما يقول لي خالد فقال لهم ما كان ليضع عزه من عنقه أبدا وقد بعثتم إلينا فأتيناكم فإن تكرمونا جلسنا إليكم وسمعنا منكم وإن أبيتم فخلوا سبيلنا فننصرف عنكم فرجع الترجمان إلى باهان فقال دعوهما فأقبلنا إليه فرحب بخالد وأجلسه معه وجلست أنا على نمارق مطروحة للناس قريبا منهما وحيث أسمع كلامهما فقال باهان لخالد إنك من ذوي أحساب العرب فيما ذكر لي ومن شجعانهم وقد ذكر لي أن لك عقلا ووفاء والعاقل ينفعك كلامه والوفي يصدق قوله ويوثق بعهده فلما فسر له الترجمان ذلك قال خالد إن نبينا {صلى الله عليه وسلم} قال لنا إن حسب المرء دينه ومن لم يكن له دين فلا حسب له وقال لنا إن أفضل الشجاعة وخيرها في العاجلة والعاقبة ما كان منها في طاعة الله وأما ما ذكرت أني أوتيت عقلا ووفاء فإن أكن أوتيت ذلك فلله المن والفضل علينا وهو المحمود عندنا وقد قال لنا نبينا {صلى الله عليه وسلم} إن الله لما خلق العقل وفرغ من خلقه قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال له وعزتي ما خلقت من خلقي شيئا هو أحب إلي منك بك أحمد وبك أعبد وبك أعرف وبك تنال طاعتي وبك تدخل جنتي ثم قال خالد والوفاء لا يكون إلا من العقل فمن لم يكن له عقل فلا وفاء له ومن لا وفاء له لا عقل له فقال له باهان أنت أعقل أهل الأرض ما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن له إلا الفائق من الرجال ثم قال لخالد أخبرني عنك وأنت هكذا تحتاج إلى

مشورة هذا الرجل فقال له خالد وأعجب من ذلك أن في عسكرنا أكثر من ألف رجل كلهم لا يستغني عن رأيه
ولا عن مشورته فقال باهان ما كنا نظن ذلك عندكم ولا نراكم به فقال له خالد ما كل ما تظنون ونظن يكون صوابا فقال باهان صدقت ثم قال له إن أول ما أكلمك به إني أدعوك إلى خلتي ومصافاتي فقال له خالد كيف لي ولك أن يتم هذا فيما بيني وبينك وقد جمعتني وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت أن نفترق حتى تصير البلدة لأحدنا فقال له باهان فلعل الله أن يصلح بيننا وبينك فلا يهراق دم ولا يقتل قتيل قال خالد إن شاء الله فعل قال باهان فإني أريد أن ألقي الحشمة فما بيني وبينك وأكلمك كلام الأخ أخاه إن قبتك هذه الحمراء قد أعجبتني فأنا أحب أن تهبها لي فإني لم أر قبة من القباب أحسن منها فخذ ما بدا لك فيها وسلني ما أحببت فهو في يدك فقال له خالد خذها فهي لك ولست أريد من متاعك شيئا قال والله ما ظننته سألها إلا لينظر إليها فإذا هو قد أخذها ثم قال لخالد إن شئت بدأتك فتكلمت وإن شئت أنت فتكلم فقال له خالد ما أبالي أي ذلك كان أما أنا فلا أخالك إلا وقد بلغك وعلمت ما أسأل واطلب وما أدعو إليه وقد جاءك بذلك أصحابك ومن لقينا منهم بأجنادين ومرج الصفر وفحل ومدائنكم وحصونكم وأما أنت فلست أدري ما تريد أن تقول فإن شئت فتكلم وإن شئت بدأتك فتكلمت فقال باهان
الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء وملكنا أفضل الملوك وأمتنا أفضل الأمم فلما بلغ هذا المكان قال خالد وقطع على باهان منطقه والحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الأنبياء وجعل الأمير الذي وليناه أمورنا رجلا كبعضنا فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا إلا أن يكون أتقى منه عند الله وأبر والحمد لله الذي جعل أمتنا تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتقر بالذنب وتستغفر منه وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا قل الآن ما بدا لك


فاصفر وجه باهان وسكت قليلا ثم قال الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا فأغنانا من الفقر ونصرنا على الأمم وأعزنا فلا نذل ومنعنا من


الضيم فلا تباح حرمتنا ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا مرحين ولا باغين على الناس وقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن جوارهم ونعظم رفدهم ونفضل عليهم ونفي لهم بالعهد وخيرناهم بلادنا ينزلون منها حيث شاءوا فينزلون آمنين ويرحلون آمنين وكنا نرى أن جميع العرب ممن لا يجاورنا سيشكرون لنا ذلك الذي آتينا إلى إخوانهم وما اصطنعنا عندهم فلم يرعنا منهم إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال تقاتلوننا على حصوننا وتريدون أن تغلبونا على بلادنا وقد طلب هذا منا قبلكم من كان أكثر منكم عددا وأعظم مكيدة وأقوى جدا فلم يرجعوا عنا إلا وهم بين أسير وقتيل وأرادت ذلك منا فارس فقد بلغكم كيف صنع الله بهم وأراد ذلك منا الترك فلقيناهم بأشد مما لقينا به فارس وأرادنا غيرهم من أهل المشرق والمغرب من ذوي المنعة والعز والجنود العظيمة فكلهم أظفرنا الله بهم وصنع لنا عليهم ولم تكن أمة من الأمم بأدق عندنا منكم شأنا ولا اصغر أخطارا إنما جلكم رعاء الشاء والإبل وأهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء أفأنتم تطمعون أن نتخلى لكم عن بلادنا بئس ما طمعتم فيه منا وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلى بلادنا ونحن ننفي كل من حولنا من الأمم العظيمة الشأن الكثيرة العدد إلا جهد نزل بكم من جدوبة الأرض وقحط المطر فعثتم في بلادنا وأفسدتم كل الفساد وقد ركبتم مراكبنا وليست كمراكبكم ولبستم ثيابنا وليست كثيابكم وطعمتم من طعامنا وليس كطعامكم وأصبتم منا وملأتم أيديكم من الذهب الأحمر والفضة البيضاء والمتاع الفاخر ولقد لقيناكم الآن وذلك كله لنا وهو في أيديكم فنحن نسلمه لكم فأخرجوا به وانصرفوا عن بلادنا فإن أبت أنفسكم إلا أن تخرجوا وتشرهوا وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما نقوي به الضعيف منكم ويرى الغائب أن قد رجع إلى أهله بخير فعلنا ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار ونأمر لك بمثلها ونأمر لرؤسائكم بألف دينار ألف دينار ونأمر

لجميع أصحابك لكل واحد منهم بمائة دينار على
أن تحلفوا لنا بالأيمان المغلظة أن لا تعودوا إلى بلادنا ثم سكت


فقال خالد الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلما فسر ذلك الترجمان رفع باهان يديه إلى السماء ثم أشار إليه بيده وقال لخالد نعم ما قلت قال خالد وأشهد أن محمدا رسول الله فلما فسرها الترجمان قال باهان الله أعلم ما أدري لعله كما تقول ثم قال خالد أما بعد فإن كل ما ذكرت به قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظفر على ألأعداء والتمكن في البلاد نحن به عارفون وكل ما ذكرت من إنعامكم على جيرانكم منا فقد عرفناه وذلك لأمر كنتم تصلحون به دنياكم فكان زيادة في ملككم وعزا لكم ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم قد دخلوا في دينكم وهم يقاتلوننا معكم وأما ما ذكرتنا به من رعي الإبل والغنم فما أقل ما رأيت واحدا منا يكرهه وما لمن يكرهه منا فضل على من يفعله وأما قولك إنا أهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء فحالنا والله كما وصفته وما ننتفى من ذلك ولا نتبرأ منه وكنا على أسوأ وأشد مما ذكرت وسأقص عليك قصتنا وأعرض عليك أمرنا وأدعوك إلى حظك إن قبلت ألا إنا كنا معشر العرب أمة من هذه الأمم أنزلنا الله وله الحمد منزلا من الأرض ليست به أنهار جارية ولا يكون فيه من الزرع إلا القليل وجل أرضنا المهامة والقفار وكنا أهل حجر ومدر وشاة وبعير وعيش شديد وبلاء دائم لازم نقطع أرحامنا ونقتل خشية الإملاق أولادنا ويأكل قوينا ضعيفنا وكثيرنا قليلنا ولا تأمن قبيلة منا قبيلة إلا أربعة أشهر من السنة نعبد من دون الله أوثانا وأصناما ننحتها بأيدينا من الحجارة التي نختارها على أعيننا وهي لا تضر ولا تنفع ونحن عليها مكبون فبينا نحن كذلك على شفا حفرة من النار من مات منا مات مشركا وسار إلى النار ومن بقي منا بقي مشركا كافرا بربه قاطعا لرحمه إذ بعث الله فينا رسولا من صميمنا وخيارنا دعانا إلى الله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع الأنداد التي يعبدها المشركون وقال لنا لا تتخذوا من دون ربكم إلها ولا وليا ولا نصيرا ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا ولا

تعبدوا من دونه نارا ولا حجرا ولا شمسا ولا قمرا


واكتفوا به ربا وإلها من كل شيء دونه وكونوا أولياءه وإليه فارغبوا وإياه فادعوا وقال لنا قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى وكل من زعم أن لله ولدا وأنه ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة حتى يقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويدخلوا في الإسلام فإن فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها وهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فإن هم أبوا أن يدخلوا في دينكم وأقاموا على دينهم فاعرضوا عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم فإن أبوا فقاتلوهم فإنه من قتل منكم كان شهيدا حيا عند الله مرزوقا وأدخله الله الجنة ومن قتل من عدوكم قتل كافرا وصار إلى النار مخلدا فيها أبدا ثم قال خالد وهذا والله الذي لا إله إلا هو هو الذي أمر الله به نبيه {صلى الله عليه وسلم} فعلمناه وأمرنا به وأمرنا أن ندعو الناس إليه ونحن ندعوكم إلى الإسلام وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإلى أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتقروا بما جاء به من عند الله فإن فعلتم فأنتم إخواننا في الدين لكم ما لنا وعليكم ما علينا فإن أبيتم فإنا نعرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم وإن أبيتم أن تفعلوا فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة فاخرجوا بنا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله فإنما الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم سكت خالد فقال باهان إما أن ندخل في دينكم فما أبعد من ترى من الناس أن يترك دينه ويدخل في دينكم وإما أن نؤدي الجزية ثم تنفس الصعداء وثقلت عليه وعظمت عنده فسيموت من ترى جميعا قبل أن يؤدوا الجزية إلى أحد من الناس وهم يأخذون الجزية ولا يعطونها وأما قولك فاخرجوا حتى يحكم الله بيننا فلعمري ما جاءك هؤلاء القوم وهذه الجموع إلا ليحاكموك إلى الله وأما قولك إن الأرض لله يورثها من يشاء من

عباده فصدقت والله ما كانت هذه الأرض التي نقاتلكم عليها وتقاتلوننا إلا لأمة من الأمم كانوا قبلنا فيها فقاتلناهم عليها فأخرجناهم منها وقد كانت قبل ذلك
لقوم آخرين فأخرجهم منها هؤلاء الذين كنا قاتلناهم عليها فابرزوا على اسم الله فإنا خارجون إليكم
قال الحارث فلما فرغ باهان من كلامه وثب خالد فقام وقمت معه فمر بقبته فتركها وبعث معنا صاحب الروم رجالا حتى أخرجونا من عسكرهم وأمنا فرجعنا إلى أبي عبيدة فقص عليهم خالد الخبر وأخبرهم بأن القتال سيقع بينهم وقال للناس استعدوا أيها الناس استعداد قوم يرون أنهم عن ساعة مقاتلون
وحدث أبو جهضم الأزدي عن رجل من الروم كان مع باهان في عسكرهم ذلك وأسلم بعد فحسن إسلامه قال كتب باهان إلى قيصر كتابا يخبره فيه بخالد وحال أصحابه وحال المسلمين وكان قد جمع أصحابه يوم انصرف عنهم خالد فقال أشيروا علي برأيكم في أمر هؤلاء القوم فإني قد هيبتهم فما أراهم يهابون وأطمعتهم فليس يطمعون وأردتهم على الرجوع والخروج عن بلادنا بكل وجه فليسوا براجعين والقوم ليس يريدون إلا هلاككم واستئصالكم وسلب سلطانكم وأكل بلادكم وسبي أولادكم ونسائكم وأخذ أموالكم فإن كنتم أحرارا فقاتلوا عن سلطانكم وامنعوا حريمكم ونساءكم وأموالكم وبلادكم وأولادكم فقامت البطارقة رجلا بعد رجل فكلهم يخبره أنه طيب النفس بالموت دون بلاده وسلطانه وقالوا له إذا شئت فانهض بنا فقال لهم فكيف ترون نقاتلهم فإنا أكثر من عشرة أضعافهم نحن نحو من أربعمائة ألف وهم نحو من ثلاثين ألفا أو أقل أو أكثر فقال بعضهم أخرج إليهم في كل يوم مائة ألف يقاتلونهم وتستريح البقية وتسرح عيالنا وأثقالنا إلى البحر فلا يكون معنا شيء يهمنا ولا يشغلنا ويقاتلهم كل يوم منا مائة ألف فهم في كل يوم في قتل


وجراحة وعناء ومشقة وشدة ونحن لا نقاتل إلا في كل أربعة أيام يوما فإن هم هزموا منا في كل يوم مائة ألف بقي لهم أكثر من مائتي ألف لم ينهزموا فقال آخرون لا ولكنا نرى إذا هم خرجوا إلينا أن نبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابك فلا والله لا يجتمع عشرة على واحد إلا غلبوه فقال باهان هذا ما لا يكون وكيف أقدر على عددهم حتى أبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابي وكيف أقدر أن ينفرد الرجل منهم عن صاحبه حتى أبعث إليه عشرة من قبلي هذا ما لا يكون
قال فأجمعوا رأيهم جميعا على أن يخرجوا بأجمعهم خرجة واحدة فيناجزوهم فيها ولا يرجعوا عنهم حتى يحكم الله بينهم
وكتب باهان إلى قيصر أما بعد نسأل الله لك أيها الملك ولجندك وأهل مملكتك النصر ولدينك وسلطانك العز فإنك بعثتني فيما لا يحصيه من العدد إلا الله فقدمت على القوم فأرسلت إليهم فهيبتهم فلم يهابوا وأطمعتهم فلم يطمعوا وخوفتهم فلم يخافوا وسألتهم الصلح فلم يقبلوا وجعلت له الجعل على أن ينصرفوا فلم يفعلوا وقد ذعر منهم جند الملك ذعرا شديدا وخشيت أن يكون الفشل قد عمهم والرعب قد دخل قلوبهم إلا أن منهم رجالا قد عرفتهم ليسوا بفرارين عن عدوهم ولا شكاك في دينهم ولو قد لقوهم لم يفروا حتى يظهروا أو يقتلوا وقد جمعت أهل الرأي من أصحابي وأهل النصيحة لملكنا وديننا فاجتمع رأيهم على النهوض إليهم جميعا في يوم واحد ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم
قال وكان باهان قد رأى رؤيا فذكرها لملك الروم في كتابه هذا فقال له وقد أتاني آت في منامي فقال لي لا تقاتل هؤلاء القوم فإنهم يهلكونك ويهزمونك فلما انتبهت عبرت أنه من الشيطان أراد أن يحزنني فخسأته فإن يكن الشيطان فقد خسأته وإن لم يكن فقد بين لي الأمر فابعث أنت أيها


الملك بثقلك وحرمك ومالك فألحقهم بأقصى بلادك وانتظر وقعتنا هذه فإن أظهرنا الله عليهم حمدت الله الذي أعز دينك ومنع سلطانك وإن هم ظفروا علينا فأرض بقضاء الله واعلم أن الدنيا زائلة عنك كما زالت عمن كان قبلك فلا تأسف منها على ما فاتك ولا تغتبط منها بشيء مما في يديك والحق بمعاقلك ودار مملكتك وأحسن إلى رعيتك وإلى الناس يحسن الله إليك وارحم الضعفاء والمساكين ترحم وتواضع لله يرفعك فإن الله لا يحب المتكبرين والسلام


قال ثم إن باهان خرج إلى المسلمين في يوم ذي ضباب ورذاذ وصف لهم عشرين صفا لا ترى أطرافها ثم جعل على ميمنته ابن قماطر ومعه جرجير في أهل أرمينية وجعل الدرنجار في ميسرته وكان من خيارهم ونساكهم فأقبلوا نحو المسلمين كأنهم أعراض الجبال وقد ملأوا الأرض فلما نظر إليهم المسلمون وقد أقبلوا كلهم نهضوا إلى راياتهم وجاء خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة وهم الأمراء الذين كان أبو بكر رضي الله عنه أمرهم إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعه معاذ بن جبل لا يفارقه فقالوا له إن هؤلاء قد زحفوا لنا هذا اليوم المطير وإنا لا نرى أن نخرج إليهم فيه حتى يلطوا بعسكرنا ويضطرونا إلى ذلك قال أصبتم ثم خرج هو ومعاذ فصفوا الناس وهيئوهم ووقفوهم على مراكزهم وأقبلت الروم في المطر فوقفوا ساعة وتصبروا عليه فلما رأوا أن المطر لا يقلع انصرفوا إلى عسكرهم ودعا الدرنجار رجلا من العرب ممن كان على دين النصرانية فقال له ادخل في عسكر هؤلاء القوم فانظر ما حالهم وما هديهم وما يصنعون وكيف سيرتهم ثم القني بها فخرج ذلك الرجل حتى دخل عسكر المسلمين فلم يستكروه لأنه كان رجلا من العرب لسانه ووجهه فمكث في عسكرهم ليلة حتى أصبح فوجد المسلمين يصلون الليل كله كأنهم في النهار ثم أصبح فأقام عامة يومه ثم خرج إليه فقال جئتك من عند قوم يصومون النهار ويقومون الليل ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رهبان بالليل وأسد بالنهار لو


سرق ملكهم فيهم لقطعوه ولو زنى لرجموه لا يثأرهم الحق واتباعهم إياه على الهوى فقال لئن كان هؤلاء القوم هكذا لبطن الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم فلما كان من الغد خرجوا أيضا في يوم ذي ضباب وأتى المسلمين رجال من العرب كانوا نصارى فأسلموا فقال لهم أبو عبيدة وخالد ادخلوا في عسكر الروم واكتموهم إسلامكم والقونا بأخبارهم فإن لكم في هذه أجرا والله حاسبه لكم جهادا فإنكم تدفعون بذلك عن حرمة الإسلام وتدلون على عورة أهل الشرك فانطلقوا فدخلوا عسكر الروم ثم جاءوا بعدما مضى من الليل نصفه فأتوا أبا عبيدة فقالوا له إن القوم قد أوقدوا النيران وهم يتعبون لكم ويتهيأون للقائكم وهم مصبحوكم بالغداة فما كنتم صانعين فاصنعوه الآن فخرج أبو عبيدة ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص فعبأوا الناس وصفوهم فلم يزالوا في ذلك حتى أصبحوا
وعن راشد بن عبد الرحمن ألأزدي قال صلى بنا أبو عبيدة يومئذ صلاة الغداة في عسكره في الغداة التي التقينا فيها الروم باليرموك فقرأ في أول ركعة بالفجر وليال عشر فلما مر بقول الله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد 4 - 14 الفجر قلت في نفسي ظهرنا والله على القوم للذي أجرى الله على لسانه وسررت بذلك سرورا شديدا وقلت عدونا هذا والله نظير لهذه الأمم في الكفر والكثرة والمعاصي قال ثم قرأ في الركعة الثانية والشمس وضحاها فلما مر بقول الله تعالى كذبت ثمود بطغواها إلى آخر السورة قلت في نفسي هذه والله أخرى
إن صدق الفأل ليصبن الله عليهم سوط عذاب وليد مدمن الله عليهم كما دمدم على هذه القرون من قبلهم فلما قضى أبو عبيدة صلاته أقبل على الناس بوجهه وقال


أيها الناس أبشروا فإني رأيت في ليلتي هذه فيما يرى النائم كأن رجالا أتوني فحفوا بي وعليهم ثياب بيض ثم دعوا إلي رجالا منكم أعرفهم ثم قالوا لنا أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فإنكم الأعلون وكأنا مضينا إلى عسكر عدونا فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا وجئنا حتى دخلنا عسكرهم وولوا مدبرين
فقال له الناس أصلحك الله نامت عينيك هذه بشرى من الله بشرك الله بخير
وقال أبو مرثد الخولاني وأنا أصلحك الله قد رأيت رؤيا إنها لبشرى من الله رأيت في هذه الليلة كأنا خرجنا إلى عدونا فلما تواقعنا صب الله عليهم من السماء طيرا بيضا عظاما لها مخالب كمخالب الأسد وهي تنقض من السماء انقضاض العقبان فإذا حاذت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخر منها متقطعا
وكان الناس يقولون أبشروا معاشر المسلمين فقد أيدكم الله عليهم بالملائكة قال فنباشر الناس بهذه الرؤيا وسروا بها فقال أبو عبيدة وهذه والله بشرى من الله فحدثوا بهذه الرؤيا الناس فإن مثلها من الرؤيا ما يشجع المسلم ويحسن ظنه وينشطه للقاء عدوه
قال وانتشرت هذه الرؤيا ورؤيا أبي عبيدة في المسلمين واستبشروا بهما
وعن أبي جهضم أيضا أن رجلا من الروم حدثه في خلافة عبد الملك بن مروان أن رجلا من عظمائهم أتى باهان في صبيحة الليلة التي خرج إلى المسلمين


باليرموك فقال له إني رأيت رؤيا أريد أن أحدثك بها قال هاتها قال رأيت كأن رجالا نزلوا من السماء طول أحدهم أبعد من مد بصره فنزعوا سيوفنا من أغمادها وأسنة رماحنا من أطرافها ثم لم يدعوا منا رجلا إلا كتفوه ثم قالوا لنا اهربوا وأكثركم هالك فأخذنا نهرب فمنا من يسقط على وجهه ومنا من يتبلد لا يستطيع أن يبرح من مكانه ومنا من يحل كتافه ثم يسعى حتى لا نراه فقال له باهان أما من رأيت يسقط على وجهه ومن رأيته يتبلد لا يطيق أني يسعى ولا يتنحى من مكانه فهم الذين يهلكون وأما الذين رأيت يحلون كتافهم ويسعون حتى لا نراهم فأولئك الذين ينجون ثم قال له باهان أما أنت فو الله لا تسلم مني أبدا فوجهك الذي بشر بالشر وقنط من الخير ألست الذي كنت أشد الناس علي في أمر الرجل الذي قتل رجلا من أهل الذمة فأردت أن أقتله فكنت أنت من اشد الناس علي في أمره حتى عطلت حدا من حدود الله وتركته وكان علي من الحق أن أقيمه فحلت بيني وبينه في جماعة من السفهاء وتركته كراهية أن أفرق جماعتكم أو أن يضرب بعضكم بعضا فأما الآن فقد حدثت نفسي بالموت وإنما ألقى القوم عن ساعة فإن شئتم الآن فتفرقوا وإن شئتم فاجتمعوا وأ ا أتوب إلى الله من ترك ذلك الحد يومئذ فإنه لم يك يسعني ولا ينبغي لي إلا قتله ولو قتلتموني معه ثم أمر به فضربت عنقه قال وطلب الرومي الذي كان قتل الذمي فهرب منه فلم يقدر عليه وقد تقدمت قصة هذا الرومي المقتول تعديا فيما أخرجناه قبل من الحديث عن أبي بشر التنوخي فأغنى ذلك عن إعادتها
وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدي أن باهان زحف يوم اليرموك إلى المسلمين في عشرين صفا تضم نحوا من أربعمائة ألف مقاتل وأصبح المسلمون طيبة أنفسهم لقتال المشركين قد شرح الله صدورهم وشجع قلوبهم على لقاء عدوهم فأخرجهم أبو عبيدة وجعل على ميمنته معاذ بن جبل وعلى ميسرته


قباث بن أشيم وعلى الرجالة هاشم بن عتبة وعلى الخيل خالد بن الوليد وخرج الناس على راياتهم وفيهم أشراف العرب وفرسانهم من رجالهم وقبائلهم وفيهم الأزد وهم ثلث الناس وحمير وهم عظم الناس وفيهم همدان وخولان ومذحج وخثعم وقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغسان وكندة وحضرموت ومعهم جماعة من كنانة ولكن عظم الناس أهل اليمن ولم يحضرها يومئذ أسد ولا تميم ولا ربيعة ولم تكن دارهم هنالك إنما كانت دارهم عراقية فقاتلوا أهل فارس بالعراق فلما برز المسلمون إلى عدوهم سار أبو عبيدة فيهم ثم قال يا عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإن وعد الله حق يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار فلا تبرحوا مصافكم ولا تخطوا إليهم بخطوة ولا تبدأوهم بقتال واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم إن شاء الله وخرج معاذ يقص على الناس ويقول يا قراء القرآن ومستحفظي الكتاب وأنصار الهدى وأولياء الحق إن رحمة الله لا تنال بالتواني وجنته لا تدخل بالأماني ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله ألم تسمعوا لقول الله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا 55 النور إلى رأس الآية أنتم إن شاء الله منصورون فأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين 46 الأنفال واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته وليس لأحد منكم ملجأ ولا منجي من دونه ولا متعزز بغير الله وجعل يمشي في الصفوف يحرضهم ويقص عليهم ثم انصرف إلى موضعه
قال سهل بن سعد ومر عمرو بن العاص يومئذ على الناس فجعل يعظهم


ويحرضهم ويقول أيها الناس غضوا أبصاركم واجثوا على الركب وأشرعوا الرماح والزموا مراكزكم ومصافكم فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا في وجوههم وثوب الأسد فوالذي يرضي الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويعاقب عليه ويجزي بالإحسان لقد بلغني أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم فلو قد صدقتموهم الشدة لقد ابذعروا ابذعرار أولاد الحجل
قال وكان أبو سفيان بن حرب استأذن عمر بن الخطاب في جهاد الروم بالشام فقال له إني أحب أن تأذن لي فأخرج إلى الشام متطوعا بمالي فأنصر المسلمين وأقاتل المشركين وأحض جماعة من هناك من المسلمين سيفتحونها فلا آلوهم نصيحة ولا خيرا فقال له عمر قد أذنت لك يا أبا سفيان تقبل الله جهادك وبارك لك في رأيك وأعظم أجرك فيما نويت من ذلك فتجهز أبو سفيان بأحسن الجهاز وفي أحسن هيئة ثم خرج وصحبته أناس من المسلمين كثير خرجوا متطوعين فأحسن أبو سفيان صحبتهم حتى قدموا على جماعة المسلمين ولما خرج المسلمون إلى عدوهم باليرموك كان أبو سفيان يومئذ يسير في الناس ويقف على أهل كل راية وعلى كل جماعة فيحض الناس ويعظهم ويقول إنكم يا معشر المسلمين أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل نائين عن أمير المؤمنين وأمداد المسلمين وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عددهم شديد عليكم حنقهم وقد وترتموهم في أنفسهم ونسائهم وأولادهم وبلادهم وأموالهم فلا والله لا ينجيكم منهم اليوم ولا تبلغون رضوان الله إلا بصدق اللقاء والصبر في مواطن المكروه فتقربوا إلى خالقكم وامتنعوا بسيوفكم ولتكن هي الحصون التي إليها تلجون وبها تمتنعون
وقاتل أبو سفيان يومئذ قتالا شديدا وأبلى بلاء حسنا
قال وزحف الروم إلى المسلمين وهم يزفون زفا ومعهم الصلبان وأقبلوا بالأساقفة والقسيسين والرهبان والبطارقة والفرسان ولهم دوي كدوي الرعد


وقد تبايع عظمهم على الموت ودخل منهم ثلاثون ألفا في السلاسل كل عشرة في سلسلة لئلا يفروا فلما نظر إليهم خالد بن الوليد مقبلين أقبل على نساء المسلمين وهن على تل مرتفع في العسكر فقال يا نساء المسلمين أيما رجل أدركتنه منهزما فاقتلنه فأخذن العناهر وهي عمد البيوت ثم أقبلن نحو المسلمين فقلن لستم بعولتنا إن لم تمنعونا اليوم وأقبل خالد إلى أبي عبيدة فقال إن هؤلاء قد أقبلوا في عدد وحد وجد وإن لهم الشدة لا يردها شيء وليست خيل المسلمين بكثيرة ولا والله لأقامت خيلي لشدة حملتهم وخيلهم ورجالهم أبدا وخيل خالد يومئذ أمام صفوف المسلمين والمسلمون ثلاثة صفوف قال خالد فقد رأيت أن أفرق خيلي فأكون أنا في إحدى الخيلين ويكون قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة فإذا حملوا على الناس فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم وإن كانت الأخرى حملت عليهم خيولنا وهي جامة على ميمنتهم وميسرتهم وقد انتهت شدة خيلهم وقوتها وتفرقت جماعتهم ونقضوا صفوفهم وصاروا نشرا ثم تحمل عليهم وهي بتلك الحال فأرجو عندها أن يظفر الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم وقال لأبي عبيدة قد رأيت لك أن توقف سعيد بن زيد موقفك هذا وتقف أنت بحذائه من ورائه في جماعة حسنة فتكون ردءا للمسلمين فقبل أبو عبيدة مشورته وقال أفعل ما أراك الله وأنا فاعل ما ذكرت فأمر أبو عبيدة سعيد بن زيد فوقف في مكانه وركب هو فسار في الناس فحرضهم وأوصاهم بتقوى الله والصبر ثم انصرف فوقف من وراء الناس ردءا لهم وأقبلت الروم كقطع الليل حتى إذا حاذوا الميمنة نادى معاذ بن جبل الناس فقال يا عباد الله المسلمين إن هؤلاء قد تيسروا للشدة عليكم ولا والله لا يردهم إلا صدق اللقاء والصبر في البأساء ثم نزل عن فرسه وقال من أراد


أن يأخذ فرسي ويقاتل عليه فليأخذه فوثب إليه ابنه عبد الرحمن بن معاذ وهو غلام حين احتلم فقال يا أبة إني لأرجو أن أكون فارسا أعظم غناء عن المسلمين مني راجلا وأنت يا ابة راجلا اعظم غناء منك فارسا وعظم المسلمين رجالة وإذا رأوك صابرا محتسبا محافظا صبروا إن شاء الله وحافظوا فقال له معاذ وفقني الله وإياك يا بني لما يحب ويرضى فقاتل معاذ وابنه قتالا شديدا ما قاتل مثله كثير من المسلمين ثم إن الروم تحاضوا وتداعوا وقصت عليهم الأساقفة والرهبان وقد دنوا من المسلمين فإذا سمع ذلك معاذ منهم قال اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وحبب إلينا اللقاء ورضنا بالقضاء
قال وخرج باهان صاحب الروم فجال في أصحابه وأمرهم بالصبر والقتال دون ذراريهم وأموالهم وسلطانهم وبلادهم ثم بعث إلى صاحب الميسرة أن احمل عليهم وكان على الميسرة الدرنجار وكان متنسكا فقال البطارقة والروم الذين معه قد أمركم أميركم أن تحملوا وتهيأت البطارقة ثم شدوا على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحمير وحضرموت وخولان فثبتوا حين صدموا واقتتلوا قتالا شديدا ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال فأزالوا المسلمين عن الميمنة إلى ناحية القلب وانكشفت طائفة من المسلمين إلى العسكر وثبت عظم الناس فلم يزولوا وقاتلوا تحت راياتهم فلم ينكشفوا ولم تنكشف زبيد يومئذ وهي في الميمنة وفيهم الحجاج بن عبد يغوث والد عمرو بن الحجاج فنادى يا خيفان يا خيفان فاجتمعوا إليه ثم شدوا على الروم وهم في نحو خمسمائة رجل شدة فلم يتنهنهوا حتى خالطوا الروم فقاتلوهم قتالا شديدا وشغلوهم عن اتباع من انكشف من المسلمين وشدت عليهم حضرموت وحمير وخولان بعدما كانوا زالوا ثم رجعوا إلى مواقفهم حتى وقفوا في الصف حيث كانوا واستقبل النساء


منهزمة المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم وثبتت الأزد وقاتلت قتالا لم يقاتل مثله أحد من تلك القبائل وقتل منهم مقتلة لم يقتل مثلها من قبيلة من القبائل وقتل يومئذ عمرو بن الطفيل ذو النور وهو يقول يا معشر الأزد لا يؤتين المسلمون من قبلكم وقاتل قتالا شديدا قتل من أشدائهم تسعة ثم قتل هو يرحمه الله
وقال جندب بن عمرو بن حممة ورفع رايته يا معشر الأزد إنه لا يبقى منكم ولا ينجو من الإثم والعار إلا من قاتل ألا وإن المقتول شهيد والخائب من هرب اليوم وقاتل حتى قتل رحمه الله ونادى أبو هريرة يا مبرور يا مبرور فأطافت به الأزد قال عبد الله بن سراقة انتهيت إلى أبي هريرة يومئذ وهو يقول تزينوا للحور العين وارغبوا في جوار ربكم في جنات النعيم فما أنتم في موطن من مواطن الخير أحب فيه منكم في هذا الموطن ألا وإن للصابرين فضلهم قال فأطافت به الأزد ثم اضطربوا هم والروم فوالذي لا إله إلا هو لرأيت الروم وإنها لتدور بهم الأرض وهم في مجال واحد كما تدور الرحاء وما برحوا يعني المسلمين ولا زالوا وركبهم من الروم أمثال الجبال فما رأيت موطنا قط أكثر قحفا ساقطا ومعصما نادرا وكفا طائحة من ذلك الموطن وقد والله أوحلناهم شرا وأوحلونا
وكان جل القتال في الميمنة وأن القلب ليلقون مثل ما نلقى ولكن حمة القوم وجدهم وحردهم وحنقهم علينا وكنا في آخر الميمنة فلقد لقينا من قتالهم ما لم يلق أحد مثله فوالله إنا لكذلك نقاتلهم وقد دخل عسكرنا منهم نحو من عشرين ألفا من ورائنا فعصمنا الله من أن نزول حمل عليهم خالد بن الوليد فقصف بعضهم على بعض وشدخ منهم في العسكر نحوا من عشرة آلاف ودخل سائرهم بيوت المسلمين في العسكر مجرحين وغير مجرحين ثم


خرج خالد يكرد ويقتل كل من كان قريبا منا من الروم حتى إذا حاذانا ألف خيله بعضها إلى بعض ثم قال يا أهل الإسلام إنه لم يبق عند القوم من الجد والقتال إلا ما قد رأيتم فالشدة الشدة فوالذي نفسي بيده ليعطينكم الله الظفر الساعة عليهم فجعل لا يسمع هذا القول من خالد أحد من المسلمين إلا شجعه عليهم ثم إن خالدا اعترض الروم وإلى جنبه منهم أكثر من مائة ألف فحمل عليهم وما هو إلا في نحو من ألف فارس فوالله ما بلغتهم الحملة حتى فض الله جمعهم
قال وشددنا على من يلينا من رجالتهم فانكشفوا وأتبعناهم نقتلهم كيف شئنا ما يمتنعون من قتل ميمنتنا لميسرتهم
قال ثم إن خالدا انتهى إلى الدرنجار وقد قال لأصحابه لفوني بالثياب فليت أني لم أقاتل هؤلاء القوم اليوم فلفوه بالثياب وقال لوددت أن الله عافاني من حرب هؤلاء القوم فلم أرهم ولم يروني ولم أنصر عليهم ولم ينصروا علي وهذا يوم سوء فما شعر حتى غشية المسلمون فقتلوه
وقال ابن قماطر وهو في ميمنة الروم لجرجير صاحب أرمينية احمل عليهم فقال له أنت تأمرني أن أحمل عليهم وأنا أمير مثلك فقال له ابن قماطر أنت أمير وأنا أمير فوقك وقد أمرت بطاعتي فاختلفا ثم إن ابن قماطر حمل على المسلمين حملة شديدة على الميسرة وفيها كنانة وقيس ولخم وجذام وعاملة وغسان وخثعم وقضاعة فانكشف المسلمون وزالت الميسرة عن مصافها وثبت أهل الرايات وأهل الحفاظ فقاتلوا قتالا شديدا وركبت الروم أكتاف من انهزم من المسلمين حتى دخلوا معهم العسكر فاستقبلهم نساء المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم
وعن حنظلة بن جويه قال والله إني لفي الميسرة إذ مر بنا رجال من
الروم على خيل من خيل العرب لا يشبهون الروم وهم أشبه شيء بنا فلا أنسى قول قائل منهم يا معشر العرب الحقوا بوادي القرى ويثرب وهو يقول
في كل يوم خيلنا تغير
نحن لنا البلقاء والسدير
هيهات يأبى ذلك الأمير
والملك المتوج المحبور
الرجز


قال فحملت عليه وحمل علي فاضطربنا بسيفينا فلم يغنينا شيئا ثم اعتنقنا فخررنا جميعا فاعتركنا ساعة ثم إننا تحاجزنا فنظرت إلى عنقه وقد بدا منها مثل شراك النعل فمشيت إليه فاعتمدت ذلك الموضع بسيفي فوالله ما أخطأته فقطعته فصرع فضربته حتى قتلته وأقبلت إلى فرسي وقد كان عار وإذا فرسي قد حبسوه على فأقبلت حتى ركبته قال وقاتل قباث بن أشيم يومئذ قتالا شديدا وأخذ يقول
إن تفقدوني تفقدوا خير فارس
لدى الغمرات والرئيس المحاميا
وذا فخر لا يملأ الهول صدره
ضروبا بنصل السيف أروع ماضيا
الطويل
وكسر في الروم يومئذ ثلاثة أرماح وقطع سيفين ويقول كلما قطع سيفا أو كسر رمحا من يعين بسيف أو برمح في سبيل الله رجلا قد حبس نفسه مع أولياء الله وقد عاهد الله ألا يفر ولا يبرح يقاتل المشركين حتى يظهر المسلمون أو يموت وكان من أحسن الناس بلاء يومئذ
ونزل أبو الأعور السلمي فقال يا معشر قريش خذوا بحظكم من الصبر والأجر فإن الصبر في الدنيا عز ومكرمة وفي الاخرة رحمة وفضيلة فاصبروا وصابروا


وعن حبيب بن مسلمة قال اضطررنا يوم اليرموك إلى سعيد بن زيد فلله سعيد ما سعيد يومئذ إلا مثل الأسد جثا والله على ركبتيه حتى إذا دنوا وثب في وجوههم مثل الليث فطعن برايته أول رجل من القوم فقتله وأخذ والله يقاتل راجلا فقاتل الرجل البئيس الشجاع فارسا قال وكان يزيد بن أبي سفيان من أعظم الناس غناء وأحسنه بلاء هو وأبوه جميعا وقد كان أبوه مر به وهو يحرض الناس ويعظهم فقال يا بني إنك تلي من أمر المسلمين طرفا ويزيد يومئذ على ربع الناس وإنه ليس بهذا الوادي رجل من المسلمين إلا وهو محقوق بالقتال فكيف بأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين أولئك أحق الناس بالجهاد والصبر والنصيحة فاتق الله يا بني واكرم في أمرك ولا يكونن أحد من أصحابك أرغب في ألآخرة ولا في الصبر في الحرب ولا أشد نكاية في المشركين ولا أجهد على عدو الإسلام ولا أحسن بلاء منك فقال يزيد أفعل والله يا أبة فقاتل في الجانب الذي كان فيه قتالا شديدا
قال وشد على عمرو بن العاص جماعة من الروم فانكشف عنه أصحابه وثبت عمرو فجالدهم طويلا وقاتل قتالا شديدا ثم تراجع إليه أصحابه قال فسمعت أم حبيبة بنت العاص تقول قبح الله رجلا يفر عن حليلته وقبح الله رجلا يفر عن كريمته وسمعت نسوة من المسلمين يقلن قاتلوا أيها المسلمون فلستم بعولتنا إن لم تمنعونا وأخذن العناهر فكلما مر بهن منهزم من المسلمين حملن عليه حتى يضربن وجهه ويرددنه إلى جماعة المسلمين
وقاتل شرحبيل بن حسنة في ربعه الذي كان فيه قتالا شديدا وكان إلى جنبه سعيد بن زيد وسطا من الناس وجعل ينادي إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن إلى آخر الآية 111 التوبة ثم


جعل يقول أين الشارون أنفسهم من الله بإبتغاء مرضات الله أين المشاؤون إلى جوار الله غدا في داره فاجتمع إليه ناس كثير وبقي القلب لم ينكشف وفيه أهله الذين كانوا مع سعيد بن زيد وكان أبو عبيدة من وراء ظهور المسلمين ردءا لهم فلما رأى قيس بن هبيرة أن خيل المسلمين مما يلي الميسرة قد شد عليهم الروم اعترض الروم بخيله وهي الشطر من خيل خالد فقصف بعضهم على بعض وحمل خالد من ميمنة المسلمين على ما يليه من الروم حتى اضطرهم إلى صفوفهم فقصف بعضهم على بعض وزحف إليه المسلمون جماعتهم رويدا رويدا حتى إذا دنوا منهم حملوا عليهم فجعلت ا لروم ينقضون صفوفهم وينهزمون وبعث أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد أن أحمل عليهم فحمل عليهم وشد المسلمون بأجمعهم فضرب الله وجوه الروم ومنح المسلمين أكتافهم يقتلونهم كيف شاءوا لا يمتنعون من أحد من المسلمين وانتهى خالد بن الوليد إلى الدر نجار وكان كارها لقتال المسلمين لما كان يجد من صفتهم في الكتب وكان يقرأها فقال خالد إن كنت لأحب أن أراه فضربه المسلمون حتى قتلوه وإنه لملفف رأسه بكساء وأتبعهم المسلمون يقتلونهم كل قتلة وركب بعضهم بعضا حتى انتهوا إلى مكان مشرف على أهوية تحتهم فجعلوا يتساقطون فيها ولا يبصرون وهو يوم ذو ضباب وهم يرتكسون فيها لا يعلم آخرهم ما يلقى أولهم حتى سقط فيها نحو من مائة ألف رجل ما أحصوا إلا بالقصب
وبعث أبو عبيدة شداد بن أوس بن ثابت فعدهم بها من الغد فوجد من سقط أكثر من ثمانين ألفا فسميت تلك الأهوية الواقوصة حتى اليوم لأنهم وقصوا فيها وما فطنوا لتساقطهم حتى انكشف الضباب فأخذوا في وجه آخر وقتل المسلمون منهم في المعركة بعدما أدبروا نحوا من خمسين ألفا
وأتبعهم خالد في الخيل فلم يزل يقتلهم في كل واد وكل شعب وفي كل


جبل حتى انتهى إلى دمشق فخرج إليه أهلها وقالوا له نحن على عهدنا الذي كان بيننا وبينكم فقال لهم خالد نعم ومضى في اتباعهم يقتلهم في القرى والأودية والجبال حتى انتهى إلى حمص فخرج إليه أهلها فقالوا له مثل ما قال أهل دمشق في العهد فقال لهم نعم
وأقبل أبو عبيدة على قتلى المسلمين رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام وأهله خيرا فدفنهم فلما فرغ من ذلك جاءه النعمان بن محمية ذو الأنف الخثعمي يسأله أن يعقد له على قومه فعقد له عليهم وكانت خثعم قد رأست رجلا آخر منهم من بني عمرو يدعى ابن ذي السهم فاختصم هو وذو الأنف إلى أبي عبيدة في الرياسة قبل الوقعة فأخرهم أبو عبيدة إلى أن يفرغوا من حربهم ويناجزوا عدوهم ثم ينظر في أمرهم فلما التقى الناس استشهد هنالك ابن ذي السهم الخثعمي فعقد أبو عبيدة للنعمان ذي الأنف على خثعم
قال وجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعي فقال لأبي عبيدة اعقد لي على قومي فعقد له وكانت قصته مثل قصة الخثعمي وذلك أنه أتى قومه وعليهم رجل منهم فخاصمهم الأشتر في الرياسة إلى أبي عبيدة فدعا أبو عبيدة النخع فقال أي هذين أرضى فيكم وأعجب إليكم أن يرأس عليكم فقالوا كلاهما شريف وفينا رضي وعندنا ثقة فقال أبو عبيدة كيف اصنع بكما ثم قال للأشتر أين كنت حين عقدت لهذا الراية قال كنت عند أمير المدينة ثم أقبلت إليكم قال فقدمت على هذا وهو رأس أصحابك قال نعم قال فإنه لا ينبغي لك أن تخاصم ابن عمك وقد رضيت به جماعة قومك قبل قدومك عليهم قال الأشتر فإنه رضي شريف وأهل ذلك هو وأنا أهل الرياسة فلتعقبني من رياسة قومي فأليهم كما وليهم هذا فقال أبو عبيدة تأخروا ذلك حتى تكون هذه الوقعة فإن استشهدتما جميعا فما عند الله خير لكما وإن هلك أحدكما وبقي الآخر كان الباقي منكما الرأس على قومه وإن تبقيا جميعا أعقبناك منه إن شاء الله قال الأشتر فقد رضيت فلما كانت الواقعة استشهد فيها رأس النخع الأول فعقد أبو عبيدة للأشتر عند ذلك


وفي حديث آخر أن الأشتر كان من جلداء الرجال وأشدائهم وأهل القوة والنجدة منهم وأنه قتل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلا من بطارقتهم وقتل منهم ثلاثة مبارزة وتوجه مع خالد في طلب الروم حين انهزموا فلما بلغوا ثنية العقاب من أرض دمشق وعليها جماعة من الروم عظيمة أقبلوا يرمون المسلمين من فوقهم بالصخر فتقدم إليهم الأشتر في رجال من المسلمين وإذا أمام الروم رجل جسيم من عظمائهم وأشدائهم فوثب إليه الأشتر لما دنا منه فاستويا على صخرة مستوية فاضطربا بسيفيهما فضرب الأشتر كتف الرومي فأطارها وضربه الرومي بسيفه فلم يضره شيئا واعتنق كل واحد منهما صاحبه ثم دفعه الأشتر من فوق الصخرة فوقعا منها ثم تدحرجا والأشتر يقول وهما يتدحرجان إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين 162 - 163 الأنعام فلم يزل يقول هذا وهو في ذلك ملازم العلج لا يتركه حتى انتهيا إلى موضع مستو من الجبل فلما استقرا فيه وثب الأشتر على الرومي فقتله ثم صاح في الناس أن جوزوا فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتله الأشتر خلوا سبيل العقبة للناس ثم انهزموا
وأقبل أبو عبيدة في أثر خالد حتى انتهى إلى حمص فأمر خالدا أن يتقدم إلى قنسرين ولما انتهت الهزيمة إلى ملك الروم وهو بأنطاكية قال قد كنت أعلم أنهم سيهزمونكم فقال له بعض جلسائه ومن أين علمت ذلك أيها الملك قال من حيث أنهم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة ويرغبون في الآخرة أشد من رغبتكم في الدنيا ولا يزالون ظاهرين ما كانوا هكذا وليغيرن كما غيرتم ولينقضن كما نقضتم
وفي حديث عن عبد الله بن قرط إن أول من جاء ملكهم بالهزيمة رجل منهم فقال له ما وراءك قال خير أيها الملك هزمهم الله وأهلكهم يعني


المسلمين قال ففرح بذلك من حوله وسروا ورفعوا أصواتهم فقال لهم ملكهم ويحكم هذا كاذب وهل ترون هيئة هذا إلا هيئة منهزم سلوه ما جاء به فلعمري ما هو ببريد ولو لم يكن هذا منهزما ما كان ينبغي له أن يكون إلا مع أميره مقيما فما كان بأسرع من أن جاء آخر فقال له ويحك ما وراءك فقال هزم الله العدو وأهلكهم قال له هرقل فإن كان الله أهلكهم فما جاء بك وفرح أصحابه وقالوا صدقك أيها الملك فقال لهم ويحكم أتخادعون أنفسكم إن هؤلاء والله لو كانوا ظهروا أو ظفروا ما جاؤوكم على متون خيولهم يركضون ولسبقهم البريد والبشرى قال فإنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من العرب من تنوخ على فرس له عربية يقال له حذيفة بن عمرو وكان نصرانيا فقال قيصر ما أظن خبر السؤال إلا عند هذا فلما دنا منه قال له ما عندك قال الشر قال وجهك الذي بشرنا بالشر ثم نظر إلى أصحابه فقال خبر سوء جاء به رجل سوء من قوم سوء فإنهم لكذلك إذ جاءه رجل من عظماء الروم فقال له الملك ما وراءك قال الشر هزمنا قال فما فعل أميركم باهان قال قتل قال فما فعل فلان وفلان يسمي له عددا من أمرائه وبطارقته وفرسانه فقال قتلوا فقال له لكنك والله أنت أخبث وألأم وأكفر من أن تذب عن دين أو تقاتل على دنيا ثم قال لشرطه أنزلوه فأنزلوه فجاؤوا به فقال له ألست كنت أشد الناس علي في أمر محمد نبي العرب حين جاءني كتابه ورسوله وكنت قد أردت أن أجيبه إلى ما دعاني إليه وأدخل في دينه فكنت أنت من اشد الناس علي حتى تركت ما أردت من ذلك فهلا قاتلت الآن قوم محمد وأصحابه دون سلطاني وعلى قدر ما كنت لقيت منك إذ منعتني من الدخول في دينه اضربوا عنقه فقدموه فضربوا عنقه ثم نادى في أصحابه بالرحيل راجعا إلى القسطنطينية فلما خرج من الشام واشرف على أرض الروم استقبل الشام فقال السلام عليك يا سورية سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدا ثم قال ويحك أرضا ما أنفعك لعدوك لكثرة ما فيك من العشب والخصب والخير


وعن عمرو بن عبد الرحمن أن هرقل حين خرج من أنطاكية أقبل حتى نزل الرها ثم منها كان خروجه إلى القسطنطينية وأقبل خالد في طلب الروم حتى دخل أرض قنسرين فلما انتهى إلى حلب تحصن منه أهلها وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم فطلبوا الصلح والأمان فقبل أبو عبيدة فصالحهم وكتب لهم أمانا
وعن الحسن بن عبد الله أن الأشتر قال لأبي عبيدة ابعث معي خيلا أتبع آثار القوم فإن عندي جزاء وغناء فقال له أبو عبيدة والله إنك لخليق بكل خير فبعثه في ثلاثمائة فارس وقال له لا تتباعد في الطلب وكن مني قريبا فكان يغير على مسيرة اليوم منه واليومين ونحو ذلك
ثم أن أبا عبيدة دعا ميسرة بن مسروق فسرحه في ألفي فارس فمضى في آثار الروم حتى قطع الدروب وبلغ ذلك الأشتر فمضى حتى لحقه فإذا ميسرة مواقف جمعا من الروم أكثر من ثلاثين ألفا وكان ميسرة قد أشفق على من معه وخاف على نفسه وعلى أصحابه فإنهم لكذلك إذ طلع عليه الأشتر في ثلاثمائة فارس من النخع فلما رآهم أصحاب ميسرة كبروا وكبر الأشتر وأصحابه وحمل عليهم من مكانه ذلك وحمل ميسرة فهزموهم وركبوا رؤوسهم وأتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض فعلوا فوقه وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم فجعلوا يرمون خيل المسلمين من مكانهم المشرف فإن خيل المسلمين لمواقفتهم إذ نزل رجل من الروم أحمر عظيم جسيم فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم قال فو الله ما خرج إليه رجل منهم فقال لهم الأشتر أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج فلم يتكلم أحد قال فنزل الأشتر ثم خرج إليه فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى الأشتر الدرع والمغفر وعلى الرومي مثل ذلك فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما فوقع


سيف الرومي على هامة الأشتر فقطع المغفر وأسرع السيف في رأسه حتى كاد ينشب في العظم ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومي فلم تقطع شيئا من الرومي إلا أنه ضربه ضربة شديدة أوهنت الرومي وأثقلت عاتقه ثم تحاجزا فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئا انصرف فمشى على هيئته حتى أتى الصف وقد سال الدم على لحيته ووجهه فقال أخزى الله هذا سيفا وجاءه أصحابه فقال علي بشيء من حناء فأتوه به من ساعته فوضعه على جرحه ثم عصبه بالخرق ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض ثم قال ما اشد لحيتي ورأسي وأضراسي وقال لابن عم له امسك سيفي هذا واعطني سيفك فقال دع لي سيفي رحمك الله فإني لا أدري لعلي أحتاج إليه فقال أعطينه ولك أم النعمان يعني ابنته فأعطاه إياه فذهب ليعود إلى الرومي فقال له قومه ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج فقال والله لأخرجن إليه فليقتلني أو لأقتلنه فتركوه فخرج إليه فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق فاضطربا بسيفيهما فضربه الأشتر على عاتقه فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته ووقعت ضربة الرومي على عاتق الأشتر فقطعت الدرع ثم انتهت ولم تضره شيئا ووقع الرومي ميتا وكبر المسلمون ثم حملوا على صف رجالة الروم فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل وباتوا ليلتهم يتحارسون فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع فارتحل الأشتر منصرفا بأصحابه ومضى ميسرة في أثر القوم حتى بلغ مرج القبائل بناحية أنطاكية والمصيصة ثم انصرف راجعا وكان أبو عبيدة حين بلغه أنهم قد أدربوا أشفق عليهم وجزع وندم على إرساله إياهم قال فإنه لجالس في أصحابه مستبطئا لقدومهم متأسفا على تسريحهم إذ أتى فبشر بقدوم الأشتر وجاء فحدثه بما كان من أمرهم ولقائهم ذلك الجيش وهزيمتهم إياه وما صنع الله لهم ولم يذكر مبارزة الرومي وقتله إياه حتى أخبره غيره وسأله عن ميسرة وأصحابه فأخبره بالوجه الذي توجه فيه وأخبره أنه لم

يمنعه من التوجه معه إلا الشفقة على أصحابه وألا يصابوا بعدما ظفروا فقال
قد أحسنت وما أحب الآن أنك معهم ولوددت أنهم كانوا معكم
قال فدعا ناسا من أهل حلب فقال اطلبوا إلي إنسانا دليلا عالما بالطريق أجعل له جعلا على أن يتبع آثار هذه الخيل التي بعثتها في طلب الروم حتى يلحقها ثم يأمرها بالإنصراف إلى ساعة يلقاها فجاؤوه بثلاثة رجال فقالوا هؤلاء علماء بالطريق جراء عليها أدلاء بها وهم يخرجون في آثار خيلك حتى يأتوها بأمرك فكتب أبو عبيدة إلى ميسرة
أما بعد فإذا أتاك رسولي هذا فأقبل إلي حين تنظر في كتابي ولا تعرجن على شيء فإن سلامة رجل واحد من المسلمين أحب إلي من جميع أموال المشركين والسلام عليك
فأخذوا كتابه ثم خرجوا به فاستقبلوا ميسرة حين هبط من الدروب راجعا وقد عافاه الله وأصحابه وغنمهم وسلمهم فدفعوا إليه كتاب أبي عبيدة فلما قرأه قال جزاه الله من وال على المسلمين خيرا ما أشفقه وأنصحه ثم اقبل الرسل فبشروا أبا عبيدة بسلامتهم وانصرافهم فحمد الله على ذلك وأقام حتى قدم عليه ميسرة وكتب أمانا على الناس من أهل قنسرين ثم أمر مناديه فنادى بالرحيل إلى إيلياء وقدم خالدا على مقدمته بين يديه وبعث علي حمص حين انتهى إليها حبيب بن سلمة وأرض قنسرين إذ ذاك مجموعة إلى صاحب حمص وإنما فتحت قنسرين بعد ذلك في خلافة يزيد بن معاوية ثم خرج من حمص ومر بدمشق فولاها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ثم خرج حتى مر بالأردن فنزلها فعسكر بها وبعث الرسل إلى أهل إيلياء وقال اخرجوا إلي أكتب لكم أمانا على أنفسكم وأموالكم ونفي لكم كما وفينا لغيركم فتثاقلوا فأبوا فكتب إليهم
بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل إيلياء وسكانها سلام على من أتبع الهدى وآمن بالله العظيم ورسله أما بعد فإنا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده


ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فإذا شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم وأموالكم وكنتم إخواننا في ديننا وإن أبيتم فأقروا لنا بإعطاء الجزية وأنتم صاغرون فإن أبيتم سرت إليكم بقوم هم أشد للموت حبا منكم لشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ثم لا أرجع عنكم إن شاء الله حتى اقتل مقاتلتكم وأسبي ذراريكم
قال وكتبت إلى عمر بن الخطاب حين أظهره الله على أهل اليرموك وخرج يطلبهم
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو والحمد لله الذي أهلك المشركين ونصر المسلمين وقديما تولى الله نصرهم وأظهر فلجهم وأعز دعوتهم فتبارك الله رب العالمين
أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنا لقينا الروم في جموع لم تلق العرب جموعا قط مثلها فأتوا وهم يرون أن لا غالب لهم من الناس فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا ما قوتل المسلمون مثله في موطن قط ورزق الله المؤمنين الصبر وأنزل عليهم النصر فقتلوهم في كل قرية وكل شعب وواد وسهل وجبل وغنم المسلمون عسكرهم وما كان فيه من أموالهم ومتاعهم ثم إني أتبعتهم بالمسلمين حتى بلغنا أقصى بلادهم وقد بعثت إلى أهل الشام عمالا وبعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام فإن قبلوا وإلا فليؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أبوا سيرت إليهم حتى أنزل بهم ثم لا أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله والسلام عليك
فكتب إليه عمر رضي الله عنه
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إهلاك الله المشركين ونصره المؤمنين وما صنع لأوليائه وأهل


طاعته فالحمد لله على صنيعه إلينا ونستتم من الله بشكره ثم اعلموا أنكم لم تظهروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة ولكنه بعون الله ونصره ومنه تعالى وفضله فلله المن والطول والفضل العظيم فتبارك الله أحسن الخالقين والحمد لله رب العالمين
فهذه الأحاديث التي أوردها أصحاب فتوح الشام في كتبهم عن وقعة اليرموك وقد أوردها غيرهم على صفة تخالف أكثر ما تقدم مساقا وتاريخا حسب ما يظهر لمن يقف على جميعها واختلاف الأخبار من جهة النقل أمر مألوف وإعادة أمثال هذه الآثار التي هي كيف ما وقعت من آيات الإسلام شيء غير مملول ونحن نذكر من ذلك ما يحسن في هذا المجموع ذكره ويليق بالمقصود إيراده إن شاء الله تعالى
فمن ذلك أن ابن إسحاق ذكر أن التقاء المسلمين مع الروم باليرموك كان في رجب سنة خمس عشرة وأن الذي لقيهم من الروم هو الصقلار خصي لهرقل بعثه في مائة ألف مقاتل أكثرهم من الروم وسائرهم من أهل أرمينية ومن المستعربة من غسان وقضاعة والمسلمون مع أبي عبيدة أربعة وعشرون ألفا فاقتتل الناس اقتتالا شديدا حتى دخل عسكر المسلمين وقاتل نساء من قريش بالسيوف حين دخل العسكر حتى سابقن الرجال وقد كان انضم إلى المسلمين ناس من لخم وجذام فلما رأوا جد القتال فروا وخذلوا المسلمين فقال قائل من المسلمين حين رأى ذلك منهم
القوم لخم وجذام في الهرب
ونحن والروم بمرج نضطرب
وإن يعودوا بعدها لا نصطحب
الرجز
ثم إن الله أنزل نصره فهزمت الروم وجموع هرقل التي جمع فأصيب منهم سبعون ألفا وقتل الله الصقلار وباهان وكان هرقل قدمه مع الصقلار حين لحق به


وفيما حكاه الطبري بسنده عن سيف عن شيوخه قالوا أوعب القواد بالناس نحو الشام وعكرمة ردء لهم وبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل فخرج حتى نزل بحمص فأعد لهم الجنود وعبأ العسكر وأراد أن يشغل بعضهم ببعض لكثرة جنده وفضول رجاله فأرسل أخاه تذارق إلى عمرو بن العاص في تسعين ألفا وبعث جرجة بن توذرا نحو يزيد بن أبي سفيان فعسكر بإزائه وبعث الدراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة وبعث القيقار بن نسطوس في ستين ألفا نحو أبي عبيدة فهابهم المسلمون وجميع فرق المسلمين أحد وعشرون ألفا سوى ستة آلاف مع عكرمة ففزعوا جميعا بالكتب والرسل إلى عمر بن الخطاب يستدعون رأيه فراسلهم أن الرأي الاجتماع وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة وإذا نحن تفرقنا لم يكن الرجل منا في عدد يقرن به لأحد ممن استقبله فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا فيه وقد كتبوا إلى أبي بكر بمثل ما كاتبوا به عمر فطلع عليهم كتابه بمثل ما كاتبهم به عمر سواء بأن اجتمعوا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين فإنكم أعوان الله والله ناصر من نصره وخاذل من كفره ولن يؤتي مثلكم من قلة وإنما يؤتي العشرة آلاف والزيادة عليها إذا أتوا من قبل الذنوب فاحترسوا من الذنوب واجتمعوا باليرموك متساندين وليتصل كل رجل منكم بأصحابه
وبلغ ذلك هرقل فكتب إلى بطارقته أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلا واسع العطن واسع المطرد ضيق المهرب وعلى الناس التذارق وعلى المقدمة جرجة وعلى مجنبتيه باهان والدراقص وعلى الحرب القيقار وأبشروا فإن باهان في الأثر مدد لكم ففعلوا فنزلوا الواقوصة وهي على ضفة اليرموك وصار الوادي خندقا لهم وهو لهب لا يدرك وإنما أراد باهان أن يستبقي الروم ويأنسوا بالمسلمين وترجع إليهم أفئدتهم وانتقل المسلمون من معسكرهم


الذي اجتمعوا به فنزلوا عليهم بحذائهم على طريقهم وليس للروم طريق إلا عليهم فقال عمرو أيها الناس ألا أبشروا حصرت والله الروم وقل ما جاء محصور بخير فأقاموا بإزائهم وعلى طريقهم ومخرجهم لا يقدرون من الروم على شيء ولا يخلصون إليهم اللهب وهو الواقوصة من ورائهم والخندق من أمامهم ولا يخرجون خرجة إلا أذيل المسلمون منهم وقد استمدوا ابا بكر رحمه الله وأعلموه الشأن في صفر يريد من سنة ثلاث عشرة
وفي حديث آخر لسيف عن أشياخه أنهم لما استمدوه قال أبو بكر خالد لها وبعث إليه وهو بالعراق فعزم عليه واستحثه في السير فنفذ خالد لذلك وطلع عليهم ففرح به المسلمون وطلع باهان على الروم فتيمنوا به ووافق قدوم أحدهما قدوم الآخر فولى خالد قتاله وقاتل الأمراء من بإزائهم فهزم خالد باهان وتتابع الروم على الهزيمة فاقتحموا خندقهم وقال راجز من المسلمين في ذلك
دعوا هرقلا ودعونا الرحمن
والله قد أخزى جنود باهان )
بخالد اللج أبي سليمان
الرجز
وحرد المسلمون وحرد المشركون وهم أربعون ومائتا ألف منهم ثمانون ألف مقيد ومنهم أربعون ألفا مسلسلون للموت وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم وثمانون ألف فارس والمسلمون سبعة وعشرون ألفا ممن كان مقيما إلى أن قدم عليهم خالد في تسعة آلاف فصاروا ستة وثلاثين ألفا وكان قتالهم على تساند كل جند وأميره لا يجمعهم أحد حتى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق
وكان عسكر أبي عبيدة باليرموك مجاورا لعسكر عمرو بن العاص وعسكر شرحبيل بن حسنة مجاورا لعسكر يزيد بن أبي سفيان فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو وشرحبيل مع يزيد وأما عمرو ويزيد فكانا لا يصليان مع أبي عبيدة وشرحبيل وقدم خالد بن الوليد وهم على حالهم هذه فعسكر على حدة فصلى بأهل العراق


ووافق خالد بن الوليد المسلمين وهم متضاربون بمدد الروم وعليهم باهان ووافق الروم وفيهم نشاط بمددهم فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى الخندق والواقوصة أحد حدوده فلزموا خندقهم عامة شهر يحضضهم القسيسون والشمامسة والرهبان وينعون لهم النصرانية حتى استنصروا فخرجوا للقتال الذي لم يكن بعده قتال فلما أحس المسلمون خروجهم وأرادوا الخروج متساندين سار فيهم خالد بن الوليد فحمد الله وأثنى عليه وقال
إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه العجز ولا البغي أخلصوا جهادكم وأريدوا بعملكم الله فإن هذا يوم له ما بعده ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا فأعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه يوافق رأي واليكم قالوا فما الرأي قال إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم فالله الله قد افرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينقصه منه ان دان لأحد من أمراء الجنود ولا يزيده عليه أن دانوا له وأن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله تهيأوا فإن هؤلاء
قوم قد تهيأوا وهذا يوم له ما بعده فإن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم وإن هزمونا لم نفلح بعدها فهلموا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم ودعوني اليكم اليوم


فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم وأن الأمر أطول مما ساروا إليه فخرجت الروم في تعبئة لم ير الراؤون مثلها قط وخرج خالد في تعبئة لم تعبها العرب قبل ذلك خرج في نحو ستة وثلاثين كردوسا وقال إن عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة تعبئة أكثر في رأي العين من الكراديس فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان وكان خالد على كردوس والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وعياض بن غنم وهاشم بن عتبة وزياد بن حنظلة وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وعبد الرحمن بن خالد وهو يومئذ ابن ثمان عشرة سنة وحبيب بن مسلمة وآخرون غيرهم من جلة الصحابة وأشراف الناس وفرسان العرب كل واحد منهم على كردوس كردوس
وفي حديث آخر أنه شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيهم نحو من مائة رجل من أهل بدر وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام وإنهم ذادة الروم وأنصار المشركين اللهم إن هذا يوم من أيامك اللهم أنزل نصرك على عبادك
وعن عبد الرحمن بن غنم وكان شهدها قال كان أبو سفيان وأشياخ المسلمين محامية لا يجولون ولا يقاتلون يفيء إليهم الناس فإذا كانت على الروم قال وقالوا هلك بنو الأصفر اللهم اجعله وجههم وإذا كانت على المسلمين قال وقالوا يا بني الإخوان أين أين اللهم اردد لهم الكرة فإذا كروا قالوا إيه يا بني الإخوان وإذا حملوا قالوا اللهم أعنهم وانصرهم
وفي غير حديث عبد الرحمن أن رجلا قال يومئذ لخالد ما أكثر الروم وأقل المسلمين فقال خالد ما أقل الروم وأكثر المسلمين إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال والله لوددت أن الأشقر بريء من توجيه وإنهم أضعفوا في العدد وكان فرسه قد حفى في مسيره وجعل خالد يوم اليرموك على الطلائع قباث بن أشيم وكان القارئ يومذاك المقداد


قالوا ومن السنة التي سن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء وهي سورة الأنفال ولم يزل الناس بعد على ذلك
ولما فرغ خالد من تعبئتهم وزحف إليه المشركون أمر عكرمة والقعقاع وكانا على مجنبتي القلب فأنشبا القتال فنشب والتحم الناس وتطارد الفرسان فإنهم لعلى ذلك إذ قدم البريد من المدينة وهو محمية بن زنيم فأخذته الخيول وسألوه الخبر فلم يخبرهم إلا بسلامه وأخبرهم عن أمداد تأتيهم وإنما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة فأبلغوا خالدا فأسر إليه الخبر وأخبره بما قال للجند فقال له أحسنت فقف وأخذ الكتاب فجعله في كنانته وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر أمر الجند فوقف الرسول مع خالد وخرج جرجة أحد أمراء الروم يومئذ حتى إذا كان بين الصفين نادى ليخرج إلي خالد فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه فواقفه بين الصفين حتى اختلفت أعناق


دابتيهما وقد أمن أحدهما صاحبه فقال له جرجة يا خالد اصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمته قال لا قال فبم سميت سيف الله قال إن الله بعث فينا نبيه {صلى الله عليه وسلم} فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا ثم إن بعضنا صدقة وتابعه وبعضنا باعده وكذبه فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله ثم أخذ الله تعالى بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وتابعناه فقال أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد الناس على المشركين قال صدقتني ثم أعاد عليه جرجة يا خالد أخبرني إلام تدعون قال إلى شهادة أن لا إله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله قال فمن لم يجبكم قال الجزية ونمنعهم قال فإن لم يعطها قال نؤذنه بحرب ثم نقاتله قال فما منزلة الذي يدخل في دينكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم قال منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا ثم أعاد عليه جرجة هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذخر قال نعم وأفضل قال وكيف يساويكم وقد سبقتموه قال إنا دخلنا في هذا الأمر وتابعنا نبينا {صلى الله عليه وسلم} وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالغيب ويرينا الآيات وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويتابع وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا قال جرجة صدقتني بالله ولم تخادعني ولم تألني قال بالله لقد صدقتك وما لي إليك ولا إلى أحد منكم حاجة وإن الله لولي ما سألت عنه قال صدقتني وقلب الترس ومال مع خالد وقال علمني الإسلام فمال به خالد إلى فسطاطه فشن عليه قربة ثم صلى به ركعتين وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها حيلة أزالوا المسلمين عن مواقفهم فركب خالد ومعه

جرجة
والروم خلال المسلمين فتنادى المسلمون فثابوا وتزاحفت الروم إلى مواقفهم فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب ثم أصيب جرجة ولم يصل صلاة يسجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما وصلى مع الناس الأولى والعصر إيماء وتضعضع الروم ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم وكان مقاتلهم واسع المطرد ضيق المهرب فلما وجدت خيلهم مذهبا ذهبت وتركوا رحلهم في مصافهم وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء وأخر الناس الصلاة حتى صلوا بعد الفتح
ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب أفرجوا لها ولم يجرجوها فذهبت فتفرقت في البلاد وأقبل خالد والمسلمون على الرحل فقضوهم فكأنما هدم بهم حائط فاقتحموا في خندقهم فاقتحموه عليهم فعمدوا إلى الواقوصة فهوى فيها المقترنون وغيرهم ومن صبر من المقترنين هوى به من جشأت نفسه فهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه كلما هوى اثنان كان البقية أضعف حتى تهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف من المقترنين ثمانون ألفا ومن المطلقين أربعون ألفا سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل وتجلل القيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم ثم جلسوا وقالوا لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية فأصيبوا في تزملهم
ولما دخل خالد الخندق نزله وأحاطت به خيله وقاتل الناس حتى أصبحوا قال بعضهم وأصبح خالد من تلك الليلة وهو في رواق تذارق
وقال عكرمة بن أبي جهل يومئذ قاتلت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في كل


موطن وأفر منكم اليوم ثم نادى من يبايع على الموت فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا وماتوا إلا من برأ منهم ضرار بن الأزور وأتى خالد بعدما أصبحوا بعكرمة جريحا فوضع رأسه على فخذه وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقيه وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر الماء في حلوقهما ويقول كلا زعم ابن حنتمة أنا لا نستشهد
وأصيبت يومئذ عين أبي سفيان بن حرب وكان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية فخرج يومئذ رجل من الروم فقال من يبارز فخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين فقال للرومي خذها وأنا الغلام النخعي فقال الرومي أكثر الله في قومي مثلك أما والله لولا أنك من قومي لذدت عن الروم فأما الآن فلا أعينهم
وفي حديث عبد الرحمن بن غنم وذكر قتال المسلمين تلك الليلة قال حتى إذا فتح الله على المسلمين من آخر الليل وقتلوهم حتى الصباح أصبحوا فاقتسموا الغنائم ودفنوا قتلى المسلمين وبلغوا ثلاثة آلاف وصلى كل أمير على قتلى أصحابه ودفع خالد بن الوليد العهد إلى أبي عبيدة بعدما فرغ من القسم ودفن الشهداء وتراجع الطلب فولى أبو عبيدة رحمه الله النفل من الأخماس فنفل وأكثر وكتب بالفتح
قالوا وكان في الثلاثة آلاف الذين أصيبوا عكرمة وابنه عمرو وسلمة ابن هشام وعمرو بن سعيد وأثبت خالد بن سعيد فلا يدري أين مات بعد وقد تقدم
ذكر موت خالد في غير هذه الوقعة وهذا مما يقع بين الناقلين من الإختلاف الذي تقدم التنبيه عليه فالله تعالى أعلم

وعن عمرو بن ميمون وغيره ذكروا أن هرقل كان حج بيت المقدس قال فبينا هو يقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه فجمع الروم وقال أرى من الرأي أن لا تقاتلوا هؤلاء القوم وأن تصالحوهم فو الله لئن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم في جبال الروم فنخر أخوه وختنه وتصدع عنه من كان حوله فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه وأمر الأمراء ووجه إلى كل حيز جندا فلما اجتمع المسلمون أمرهم يعني الروم بمنزل جامع حصين فنزلوا الواقوصة وخرج هو فنزل حمص فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوي وانتسف أهله وأموالهم وعمد إلى بصرى وافتتحها قال لجلسائه ألم أقل لكم لا تقاتلوهم فإنه لا يقوم لهم أحد فقالوا قاتل عن دينك واقض الذي عليك ولا تجبن الناس قال وأي شيء أطلب إلا توقير دينكم
ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك بعثوا إلى الروم إنا نريد كلام أميركم وملاقاته فدعة نأته ونكلمه فأبلغوه فأذن لهم فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان كالرسل والحارث بن هشام وضرار بن الأزور وأبو جندل بن سهيل ومع أخي هرقل يومئذ ثلاثون سرادقا كلها من ديباج فلما انتهوا إليها ممهدة وبلغ ذلك هرقل فقال ألم أقل لكم هذا أول الذل أما الشام فلا شام ويل للروم من الولد المشؤوم ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح فرجع أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا فكان القتال حتى جاء الفتح
قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضي الله عنه الشام


وكان أبو عبيدة رحمه الله بعد انقضاء اليرموك على ما وقع في كتب فتوح الشام من ذلك قد بعث الرسل إلى أهل إيلياء يطلبهم بالخروج إليه ليكتب لهم أمانا على أنفسهم وأموالهم فتثاقلوا عليه فكتب إليهم يعرض عليهم الإسلام أو الجزية أو ينزل بهم حتى يحكم الله له عليهم وقد أوردنا هذا الكتاب بنصه قبل فلما أبوا أن يأتوه وأن يصالحوه اقبل إليهم حتى نزل بهم فحاصرهم حصارا شديدا وضيق عليهم من كل جانب فخرجوا إليه ذات يوم فقاتلوهم ساعة ثم شد عليهم المسلمون فانهزموا ودخلوا حصنهم وكان الذي ولي قتالهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان كل واحد منهما في جانب فبلغ ذلك سعيد بن زيد وهو على دمشق فكتب إلى أبي عبيدة
أما بعد فإني لعمري ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد في سبيل الله على نفسي وعلى ما يقربني من مرضاة ربي فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب فيه مني فليعمل لك عليه ما بدا لك فإني قادم عليك وشيكا إن شاء الله والسلام عليك
فلما وصل كتابه إلى أبي عبيدة قال أشهد ليفعلنها فقال ليزيد بن أبي سفيان اكفني دمشق فسار إليها يزيد فوليها


وكان في المسلمين رجل من بني نمير يقال له مخيمس بن حابس بن معاوية وكان شجاعا وكان الناس يذكرون منه صلاحا فقده أصحابه أياما فكانوا يطلبونه ويسألون عنه فلا يخبرون عنه بشيء فلما يئسوا منه ظنوا أن قد هلك وأنه اغتيل فبينا هم جلوس ذات يوم إذ طلع عليهم مقبلا في يده ورقتان لم ينظر الناس إلى مثلها قط أنضر ولا أعرض عرضا ولا أطول طولا ولا أحسن منظرا ولا أطيب رائحة ففرح به أصحابه فرحا شديدا وقالوا له أين كنت قال وقعت في جب فمضيت فيه حتى انتهيت إلى جنة معروشة فيها من كل شيء ولم تر عيني مثل ما فيها قط في مكان ولم أظن أن الله خلق مثلها فلبثت فيها هذه الأيام التي فقدتموني في نعيم ليس مثله نعيم وفي منظر ليس مثله منظر وفي رائحة لم يجد أحد من الناس قط أطيب منها فبينا أنا كذلك أتاني آت فأخذ بيدي فأخرجني منها إليكم وقد كنت أخذت هاتين الورقتين من شجرة كنت تحتها جالسا فبقيتا في يدي فأخذ الناس يشمونهما فيجدون لهما ريحا لم يجدو لشيء قط أطيب منها فأهل الشام يزعمون أنه أدخل الجنة وأن تينك الورقتين من ورقها ويقولون إن الخلفاء رفعتهما في الخزانة
ولما رأى أهل إيلياء أن أبا عبيدة غير مقلع عنهم وظنوا أن لا طاقة لهم بحربه قالوا نحن نصالحك قال فإني أقبل منكم الصلح قالوا فأرسل إلى خليفتكم عمر فيكون هو الذي يعطينا العهد ويكتب لنا الأمان فقبل ذلك أبو عبيدة وهم بالكتاب وكان لا يقطع أمرا دون رأي معاذ وكان معاذ لا يكاد يفارقه لرغبته في الجهاد فأرسل إليه أبو عبيدة وكان بعثه إلى الأردن فلما قدم عليه أخبره فقال له معاذ تكتب إلى أمير المؤمنين فتسأله القدوم عليك فلعله أن يستقدم ثم يأبى هؤلاء الصلح فيكون سيره عناء


وفضلا فلا تكتب إليه حتى تستحلفهم بأيمانهم المغلظة لئن أنت سألته القدوم فقدم عليهم فأعطاهم الأمان وكتب لهم الصلح ليقبلن ذلك وليصالحن عليه فأخذ عليهم أبو عبيدة الأيمان الغلطة لئن عمر قدم فأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكتب لهم على ذلك كتابا ليقبلن وليؤدن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الشام فلما فعلوا ذلك كتب إليه أبو عبيدة
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا أقمنا على أيلياء وظنوا أن لهم في المطاولة فرجا ورجاء فلم يزدهم الله بها إلا ضيقا ونقصا وهزلا وأزلا فلما رأوا ذلك سألونا أن نعطيهم ما كانوا قبل منه ممتنعين وله كارهين وسألونا الصلح على أن يقدم عليهم أمير المؤمنين فيكون هو المؤمن لهم والكاتب لهم كتابا وإنا خشينا أن يقدم أمير المؤمنين ثم يغدر القوم ويرجعوا فيكون مسيرك أصلحك الله عناء وفضلا فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم لئن أنت قدمت عليهم فآمنتهم على أنفسهم وأموالهم ليقبلن ذلك وليؤدن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة ففعلوا فإن رأيت ياأ مير المؤمنين أن تقدم علينا فافعل فإن في مسيرك أجرا وصلاحا وعافية للمسلمين آتاك الله رشدك ويسر أمرك والسلام عليك
فلما أتى عمر رحمه الله كتاب أبي عبيدة جمع رءوس المسلمين فقرأه عليهم واستشارهم فقال له عثمان إن الله قد أذلهم وحصرهم وضيق عليهم وأراهم ما صنع بجموعهم وملوكهم وما قتل من صناديدهم وفتح على المسلمين من بلادهم فهم في كل يوم يزدادون هزلا وأزلا ونقصا وضيقا ورغما فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف ولشأنهم محتقر فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى ينزلوا على الحكم ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وإلا حاصرهم المسلمون وضيقوا عليهم حتى يعطوا بأيديهم
فقال عمر ماذا ترون هل عند أحد منكم غير هذا الرأي


فقال علي بن أبي طالب نعم يا أمير المؤمنين عندي غير هذا
فقال ما هو
قال إنهم يا أمير المؤمنين قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذل والصغار هي على المسلمين فتح ولهم عز وهم يعطونكها الآن عاجلا في عافية ليس بينك وبين ذلك إلا أن تقدم عليهم ولك يا أمير المؤمنين في القدوم عليهم الأجر في كل ظمأ وكل مخمصة وفي قطع كل واد وفي كل فج وشعب وفي كل نفقة تنفقها حتى تقدم عليهم فإن قدمت عليهم كان في قدومك عليهم الأمن والعافية والصلح والفتح ولست آمن لو أنهم يئسوا من قبولك الصلح ومن قدومك عليهم أن يتمسكوا بحصنهم ولعلهم أن يأتيهم من عدونا مدد لهم فيدخلوا معهم في حصنهم فيدخل على المسلمين من حربهم وجهادهم بلاء ومشقة ويطول بهم الحصار ويقيم المسلمون عليهم فيصيب المسلمين من الجهد والجوع نحو ما يصيبهم ولعل المسلمين يدنون من حصنهم فيرمونهم بالنشاب ويقذفونهم بالحجارة فإن قتل رجل من المسلمين تمنيتم أنكم فديتموه بمسيركم إلى منقطع الترب ولكان المسلم بذلك من إخوانه أهلا
فقال عمر قد أحسن عثمان في مكيدة العدو وقد أحسن علي النظر لأهل الإسلام ثم قال سيروا على إسم الله فإني معسكر وسائر
ثم خرج ومعه أشراف الناس وبيوتات العرب والمهاجرون والأنصار وأخرج معه العباس بن عبد المطلب
وعن أبي سعيد المقبري أن عمر رحمه الله كان في مسيرة ذلك يجلس لأصحابه إذا صلى الغداة فيقبل عليهم بوجهه ثم يقول الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام والإيمان وأكرمنا بمحمد {صلى الله عليه وسلم} فهدانا به من الضلالة وجمعنا من الفرقة وألف بين قلوبنا ونصرنا به على الأعداء ومكن لنا في البلاد وجعلنا به إخوانا متحابين فأحمدوا الله على هذه النعم وسلوه المزيد فيها والشكر عليها وتمام ما أصبحتم تتقلبون فيه منها فإن الله عز وجل يريد الرغبة
إليه ويتم نعمته على الشاكرين
قال فكان عمر رضي الله عنه لا يدع هذا القول كل غداة في مبتدئه ومرجعه


وعن أبي سعيد الخدري أن عمر رحمه الله مضى في وجهه ذلك حتى انتهى إلى الجابية فقام في الناس فقال
الحمد لله الحميد المستحمد الدفاع المجيد الغفور الودود الذي من أراد أن يهديه من عباده اهتدى من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا 17 الكهف
قال وإذا رجل من القسيسين من النصارى عندهم وعليه جبة صوف فلما قال عمر رضي الله عنه ( من يهد الله فهو المهتد ) قال النصراني وأنا أشهد فقال عمر ( ومن يضلل فلن جد له وليا مرشدا ) فنفض النصراني جبته عن صدره ثم قال معاذ الله لا يضل الله أحدا يريد الهدى فقال عمر ماذا يقول عدو الله هذا النصراني فأخبروه فرفع عمر صوته وعاد في خطبته بمثل مقالته الأولى ففعل النصراني كفعله الأول فغضب عمر رضي الله عنه وقال والله لئن أعادها لأضربن عنقه ففهمها العلج فسكت إذ عاد عمر في خطبته وقال من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ثم قال
أما بعد فإني سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إن خيار أمتي الذين يلونكم ثم الذين تلونهم ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها وحتى يحلف على اليمين ولم يسألها فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ولا يبالي بشذوذ من شذ وذكر بقية الحديث
قال ثم خرج عمر رحمه الله من الجابية إلى إيلياء فخرج إليه المسلمون


يستقبلونه وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين وأقبل هو على جمل له وعليه رحله وعليه صفة من جلد كبش حولي فانتهى إلى مخاضة فأقبلوا يبتدرونه فقال للمسلمين مكانكم ثم نزل عن بعيره فأخذ بزمامه وهو من ليف ثم دخل الماء بين يدي جمله حتى جاز الماء إلى أصحاب أبي عبيدة فإذا معهم برذون يجبنونه فقال له يا أمير المؤمنين إركب هذا البرذون فإنه أجمل بك وأهون عليك في ركوبك ولا نحب أن يراك أهل الذمة في مثل هذه الهيئة التي نراك فيها واستقبلوه بثياب بيض فنزل عمر عن جمله وركب البرذون وترك الثياب فلما هملج به البرذون نزل عنه وقال خذوا هذا عني فإنه شيطان وأخاف أن يغير على قلبي فقالوا يا أمير المؤمنين لو لبست هذه الثياب البيض وركبت هذا البرذون لكان أجمل في المروءة وأحسن في الذكر وخيرا في الجهاد فقال عمر رضي الله عنه ويحكم لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى إيلياء فنزل بها فأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمي وقد لبسوا لباس الروم وتشبهوا بهم في هيئتهم فقال عمر احثوا في وجوههم التراب حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا وكانوا قد أظهروا شيئا من الديباج فأمر بهم فحرق عليهم
وفي غير هذا الحديث مما ذكره سيف أن خالد بن الوليد لقي عمر عند مقدمة الجابية في الخيل عليهم الديباج والحرير فنزل واخذ الحجارة فرماهم بها وقال سرعان ما لفتم عن رأيكم إياي تستقبلون في هذا الزي وإنما شبعتم منذ سنتين سرعان ما نزت بكم البطنة وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنها يلامقة وإن علينا السلاح قال فنعم إذا


وفي حديث أبي سعيد الخدري فقال يزيد بن أبي سفيان يا أمير المؤمنين إن الثياب والدواب عندنا كثيرة والعيش عندنا رفيع والسعر رخيص وحال المسلمين كما تحب فلو أنك لبست من هذه الثياب البيض وركبت من هذه الدواب الفره وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير كان أبعد في الصوت وأزين لك في هذا الأمر وأعظم لك في الأعاجم فقال له يا يزيد لا والله لا أدع الهيئة التي فارقت عليها صاحبي ولا أتزين للناس بما أخاف أن يشينني عند ربي ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس ويصغر عند الله
فلم يزل عمر رحمه الله على الأمر الأول الذي كان عليه في حياة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحياة أبي بكر رضي الله عنه حتى خرج من الدنيا
قال فلما نزل عمر بإيلياء واطمأن الناس بعث أبو عبيدة إلى أهل إيلياء أن انزلوا إلى أمير المؤمنين واستوثقوا لأنفسكم فنزل إليه ابن الجعيد في ناس من عظمائهم فكتب لهم عمر كتاب الأمان والصلح فلما قبضوا كتابهم وأمنوا دخل الناس بعضهم في بعض ولم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزار عمر فيصنع له ويسأله أن يزوره في رحله فيفعل ذلك عمر إكراما لهم غير أبي عبيدة فإنه لم يستزره فقال له عمر إنه لم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزارني غيرك فقال أبو عبيدة يا أمير المؤمنين إني أخاف إن استزرتك أن تعصر عينيك فأتاه عمر في بيته فإذا ليس في بيته إلا لبد فرسه وإذا هو فراشه وسرجه وإذا هو وسادته وإذا كسر يابسة في كوة بيته فجاء بها فوضعها على ألرض بين يديه وأتى بملح جريش وكوز خزف فيه ماء فلما نظر عمر إلى ذلك بكى ثم التزمه وقال أنت أخي وما من أحد من أصحابي إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه غيرك فقال له أبو عبيدة ألم أخبرك أنك ستعصر في بيتي عينيك


قال ثم إن عمر قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي {صلى الله عليه وسلم} ثم قال يا أهل الإسلام إن الله قد صدقكم الوعد ونصركم على العداد وأورثكم البلاد ومكن لكم في الأرض فلا يكن جزاء ربكم إلا الشكر وإياكم والعمل بالمعاصي فإن العمل بالمعاصي كفر للنعم وقل ما كفر قوم بما أنعم الله عليهم ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم
ثم نزل وحضرت الصلاة فقال عمر رضي الله عنه يا بلال ألا تؤذن لنا رحمك الله فقال بلال يا أمير المؤمنين أما والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولكن سأطيعك اليوم إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته ذكروا نبيهم {صلى الله عليه وسلم} فبكوا بكاء شديدا ولم يكن يومئذ أحد أطول بكاء من أبي عبيدة ومعاذ بن جبل حتى قال لهما عمر حسبكما رحمكما الله فلما قضى عمر صلاته قام إليه بلال فقال يا أمير المؤمنين إن أمير المؤمنين إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي وما يجد ذلك عامة المسلمين فقال لهم عمر ما يقول بلال فقال يزيد ابن أبي سفيان يا أمير المؤمنين إن سعر بلادنا رخيص وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هاهنا بمثل ما كنا نقوت به عيالنا بالحجاز فقال عمر والله لا أبرح العرصة أبدا حتى تضمنوا لي أرزاق المسلمين في كل شهر ثم قال انظروا كم يكفي الرجل ويسعه في كل يوم فقالوا كذا وكذا فقال كم يكون ذلك في الشهر قالوا جريبين من قمح مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال فضمنوا له ذلك ثم قال يا معشر المسلمين هذا لكم سوى أعطياتكم فإن وفا لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضته لكم وأعطوكموه في كل شهر فذلك ما أحب وإن هم لم يفعلوا فأعلموني حتى أعزلهم عنكم وأولي أمركم غيرهم فلم يزل ذلك جاريا دهرا حتى قطع بعد ذلك
وعن شهر بن حوشب أن إسلام كعب الحبر وهو من اليمن من حمير
كان في قدوم عمر الشام وأن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك


قال وكان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان من عظمائهم وخيارهم
قال كعب وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة وبكتب الأنبياء ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم فلما حضرته الوفاة دعاني فقال يا بني قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث وقد أظل زمانه فكرهت أن أخبرك بذلك فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى وطينت عليهما فلا تتعرضن لهما ولا تنظر فيهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما فإن الله يزيدك بذلك خيرا
فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلي من أن ينقضني المأتم حتى أنظر في الورقتين فلما انقضى المأتم فتحت الكوة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله خاتم النبيين لا نبي بعده مولده بمكة ومهاجره بطيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ويصفح أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال وتذلل ألسنتهم بالتكبير وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم وهم السابقون المقربون المشفعون المشفع لهم فلما قرأت هذا قلت في نفسي والله ما علمني أبي شيئا هو خير لي من هذا فمكثت بذلك ما شاء الله حتى بعث النبي


صلى الله عليه وسلم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه وبلغني أنه خرج في مكة وهو يظهر مرة ويستخفي مرة فقلت هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من الكذابين وجعلت أحب أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه قد أتى المدينة فقلت في نفسي إني لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه فلم يقدر لي حتى بلغني أنه قد توفي صلوات الله عليه وسلامه فقلت في نفسي لعله لم يكن الذي كنت أظن ثم بلغني أن خليفته قام مقامه ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءنا جنوده فقلت في نفسي لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم فلم أزل أدفع ذلك وأوخره لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر ابن الخطاب فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر فحدثت نفسي بالدخول في الإسلام فوالله إني ذات ليلة فوق سطح لي إذا رجل من المسلمين يتلو كتاب الله تعالى حتى أتى على هذه الآية يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا 47 النساء
قال فلما سمعت هذه الآية خشيت والله ألا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي فما كان شيء أحب إلي من الصباح فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت
وقال كعب لعمر عند انصرافه عن الشام يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل وكانوا أهلها مفتوحة على رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين سره مثل علانيته وعلانيته مثل سره وقوله لا يخالف فعله والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار متراحمون متواصلون متباذلون
فقال له عمر ثكلتك أمك أحق ما تقول قال أي والذي أنزل التوراة على موسى والذي يسمع ما نقول إنه لحق


فقال عمر رضي الله عنه فالحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا فرحمنا
بمحمد {صلى الله عليه وسلم} وبرحمته التي وسعت كل شيء


ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع أناس من قريش في تجارة إلى الشام قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا ببطريق قد قبض على عنقي فذهبت أنازعه فقيل لي لا تفعل فإنه لا نصف لك منه فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى فجاءني بزنبيل ومجرفة فقال انقل ما هاهنا فجعلت أنظر كيف أصنع فلما كان في الهاجرة وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه فقال أئنك على ما أرى ما نقلت شيئا ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت وا ثكل أمك يا عمر أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنثرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير فسرت بقية يومي وليلتي ومن الغد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إلي منه رجل فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا فقلت اضللت أصحابي فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف فادخل واصب من الطعام واسترح فدخلت فأتاني بطعام وشراب وألطفني ثم صعد في النظر وصوبه فقال قد علم أهل الكتاب أو الكتب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب أو الكتب مني وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير وتغلبنا عليه فقلت له يا هذا لقد ذهبت في غير مذهب فقال لي ما اسمك فقلت عمر بن الخطاب قال أنت والله صاحبنا فاكتب لي على ديري هذا وما فيه فقلت يا هذا إنك قد صنعت إلي صنيعة فلا تكدرها فقال إنما هو كتاب في رق فإن كنت صاحبنا فذاك وإلا لم يضرك شيء فكتبت له على ديره وما فيه فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إلي ثم أو كف أتانا فقال أتراها قلت نعم قال سر عليها فإن لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلي قال فركبتها فكان كما قال حتى لحقت أصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز فضربتها مدبرة


وانطلقت معهم فلما وافى عمر الشام في خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العدس فلما رآه عرفه ثم قال قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال هل عندكم من نفع للمسلمين قال نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه
وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال السلام عليك فاروق أنت صاحب إيلياء والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء
وعند سيف في أمر إيلياء أحاديث ربما خالفت بعض ما تقدم ونحن نورد منها ما يطيل الإمتاع مضمونا إلى ذلك ما ذكره من أمر قيسارية وغيره
فمن ذلك أن عمر رحمه الله كتب إلى يزيد بن أبي سفيان بعد مصالحة أهل الأردن واجتماع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغزة أن يسرح معاوية إلى قيسارية
وكتب عمر إلى معاوية
أما بعد فإني قد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا نعم المولى ونعم النصير
فسار معاوية في جنده حتى نزل على أهل قيسارية فهزمهم وحصرهم ثم إنهم جعلوا يزاحفونه فلا يزاحفونه في مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم فاقتتلوا في حفيظة واستماتة فبلغت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفا وكملها في هزيمتهم مائة ألف وبعث بالفتح مع
رجلين من بني الضبيب ثم خاف منهما الضعف فبعث آخرين بعدهما فلحقاهما فطوياهما وهما نائمان وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخير ليلا فجمع الناس وأباتهم على الفرح وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يجلس الأسرى عنده ويقول ما صنعوا بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله فمنع بذلك من العبث بأسرى المسلمين حتى افتتح قيسارية


وكان عمر لما أمر معاوية بالتوجه إلى قيسارية أمر عمرو بن العاص بصدم الأرطبون وكان على جمع الروم بأجنادين وأمر علقمة بن مجزز بصدم القيقار وكان على الروم بغزة فلما توجه معاوية إلى قيسارية صدم عمرو بن العاص إلى الأرطبون ومن بإزائه وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته وولى مجنبتيه ابنه عبد الله بن عمرو وجنادة بن تميم من بني مالك بن كنانة واستخلف ابا الأعور على الأردن وخرج حتى نزل على الروم بأجنادين وهم في حصونهم وخنادقهم وعليهم الأرطبون وكان أدهى الروم وأبعدها غورا وأنكاها فعلا وكان وضع بالرملة جندا عظيما وبإيلياء جندا عظيما وكتب عمرو بالخبر إلى عمر فلما جاءه كتابه قال قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عم تنفرج وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل فولى ذلك بنفسه وتوجه فدخل عليه كأنه رسول فأبلغه ما يريد وسمع كلامه حتى عرف ما أراد وتأمل حصونه فقال أرطبون في نفسه والله إن هذا لعمرو أو إنه للذي يأخذ عمرو برأيه وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله ثم دعا حرسيا فساره فقال اخرج فقم بمكان كذا فإذا مر بك فاقتله وفطن له عمرو فقال له قد سمعت مني وسمعت منك وقد وقع ما قلت مني موقعا وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا أموره فأرجع فآتيك بهم الآن فإن
رأوا مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر ورآه الأمير وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك قال نعم ودعا فساره وقال اذهب إلى فلان يعني ذلك الحرسي فرده إلي فرجع إليه الرجل وقال لعمرو انطلق فجيء بأصحابك فخرج عمرو ورأى أن لا يعود لمثلها وعلم الرومي أنه خدعه فقال هذا أدهى الخلق وبلغت عمر فقال غلبه عمرو


ثم ناهده عمرو وقد عرف مأخذه فالتقوا بأجنادين فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك حتى كثرت القتلى بينهم ثم انهزم أرطبون في الناس فأوى إلى إيلياء ونزل عمرو أجنادين وانطلق علقمة بن مجزر فحصر القيقار بغزة وجعل يراسله فلم يشفه أحد مما يريد فأتاه كأنه رسول علقمة فأمر القيقار رجلا أن يقعد له بالطريق فإذا مر قتله ففطن علقمة فقال إن معي نفرا شركائي في الرأي فانطلق فآتيك بهم فبعث إلى ذلك الرجل أن لا يعرض لعلقمة فخرج من عنده ولم يعد كما فعل عمرو بالأرطبون
ولما أتى أرطبون إيلياء أفرج له المسلمون حتى دخلها ثم أزالهم إلى أجنادين وكتب إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري أنت في قومك مثلي في قومي والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين فارجع فلا تغر فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية فأرسله إلى أرطبون وأمره أن يتنكر ويقرب ويستمع ما يقول حتى يخبره به إذا رجع وكتب إلى أرطبون
جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد وأستعدي عليك فلانا وفلانا وفلانا لوزرائه فأقرئهم كتابي ولينظروا فيما بيني وبينك
فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون فدفع إليه الكتاب بمشهد من أولئك النفر فاقترأه فضحكوا وتعجبوا وأقبلوا على أرطبون فقالوا من
أين علمت أنه ليس بصاحبها قال صاحبها رجل اسمه عمر ثلاثة أحرف فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر وكتب إلى عمر يستمده ويقول إني أعالج حربا كئودا وبلادا ادخرت لك فرأيك فلما جاء عمر الكتاب علم أن عمرا لم يقل إلا بعلم فنادى في الناس ثم خرج بهم حتى نزل الجابية
وعن عدي بن سهل قال لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين استخلف عليا وخرج ممدا لهم فقال علي أين تخرج بنفسك إنك تريد عدوا كلبا فقال إني أبادر بجهاد العدو موت العباس إنكم لو فقدتم العباس لا نتقض لكم الشر انتقاض الجبل


قالوا وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات أما الأولى فعلى فرس وأما الثانية فعلى بعير وأما الثالثة فقصر به عنها استعار الطاعون وأما الرابعة فدخلها على حمار فاستخلف عليها وخرج وفتحت إيلياء وأرضها كلها في ربيع الآخر سنة ست عشرة على يدي عمر بن الخطاب ما خلا أجنادين على يدي عمرو وقيسارية على يدي معاوية
وعن سالم بن عبد الله أن أهل إيلياء أشجوا عمر وأشجاهم ولم يقدر عليها ولا على الرملة قال فبينا عمر معسكرا بالجابية فزع الناس إلى السلاح فقال ما شأنكم فقالوا ألا ترى الخيل والسيوف فنظر فإذ كردوس يلمعون بالسيوف فقال عمر مستأمنة فلا تراعوا وأمنوهم وإذا هم أهل إيلياء فصالحوه على الجزية وفتحوا له إيلياء واكتتبوا منه عليها وعلى حيزها و الرملة وحيزها فصارت فلسطين نصفين نصفا مع أهل إيلياء ونصفا مع أهل الرملة وفلسطين تعدل الشام كله وهي عشر كور من غير هذا الحديث المتقدم
وهو مما ذكره سيف أيضا أن عمر رضي الله عنه فرق فلسطين على
رجلين فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة و علقمة بن مجزر على نصفها وأنزله إيلياء ونزل كل واحد منهما في عمله في الجنود التي كانت معه وكان سالم بن عبد الله في الجنود التي كانت مع عمرو وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية فلما انتهيا إليها وافقا عمر رضي الله عنه راكبا فقبلا ركبته وضم عمر ركل واحد منهما واحتضنه
وعن غير سالم أن عمر رضي الله عنه لما بعث بأمان أهل إيلياء وأسكنها الجند شخص إلى بيت المقدس من الجابية فرأى فرسه يتوجى فنزل عنه وأتى ببرذون فركبه فهزه فنزل فضرب وجهه بردائه ثم قال قبح الله من علمك هذا ثم دعا بفرسه بعدما أجمه أياما يوقحه فركب ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس وفي رواية أنه قال للبرذون لا علم الله من علمك هذا من الخيلاء ولم يركب برذونا قبله ولا بعده


وعن أبي مريم مولى سلامة قال شهدت فتح إيلياء مع عمر رضي الله عنه فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء ثم مضى حتى يدخل المسجد ثم مضى نحو محراب داود ونحن معه فدخله ثم قرأ سجدة داود فسجد وسجدنا معه
وقال يزيد بن حنظلة يذكر بعض ما تقدم
تذكرت حرب الروم لما تطاولت
وإذ نحن في عام كثير نوازله
وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا
مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمي بلاده
يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها
سما بجنود الله كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صياله
أتوه وقالوا أنت ممن نواصله
وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها
وعيشا خصيبا ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب
مواريث أعقاب بنتها قرامله
وكم مثقل لم يضطلع باحتماله
تحمل عبئا حين شالت شوائله
الطويل
وقال أيضا
وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها
تريد من الأقوام ما كان ألحدا
سما عمر لما أتته رسائل
كأصيد يحمي صرمة الحي أغيدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم
بجيش ترى منه السنابك سجدا
وأقبلت الشام العريضة بالذي
أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
فقط فيما بينهم كل جزية
وكل رفاد كان أهنى وأحمدا
الطويل
قال صاحب فتوح الشام ثم إن عمر رضي الله عنه خرج من الشام مقبلا إلى المدينة فلما دنا منها استقبله الناس يهنئونه بالنصر والفتح فجاء حتى دخل مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فصلى ركعتين عند المنبر ثم صعد المنبر واجتمع الناس إليه فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي محمد {صلى الله عليه وسلم} وقال
يا أيها الناس إن الله قد اصطنع عند هذه الأمة أن يحمدوه ويشكروه وقد أعز دعوتها وجمع كلمتها وأظهر فلجها ونصرها على الأعداء وشرفها ومكن لها في الأرض وأورثها بلاد المشركين وديارهم وأموالهم فأحدثوا لله عز وجل
شكرا يزدكم واحمدوه على نعمه عليكم يدمها لكم جعلنا الله وإياكم من الشاكرين
ثم نزل


قال فمكث المسلمون بالشام عليها أبو عبيدة بن الجراح ومكث فيها بعد خروج عمر منها ثلاث سنين ثم توفي رحمه الله في طاعون عمواس وكان طاعونا عم أهل الشام ومات فيه بشر كثير وكانت وفاة أبي عبيدة بالأردن وبها قبره ولما طعن رحمه الله دعا المسلمين فدخلوا عليه فقال لهم إني موصيكم بوصية فإن قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم وبعدما تهلكون أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا وتصدقوا وحجوا واعتمروا وتواصلوا وتحابوا واصدقوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تلهكم الدنيا فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مثل مصرعي هذا الذي ترون إن الله قد كتب الموت على بني آدم فهو ميتون فأكيسهم أطوعهم لربه وأعلمهم ليوم معاده
ثم قال لمعاذ بن جبل يا معاذ صل بالناس فصلى معاذ بهم ومات أبو عبيدة رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه فقام معاذ في الناس فقال
يا أيها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحا فإن عبدا إن يلق الله تائبا من ذنبه كان حقا على الله أن يغفر له ذنوبه ومن كان عليه دين فليقضه فإن العبد مرتهن بدينه ومن أصبح منكم مصارما مسلما فليلقه فيصالحه إذا لقيه وليصافحه فإنه لا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام والذنب في ذلك عظيم عند الله وإنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت منكم عبدا من عباد الله قط أقل غمرا ولا أبرأ صدرا ولا أبعد من الغائلة ولا أنصح للعامة ولا أشد عليهم تحننا وشفقة منه فترحموا عليه ثم احضروا الصلاة عليه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر والله لا يلي
عليكم مثله أبدا


فاجتمع الناس وأخرج أبو عبيدة فتقدم معاذ فصلى عليه حتى إذا أتى به قبره دخل قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس فلما سفوا عليه التراب قال معاذ رحمك الله أبا عبيدة فوالله لأثنين عليه بما علمت والله لا أقولها باطلا وأخاف أن يلحقني من الله مقت كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيرا ومن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ومن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وكنت والله ما علمت من المخبتين المتواضعين ومن الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الجفاة المتكبرين
ولم يكن أحد من الناس أشد جزعا على فقد أبي عبيدة من معاذ ولا أطول حزنا عليه من معاذ
قال ثم صلى معاذ بالناس أياما واشتد الطاعون وكثر الموت في الناس فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال
يا أيها الناس إن هذا الطاعون هو الرجز الذي عذب الله به بني إسرائيل مع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وأمر الناس بالفرار منه
فأخبر معاذ بقول عمرو فقال ما أراد إلى أن يقول ما لا علم له به ثم جاء معاذ حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي {صلى الله عليه وسلم} ثم ذكر الوباء فقال ليس كما قال عمرو ولكنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم اللهم أعط معاذا وآل معاذ منه النصيب الأوفر ثم صلى ورجع إلى منزله فإذا هو بابنه عبد الرحمن قد طعن فلما رآه قال يا أبت الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قال يا بني ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلم يلبث إلا قليلا حتى مات يرحمه الله وصلى عليه معاذ ودفنه فلما رجع معاذ إلى منزله طعن فاشتد به وجعه وجعل أصحابه يختلفون إليه


فإذا أتوه أقبل عليهم فقال لهم اعملوا وأنتم في مهلة وحياة وفي بقية من آجالكم من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إليه سبيلا وأنفقوا مما عندكم من قبل أن تهلكوا وتدعوا ذلك ميراثا لمن بعدكم واعلموا أنه ليس لكم من أموالكم إلا ما أكلتم وشربتم ولبستم وأنفقتم فأعطيتم فأمضيتم وما سوى ذلك فللوارثين فلما اشتد به وجعه جعل يقول رب اخنقني خنقك فأشهد أنك تعلم أني أحبك
قال وأتاه رجل في مرضه فقال له يا معاذ علمني شيئا ينفعني الله به قبل أن أفارقك فلا أراك ولا تراني ولا أجد منك خلفا ثم لعلي أحتاج إلى سؤال الناس عما ينفعني بعدك فلا أجد فيهم مثلك فقال له يا معاذ كلا إن صلحاء المسلمين والحمد لله كثير ولن يضيع الله أهل هذا الدين ثم قال له خذ عني ما آمرك به كن من الصائمين بالنهار ومن المصلين في جوف الليل ومن المستغفرين بالأسحار ومن الذاكرين الله كثيرا على كل حال ولا تشرب الخمر ولا تزني ولا تعق والديك ولا تأكل مال اليتيم ولا تفر من الزحف ولا تأكل الربا ولا تدع الصلاة الكتوبة ولا تضيع الزكاة المفروضة وصل رحمك وكن بالمؤمنين رحيما ولا تظلم مسلما وحج واعتمر وجاهد ثم أنا لك زعيم بالجنة
ولما حضر معاذا الموت قال لجاريته ويحك انظري هل أصبحنا فنظرت فقالت لا ثم تركها ساعة ثم قال لها انظري فنظرت فقالت نعم فقال أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ثم قال مرحبا بالموت مرحبا بزائر جاء على فاقة لا أفلح من ندم اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكنني كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل وطول الساعات في النهار ولظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر


فلما اقترب أمره جاء عبد الله بن الديلمي فقال له يرحمك الله يا معاذ لعلنا لا نلتقي نحن ولا أنت ابدا فقال معاذ أجلسوني فأجلسوه وجلس رجل خلف ظهره ووضع معاذ ظهره في صدر الرجل ثم قال بئس ساعة الكذب هذه حدثني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حديثا فكنت أكتمكموه مخافة أن تتكلوا فأما الآن فإني لا أكتمكموه سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إنه لا يموت عبد من عباد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وإن الله يبعث من في القبور ويؤمن بالرسل وما جاءت به أنه حق ويؤمن بالجنة والنار إلا أدخله الله الجنة وحرمه على النار
ثم مات معاذ من ساعته يرحمه الله واستخلف عمرو بن العاص فصلى عليه عمرو ودخل قبره فوضعه في لحده ودخل معه رجال من المسلمين فلما خرج عمرو من قبره قال رحمك الله يا معاذ فقد كنت ما علمناك من نصحاء المسلمين ومن خيارهم وكنت مؤدبا للجاهل شديدا على الفاجر رحيما بالمؤمنين وأيم الله لا يستخلف من بعدك مثلك عمرو بن العاص
وكان مهلكه ومهلك أبي عبيدة رحمهما الله سنة ثمان عشرة وقد كان معاذ لما هلك أبو عبيدة كتب إلى عمر ينعاه
أما بعد فاحتسب امرأ كان لله أمينا وكان الله في نفسه عظيما وكان علينا وعليك يا أمير المؤمنين عزيزا أبا عبيدة بن الجراح غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله نحتسبه وبالله نثق له كتبت إليك وقد فشا الموت وهذا الوباء في الناس ولن يخطئ أحد أجله ومن لم يمت فسيموت جعل الله ما عنده خيرا لنا من الدنيا وإن أبقانا أو هلكنا فجزاك الله عن جماعة المسلمين وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته والسلام عليك ورحمة الله


قال فو الله ما هو إلا أن أتى عمر الكتاب فقرأه حتى بكى بكاء شديدا ونعى أبا عبيدة إلى جلسائه فما رأيت جماعة المسلمين جزعوا على رجل منهم جزعهم على أبي عبيدة ثم ما مضى لذلك إلا أيام حتى جاء كتاب عمرو بن العاص ينعي فيه معاذ بن جبل يرحمه الله فلما أتت عمر وفاة هذا على أثر أبي عبيدة جزع عليه جزعا شديدا وبكى عمر والمسلمون وحزنوا عليه حزنا عظيما وقال عمر رضي الله عنه رحم الله معاذا والله لقد رفع الله بهلاكه من هذه الأمة علما جما ولرب مشورة له صالحة قد قبلناها منه ورأيناها أدت إلى خير وبركة ورب علم أفادناه وخير دلنا عليه جزاه الله جزاء الصالحين
وفرق عمر عند ذلك كور الشام فبعث عبد الله بن قرط الثمالي على حمص وعزل عنها حبيب بن مسلمة واستعمل على دمشق أبا الدرداء الأنصاري واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الجنود التي كانت بالشام ثم وجد عمر على عبد الله بن قرط بعد ان عمل له على حمص سنة فعزله عنها وبعث حين عزله عبادة بن الصامت أميرا عليها وقد كان بدريا عقيبا نقيبا ثم رضي بعد ذلك عن عبد الله بن قرط فرده على حمص
ولما قدم عبادة بن الصامت على أهل حمص قام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي {صلى الله عليه وسلم} ثم قال
أما بعد ألا إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ألا وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر ألا وإنكم معروضون على أعمالكم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره 7 الزلزلة ألا وإن للدنيا بنين وإن للآخرة بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن كل أم يتبعها بنوها يوم القيامة
ثم قال لشداد بن أوس قم يا شداد فعظ الناس وكان شداد مفوها قد أعطي لسانا وحكمة وفضلا بيانا فقام شداد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أما بعد أيها الناس راجعوا كتاب الله وإن تركه كثير من الناس فإنكم لم


تروا من الخير إلا أسبابه ولا من الشر إلا أسبابه وإن الله جمع الخير كله بحذافيره فجعله في الجنة وجمع الشر كله بحذافيره فجعله في النار ألا وإن الجنة حفت بالكره والصبر ألا وإن النار حفت بالهوى والشهوة ألا فمن كشف حجاب الكره والصبر أشفى على الجنة ومن أشفى على الجنة كان من أهلها ألا ومن كشف حجاب الهوى والشهوة أشفى على النار ومن أشفى على النار كان من أهلها ألا فاعملوا بالحق تنزلوا منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق
وقام أبو الدرداء في أهل دمشق خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه {صلى الله عليه وسلم} ثم قال
أما بعد يا أهل دمشق فاسمعوا مقالة أخ لكم ناصح ما بالكم تجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون وقد كان من قبلكم جمعوا كثيرا وبنوا مشيدا وأملوا بعيدا وماتوا قريبا فأصبحت أموالهم بورا ومساكنهم قبورا وآمالهم غرورا ألا وإن عادا وثمود وقد كانوا ملأوا ما بين بصري وعدن أموالا وأولادا ونعما فمن يشتري مني ما تركوا بدرهمين
ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها اصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن عمر مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا حسب ما يوقف عليه في الموضعين إن شاء الله تعالى
ذكروا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى يزيد بن أبي سفيان بعد مهلك أبي عبيدة ومعاذ بن جبل رحمهما الله
أما بعد فقد وليتك أجناد الشام كله وكتبت إليهم أن يسمعوا لك ويطيعوا وأن لا يخالفوا لك أمرا فاخرج فعسكر بالمسلمين ثم سر بهم إلى قيسارية فانزل عليها ثم لا تفارقها حتى يفتحها الله عليك فإنه لا ينفعني افتتاح ما افتتحتم من أرض الشام مع مقام أهل قيسارية فيها وهم عدو لكم إلى جانبكم وإنه لا يزال قيصرا طامعا في الشام ما بقي فيها أحد من أهل طاعته ممتنعا ولو قد افتتحتموها قطع الله رجاءه من جميع الشام والله فاعل ذلك وصانع به للمسلمين إن شاء الله تعالى


فخرج يزيد فعسكر بالمسلمين وجاءه كتاب من عمر بنسخة واحدة إلى أمراء الأجناد
أما بعد فقد وليت يزيد بن أبي سفيان أجناد الشام كله وأمرته أن يسير إلى قيسارية فلا تعصوا له أمرا ولا تخالفوا له رأيا والسلام
وكتب يزيد إلى أمراء الأجناد نسخة واحدة
أما بعد فإني قد ضربت على الناس بعثا أريد أن أسير بهم إلى قيسارية فاخرجوا من كل ثلاثة رجلا وعجلوا إشخاصهم إلي إن شاء الله والسلام
فلم يمكث إلا قليلا حتى توافت عنده عساكر الأجناد كلها فلما اجتمعوا عنده قام يزيد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أما بعد فإن كتاب أمير المؤمنين عمر المبارك الفاروق أتاني يحثني على المسير إلى قيسارية وأن أدعوهم إلى الإسلام أو يدخلوا فيما دخل فيه أهل الكور من أهل الشام فيؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أبوا نزلت عليهم فلم أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم وأسبي ذراريهم فسيروا رحمكم الله إليهم فإني أرجو أن يجمع الله لكم الغنيمة في الدنيا والأجر في الآخرة
ثم قال للناس ارتحلوا ووجه إلى حبيب بن مسلمة أن سر في المقدمة فقد جعلتك عليها ثم امض حتى تنزل بأهل قيسارية فإني أسرع شيء في أثرك لحاقا بك


فمضى حبيب في جماعة عظيمة من المسلمين إلى قيسارية وبها جموع من بطارقة الروم وفرسانهم وأشدائهم وكل من كان كره الدخول في دين الإسلام من النصارى ومن كان كره الجزية ومن بقي من أهل تلك المواطن التي كانوا يقاتلون المسلمين من الروم فكانت بها جموع كثيرة وحد وجد شديد فلما أقبل حبيب في المقدمة ودنا من الحصن خرج إليه من قيسارية فرسان ورجال فنضحوهم بالنشاب وحملت خيلهم على المسلمين فانحاز حبيب وخيله حتى انتهى إلى يزيد فنزل يزيد وجعل على ميمنته عبادة بن الصامت وعلى الميسرة الضحاك ن قيس ورد حبيبا على الخيل ومشى يزيد في الرجال فحمل عليهم فاقتتلوا طويلا قتالا شديدا ثم بعث إلى الضحاك أن أحمل على ميمنتهم فحمل عليهم فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وبعث إلى عبادة بن الصامت أن احمل على ميسرتهم فحمل عليهم فثبتوا له فقاتلهم طويلا
وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم تحاجزوا وانصرف عبادة إلى موقفه فحرض أصحابه ووعظهم ثم قال يا أهل الإسلام إني كنت أحدث النقباء سنا وأبعدهم أجلا وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم وإني أسأل الله أن يريني وإياكم أحسن ثواب المجاهدين والله الذي نفسي بيده ما حملت قط في عصابة من المؤمنين على جماعة من المشركين إلا خلوا لنا العرصة وأعطانا الله عليهم الظفر غيركم فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم


وإن عمر لما بلغه شدة قتال أهل اليرموك لكم قال سبحان الله أو قد واقفوهم ما أظن المسلمين إلا قد غلوا ولو لم يغلوا ما واقفوهم ولظفروا بغير مئونة والله إني خائف عليكم خصلتين أن تكونوا قد غللتم أو لم تناصحوا الله في حملتكم عليهم فشدوا عليهم يرحمكم الله معي إذا شددت فلا والله لا أرجع إلى موقفي هذا إن شاء الله ولا أزايلهم حتى يهزمهم الله أو أموت دونهم ثم حمل عليهم وحملت معه الميمنة على ميسرة الروم فصبروا لهم حتى تطاعنوا بالرماح واضطربوا بالسيوف واختلفت أعناق الخيل فلما رأى ذلك عبادة ترجل ثم نادى عمير بن سعد الأنصاري في المسلمين يا أهل الإسلام إن عبادة بن الصامت سيد المسلمين وصاحب راية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد نزل وترجل فالكرة الكرة إلى رحمة الله والجنة واتقوا عواقب الفرار فإنها تقود إلى النار
وأقبل المسلمون إلى عبادة وهو يجالدهم وقد كانوا أحاطوا به فحمل عليهم فقصف بعضهم على بعض فأزالوهم عن موقفهم ثم شدوا عليهم وحمل حبيب بن مسلمة على من يليه منهم ثم حمل يزيد بن أبي سفيان بجماعة المسلمين عليهم فانهزموا انهزاما شديدا ووضع المسلمون سلاحهم وسيوفهم حيث أحبوا منهم واتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا حتى حجزوهم في حصنهم وقد قتلوا من رؤسائهم وبطارقتهم وفرسانهم مقتلة عظيمة ثم أقاموا عليهم فحصروهم وقطعوا عنهم المادة وضيقوا عليهم وحاصروهم أشد الحصار فلما


طال عليهم البلاء تلاوموا وقال بعضهم لبعض اخرجوا بنا إليهم نقاتلهم حتى نظفر بهم أو نموت كراما فاستعدوا في مدينتهم وخرجوا على تعبئتهم والمسلمون غارون لا يشعرون ولا يعلمون أنهم يخرجون إليهم وقد كانوا أذلوهم وأجحروهم وضيقوا عليهم حتى جهدوا وظنوا أنهم أوهن أمرا وأضعف من أن يخرجوا عليهم فما راع المسلمين إلا وأهل قيسارية يضاربونهم بالسيوف بأجمعهم إلى جانب عسكرهم فجال المسلمون جولة منكرة ثم إن يزيد خرج مسرعا يمشي إليهم حتى إذا دنا منهم جالدهم طويلا وتتامت إليه خيل المسلمين ورجالتهم وخرج المسلمون على راياتهم وصفوفهم فلما كثروا عنده أمر الخيل فحملت عليهم ونهض بالرجال في وجوههم ثم حمل هو عليهم فانهزموا انهزاما قبيحا شديدا وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا وركب بعضهم بعضا فبعض دخل المدينة وبعض ذهبوا على وجوههم فلم يدخلوها وقتل الله منهم في المعركة نحوا من خمسة آلاف فلما رأى يزيد ما أنزل الله بهم من الخزي والقتل وما صيرهم إليه من الذل قال لمعاوية أقم عليها حتى يفتحها الله وانصرف يزيد عنها
فلم يلبث معاوية عليها إلا يسيرا حتى فتحها الله على يديه وذكل سنة تسع عشرة وكانت هي وجلولاء في سنة واحدة وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا لأنه لم يبق بالشام في أقصاها وأدناها عدو حينئذ وقد نفى الله المشركين عنها وصار الشام كله في أيدي المسلمين
وكتب يزيد إلى عمر
أما بعد فإن رأي أمير المؤمنين لأهل الشام كان رأيا أرشده الله وأرشد به من أخذ به وبارك له ولأهل طاعته فيه وإني أخبر أمير المؤمنين أنا التقينا نحن وأهل قيسارية غير مرة وكل ذلك يجعل الله جدهم الأسفل وكدهم الأخسر ويجعل لنا عليهم الظفر فلما رأوا أن الله قد أذهب ريحهم وأذلهم وأنزل عليهم الصغار والهوان وقتل صناديدهم وفرسانهم وملوكهم لزموا حصنهم وانحجزوا


في مدينتهم فأطلنا حصارهم وقطعنا موادهم وميرتهم وضيقنا أشد التضييق عليهم فلما جهدوا هزلا وأزلا فتحها الله علينا و الحمد لله رب العالمين
فكتب إليه عمر رحمه الله
أما بعد فقد أتاني كتابك وسمعت ما ذكرت فيه من الفتح على المسلمين والحمد لله رب العالمين فاشكروا الله يزدكم ويتم نعمته عليكم وإن الله قد كفاكم مؤنة عدوكم وبسط لكم في الرزق ومكن لكم في البلاد وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار والسلام عليك
فلما أتى يزيد هذا الكتاب قرأه على المسلمين فحمدوا الله على ما أنعم عليهم واصطنع عندهم وأقبل يزيد حتى نزل دمشق فلم يلبث إلا سنة حتى هلك رضي الله عنه وذلك في سنة تسع عشرة والشام كله مستقيم أمره ليس به عدو للمسلمين
وكان يزيد رحمه الله شريفا فاضلا حليما عاقلا رقيقا حسن السيرة محببا في المسلمين ولما ثقل رحمه الله وأشرف على الموت استخلف أخاه معاوية على الشام وكتب إلى عمر رضي الله عنه
أما بعد فإني كتبت إليك كتابي هذا وإني أظن أني في أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا فجزاك الله عنا وعن جميع المسلمين خيرا وجعل جناته لنا ولك مآبا ومصيرا فابعث إلى عملك بالشام من أحببت فأما أنا فقد استخلفت عليهم معاوية بن أبي سفيان
فلما أتى عمر كتابه مع خبر موته جزع عليه جزعا شديدا وكتب إلى معاوية بولايته على الشام ويقال إنه لما ورد البريد بموت يزيد على عمر كان أبوه أبو سفيان عنده فقال له عمر لما قرأ الكتاب بموت يزيد أحسن الله عزاءك في يزيد ورحمه فقال له أبو سفيان من وليت مكانه يا أمير المؤمنين
قال أخاه معاوية قال وصلتك رحم يا أمير المؤمنين
فأقام معاوية على الشام أربع سنين بقية خلافة عمر ثم أقره عليها عثمان اثنتي عشرة سنة مدة خلافته ثم كان منه بعد وفاة عثمان رضي الله عنه ما هو معلوم
ذكر فتح مصرذكر ابن عبد الحكم عمن سمى من شيوخه أنه لما قدم عمر رضي الله عنه الجابية خلا به عمرو بن العاص فاستأذنه في المسير إلى مصر وكان عمرو قد دخلها في الجاهلية وعرف طرقها ورأى كثرة من فيها
وكان سبب دخوله إياها أنه كان قدم بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش وكانت رعية إبلهم نوبا بينهم فبينا عمرو يرعاها في نوبته إذ مر به شماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية كان قدم للصلاة في بيت المقدس وللسياحة في جبالها فوقف على عمرو فاستسقاه وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحر فسقاه عمرو من قربة له فشرب حتى روى ونام الشماس مكانه وكانت إلى جنبه حيث نام حفرة فخرجت منها حية عظيمة فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها فلما استيقظ الشماس ونظر إلى الحية سأل عمرا عنها فأخبره أنه رماها فقتلها فأقبل الشماس فقبل رأسه وقال قد أحياني الله بك مرتين مرة من شدة العطش ومرة من هذه الحية فما أقدمك هذه البلاد قال قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل في تجارتنا فقال له الشماس وكم تراك ترجوا أن تصيب في تجارتك قال رجائي أن أصيب ما أشتري به بعيرا فإني لا أملك إلا بعيرين فأملي أن أصيب بعيرا ثالثا فقال له الشماس كم الدية فيكم قال مائة من الإبل قال الشماس لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب


دنانير قال تكون ألف دينار فقال له الشماس إني رجل غريب في هذه البلاد وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس وأسيح في هذه الجبال شهرا جعلت ذلك نذرا على نفسي وقد قضيت ذلك وأنا أريد الرجوع إلى بلادي فهل لك أن تتبعني إلى بلادي ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله عز وجل أحياني بك مرتين فقال له عمرو وأين بلادك قال مصر في مدينة يقال لها الإسكندرية فقال له عمرو لا أعرفها ولم أدخلها قط فقال له الشماس لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها فقال عمرو وتفي لي بما تقول فقال له الشماس نعم لك علي العهد والميثاق أن أفي لك وأن أردك إلى أصحابك فقال عمرو كم يكون مكثي في ذلك قال شهرا ننطلق معي ذاهبا عشرا وتقيم عندنا عشرا وترجع في عشر ولك علي أن أحفظك ذاهبا وأن أبعث معك من يحفظك راجعا فقال له عمرو أنظرني حتى أشاور أصحابي
فانطلق عمرو إلى أصحابه فأخبرهم بما عاهده عليه الشماس وقال لهم أقيموا علي حتى أرجع إليكم ولكم علي العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به فقالوا نعم وبعثوا معه رجلا منهم
فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر حتى انتهى إلى الإسكندرية فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال ما أعجبه ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال فازداد عجبا
ووافق دخول الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ولهم أكرة من ذهب مكللة يترامى بها ملوكهم ويتلقونها بأكمامهم وفيما اختبروا منها على ما وضعها من مضى منهم أنه من وقعت في كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم


وأكرم الشماس عمرا الإكرام كله وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه وجلس معه في ذلك المجلس مع الناس حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقونها بأكمامهم فرمى بها رجل منهم فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو فعجبوا من ذلك وقالوا ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة أترى هذا الأعرابي يملكنا هذا ما لا يكون أبدا
وإن ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية وأعلمهم بأن عمرا أحياه مرتين وأنه ضمن له ألفي دينار وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم ففعلوا ودفعوها إلى عمرو فانطلق هو وصاحبه وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا وزودهما وأكرمهما حتى رجعا إلى أصحابهما فدفع إليهم عمرو فيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه ألفا
قال فكان أول مال اعتقدته وتأثلته
فبذلك ما عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ورأى فيها ما علم به أنها أفضل البلاد وأكثره مالا
فلما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية خلا به عمرو وقال يا أمير المؤمنين إيذن لي فأسير إلى أرض مصر فإنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم وهي أكثر الأرضين أموالا وأعجزه عن القتال فتخوف عمر وكره ذلك فلم يزل عمرو بن العاص يعظم أمرها في نفسه ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها حتى ركن لذلك عمر فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عك وقال سيروا وأنا مستخير الله في مسيرك وسيأتيك كتابي سريعا فإن لحقك كتابي آمرك فيه بالانصراف فانصرف وإن دخلتها قبل أن يأتيك كتابي ثم جاءك فامض لوجهتك واستعن بالله فاستنصره
فمضى عمرو من جوف الليل ولم يشعر به أحد من الناس واستخار عمر


ربه فكأنه تخوف على المسلمين في وجههم ذلك فكتب إلى عمرو بن العاص أن انصرف بمن معك من المسلمين إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر فأدرك الكتاب عمرا وهو برفح فتخوف إن هو أخذه فقرأه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر فلم يأخذ الكتاب من الرسول وسار كما هو حتى مر بقرية صغيرة فيما بين رفح والعريش فسأل عنها فقيل إنها من مصر فدعا بالكتاب فقرأه فإذا فيه أن انصرف بمن معك من المسلمين فقال لمن حوله ألستم تعلمون أن هذه من مصر قالوا بلى قال فإن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم ادخل أرض مصر أن أرجع ولم يلحقني كتابه حتى دخلت أرض مصر فسيروا على بركة الله
ويقال بل كان عمرو بن العاص بفلسطين فتقدم في أصحابه إلى مصر بغير إذن فكتب إليه عمر ينكر ذلك عليه فجاءه كتابه وهو دون العريش عريش مصر فلم يقرأ الكتاب حتى بلغ العريش فقرأه فإذا فيه
من عمر بن الخطاب إلى عمر بن العاص أما بعد فإنك سرت إلى مصر بمن معك وبها جموع الروم وإنما معك نفر يسير ولعمري لو كانوا ثكل أمك ما سرت بهم فإن لم تكن بلغت مصر فارجع
فقال عمرو الحمد لله أية أرض هذه قالوا من مصر فتقدم كما هو
ويقال بل كان عمرو في جنده على قيسارية مع كل من كان بها من أجناد المسلمين وعمر بن الخطاب إذ ذاك بالجابية فكتب سرا واستأذن إلى مصر وأمر أصحابه فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتجولوا من منزل إلى منزل قريب ثم سار بهم ليلا فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل ورأوا إنه قد غرر فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر
أما بعد فإنك قد غررت بمن معك فإن أدرك كتابي ولم تدخل مصر فارجع وإن أدرك كتابي وقد دخلت فامضي وأعلم أني ممدك


ويقال إن عمر كتب إلى عمرو بعدما فتح الشام أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر فمن خف معك فسر به وبعث به مع شريك بن عبدة فندبهم عمرو فأسرعوا إلى الخروج معه ثم أن عثمان بن عفان دخل على عمر فذكر له عمر ما كتب به إلى عمرو فقال عثمان يا أمير المؤمنين إن عمرا له جرأة وفيه إقدام وحب للإمارة فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري أتكون أم لا فندم عمر على كتابه إشفاقا مما قال عثمان فكتب إلى عمرو يأمره بنحو ما تقدم من الرجوع إن لم يكن دخل مصر والمضي لوجهه إن كان دخلها
فسار عمرو في طريقه قاصدا مصر فلما بلغ المقوقس ذلك توجه نحو الفسطاط يجهز الجيوش على عمرو وأقبل عمرو حتى إذا كان بجبال الحلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم وأدركه النحر وهو بالعريش فضحى يومئذ عن أصحابه بكبش
وكان رجل ممن خرج معه قد أصيب بجمله فأتاه الرجل يستحمله فقال له عمرو تحمل مع أصحابك حتى نبلغ أوائل العامر فلما بلغوا العريش جاءه فأمر له بجملين ثم قال لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا
فتقدم عمرو فكان أول موضع قوتل فيه الفرما قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر ثم فتح الله على يديه
وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم انه لا تكون للروم دولة وان ملكهم قد انقطع ويأمرهم بتلقي عمرو فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا
ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر ثم تقدم لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دنين فقاتلوه بها قتالا شديدا وأبطأ عليه الفتح فكتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف فقاتلهم


وجاء رجل من لخم إلى عمرو بن العاص فقال اندب معي خيلا حتى آتي من ورائهم عند القتال فأخرج معه خمسمائة فارس فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل قبل الصبح
ويقال كان على هذا البعث خارجة بن حذافة فلما كان في وجه الصبح نهض القوم فصلوا الصبح ثم ركبوا خيلهم وغدا عمرو بن العاص على القتال فقاتلوهم من وجههم وحملت الخيل التي كان وجه من ورائهم واقتحمت عليهم فانهزموا وكانوا قد خندقوا حول الحصن وجعلوا للخندق أبوابا فسار عمرو بمن معه حتى نزل على الحصن فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن ففعل ذلك وفرض عليهم لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين
فجاء النفر من القبط يستأذنونه إلى قراهم وأهليهم وقد كان نفر منهم تحدثوا قبل ذلك ورجل من لخم يسمعهم فقال بعضهم لبعض ألا تعجبوا من هؤلاء القوم يعنون المسلمين يقدمون على جموع الروم وإنما هم في قلة من الناس فجاءهم رجل منهم فقال إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه حتى يقتلوا خيرهم فأنكر عليه اللخمي قوله وأراد حمله إلى عمرو فرغب إليه أصحابه وغيرهم حتى خلصوه فلما استأذن أولئك النفر عمرا قال لهم كيف رأيتم أمرنا قالوا لم نر إلا حسنا فقال ذلك الرجل لعمرو مثل مقالته تلك إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لاقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا فغضب عمرو وأمر به فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنه لا يدري ما يقول حتى
خلصوه فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطاب عجب من قول ذلك القبطي وأرسل في طلبه فوجدوه قد هلك
وفي حديث غيره قال عمرو بن العاص فلما طعن عمر بن الخطاب قلت هو ما قال القبطي فلما حدثت انه انما قتله رجل نصراني قلت لم يعن هذا إنما عني من قتله المسلمون فلما قتل عثمان رضي الله عنه عرفت أن ما قال الرجل حق


قال ابن عبد الحكم وقد سمعت في فتح القصر وجها غير هذا ثم ذكر عن نفر سمي منهم قال وبعضهم يزيد على بعض في الحديث أن عمرو بن العاص حصرهم في القصر الذي يقال له باب اليون حينا وقاتلهم قتالا شديدا يصبحهم ويمسيهم فلما أبطأ عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده فأمده عمر بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل يقوم مقام ألف الزبير ابن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد وقيل بل خارجة بن حذافة مكان مسلمة وقال عمر بن الخطاب
اعلم أن معك اثني عشر ألفا ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة
وذكر الليث عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر رحمه الله إنما أمد عمرا حين استمده بالزبير بن العوام وبالمقداد بن عمرو وبخارجة بن حذافة
قال الليث بن سعد وبلغني عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم في جيش وضع من عدة الجيش الذي كان سما ألفا مكانه وإذا احتاج إلى أحدهم وكان في جيش فجيشه زادهم ألف رجل فأنزلت الذي صنع عمر بن الخطاب حين أمد عمرا بالزبير والمقداد وخارجة نحو الذي صنع كسرى
وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشفق على عمرو حين بعثه


فأرسل الزبير في أثره في اثني عشر ألفا فشهد معه الفتح وكان عمرو قدم من الشام في عدة قليلة وكانت الروم قد خندقوا حول حصنهم وجعلوا للخندق أبوابا ورموا في أفنيتها حسك الحديد فكان عمرو يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم فلما انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما قد صنعت وإنما معك من أصحابك كذا وكذا فلم يخطئوا برجل واحد فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير فلما قدم المدد مع الزبير على عمرو بن العاص ألح على القصر ووضع عليه المنجنيق وقد كان عمرو دخل إلى صاحب القصر فتناظرا في شيء مما هم فيه فقال له عمرو أخرج وأستشير أصحابي فدس صاحب الحصن الوصية إلى الذي على الباب إذا مر به عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله فأشعر بذلك عمرا رجل من العرب وهو يريد الخروج فرجع عمرو إلى صاحب الحصن فقال له إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت فقال العلج في نفسه قتل جماعة أحب إلي من قتل واحد فأرسل إلى الذي كان على الباب يأمره بالكف عن عمرو رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم فخرج عمرو ولم يعد
وفي حصار المسلمين هذا الحصن كان عبادة بن الصامت يوما في ناحية يصلي وفرسه عنده فرآه قوم من الروم فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة فلما دنوا منه سلم من صلاته ووثب على فرسه ثم حمل عليهم فلما رأوه غير مكذب عنهم ولو راجعين وأتبعهم فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة فرجع ولم يعرض لشيء مما كانوا طرحوا من متاعهم حتى أتى موضعه الذي كان به فاستقبل الصلاة وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه


ولما أبطأ الفتح على عمرو بن العاص قال الزبير إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين فوضع سلما إلى جانب الحصن ثم صعد وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر معه السيف وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن
ينكسر ولما اقتحم الزبير وتبعه من تبعه وكبر وكبر من معه وأجابهم المسلمون من خارج لم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموه جميعا فهربوا وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه واقتحمه المسلمون فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه على ان يفرض للعرب على القبط دينارين على كل رجل منهم فأجابه عمرو إلى ذلك
وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر فيما روي عن الليث
قال ابن عبد الحكم وقد سمعت في فتح القصر وجها آخر مخالفا للحديثين المتقدمين فالله أعلم
ثم أورد بإسناد يرفعه إلى جماعة من التابعين يزيد بعضهم على بعض أن المسلمين لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهرا فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب القصر القبلي ودونهم جماعة يقاتلون العرب فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم وأمروا بقطع الجسر وذلك في جري النيل
وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج تخلف في الحصن بعد المقوقس وهو رجل من الروم كان واليا على الحصن تحت يدي المقوقس وكانت سفنهم ملصقة بالحصن فلما خاف الأعيرج فتح الحصن ركبها هو وأهل القوة والشرف ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة


قال أصحاب الحديث من التابعين فأرسل المقوقس إلى عمرو إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا وطال مكثكم في أرضنا وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم معهم العدة والسلاح وأحاط بكم هذا النيل وإنما أنتم أسارى في أيدينا فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي
الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم
فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس بهذا حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس فقال لأصحابه أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك في دينهم وإنما أراد عمرو أن يروا حال المسلمين ثم رد عمرو إلى المقوقس رسله وقال لهم إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال إما دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم مالنا وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين
فلما جاءوا إلى المقوقس قال لهم كيف رأيتم قالوا رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة والتواضع أحب إليه من الرفعة ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة إنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد فيهم من العبد وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم يغسلون بالماء أطرافهم ويخشعون في صلاتهم
فقال عند ذلك المقوقس والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم
فرد إليهم المقوقس رسله أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم


فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت وأمره عمرو أن يكون مكلم القوم وأن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث
وكان عبادة أسود طويلا يقول ابن عفير أدرك الإسلام من العرب عشرة طول كل رجل منهم عشرة أشبار أحدهم عبادة بن الصامت فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسواده فقال نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني فقالوا جميعا إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به وامرنا أن لا نخالفه
قال وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون دونكم
قالوا كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا وليس ينكر السواد فينا
فقال له المقوقس تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لذلك هيبة


فتقدم إليه عبادة فقال قد سمعت مقالتك وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم أشد سوادا مني وأفظع منظرا ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي وأنا قد وليت وأدبر شبابي وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي ولو استقبلوني جميعا وكذلك أصحابي وذلك أنا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلبا للاستكثار منها إلا أن الله عز وجل قد أحل لنا ذلك وجعل ما غنمنا منه حلالا وما يبالي أحدنا أكان له قنطار من الذهب أم كان لا يملك إلا درهما لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره وشملة يلتحفها فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى وأقتصر على هذا الذي يتبلغ به ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء وإنما النعيم والرخاء في الآخرة وبذلك أمرنا ربنا وأمرنا به نبينا وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته وتكون همته وشغله في رضى ربه وجهاد عدوه
فلما سمع المقوقس كلامه قال لمن حوله هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره وإن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها ثم أقبل على عبادة فقال


أيها الرجل قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك ولعمري ما بلغتم إلا بما ذكرت وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا بحبهم الدنيا ورغبتهم فيها وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده قوم يعرفون بالنجدة والشدة لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل وأنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار فتقبضوها وتنصرفوا إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قبل لكم به
فقال عبادة بن الصامت يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم فلعمري ما هذا بالذي يخوفنا ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالكم وأشد لحرصنا عليكم لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ( 249 البقرة ) وما منا من رجل إلا وهو يدعوا ربه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشهادة وألا يرده إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده وليس لأحد منا هم فيما خلفه وقد استودع كل واحد منا ربه في


أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا وأما قولك إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه فانظر الذي تريد فبينه لنا فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل بذلك أمرني الأمير وبه أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قبل إلينا إما أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته أمرنا أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه فإن فعل كان له مالنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ورجعنا عن قتالكم ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينكم غيره فانظروا لأنفسكم
فقال له المقوقس هذا ما لا يكون أبدا ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا
فقال له عبادة هو ذلك فاختر ما شئت
فقال له المقوقس أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث فرفع عبادة يديه فقال لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض وربنا ورب كل شيء ما لكم عندنا خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال قد فرغ القوم فماذا ترون فقالوا أو يرضى أحد بهذا الذل أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم فهذا


ما لا يكون أبدا أن نترك دين المسيح بن مريم وندخل في دين غيره لا نعرفه وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا
فقال المقوقس لعبادة قد أتى القوم فما ترى فراجع أصحابك على أن نعطيكم في مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفوا
فقام عبادة وأصحابه فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث فوالله مالكم بهم طاقة ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين
فقالوا وأي خصلة نجيبهم إليها
قال أنا أخبركم أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به وأما قتالكم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم ولابد من الثالثة
قالوا فنكون لهم عبيدا أبدا
قال نعم إن تكونوا عبيدا منبسطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا من آخركم أو تكونوا عبيدا تباعون وتمزقون في البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم
قالوا فالموت أهون علينا وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة وبالقصر من القبط والروم جمع كثير
فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من في القصر حتى ظفروا وأمكن الله منهم فقتل منهم خلق كثير وأسر من أسر وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل جهة لا يقدرون على أن
يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى والمقوقس يقول لأصحابه ألم أعلمكم هذا وأخفه عليكم ما تنتظرون فو الله لتجيبن إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كرها فأطيعوني من قبل أن تندموا
فلما رأوا منهم ما رأوا وقال لهم المقوقس ما قال أذعنوا بالجزية ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه


فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص أني لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من الخصال التي أرسلت إلي بها فأبي ذلك علي من حضرني من الروم والقبط فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم وقد عرفوا نصحي لهم وحبي صلاحهم فرجعوا إلى قولي فأعطني أمانا أجتمع أنا وأنت أنا في نفر من أصحابي وأنت في نفر من أصحابك فإن استقام الأمر بيننا تم ذلك لنا جميعا وان لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه
فاستشار عمرو أصحابه في ذلك فقالوا لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا وتصير كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه
فقال عمرو قد علمتم ما عهد إلي أمير المؤمنين في عهده فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم إليها وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم
فاجتمعوا على عهد بينهم واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ومن بلغ الحلم منهم وليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعرض لهم في شيء منها فشرط هذا كله على القبط خاصة
وأحصوا عدد القبط من بلغ منهم الجزية ومن فرض عليهم الديناران رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط أكثر من ستة آلاف ألف نفس فكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف الف دينار في كل سنة
وعن يحيى بن ميمون الحضرمي قال لما فتح عمرو بن العاص مصر صالح عن جميع ما فيها من رجال القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبي فأحصوا بذلك على دينارين دينارين فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف


وفي الحديث المتقدم الطويل أن المقوقس شرط للروم أن يخيروا فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام لازما له ذلك مفترضا عليه ممن أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج وعلى أن للمقوقس الخيار في الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه ما فعل فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه
وكتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بالأمر على وجهه فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه ويعجزه ويرد عليه ما فعل ويقول في كتابه
إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا وبمصر من عدد القبط ما لا يحصى فإن كان القبط كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندك بمصر من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف معهم العدة والقوة والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت فعجزت عن قتالهم ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم أذلاء في حال القبط ألا قاتلتهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظفر عليهم فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم كأكلة فناهضهم القتال ولا يكن لك رأي غير ذلك
وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم


فقال المقوقس لما أتاه كتابه والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا وذلك أنهم قوم الموت أحب إليهم من الحياة يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده ولا ولده ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منا ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة وليس لهم رغبة في الدنيا ولا لذة إلا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها فكيف نستقيم وهؤلاء وكيف صبرنا معهم واعلموا معشر الروم أني والله لا أخرج مما دخلت فيه وصالحت العرب عليه وأني لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولي ورأيي وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني وذلك أني قد عاينت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه ويحكم أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا في دهره على نفسه وماله وولده بدينارين في السنة
ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص فقال له إن الملك قد كره ما فعلت وعجزني وكتب إلي وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتك وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم ولم يأت من قبلهم نقض وأنا متم لك على نفسي والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم وأما الروم فأنا منهم بريء وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال
قال عمرو وما هن
قال لا تنقض بالقبط وأدخلني معهم وألزمني ما لزمهم فقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاهدتك عليه وهم متمون لك على ما تحب وأما الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا فإنهم أهل لذلك لأني نصحتهم فاستغشوني ونظرت لهم فاتهموني وأما الثالثة أطلب إليك أن إذا مت أن تأمرهم يدفنوني في أبي يحنس بالإسكندرية


فانعم له عمرو بن العاص بذلك وأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعا ويقيموا لهم الأنزال والضيافة والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ففعلوا
ويقال إن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو محاصر الإسكندرية وبعد أن حصر أهلها ثلاثة أشهر وألح عليهم وخافوه فسأله المقوقس الصلح عنهم كما صالحه على القبط على أن يستنظر رأي الملك وعلى أن يسير من الروم من أراد المسير ويقر من أراد الإقامة فأنكر ذلك هرقل لما بلغه أشد الإنكار وتسخط أشد التسخط وبعث الجيوش فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب فخرج إليه المقوقس فقال أسألك ثلاثا وذكر نحو ما تقدم وزاد أن عمرا قال له في الثالثة التي هي أن يدفن في أبي يحنس هذه أهونهن علينا
ثم رجع إلى الحديث الأول قال فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج وخرج معه جماعة من رؤساء القبط قد أصلحوا لهم الطريق وأقاموا لهم الجسور والأسواق وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم وسمعت بذلك الروم فاستعدت واستجاشت وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم فيها جمع من الروم كثير بالعدة والسلاح فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها نحو الإسكندرية فلم يلق منهم أحدا حتى بلغ ترنوط فلقي فيها طائفة من الروم فقاتلوه قتالا خفيفا فهزمهم الله ومضى عمرو بمن معه حتى لقي جمع الروم بكوم شريك فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين وولي الروم أكتافهم
ويقال بل أرسل عمرو بن العاص شريك بن سمي في آثارهم فأدركهم
عند الكوم الذي يقال له كوم شريك فقاتلهم شريك فهزمهم


ويقال بل لقيهم فألجأوه إلى الكوم فاعتصم به وأحاطت به الروم فلما رأى ذلك شريك أمر أبا ناعمة الصدفي وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له أشقر صدف وكان لا يجارى فانحط عليهم من الكوم وطلبته الروم فلم تدركه حتى أتى عمرا فأخبره فأقبل عمرو نحوه وسمعت به الروم فانصرفت وبهذا الفرس سميت خوخة الأشقر التي بمصر وذلك أنه نفق فدفنه صاحبه هناك فسمي المكان به
قال ثم التقوا بسلطيس فاقتتلوا بها قتالا شديدا فهزمهم الله ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما
وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو فأصابت عبد الله بن عمرو على المقدمة جراحات كثيرة فقال يا وردان لو تقهقرت قليلا لنصيب الروح فقال وردان الروح أمامك وليس هو خلفك فتقدم عبد الله وجاء رسول أبيه يسأله عن جراحه فأنشأ يقول
أقول إذا ما النفس جاشت ألا أصبري
عليك قليلا أن تحمدي أو تلامي
الطويل
فرجع الرسول فأخبره بما قال فقال عمرو هو ابني حقا
وصلى يومئذ عمرو صلاة الخوف فحدث شيخ صلاها معه بالإسكندرية أنه صلى بكل طائفة ركعة وسجدتين
قال ثم فتح الله على المسلمين وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة وأتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصنوا بها وكانت عليهم حصون لا ترام حصن دون حصن فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية في المراكب بمادة الروم


ويروى أن عمرا أقام بحلوة شهرين ثم تحول إلى المقس فخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة حيث كانت مستترة بالحصن فواقعوه فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا ولم يكن للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية فكان ملك الروم يعظم ظهور العرب عليها ويقول لئن غلبوا على الإسكندرية لقد هلكت الروم وانقطع ملكها وتجهز للخروج إليها ليباشر قتالها بنفسه إعظاما لها وأمر أن لا يتخلف عنه أحد من الروم وقال ما بقاء الروم بعد الإسكندرية فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته وكفى المسلمين مؤنته وكان موته في سنة تسع عشرة وقيل سنة عشرين فكسر الله بموته شوكة الروم
ورجع جمع كبير ممن كان قد توجه إلى الإسكندرية واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية فقاتلوهم قتالا شديدا وخرج طرف من الروم من باب حصنها فحملوا على الناس وقتلوا رجلا من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به فجعل المهريون يتغضبون ويقولون لا ندفنه أبدا إلا برأسه فقال عمرو بن العاص تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا رجلا منهم وارموا برأسه يرموا برأس صاحبكم فخرجت الروم عليهم فاقتتلوا فقتل رجل من بطارقة الروم فاحتزوا رأسه فرموا به إلى الروم فرمت الروم برأس المهري إليهم فقال دونكم الآن فادفنوا صاحبكم وكان عمرو بن العاص يقول ثلاث قبائل في مصر أما مهرة فقوم يقتلون
ولا يقتلون وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون وأما بلى فأكثرها رجلا صحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأفضلها فارسا


وقاتل عمرو بن العاص الروم بالإسكندرية يوما من الأيام قتالا شديدا فلما استحر القتال بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الرومي وألقاه عن فرسه وأهوى إليه بسيفه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه وكان مسلمة لا يقام بسبيله ولكنها مقادير ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين وغضب عمرو بن العاص فقال وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن ما بال الرجل المسبه الذي يشبه النساء يتعرض فيداخل الرجال ويتشبه بهم فغضب مسلمة ولم يراجعه ثم اشتد القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلهم العرب في الحصن ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر فيهم عمرو بن العاص ومسلمة بن مخلد أغلق الروم عليهم باب الحصن وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا يدرون من هم فلما رأى ذلك عمرو وأصحابه لجأوا إلى ديماس من حماماتهم فتحرزوا به فأمرت الروم روميا فكلمهم بالعربية فقال لهم إنكم قد صرتم بأيدينا أساري فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا ثم قال لهم إن في أيدي أصحابكم منا رجالا أسروهم ونحن نعطيكم العهود أن نفادي بكم أصحابنا ولانقتلكم فأبوا عليهم فلما رأى الرومي ذلك منهم قال لهم هل لكم إلى خصلة وهي نصف فيما بيننا وبينكم أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على ان يبرز منكم رجل ومنا رجل فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا وأمكنتمونا من أنفسكم وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدته وقالوا لعمرو وأصحابه وهم في الديماس ليبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال يا هذا تخطيء مرتين تشذ من أصحابك وأنت أميرهم وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما


أمرك ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله قال عمرو دونك فربما فرجها الله بك فبرز مسلمة والرومي فتجاولا ساعة ثم أعانه الله عليه فقتله فكبر مسلمة وأصحابه ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه ففتحوا لهم باب الحصن فخرجوا ولا تدري الروم أن أمير القوم فيهم حتى بلغهم ذلك فأسفوا وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم فلما خرجوا استحيي عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب وسأله أن يستغفر له ففعل مسلمة وقال عمرو والله ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة وما منها مرة إلا وقد ندمت واستحييت وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك ووالله إني لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت
قال ابن لهيعة وأخبرني بعض أشياخنا أن عبد العزيز بن مروان لما قدم الإسكندرية سنة ثمانين سأل هل بقي بالإسكندرية أحد ممن أدرك فتحها فأتوه بشيخ من الروم من أكابر أهل الإسكندرية يومئذ فأعلموه أنه أدرك فتحها وهو رجل فسأله عن أعجب ما رأى يومئذ من المسلمين فقال أخبرك أيها الأمير أنه كان لي صديق من أبناء بطارقة الروم يومئذ منقطع إلي وأنه أتاني فسألني أن أركب معه حتى ننظر إلى المسلمين وإلى حالهم وهيئتهم وهم إذ ذاك محاصرون الإسكندرية فخرجت معه وهو على برذون له كثير اللحم وأنا على برذون خفيف فلما خرجنا من الحصن الثالث وقفنا على كوم مشرف ننظر إلى العرب وإذا هم في خيام لهم وعلى باب كل خيمة فرس واقف ورمح مركوز ورأينا قوما ضعفاء فعجبنا من ضعفهم وقلنا كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا فبينا نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل منهم من بعض تلك الخيام فلما نظر إلينا اختلع رمحه ووثب على ظهر فرسه ثم أقبل نحونا فقلت لصاحبي والله إنه ليريدنا فلما رأيناه مقبلا إلينا لا يريد غيرنا ولينا


هاربين فما كان بأوشك من أن أدرك صاحبي فطعنه بالرمح فصرعه ثم تركه صريعا وأقبل في إثري وأنا خائف أن لا أفلت منه حتى دخلت الحصن الأول فنجوت منه ثم صعدت الحصن لأبصر ما يفعل فرجع وهو يتكلم بكلام يرفع به صوته فظننت أنه يقرأ ثم مضى حتى اعترض برذون صاحبي فأخذه ورجع إلى صاحبي وهو صريع فأخذ سيفه وترك سلبه فلم يأخذه تهاونا به وكانت ثيابه ديباجا كلها فلم يأخذها ولم ينزعها عنه
فقال عبد العزيز بن مروان للشيخ الرومي صف لي ذلك الرجل وشبهه ببعض من عندي
فأشار إلى رجل مخفف كوسج فقال هو يشبه هذا
قال عبد العزيز نخبرك أنه يمان
وأقام عمرو يحاصر الإسكندرية أشهرا فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه ذلك ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا
وقال أسلم مولى عمر لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص
أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر أنكم تقاتلونها منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت اعرف إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية وقدم أولئك النفر الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة وليضج الناس إلى
الله ويسألوه النصر على عدوهم
فلما أتى عمرا الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر ففعلوا ففتح الله عليهم


ويقال إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فقال له أشر علي في قتال هؤلاء فقال له مسلمة أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتعقد له على الناس فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه قال عمرو ومن ذلك قال عبادة بن الصامت فدعا عمرو عبادة فأتاه وهو راكب على فرسه فلما دنا منه أراد النزول فقال له عمرو عزمت عليك أن لا تنزل ناولني سنام رمحك فناوله إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه القتال فتقدم عبادة مكانه فصاف الروم وقاتلهم ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومه ذلك
ويروى عمرو بن العاص قال وقد أبطأ عليه الفتح فاستلقى على ظهره ثم جلس فقال إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله يريد الأنصار فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله الإسكندرية على يديه من يومه ذلك
وقال جنادة بن أبي أمية دعاني عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية وكان على قتالها فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن بقتالهم فبعثني أحجز بينهم فأتيتهم فحجزت بينهم ثم رجعت إليه فقال أقتل أحد من الناس قلت لا قال الحمد لله الذي لم يقتل أحد منهم عاصيا
قالوا وكان فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر المحرم من سنة عشرين
ولما هزم الله الروم وفتحت الإسكندرية وهرب الروم في البحر والبر خلف عمرو بن العاص بالإسكندرية من أصحابه ألف رجل ومضى في طلب من
هرب في البر من الروم فرجع من كان هرب منهم في البحر ألى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب


وبلغ ذلك عمرو بن العاص فكر راجعا ففتحها وأقام بها وكتب إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد فكتب إليه عمر يقبح رأيه ويأمره ألا يجاوزها وقال ابن لهيعة وهذا هو فتح الإسكندرية الثاني وكان سبب فتحها أن بوابا يقال له ابن بسامة سأل عمرا الأمان على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب فأجابه عمرو إلى ذلك وفتح له ابن بسامة الباب فدخل عمرو من ناحية قنطرة سليمان وكان مدخله الأول من الباب الذي من ناحية كنيسة الذهب
وقد روى ابن لهيعة أيضا عن يزيد بن أبي حبيب أن فتحها الأول كان سنة احدى وعشرين ثم انتقضوا سنة خمس وعشرين
وجاءت الروم عليهم منويل الخصي بعثه هرقل في المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية فأجابهم من بها من الروم فخرج إليهم عمرو بن العاص في البر والبحر فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم الله وقتل منويل ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث
ويقال إن هذا انتقاض ثان للإسكندرية بعد انتقاضها الذي ذكره ابن لهيعة أولا وكان ذلك في زمان عمر وهذا الذي ذكر يزيد بن أبي حبيب في خلافة عثمان رضي الله عنهما وسيأتي ذكره في موضعه مستوفى إن شاء الله
وقيل إن جميع من قتل من المسلمين من حين كان من أمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا
وبعث عمرو بن العاص معاوية بن حديج وافدا إلى عمر بن الخطاب يبشره بالفتح فقال له معاوية ألا تكتب معي فقال له عمرو ما أصنع بالكتاب ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وحضرته
فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية فخر عمر ساجدا وقال الحمد لله


ويروى عن معاوية بن حديج انه قال قدمت المدينة في الظهيرة فأنخت راحلتي بباب المسجد ثم دخلت المسجد فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب فرأتني شاحبا علي ثياب السفر فأتتني فقالت من أنت فقلت أنا معاوية بن حديج رسول عمرو بن العاص فانصرفت عني ثم أقبلت تشتد فقالت ثم قم فأجب أمير المؤمنين فتبعتها فلما دخلت إذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه فقال ما عندك فقلت خير يأمير المؤمنين فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد فقال للمؤذن أذن في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس ثم قال لي قم فأخبر أصحابك فقمت فأخبرتهم ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم جلس فقال يا جارية هل من طعام فأتت بخبز وزيت فقال كل فأكلت على حياء ثم قال كل فإن المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلا لأكلت معك فأصبت على حياء ثم قال يا جارية هل من تمر فأتت بتمر في طبق فقال كل فأكلت على حياء ثم قال ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد قال قلت أمير المؤمنين قائل قال بئس ما قلت أو بئس ما ظننت لئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية
ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أما بعد فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أني أصبت فيها أربعة آلاف منيه بأربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية وأربعمائة ملهى للملوك
وعن أبي قبيل أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر
وعن غيره انه كان فيما أحصى من الحمامات اثنا عشر ديماسا أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس كل مجلس منها يسع جماعة نفر


قال وترحل من الإسكندرية في الليلة التي دخلها عمرو بن العاص أو الليلة التي خافوا دخوله سبعون ألف يهودي وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتي ألف من الرجال فلحق بأرض الروم أهل القوة وركبوا السفن وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار يحمل فيها ثلاثون ألفا بما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل وبقي من بقي ممن يؤدي الخراج فأحصوا يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان
واختلف الناس على عمرو في قسمهم وكان أكثرهم يريدون القسم فقال عمرو لا أقدر على ذلك حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إليه في ذلك فكتب إليه عمر رضي الله عنه لا تقسمها وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم
فأقرها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج فكانت مصر صلحا كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل لا يزاد على أحد منهم في جزية رأسه على دينارين غير أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد ولم يكن لهم صلح ولا ذمة
ويقال إن مصر كلها فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد
قال سفيان بن وهب الخولاني لما فتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال اقسمها يا عمرو فقال لا أقسمها فقال الزبير والله لتقسمنها كما قسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خيبر فقال عمرو والله لا أقسمها حتى اكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إليه فأجابه أقرها حتى يغدو منها حبل الحبلة
وفي حديث آخر أن الزبير صولح على شيء أرضى به
وحدث أبو قنان عن أبيه انه سمع عمرو بن العاص يقول يعني بمصر لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد إن شئت قتلت وإن شئت حبست وإن شئت بعت
ويروى عن ربيعة نحو ما تقدم من فتح مصر بغير عهد وأن عمر بن الخطاب حبس درها وصرها أن يخرج منه شيء نظيرا للإسلام وأهله


وقال زيد بن أسلم كان لممر بن الخطاب رضي الله عنه تابوت فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد
ويروى أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال للقبط إن من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه قتلته فذكر لعمرو أن قبطيا من أهل الصعيد يقال له بطرس عنده كنز فأرسل إليه فسأله فأنكر فحبسه عمرو وسأل هل تسمعونه يسأل عن أحد قفالوا سمعناه يسأل عن راهب بالطور فأخذ خاتم بطرس وكتب على لسانه بالرومية إلى ذلك الراهب أن ابعث إلي بما عندك وختم بخاتمه فجاء الرسول من عند الراهب بقلة شامية مختومة بالرصاص فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها يا بني إن أردتم مالكم فافتحوا تحت الفسقية الكبيرة فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء وقلع البلاط الذي تحتها فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مضروبة فضرب عمرو رأس القبطي عند باب المسجد فأخرج القبط كنوزهم خشية أن يقتلوا
وروى يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطي كان يظهر الروم على عورات المسلمين ويكتب إليهم بذلك فاستخرج منه بضعة وخمسين أردبا دنانير
وقال ابن شهاب كان فتح مصر بعضها بعهد وذمة وبعضها عنوة فجعل عمر بن الخطاب جميعها ذمة وحملهم على ذلك فجرى ذلك فيهم إلى اليوم


وفي كتاب سيف عمن سمى من أشياخه في فتح مصر مساق آخر غير ما تقدم وذلك أن عمرو بن العاص خرج إلى مصر بعدما رجع عمر إلى المدينة يعني رجوعه من الشام فانتهى عمرو إلى باب مصر واتبعه الزبير فاجتمعا فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف في أهل النيات بعثهم المقوقس لمنع بلادهم فلما نزل بهم عمرو قاتلوه فأرسل إليهم عمرو لا تعجلونا لنعذر إليكم وتروا رأيكم بعد فكفوا أصحابهم فأرسل إليهم عمرو إني بارز فليبرز لي أبو مريم وأبو مريام فأجابوه إلى ذلك وآمن بعضهم بعضا فقال لهما عمرو أنتما راهبا أهل هذه البلدة فاسمعا إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به وأمرنا به محمد وأدى إلينا كل الذي أمر به ثم مضى {صلى الله عليه وسلم} وقد قضى الذي عليه وتركنا على الواضحة وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس فنحن ندعوكم إلى الإسلام فمن أجابنا إليه قبلنا منه وكان مثلنا ومن لم يجبنا إليه عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم وإن لكم إن أجبتمونا إلى ذلك ذمة إلى ذمة ومما عهد إلينا أميرنا استوصوا بالقبطيين خيرا فإن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أوصى بالقبطيين خيرا لأن لهم رحما وذمة يعني بالرحم أن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام منهم فقالا قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء واتباع الأنبياء وذكرا أن هاجر معروفة عندهم شريفة
قالا كانت ابنة ملكنا وكان من أهل منف والملك فيهم فأذيل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام
مرحبا بكم وأهلا أمنا حتى نرجع إليك
فقال عمرو إن مثلي لا يخدع ولكنني أأجلكما ثلاثا ولتناظرا قومكما وإلا ناجرناكم


قالا زدنا فزادهم يوما فقالا زدنا فزادهم يوما فرجعوا إلى المقوقس فهم يعني بالإنابة إلى الجزية فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم فقالا لأهل مصر أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم لا نرجع إليهم وقد بقيت أربعة أيام فلا تصابون فيها بشيء إلا رجونا أن يكون له أمان فلم يفجأ عمرا والزبير إلا البيات من فرقب وعمرو والزبير بعين شمس وبها جمعهم وبعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح فنزل عليها وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها فقال كل واحد منهما لأهل مدينته إن شئتم أن تنزلوا فلكم الأمان فقالوا نعم فراسلوهم وتربصوا بهم أهل عين شمس وسبي المسلمون من بين ذلك
وقال عوف بن مالك ما أحسن مدينتكم يا أهل الإسكندرية فقالوا إن الإسكندر قال إني أبني مدينة إلى الله فقيرة وعن الناس غنية فبقيت بهجتها
وقال أبرهة لأهل الفرما ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما قالوا إن الفرما قال إني أبني مدينة عن الله غنية وإلى الناس فقيرة فذهبت بهجتها
قال الكلبي كان الإسكندر والفرما أخوين ثم حدث بمثل ذلك قال فنسبتا إليهما فالفرفا يتهدم كل يوم فيها شيء وأخلقت مرآتها وبقيت جدة الإسكندرية
قالوا ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس وكان الملك بين القبط والنوب ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم ما تريد إلى قوم فلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم صالح القوم واعتقد منهم ولا تعرضنا لهم
وذلك في اليوم الرابع فأبى وناهدوهم فقاتلوهم وارتقى الزبير سورها فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو وخرجوا إليه مصالحين فقبل منهم ونزل الزبير عليهم عنوة حتى خرج على عمرو من الباب معهم فاعتقدوا بعدما أشرفوا على الهلكة فأجروا ما اخذوا عنوة مجرى ما صالحوا عليه فصاروا ذمة
وكان صلحهم
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبحرهم وبرهم لا يدخل عليهم في شيء من ذلك ولا ينتقض ولا يساكنهم النوب


وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف
وعليهم ما جني لصوصهم فإن أبى أحد أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم وذمتنا ممن أبا بريئة
وإذا نقص نهرهم من عادته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل مالهم وعليه مثل ما عليهم ومن أبى فاختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث يريد من السنة جباية ثلث ما عليهم لهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله {صلى الله عليه وسلم} وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين
وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا معونة على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة
شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابنا عمرو وكتب وردان وحضر فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح
فمصر عمرو الفسطاط ونزله المسلمون وظهر أبو مريم وأبو مريام فكلموا عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة فقال عمرو أولهم عهد وعقد ألم تحالفكما ويغر علينا من يومكما فطردهما فرجعا وهما يقولان كل شيء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففي ذمة فقال لهما عمرو يغيرون علينا وهم في ذمة قالا نعم وقسم عمرو ذلك السبي على الناس وتوزعوه ووقع في بلاد العرب وقدم البشير إلى عمر بعد بالأخماس وقدم الوفود فسألهم عمر فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه فقال عمر ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون من قاتلكم فلا أمان له ومن لم يقاتلكم وأصابه منكم سبي من أهل القرى في الأيام الخمسة فله الأمان وكتب بذلك إلى عمرو بن العاص فجعل يجاء بهم من اليمن ومكة حتى ردوا


وعن عمرو بن شعيب قال لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس واقتتلت خيلاهما جعل المسلمون يجولون بعد البعد فزمرهم عمرو فقال رجل من أهل اليمن إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد فأسكته عمرو ثم لما تمادى ذلك نادى عمرو أين أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فحضر من شهدها منهم فقال تقدموا فبكم ينصر المسلمون فتقدموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة وناهدهم الناس يتبعون الصحابة ففتح الله على المسلمين وظفروا أحسن الظفر وافتتحت مصر وقام فيها ملك الإسلام على رجل وجعل يفيض على الأمم والملوك
وعن محمد بن إسحاق عن رجل من أهل مصر اسمه القاسم بن قزمان أن زياد بن جزء الزبيدي حدثه وكان في جند عمرو بن العاص قال افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر فلما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية قرية حتى انتهينا إلى بلهيت وقد بلغت سبايانا مكة
والمدينة واليمن فلما انتهينا إلى بلهيت أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو ابن العاص إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم يا معشر العرب لفارس والروم فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت فبعث إليه عمرو إن ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي فإن قبل ذلك منك قبلت وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره قال فقال نعم فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية قال وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به ثم وقفنا ببلهيب وفي أيدينا بقايا من سبيهم وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءه وقرأه علينا عمرو وفيه


أما بعد فإنه جاء في كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض عليك ان يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبايا أرضه ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم ثم كأنه لم يكن فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل ذمته فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب وبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردهم ولا نحب أن نصالحه على أمر لانفي له به
قال فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين فقال قد فعلت فجمعنا ما في أيدينا من السبايا واجتمعت النصارى فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا ثم نخيره بين الإسلام وبين
النصرانية فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة لهي أشد من تكبيرتنا حين تقتحم القرية ثم نجوزه إلينا وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى وحازوه إليهم ووضعنا عليه الجزية وجزعنا من ذلك جزعا شديدا حتى كأنه رجل خرج منا إليهم فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم
وفيمن أتينا به أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن قال القاسم وقد أدركته وهو عريف بني زبيد قال ابن جزء الزبيدي فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية وأبوه وأمه وأخوته في النصارى فاختار الإسلام فحزناه إلينا ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا عليه حتى شققوا ثيابه ثم هو اليوم عريفنا كما ترى
ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم تكن لها جزية ولا لأهلها عهد فقد كذب
قال القاسم إنما أهاج هذا الحديث أن ملوك بني أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنها إنما دخلت عنوة وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا ونضع ما شئنا وقد تقدم بعض ما وقع في هذا المعنى من الاختلاف


وكذلك اختلفوا في وقت فتح مصر فذكر ابن إسحاق أنها فتحت سنة عشرين وكذلك قال أبو معشر والواقدي
وقد روى عن أبي معشر أن الإسكندرية فتحت سنة خمس وعشرين ولعل ذلك فتحها الأخير إذ قد تقدم ذكر انتقاضها مرتين
وأما سيف فزعم أن مصر والإسكندرية فتحتا في سنة ست عشرة قال ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة وضع عمر رحمه الله مسالح مصر على السواحل وغيرها وكان داعية ذلك أن هرقل أغزى مصر والشام في
وقال سعيد بن عفير وغيره لما تم الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التي حول الفسطاط فأقامت الفيوم سنة لم يعلم المسلمون مكانها حتى أتاهم رجل فذكرها لهم فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفي فلما سلكوا في المجابة لم يروا شيئا فهموا بالإنصراف فقالوا لا تعجلوا سيروا فإن كان كذبا فما أقدركم على ما أردتم فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيوم فهجموا عليها فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم قال ويقال بل خرج مالك بن ناعمة الصدفي وهو صاحب الأشقر ينفض المجابة على فرسه ولا علم له بما خلفها من الفيوم فهجم على الفيوم فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو فأخبره
وقيل غير ذلك في وجه الإنتهاء إلى الفيوم مما لا كبير فائدة في ذكر ه والله تعالى اعلم
وعن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها هم بسكناها وقال مساكن قد كفينا بناءها فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في ذلك فسأل عمر الرسول هل يحول بيني وبين المسلمين ماء قال نعم إذا جرى النيل فكتب إلى عمرو
إني لا أحب أن ينزل المسلمون منزلا يحول الماء بيني وبينهم لا في شتاء ولا في صيف
فتحول عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط وإن ناسا من المسلمين حين


افتتحوا مصر مع عمرو بن العاص اختطوا بالجيزة وسكنوا بها فكتب عمرو بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر يقول ما كنت أحب أن ينزلوا منزلا يكون الماء دونهم فإذا فعلوا فابن عليهم حصنا فبني الحصن الذي خلف الجسرين
وبنى عمرو بن العاص المسجد وكان ما حوله حدائق وأعنابا فنصبوا الحبال حتى استقام لهم ووضعوا أيديهم فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة وضعها هو ومن حضر معه من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} واتخذ فيه منبرا فكتب إليه عمر بن الخطاب
أما بعد فإنه بلغني انك اتخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين أو ما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك فعزمت عليك لما كسرته
ولما اختط الناس المنازل بالفسطاط كتب عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنه
إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع
فكتب إليه عمر
أنى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين وذكر الطبري أن القبط حضروا باب عمرو فبلغه أنهم يقولون ما أرث العرب وأهون أنفسهم وما رأينا مثلنا دان لهم فخاف أن يستثيرهم ذلك فأمر بجزر فنحرت فبطحت في الماء والملح وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا هم وأصحابهم وجلس وأذن لأهل مصر وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين فأكلوا أكلا عربيا انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة وتقدم إلى أمراء الأجناد في الحضور بأصحابهم من الغد وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا وأذن لأهل مصر فرأوا غير ما رأوا بالأمس وقام عليهم القوم بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر ونحوا نحوهم


فافترقوا وقد ارتابوا وبعث إليهم أن يتسلحوا غدا للعرض وغدا على العرض وأذن لأهل مصر فعرضهم عليهم ثم قال اني قد علمت أنكم أريتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم كيف كانت في أرضهم ثم حالهم في أرضكم ثم حالهم في الحرب فظفروا بكم وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجع إلى عيش اليوم الأول فتفرقوا وهم يقولون لقد رمتكم العرب برجلهم
وبلغ عمر رحمه الله ذلك فقال لجلسائه يعني عمرا والله إن حربه للينة مالها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره إن عمرا لعض ثم أمره عليها وأقام بها
وذكر ابن عبد الحكم أن عمر رضي الله عنه كتب أن يختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص ويظهروا مناطقهم ويجزوا نواصيهم ويركبوا على الأكف عرضا ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى ولا يضربوا على النساء ولا على الولدان ولا يدعوهم يتشبهون بالمسلمين في لبوسهم
قال ثم إن عمر بن الخطاب أمر أمراء الأجناد أن يتقدموا إلى الرعية بان عطاءهم قائم وأرزاق عيالهم جارية فلا يزرعون يعني الأجناد ولايزارعون
فأتى شريك بن سمي الغطيفي إلى عمرو بن العاص فقال إنكم لا تعطوننا ما يحسبنا أفتأذن لي بالزرع فقال له عمرو ما أقدر على ذلك فزرع شريك بغير إذنه فكتب عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب فأمره أن يبعث إليه


شريكا فأقرأ عمرو شريكا الكتاب فقال له شريك قتلتني يا عمرو قال ما أنا قتلتك قال أنت صنعت هذا بنفسك قال فإذا كان هذا من رأيك فأذن لي في الخروج إليه من غير كتاب ولك علي عهد الله أن أجعل يدي في يده فأذن له فلما وقف على عمر قال تؤمنني يا أمير المؤمنين قال ومن أي الأجناد أنت قال من جند مصر قال فلعلك شريك بن سمي الغطيفي قال نعم يا أمير المؤمنين قال لأجعلنك نكالا لمن خلفك قال أو تقبل مني ما قبل الله من العباد قال وتفعل قال نعم فكتب إلى عمرو بن العاص إن شريك بن سمي جاءني تائبا فقبلت منه
وعن الليث بن سعد قال سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار فعجب عمرو من ذلك وقال أكتب في ذلك أمير المؤمنين فأجابه عمر عن كتابه إليه في ذلك سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها فسأله عمرو فقال إنا لنجد صفتها في الكتب إن فيها غراس الجنة فكتب بذلك إلى عمر فأجابه إنا لانعلم غراس الجنة إلا المؤمنين فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولاتبعه بشيء فكان أول من دفن فيها رجل من المعافر يقال له عامر فقيل عمرت
قالوا ولما استقامت البلاد وفتح الله على المسلمين فرض عمرو بن العاص لرباط الإسكندرية ربع الناس يقيمون ستة أشهر ثم يعقب بعدهم ربعا آخر ستة اشهر وربعا في السواحل والنصف الثاني مقيمون معه
وقيل كان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازية من اهل المدينة ترابط بالإسكندرية وكانت الولاة لا تغفلها ويكثفون رابطتها ولا يأمنون الروم عليها
وكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو خليفة إلى عبد الله بن سعد ابن أبي سرح بعد أن استعمله على مصر
قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية وقد نقضت مرتين فألزم الإسكندرية رابطتها واجر عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر


وكان عمرو بن العاص يقول ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة وقال نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها وفجر له الأرض عيونا فإذا انتهت جريته إلى ما أراد سبحانه أوحى إلى كل ماء ان يرجع إلى عنصره
ولما فتح عمرو مصر أتاه أهلها حين دخل بؤنة من أشهر العجم فقالوا له أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها فقال وما ذاك قالوا إنه إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلوا من هذا الشهر عهدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النهر فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في الإسلام وإن الإسلام يهدم ما قبله فأقاموا ذلك الشهر والشهرين اللذين بعده لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء فلما رأى ذلك عمرو كتب به إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر رضي الله عنه
قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل
فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة فإذا فيها
من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن
كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك
قألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله عز وجل ستة عشر ذراعا في ليلة وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر

ذكر فتح أنطابلس

قال ابن عبد الحكم كان البربر بفلسطين يعني زمان داود عليه السلام فخرجوا منها متوجهين إلى الغرب حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية وهما كورتان من كور مصر الغربية مما يشرب من ماء السماء ولا ينالهما النيل فتفرقوا هنالك فتقدمت زناته ومغيلة إلى الغرب وسكنوا الجبال وتقدمت لواته فسكنت أرض أنطابلس وهي برقة وتفرقت في هذا الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس ونزلت هوارة مدينة لبدة ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم وهم بنو أفارق بن قيصر بن حام
فسار عمرو بن العاص في الخيل حتى قدم برقة فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية على أن يبيعوا من أبنائهم في جزيتهم ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابي خراج وإنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها
ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة قال الطبري فافتتحها بصلح وسار مابين برقة وزويلة سلما للمسلمين وقال أبو العالية الحضرمي سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول لأهل أنطابلس عهد يوفي لهم به
ذكر فتح أنطابلس
قال ابن عبد الحكم كان البربر بفلسطين يعني زمان داود عليه السلام فخرجوا منها متوجهين إلى الغرب حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية وهما كورتان من كور مصر الغربية مما يشرب من ماء السماء ولا ينالهما النيل فتفرقوا هنالك فتقدمت زناته ومغيلة إلى الغرب وسكنوا الجبال وتقدمت لواته فسكنت أرض أنطابلس وهي برقة وتفرقت في هذا الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس ونزلت هوارة مدينة لبدة ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم وهم بنو أفارق بن قيصر بن حام


فسار عمرو بن العاص في الخيل حتى قدم برقة فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية على أن يبيعوا من أبنائهم في جزيتهم ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابي خراج وإنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها
ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة قال الطبري فافتتحها بصلح وسار مابين برقة وزويلة سلما للمسلمين وقال أبو العالية الحضرمي سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول لأهل أنطابلس عهد يوفي لهم به

فتح أطرابلسقال ابن عبد الحكم ثم سار عمرو حتى نزل أطرابلس في سنة اثنتين وعشرين فنزل القبة التي على الشرف من شرقيها فحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شيء فخرج رجل من بني مدلج ذات يوم من عسكر عمرو متصيدا في سبعة نفر فمضوا غربي المدينة حتى أمعنوا عن العسكر ثم رجعوا فأصابهم الحر فاخذوا على ضفة البحر وكان البحر لاصقا بسور المدينة ولم يكن فيما بين المدينة والبحر سور وكانت سفن الروم شارعة في مرساها إلى بيوتهم فنظر المدلجي وأصحابه فإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة ووجدوا مسلكا إليها من الموضع الذي حسر عنه البحر فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبروا فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم وأبصر عمرو وأصحابه السلمة في جوف المدينة فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم من مراكبهم وغنم عمرو ما كان في المدينة
وكان من بصبرة متحصنين وهي المدينة العظمى وسوقها السوق القديم فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة أطرابلس وانه لم يصنع فيهم شيئا ولا طاقة له بهم أمنوا
فلما ظفر عمرو بمدينة أطرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته وأمرهم بسرعة السير فصبحت خيله مدينة صبرة وهم غافلون وقد فتحوا أبوابها لتسرح
ماشيتهم فدخلوها فلم ينج منهم أحد واحتوى أصحاب عمرو على ما فيها ورجعوا إلى عمرو


قال ثم أراد عمرو أن يوجه إلى المغرب فكتب إلى عمر بن الخطاب إن الله عز وجل قد فتح علينا أطرابلس وليس بينها وبين أفريقية إلا تسعة أيام فإن رأى أمير المؤمنين أن نغزوها ويفتحها الله على يديه فعل
فكتب إليه عمر
لا إنها ليست بإفريقية ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها لا يغزوها أحد ما بقيت
قال وأتى عمرو بن العاص كتاب المقوقس يذكر له أن الروم يريدون نكث العهد ونقض ما كان بينهم وبينه وكان عمرو قد عاهد المقوقس على أن لا يكتمه أمرا يحدث فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه
قال وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون يعني من أطراف إفريقية

ذكر انتقاض الإسكندرية في خلافة عثمان رضي الله عنهقال عبد الرحمن بن عبد الحكم وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر وولى عبد الله بن سعد وقد كانت الإسكندرية انتقضت وجاءت الروم عليهم منويل الخصي في المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية فأجابهم من بها من الروم ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث فلما نزلت الروم بالإسكندرية سأل أهل مصر عثمان رضي الله عنه أن يقر عمرا حتى يفرغ من قتال الروم فإن له معرفة في الحرب وهيبة في العدو ففعل


فخرج إليهم عمرو في البر والبحر وضوى إلى المقوقس من أطاعه من القبط فأما الروم فلم يطعه منهم أحد فقال خارجه بن حذافة لعمرو ناهضهم قبل أن يكثر مددهم ولا آمن أن تنتقض مصر كلها قال عمرو لا ولكن دعهم حتى يسيروا إلي فإنهم يصيبون من مروا به فيجزي الله بعضهم ببعض فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها ويأكلون أطعمتها وينتهبون ما مروا به فلم يعرض لهم عمرو حتى بلغوا نقيوس فلقوهم في البر والبحر فبدأت الروم والقبط فرموا بالنشاب في الماء رميا شديدا حتى أصاب النشاب يومئذ فرس عمرو في لبته وهو في البر فعقر فنزل عنه ثم خرجوا من البحر فاجتمعوا هم والذين في البر فنضحوا المسلمين بالنشاب فاستأخر المسلمين عنهم شيئا وحملوا حملة ولى
المسلمون منها وانهزم شريك بن سمي في خيله
وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب فدعا إلى البراز فبرز إليه رجل من زبيد يقال له حومل ويكنى أبا مذحج فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف وألقى حومل رمحه وأخذ سيفه وكان يعرف بالنجدة وجعل عمرو يصيح أبا مذحج فيجيبه لبيك والناس على شاطيء النيل في البر على تعبئتهم وصفوفهم فتجاولا ساعة بالسيفين ثم حمل عليه البطريق فاحتمله وكان نحيفا ويخترط حومل خنجرا كان في منطقته أو في ذراعه فيضرب به نحر العلج أو ترقوته فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمة الله عليه فرئى عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم
قال ثم شد المسلمون عليهم فكانت هزيمتهم وطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية ففتح الله عليه وقتل منويل الخصي


قال الهيثم بن زياد وقتلهم عمرو بن العاص حتى أمعن في مدينتهم فكلم في ذلك فأمر برفع السيف عنهم وبني في ذلك الموضع مسجد وهو الذي يقال له بالإسكندرية مسجد الرحمة سمي بذلك لرفع عمرو السيف هنالك
وكان عمرو حلف لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى تكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان فلما أظفره الله هدم سورها كله
وجمع عمرو ما أصاب منهم فجاءه من أهل تلك القرى من لم يكن نقض فقالوا قد كنا على صلحنا ومر علينا هؤلاء اللصوص فأخذوا متاعنا ودوابنا وهو قائم في يديك فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه وأقاموا عليه البينة
وقال بعضهم لعمرو ما حل لك ما صنعت بنا وكان لنا عليك أن تقاتل عنا لأنا في ذمتك ولم ننقض فأما من نقض فأبعده الله فندم عمرو وقال
ياليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية
وكان سبب نقض الإسكندرية فيما ذكر ابن عبد الحكم أن صاحب اخناء قدم على عمرو بن العاص فقال أخبرنا ما علينا من الجزية فنصبر لها فقال له عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم فغضب صاحب اخناء فخرج إلى الروم فقدم بهم فهزمهم الله وأسر ذلك النبطي فأتى به إلى عمرو فقال له الناس اقتله فقال لا بل انطلق فجئنا بجيش آخر
وقيل إنه لما أتى به سوره وتوجه وكساه برنسين أرجوان وقال له ايتنا بمثل هؤلاء فرضي بأداء الجزية
فقيل له لو أتيت ملك الروم فقال لو أتيته لقتلني وقال قتلت أصحابي


وذكر ابن عبد الحكم أيضا أن الروم مشت إلى قسطنطين بن هرقل في سنة خمس وثلاثين فقالوا تترك الإسكندرية في أيدي العرب وهي مدينتنا الكبرى فقال ما أصنع بكم وما تقدرون أن تتماسكوا ساعة إذا لقيتم العرب قالوا فاخرج على أن نموت فتبايعوا على ذلك وخرج في ألف مركب يريد الإسكندرية فبعث الله عليهم ريحا عاتية فأغرقتهم إلا قسطنطين نجا بمركبه فألقته الريح بصقلية فسألوه عن أمره فأخبرهم فقالوا شأمت النصرانية وأفنيت رجالها فلو دخل العرب علينا لم نجد من يردهم ثم صنعوا له الحمام ودخلوا عليه ليقتلوه فقال ويلكم تذهب رجالكم وتقتلون ملككم قالوا كأنه غرق معهم ثم قتلوه وخلوا من كان معه في المركب

ذكر غزو أفريقية وفتحهاقال ابن عبد الحكم ولما عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وأمر عبد الله بن سعدبن أبي سرح كان يبعث المسلمين في جرائد الخيل كما كانوا يفعلون في إمرة عمرو بن العاص فيصيبون من أطراف أفريقية ويغنمون فكتب عبد الله بن سعد في ذلك إلى عثمان وأخبره بقربها من حوز المسلمين واستأذنه في غزوها فندب عثمان الناس إلى ذلك بعد المشورة فيه فلما اجتمع الناس أمر عليهم الحارث بن الحكم إلى أن يقدموا مصر على عبد الله ابن سعد فيكون إليه الأمر فخرج عبد الله إليها وكان عليها ملك يقال له جرجير كان هرقل استخلفه فخلعه وكان سلطانه ما بين اطرابلس إلى طنجة ومستقر سلطانه يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة فلقي عبد الله جرجير فقاتله فقتله الله وولي قتله عبد الله بن الزبير فيما يزعمون وهرب جيش جرجير فبعث عبد الله السرايا وفرقها فأصابوا غنائم كثيرة فلما رأى ذلك رؤساء أهل أفريقية سألوه أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم فقبل منهم ذلك ورجع إلى مصر ولم يول على أفريقية أحدا ولا اتخذ بها قيروانا


ويروى أن جرجيرا لما نازله المسلمون القتال أبرز ابنته وكانت من أجمل النساء فقال من يقتل عبد الله بن سعد وله نصف ملكي وأزوجه ابنتي فبلغ ذلك عبد الله فقال أنا أصدق من العلج وأوفي بالعهد من يقتل جرجيرا فله ابنته فقتله عبد الله بن الزبير فدفع إليه عبد الله ابنته
وذكر ابن عبد الحكم عن أبيه وابن عفير أن ابنة جرجير صارت لرجل من الأنصار في سهمه فأقبل بها منصرفا قد حملها على بعير له فجعل يرتجز
يا ابنة جرجير تمشي عقبتك
إن عليك بالحجاز ربتك
لتحملن من قباء قربتك
الرجز
فقالت ما تقول وسبته فأخبرت بذلك فألقت بنفسها عن البعير الذي كانت عليه فاندقت عنقها فماتت فالله أعلم أي ذلك كان
وكانت غنائم المسلمين يومئذ أنه بلغ سهم الفارس بعد إخراج الخمس ثلاثة آلاف دينار للفرس ألفا دينار ولفارسه ألف دينار وللراجل ألف وقسم لرجل من الجيش توفي بذات الحمام فدفع إلى أهله بعد موته ألف دينار
وكان جيش عبد الله بن سعد ذلك الذي وقع له القسم عشرين ألفا
وبعث عبد الله بالفتح إلى عثمان رضي الله عنه عقبة بن نافع ويقال بل عبد الله بن الزبير وهو أصح
وسار زعموا عبد الله بن الزبير على راحلته من أفريقية إلى المدينة عشرين ليلة ولما دخل على عثمان أخبره بلقائهم العدو وبما كان في تلك الغزوة فاعجب عثمان فقال له هل تستطيع أن تخبر الناس بهذا قال نعم فأخذ بيده حتى انتهى به إلى المنبر ثم قال اقصص عليهم ما أخبرتني به فتلكأ عبد الله بدأ ثم تكلم بكلام أعجبهم
ويروى عن ابن شهاب أن عثمان لما قال لابن الزبير أتكلم الناس بهذا قال نعم يا أمير المؤمنين أنا أهيب لك مني لهم فأمر عثمان فجمع الناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثني عليه وكان أكره شيء إليه الخطب وأحب
الأشياء إليه ما كفي ثم قال أيها الناس إن الله قد فتح عليكم أفريقية وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم بخبرها إن شاء الله ثم جلس على المنبر


وقام ابن الزبير إلى جانب المنبر وكان أول من قام إلى جانبه فقال
الحمد لله الذي ألف بيننا بعد الفرقة وجعلنا متحابين بعد البغضة والحمد لله الذي لا تجحد نعماؤه ولا يزول ملكه له الحمد كما حمد نفسه وكما هو أهله ابتعث محمدا {صلى الله عليه وسلم} فاختاره بعلمه وائتمنه على وحيه فاختار له من الناس أعوانا قذف في قلوبهم تصديقه فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه وجاهدوا في الله حق جهاده فاستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح والبيع الرابح وبقي منهم من بقي لا يأخذهم في الله لومة لائم
أيها الناس رحمكم الله إنا خرجنا للوجه الذي قد علمتم فكنا مع خير وال ولي فحمد وقسم فعدل لم يفقد من بر أمير المؤمنين شيئا كان يسير بنا البردين يخفض بنا في الظهائر ويتخذ الليل حملا يعجل الترحل من المنزل الفقير ويطيل اللباث في المنزل المخصب الرحب فلم نزل على أحسن حالة يتعرفها قوم من ربهم حتى انتهى إلى أفريقية فنزل منها بحيث يسمع صهيل الخيل ورغاء الإبل وقعقعة السلاح فأقام أياما يجم كراعه ويصلح سلاحه ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه فبعدوا منه وسألهم الجزية عن صغار والصلح فكانت هذه أبعد فأقام فيها ثلاث عشرة ليلة يتأتى بهم وتختلف رسله إليهم فلما يئس منهم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} وأكثر الصلاة عليه ثم ذكر فضل الجهاد وما لصاحبه إذا صبر واحتسب ثم نهد لعدوه فقاتلهم أشد القتال يومه ذلك وصبر الفريقان جميعا وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة واستشهد الله رجالا من المسلمين فبتنا وباتوا للمسلمين بالقرآن دوي كدوي النحل وبات المشركون في ملاهيهم وخمورهم فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس وزحف بعضنا إلى بعض فأفرغ


الله علينا الصبر ثم أنزل علينا النصر ففتحناها من آخر النهار فأصبنا غنائم كثيرة فبلغ فيها الخمس خمسمائة ألف دينار وتركت المسلمين قد قرت أعينهم وقد أغناهم النفل ووسعهم الحق وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من المشركين فأحمد الله على آلائه وما أحل بأعدائه من بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين
ثم صمت ونهض إليه الزبير فقبل بين عينيه وقال يا بني إذا نكحت المرأة فانكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما والله ما زلت تنطق بلسان أبي بكر الصديق حتى صمت
ويروى عن الزبير لما أمر عثمان رحمه الله ابنه عبد الله بالقيام ليخبر الناس بما شهد من فتح أفريقية أنه قال وجدت في نفسي على عثمان وقلت يقيم غلاما من الغلمان لا يبلغ الذي يحق عليه والذي يجمل به فقام فتكلم فأبلغ وأصاب فما فرغ حتى ملأهم عجبا
وفي كتاب سيف أن عثمان لما وجه عبد الله بن سعد إلى أفريقية قال له إن فتح الله عليك أفريقية فلك مما أفاء الله عليك خمس الخمس فلما انتهى إلى أفريقية فيمن معه لقيهم صاحبها فقاتلهم فقتله الله قتله عبد الله بن سعد وفتح الله أفريقية سهلها وجبلها واجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم بعد أن أخرج الخمس فعزل منه لنفسه خمسه وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان وضرب فسطاطا في موضع القيروان ووفد وفد إلى عثمان فشكوه فيما أخذ من الخمس فقال عثمان أنا نفلته
وإنما النفل تبصرة وتدريب للرجال ثم كتب إلى عبد الله بن سعد باستصلاحهم
قال وكان عثمان قد أرسل معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله ابن نافع بن الحصين الفهريين وأمرهما بالمسير إلى الأندلس فيمن ندبه معهما من الرجال وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب أفريقية وبعد ذلك يسيران الى الأندلس فلما كان الاستيلاء على صاحب أفريقية سارا من فورهما إلى الأندلس وأتياها من قبل البحر


وكان عثمان رحمه الله تعالى قد كتب إلى من انتدب إلى الأندلس
أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس وإنكم إن لم تفتحوها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر والسلام
وقال كعب يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها يعرفون بنورهم يوم القيامة

ذكر صلح النوبةقال ابن عبد الحكم ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الأساود وهم النوبة سنة إحدى وثلاثين فقاتلته النوبة قتالا شديدا وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج وأبي شمر بن أبرهة وحيويل بن ناشرة فيومئذ سموا رماة الحدق فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم وفي ذلك اليوم يقول بعض من حضره
لم تر عيني مثل يوم دمقله
والخيل تغدو بالدروع مثقلة
الرجز
قال وكان الذي صولح عليه النوبة فيما ذكر بعض مشايخ المصريين ثلاثمائة رأس وستين رأسا في كل سنة ويقال بل على أربعمائة في كل سنة منها لفيء المسلمين ثلاثمائة وستون ولوالي البلد أربعون منها فيما زعم بعض المشايخ سبعة عشر مرضعا
ثم انصرف عبد الله بن سعد عنهم
قال وذكر بعض المتقدمين أنه وقف بالفسطاط في بعض الدواوين يعني على عهد لهم قرأه قبل أن يحرق فإذا هو يحفظ منه
إنا عاهدناكم وعاقدناكم أن توفونا في كل سنة ثلاثمائة رأس وستين رأسا وتدخلون بلادنا مجتازين غير مقيمين وكذلك ندخل بلادكم على أنكم إن قتلتم من المسلمين قتيلا فقد برئت منكم الهدنة وإن آويتم للمسلمين عبدا فقد برئت منكم الهدنة وعليكم رد أباق المسلمين ومن لجأ إليكم من أهل الذمة
وقال يزيد بن أبي حبيب وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق وإنما هي هدنة أمان بعضنا من بعض
قال ابن لهيعة وأبو حبيب والد يزيد واسمه سويد منهم


وقال الليث بن سعد وذكر له قول مالك بن أنس لا يشتري رقيق النوبة ولا يباعون فقال الليث لا علم لمالك بهذا نحن أعلم به منه إنما صولحوا على أن نكف عنهم حربنا فقط وعلى أنهم يعطونا منهم رقيقا في كل سنة وعلى أنا لا نمنع غزو غيرنا فبذلك نشتريهم إنما علينا الوفاء بأن لا نحاربهم فقط
قال ابن عبد الحكم ولم أر أحدا من أصحاب مالك يقول بقوله في النوبة وكلهم كان يشتريهم
قال واجتمعت لعبد الله بن سعد البجة في انصرافه من بلاد النوبة على شاطى ء النيل فسأل عنهم فأخبر بشأنهم فهان عليه أمرهم فنفذ وتركهم ولم يكن لهم عقد ولا صلح وأول من صالحهم عبيد الله بن أبي الحبحاب

ذكر البحر والغزو فيهذكر الطبري عن سيف عن أشياخه قالوا ألح معاوية على عمر بن الخطاب في غزو البحر وقرب الروم من حمص وقال إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه فكتب إلى عمرو بن العاص صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه وإني أشتهي خلافها فكتب إليه عمرو بن العاص إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير إن سكن خوف القلوب وإن تحرك راع العقول يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة هم فيه كدود على عود إن مال غرق وإن نجا فرق
فلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية
لا والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا
وفي رواية أنه كتب إليه
إنا قد سمعنا أن بحر الشام يشرف على أطول شيء في الأرض يستأذن الله في كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب والله لمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم فإياك أن تتعرض لي وقد تقدمت إليك
فلما ولي عثمان بن عفان لم يزل به معاوية حتى عزم على ذلك وقال له لا
تنتخب الناس ولا تقرع بينهم خيرهم فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه


ففعل ذلك معاوية واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة فغزا خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية في البر والبحر ولم يغرق معه أحد في البحر ولانكب وكان يدعوا الله أن يرزقه العافية في جنده ولا يبتليه بمصاب أحد منهم ففعل الله ذلك له حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده خرج في قارب طليعة فانتهى إلى البر من أرض الروم وعليه سؤال يعبرون ذلك المكان فتصدق عليهم فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها فقالت للرجال هل لكم في عبد الله بن قيس قالوا وأين هو قالت في المرفأ قالوا أي عدوة الله ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس فوبختهم وقالت أنتم أعجز مني أو يخفى عبد الله على أحد فبادروا فهجموا عليه فقاتلوه وقاتلهم فأصيب وحده وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه فجاءوا حتى أرفوا والخليفة فيهم سفيان بن عوف الأودي فخرج فقاتلهم فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم فقالت جارية عبد الله واعبد الله ما هكذا كان يقول حين يقاتل فقال سفيان وكيف كان يقول قالت الغمرات ثم ينجلين فجعل سفيان يقول ذلك وترك ما كان يقول وأصيب في المسلمين يومئذ وقيل لتلك المرأة بأي شيء عرفته فقالت بصدقته أعطى كما يعطي الملوك ولم يقبض قبض التجار
غزو معاوية بن أبي سفيان قبرس
وغزا معاوية بن أبي سفيان قبرس سنة ثمان وعشرين فيما ذكر الواقدي
قال وهو أول من غزا الروم وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد ابن أبي سرح حتى لقوا معاوية فكان على الناس
قال ابن عفير ومع معاوية امرأته فاخته بنت قرظه وكان معه أيضا في غزاته أبو الدرداء وشداد بن أوس وأبو ذر وعبد الله بن عمرو بن العاص في عدة من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأم حرام الأنصارية فتوفيت هناك فقبرها يستسقي به أهل قبرس ويسمونه قبر المرأة الصالحة


وأم حرام هذه هي خالة أنس بن مالك رضي الله عنه وحديثها مشهور في نوم النبي ص في بيتها ثم استيقظ وهو يضحك فسألته ما يضحكه فقال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة فقالت يارسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك فسألته فقال ناس من أمتي عرضوا علي مثل مقالته الأولى فقالت يا رسول الله ادع الله ان يجعلني منهم قال أنت من الأولين فكانت هذه الغزوة هي التي عرضت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولا وخرجت أم حرام فيها فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت
قال ابن عمير وذلك العام بالشام عام قبرس الأول
وقيل إن معاوية توجه إليها من حصن عكا في مائتي مركب قال وظفر معاوية في هذه الغزاة وأخذ من الأموال والحلي ما لا يحصى
وقال جبير بن نفير لما سبيناهم يعني أهل قبرس نظرت إلى أبي الدرداء يبكي فقلت ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله وأذل الكفر وأهله فضرب بيده على منكبي وقال ثكلتك أمك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره بينا هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى فسلط عليهم السباء وإذا سلط السباء على قوم فليس لله عز وجل بهم حاجة
وذكر الطبري أن معاوية لما غزا قبرس صالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين في كل سنة ويؤدون إلى الروم مثلها ليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك على أن لا يغزوهم المسلمون ولا يقاتلوا هم من غزا من خلفهم يريد الخروج إلى أرض المسلمين وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم وعلى أن يبطرق إمام المسلمين عليهم منهم
وذكر الواقدي أيضا مصالحة معاوية أهل قبرس في ولاية عثمان رحمه الله وإن في العهد الذي بيننا وبينهم ألا يتزوجوا في عدونا من الروم إلا بإذننا


قال وفي هذه السنة يعني سنة ثمان وعشرين غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم

غزوة ذات الصواريذكر الواقدي أن أهل الشام خرجوا وعليهم معاوية بن أبي سفيان وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بأفريقية فخرجوا في جمع لم ير الروم مثله قط منذ كان الإسلام فخرجوا في خمسمائة مركب فالتقوا هم وعبد الله بن سعد فأمن بعضهم بعضا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك
قال مالك بن أوس بن الحدثان كنت معهم فالتقينا في البحر فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط وكانت الريح علينا فأرسينا ساعة وأرسوا قريبا منا وسكنت الريح عنا فقلنا الأمن بيننا وبينكم قالوا ذلك لكم منا ولنا منكم قلنا إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل وإن شئتم فالبحر فنخروا نخرة واحدة وقالوا الماء فدنونا منهم فربطنا السفن بعضها ببعض حتى كنا بحيث يضرب بعضنا بعضا فقاتلنا أشد القتال ووثب الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف ويتواجئون بالخناجر حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما
وقال بعض من حضر ذلك اليوم أيضا رأيت الساحل وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال وإن الدم للغالب على الماء
ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير وقتل من الكفار ما لا يحصى وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا في موطن قط مثله ثم أنزل الله نصره على أهل
الإسلام وانهزم القسطنطين مدبرا وأصابته يومئذ جراحات مكث فيها حينا جريحا


وعن حنش الصنعاني قال ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين مع عبد الله بن سعد فلما بلغوا ذات الصواري لقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة فيها القسطنطين بن هرقل فقال أشيروا علي قالوا انتظر الليلة فباتوا يضربون بالنواقيس وبات المسلمون يصلون ويدعون الله ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين فقربوا سفنهم وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض وصف عبد الله المسلمين على نواحي السفن وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر ووثبت الروم في سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها واقتتلوا على غير صفوف قتالا شديدا ثم إن الله نصر المؤمنين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد وأقام عبد الله بذات الصواري أياما بعد هزيمة القوم ثم أقبل راجعا
وذكر ابن عبد الحكم أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصواري أنزل نصف الناس مع بسر بن أبي أرطاه سرية في البر فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله فقال ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل في ألف مركب فافعله الساعة
قال وإنما مراكب المسلمين مائتا مركب ونيف فقام فقال أشيروا علي فما كلمه رجل من المسلمين فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم ثم استشارهم فما كلمه أحد ثم فقال الثالثة إنه لم يبق شيء فأشيروا علي فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعا أيها الأمير إن الله تعالى يقول كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ( 249 البقرة )
فقال عبد الله اركبوا باسم الله فركبوا وإنما في كل مركب نصف شحنته قد خرج النصف الآخر مع بسر في البر فلقوهم فاقتلوا بالنبل والنشاب وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة وجعل تختلف القوارب إليه بالأخبار فقال ما فعلوا
قالوا اقتتلوا بالنبل والنشاب قال غلبت الروم ثم أتوه فقال ما فعلوا قالوا قد نفدت النبل والنشاب فهم يرتمون بالحجارة قال غلبت الروم ثم أتوه فقال ما فعلوا قالوا نفذت الحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف قال غلبت الروم


قال يزيد بن أبي حبيب وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدو فكاد مركب العدو يجر مركب عبد الله إليهم فقام علقمة بن يزيد العطيفي وكان في المركب مع عبد الله فضرب السلسلة بسيفه فقطعها فسأل عبد الله بعد ذلك امرأته بسيسة ابنة جمرة بن ليشرح بن عبد كلال وكانت معه يومئذ وكان الناس فيما خلا يغزون بنسائهم من رأيت أشد الناس قتالا قالت علقمة صاحب السلسلة وكان عبد الله حين خطبها إلى أبيها قال له إن علقمة قد خطبها وله علي فيها رأي فإن يتركها أفعل فكلم عبد الله علقمة فتركها فتزوجها عبد الله ثم هلك عنها فتزوجها بعده علقمة ثم هلك عنها فتزوجها كريب بن أبرهة
وقال محمد بن الربيع إنما سميت غزوة ذات الصواري لكثرة المراكب التي اجتمعت فيها ابن هرقل في ألف مركب والمسلمون في مائتي مركب ونيف فكثرت الصواري في البحر فسميت ذات الصواري
وفي بعض ما تقدم من الأخبار ما يقتضي أن ذات الصواري موضع يسمى هكذا فالله تعالى أعلم

ذكر فتح العراق وما والاه على ما ذكره سيف بن عمرو وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عنه وعن غيره

ذكروا عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا حض الله المسلمين على عهد نبيه {صلى الله عليه وسلم} على الاستقامة على الدين وندبهم إلى فارس ووعدهم فتقدم إليهم في ذلك من قبل غزوهم ليحثهم وليدربهم فبدأ بالردة فقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ( 144 آل عمران ) فسمي من ثبت على دينه بعد موت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الشاكرين ثم عاد في وصف من ناهض منهم أهل الردة والمنافقون حشر في المؤمنين وإنما يكلم الله عز وجل المؤمنين بما يعني به المنافقين فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منك عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( 54 المائدة ) فسماهم أحباء وأثابهم حيث كانوا أذلة أرقة على المؤمنين أعزة أشدة على الكافرين يجاهدون يعني جهادا بعد جهادهم أهل الردة يقاتلون من بعدهم أهل فارس ولا يخافون تخويف من يخوفهم هذا فضل الله يخص به من يشاء والله واسع عليم عالم بهم فهم الشاكرون وهم الفاضلون وهم المقربون وهم أحباء الله


وعن علي وابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم الآيتين إلى قوله وكان الله على كل شيء قديرا ( 20 - 21 الفتح ) مغانم فتوحا من لدن خيبر تلونها وتضمون ما فيها فعجل لكم هذه أي عجل لكم من ذلك خيبر وكف أيدي الناس عنكم أيدي قريش بالصلح يوم الحديبية ولتكون آية للمؤمنين شاهدا على ما بعدها ودليلا على إنجازها وأخرى لم تقدروا عليها أي على علم وقتها أفيئها عليكم فارس والروم قد أحاط الله بها قضى الله بها أنها لكم منها الأيام والقوادس والواقوصة والمدائن الحمر بالشام ومصر والضواحي فاجتمعت هذه الصفات فيمن قاتل فارس والروم وسائر الأعاجم ذلك الزمان

ذكر سيف قال كان أول ملوك فارس قاتله المسلمون شيري بن كسرى وذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حيث فرغ من أهل الردة وأقامت جنود المسلمين في بلدان من ارتد كتب إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة أن ائذن للمسلمين في القفل إلا من أحب المقام معك ولا تكرهن أحدا على القيام ولاتستعن في شيء من حربك بمتكاره وادع من يليك من تميم وقيس وبكر إلى موتان اليمامة فإن موات ما أفاء الله على رسوله لله ولرسوله فمن أحيا شيئا من ذلك فهو له لا يدخل ذلك في شيء من موات كل بلد أسلم عليه أهله ففعل خالد فأنزل اليمامة من هؤلاء الأحياء من أقرن ببني حنيفة ولما أذن خالد في القفل قفل الناس أهل المدينة ومن حولها وسائر من كان معه من أهل القبائل وبقي خالد في ألفين من القبائل التي حول المدينة من مزينة وجهينة وأسلم غفار وضمرة وأناس من غوث طيء ونبذ من عبد القيس
ولما قفل من قفل وجه المثنى بن حارثة الشيباني ومذعور بن عدى العجلي


وحرملة بن مريطة وسلمى بن القين الحنظليين وهما من المهاجرين والمثنى ومذعور ممن وفد على النبي {صلى الله عليه وسلم} فقدموا على أبي بكر رحمه الله فقال له حرملة وسلمى إنا معاشر بني تميم وبكر بن وائل قد دربنا بقتال فارس وأشجيناهم حتى اتخذوا الخنادق وغبقوا المياه واتخذوا المسالح في القصور المشيدة وتحصنوا بها منا فأذن لنا في حربهم فأذن لهما فولاهما على من تابعهما واستعملهما على ما غلبا عليه وكانا أول من قدم أرض فارس لقتال أهل فارس وكانا من المهاجرين ومن صالحي الصحابة فنزلا أطد ونعمان والجعرانة في أربعة آلاف من تميم والرباب وكان بإزائهما النوشجان والفيرمان بالوركاء فزحفوا إليهما فغلبوهما على الوركاء وغلبا على هرمزجرد إلى فرات بادلقي
وذكر سيف من طريق آخر أن المثنى ومذعورا لما قدما على أبي بكر أستأذناه في غزو أهل فارس وقالا إنا وإخواننا من بني تميم قد دربنا بقتالهم وأخذنا النصف من أحد وثني كل موسم فأذن لهما وولاهما على من تابعهما واستعملهما على ما غلبا عليه فسارا فجمعا جموعهما ثم سارا بهم حتى قدما بلاد فارس وكانا اول من قدمها لقتالهم هما وحرملة وسلمى وقدم المثنى ومذعور في أربعة آلاف من بكر بن وائل وعنزة وضبيعة فنزل أحدهما بخفان ونزل الآخر بالمهارق وعلى فرج الفرس مما يليهما شهربراز بن بندا فنفياه وغلبا على فرات بادقلي إلى السيلحين واتصل ما غلبا عليه وما غلب عليه سلمى وحرملة وفي ذلك يقول مذعور بن عدي
غلبنا على خفان بندا وشيحة
إلى النخلات السحق فوق المهارق )
وإنا لنرجوا ان تجول خيولنا بشاطي الفرات بالسيوف البوارق
الطويل
وقال المثنى في ذلك
ألا أبلغا شهرا وشهر مهاجر بأنا سنلقاه على الحدثان
فنحن سللنا شيحة يوم بارق إلى شر دار تنتوي ومكان
الطويل
ويروي أن أبا بكر رحمه الله لما بلغه ما كان من فتح حرملة وسلمى ومثنى ومذعور ما بين السيلحين إلى أسفل الفرات تمثل بقول الآخر
ومتى تسلف في قبيل خطة تلق المنال مضاعفا أو موعبا
وإذا عقدت بحبل قوم مرة ذربوا عليك فلم تجد لك مقضبا
حيان لاخطما بحبل هضيمة أنفا الزمام فلم يقرا مركبا
الكامل
وحكى عمر بن شبة عن شيوخه من أهل الأخبار أن المثنى بن حارثة كان يغير على أهل فارس بالسواد فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره فقال عمر من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه فقال له قيس بن عاصم أما أنه غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا قليل العدد ولا ذليل العمارة ذلك المثنى بن حارثة الشيباني
ثم أن المثنى قدم على أبي بكر فقال له يا خليفة رسول الله ابعثني في قومي فإن فيهم إسلاما أقاتل بهم أهل فارس وأكفك أهل ناحيتي من العدو ففعل ذلك أبو بكر فقدم المثنى العراق فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحي السواد حولا مجرما ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يسأله المدد ويقول
إنك إن أمددتني وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلي وأذل الله المشركين مع أني أخبرك يا خليفة رسول الله أن الأعاجم تخافنا وتتقينا فقال له عمر يا خليفة رسول الله أبعث خالد بن الوليد مددا للمثنى بن حارثة يكون قريبا من أهل الشام فإن استغنى عنه أهل الشام ألح على أهل العراق حتى يفتح الله عليه قال فهذا الذي هاج أبا بكر رحمه الله على أن يبعث خالد بن الوليد إلى العراق
وفي حديث آخر انه ولاه حرب العراق لما قضى ما أراد قضاءه من اليمامة وكتب إلى المثنى ومذعور وسلمى وحرملة بأن يسمعوا له ويطيعوا
أخبار الأيام في زمان خالد بن الوليد رضي الله عنه
وكانت لمن وليها الفضيلة والسابقة والقدمة لأنهم شركوا أهل القادسية والبويب وفضلوهم بولايتهم هذه
=============
ج8. كتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي


وهذا كما اجتمعت للمهاجرين النصرة مع الهجرة وفضلوا الأنصار بالهجرة فروى الشعبي وهشام بن عروة قالا لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة كتب إليه أبو بكر إني قد وليتك حرب العراق فاحشد من ثبت على الإسلام وقاتل أهل الردة ممن بينك وبين العراق من تميم وقيس وأسد وبكر ابن وائل وعبد القيس ثم سر نحو فارس واستنصر الله عز وجل وادخل العراق من أسفل العراق فابدأ بفرج الهند وهو يومئذ الأبلة وكان صاحبها يساجل أهل الهند والسند في البحر ويساجل العرب في البر
وقال له تألف أهل فارس ومن كان في مملكتهم من الأمم وأنصفوا من أنفسكم فإنكم كنتم خير أمة أخرجت للناس لنسأل الله أن يجعل من ألحقه بنا وصيره منا خير متبع بإحسان وإن فتح الله عليك فعارق حتى تلقى عياضا
وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين الحجاز والنباج أن سر حتى تأتي
المصيخ فاحشد من بينك وبينها ممن ثبت على إسلامه وقاتل أهل الردة فابدأ بهم ثم ادخل العراق من أعلاها فعارق حتى تلقى خالدا
فاستمد خالد أبا بكر قبل خروجه من اليمامة فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمي واستمده عياض قبل تحركه فأمده أبو بكر بعبد بن عوف الحميري وقيل لأبي بكر أتمد خالدا برجل قد أرفض عنه الناس فقال لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع وسيحشر من بينه وبين أهل العراق
وكتب خالد إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور ليلحقوا به وأمرهم أن يغزوا جنودهم الأبلة ليوم سماه ثم حشد من بينه وبين العراق فحشد ثمانية آلاف من مضر وربيعة إلى ألفين كانا معه فقدم في عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة فلقي هرمز في ثمانية عشرة ألفا


وفيما ذكره سيف من مسير خالد وعياض إلى العراق أن أبا بكر أمرهما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه وقال فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردءا لصاحبه وللمسلمين بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم بالمدائن
وكتب إليهما استعينوا بالله واتقوه وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجمع الله لكم بطاعته الدنيا إلى الآخرة ولا تؤثروا الدنيا فتعجزكم ويسلبكم الله بمعصيته الدنيا والآخرة فما أهون العباد على الله إذا عصوه
قال ولما عزم خالد على المسير من اليمامة إلى العراق سأل عن الأدلة فأتى بنفر فسأل عن أسمائهم فتفاءل منهم إلى ثلاثة بأسمائهم ظفر بن عمرو السعدي ورافع بن عميرة الطائي ومالك بن عباد الأسدي
وجدد خالد التعبئة فعبأ الناس تعبئة مستأنفة غير التي دخل بها اليمامة ونصب لجنده أعلاما غير الذين كانوا أعلامهم وذلك أن أعلامهم الذين دخل

بهم اليمامة قفلوا فوضع رجالا مكانهم وتوخى الصحابة ثم توخى منهم الكماة فاستعمل على مضر القعقاع بن عمرو وعلى ربيعة فرات بن حيان وعلى قضاعة وضم إليهم أهل اليمن جرير بن عبد الله الحميري أخا الأقرع بن عبد الله رسول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى اليمن وجعل على القبائل دون ذلك على نصف خندق فارس أطلال بكير بن عبد الله الليثي وعلى النصف الآخر معقل بن مقرن المزني وعلى قيس عيلان وعلى غطفان ومن يلاقيهم إلى سعد بن قيس سعد بن عمارة التغلبي وعلى هوازن ومن يلاقيهم إلى خصفة أبا حنش بن ذي اللحية العامري وضم جديلة إليهم وهم عمرو بن قيس بن عيلان وعلي اللهازم من بكر بن وائل عتيبة بن النهاس واللهازم عجل وتيم اللات وقيس بن ثعلبة وعنزة وعلى الدعائم وهم شيبان بن ثعلبة وذهل بن ثعلبة وضبيعة بن ربيعة ويشكر بن ربيعة يشكر بن بكر بن مطر بن عامر الشيباني وعلى قضاعة الحارث بن مرة الجهني وعلى اليمن مالك بن مرة الرهاوي وابن زيد الخيل بن مهلهل وهؤلاء تحت أيدي أولئك الثلاثة
واستعمل على المقدمات المثنى بن حارثة وعلى المجنبات عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو أخا القعقاع وعلى الساقة بسر بن أبي رهم الجهني صاحب جبانة بسر واستخلف على اليمامة وهوافي قيس وتميم سبرة بن عمرو العنزي وكل من أمر له صحبة وقدمة وخرج قاصدا الهرمز والأبلة
وقال المغيرة بن عتبة قاضي الكوفة فرق خالد مخرجه من اليمامة جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريقة واحدة فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر وسرح عديا وعاصما و دليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر أحدهما قبل صاحبه بيوم وخرج خالد ودليله رافع فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا فيه وليصادموا به عدوهم
وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشده شوكة وكان صاحبه يحارب العرب في البر والهند في البحر
وعن الشعبي قال كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه وهرمز صاحب الثغر يومئذ


أما بعد أسلم تسلم أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقر بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة
ولما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيري بن كسرى وإلى أزدشير بن شيري وجمع جموعه ثم تعجل إلى الكواظم في سرعان أصحابه ليتلقى خالدا وسبق حلبته فلم يجد طريق خالد وبلغه انهم تواعدوا الحفير فعاج يبادر خالدا إليه فنزله فعبأ به وجعل على مجنبتيه أخوين يلاقيان أزدشير وشيري آل أزدشير الأكبر يقال لهما قباذ وأنو شجان فاقترنوا في السلاسل فقال من لم ير ذلك لمن رآه قيدتم أنفسكم لعدوكم فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء فأجابوهم أما أنتم فتحدثوننا أنكم تريدون الهرب فلما أتى الخبر خالدا بمنزل هرمز أمال الناس إلى كاظمة وبلغ ذلك هرمز فبادره إليها فنزلها وهو حسير
وكان من أسوء أمراء ذلك الفرج جوارا للعرب فكل العرب عليه مغيظ وقد كانوا يضربونه مثلا في الخبث والمكر حتى قالوا أخبث من هرمز وأمكر من هرمز وتعبأ هو وأصحابه والماء في أيديهم
وقدم خالد فنزل على غير ماء فقالوا له في ذلك فأمر مناديه فنادى ألا أنزلوا وحطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين فحطت الأثقال والخيل وقوف وتقدم الرجل ثم زحف إليهم حتى لاقاهم فاقتتلوا وأرسل الله سبحانه سحابة فأغدرت ماء وراء صف المسلمين فقواهم بها وما ارتفع النهار وفي الغائط مقترن
وأرسل هرمز أصحابه ليغدروا بخالد ثم خرج فنادى رجل أين خالد وقد عهد إلى فرسانه عهده فلما برز خالد نزل هرمز ودعاه إلى البراز فبرز خالد يمشي إليه فالتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد وحملت حامية هرمز وغدرت فاستلحموا خالدا فما شغله ذلك عن قتله
وحمل القعقاع بن عمرو واستلحم حماة هرمز فأتاهم وخالد يماصعهم فانهزم أهل فارس وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل وجمع خالد الرثاث والسلاسل فكان وقر بعير ألف رطل فسميت ذات السلاسل


قال وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم فمن تم شرفه فقيمة قلنسوتة مائة ألف وتمام شرف أحدهم أن يكون من البيوتات السبعة فكان هرمز ممن تم شرفه فكانت قيمة قلنسوته مائة ألف فنفلها أبو بكر رحمه الله خالدا وكانت مفصلة بالجوهر
وقال حنظلة بن زياد بن حنظلة لما تراجع الطلب من ذلك اليوم نادى منادي خالد بالرحيل وسار بالناس وأتبعته الأثقال حتى نزل موضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم وقد أفلت قباذ وأنو شجان وبعث خالد بالفتح وما بقي من الأخماس وبالفيل وقرى ء الفتح على الناس فلما قرى ء فيه خرجت من اليمامة في ألفين وحشرت من ربيعة ومضر ثمانية آلاف فقدمت في عشرة آلاف على ثمانية آلاف مع الأمراء الأربعة المثني ومذعور وحرملة وسلمى تمثل أبو بكر رضي الله عنه
تمنانا ليلقانا بقوم
تخال بياض لامهم السرابا
فقد لاقيتنا فأريت يوما
عماسا يمنع الشيخ الشرابا
تبدل علقما منا بحلو
ينسيك الغنيمة والإيابا
إذا خرجت سوالفهن زورا
كأن على حواركهن غابا
عليها كل متصل بمجد
من الجهتين يلتهب التهابا
الوافر
ولما قدم زر بن كليب بالفيل مع الأخماس فطيف به في المدينة ليراه الناس
جعلت ضعيفات النساء يقلن أمن خلق الله ما نرى ورأينه مصنوعا فرده أبو بكر رضي الله عنه مع زر
وعن زياد بن حنظلة قال إني لبالمدينة وقد قدمتها وافدا من البحرين إذ أرسل إلي أبو بكر وقد قدم عليه الخبر بوقعة ذات السلاسل فقال لي ألم تعلم أنه كان من الشأن ذيت وذيت وأن خالدا ألقى هرمز فاستلحم وأن القعقاع استلحم فقتلهم وتنفل
قال زياد فأقبلت على نفسي أحدثها فقلت الخليفة وفراسته وذكرت قوله ولا يهزم جيش فيهم مثل هذا فما راعني إلا وأبو بكر يقول أين أنت يا زياد أما أن خالدا سيتغير له ويتنكر ثم يراجع ويعرف الحق فاستنكره القعقاع بعد ذلك ووقع بينهما ما يقع بين الناس حتى قال القعقاع يعاتبه ولم يكن إلا ذلك
منعتك من قرني قباذ وليتني


تركتك فاستذكت عليك المعاتب
عطفت عليك المهر حتى تفرجت
وملت من الطعن الدراك الرواجب
أجالدهم والخيل تنحط في القنا
وأنت وحيد قد حوتك الكتائب
وكائن هزمنا من كتيبة قاهر
وكم عجمتنا في الحروب العجائب
الطويل
ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة بعث المثنى بن حارثة في آثار القوم فمضى حتى انتهى إلى نهر المرأة وإلى الحصن الذي فيه المرأة فخلف المثنى بن حارثة عليها من حاصرها في قصرها ومضى المثنى واسلمت فتزوجها المثنى ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين في شيء من فتوحهم لتقدم أبي بكر فيهم وسبي أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم وأقر من لم ينهض من الفلاحين وجعل لهم الذمة
وبلغ سهم الفارس يوم ذات السلاسل والثني ألف درهم والراجل على الثلث من ذلك
حديث الثني والمذار
وكانت وقعة المذار في صفر سنة اثنتي عشرة ويومئذ قال الناس صفر الأصفار فيه يقتل كل جبار على مجمع الأنهار


ولما كتب هرمز إلى ملكهم بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه أمده بقارن بن قربانس فخرج من المدائن ممدا لهرمز حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة وانتهى إليه الفلال فتذامروا قال فلال الأهواز وفارس لفلال السواد والجبل إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبدا فاجتمعوا على العدو مرة واحدة فهذا مدد الملك وهذا قارن لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منا ففعلوا وعسكروا بالمذار واستعمل قارن على مجنبتيه قباذ وأنوشجان فأرسل المثنى إلى خالد بالخبر فعند ذلك قسم خالد الفيء على من أفاء الله عليه ونفل من الخمس ما شاء الله وبعث مع الوليد بن عقبة ببقيته وبالفتح إلى أبي بكر وبالخبر عن القوم وباجتماع المغيث منهم والمغاث إلى الثني وهو النهر وخرج خالد سائرا إليهم حتى ينزل المذار فالتقوا وخالد على تعبئته فاقتتلوا على حنق وحفيظة وخرج قارن يدعوا للبراز فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش فابتداره فسبقه إليه معقل
فقتله وقتل عاصم أنو شجان وقتل عدي قباذ وكان شرف قارن قد انتهى ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحدا انتهى شرفه في الأعاجم
وقتلت فارس مقتلة عظيمة فضموا السفن ومنعت المياه المسلمين من طلبهم وأقام خالد بالمذار وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت وقسم الفيء ونفل من الأخماس ما نفل في أهل البلاء وبعث ببقيتها إلى أبي بكر رضي الله عنه
وعن الشعبي قال دفع خالد إلى أبيض الركبان سلب قارن وقيمته مائة ألف وإلى عاصم وعدي سلب أنو شجان وقباذ وقيمة سلب كل واحد منهما ثلاثة أرباع الشرف
وعن أبي عثمان قال قتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق ولولا المياه لأتي على آخرهم ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة أو أشباه العراة
قال الشعبي لم يلق خالد أحدا بعد هرمز إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التي قبلها


وأقام خالد بالثني يسبي عيالات المقاتلة ومن أعانهم وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعدما دعوا وكل ذلك أخذ عنوة ولكن دعوا إلى الجزاء فأجابوا وتراجعوا وصاروا ذمة صارت أرضهم خراجا وكذلك جرى ما لم يقسم فإذا اقتسم فلا ومن ذلك السبي كان حبيب أبو الحسن البصري وكان نصرانيا
وقال عزيز بن مكنف لم يدع خالد بعد هرمز أحدا من الأعاجم حتى هلك أزدشير إلا أن يدعوا قوما بعدما يغلبهم على أرضهم ويجليهم عنها إلى الجزاء والذمة فيرد عليهم أرضهم فيصيروا ذمة مالم تقتسم وبذلك جرت السنة
وأمر خالد على الجزاء سويد بن مقرن المزني وأمره بنزول الحفير وأمره
ببث عماله ووضع يديه في الجباية وأقام لعدوه يتحسس الأخبار
وقال عاصم بن عمرو في ذلك من أبيات
فلم أر مثل يوم السيب حتى
رأيت الثني تخضبه الدماء
وألوت خيلنا لما التقينا
بقارن والأمور لها انتهاء
الوافر
حديث الولجة وهي مما يلي كسكر من البر
وكانت في صفر سنة اثنتي عشرة
قالوا لما وقع الخبر إلى أردشير بمصاب قارن وأهل المذار أرسل الأندرزعر وكان فارسيا من مولدي السواد وتنائهم ولم يكن ممن ولد في المدائن ولا نشأ بها وأرسل بهمن جاذوية في أثره وكان رافد فارس في يوم من أيام شهرهم وذلك أنهم بنوا شهورهم كل شهر على ثلاثين يوما فكان لأهل فارس في كل يوم رافد نصب لذلك يرفدهم عند الملك فكان بهمن أحدهم فخرج الأنذرزعر سائرا من المدائن حتى أتى كسكر ثم جازها إلى الولجة وخرج بهمن جاذوية في أثره فأخذ غير طريقة فسلك أوسط السواد وقد حشد الأنذرزعر من بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة فلما اجتمع له ما أراد واستتم له
أعجبه ما هو فيه وأجمع السير إلى خالد


ولما بلغ خالدا خبره ونزوله الولجة نادى بالرحيل وخلف سويد بن مقرن وأمره بلزوم الحفير وتقدم إلى من خلف بأسفل دجلة وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة وترك الاغترار وخرج سائرا في الجنود نحو الولجة حتى نزل على الأنذرزعر وجنوده ومن تأشب إليه فاقتتلوا قتالا شديدا هو أعظم من قتال الثني حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ واستبطأ خالد كمينه وكان قد وضع لهم كمينا في ناحيتين عليهم بسر بن أبي رهم وسعيد بن مرة العجلي فخرج الكمين من وجهين فانهزمت صفوف الأعاجم وولوا وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه ومضى الأنذرزعر في هزيمته فمات عطشا وقام خالد في الناس خطيبا يرغبهم في بلاد العجم ويزهدهم في بلاد العرب وقال ألا ترون إلى الطعام كالتراب والله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إليه ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن تثاقل عما أنتم عليه
وسار خالد في الفلاحين سيرته فلم يقتلهم وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة فتراجعوا
وبارز خالد يوم الولجة رجلا من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله فلما فرغ اتكأ عليه ودعا بغذائه
وقال خالد يذكر ذلك اليوم
نهكناهم بها حتى استجاروا
ولولا الله لم يرزوا قبالا
فولوا الله نعمته وقولوا
ألا بالله نحتضر القتالا
الوافر
وقال القعقاع في ذلك وأثنى على المسلمين
ولم أر قوما مثل قوم رأيتهم
على ولجات البر أحمى وأنجبا
وأقتل للرواس في كل مجمع
اذا صعصع الدهر الجموع وكبكبا
فنحن حبسنا بالزمازم بعدما
أقاموا لنا في عرصة الدار ترقبا
قتلناهم ما بين قلع مطلق
إلى القيعة الغبراء يوما مطنبا
الطويل
حديث أليس وهي على صلب الفرات


ولما أصاب خالد من أصاب يوم الولجة من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم فكاتبوا الأعاجم وكتابتهم الأعجمفاجتمعوا إلى أليس وعليهم عبد الأسود العجلي وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلموا بني عجل عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات ابن حيان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدي
وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب فقدم بهمن أمامه جابان وأمره بالحث وقال له كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك فسار جابان نحو أليس وانطلق بهمن إلى أردشير ليحدث به عهدا ويستأمره فيما يريد أن يشير به فوجده مريضا فعرج عليه وأخلي جابان بذلك الوجه ومضى جابان حتى انتهى إلى أليس فنزل بها واجتمعت إليه المسالح التي كانت بإزاء العرب وعبد الأسود في نصارى بني عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة وكان أبجر بن بجير نصرانيا فساند عبد الأسود وكان خالد بلغه بجمع عبد الأسود وأبجر وزهير فيمن تأشب إليهم فنهد إليهم ولا يشعر بدنو جابان وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم
ولما طلع خالد على أليس قالت الأعاجم لجابان أنعاجهم أو نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ثم نقاتلهم بعد الفراغ فقال جابان إن تركوكم والتهاون بهم فتهاونوا ولكن ظني أن سيعاجلوكم ويعجلوكم عن طعامكم فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة وتداعوا إليها وتوافوا عليها فلما انتهى خالد إليهم أمر بحط الأثقال فلما وضعت توجه إليهم ووكل خالد بنفسه حوامي يحمون ظهره ثم برز أمام الصف فنادى أين أبجر أين عبد الأسود أين مالك بن قيس رجل من خدره فنكلوا عنه جميعا إلا مالكا فبرز له فقال له خالد يا ابن الخبيثة ما جرأك علي من بينهم وليس فيك وفاء
وقال
أنا ابن ذات الحسب الممذوق
إنك في ضيق أشد الضيق
الرجز


وضربه فقتله وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه فقال لهم جابان ألم أقل لكم يا قوم لا والله ما دخلتني من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم فقالوا تجلدا حيث لم يقدروا على الأكل ندعها حتى نفرغ منهم ثم نعود إليها فقال جابان وأيضا أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون فالآن فأطيعوني وسموها فإن كانت لنا فأهون هالك وإن كانت علينا كنا قد صنعنا شيئا وأبلينا عذرا فقالوا لا إلا اقتدارا عليهم
وجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر وخالد على تعبئته في الأيام التي قبلها فاقتتلوا قتالا شديدا والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن فصابروا المسلمين للذي كان في علم الله أن يصيرهم إليه وحرب المسلمون عليهم وقال خالد اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لااستبقي منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم ثم إن الله عز وجل كشفهم للمسلمين ومنحهم أكتافهم فأمر خالد منادية فنادى في الناس الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون
سوقا وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا إلى النهرين ومقدار ذلك من كل جوانب أليس فضرب أعناقهم وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثلاثة أيام وهم ثمانية عشر ألفا أو يزيدون
ولما رجع المسلمون من طلبهم ودخلوا عسكرهم وقف خالد على الطعام الذي كان المشركون قدموه لغدائهم فأعجلوا عنه فقال للمسلمين قد نفلتكموه فهو لكم وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا أتى على طعام مصنوع نفله فقعد الناس على ذلك لعشائهم بالليل وجعل من لا يرد الارياف ولا يعرف الرقاق يقول ما هذا الرقاع البيض وجعل من قد عرفها يجيبهم ويقول لهم مازحا هل سمعتم برقيق العيش فيقولون نعم فيقول هو هذا فسمي الرقاق


وعن خالد بن الوليد أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك في بطونهم غير متأثليه
وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بني عجل وكان دليلا صارما فقدم على أبي بكر رضي الله عنه بالخبر وبفتح أليس وبقدر الفيء وبعدة السبي وبما حصل من الأخماس وبأهل البلاء من الناس فلما رأى أبو بكر صرامته وثبات خبره قال ما اسمك قال جندل فقال أبو بكر ويها جندل
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكر والإقداما
الرجز
وأمر له بجارية من السبي فولدت له
وكان خالد وجنده هم جند المسلمين وكتيبة الإسلام بهم فض الله أهل فارس ورعبهم وما زالت بعدها مرعوبة منتشرة لم يأتوا في وقعة بمثل ذلك الجد والصبر إلى أن فارقهم خالد إلى الشام
وبلغت قتلاهم يوم أليس سبعين ألفا جلهم من أمغيشيا وفي ذلك يقول الأسود بن قطبة
قتلنا منهم سبعين ألفا
بقية حربهم غب الإسار
سوى من ليس يحصى من قتيل
ومن قد غال جولان الغبار
الوافر
وقال خالد بن الوليد لما افتتح الحيرة لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس
حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير قتال
ولما فرغ خالد من وقعة أليس نهض فأتى على أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها وقد جلا أهلها وتفرقوا في السواد فأمر خالد بهدمها وهدم كل شيء كان في حيزها وكانت مصرا كالحيرة وكان فرات بادلقي ينتهي إليها وكان أليس من مسالحها فأصابوا فيها ما لم يصيبوا قط قبله مثله
وبلغ سهم الفارس ألف وخمسمائة سوى الأنفال التي نفلها أهل البلاء
ولما بلغ ذلك أبا بكر قال يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله أعجز النساء أن ينسأن بمثل خالد
حديث يوم المقر وفم فرات بادلقي مع ما يتصل به من حديث الحيرة

ذكر أن الآزادبة كان مرزبان الحيرة من زمان كسرى إلى ذلك اليوم وكانوا لا يمد بعضهم بعضا إلا بإذن الملك فلما أخرب خالد أمغشيا علم أنه غير متروك فتهيأ لحرب خالد وقدم ابنه ثم خرج في أثره فعسكر خارجا من الحيرة وأمر ابنه بسد الفرات
ولما استقبل خالد من أمر أمغيشيا وحمل الرجل في السفن مع الأثقال والأنفال لم يفجأ خالد إلا والسفن جوانح فارتاعوا لذلك فقال الملاحون إن أهل فارس فجروا الأنهار فسلك الماء على غير طريقه فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار فتعجل خالد في الخيل نحو الآذادبة فلقي على فم العتيق خيلا من خيلهم فجاهم وهم آمنون غارته تلك الساعة فأنا مهم بالمقر ثم سار من فوره وسبق الأخبار إلى ابن الآزادبه حتى يلقاه وجنوده بفم فرات بادقلي فاقتتلوا فأنامهم خالد وفجر الفرات وسد الأنهار فسلك الماء سبيله
ثم قصد خالد للحيرة واستلحق أصحابه وسار حتى ينزل بين الخورنق والنجف فقدم خالد الخورنق وقد قطع الآزادبه الفرات هربا من غير قتال وإنما جرأه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير وبمصاب ابنه وكان
عسكره بين الغريين والقصر الأبيض ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخورنق خرج منه حتى يعسكر في موضع عسكر الآزادبه بين الغربين والقصر الأبيض وأهل الحيرة متحصنون فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره وأمر بكل قصر رجلا من قواده أهله ويقاتلهم فكان ضرار بن الأزور محاصرا للقصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصة الطائي وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغريين وفيه عدي بن عدي المقتول وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة له محاصرا قصر بني مازن وفيه ابن أكال وكان المثنى محاصرا قصر بني بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح فدعوهم جميعا وأجلوهم يوما فأبى أهل الحيرة ولجوا فناوشهم المسلمون


وعهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوا بالدعاء فإن قبلوا قبلوا منهم وإن أبوا أجلوهم يوما وقال لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم
فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور وكان على قتال القصر الأبيض فأصبحوا وهم مشرفون فدعاهم إلى إحدى ثلاث الإسلام أو الجزاء أو المنابذة فاختاروا المنابذة فقال ضرار ارشقوهم فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل فأعروا رءوس الحيطان ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم وصبح أمير كل قوم أصحابه بمثل ذلك فافتتحوا الدور والديران وأكثروا القتل فتنادى القسيسون والرهبان ياأهل القصور ما يقتلنا غيركم فنادى أهل القصور يا معشر العرب قد قبلنا واحدة من ثلاث فدعونا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا
وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين فقالوا يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء ثم تتابعوا على ذلك فخرج


وجوه كل قصر إلى من كان عليه من أمراء خالد فأرسلوهم إليه مع كل رجل منهم ثقة من قبل مرسله فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين وبدأ بأصحاب عدي بن عدي وقال ويحكم ما أنتم أعرب فما تنقمون من العرب أو عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل فقال له عدي بل عرب عاربة وأخرى متعربة فقال لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا فقال له عدي ليدلك على ما تقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية فقال صدقت اختاروا واحدة من ثلاث إما أن تدخلوا في ديننا فلكم مالنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم في دياركم أو الجزية أو المنابذة والمناجزة فقد والله أتيتكم بقوم هم أحرى على الموت منكم على الحياة فقال بل نعطيكم الجزية فقال خالد تبا لكم ويحكم إن الكفر فلاة مضلة فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا وتتابعوا على ذلك وأهدوا له الهدايا وبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر الصديق فقبلها أبو بكر رضي الله عنه من الجزاء وكتب إلى خالد أن حسب لهم هديتهم من الجزاء إلا أن تكون من الجزاء وخذ بقية ما عليهم من فقو بها أصحابك
وفي حديث مثله أو نحوه عن رجل من كنانة وغيره ان أهل الحيرة لما انتهوا إلى خالد كانوا يختلفون إليه ويقدمون في حوائجهم عمرو بن عبد المسيح فقال له خالد كم أتت عليك قال مئوسنين قال فما أعجب ما رأيت قال رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة تخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا فتبسم خالد وقال
هل لك من شيخك إلا عقله
خرفت والله يا عمرو
الرجز
ثم أقبل على أهل الحيرة وقال ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة مكرة فما لكم


تتناولون حوائجكم بخرف لا يدري من أين جاء فتجاهل له عمرو وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله ويستدل به على صحة ما حدثه به فقال وحقك أيها الأمير إني لأعرف من أين جئت قال فمن أين جئت قال أقرب أم أباعد قال ما شئت قال من بطن أمي قال فأين تريد قال ما أمامي قال وما هو قال الآخرة قال فمن أين أقصى أثرك قال صلب أبي قال ففيم أنت قال في ثيابي فقال خالد إنه ليعقل قال أي والله وأفند فوجده حين فره عضا وكان أهل قريته أعلم به
وقال خالد قتلت أرض جاهلها وقتل أرضا عالمها القوم أعلم بما فيهم فقال عمرو والنملة أعلم بما في بيتها من الجمل بما في بيت النملة
قالوا وكان مع ابن بقيلة منصف له متعلقا كيسا في حقوه فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه في راحته وقال ما هذا يا عمرو قال هذا وأمانة الله سم ساعة قال ولم تحتقبه قال خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت وقد أتيت على أجلي والموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي فقال خالد إنه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها وقال بسم الله خير الأسماء ورب الأرض والسماء الذي ليس يضر مع اسمه داء فأهووا إليه ليمنعوه فبادرهم وابتلع السم فقال عمرو والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن
وأقبل على أهل الحيرة وقال لم أر كاليوم أمرا أوضح إقبالا
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد ذكر الحيرة وأنه أريها ورفعت له وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب وأنها ستفتح على المسلمين فسأله رجل يقال له
شويل كرامة بنت عبد المسيح فقال له هي لك إذا فتحت عنوة يعني الحيرة فلما راوض أهل الحيرة خالدا على الصلح وأداء الجزية قام إليه شويل فذكر له ذلك وشهد له به فأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة إلى شويل فثقل ذلك عليهم فقالت هونوا عليكم وأسلموني فإني سأفتدي ففعلوا وكتب خالد بينه وبينهم كتابا


بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابني عدي وعمرو بن عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال وهم نقباء أهل الحيرة ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به و عاهدوهم على تسعين ومائة ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا رهبانهم وقسيسيهم وجماعتهم إلا من كان غيرذي يد حبيسا عن الدنيا تاركا لها وسائحاتاركا للدنيا وعلى المنعة فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم وإن غدروا بقول أو فعل فالذمة منهم بريئة وكتب في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة
فاستخف أهل الحيرة بهذا الكتاب وضيعوه فلما نقض أهل السواد بعد موت أبي بكر وكفروا فيمن كفر وغلب عليهم أهل فارس ثم افتتحها المثنى بن حارثة ثانية أدلوا بمقتضى ذلك الكتاب فلم يجبهم إليه ودعا بشرط آخر فلما غلب المثنى على البلاد كفروا فيمن كفر وأعانوا واستخفوا وأضاعوا الكتاب فلما افتتحها سعد أدلوا بذلك فسألهم واحدا من الشرطين فلم يجيبوا به فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم يطيقون فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الخرزة وهو رسم كان عليهم لكسرى في كل سنة أربعة دراهم على كل رأس
وفيما حكاه ابن الكلبي من حديث الحيرة أن الذي خرج منهم إلى خالد هو عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانى ء بن قبيصة الطائي مع من خرج إليه من أشرافهم وأن خالدا سأل عبد المسيح فذكر نحوا مما تقدم عن عمرو بن عبد المسيح إلى أن قال له ويحك تعقل قال نعم وأفيد قال خالد وأنا أسألك قال عبد المسيح وأنا أجيبك قال قال أسلم أنت أم حرب قال بل سلم قال فما
هذه الحصون التي أرى قال بنيناها للسفيه تمنعه حتى يأتي الحليم فينهاه ثم ذكر من مصالحته إياهم على الجزية نحوا مما تقدم
قال فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق ثم نزل على بانقيا فصالحهم بصهير بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان وكتب لهم كتابا


وعن أبن اسحاق أن اول شيء صالح عليه خالد حين سار يريد العراق قريات من السواد يقال لها بانقيا وباروسما وأليس نزل عليها خالد فصالحه عليها ابن صلوبا فقبل منهم خالد الجزية وكتب لهم كتابا
قال ثم أقبل خالد بمن معه حتى نزل الحيرة فجعل ابن إسحاق شأن تلك القريات مقدما على أمر الحيرة والأكثرون يقولون إنها كانت بعدها وإن أهلها وسائر دهاقين الملطاطين إنما كانوا يتربصون وينظرون ما يصنع أهل الحيرة فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد على الصلح طلب جميعهم الصلح وسمحوا بالجزية واكتتبوا بها من خالد كتبا
وبين الرواة خلاف كثير في أسماء الرجال والأماكن ومقادير الجزاء فرأيت اختصار ذلك أولى
وعن الشعبي في حديث كرامة بنت عبد المسيح لمل اشتد على قومها دفعها إلى شويل وأعظم الخطر قالت لهم لا تخطروه ولكن اصبروا ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة إنما هذا رجل أحمق رآني في شيبتي فظن أن الشباب يدوم فدفعوها إلى خالد فدفعها خالد إليه فقالت ما أربك إلى عجوز كما قد ترى فأدني قال لا إلا على حكمي قالت فلك حكمك مرسلا فقال لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم فاستكثرت ذلك لتخدعه ثم أتته بها فرجعت إلى أهلها فتسامع الناس بذلك فعنفوه فقال ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف وخاصمهم إلى خالد وقال كانت نيتي غاية العدد وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف فقال خالد أردت أمرا وأراد الله غيره ونأخذ بما ظهر وندعك ونيتك كاذبا كنت أو صادقا
ومما يروى من شعر ابن بقيلة
أبعد المنذرين أرى سواما
تروح بالخورنق والسدير )
وبعد فوارس النعمان أرعى قلوصا بين مرة والحفير
فصرنا بعد ملك أبي قبيس كجرب المعز في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد علانية كأيسار الجزور
وكنا لايرام لنا حريم فنحن كضرة الضرع الفجور
نودي الخرج بعد خراج كسرى وخرج من قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال فيوم في مساءة أوسرور
الوافر
وقال القعقاع بن عمرو في أيام الحيرة


سقى الله قتلى بالفرات مقيمة وأخرى بأثباج النجاف الكوانف )
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزا
وبالثني قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت
على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كاد عرشهم
يميل به فعل الجبان المخالف
مننا عليهم بالقبول وقد رأوا
عيون المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا
إلى الريف من أرض العريب النفانف
الطويل
وقال أخوه عاصم بن عمرو في ذلك
صبحنا الحيرة الروحاء خيلا
ورجلا فوق أثباج الركاب
حصرنا في نواحيها قصورا
مشرفة كأضراس الكلاب
فبادوا بالعريب ولم يحاموا
فقلنا دونكم فعل العراب
فقالوا بل نؤدي الخرج حتى
تزل الراسيات من الضراب
صدفنا عنهم لما اتقونا
وأبنا حيث أبنا بالنهاب
الوافر
وبعث خالد بن الوليد عماله ومسالحه لجباية الخراج وحماية البلاد وأمر أمراءه على الثغور بالغارة والإلحاح فنزلوا على السيب في عرض سلطانه وهناك كانت الثغور في زمانه فمهدوا له ما وراء ذلك إلى شاطى ء دجلة وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر وليس لأحدهم ذمة إلا اللذين كاتبوا خالدا واكتتبوا منه وسائر أهل السواد جلاء ومتحصنون ومحاربون وجني الخراج إلى خالد في خمسين ليلة وكان الذين ضمنوه وهم رءوس الرساتيق رهنا في يديه فأعطى ذلك كله المسلمين فقووا به على أمرهم
وقال أبو مفزر الأسود بن قطبة فيما فتح بعد الحيرة
ألا أبلغا عنا الخليفة أننا
غلبنا على نصف السواد الأكاسرا )
غلبنا على ماء الفرات وأرضه عشية حزنا بالسيوف الأكابرا
فدرت علينا جزية القوم بعدما ضربناهم ضرب يقط البواترا
الطويل
ولما غلب خالد على أحد جانبي السواد دعا برجلين أحدهما حيري والآخر نبطي وكتب معهما كتابين إلى أهل فارس أحدهما إلى الخاصة والآخر إلى العامة وهذا أحدهما


بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس أما بعد فالحمد لله الذي حك نظامكم ووهن كيدكم وفرق كلمتكم ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرا لكم فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجزكم إلى غيركم وإلا كان ذلك على غلب وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كحبكم الحياة
والكتاب الآخر
بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس أما بعد فالحمد لله الذي فض حرمتكم وفرق كلمتكم وفل حدكم وكسر شوكتكم فأسلموا تسلموا وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون المت كما تحبون الحياة
ودعا خالد الرجل الحيري فقال له ما اسمك قال مرة قال خذ الكتاب لأحد الكتابين فأت به أهل فارس لعل الله يمر عليهم عيشهم أو يسلموا وينيبوا وقال للنبطي ما اسمك قال هزقيل قال خذ الكتاب اللهم ازهق نفوسهم
وكان أهل فارس إذ ذاك لموت أردشير مختلفين في الملك مجتمعين على قتال خالد متساندين إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهر سير ومعه الآزادبه في أشباه له
ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تكلم نساء آل كسرى فولى الفرخزاد ابن البندوان إلى ان يجتمع آل كسرى على رجل إن وجوه وأقام خالد في عمله سنة ومنزله الحيرة يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام وأهل فارس يخلعون ويملكون ليس إلا للدفع عن بهرسير وكان شيري بن كسرى قد قتل كل من يناسب إلى كسرى بن قباذ ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه وقتلوا كل من بين كسرى قباذ وبين بهرام جور فبقوا لايقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه
وعن الشعبي قال أقام خالد فيما بين فتح الحيرة إلى خروجه إلى الشام أكثر من سنة يعالج عمل عياض الذي سمى له فقال خالد للمسلمين لولا ما عهد إلي الخليفة ما كان دون فتح فارس شيء وكان عهد إليه وإلى عياض إذ وجههما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه وقال فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم


فليكن أحدكما رداءا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن حسب ما تقدم من كتاب أبي بكر إليهما بذلك قبل هذا
فكان خالد لا يستطيع أن يفارق مكانه للاقتحام على فارس ولا لإغاثة عياض وكان بدومة قد شجى وأشجى لأجل ما عهد إليه أبو بكر أن لا يقتحم عليهم وخلفه نظام لهم وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراض آخر ثم إن خالدا لما استقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد فرق سواد الحيرة على رجال ممن كان معه وفعل في سواد الأبلة مثل ذلك وأقر أمر المسالح على ثغورهم واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو وخرج خالد في عمل عياض ليقضي ما بينه وبينه ولإغاثته فسار حتى نزل بكربلا وأقام عليها أياما وشكا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب فقال له اصبر فإني إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فتسكنها العرب فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم وتجيئنا العرب آمنة وغير متعتعة وبذلك أمرنا الخليفة ورأيه يعدل نجدة الأمة
وقال رجل من أشجع في مثل ما شكاه ابن وثيمة النضري من أمر الذباب
لقد حبست بكربلاء مطيتي
وبالعين حتى عاد غثا سمينها
إذا رحلت من منزل رجعت له
لعمر أبيها إنني لاأهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة
رفاق من الذبان زرق عيونها
الطويل
حديث الأنبار وهي ذات العيون


وخرج خالد في تعبيته التي خرج فيها من الحيرة على مقدمته الأقرع بن حابس فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم فلم يستطيعوا العرجة ولم يجدوا بدا من الإقدام ومعهم بنات فخاض تتبعهم فلما نودي بالرحيل صروا الأمهات واحتقبوا المنتوجات لأنها لم تطق السير فانتهوا ركبانا إلى الأنبار وقد تحصن أهلها وخندقوا عليهم فأشرفوا من حصنهم وعلى الجنود التي قبلهم شيرزاد صاحب ساباط وكان أعقل أعجمي يومئذ وأسوده فتصايح عرب الأنبار وقالوا صبح الأنبار شر جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ فقال شيرزاد وقد سأل عن ما يقولون فأخبر به أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم والله لئن لم يكن خالد مجتازا للأصالحنه فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة فأطاف بالخندق وأنشب القتال وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به وتقدم إلى رماته فأوصاهم
وقال إني أرى أقواما لا علم لهم بالحرب فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها فرموا رشقا واحدا ثم تابعوا ففقئت ألف عين يومئذ فسميت تلك الوقعة ذات العيون وتصايح القوم ذهبت عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا في الصلح على أمر لم يرضه خالد فرد رسله وأتى خالد أضيق مكان في الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى بها فيه فأفعمه ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم فاجتمع المسلمون والمشركون في الخندق وأرز القوم إلى حصنهم وراسل شيرزاد في الصلح على مراد خالد فقبل منه خالد على أن يخيله ويلحقه بمأمنه في جريدة خيل ليس معهم من المتاع والمال شيء فخرج شيرزاد فلما قدم على بهمن جاذويه وأخبره الخبر لامه فقال له شيرزاد إني كنت في قوم ليست لهم عقول وأصلهم من العرب فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم ثم قاتلهم الجند ففقئوا فيهم وفي أهل الأرض ألف عين فعرفت أن المسالمة أسلم وأن قرة العين لهم وأن العيون لا تقر منهم بشيء


ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون وامن أهل الأنبار وظهروا رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها فسألهم ما أنتم فقالوا قوم من العرب نزلنا إلى قوم من العرب كانت أوائلهم أيام بختنصر حين أباح العرب فلم نزل عنها فقال ممن تعلمتم الكتابة فقالوا تعلمنا الخط من إياد وأنشدوا قول الشاعر
قوم إياد لو أنهم أمم
أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا
ساروا جميعا والخط والقلم
المنسرح
فصالح خالد من حولهم وبدأ بأهل البوازيج فبعث إليه أهل كلواذة ليعقد لهم وكاتبهم فكانوا عيبته من وراء دجلة
ثم أن الأنبار وما حولها نفضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين من الدول ما خلا أهل البوازيج فإنهم ثبتوا كما ثبت أهل بانقيا
حديث عين التمر
ولما فرغ خالد من الأنبار واستحكمت له استخلف عليها الزبرقان بن بدر وقصد لعين التمر وبها يومئذ مهران بن سوسن في جمع عظيم من العجم وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا وخالدا قال صدقت لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب وإنكم لمثلنا في قتال العجم فخدعه واتقى به وقال دونكموهم وإن احتجتم إلينا جئناكم فلما مضى عقة نحو خالد قالت الأعاجم لمهران ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب فقال دعوني فإني لم أرد إلا ماهو خير لكم وشر له إنه قد جاءكم من قتل ملوككم وفل حدكم ما اتقيته بهم فإن كانت لهم على خالد فهي لكم وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء فاعترفوا له بفضل الرأي فلزم مهران العين ونزل عقة لخالد على الطريق وبينه وبين مهران روحة أو غدوة فقدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده فعبأ خالد جنده وقال لمجنبتيه اكفونا ما عندكم فإني حامل ووكل بنفسه حوامي ثم حمل وعقة يقيم صفوفه فاحتضنه فأخذه أسيرا وانهزم صفه من غير قتال فأتبعهم


المسلمون وأكثروا فيهم القتل والأسر ولما جاء الخبر مهران هرب في جنده وتركوا الحصن فلما انتهى فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به وأقبل خالد في الناس حتى نزل عليه ومعه عقة أسيرا وعمرو بن الصعق وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير عليهم من العرب فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان فأبي إلا حكمه فسكنوا إليه فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين أسارى وأمر بعقة فضربت عنقه ليوئس الأسرى من الحياة فلما رأوه مطروحا على الجسر يئسوا ثم دعا بعمرو بن الصعق فضربت عنقه وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين وسبى كل من حوى حصنهم وغنم ما فيه ووجد في بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل عليهم باب مغلق فكسره عنهم وقال ما انتم قالوا رهن فقسمهم في أهل البلاء فمن أولئك الغلمان أبو زياد مولى ثقيف وحمران مولى عثمان ونصير أبو موسى بن نصير وسيرين والد محمد بن سيرين وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر
وقال عاصم بن عمرو في ذلك يعير عقه
ألا أبلغا الوركاء أن عميدها
رهينة جيش من جيوش الزعافر
فبهلا لمن غرت كفالة عتقه
بني عامر أخرى الليالي الغوابر
أتيح له ضرغامة لايفله
قراع الكماة والليوث المساعر
أتيحت له نار تسيح وتلتوي
وترمي بأمثال النجوم العناهر
الطويل
حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد والخنافس ومصيخ والبشر والفراض
قالوا ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد إلى أبي بكر رضي الله عنه بما بعثه به إليه من الأخماس وجهه أبو بكر إلى عياض وأمده به فقدم عليه الوليد وهو يحاصر أهل دومة وهم محاصروه وقد أخذوا عليه الطريق فقال له الوليد الرأي في بعض الحالات خير من جند كثيف ابعث إلى خالد واستمده ففعل فقدم رسوله على خالد غب وقعة العين مستغيثا فعجل به خالد إلى عياض وكتب إليه معه إياك أريد
لبث قليلا تأتك الجلائب
يحملن آسادا عليها القاشب
كتائب يتبعها كتائب
رجز


ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويمر بن الكاهل الأسلمي وخرج في تعبئته التي دخل فيها العين يريد عياضا ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم وقبل ما أتتهم منهم طوائف فيهم وديعة الكلبي وابن الأيهم التنوخي وابن الحدرجان فأشجوا عياضا وأشجوا به فلما بلغهم دنو خالد وهم رئيسين أكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة اختلفوا فقال أكيدر أنا أعلم الناس بخالد
لا أحد أيمن طائرا منه ولا أحد في حرب ولا يرى وجه خالد قوم قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه فأطيعوني وصالحوا القوم فأبوا عليه فقال لن أمالئكم على حرب خالد فشأنكم


فخرج لطيته وبلغ ذلك خالدا فبعث عاصم بن عمرو معاضا له فأخذه وقال إنما تلقيت الأمير خالدا فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه وأخذ ما كان معه من شيء ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة وعليهم الجودي ابن ربيعة فجعل خالد دومة بين عسكره وعسكر عياض وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة لم يحملهم الحصن فلما اطمأن خالد خرج الجودي فنهض بوديعة فزحفا لخالد وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض فاقتتلوا فهزم الله الجودي ووديعة على يدي خالد وهزم عياض من يليه وركبهم المسلمون فأما خالد فإنه أخذ الجودي أخذا وأخذ الأقرع بن حابس وديعة وأرز بقية الناس إلى الحصن فلم يحملهم فلما امتلأ الحصن أغلق من في الحصن الحصن دون أصحابهم فبقوا حوله وقال عاصم ابن عمرو يا بني تميم حلفاؤكم كلب آسوهم وأجيروهم فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها ففعلوا وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بهم وأقبل خالد إلى الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن ودعا بالجودي فضرب عنقه وضرب أعناق الأسرى إلا أسير كلب فإن عاصما والأقرع وبني تميم قالوا قد أمناهم فأطلقهم لهم خالد وقال مالي ولكم أتحوطون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام فقال له عاصم لا تحسدهم العافية ولا تحرزهم الشيطان ثم أطاف خالد بباب الحصن فلم يزل عنه حتى اقتلعه واقتحموا عليهم فقتلوا المقاتلة وسبوا الشرخ فأقاموهم فيمن يزيد فاشترى خالد ابنة الجودي وكانت موصوفة بالجمال ثم أن خالدا رد الأقرع إلى الأنبار وثبت بدومة قليلا ثم ارتحل منها إلى الحيرة فلما كان قريبا منها حيث يصبحها
أخذ القعقاع أهلها بالتغليس فخرجوا يتلقونه وهم مغلسون وجعل بعضهم يقول لبعض مروا بنا فهذا فرج الشر


قالوا وقد كان خالد عندما أقام بدومة كاتب عرب الجزيرة الأعاجم غضبا لعقة فخرج زرمهر من بغداد ومعه روزبه يريدان الأنبار واتعدا حصيدا والخنافس فكتب بذلك الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة فبعث القعقاع أبا ليلى بن فدكي السعدي وأمره بحصيد وبعث عروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس وقال لهما إن رأيتما مقدما فاقدما فخرجا فحالا بينهما وبين الريف وانتظر روزبة وزرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادمة أهل المدائن كره خلاف أبي بكر وأن يتعلق عليه بشيء فعجل القعقاع وابن عمرو وأبا ليلى بن فدكي إلى روزبه وزرمهر فسبقاه إلى عين التمر وقدم على خالد كتاب امرى ء القيس الكلبي أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ ونزل ربيعة بن بجير بالثنى في عسكر غضبا لعقة يريدان زرمهر وروزبه فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع بن حابس واستخلف على الحيرة عياض بن غنم وأخذ خالد طريق القعقاع وأبي ليلى حتى قدم عليهما بالعين فبعث القعقاع إلى حصيد وأمره على الناس وبعث أبا ليلى إلى الخنافس وأمره على الناس وقال زجياهم ليجتمعوا ومن استشارهم وإلا فواقعاهم فأبى روزبه وزرمهر إلا المقام فلما رآهما القعقاع لا ايتحركان سار نحو حصيد وعلى من به من العرب والعجم روزبه ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر فأمده بنفسه واستخلف على عسكره المهبوذان فالتقوا حينئذ فاقتتلوا فقتل الله العجم مقتلة عظيمة وقتل القعقاع زرمهر وقتل أيضا روزبه قتله عصمة
ابن عبد الله أحد بني الحارث بن طريف من بني ضبة وكان عصمة من البررة وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة فكان المسلمون خيرة بررة وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة وأرز فلال حصي إلى الخنافس فاجتمعوا بها


وقال القعقاع في ذلك اليوم
ألم ينه عنا غي فارس أننا
منعناهم من ريفهم بالصوارم
وأنا أناس قد تعود خيلنا
لقاء الأعادي بالحتوف القواصم
وروزا قتلنا حيث أرهف حده
وكل رئيس زاريا بالعظائم
تركنا حصيدا لاأنيس بجوه
وقد شقيت أربابه بالأعاجم
وإني لراج أن تلاقى جموعهم
غديا باحدى المنكرات الصوادم
ألا أبلغا أسماء أن خليلها
قضى وطرا من روزمهر الأعاجم
الطويل
وسار أبو ليلى ابن فدكي بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس وبها المهبوذان فلما أحسن بهم هرب هو ومن معه إلى المصيخ وبه الهذيل بن عمران فلما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبي ليلى وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها على المصيخ وهو بين حوران والقلت وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل فلما كان في تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعا معه
بالمصيخ فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوي إليهم وهم نائمون أتوهم بالغارة من ثلاثة أوجه فقتلوهم وامتلأ الفضاء قتلى فما شبهوا إلا غنما مصرعة وأفلت الهذيل في أناس قليل وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر ابن قاسط محضهم النصح وأجاد الرأي فلم ينتفعوا بتحذيره وذلك أن حرقوصا قال قبل الغارة
ألا فاسقياني قبل خيل أبي بكر
لعل منايانا قريب ولاندري
ألا فاسقياني في بالزجاج وكررا
علينا كميت اللون صافية تجري
أظن خيول المسلمين وخالدا
ستطرقكم عند الصباح إلى البشر
فهل لكم في السير قبل قتالهم
وقبل خروج المعصرات من الخدر
أريني سلاحي يا أميمة إنني
أخاف بيات القوم مطلع الفجر
الطويل


وكان حرقوص معرسا بامرأة من بني هلال تدعى أم تغلب فقتلت تلك الليلة وقد تقدم من حديث عدي بن حاتم فيما مضى من هذا الكتاب قال أغرنا على المصيخ وإذا رجل يدعى حرقوص بن النعمان بن النمر وإذا حوله بنوه وامرأته وبينهم جفنة من خمر وهم عليها عكوف فقال اشربوا شرب وداع فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها خالد بالعين وجنوده بحصيد وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا
ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر
بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقدر
لحين لعمري لايزيد ولا يحرى
الطويل
فسبق إليه وهو في ذلك بعض الخيل فضرب رأسه فإذا هو في جفنته
وأخذنا بناته وقتلنا بنيه
وأصاب جرير بن عبد الله بالمصيخ عبد العزى بن أبي رهم من النمر وإنما حضر جرير مما كان بالعراق ما كان بعد الحيرة وذلك أنه كان ممن خرج مع خالد بن سعيد بن العاص إلى الشام فاستأذن جرير في القدوم على أبي بكر ليكلمه في قومه بجيلة وكانوا أوزاعا في العرب ليجمعهم ويتخلصهم فأذن له فقدم على أبي بكر فذكر له عدة من النبي {صلى الله عليه وسلم} وأتاه عليها بشهود وسأله إنجازها فغضب أبو بكر وقال ترى شغلنا وما نحن فيه من بعوث المسلمين لمن بإزائهم من الأشدين فارس والروم ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يغني عني عما هو أرضى لله ولرسوله دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين فسار جرير حتى قدم على خالد وهو بالحيرة فشهد معه ما كان بعدها من الأيام وأصاب يوم المصيخ كما ذكرنا عبد العزى بن أبي رهم وكان معه ومع رجل آخر من قومه يقال له لبيد بن جرير كتاب من أبي بكر رضي الله عنه بإسلامهما وسمي عبد العزى عبد الله وبلغ أبا بكر مع ذلك أن عبد العزى قال ليلة الغارة
وأقول إذا طرق الصباح بغارة
سبحانك اللهم رب محمد )
سبحان ربي لاإله غيره رب العباد ورب من يتودد
الكامل
فوداه أبو بكر لما بلغه هذا وودى لبيدا وقال أما إن ذلك ليس علي إذ نازلا أهل حرب وأوصى بأولادهما


وكان عمر رضي الله عنه يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك بن نويرة فيقول أبو بكر رضي الله عنه كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب
وقد كان ربيعة بن بجير التغلبي نزل الثني والبشر غضبا لعقة وواعد لذلك روزبه وزمهر والهذيل قبل أن يصيبهم ما أصابهم بالمصيخ فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به تقدم إلى القعقاع وإلى أبي ليلى بأن يرتحلا أمامه وواعدهما ليلة ليفترقوا فيها للغارة على ربيعة ومن معه من ثلاثة أوجه كما فعل بأهل المصيخ ثم خرج خالد من المصيخ فنزل حوران ثم الرنق ثم الحماة ثم الزميل وهو البشر والثني معه وهما شرقي الرصافة فبدأ بالثني واجتمع هو وأصحابه فبيت من ثلاثة أوجه ربيعة بن بجير ومن اجتمع له وإليه ومن ناشب لذلك من الشبان فجرد خالد فيهم السيوف بياتا فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر واستبقى الشيوخ وبعث بخمس الله عز وجل إلى أبي بكر رضي الله عنه مع النعمان بن عوف الشيباني وقسم النهب والسبايا فاشتري علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ذلك السبي ابنة ربيعة التغلبي فاتخذها فولدت له عمر ورقية
وقال أبو مقرز في ذلك
لعمر بني بجير حيث صاروا
ومن آذاهم يوم الثني
لقد لاقت سراتهم فضاحا
وفينا بالنساء على المطي
الوافر


وكان الهذيل حيث نجا من المصيخ أوى إلى الزميل إلى عتاب بن فلان وهو بالبشر في عسكر ضخم فبيتهم خالد بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه سبقت إليهم الخبر عن ربيعة وكانت على خالد يمين ليبغتن تغلب في دارها فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها وأصابوا منهم ما شاءوا وقسم خالد في الناس فيئهم وبعث الأخماس إلى أبي بكر رضي الله عنه مع الصباح بن فلان المزني ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب وبها هلال بن عقة وقد أرفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد فانقشع عنها هلال ولم يلق كيدا ثم قصد خالد بعدها إلى الفراض والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة فأفطر فيها في رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها هذه الغزوات والأيام ونظمن نظما إلى ما كان قبل ذلك منه
قالوا ولما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت واستعانوا ب من يليهم من مسالح أهل فارس وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر فأمدوهم بأجمعهم واجتمعوا كلهم على كلمة واحدة ثم ناهدوا خالدا حتى إذا صار الفرات بينه وبينهم قالوا إما أن تعبوا إلينا وإما أن نعبر إليكم قال خالد اعبروا إلينا قالوا فتنحوا حتى نعبر قال خالد لانفعل ولكن أعبروا أسفل منا فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض احتسبوا ملككم هذا رجل يقاتل عن دين وله عقل وعلم ووالله لينصرن ولتخذلن ثم لم ينتفعوا بذلك فعبروا أسفل من خالد فلما تتاموا قالت الروم امتازوا حتى يعرف اليوم ما كان من حسن أو قبح من أينا يجيء ففعلوا ثم اقتتلوا قتالا شديدا طويلا ثم هزمهم الله تعالى
وقال خالد للمسلمين ألحوا عليهم فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه فإذا جمعوهم قتلوهم فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب
مائة ألف وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا ثم أذن في القفل إلى الحيرة وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم


وأظهر خالد أنه في الساقة وخرج من الفراض حاجا لخمس بقين من ذي القعدة مكتتما بحجه ومعه عدة ومن أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فقضى حجه ثم أتى الحيرة فوافاه بها كتاب أبي بكر رضي الله عنه يأمره فيه بالمسير إلى الشام ويعاتبه على ما فعل إذ لم يعلم أبو بكر بحجته هذه إلا بعد انصرافه إلى الحيرة
وقد تقدم هذا كله فيما رسم قبل من فتوح الشام مستوفى في بيانه وكيف كان مسيره إلى الشام وتركه المثنى بن حارثة بعده على العراق ومشاطرته إياه في الناس كل ذلك بأمر أبي بكر رضي الله عنه حسب ما تقدم ذكره
حديث المثنى بعد خالد
ولما انفصل خالد رحمه الله إلى الشام شيعه المثنى إلى قراقر ورجع من تشييعه إلى الحيرة فأقام بها في سلطانه ووضع في المسلحة التي كان فيها على السيب أخاه وسد أماكن كل من خرج مع خالد من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء ووضع مذعور بن عدي في بعض تلك الأماكن
واستقام أهل فارس على رأس سنة من مقدم خالد على الحيرة بعد خروجه إلى الشام بقليل وذلك سنة ثلاث عشرة على شهربراز بن اردشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى ثم إلى سابور فوجه إلى المثنى جندا عظيما عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف ومعه فيل وكتبت المسالح إلى المثنى بإقباله فخرج المثنى من الحيرة نحوه وضم إليه أصحاب المسالح وجعل على مجنبتيه أخويه المعنى ومسعودا وأقام له ببابل وأقبل هرمز جاذويه وقد كتب شهربراز إلى المثنى بن حارثة
من شهربراز إلى المثنى إني قد بعثت إليك جندا من وخش أهل فارس إنما هم رعاة الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إلا بهم فكتب إليه المثنى
من المثنى إلى شهربراز إنما أنت أحد رجلين إما صادق فذلك شر لك
وخير لنا وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفي الناس الملوك وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير


فجزع أهل فارس من كتابه وقالوا إنما أتى شهربراز من شؤم مولده ولؤم منشئه وكان يسكن ميسان وأن بعض البلدان شين على من يسكنه وقالوا له جرأت عدونا بالذي كتبت إليهم فإذا كاتبت أحدا فاستشر ثم التقوا ببابل فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا على الطريق الاول قتالا شديدا
ثم إن المثنى وفرسان من المسلمين اعتمدوا الفيل وكان يفرق بين الصفوف والكراديس فأصابوا مقتله فقتلوه وهزموا أهل فارس وأتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى جازوا به مسالحهم فأقاموا فيها وتتبع الطلب الفالة حتى انتهوا إلى المدائن ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه واختلف أهل فارس وبقي مادون دجلة وبرس من السواد في يد المثنى وأيدي المسلمين
ثم أن أهل فارس اجتمعوا بعد شهربراز على دخت زنان ابنة كسرى فلم ينفذ لها أمر وخلعت وملك سابور بن شهربراز وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان فقتلا جميعا وملكت آزر ميدخت وتشاغلوا بذلك وأبطأ خبر أبي بكر رضي الله عنه على المسلمين فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي وخرج المثنى نحو أبي بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين ولكي يستأذنه في الإستعانة بمن قد ظهرت توبته من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو وليخبره أنه لم يخلف أحدا أنشط إلى
قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم إذ كان أبو بكر رضي الله عنه قد منع من الاستعانة بهم رأسا وقال لأمرائه لاتستعينوا في حربكم بأحد ممن ارتد فإني لم أكن لأستنصر بجيش فيهم أحد ممن ارتد وبالجزاء إن فعلت أن لا تنصروا
وقال عروة بن الزبير أمران يعرف بهما حال من شهد الفتوح من ذكر أن أبا بكر رضي الله عنه استعان في حربه بأحد ممن ارتد فقد كذب وذكر من قول أبي بكر في ذلك ما بدأنا به


قال ومن زعم أن عمر رضي الله عنه حين أذن لمن ارتد في الجهاد أمر أحدا منهم فقد كذب وإنما تألف من تألف بالإمارة منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه رجاء ما رجاه منهم عمر حين استعان بهم فمن قبلهم ابتدأت الفتنة وعلق عثمان رضي الله عنه عند الذي بدا منهم يتمثل بقول الأول
وكنت وعمرا كالمسمن كلبه
فخدشه أنيابه وأظافره
الطويل
فقدم المثنى بن حارثة المدينة وأبو بكر مريض مرضه الذي توفاه الله تعالى منه وذلك بعد مخرج خالد إلى الشام وقد تقدم ذكر وفاة أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما في أول موضع احتيج إلى ذكر ذلك فيه من فتح الشام وتوفي أبو بكر وأحد شقي السواد في سلطانه والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة والمسالح بالسيب والغارات تنتهي بهم إلى شاطيء دجلة ودجلة حجاز بين العرب والعجم
فهذا حديث العراق في خلافة أبي بكر رضي الله عنه من مبتدئه إلى منتهاه
ذكر ما كان من خبر العراق في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه وذكر أبي عبيد بن مسعود على ما في ذلك كله من الإختلاف بين رواة الآثار
ذكر سيف عن شيوخه قالوا أول ما عمل به عمر رحمه الله أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الصبح من الليلة التي مات فيها أبو بكر رضي الله عنه ثم أصبح فبايع الناس وعاد فندب الناس إلى فارس وتتابع الناس على البيعة ففزعوا في ثلاث كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم وأثقلها عليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم
قالوا فلما كان في اليوم الرابع عاد ينتدب الناس إلى العراق فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود وسعد بن عبيد القاري حليف الأنصار وتتابع الناس


قال القاسم بن محمد وتكلم المثنى بن حارثة فقال يا أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه فإنا قد تبجحنا ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد وشاطرناهم ونلنا منهم واجترأ من قبلنا عليهم ولها إن شاء الله ما بعدها
وقام عمر رضي الله عنه في الناس وقال إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك أين المهاجرون عن موعود الله عز وجل سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب بأن يورثكموها فإنه قال ليظهره على الدين كله والله مظهر دينه ومعز ناصره ومولى أهله مواريث الأمم أين عباد الله الصالحون
فلما اجتمع ذلك البعث وكان أولهم كما تقدم أبو عبيد ثم ثني سعد بن عبيد أو سليط بن قيس قيل لعمر رحمه الله أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار فقال لا والله لاأفعل إن الله تعالى إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولو الرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب الدعاء لا والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا ثم دعا أبا عبيد ودعا سليطا وسعدا فقال لهما أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتكما بها إلى مالكما من القدمة فأمر أبا عبيد على الجيش وقال له اسمع من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} وأشركهم في الأمر ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين فإنها الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف ثم قال له إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطا إلا تسرعه إلى الحرب وفي التسرع إليها إلا عن بيان ضياع والله لولا ذلك لأمرته ولكن الحرب لايصلحها إلا المكيث
ويروى أن عمر انتخب من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل أمر عليهم أبا عبيد فقيل له استعمل من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لاها الله ذا يا أصحاب النبي لا أندبكم فتبطئون وينتدب غيركم فأؤمركم عليهم إنما فضلتم بتسرعكم فإن نكلتم فضلوكم
وعجل عمر رضي الله عنه المثنى وقال النجاء حتى يقدم عليك أصحابك فخرج المثنى وقدم الحيرة في عشر ولحقه أبو عبيد بعد شهر


وفي كتاب المدائني أن تحرك عمر لهذا البعث إنما كان بكتاب المثنى إليه يستمده ويحرضه على أرض فارس فذكر باسناد له إلى جماعة من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين ولي الله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه وليس ينصر اياهما فكتب إليه المثنى وهو بالحيرة أنا بأرض فارس وقد عرفناهم وغازيناهم وغلبناهم على بعض ما في أيديهم ومعي رجال من قومي لهم صلاح ونجدة وصدق بلاء عند الناس وجرأة على البلاد فإن رميتنا بجماعة من قبلك رجوت أن يفتح الله عليهم قالوا ولم تكن لعمر رحمه الله همة حين قام بأمر المسلمين إلا الروم وفارس فلما أتاه كتاب المثنى بن حارثة خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وحثهم على الجهاد ورغبهم فيه وأنبأهم بما أعد الله للمجاهدين في سبيله وقال أنتم بين فتح عاجل وذخر آجل وقد أصبحتم بالحجاز بغير دار مقام وقد وعدكم الله كنوز كسرى وقيصر وأنزل على نبيه {صلى الله عليه وسلم} هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( 28 الفتح ) وقال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ( 33 التوبة ) فانهضوا لجهاد عدوكم من أهل فارس فإن لكم بها اخوانا ليسوا مثلكم في السابقة وقد لقوهم وقاتلوهم فاستعدوا للمسير إليهم رحمكم الله وأعدو لهم ما استطعتم من قوة ( 60 الأنفال ) ولاتركنوا إلى الدنيا واستعينوا بالله واصبروا
فتثاقل الناس حين ذكر فارس فقال عمر ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ( 38 التوبة ) فقام أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي فقال أنا أول من انتدب ثم قام سليط ابن قيس بن عمرو فقال يا أمير المؤمنين أنا ثان ثم قام رهط من الأنصار فسمي


منهم نفرا قال ثم تتابع الناس وكثروا وقالوا يا أمير المؤمنين أمر علينا رجلا فقال أؤمر عليكم أول من انتدب فاستعمل عليهم أبا عبيد وقال لم يمنعني من استعمال سليط بن قيس وهو من أهل بدر إلا عجلة فيه فخشيت أن يلقى المسلمين ملقى يهلكون فيه وكان فيمن انتدب سعد بن عبيد القاري ففر يوم الجسر فكان بعد ذلك يقول إن الله اعتد علي بغرة في أرض فارس فعسى أن يعيد لي فيها كرة
وفي حديث غير المدائني فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك فيأبى إلا العراق ويقول إن الله اعتد علي فيها بغرة وذكر نحو ما تقدم
واختلف ما ذكره سيف فيمن كان إليه أمر فارس عند قدوم أبي عبيد بحسب اختلاف أهل الأخبار عليه في ذلك
فمما ذكره أن بوران بنت كسرى كانت كلما أختلف الناس بالمدائن عدلا بينهم حتى يصطلحوا فلما قتل الفرخزاد وقدم رستم فقتل أرزميدخت كانت بوران عدلا إلى أن استخرجوا يزدجرد
قال فقدم أبو عبيد والعدل بوران وصاحب الحرب رستم
وذكر من طريق آخر أن بوران هي التي استحثت رستم في السير وكان على فرج خراسان لما قتل الفرخزاد فأقبل رستم في الناس حتى نزل المدائن لا يلقى جيشا لأرزميدخت إلا هزمه واقتتلوا بالمدائن فهزمهم سياوخش وهو قاتل الفرخزاد وحصر أرزميدخت ثم افتتح المدائن فقتل سيخاوخش وفقأ عين أرزميدخت ونصب بوران فدعته إلى القيام بأمر فارس وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم على أن تملكه عشر حجج ثم يكون الملك في آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدا وإلا ففي نسائهم فقال رستم أما أنا فسامع مطيع غير طالب عوضا ولا ثوابا فإن شرفتموني وصنعتم إلي شيئا فأنتم أولياء ما صنعتم إنما أنا سهمكم وطوع أيديكم فقالت بوران أغد علي فغدا عليها ودعت مرازبة فارس فكتبت له بأنك على حرب فارس ليس عليك إلا الله
عن رضا منا وتسليم لحكمك وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك في منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا ودانت له فارس بعد قدوم أبي عبيد


فهذا ما ذكره سيف في شأن مملكة فارس إذ ذاك
قال وكتب رستم إلى دهاقنة السواد أن يثوروا بالمسلمين ودس إلى كل رستاق رجلا ليثور بأهله فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل وبعث نرسي إلى كسكر وبعث المصادمة إلى وبلغ ذلك فضم إليه مسالحه وحذر وعجل جابان فنزل النمارق وتوالوا على الخروج فخرج نرسي فنزل زندورد وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله وخرج المثنى بن حارثة في جماعة حتى ينزل خفان لئلا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه فأقام حتى قدم عليه أبو عبيد
وأما المدائني فلم يعرض لما عرض له سيف في شأن مملكة فارس بل بنى على أن يزدجرد هو كان الملك عليهم حينئذ فإنه قال بعقب ما نسب إليه قبل وبلغ يزدجرد أن ملك العرب يسير إليه فشاور أهل بيته ومرازبته فقالوا له وجه إلى أطرافك فحصنها وأخرج من فيها من العرب فوجه جالينوس ورستم وليس بالادزي ومرادن شاه ونرسي ابن خال ابرويز وكل واحد في خمسة آلاف وأمرهم أن ينزلوا متفرقين ويكون بعضهم قريبا من بعض كل رجل في أصحابه ويمد بعضهم بعضا إن احتاجوا إلى ذلك وأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه من العرب فخرجوا والمثنى بالحيرة فبلغه مسيرهم فخرج لينزل على البلاد فلقي على قنطرة النهرين خرزاذبه فقتله ومضى المثنى فنزل من وراء أليس ونزل العجم متفرقين فنزل نرسي كسكر ونزل مردان شاه فيما بين سوار وقبين ونزل رستم ببابل ونزل جالينوس بارسمي ووجه جالينوس جابان في ألف إلى أليس ووجه أزاذبه إلى الحيرة في ألف وفصل أبو عبيد بن مسعود من المدينة في ألف وثما نمائة من المهاجرين والأنصار وغيرهم فيهم من ثقيف


أربعمائة معهم أبو محجن كان مع خالد بن الوليد بالشام فلما أتتهم وفاة أبي بكر رجع إلى المدينة فخرج مع أبي عبيد وانضم إلى أبي عبيد في الطريق مائة من بني أسد ومائتان من طيء ومائة من بني ذبيان بن بغيض ومائة من بني عبس معهم خمسة وعشرون فرسا وخرج المثنى بن حارثة في ثلاثمائة وسبعين من بكر بن وائل وثلاثمائة من بني تميم حنظلة وعمرو وسعد والرباب فتلقى أبا عبيد ثم أقبل معه حتى نزل عسكره الذي كان فيه ووضع عيونا على المسلحة التي بأليس فأتوه فأعلموه فأخبر أبا عبيد فقال له إن أذنت لي سرت إليهم فأذن له وضم إليه ابنه جبر ابن أبي عبيد وقال لابنه جبر لا تخالفه فسار المثنى فصبح أليس وهم آمنون فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزموا فأصاب المسلمون سلاحا ومتاعا ليس بالكثير ورجع إلى أبو عبيد ونزل جابان فيما بين الحيرة والقادسية وكتب أبو عبيد إلى عمر رضي الله عنه بخبر أليس فسر المسلمون ونشطوا وخرج قوم من المدينة إلى أبي عبيد وتقدم أبو عبيد فلقي جابان فيما بين الحيرة والقادسية وجابان في ألفين معه ازاذبه فلم يطل القتال بينهم حتى انهزم المشركون


وفيما ذكره سيف من الأحاديث أن أبا عبيد لما نزل خفان مع المثنى أقام بها أياما ليستجم أصحابه وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير وخرج أبو عبيد بعدما جم الناس وطهرهم وجعل المثنى على الخيل فنزلوا على جابان بالنمارق فاقتتلوا قتالا شديدا فهزم الله أهل فارس وأسر جابان أسره مطر بن فضة أحد بني تيم الله وأسر مردان شاه أسره أكتل بن شماخ العكلي فأما أكتل فإنه ضرب عنق مردان شاه وذلك أنه سأله ما اسمك فيما ذكره المدائني فقال له مردان شاه قال وما مردان شاه قال ملك الرجال قال لاجرم والله لأقتلنك فقتله وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه وهو لايعرفه وكان جابان شيخا كبيرا فقال لمطر إنكم معشر العرب أهل وفاء فهل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وكذا وكذا قال نعم قال فأدخلني على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه فأدخله على أبي عبيد فتم له
على ذلك وأجاز ذلك أبو عبيد فعرفه ناس فقالوا لأبي عبيد هذا الملك جابان وهو الذي لقينا بهذا الجمع فقال أبو عبيد فما تأمرونني أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا معاذ الله من ذلك
وفي رواية إني أخاف الله إن قتلته وقد أمنه رجل من المسلمين في الذمة والتواد والتناصر كالجسد ما لزم بعضهم لزم كلهم فقالوا إنه الملك قال وإن كان لا اعذر به فتركه وقال له اذهب حيث شئت
وهرب أصحاب جابان حين أسر إلي كسكر ونرسي بأسفلها وكانت كسكر قطيعة له وكان النرسيان له يحميه لا يأكله بشر إلا ملك فارس أو من أكرموه فيه بشيء ولا يغرسه غيرهم فكان ذلك مذكورا من فعلهم في الناس وأن ثمرهم هذا حمي فقال رستم وبوران لنرسي اشخص إلى قطيعتيك فاحمها من عدوك وعدونا وكونن رجلا فلما انهزم الناس يوم النمارق ووجهت الفالة نحو نرسي ونرسي في عسكره نادى أبو عبيد بالرحيل وقال للمجردة اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسي أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق دورني


ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسي بكسكر والمثنى في تعبئته التي قاتل فيها جابان وقد أتى الخبر رستم وبوران بهزيمة جابان فبعثوا إليه الجالينوس وبلغ ذلك نرسي وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزوابي فرجوا أن يلحق قبل الوقعة وعالجهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية فاقتتلوا في صحار ملس هناك قتالا شديدا ثم إن الله عز وجل هزم فارس وهرب نرسي وغلب المسلمون على
عسكره وأرضه وأخذ أبو عبيد ما حوى معسكرهم وجمع الغنائم فرأى من الأطعمة شيئا عظيما فبعث فيمن يليه من العرب فانتفلوا ما شاءوا لا يؤثرون فيه وأخذت خزائن نرسي فلم يكونوا بشيء مما خزن أفرح منهم بالنرسيان لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم فاقتسمه المسلمون فجعلوا يطعمونه الفلاحين
قال المدائني وسار أبو عبيد إلى الجالينوس فلقيه بباروسما فهزمه فلحق بالمدائن وبلغ الذين كانوا ببابل هزيمة نرسي وجالينوس فرجعوا إلى المدائن ودخل أبو عبيد باروسما فصالحه ابن الأنذرزعر عن كل رأس بأربعة دراهم وهيئوا له طعاما فأتوه به فقال لاآكل إلا ما يأكل مثله المسلمون فقالوا فكل أصحابك يأكل مثل ما تؤتون به فأكل فلما راح المسلمون سألهم عن طعامهم فأخبروه فإذا الذي أكلوا مثل طعامه
وفي بعض ما أورده سيف من الأخبار أن ابن الأنذرزعر لما أعلم أبا عبيد بالطعام الذي صنعوا له وأتوا به قال لهم هل أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم قالوا لا قال فردوه فلا حاجة لنا فيه بئس المرء أبو عبيد أن صحب قوما من بلادهم اهراقوا دماءهم دونه أولم يهريقوها فاستأثر عليهم بشيء يصيبه لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم


قال المدائني وبعث أبو عبيد من باروسما المثنى بن حارثة إلى زندورد وعاصم بن عمرو الأسدي إلى نهرجوير وعروة بن زيد الخيل إلى الزوابي فأما المثنى فإن أهل زندورد حاربوه فظفر بهم فقتل وسبى وأما أهل الزوابي ونهر جوبر فصالحوا على باروسما فبعث أبو عبيد بخمس ما أصاب من أليس وخفان وكسكر وزندورد وما صالح عليه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونزل أبو عبيد والمسلمون الحيرة
وذكر سيف أيضا أنهم بعثوا بخمس ما أصابوا من النرسيان إلى عمر رحمه الله وكتبوا إليه إن الله عز وجل أطعمنا مطاعم كانت
الأكاسرة يحمونها الناس فأحببنا أن تروها لتذكروا أنعم الله وأفضاله
وقال في ذلك عاصم بن عمرو
ضربنا حماة النرسيان بكسكر
عذاة لقيناهم ببيض بواتر
وفزنا على الأيام والحرب لاقح
بجرد حسان أو برود غرائر
وظلت فلال النرسيان وتمره
مباحا لمن بين الدبا والأصافر
أبحنا حمى قوم وكان حماهم
حراما على من رامه بالعساكر
الطويل
وقال أيضا يذكر ملتقى القوم بالنمارق
لعمري وما عمري علي بهين
لقد صبحت بالخزي أهل النمارق
نجوسهم ما بين أليس غدوة
وبين قديس في طريق البرارق
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم
يجوسونهم ما بين درتا وبارق
الطويل وبين الرواة فيما تقدم من الأخبار اختلاف في أسماء الأعاجم والأماكن وفي التقديم والتأخير لم أر لذكر أكثر ذلك وجها إلا ما كان منه زائدا في الإمتاع ومحسنا انتظام الحديث
ومما ذكروا أن عمر رضي الله عنه تقدم به إلى أبي عبيد حين بعثه في هذا الوجه وأوصاه بجنده أن قال له إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية وتقدم على قوم جرءوا على الشر فعملوه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون واخزن لسانك ولا يفشون لك سر فإن صاحب السر ما ضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه وإذا ضيعه كان بمضيعة
حديث وقعة الجسر
ويقال لها وقعة القس قس الناطف ويقال لها المروحة


وقد جمعت الذي اوردت هنا من الحديث عن هذه الوقعة من احاديث متفرقة أوردها الخطيب أبو القاسم رحمه الله في كتابه عن سيف بن عمرو وغيره يزيد بعضها على بعض ومما وقع إلي أيضا عن أبي الحسن المدائني في فتوح العراق وحديثه أطول افتضاضا وأشد اتصالا وقد جعلت هذه الأحاديث كلها على اختلافها حديثا واحدا إلا أن يعرض فيها ما يتناقض فإما أن أسقط حينئذ أحد النقيضين بعد الإجتهاد فيه وفي الذي أوثر إثباته منهما وإما أن أذكرهما معا وأبين ذلك وأنسبه إلى من وقع ذكره في حديثه
وكثيرا ما مضى عملي في هذا الكتاب على هذا النحو وعليه يستمر إن شاء الله قصدا للتهذيب وحرصا على الجمع بين الإمتاع والإيجاز بحول الله سبحانه
وأفتتح بما افتتح به المدائني هذه القصة للذي ذكرته من حسن اتصال حديثه
قال ولما فتح أبو عبيد ما فتح وهزم تلك الجنود ونزل الحيرة ورجعت المرازبة إلى يزدجرد منهزمين شتمهم وأقصاهم ودعا بهمن ذا الحاجب فعقد
له على اثني عشر ألفا وقال له قدم هؤلاء الذين انهزموا فإن انهزموا فاضرب اعناقهم ودفع إليه درفش كايبان راية كانت لكسرى فكانوا يتيمنون بها وكانت من جلود النمور عرضها ثمانية اذرع في طول اثنى عشر ذراعا واعطاه سلاحا كثيرا وحمل معه من أداة القتال وآلة الحرب أوقارا من الإبل ودفع إليه الفيل الأبيض فخرج في عدة لم يرمثلها
وفي كتاب سيف أن رستم هو صاحب ذلك وأنه الذي رجع إليه الجالينوس ومن أفلت من جنده بناء على ما قدمنا من الإختلاف في ملك فارس إلى من كان حينئذ قال فقال رستم إي العجم أشد على العرب فيما ترون قالوا بهمن جاذويه وهو ذو الحاجب فوجهه ومعه الفيلة ورد جالينوس معه وذكر بعض ما تقدم


وبلغ المسلمون مسيرهم فقال المثنى لأبي عبيد إنك لم تلق مثل هذا الجمع ولامثل هذه العدة ولمثل ما أتوك به روعة لا تثبت لها القلوب فارتحل من منزلك هذا حتى نعبر الفرات ونقطع الجسر وتصير الفرات بينك وبينهم فتراهم فإن عبروا إليك قاتلتهم واستعنت الله قال إني لأرى هذا وهنا ثم أخذ برأي المثنى فعبر الفرات ونزل المروحة وقطع الجسر وأقبل بهمن فنزل قس الناطف بينه وبين أبي عبيد الفرات وأرسل إلى أبي عبيد إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليك فقال أبو عبيد نعبر إليكم فقال المثنى أذكرك الله والإسلام أن تعبر إليهم فحلف ليعبرون إليهم ودعا ابن صلوبا فعقد له الجسر فقال سليط بن قيس الأنصاري يا أبا عبيد أذكرك الله ألا تركت للمسلمين مجالا فإن العرب من شأنها أن تفر ثم تكر فاقطع هذا الجسر وتحول عن منزلك وانزل ادنى منزل من البر وتكتب إلى أمير المؤمنين فتعلمه ما قد أجلبوا به علينا ونقيم فإذا كثر عددنا وجاء مددنا رجعنا إليهم وبنا قوة وأرجو أن يظهرنا الله عليهم قال جبنت والله يا سليط قال والله إني لأشد منك بأسا
وأشجع منك قلبا ثم تقدم فعبر فقال المثنى لأبي عبيد والله ما جبن ولكن أشار بالرأي وأنا أعلم بقتال هؤلاء منك لئن عبرت إليهم في ضيق هذا المطرد ليجزرن المسلمين هذا العدو وقال والله لأعبرن إليهم وكان رسول بهمن قد قال إن أهل فارس قد عيروهم يعني المسلمين بالجبن عن العبور إليهم فازداد أبو عبيد محكا فقال المثنى للناس اجعلوا جبنها بي ولاتعبروا فقالوا كيف نصنع وقد عبر أميرنا وسليط في الأنصار وعبر الناس فقال المثنى إني لأرى ما تصنعون ولولا أن خذلاكم يقبح ولا أراه يحل ما صحبتكم ثم عبر فالتقى الناس في موضع ضيق المطرد


قال وكانت دومة امرأة أبي عبيد رأت وهي بالطائف كأن رجلا نزل من السماء معه إناء فيه شراب فشرب منه أبو عبيد ورجال من أهل بيته يأتي ذكرهم فقصتها على أبي عبيد فقال هذه الشهادة إن شاء الله فلما التقوا قال أبو عبيد إن قتلت فأميركم عبد الله بن مسعود بن عمرو يعني أخاه فإن قتل فأميركم جبر بن أبي عبيد يعني ولده فن قتل فأميركم حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير فإن قتل فأميركم أبو الحكم بن حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير فإن قتل فأميركم أبو قيس بن حبيب وهؤلاء الإخوة الثلاثة بنو عمه حتى عد كل من شرب الإناء ثم قال فإن قتل فأميركم المثنى بن حارثة وسير على ميمنته سليط بن قيس وعلى ميسرته المثنى وقدم ذو الحاجب جالينوس معه الفيل الأبيض وراية كسرى وقد أطافت به حماة المشركين معلمين أمامهم رجال يمشون على العمد فكانت بين الناس مشاولة يخرج العشرة والعشرون فيقتتلون مليا في النهار ثم حمل المشركون على المسلمين فنضحوهم بالنبل وجثت رجالهم فاستقبلوا بالرماح ولم يقدروا من المسلمين على شيء فانصرفوا عنهم ثم حملوا عليهم الثانية ففعلوا مثلها ثم انصرفوا وحملوا عليهم الثالثة فصبروا فلما رأوا أنهم لا يقدرون على ما يريدون


من المسلمين جاءوا بالنشاب فوضعوه كأنه آكام وتفرقوا ثلاث فرق فقصدت فرقة لأبي عبيد في القلب وفرقة لسليط في الميمنة وفرقة للمثنى في الميسرة ثم صاروا كراديس فجعل الكردوس يمر بهم معرضا بالمسلمين ويرميهم حتى كثرت الجراحات فيهم وعضلت الأرض بأهلها وأقبلت الفيلة عليها النخل والخيول عليها التجافيف والفرسان عليهم الشعر فلما نظرت إلى ذلك خيول المسلمين رأت شيئا منكرا لم تكن ترى مثله فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم لا تقوى لهم الخيل على نفار وخزقهم الفرس بالنشاب وعض المسلمين الألم وجعلوا لا يصلون إليهم فنادى سليط بن قيس يا أبا عبيد أرأيي أم رأيك أما والله لتعلمن أنك قد أضررت برأيك نفسك والمسلمين ثم قال يا معشر المسلمين علام نستهدف لهؤلاء المشركين من أراد الجنة فليحمل معي فحمل في جماعة أكثرهم من الأنصار فقتل وقتلوا وترجل أبو عبيد وترجل الناس ومشوا إليهم فتكافحوا وصافحوهم بالسيوف وحمى البأس حتى كثرت القتلى من الطائفتين جميعا وجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم فنادى أبو عبيد احتوشوا الفيلة فقطعوا بطنها واقلبوا عنها أهلها وواثب هو الفيل الأبيض فتعلق ببطانه فقطعه ووقع الذين عليه وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه وقال أبو عبيد ما لهذه الدابة من مقتل قالوا بلى مشفرها إن قطع فضرب مشفره فقطعه وبرك عليه فاستدبره أبو محجن فضرب عرقوبيه فاستدار وسقط لجنبه وتعاور أبا عبيد المشركون فقتلوه وقيل بل اتقاه الفيل بيده لم نفح مشفره بالسيف


فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل وقام عليه فلما بصر الناس بأبي عبيد تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم وأخذ اللواء الذي كان أمره من بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد فاجتره إلى المسلمين وأخذوا شلوه ثم تجرثم الفيل فاتقاه الفيل بيده دأب أبي عبيد وخبطه الفيل وقام عليه وتتابع أمراء أبي عبيد الذين عهد إليهم بأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت وصبر الناس حتى قتلوا وصارت الراية إلى المثنى بن حارثة فجاش بها ساعة ثم انهزم الناس وركبهم المشركون واقتطعوا زر بن خطم أو ابن حصن بن جوين الطائي في جماعة من المسلمين فنادى زر يا معشر المسلمين أنا زر إنه ليس بعار أن يقتل الرجل وهو مقبل على عدوه ومعه سيف يضرب به سبالهم وأنفهم وإنما العار أن يقتل الرجل وهو غير مقبل على عدوه فاثبتوا فرب قوم قد فروا ثم كروا ففتح الله عليهم فثاب إليه ناس من أهل الحفاظ حتى صاروا نحوا من ثلاثمائة وأحاط بهم المشركون حتى خافوا الهلاك ونظر إليهم المثنى بن حارثة فقال لناس من بكر بن وائل أرى إخوانكم قد أحسنوا القتال وصبروا لعدوهم فإن أمسكتم عنهم هلكوا وإن كررتم رجوت أن تفرجوا عنهم وأن يكشف الله لهم السبيل إلى الجسر فحمل على المشركين في سبعين من بكر بن وائل أصحاب خيل مقدحة كان يعدها للطلب والغارة في بلاد العدو فقاتلهم حتى ارتفع عنهم المشركون وانضموا إلى أخوانهم من المسلمين ونظر عروة بن زيد الخيل وقد أحيط به وهو في عشرين فرسا إلى خيل المسلمين تطارد المشركين فقال لمن معه أرى في المسلمين بقية فاحملوا على من بيننا وبين أصحابنا فحملوا وأفرجوا لهم حتى وصلوا إلى المسلمين وكان عروة يومئذ على فرس كميت أغر ذنوب فأبلى أحسن بلاء وكان يشد عليه المنسر من مناسر العجم وهو وحده فإذا غشوه كر عليهم فيتصدعون حتى عرف مكانه وتعجب الناس يومئذ من عروة لما رأوا من بلائه فقال المثنى إن البأس ليس بمستنكر ومضى الناس


نحو الجسر وحماهم المثنى وعروة بن زيد الخيل والكلح الضبي وعاصم بن عمرو الأسدي وعامر بن الصلت السلمى ونادى المثنى أيها الناس أنا دونكم فاعبروا على هيئتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزول حتى نراكم من ذلك الجانب ولا تفرقوا أنفسكم فانتهى الناس إلى الجسر وقد سبق إليه عبد الله بن مرثد الثقفي أو غيره فقطعه وقال قاتلوا عن دينكم فخشع الناس واقتحموا الفرات فغرق من لم يصبروا وأسرع المشركون فيمن صبروا وأتاهم المثنى بن حارثة فأمر بالسفينة التي قطعت فوصلت بالجسر وعبر الناس وقال المثنى للرجل الذي قطع الجسر ما حملك على ما صنعت قال أردت أن يصبر الناس ويقال إن سليط ابن قيس كان من آخر من قتل عند الجسر
وأصيب يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة منهم ثلاثمائة من ثقيف فيهم ثمانون خاضبا واستحر القتل يومئذ ببني عوف بن عقدة رهط أبي عبيد فابيد منهم أبو عبيد وأمراءوه الذين أمر وغيرهم ويقال قتل يومئذ معه اثنان وعشرون رجلا مما هاجر وقتل من المشركين ألفان
وقتل أكثر من ذلك فيما ذكره سيف قال خبط الفيل أبا عبيد وقد أسرعت السيوف في أهل فارس وأصيب منهم ستة آلاف في المعركة ولم يبق إلا الهزيمة فلما خبط أبو عبيد وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة ثم تموا عليها وركبهم أهل فارس
وقال أبو عثمان النهدي هلك يومئذ يعني من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق وهرب ألفان وبقي ثلاثة آلاف
ولما فرغ الناس بالعبور عبر المثنى وحمى جانبه واضطرب عسكره ورماهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم وقطع المسلمون الجسر بعد عبورهم فعبره المشركون
قالوا وخرج جابان ومردانشاه في ألف من الأساورة منتخبين ليسبقوا
المسلمين إلى الطريق وبلغ ذلك المثنى فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو وخرج يريدهما في جريدة خيل فاعترضاه يظنانه هاربا فأخذهما أسيرين فضرب أعناقهما وقال أنتما كذبتما أميرنا واستفززتماه


وخرج أهل أليس على أصحابها فأخذوهم فجاؤا بهم إلى المثنى فضرب أعناقهم وعقد بذلك لأهل أليس ذمة ثم رجع إلى عسكره
وقيل بل لقيهم المثنى فقتل مردانشاه في المعركة وأسر جابان فضرب المثنى رقبته وقد تقدم في ذكر ملتقى أبي عبيد بجابان بين الحيرة والقادسية أن أكتل ابن شماخ العكلي أسر مردانشاه ثم ضرب عنقه وأسر مطربن فضة جابان فخدعه وافتدي منه وأحد الأمرين هو الصحيح في قتل مردانشاه فالله أعلم
وانهزم المشركون ومضى المثنى إلى أليس وتفرق بنو تميم إلى بواديهم ومضى أهل المدينة وأسد وغطفان فنزلوا الثعلبية وكان لعروة بن زيد الخيل من حسن الغناء في يوم الجسر ما تقدم ذكره فقال له المثنى يا عروة أما والله لو أن معي مثلك ألف فارس من العرب ما تهيبت أن أصبح ابن كسرى في مدائنه وما كنت أكره أن ألقي مثل هذا الجمع الذي فل المسلمين مصحرا ولرجوت أن يظفرني الله بهم فهل لك في المقام معي لا أوثر عليك نفسي ولا أحدا من قومي قال لا إني كنت مع هذا الرجل يعني أبا عبيد وقد أصيب فارجع إلى عمر فيرى رأيه فلما نزل الناس الثعلبية سألوا عروة أن يأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكتابهم فكتبوا إليه إنا لقينا عدو الإسلام من أهل فارس بمكان يقال له قس الناطف فقتل أميرنا أبو عبيد وأمراء أمرهم أبو عبيد وسليط ابن قيس ورجال من المسلمين منهم من تعرف ومنهم من تنكر وتولى أمر الناس المثنى بن حارثة أخو بني شيبان فحماهم في فوارس جزاهم الله عن الإسلام خيرا فكتبنا إليك وقد نزلنا الثعلبية فرارا من الزحف لا نرى إلا أنا قد هلكنا وقد بعثنا إليك فارس المسلمين عروة يخبرك عنا ويأتينا بأمرك فلما قرأ عمر الكتاب فانتهى إلى قوله منهم من تعرف ومنهم من تنكر بكى وقال


ما ضر قوما عرفهم الله أن ينكرهم عمر لكن الله لا يخفى عليه من عباده المحسنون يا عروة ارجع إليهم فأعلمهم أنهم ليسوا بفرار وإنما انحازوا إلي وأنا لهم فئة وسيفتح الله عليهم تلك البلاد أن شاء الله يرحم الله أبا عبيد لو انحاز إلينا واعتصم بالحيف لكنا له فئة
وكتب عمر مع عروة إلى المثنى بن حارثة أما بعد فإن الله كتب القتل على قوم فلم يكن مماتهم ليكون إلا قتلا وكتب على قوم الموت فهم يموتون موتا فطوبى لمن قتل في سبيل الله محتسبا نفسه صابرا وقد بلغني عنك ما كنت أحب أن تكون عليه فالزم مكانك الذي أنت به وادع من حولك من العرب ولا تعجل إلى قتال إلا أن تقاتل أو ترى فرصة حتى تأتيك أمداد المسلمين وكأن قد أتتك على الصعبة والذلول
فقدم عروة بن زيد على المثنى بكتاب عمر ورجع أهل الحجاز وأسد وغطفان إلى بلادهم وأقام المثنى حتى قدمت الأمداد
ويقال إن أول خبر تحدث به عن أهل الجسر بالمدينة أن رجلا قدمها من الطائف فجلس إلى حذاء فقال مالي لا أسمع أهل المدينة يبكون قتلاهم فقال له الحذاء ومن قتل قال
قتل أبو عبيد بن مسعود وسليط بن قيس فأخذ الحذاء بتلابيبه حتى أتى به عمر فأخبره بما قال فقال له عمر ما تقول ويلك قال يا أمير المؤمنين إنا منذ ليال بفناء من أفنية الطائف إذ سمعنا أصوات نساء من ناحية باب شهار يقلن يا أبا عبيداه ويا سليطاه وسمعنا قائلا يقول
إن بالجسر فتية سعداء
صبرا صادقين يوم اللقاء
كم تقي مجاهد كان فيهم
خاشع القلب مستجاب الدعاء
يجأر الليل كله بعويل
ونحيب وزفرة وبكاء
الخفيف
قال فما انقضى حديثه حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمي وكان أول من قدم بخبر الجسر ممن شهده فمر بباب حجر عائشة ويقال أتى عمر وهو على المنبر فلما دخل المسجد ورآه عمر قال ما عندك يا ابن زيد قال أتاك الخبر يا أمير المؤمنين ثم صعد إليه فأخبره فقالت عائشة ما رأينا رجلا حضر أمرا فحدث عنه كان أثبت حديثا من عبد الله بن زيد ولا أخفي فزعا


ولما قدم أهل المدينة المدينة وأخبروا عمن سار منهم إلى البادية استحياء من الهزيمة اشتد ذلك على عمر رحمه الله فرق للناس ورحمهم وقال اللهم إن كل مسلم في حل مني انا فئة كل مسلم من لقي العدو ففظع بشيء من أمره فأنا له فئة يرحم الله أبا عبيد لو كان إنحاز إلي لكنت له فئة
وكان معاذ القارى ء ممن شهدها وفر يومئذ وكان يصلي بالناس في شهر رمضان على عهد عمر فكان بعد إذا قرأ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ( 16 الأنفال ) خنقته العبرة وبكى فكان عمر يقول أنا لكم فئة
وكان عمر رضي الله عنه قد رأى في النوم أن أبا عبيد وأصحابه انتهوا إلى ضرس من الحيرة فتحيروا ولم يجدوا مخرجا فرجعوا فلم يجدوا طريقا فرفعوا إلى السماء فقال عمر هذه شهادة فليت شعري ما فعل عدوهم فكان يتوقع الخبر حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمي فأخبره فبكى وقال ما وجهت أحدا وجها أكره إلي من الوجه الذي توجه إليه أبو عبيد
وقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عبيد يرثي أبا عبيد ومن أصيب معه وهو ابن عم أبي عبيد وأخو بني حبيب الثلاثة المقتولين معه من أمرائه
( أنى تهدت نحونا أم يوسف
ومن دون مسراها فياف مجاهل )
( إلى فتية بالطف نيلت سراتهم وغري أفراس بها ورواحل )
( وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم إلى جانب الأبيات حزم ونابل )
وأضحى أبو جبر خلا ببيوته
بما كان تعدوه الضعاف الأرامل
الاقد علت قلبي الهموم الشواغل
وراجعت النفس الأمور القواتل
سيعلم أهل الغي كيف عزيمتي
ويعلم ودادي الذين أواكل
غناي وأخذي بالذي أنا أهله
إذا نزلت بي المعضلات العضائل
فما رمت حتى خرقوا برماحهم
ثيابي وجادت بالدماء الأباجل
وما رمت حتى كنت آخر راجع
وصرع حولي الصالحون الأماثل
وقد غادروني في مكر جيادهم
كأني غادتني من الراح شامل
وأمسى على سيفي نزيف ومهرتي
لدى الفيل تدمى نحرها والشواكل
فما لمت نفسي غير أنها
إلى أجل لم يأتها وهو عاجل


مررت على الأنصار وسط رحالهم
فقلت لهم هل منكم اليوم قافل
ألا لعن الله الذين يسرهم
رداي وما يدرون ما الله فاعل
الطويل
وقال أبو محجن أيضا
يا عين جودي على جبر ووالده
إذا تحطمت الرايات والحلق
يوم بيوم أتى جبر وإخوته
والنفس نفسان منها الهول والشفق
يا خل سل المنايا ما تركن لنا
عزا ننوء به ما هدهد الورق
البسيط
وقال حسان بن ثابت يرثي سليط بن قيس ومن أصيب من قومه
لقد عظمت فينا الرزية أننا
جلاد على ريب الحوادث والدهر
لدى الجسر يوم الجسر لهفي عليهم
غداة إذا ما قد لقينا على الجسر
يقول رجال ما لحسان باكيا
وحق لي التبكاء بالنحب والغزر
أبعد أبي قيس سليط تلومني
سفاها أبي الأيتام في العسر واليسر
فقل للألى أمسوا أسروا شماتة
به كنتم يوم النزال على بدر
الطويل
وقالت امرأة من ثقيف
أضحت منازل آل عمرو قفرة
بعد الجزيل ونائل مبذول
وكأنما كانوا لموقف ساعة
قردا زفته الريح كل سبيل
الكامل
حديث البويب ووقعة مهران


ولما بلغ عمر رضي الله عنه أمر الجسر وأتاه كتاب المسلمين بالخبر استخلف على المدينة علي بن أبي طالب وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس وقدم طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف فأشاروا عليه بالمقام وقالوا شاور الناس فكتب إلى علي وطلحة فقدما عليه فجمع الناس فقال إني نزلت منزلي هذا وأنا أريد العراق فصرفني عن ذلك قوم من ذوي الرأي منكم وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت فأشيروا علي فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فوجههم إليهم فتكون دار هجرة حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أهل السابقة والقدم في الإسلام فانصرف عمر إلى المدينة وكتب إلى المثنى بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحدا حتى يأتيه المدد وقدم من الأسد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت فقال لهم عمر أين تريدون فقالوا سلفنا بالشام قال أو غير ذلك أرضا تبتذونها إن شاء الله ويغنمكم الله كنوزها أخوار فارس فقال مخنف بن سليم الغامدي مرنا بأحب الوجهين إليك قال العراق قال فامضوا على بركة الله فأمر عمر على الأزد رجلا منهم وعلى كنانة غالب بن عبد الله الليثي فشخصوا إلى
أرض الكوفة فقدموا على المثني بن حارثة فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب


وفيما ذكره سيف أن الأزد وكنانة لما سألوا الشام قال لهم عمر ذلك وجهه قد كفيتموه العراق العراق إذروا بلدة قد فل الله شوكتها وعدوها واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش لعل الله أن يرث بكم قسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس فقال غالب الليثي وعرفجة البارقي كل واحد منهما لقومه يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أراد فقال كل فريق لصاحبهم انا قد اطعناك واجبنا امير المؤمنين الى ما أراد فدعا لهم عمر بخير وأمر على كنانة غالبا وسرحه فيهم وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة البارقي وعامتهم من بارق وفرحوا برجوع عرفجة إليهم فخرج هذا في قومه وهذا في قومه حتى قدما على المثني وكان عرفجة هذا حليفا في بجيلة لأمر عرض له في قومه أخرجه عنهم ومن قدمته هذه رجع إلى قومه ونسبه حسب ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى
وقدم بعدهم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط فقالوا يا أمير المؤمنين قدمنا نريد سلفنا بالشام فنظر إليهم وعليهم الحلل فأعرض عنهم فكلموه أيضا فلم يأمرهم بشيء فقيل له ما يمنعك قال إني لمتردد فيهم منقبض عنهم لا ينزل هؤلاء بلدا إلا فتنوا أهله وما قدم أحد المدينة أكره إلي منهم فأمضي نصفهم إلى الشام عليهم معاوية بن حديج ونصفهم إلى العراق عليهم شرحبيل بن السمط
وقدم من مذحج المدينة ألف بيت فيهم ثلاثمائة أهل بيت من النخع فقال عمر سيروا إلى أرض فارس قالوا لا ولكنا نسير إلى الشام فقال يزيد بن كعب النخعي أنا أخرج فيمن أطاعني فخرج في ثلاثمائة أهل بيت من النخع وقال هند الجملي أنا أخرج فيمن أطاعني فخرج في
خمسائة أهل بيت من مراد فكان عمر يقول بعد ذلك سيد أهل الكوفة سمي المرأة هند الجملي
ثم قدم المدينة أهل ألف بيت من همدان فقالوا لعمر خر لنا قال أرض العراق قالوا بل الشام قال بل العراق فصرفوا ركابهم إلى العراق


وقد كانت قدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله وسيدهم عرفجة بن هرثمة البارقي حليف لهم فقال عمر اخرجوا إلى العراق وأمر عليهم عرفجة فقال جرير لبجيلة أخبروا عمر أنه ولي عليكم رجلا ليس منكم وكانت بجيلة وقد غضبت على عرفجة في أمر عرض بينهم وبينه فكلموا عمر في ذلك واستعفوه منه فقال لاأعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاما وأعظمكم بلاء وإحسانا فلما أعلموه أنه ليس منهم قال لعرفجة إن هؤلاء استعفوني منك وزعموا أنك لست منهم فما عندك قال صدقوا لست منهم وما يسرني أنني منهم أنا أمرؤ من الأزد من بارق في كثف لا يحصى عدده وحسب غير مؤتشب فقال عمر نعم الحي الأزد يأخذون نصيبهم من الخير والشر
وقال عرفجة إنه كان من شأني أن الشر تفاقم فينا ودارنا واحدة وأصبنا الدماء ووتر بعضنا بعضا فاعتزلتهم لما خفتهم فكنت في هؤلاء أسودهم وأقودهم فحفظوا علي لأمر دار بيني وبين دهاقنتهم فحسدوني وكفروني فقال لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك
وقيل إن عمر قال اثبت على منزلتك ودافعهم قال لست فاعلا ولا سائرا فأمر عليهم جرير بن عبد الله وقيل إن جريرا كان إليه من بجيلة بعضها فجمعها إليه عمر وقال له جرير يا أمير المؤمنين إن قومي متفرقون في العرب فأخرجهم وأنا أغزو بهم أرض فارس وكانوا متفرقين في هوازن وغطفان وتميم وفي أزد شنوءة والطائف وجرش فكتب عمر إلى القبائل التي فيها


بجيلة أي نسب تواصل عليه الناس قبل الإسلام فهو النسب ليس لأحد أن يدعه وليس له أن ينتقل إلى غير ما كان يعرف به فمن كان من بجيلة لم ينتسب إلى غيرهم حتى جاء الإسلام فلا تحولوا بينهم وبين الرجوع إلى قومهم فخرج قيس كبة وشحمة وعرينة من هوازن وغيرها من القبائل وخرج العتيل والفتيان من بني الحارث وخرج علي وذبيان من الأزد بالسراة ولما أعطى عمر رضي الله عنه جريرا حاجته في استخراج بجيلة من الناس فأخرجهم أمرهم بالموعد بين مكة والمدينة ولما تتاموا قال لجرير اخرج حتى تلحق بالمثنى فكره ذلك جرير ومال إلى الشام فقال له عمر قد علمتم ما لقي إخوانكم بأرض فارس فاخرجوا فإني أرجوا أن يورثكم الله أرضهم وديارهم ولك الربع من كل شيء بعد الخمس وقيل بل جعل له ولقومه ربع الخمس مما أفاء الله عليه في غزاتهم هذه له ولمن اجتمع إليه ومن أخرج له من القبائل استصلحهم عمر رضي الله عنه بذلك إذ كان هواهم الشام فأبى هو عليهم إلا العراق وقال لهم اتخذونا طريقا فقدموا المدينة وهم أربعة آلاف وقيل ألفان ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى فقال عمر لو ضممت إلى هؤلاء من الجبين من ابني نزار يعني تميما وبكرا فوجه معهم قوما منهم ثم تتابعت الأمداد
وكان أول من نزل العذيب بالعيال من قبائل اليمن والحجاز الأزد ثم حضرموت وكندة ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادي من تميم وبكر وجاءت طيء عليها عدي بن حاتم وجاءت أسد وجاءت قيس عليهم عبد الله بن المعتم العبسي وجاءت الرباب وعلى تيم وعدي هلال بن علفة وعلى ضبة المنذر بن حسان وجاءت حنظلة وعمرو وطوائف من سعد وجاءت النمر بن قاسط عليهم أنس بن هلال بن عقة وبعث عمر أيضا عصمة بن عبد الله الضبي فيمن تبعه من بني ضبة وكان قد كتب إلى أهل الردة يأذن لهم في الجهاد ويستنفرهم إليه فلم يوافقه أحد منهم إلا رمى به المثنى


وذكر المدائني أن يزدجرد وجه مهران بعد واقعة الجسر وأمره أن يبث
المسالح إلى أدانى أرض العرب ويقتل كل عربي قدر عليه
وفيما ذكره الطبري عن سيف أن رستم والفيرزان هما اللذان رأيا انفاذ مهران بعد أن طالعا برأيهما في ذلك بوران ابنة كسرى وذلك عندما علما بتوافي امداد العرب إلى المثنى فخرج مهران في الخيول وجاء يريد الحيرة وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ ما بين القادسية وخفان فاستبطن فرات بادقلي وأرسل إلى جرير ومن معه أنه جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى تقدموا علينا فعجلوا اللحاق بنا وموعدكم البويب وكتب إلى عصمة وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك وقال خذوا على الجوف فسلكوا القادسية وسلك المثنى وسط السواد فطلع على النهرين ثم على الخورنق وطلع عصمة ومن سلك معه طريقه على النجف وطلع جرير ومن سلك معه على الجوف فانتهوا إلى المثنى وهو على البويب ومهران من وراء الفرات بإزائه فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم وعليهم المثنى وهم بإزاء مهران وعسكره فقال المثنى لرجل من أهل السواد ما يقال لهذه الرقعة التي فيها مهران وعسكره فقال بسوسا فقال أكدي مهران وهلك ونزل منزلا هو البسوس وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم فقال المثنى اعبروا فعبر مهران فنزل على شاطى ء الفرات معهم في الملطاط فقال المثنى لذلك السوادي ما يقال لهذه الرقعة التي نزلها مهران وعسكره فقال شوميا وذلك في رمضان فنادى المثنى في الناس انهدوا لعدوكم فتناهدوا ومهران في ثلاثة عشر ألفا معه ثلاثة فيلة فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب فأقبلوا إلى المسلمين في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل ورجلهم أمام فيلهم وجاءوا ولهم زجل فقال المثنى للمسلمين إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت وائتمروا همسا والمسلمون أربعة آلاف ألفان وثمانمائة من اليمن وألف ومائتان من سائر الناس ويقال كانوا ستة آلاف ألف


ومائتان من تميم وقيس بكر وسائرهم من اليمن
وتنازع جرير والمثنى الإمارة يومئذ فقال له المثنى إنما بعثك أمير المؤمنين مددا لي وقال جرير بل استعملني فقيل صار الأمر بينهما إلى ما قال المثنى فكان هو الأمير وقيل صار جرير أميرا على من قدم معه والمثنى أميرا على من قدم قبل ذلك ومن قال هذا زعم ان المثنى قال لجرير عندما نهدوا للعدو خلني وتعبئة الناس ففعل جرير وعبأ ففعل جرير وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة في القلب وصير اليمن ميمنة وميسرة وقال المثنى يا معشر المسلمين إني قد قاتلت العرب والعجم فمائة من العرب كانوا أشد علي من ألف من العجم ويقال إنه قال لهم قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب ولمائة من العرب اليوم أشد علي من ألف من العجم إن الله قد أذهب مصدوقتهم ووهن كيدهم فلا يهولنكم سوادهم إن للعجم قسيا لجا وسهاما طوالا هي أغنى سلاحهم عندهم فلو قد لقوكم رموكم بها وإذا أعجلوا عنها أو فقدوها فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أوشدتين ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى


وركب يومئذ فرسا ذنوبا أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال ومر على الرايات يحض القبائل فقال له شرحبيل بن السمط ما أنصفتنا يا مثنى جعلت معدك وسطا وجعلتنا ميمنة وميسرة قال إذا أنصفكم الله ما أريد لهم شيئا من الخير إلا وأنا أريد لكم مثله وما عهدي بمعد يدري بالناس من البأس ثم صير تميما مع الأزد في الميمنة وصير ربيعة مع كندة في الميسرة وصفوا صفوفهم وقال الزموا الصمت فإني مكبر ثلاث تكبيرات فإذا كبرت الثالثة فاحملوا فنظر إلى سعد ابن عبيد الأنصاري قد نصل من الصف فقال من أنت قال سعد بن عبيد فررت يوم الجسر من الزحف فأردت أن أجعل توبتي من فرتي أن أشري نفسي لله فقال له إن خيرا مما تريد أن تقف مع المسلمين فتناضل عن دينك
وقال جرير يا معشر بجيلة إن لكم في هذه البلاد إن فتحها الله لكم حظا ليس لغيركم فاصبروا التماس إحدى الحسنيين الشهادة فثوابها الجنة أو النصر ففيه الغنى من العيلة ولا تقاتلوا رياء ولا سمعة بحسب امرى ء من خساسته حظا أن يريد بجهاده وعدوه حمد أحد من الخلق


ومر المثنى على الرايات راية راية يحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم ولكلهم يقول إني لأرجو أن لا تؤتى العرب اليوم من قبلكم والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم فيجيبونه بمثل ذلك وأنصفهم المثنى في القول والفعل وخالط الناس في المكروه والمحبوب فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا ووقف على أهل الميمنة فنظر إلى رجل من العنبر على فرس عتيق رائع فقال يا أخا بني العنبر إنك لمن قوم صدق في اللقاء أما والله يا بني تميم إنكم لميامين في الحرب صبر عند البأس إني لأرجو أن يعز الله بكم دينه وقال للأزد اللهم صبحهم برضوانك وادفع عنهم عين الحاسد أنتم والله الأنجاد الأمجاد الحسان الوجوه وإني لأرجو أن يأتي العرب اليوم منكم ما أعينهم ونظر إلى فوارس من قيس في القلب فقال نعم فتيان الصباح أنتم اللهم جللهم عافيتك وافرغ عليهم الصبر يوما كبعض أيامكم ونظر إلى ناس من طيء في القلب فقال جزاكم الله خيرا فنعم الحي أنتم في اللقاء وعند العطاء فإنه ليحضهم إذ شدت كتيبة من العجم على المسيرة وفيها بكر وكندة فقال المثنى إن الخيل تنكشف ثم تكر يا معشر طيء الزموا مصافكم وأغنوا ما يليكم واعترض الكتيبة التي كشفتهم بخيل كانت معه فمنعهم من اتباعهم وقاتلهم فثارت عجاجة بينهم ورجع أهل الميسرة وأقبلت الميمنة نحو المثنى وقد انكشف العدو عنه وسيفه بيده وقد جرح جراحات وهو يقول اللهم عليك تمام النصر هذا منك فلك الحمد فقال له مخنف بن سليم الغامدي الحمد لله الذي عافاك فقد كنت
أشفقت عليك قال كم من كربة قد فرجها الله هل منعم عليه يكافيء ربه بنعمة من نعمه


وكانت هزيمة المشركين فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بني سليم ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا فلا يسمع إلا هرير الرجال وقد كان انس بن هلال النمري قدم ممدا للمثنى في أناس من النمر نصارى وابن مردي الفهري الثعلبي في ناس من قومه كذلك وقالوا حين رأوا نزول العجم بالعرب نقاتل مع قومنا فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال فقال يا أنس إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي وقال لابن مردي الفهري مثل ذلك فأجاباه فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته ثم خالطوهم واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم لا المسلمون ولا المشركون وقد كان المثنى قال لهم إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم وأوجع قلب المسلمين قلب المشركين ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فني قلب المشركين والمجنبات قد هز بعضها بعضا فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم وجعل المسلمون والمثنى في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم إن المثنى يقول لكم عادتكم في أمثالهم انصروا الله ينصركم حتى هزم القوم
وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم فجعل يتقدم بها فقال له رجل لو تأخرت قليلا فقال
أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا
أو يصنع الله لنا فيفتحا
الرجز
وقاتل حتى قتل وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدي وهو يقول اللهم إليك أسعى لترضى وإياك أرجو فاغفر ذنبي ثم تقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله


فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه فأتى به ابنه وهو غلام مراهق فقال دونك رأس قاتل أبيك فعض الفتى بأنفه ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل فقال يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو فأتبعه عمه جندب وهو يقول يا عجل قتلت ابن أخي فلحقه وقد قتل رجلا فرده وقتل حصين بن القعقاع بن معبد بن زرارة فأخذ الراية مولي لهم أو مولي للأزد يقال له خصفة فقاتل حتى قتل ودارت بينهم رحى الحرب وأخذت جرير الرماح فنادى واقوماه أنا جرير فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص وشدت جماعة على مسعود بن حارثه وهو معلم بعصابة خضراء وهو يفري فريا فطعن رجلا فقتله وطعن آخر فانكسر رمحه فاختلفا بسيفيهما ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه فوقف عليه أخوه المثنى فقال هكذا مصارع خياركم وقيل إنه ارتث يومئذ فمات بعد في أناس من الجرحى من أعلام المسلمين ماتوا كذلك منهم خالد بن هلال فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن وقال والله إنه ليهون علي وجدي أن شهدوا البويب أقدموا وصبروا ولم يجزعوا ولم يتكلموا وإن كان في الشهادة لكفارة لبحور الذنوب ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ فتضعضع من معه رأى ذلك وهو دنف فقال يا معشر كعب بن وائل ارفعوا رايتكم رفعكم الله لا يهولنكم مصرعي وقتل جرير وغالب بن عبد الله الليثي وحنظلة بن ربيعة الأسدي وعروة بن زيد الخيل كل واحد منهم عشرة
وقال ربعي بن عامر وشهدها يومئذ مع أبيه احصي مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة في المعركة وذكر أن غالبا وعروة وعرفجة في الأزد كانوا من أصحاب التسعة فالله أعلم
وقال يومئذ لعروة رجل من قومة ورآه يقدم أهلكت قومك يا عروة فقال
يا قوم لا تعنفوني قومي
لا تكثروا عدلي ولا من لومي
( لا تعدوني النصر بعد اليوم ) الرجز
وسمع رجل يومئذ من مهران يرتجز وهو يقول


( إن تسألوا عني فإني مهران
أنا لمن أنكرني ابن باذان ) السريع
فعجب من أن يتكلم بالعربية فقيل له إنه ولد باليمن ويقال إنه عربي نشأ مع أبيه باليمن وكان أبوه عاملا لكسرى
وأبصر جرير بن عبد الله مهران يقاتل فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقتلاه طعنه المنذر فأداره عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير فاحتز رأسه وتنازعا سلبه ثم أخذ جرير سلاحه وأخذ المنذر حليته وثيابه وبرذونه وقيل في قتله غير هذا وهو مما حدثت به أم ولد لزيد بن صوحان أن زيدا أخرجها معه إلى العسكر حتى لقوا مهران صاحب كسرى فجعل الناس يحيدون عن مهران فقال زيد ما شأن الناس يحيدون عن هذا قيل كرهوه فنزل زيد فمشى إليه فاختلفا ضربتين فأطن مهران يده فرجع فأخذ عمامتي فشقها ثم لفها على يده ثم عاوده فنسف ساقيه بالسيف فقتله فابتدر المسلمون سلبه فلم يأخذ زيد من سلبه إلا السيف نفله إياه الأمير فكان زيد يقول من يشتري سيفا وهذا أثره ويخرج يده الجذماء فيريها وقد قيل إن غلاما نصرانيا من بني تغلب هو الذي قتل مهران فالله أعلم
وهزم المشركون فأتوا الفرات وأتبعهم المسلمون فانتهوا إلى الجسر وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر فحالوا بين الباقين وبينه فأخذوا يمينا وشمالا فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا فعبر من بقي منهم الجسر ثم قطعوه فأصبح المسلمون فعقدوه واتبعوهم حتى بلغوا بيوت ساباط ثم انصرفوا وصلبوا مهران على الجسر
ويقال إن المثنى قطع الجسر أولا ليمنع أهل فارس العبور ثم ندم على ذلك وقال لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم فإني غير عائد فلا تعودوا ولا تعتدوا بي أيها الناس فإنما كانت زلة لا ينبغي إخراج أحد إلا من لا يقوى على الامتناع


ولما افترق الأعاجم على شاطئ الفرات مصمدين ومصوبين واعتورتهم خيول المسلمين أكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاء فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أقوى رمة منها
حدث أبو روق قال والله إن كنا لنأتي البويب يعني بعد ذلك بزمان فنرى ما بين السكون وبني سليم عظاما بيضاء تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم نعتبر بها قال وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحرزونها مائة ألف
واقتسم المسلمون ما أفاء الله عليهم ونفلت بجيلة وجرير ما جعل لهم عمر بن الخطاب وحمل الخمس أو باقي الخمس وجلس المثنى للناس يحدثهم ويحدثونه لما فرغوا وكلما جاء رجل فتحدث قال له المثنى أخبرني عنك فقال قرط بن جماح العبدري قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك فقلت مهران ورجوت أن يكون إياه فإذا هو شهريرار صاحب الخيل فوالله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا وكان قرط قد قاتل يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافا
وقال ربعي وهو يحدث المثنى لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت تترسوا بالمجان فإنهم شادون عليكم فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر في الثالثة فأجابوني فولي الله كفالتي
وقال ابن ذي السهمين محدثا قلت لأصحابي إني سمعت الأمير يقرأ ويذكر في قراءته الزحف فما ذكره إلا لفضل فيه فاقتدوا برايتكم ولتحمي خيلكم رجلكم وازحفوا فما لقول الله من خلف فأنجز الله لهم وعده كما رجوت
وقال عرفجة محدثا حزنا كتيبة منهم إلى الفرات ورجوت أن يكون الله قد
أذن في غرقهم وأن يسلينا بها عن مصيبة الجسر فلما حصلوا في حد الإحراج كروا علينا فقاتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومي لو أخذت رايتك فقلت علي اقدامها وحملت بها على حاميتهم فقتلته فولوا نحو الفرات فما بلغوه ومنهم أحد فيه الروح


وقد كان المثنى قال يومئذ من يتبع آثار المنهزمة حتى يبلغ السيب فقام جرير في قومه فقال يا معشر بجيلة إنكم وجميع المسلمين ممن شهد هذا اليوم في السابقة والفضيلة سواء وليس لأحد منهم في هذا الخمس غدا من النفل مثل الذي لكم منه نفلا من أمير المؤمنين فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذي لكم منه إلى ما ترجون فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة او الظفر والغنيمة والجنة
ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستنثلوا بالأمس من منهزمة يوم الجسر فقال أين المستنل بالأمس وأصحابه انتدبوا في آثار هؤلاء القوم إلى السيب وابلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به فهو خير لكم وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
وكان هذا المستنثل أو هو إن شاء الله سعد بن عبيد الأنصاري قد أراد الخروج بالأمس من صف المسلمين الى العدو فقيل للمثنى ألا ترى إلى هذا الرجل الذي يريد أن يستنثل فركض إليه فقال يا أبا عبد الله ما تريد ان تصنع قال فررت يوم أبي عبيد فأردت أن تكون توبتي وانتصاري أن أمشي إليهم فأقاتل حتى أقتل قال إذن لاتضر عدوك ولا تنفع وليك ولكن أدلك على ما هو خير لك تثبت على صفك وتجزى قرنك وتواسي أخاك بنفسك وتنصره وينصرك فتكون قد نفعت المسلم وضررت العدو فأطاعة وثبت مكانه فكان يومئذ أول منتدب
فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم في أثر القوم واتبعتهم بجيلة وخيول المسلمين بعد من كل فارس ولم يبق في العسكر جسري إلا خرج في الخيل فانطلقوا في طلب العدو حتى بلغوا السيب فأصابوا من البقر والسبي


وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم وفضل أهل البلاء من جميع القبائل ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية وبعث بثلاثة أرباعه إلى عمر رضي الله عنه وألقى الله الرعب في قلوب أهل فارس وكتب القواد الذين قادوا الناس في الطلب إلى المثنى وكتب إليه عاصم وعصمة وجرير إن الله قد كفى رستم ووجه لنا ما رأيت وليس دون القوم شيء فأذن لنا في الإقدام فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط وتحصن اهلها منهم واستباحوا القريات دونها وراماهم أهل الحصن عن حصنهم بساباط ثم انكفئوا راجعين إلى المثنى
قالوا وكان المثنى وعصمة وجرير أصابوا في أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهن بالحيرة وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات اللواتي بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد فقال عمرو هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش وبشروهن بالفتح
ولما أهلك الله عز وجل مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة فمخروها لايخافون كيدا ولا يلقون فيها مانعا وانتفضت مسالح العجم فرجعت إليهم واعتصموا بالساباط وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة ونزل جرير والمثنى الحيرة وبثا المسالح فيما بين الأنبار وعين التمر إلى الطف فمن كان أقام على صلحه قبلوا ذلك منه ومن نقض أغاروا عليه فكان أهل الحيرة وبانيقيا وغيرهم على صلحهم
وكانت وقعة البويب في رمضان من سنة ثلاث عشرة
وتنازع أيضا المثنى وجرير الإمارة وكان المثنى أحب إلى نزار وجرير أحب إلى اليمانية فكتب الى عمر رحمه الله في ذلك فكان من مشورته فيه
وعمله ما سيأتي بعد ذكره


وشخص المثنى عند ذلك فنزل أليس ويقال شراف وهو وجع من جراحات به وارتحل معه عامة النزارية فلما رأى ذلك جرير تحول فنزل العذيب مع العيال ومعه أخلاط الناس وهو الأمير عليهم في قول بعضهم وفي هذه الإمارات كلها اضطراب من نقلة الأخبار واختلاف بين القبائل فبنو شيبان تقول كان جرير الأمير يوم قتل مهران المثنى وبجيلة تقول كان الأمير يوم ذلك وقبل وبعد والأظهر مما تقدم من الأخبار أن المثنى كان الأمير في تلك الحرب إلا أن يكون جرير على من معه كما قد قيل فالله تعالى أعلم
وقد قال العور الشني فلم يذكر لغير المثنى يومئذ إمارة
هاجت عليك ديار الحرب أحزانا
واستبدلت بعد عبد القيس همذانا
وقد أرانا بها والشمل مجتمع
أدنى النخيلة قتلى جند مهرانا
كأن الأمير المثنى يوم راجفة
مهران أشجع من ليث بخفانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم
فقتل الزحف من رجلى وركبانا
سما لمهران والجيش الذي معه
حتى أبادهم مثنى ووحدانا
إذ لاأمير أراه بالعراق لنا
مثل المثنى الذي من آل شيبانا
البسيط
حديث غارة المثنى على سوقي الخنافس وبغداد


ذكر سيف عن شيوخه أن المثنى لما نزل أليس قرية من قرى الأنبار وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة وغزاة أليس الآخرة وقد مخر السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية وأرسل جريرا إلى ميسان وهلال بن علقمة إلى دست ميسان وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبي وبالكلح الضبي وبعرفجة البارقي وأمثالهم من قواد المسلمين ألز به رجلان أحدهما أنباري والآخر حيري يدله كل واحد منهما على سوق فأما الأنباري فدله على سوق الخنافس وأما الحيري فدله على بغداد فقال المثنى أيتهما قبل صاحبتها فقالوا بينهما أيام فقال أيهما أعجل قالوا سوق الخنافس يتوافى إليها الناس ويجتمع إليها ربيعة وقضاعة يخفرونهم فاستعد لها المثنى حتى إذا ظن أنه يوافيهم يوم سوقها ركب نحوهم فأغار على الخنافس يوم سوقها وبها خيلان من ربيعة وقضاعة وهم الخفراء فانتسف السوق وما فيها وسلب الخفراء ثم رجع عوده على بدئه حتى تطرق دهاقين الأنبار طروقا في أول يومه فتحصنوا منه فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد وأتوا بالأدلاء على بغداد وكان وجهه إلى سوق بغداد فصبحهم
وقال المثنى في غارته على خنافس
صبحنا في الخنافس جمع بكر
وحيا من قضاعة غير ميل
بفتيان الوغى من كل حي
تباري في الحوادث كل جيل
نسفنا سوقهم والخيل زور
من التطواف والشد البجيل
الوافر


وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي في تاريخه أن بغداد كانت في أيام مملكة العجم قرية يجتمع فيها رأس كل سنة التجار ويقوم بها للفرس سوق عظيمة فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا أول السواد ذكر للمثنى بن حارثة أمر سوق بغداد ثم أورد بإسناد له عن أبن إسحق أن أهل الحيرة قالوا للمثنى وذكره سيف من طريق آخر أن رجلا من أهل الحيرة قال للمثنى واللفظ في الحديثين متقارب وقد دخل حديث أحدهما في حديث الآخر قالوا ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد ويجتمع بها في كل سنة من الناس مثل خراج العراق وهذه أيام سوقهم التي يجتمعون فيها فإن أنت قدرت على أن تعبر إليهم وهم لا يشعرون أصبت بها مالا يكون غناء للمسلمين وقوة على عدوهم وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم فقال لهم فكيف لي بها قالوا إن أردتها فخذ طريق البر حتى تنتهي إلى الأنبار ثم تأخذ رءوس الدهاقين فيبعثون معك الأدلاء فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى
قال فخرج من النخيلة ومعه أدلاء الحيرة حتى دخل الأنبار فنزل بصاحبها فتحصن منه فأرسل إليه ما يمنعك من النزول فأرسل إليه إني أخاف فأرسل إليه انزل فإنك آمن على دمك وقريتك وترجع سالما إلى حصنك فتوثق عليه ثم نزل فأطعمه المثنى وخوفه واستكتمه وقال إني أريد أن أغير فابعث معي الأدلاء إلى بغداد حتى أغير منها إلى المدائن قال أنا أجيء معك قال المثنى لا أريد أن تجيء معي ولكن ابعث معي من يعرف الطريق ففعل وأمر لهم بزاد وطعام وعلف وبعث معهم دليلا فأقبل حتى إذا


بلغ المنصف قال له المثنى كم بيننا وبين هذه القرية قال أربعة فراسخ أو خمسة وقد بقي عليك ليل فقال لأصحابه من ينتدب للحرس فانتدب له قوم فقال لهم اذكوا حرسكم ثم نزل وقال للناس أنزلوا فاقضوا واطعموا وتوضأوا وتهيأوا وابعثوا الطلائع فلا يلقون أحدا إلا حبسوه ثم ساربهم فصبحهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف فقتل وأخذ الأموال وقال لأصحابه لا تأخذوا إلا الذهب والفضة ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته وهرب الناس وتركوا أمتعتهم وأموالهم وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحر من كل شيء ثم كر راجعا ثم نزل بنهر السليحيين من الأنبار فقال للمسلمين أحمدوا الله الذي سلمكم وغنمكم وانزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب وعلقوا عليها وأصيبوا من أزوادكم فسمع القوم يهمس بعضهم إلى بعض أن القوم سراع الآن في طلبنا فقال تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان قبح الله من يتناجون به انظروا في الأمور وقدروها ثم تكلموا تحسبونهم الآن في طلبكم فو الله لو كان الصريخ قد بلغهم الآن إنه لكبير ولو كان الصريخ عندهم لبلغهم من رعب غارتنا عليهم إلى جنب مدائنهم ما يشغلهم عن طلبنا حتى نلحق معسكرنا وجماعتنا إن للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل ولو كان بهم من القوة ما يحملهم على طلبنا ثم جهدوا وجهدهم ما أدركونا نحن على الجياد العراب وهم على المقارف البطاء ولو انهم طلبونا فأدركونا لم نقاتلهم إلا التماس الثواب ورجاء النصر فثقوا بالله وأحسنوا به الظن فقد نصركم الله عليهم وهم أكثر منكم وأعز وسأخبركم عني وعن انكماشي والذي أريد من ذلك أن خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبا بكر أوصانا أن نقل العرجة ونسرع الكرة في الغارات ونسرع في غير ذلك الأوبة فأقبلوا ومعهم دليلهم حتى انتهوا إلى الأنبار فاستقبلهم صاحبها بالكرامة فوعده المثنى بالإحسان إليه لو استقام أمرهم ورجع المثنى إلى عسكره
حديث السرايا من الأنبار


قالوا لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار سرح المضارب العجلي وزيدا إلى الكباث ثم خرج في أثرهم فقدم الرجلان الكباث وقد ارفض عنه أهله وأخلوه وكانوا كلهم من بني تغلب وكان عليهم فارس العناب التغلبي يحميهم فركب المسلمون آثارهم يتبعونهم فأدركوا أخرياتهم فحماهم فارس العناب ساعة ثم هرب وقتلوا في أخرياتهم فأكثروا ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار فسرح فرات بن حيان وكان خلفه في عسكره وسرح معه عتيبة بن النهاس وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين ثم أتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبي الهجيمي فلما دنوا من صفين فر أهلها فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا وفارق المثنى فراتا وعتيبة فأرمل المثنى وأصحابه من الزاد حتى نحروا رحلهم إلا ما لابد لهم منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودهها ثم ادركوا عيرا من أهل دياف وحوران فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بني تغلب خفراء فأخذوا العير وكان ظهرا فاضلا وقال لهم دلوني فقال له أحدهم أمنوني على أهلي ومالي وأدلكم على حي من بني تغلب غدوت من عندهم اليوم فآمنه المثنى وسار معه يومه حتى إذا كان العشي هجم عليهم فإذا النعم صادرة عن الماء والقوم جلوس بأفنية البيوت فبعث غارته فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية وانتسفوا الأموال وإذا هم بنو ذي
الرويحلة فاشترى من كان من ربيعة السبايا بنصيبهم من الفيء فأعتقوا سبيهم وكانت ربيعة لا تسبى إذ العرب يتسابون في جاهليتهم


وأخبر المثنى أن جمهورمن سلك البلاد قد انتجعوا شاطى ء دجلة فسرح في آثارهم حذيفة بن محصن وكان على مقدمته في غزواته كلها بعد البويب ثم أتبعه فأدركوهم دون تكريت يخوضون الماء فأصابوا ما شاءوا من النعم حتى أصاب الرجل خمسا من السبي وخمسا من النعم وجاء المثنى بذلك حتى نزل على الناس بالأنبار ومضى فرات وعتيبة في وجههما حتى أغارا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين فأغاروا عليهم ونقبوهم فرموا بطائفة منهم في الماء فناشدوهم وجعلوا ينادون الغرق الغرق فلم يقلعوا عنهم وجعل عتيبة والفرات يذمرون الناس وينادونهم تغريق بتحريق يذكرونهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل في غيضة من الغياض ثم انطلق المسلمون راجعين إلى المثنى وقد غرقوهم
فلما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافت بها البعوث والسرايا انحدر بهم المثنى إلى الحيرة فنزل بها وكانت لعمر رحمه الله في كل جيش عيون يتعرفون الأخبار من قبلهم فكتب إليه بما كان في تلك الغزاة وأبلغ الذي قال عتيبة والفرات يوم بني تغلب والماء فبعث إليهما فسألهما فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه المثل وأنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب بذحل في الجاهلية فاستحلفهما فحلفا ما أراد بذلك إلا المثل وإعزاز الإسلام فصدقهما وردهما إلى المثنى

ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخهقالوا قال أهل فارس لرستم والقيرزان وهما عميدا أهل فارس أين يذهب بكما لم يبرح بكما الإختلاف حتى وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم وإن لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأي وأن تعرضاها للهلكة ما تنتظرون والله ما تنتظرون إلا أن ينزل بنا ونهلك ما بعد ساباط وبغداد وتكريت إلا المدائن والله ما جرأ علينا هذا غيركم ولولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم


قالوا فقال القيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى اكتبي لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم ففعلت وأخرجت ذلك إليهم في كتاب فأرسلوا في طلبهن فلم تبق امرأة منهن إلا أتوا بها فوضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من آل كسرى فلم يوجد عند واحدة منهن أحد منهم وقلن أو من قال منهن لم يبق منهم إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى وأمه من أهل داريا فأرسلوا إليها فأخذوها به فدلتهم عليه وكانت قد دفعته إلى أخواله في أيام شيري حين جمعهن في القصر الأبيض فقتل الذكور واعدتهم ثم دلته إليهم في زبيل فأرسلوا إليه
فجاءوا به وهو ابن إحدى وعشرين فملكوه واجتمعوا عليه واطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى الرؤساء في طاعته ومناصحته ومعونته فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى أو موضع ثغر وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين فكتبوا بذلك إلى عمر رحمه الله بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد من كان له منهم عهد ومن لم يكن له فخرج المثنى على حاميته حتى ينزل بذي قار وينزل الناس بذي الطف في عسكر واحد فكتب إليهم عمر
أما بعد فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتفرقوا في المياه التي تليهم على حدود أرضكم وأرضهم ولا تدعوا في ربيعة ومضر أحدا من أهل النجدات ولا فارسا إلا اجلبتموه فإن جاء طائعا وإلا حشدتموه احملوا العرب على الجد إذا جد العجم لتلقوا جدهم بجدكم
فنزل المثنى بذي قار ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضي وغضي جبال البصرة وكان جرير بن عبد الله بغضي وسبرة بن عمرو العنبري ومن أخذ أخذهم فيمن معهم إلى سلمى فكانوا في أمواه العراق من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضا وإن كان كون وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة


وعادت مسالح كسرى وثغوره وهم في ملك فارس هائبون مشفقون والمسلمون يتدفقون قد ضروا بهم كالأسد يثأر عن فريسته ثم يعاود الكر وأمراؤهم يكفكفونهم لأن عمر رحمه الله كان أمرهم أن لا يقاتلوا إلا أن يقاتلوا حتى يأتيهم أمره وتصلهم أمداد المسلمين
تأمير عمر رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية

ذكر المدائني بإسناده إلى رجال من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان يخير من قدم عليه من العرب بين الشام وبين العراق فكانت مضر تختار العراق وتختار أهل اليمن الشام فقال عمر اليمن أشد تعاطفا يحنون إلى سفلهم ونزار كلهم سلف نفسه ومضر لا تحن إلى سلفها ولم يكن أحد من العرب أشد إقداما على أرض فارس من ربيعة فبلغ عمر اختلاف المثنى بن حارثة وجرير بن عبد الله في الإمارة فاستشار الناس فقال المغيرة بن شعبة يا أمير المؤمنين تداركهم برجل من المهاجرين واجعله بدريا فقال أشيروا علي برجل فقال عبد الرحمن بن عوف قد وجدته قال من هو قال سعد بن أبي وقاص قال هو لها فكتب عمر إلى المثنى لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكتب إلى جرير والمثنى إني موجه سعدا إليكما فاسمعا له وأطيعا


وذكر الطبري وغيره في هذا الموضع من تحرك عمر رضي الله عنه للخروج إلى العراق بنفسه واستدعائه وجوه المهاجرين والأنصار للمشورة عليه فيه بعد أن خرج بذلك الرسم فنزل صرارا وقدم بين يديه طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص وخلف بالمدينة علي بن أبي طالب واليا عليها وإشارة أولى الرأي عليه بالرجوع إلى المدينة والاستخلاف على ذلك الوجه واستنفار العرب له ما قد فرغنا من ذكره في صدر وقعة البويب من خبر الجسر حيث ذكره المدائني ولعل ذلك الموضع أولى به فإن يكن كذلك فقد ذكرناه حيث ينبغي وإن يكن موضعه هذا فقد نبهنا عليه ليعرف ما وقع فيه من الاختلاف بين المؤلفين في هذا الشأن بحسب ما تأدي إليهم من جهة النقل والأمر في ذلك قريب والاختلاف في المنقولات غير مستنكر والله تعالى أعلم
وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه استعمل سعد بن أبي وقاص على صدقات هوازن بنجد فأقره عمر عليها فلما أتاه اجتماع فارس وقيام يزدجرد في قول من جعل قيامه بعد وقعة البويب خلافا لما ذكره المدائني وآخرون معه من قيامه قبل ذلك حسب ما قدمناه كتب عمر إلى المسلمين بما عملوا به قبل انتهاء كتابه إليهم من الوقوف على حدود أرضهم وأن يستخرجوا كل دبي سلاح وفرس ممن له رأي ونجدة فيضموه إليهم حتى يأتيهم أمره وكتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجه إلى الحج يأمرهم أيضا بانتخاب الناس أولى الخيل والسلاح والنجدة والرأي ويستعجلهم في توجيههم إليه وكتب بمثل ذلك إلى سعد بن أبي وقاص فجاءه كتاب سعد
إني قد انتخبت لك ألف فارس مرد كلهم له نجدة ورأي يحوط حريم قومه ويمنع زمارهم إليهم انتهت أحسابهم وآراؤهم فشأنك بهم


فوافق وصول كتاب سعد بهذا مشاورة عمر الناس في رجل يوجهه إلى العراق فقالوا قد وجدته قال من قالوا الأسد عاديا سعد بن مالك فانتهى إلى رأيهم وأرسل إليه فقدم عليه فأمره على حرب العراق وأوصاه فقال يا سعد سعد بني وهيب عليك بتقوى الله فإن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن ولا يغرنك أن يقال صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فإن الله عز وجل ليس بينه وبين احد سبب إلا طاعته فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعاقبة ويدركون ما عنده بالطاعة ألم تسمع لقول الله تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله خير منها ( 84 القصص ) و من جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ( 90 النمل ) وقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مذ بعثه الله حتى قبضه إليه فالزم ما رأيته عليه وإني موجهك إلى أرض فارس فسر على بركة الله فقد استعملنك على من مررت به من القبائل ممن سقط إليكم من العرب فاندبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه واعلمهم ما أعد الله لأهله فمن تبعك منهم فأحسن إليه وارفق بهم واجعل كل قبيلة على منزلها ومن لم يبلغ أن تستنفره بمن معه من قبيلة فاجعله مع من أحب وانزل فيدا حتى يأتيك أمري
وفي رواية أنه قال لما أراد أن يسرحه
إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق فعود نفسك ومن معك الخير واستفتح به واعلم أن لكل عادة عتادا وعتاد الخير الصبر فالصبر الصبر تجتمع لك به خشية الله تجتمع لك في أمرين في طاعته واجتناب معصيته وإنما أطاعه من أطاعه بحب الآخرة وبغض الدنيا وعصاه من عصاه بحب الدنيا


وبغض الآخرة وللقلوب حقائق ينشئها الله عز وجل انشاء منها السر والعلانية فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه وبمحبة الناس إليه فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم وإن الله تعالى إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه وإذا أبغض عبدا بغضه إليهم فاعتبر منزلتك عند الله عز وجل بمنزلتك عند الناس ممن يسرع معك في أمرك
وذكر المدائني أن عمر رضي الله عنه كتب لسعد مع ما أوصاه به عهدا يقول له فيه
أوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده فادع الناس إلى الله فمن أجابك فهو أولى بماله وأهله وولده وليس لك منه إلا زاد بلاغ إن احتجت وعظ نفسك وأصحابك ولا تكثر عليهم فيملوا واجعلهم رفقاء أخوانا وألن لهم جناحك وحطهم بنفسك كنفسك واعلم أن المسلمين في جوار الله وأن المسلم أعظم الخلق عند الله حرمة ولا يطلبنك الله بخفرته في أحد منهم واحذر عليهم واحفظ قاصيتهم وعد مريضهم وانصف مظلومهم وخذ لضعيفهم من قويهم واصلح بينهم وألزمهم القرآن وخوفهم بالله وآمنهم من ذكر الجاهلية وما كان فيها فإنها تورث الضغينة وتذكرهم الدخول واعلم أن الله قد توكل من هذا الأمر بما لا خلف فيه فاحذر أن يصرف الله ذلك عنك بذنب ويستبدل بكم غيركم واحذر من الله ما حذركم من نفسه فإنك تجد ما قدمت يداك من خير محضرا وما علمت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا
ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين فخرج سعد بن أبي وقاص من المدينة قاصدا للعراق في أربعة آلاف ثلاثة آلاف من أهل اليمن والسراة وألف من سائر الناس
قالوا وشيعهم عمر رحمه الله من صرار إلى الأعواص ثم قام في الناس خطيبا فقال


إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال وصرف لكم القول ليحيي بذلك القلوب فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله تعالى من علم شيئا فلينتفع به وإن للعدل أمارات وتباشير فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين وأما التباشير فالرحمة وقد جعل الله لكل أمر باب بابا ويسر لكل باب مفتاحا فمتاحل فباب العدل الإعتبار ومفتاحه الزهد والإعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات والاستعداد له بتقديم الأعمال والزهد أخذ الحق إلى كل أحد له حق ولا يصانع في ذلك أحدا ويكتفي بما يكفيه من الكفاف فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء إني بينكم وبين الله وليس بيني وبين الله أحد وإن الله عز وجل قد ألزمني دفع الدعاء عنه فأنهوا شكاتكم إلينا فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع
فسار سعد في عام غيداق خصيب حتى نزل فيدا فأقام بها أشهرا وجعل عمر لا يأتيه أحد من العرب إلا وجهه إليه ثم كتب إليه أن يرتفع بالناس إلى زرود فاتاها وأقام بها واتاه من حولها من بني تميم من حنظلة وأتته سعد والرباب وعمرو فكان ممن أتاه عطارد ولبيد بن عطارد والزبرقان ابن بدر وحنظلة بن ربيعة الأسدي وربعي أبو شبيب بن ربعي الرياحي وهلال ابن علقمة التميمي والمنذر بن حسان الضبي فقالت رؤساء حنظلة يا بني تميم قد نزل بكم الناس وهم قبائل الحجاز واليمن وأهل العالية وقد لزمكم قراهم فشاطروهم الرسل ففعلوا فمن كان له منحتان قصر إحداهما عليهم ومن كان له أكثر فعلى حساب ذلك فقروهم شتوة بزورود


وكان عمر أمد سعدا بعد خرجه فيما ذكر سيف عن أشياخه بألفي يماني وألفي نجدي مرد من غطفان وسائر الناس فنزلوا معه زرود في أول الشتاء وتفرقوا فيما حولها وأقام سعد ينتظر اجتماع الناس وأمر عمر وانتخب من بني تميم والرباب أربعة آلاف منهم ألف من الرباب وانتخب من بني أسد ثلاثة آلاف وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة فأقاموا هنالك بين سعد بن أبي وقاص وبين المثنى بن حارثة والمثنى بذي قار ويقال بأليس وقال بعضهم بشراف وجرير ومن معه من أخلاط الناس متفرقون فيما بين العذيب إلى خصي ويقال غضي
وكان المثنى في ثمانية آلاف من ربيعة منهم ستة آلاف من بكر بن وائل وألفان من سائر ربيعة منهم أربعة آلاف ممن كان المثنى انتخبه بعد فصول خالد عنه إلى الشام وأربعة آلاف كانوا معه ممن بقي يوم الجسر وكان معه من أهل اليمن ألفان من بجيلة وألفان من قضاعة وطيء ممن انتخب إلى ما كان قبل ذلك على طيء عدي بن حاتم وعلى قضاعة عمرو بن وبرة وعلى بجيلة جرير بن عبد الله فبينا الناس كذلك سعد يرجوا أن يقدم عليه المثنى والمثنى يرجو أن يقدم عليه سعد انتقضت بالمثنى جراحاته التي كان أصيب بها يوم الجسر فمات رحمه الله ولما أحس بالموت استخلف على الناس بشير بن الخصاصية وكتب إلى سعد
كتبت إليك وأنا لا أراني إلا لما بي فإن اهلك أو أسلم فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وان الجنة مأوى المتقين وأن النار مثوى الكافرين ولا أخال العجم إلا سيجمعون على حربك فهم لاقوك بجمع لم يلقونا بمثله وقد أراني الله إن كان قضى بينك وبينهم حربا أن تقاتلهم على أدنى حجر من بلادك على حد أرضهم فإن ظفرتم فلكم ما وراءهم وإن كانت
الأخرى ولا أراها الله المسلمين كنتم أعلم بسبيلكم وأجرأ على طريقكم وأجرأ على أرضكم وانحزتم إلى فئتكم إلى أن يرد الله لكم الكرة عليهم


وكان مع بشير بن الخصاصية عندما استخلفه المثنى وجوه أهل العراق ومع سعد وجوه أهل العراق الذين قدموا على عمر رحمه الله فيهم فرات بن حيان العجلي وعتيبة بن النهاس فردهم مع سعد
فمن أجل ذلك اختلف الناس في عدد أهل القادسية فمن قال هم أربعة آلاف فلمخرجهم مع سعد من المدينة ومن قال ثمانية آلاف فلاجتماعهم بزرود ومن قال تسعة آلاف فللحاق القيسيين ومن قال اثنا عشر ألفا فلدفوف بني أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف وقدم عليه بعد ذلك ناس كثير مع الأشعث بن قيس وغيره
قالوا فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا
وكتب سعد إلى عمر رحمه الله بموت المثنى فكتب إليه أن سر حتى تنزل بشراف وأحذر على من معك من المسلمين وعليك بالإصلاح ما استطعت
فارتحل سعد عن زرود ومعه تميم وقيس واليمن وغيرهم وفيهم رجالة فحمل بنو تميم ضعفاءهم حتى قدموا شراف فنزلها فاتاهم بشير بن الخصاصية وجرير ومن كان معه بفروع الحزن وقدم عليه المعنى بن حارثة أخو المثنى وقدمت معه زوج المثنى سلمى بنت خصفة من بني تيم اللات بوصيته إلى سعد وكان قد أوصى بها وأمرهم أن يعجلوها عليه بزرود فلم يفرغوا لذلك وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر إلى أن انقضى ذلك كما نذكره بعد عند ذكر مقتل قابوس على ما ذكره المدائني فقدم حينئذ المعنى وسلمى على سعد بوصية المثنى ورأيه فترحم عليه سعد عندم تانتهى ذلك إليه وأمر أخاه المعنى على عمله وأوصى بأهل بيته خيرا وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها وبنى مسجدا
بشراف فقال بعض التميميين يذكر نفيرهم إلى سعد وقراهم له وحملانهم
فنفرنا إليهم باحتساب
لم نعرج ولم نذق تغميضا
وقريناهم ربيعا من الرسل
حقينا مثملا وغريضا
وحملنا رجالهم من زرود
إذ تعايوا فلم يطيقوا النهوضا
الخفيف


وكتب سعد إلى عمر حين نزل شراف يخبره بمكانه فقال لأرمين فارس وابناءها بالمهاجرين وأبناء المهاجرين فوجه ألفا ومائة منهم ممن شهد بدرا نيف وأربعون رجلا وسائرهم ممن شهد بيعة الرضوان إلى الفتح وحضهم عمر رحمه الله فقال إن أحب عباد الله إلى الله وأعظمهم عنده منزلة أتقاهم له وأشدهم منه رجلا فعليكم بتقوى الله والإصلاح ما استطعتم وما التوفيق إلا بالله الزموا الطاعة يجمع الله لكم ما تحبون من دينكم ودنياكم واوفوا بالعهد لمن عاهدتم وإياكم والغدر والغلول فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ومن غدر أدال الله منه عدوه ووهن كيده فافهموا ما توعظون به واعقلوا على الله أمره ولا تكونوا كالجفاة الجاهلية
وعن سيف أن عمر رحمه الله قال والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب فلم يدع رئيسا ولاذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به فرماهم بوجوه الناس وغررهم
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة وهو بالشام أن يمد سعدا بمن كان عنده من أهل العراق وكانوا ستة آلاف ومن اشتهى أن يلحق بهم وكتب إلى المغيرة بن شعبة أن يسير إلى سعد من البصرة وكتب إلى سعد بمثل رأي المثنى الذي أشار به على سعد
أما بعد فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين وتوكل على


الله واستعن به على أمرك كله واعلم أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة وبأسهم شديد وعلى بلد وإن كان سهلا كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه فإذا لقيتم القوم أو أحد منهم فابدءوهم الضرب والشد وإياكم والمناظرة لجموعهم ولا يخدعنكم فإنهم خدعة مكرة أمركم غير أمرهم إلا أن تجادوهم فإذا انتهيت إلى القادسية والقادسية باب فارس في الجاهلية وهي أجمع تلك الأبواب لما تريد ويريدون وهو منزل رحيب خصيب حصين دونه قناطر وانهار ممتنعة فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر على أقصى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم ثم الزم مكانك فلا تبرحه فإنهم إذا أحسوك أنقضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم بقتالهم رجوت أن تنصروا عليهم ثم لا يجمع لكم مثلهم أبدا إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم وان تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى ادنى حجر من أرضكم ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم وكانوا عنها اجبن وبها أجهل حتى يأتيكم الله بالفتح ويرد لكم الكرة وليكن منزلك الذي تنزله رحيبا خصيبا وإذا نزلت منزلا فلا تستاخر عنه فإن ذلك وهن عليك وجرأة لعدوك وأذك العيون واتبع الغرض ولا تأمنن قريبا ولا بعيدا وصف لي منزلك الذي تنزله وكم بينك وبين أول عدوك وآخره وكيف مأتاهم وسم لي المنزل فإنه قد ألقى في روعي أنكم ستفتحون فارس وأنكم الأعلون
وفي رواية أنه كتب إليه باليوم الذي يرتحل فيه من شراف وأين ينزل بالناس فيما بين عذيب والهجانات وعذيب والقوادس وأن يشرق بالناس ويغرب بهم فارتحل سعد عن شراف يريد ان ينزل منزلا على ما كتب به إليه عمر فانتهى إلى المغيثة فأقام وبنى مسجدا بين الفرعاء والمغيثة وقدم بين


يديه زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الجوية يرتاد له منزلا فأقبل زهرة حتى انتهى إلى العذيب وكتب إلى سعد فأقبل في أثره فنزل المسلمون ما بين العذيب إلى القادسية وهي أحساء فقال في ذلك النعمان بن مقرن المزني وتروى لغيره
نزلنا بأحساء العذيب ولم تكن
لنا همة إلا إختيار المنازل
لنحوي أرضا أو نناهب غارة
يضج لها ما بين بصرى وبابل
الطويل
ونزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس وهي يومئذ أسفل منها بميل وكتب سعد إلى عمر إنا نزلنا من القادسية والعذيب منزلا خصيبا رحيبا على أقصى حجر من أرضنا وأدنى مدرة من أرض عدونا فأما عن يسار القادسية فبحر أخضر لاج إلى الحيرة بين طرفين أما أحدهما فعلى الظهر وأما الآخر فعلى شاطى ء نهر يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة وأما عن يمين القادسية ففيض من فيوض مياههم وبيننا وبين أدنى عدونا منا خمسة عشر ميلا ولم يبلغني من الذي أسندوا إليه أمرهم إلى أن كتبت إليك ومتى يبلغني ذلك أكتب به إليك إن شاء الله ونحن متوكلون على الله راجعون له
ولما بلغ أهل فارس اجتماع العرب لهم وكثرة من انثال على سعد من رؤسائهم ووجوههم عظم ذلك عليهم ورعبهم وزادهم نزولهم القادسية رعبا وضيقا فعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب وأن فعلهم منذ نزلوها لا يبقى عليه شيء وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات فليس هنالك أنيس إلا في الحصون وقد ذهبت الدواب وكل شيء لم تحتمله الحصون من الأطعمة ولم يبق إلا أن يستنزلونا فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف وأعانوهم عليه
ولما كثرت الإستغاثة من أهل السواد على يزدجرد خشعت نفسه واتقى


الحرب برستم فأرسل إليه فدخل عليه فقال إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه وإنما يعد للأمور على قدرها وأنت رجل أهل فارس اليوم وأنت لها وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم منذ ولى آل أردشير
فأراه رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه فقال له الملك قد أحببت أن أنظر فيما لديك لأعلم ما عندك فصف لي العرب وفعلهم وصف لي العجم وما يلقون منهم فقال رستم صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت فقال ليس كذلك إنما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب فافهم عني إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مرقب عند جبل تأوي في ذراة الطير تبيت في أوكارها فإذا أصبحت الطير تجلت فأبصرت العقاب ترقبها فخافتها فلم تنهض وطمعت العقاب فلم ترم وجعلت كلما شذ منها طائر انقضت عليه فاختطفتها حتى أفنتها فلو نهضت بأجمعها نهضة واحدة لنجت وأشد شيء يكون في ذلك أن تنجوا كلها إلا واحدا فهذا مثلهم ومثل الأعاجم فاعمل على قدر ذلك فإني أريد أن أوجه إلى هؤلاء القوم جمعا أستأصلهم به
فسجد له رستم وقال الملك أفضل رأيا وأيمن أمرا وأسعد جدا وإن أذن لي تكلمت
قال قل قال هزيمة جيش بعد جيش أمثل وأبقى من هزيمة الجماعة التي ليس بعدها مثلها فأبى عليه يزدجرد إلا أن يجمع له الناس ويوجهه بهم إلى العرب فقال له رستم أيها الملك دعني فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بي ولعل دولة تكون فيكون الله قد كفى ونكون قد أصبناه المكيدة ورأي الحرب فإن الرأي فيها والمكيدة انفع من بعض الظفر فألح يزدجرد وترك الرأي وكان ضيقا لجوجا وقال لرستم امض حتى يأتيك أمرى فخرج حتى ضرب عسكره بساباط ووجه إليه الملك المرازبة والقواد والأساورة واستحثه


في المسير فأعاد عليه رستم كلامه وقال أيها الملك إن هزيمتي لهم دونها ما بعدها وعليكم دونها ما بعدها ولقد اضطرني تضييع الرأي إلى اعظام نفسي وتزكيتها ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به فأنشدك الله في أهلك ونفسك وملكك دعني أقم بعسكري وأسرج الجالينوس فإن تكن لنا فذاك وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون موفورون فأبى إلا ان يسير
ولما نزل رستم بساباط وجمع أداة الحرب وآلاتها بعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفا وخرج هو في ستين ألفا وساقته في عشرين ألفا وعليها الفيرزان وعلى ميمنته الهرمزان وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي وقال رستم ليشجع الملك إن فتح الله علينا هؤلاء القوم فهو وجهنا إلى ملكهم في داره حتى نشغلهم في أهلهم وبلادهم إلا أن يقبلوا المسالمة ويرضوا بما كانوا يرضون به
وقال سيف عن أشياخه خرج رستم في عشرين ومائة ألف كلهم متبوع فكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف ثم أن رستم رأى رؤيا فكرهها وأحس لها الشر وكره لها الخروج ولقاء القوم واختلف عليه رأيه واضطرب وسأل الملك أن يمضي الجالينوس ويقيم حتى ينظر ما يصنعون وقال إن غناء الجالينوس كغنائي وإن كان اسمي أشد عليهم من اسمه فإن ظفر فهو الذي نريد وإن تكن الأخرى وجهنا مثله ودافعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما فإني لا أزال مرجوا في أهل فارس ما لم أهزم ولا أزال مهيبا في صدور العرب ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم وإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم وانكسر أهل فارس آخر دهرهم
قالوا ولما أبى الملك إلا مسير رستم كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس بلاده من رستم بن البندوان إلى مرزبان الباب وسهم أهل فارس الذي كان يعد لكل عظيمة فيفض الله به الجموع ويفتح به الحصون ومن قبله من عظماء أهل


فارس والمرازبة والأساورة فرموا حصونكم واعدوا واستعدوا فكأنكم بالعرب هذه الأمة الذليلة كانت عندكم الخسيسة المنزلة الضيقة المعيشة قد وردوا بلادكم وقارعوكم على أرضكم وأبنائكم وانتزعوا ما في أيديكم وكان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود نجومنا فأبى الملك
ويقال إن رستم عندما أمره يزدجرد بالنهوض إلى ساباط كتب إلى أخيه بنحو الكتاب الأول وزاد فيه أن السمكة قد كدرت الماء وان النعائم قد حبست وحسنت الزهرة واعتدل الميزان وذهب بهرام ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما قبلنا وأن أشد ما رأيت أن الملك قال لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم بنفسي وأنا سائر إليهم
وكان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى وكان من أهل فرات بادقلي فأرسل إليه وقال ما ترى في مسير رستم وحرب العرب اليوم فخافه على الصدق فكذبه وكان رستم يعلم نحوا من علمه فثقل عليه مسيره لأجل ذلك وخف على الملك لما غره منه وقال الملك للغلام إني أحب أن تخبرني بشيء أراه أطمئن به إلى قولك فقال الغلام لزرنا الهندي أخبره فقال سلني فسأله فقال أيها الملك يقبل طائر فيقع على إيوانك فيقع منه شيء في فيه هاهنا وخط دائرة فقال الغلام صدق والطائر غراب والذي في فيه درهم فيقع منه على هذا المكان
وبلغ جابان ان الملك طلبه فأقبل حتى دخل عليه فسأله عما قال غلامه فحسب فقال صدق ولم يصب إنما الطائر عقعق والذي في فيه درهم فيقع منه على هذا المكان وكذب زرنا يندر الدرهم من هاهنا فيستقر هاهنا ودور دائرة أخرى فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق فسقط منه درهم في الخط الأول فنزا فسقط في الخط الآخر ونافر الهندي جابان حيث
خطاه فأتيا ببقرة نتوج فقال الهندي سخلتها غراء سوداء فقال جابان كذبت بل سوداء صبغاء فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها فإذا ذنبها أبيض وهو بين عينيها فقال جابان من هاهنا أتى وشجعاه على إخراج رستم فامضاه


ولما فصل رستم من ساباط لقيه جابان على القنطرة فشكا إليه فقال ألا ترى ما أرى فقال رستم أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ولابد من الإنقياد وأمر الجالينوس بالتقدم إلى الحيرة فمضى نحوها حتى اضطرب عسكره بالنجف وخرج رستم بعده حيث ينزل بكوثى وأمر الجالينوس عندما قدمه أن يصيب له رجلا من العرب من جند سعد فخرج هو والآزاذمرد مرزبان الحيرة في سرية حتى انتهيا إلى القادسية فأصابا دون قنطرتها رجلا فاختطفاه ونفر الناس فاعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون في أخرياتهم فلما انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم وهو بكوثي فقال له رستم ما جاء بكم وماذا تطلبون قال جئنا نطلب موعود الله عز وجل قال وما موعود الله عز وجل قال أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أنتم أبيتم أن تسلموا قال رستم فإن قتلتم قبل ذلك قال في موعود الله عز وجل من قتل منا قبل ذلك أدخله الله الجنة وانجز لمن بقي منا ما قلت لك فنحن من ذلك على اليقين فقال له رستم قد وضعنا إذا في أيديكم فقال ويحك يا رستم إن أعمالكم وضعتكم فاسلمكم الله بها فلا يغرنك ما ترى حولك فإنك لست تحاول الإنس إنما تحاول القضاء والقدر فاستشاط فأمر به فضربت عنقه رحمه الله
وارتحل رستم من كوثي وكأنه يقاد بزمام حتى إذا كان ببرس أفسد أصحابه وغصبوا الناس أموالهم ووقعوا على نسائهم فضج العلوج إلى رستم وشكوا إليه
ما يلقون من أصحابه فجمع المرازبة والرؤساء فقام فيهم فقال يا معشر أهل فارس والله لقد صدق العربي والله ما أسلمتنا إلا أعمالنا والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم إن الله عز وجل إنما كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بالعدل وحسن السيرة فأما إذ تحولتم عن ذلك فأظهرتم البغي وسارعتم في الفساد فلا ارى الله عز وجل إلا مغيرا ما بكم وما أنا بآمن أن ينزع الله سلطانه منكم فإنه لم يفعل هذا قوم إلا نزع عنهم النصر وسلط عليهم العدو


ثم بعث الرجال فلقطوا بعض الذين شكوا فضربت اعناقهم ثم نادى في الناس بالرحيل فسار حتى نزل بجبال دير الأعور ودعا أهل الحيرة وسرادقه إلى جنب الدير فأوعدهم وهم بهم وقال يا أعداء الله فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا وكنتم عيونا لهم علينا واعنتموهم بالأموال فاتقوا بابن بقيلة وقالوا له كن أنت الذي تكلمه فتقدم إليه ابن بقيلة فقال له لا تجمع علينا أمرين العجز عن نصرنا واللائمة لنا في الدفع عن أنفسنا وبلادنا أما قولك أنا فرحنا بمجيئهم وبأي ذلك من أمرهم نفرح إنهم يزعمون أنا عبيد لهم وما هم على ديننا وأنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار وأما قولك أنا كنا لهم عيونا فما احتاجوا إلى العيون لقد ترك أصحابك البلاد حتى كانت خيولهم تذهب حيث شاءت وأما أعانتهم بالأموال فإنا صانعناهم بها إذ لم تمنعونا مخافة أن نسى ونخرب وتقتل مقاتلتنا وقد عجز عنهم من لقيهم منكم فكنا نحن اعجز منهم ولعمري لأنتم أحب إلينا منهم فامنعونا نكن لكم فإنما نحن بمنزلة علوج السواد عبيد من غلبنا فقال لهم رستم صدقكم الرجل
قال الرفيل ورأى رستم بالدير أن ملكا هبط من السماء حتى دخل عسكر فارس فاخذ سلاحهم فختم عليها ثم رفعها فأصبح كئيبا وقد أيقن أن ملكهم قد ذهب ثم ارتحل حتى نزل النجف فعادت عليه الرؤيا فرأى ذلك الملك ومعه النبي {صلى الله عليه وسلم} وعمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ثم دفعه إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فدفعه النبي {صلى الله عليه وسلم} إلى
عمر فأصبح رستم وقد ازداد جزعا فلما رأى الرفيل ذلك رغبه في الإسلام فأسلم وما كان داعيته إليه إلا ذلك


وكان رستم قد أرسل إلى قابوس بن المنذر وقال بعضهم ابن النعمان بن المنذر اكفنا ما كانت آباؤك تكفينا من العرب وعقد له على أربعة آلاف وقدمه إلى العذيب فلما قدم سعد بن أبي وقاص بين يديه زهرة بن الجوية يرتاد له منزلا قدم زهرة أمامه بكر بن عبد الله الكناني وقال بعضهم عبد الله بن بكير فانتهى إلى العذيب ووافاه زهرة هنالك فطرقوا قابوس بياتا في حصن العذيب فقتلوه وتفرق أصحابه منهزمين حتى وصلوا إلى رستم هكذا ذكر المدائني
وفي كتاب سيف أن الآزادمرد بن الأزاذبة هو الذي بعث قابوس إلى القادسية وقال له ادع العرب فأنت على من أجابك وكن كما كان آباؤك فلما نزل القادسية كاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعدا فلما انتهى خبره إلى المعنى بن حارثة أسرى من ذي قار حتى بيته فأنامه ومن معه ثم رجع فخرج إلى سعد بن أبي وقاص بزوجة المثنى ووصيته وهذا الوجه الذي خرج إليه هو الذي شغله عن تعجيل القدوم على سعد بوصية أخيه حسب ما ذكرناه قبل
وعن كريب بن أبي كرب العكلي وكان في المقدمات أيام القادسية قال قدمنا سعد من شراف فنزلنا في عذيب الهجانات ثم ارتحل فلما نزل علينا وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بن الجوية في المقدمات فلما رفع لنا العذيب وكانت من مسالحهم استبنا على بروجه ناسا فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلا أو بين شرفتين إلا رأيناه وكنا في سرعان الخيل فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلا ثم أقدمنا على


العذيب فلما دنونا منه خرج منه رجل يركض نحو القادسية فانتهينا إليه فدخلنا فإذا ليس فيه أحد وإذا ذلك الرجل هو الذي تراءى لنا على البروج وبين الشرف مكيدة ثم انطلق بخبرنا فطلبناه فاعجزنا وسمع بذلك زهرة فلحق بنا وخلفنا وأتبعه وقال إن أفلت الذي أتاهم الخبر فلحق بالخندق فطعنه فجد له فيه وكان أهل القادسية يعجبون من شجاعة ذلك الرجل وعلمه بالحرب ولم تر عين قط اثبت منه ولا أربط جأشا لولا بعد غايته لم يلحق به زهرة ووجد المسلمون رماحا ونشابا وأسفاطا من جلود وغيرها انتفع المسلمون بها
ولما أمسى زهرة بن الجوية بعث سرية في جوف الليل وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثي وكانوا ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس وفيهم الشماخ القيسي الشاعر وأمرهم بالغارة على الحيرة فساروا حتى جازوا السيلحين وقطعوا جسرها يريدون الحيرة فسمعوا جلبة فأحجموا عن الإقدام وأقاموا كمينا حتى يتبينوا فما زالوا كذلك حتى جازت بهم خيول تقدم تلك الغوغاء فتركوها فنفذت لطريق الصين وإذا هم لم يشعروا بهم وإنما ينتظرون ذلك العين الذي قتله زهرة وإذا أخت الآزاذمرد مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصين وكان من أشراف العجم وتلك الخيل تبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا فلما انقطعت الخيل عن الزواف والمسلمين كمين في النخل وحاذت بهم الأثقال حمل بكير على شيراز بن الأزاذبة أخي الآزاذمرد وهو بين أخته وبين الخيل فقصم بكير صلبه وطارت الخيل على وجوهها وأخذوا الأثقال وابنة الآزاذبة في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة امرأة من التوابع ومعهم ما لا يدري قيمته ثم عاج واستاق ذلك كله فصبح سعدا


بعذيب الهجانات بما أفاء الله عز وجل على المسلمين فكبروا تكبيرة شديدة فقال سعد أقسم بالله لقد كبروا تكبيرة عرفت فيها العز فقسم ذلك سعد على المسلمين ونفل من الخمس وأعطى المجاهدين بقيتة فوقع منهم موقعا ووضع سعد بالعذيب خيلا تحوط الحريم وانضم إليها حاطة كل حريم وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي ونزل سعد القادسية فنزل في قديس ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم وكتب سعد إلى عمر رحمه الله يعلمه بقتل الآزاذبة على يدي بكير بن عبد الله وقال فيما كتب به إليه
وأنا مقيم بالقادسية على أمرك ومنزلنا خصيب الجناب ونحن ننتصف فيه من عدوان نزل بنا في الخصب ننال من ذلك أفضل الذي نريد وهو يوم كتبت لك مباح لنا لايدفعوننا عنه إلا بالاعتصام بمعاقلهم ولن يزال عندك منا كتاب بما يحدث إن شاء الله
فأقام سعد شهرا ثم كتب بمثلها إلى عمر رحمهما الله نحن وعدونا على ما كتبت إليك لم يوجهوا إلينا أحدا ولا أسندوا حربا إلى أحد علمناه ومتى يبلغنا ذلك نكتب به فاستنصروا الله لنا فإنا بمنحاة دنيا عريضة دونها بأس شديد وقد تقدم الله إلينا في الدعاء إليهم فقال تعالى ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد ( 16 الفتح )
فكتب إليه عمر أما بعد فإن أبا بكر رحمه الله كان رشيدا موفقا محفوظا معانا أكرمه الله وأعانه حتى قبضه إليه راضيا مرضيا عنه وقد ابتلينا بالذي ولينا مما لاطاقة لنا بحفظه والقيام عليه إلا بتحنن القوى ذي العزة والعظمة وقد علمت ان فارس ستقبل إليك بمرازبتها وبأسها وعددها فأياك والمناظرة لجموعهم والقادسية على ما وصفت لي منزل جامع والجد الجد على الذي أنت عليه واكتب إلي بجمعهم الذي زحفوا إليك به ومن رأسهم الذي يسندون إليه أمرهم وكم بين ادنى عدوك منك وبين ملكهم واجعلني من أمرهم


على الجلية فإنك بحمد الله على أمر الله وليه وناصره والله ناصر من نصره وقد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له والله متم أمره ومن يرد الله به صلاحا يلهمه رشده فيما أعطاه ويبصره الشكر لنعمته والعمل بطاعته والعرفان لأداء حقوقه ومن يكن بتلك المنزلة يعنه الله على حسن نيته ويعطه أفضل رغبته وإنما يستوجب كرامة الله بتمام نعمته من عصم له دينه وإنما يصلح الله النية لمن رغب فيما عنده وأذعن لطاعة ربه وإن منازل عباد الله عنده على نياتهم فاكثر ذكر الله وكن منه على الذي رغبك إليه وفيه فإن في ذلك رواحا للمستريح ونجاحا تجد فيه غدا نفع ما قدمت فإنك ممن أرغب له في الخير ويعنيني أمره للمكان الذي أنت فيه من عدو الإسلام نسأل الله لنا ولك إيمانا صادقا وعملا زاكيا
فكتب إليه سعد وقد علم بأن رستم هو الذي تعين لحرب العرب وقود جيوش فارس وانه قد زحف إلى المسلمين ودنا منهم إذ كان سعد وجه عيونا إلى الحيرة فرجعوا إليه بالخبر فكتب به فيما أجاب به عمر رضي الله عنهما
أتاني كتابك بما ذكرت من أبي بكر رحمة الله عليه ولم يكن أحد يذكر من أبي بكر شيئا إلا وقد كان أفضل من ذلك فبواه الله غرف الجنة وعرف بيننا وبينه وإنك عامل من عمال الله فاستعن بالله وشمر وليس شيء أهم عندي ولا أنا أكثر ذكرا لما نحب أن نكون عليه من الذي أمرتنا به والله ولي العون على ذلك وقد قدم علينا عظيم من عظمائهم يقال له رستم بالخيل والفيول والعدد والعدة والقوة فيما يرى الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله وبيننا وبينه خمسة عشر ميلا وبينه وبين ابن كسرى بأبيض المدائن نيف على ثلاثين فرسخا ولنا من عدونا النصف إن شاء الله ولن يزال منا عندك كتاب يخبرنا إن شاء الله فاستنصروا الله لنا بالدعاء والتضرع خفية وجهرا فإن الله يعطي من سعة ويأخذ بقدرة ويفعل ما يشاء
وكان عمر رحمه الله قد أمر بموالاة الكتب إليه بكل شيء فكان سعد
يكتب إليه في كل يوم
وكتب إليه عمر


أتاني كتابك تذكر مكان عدوك ونزولك حيث نزلت ومسافة ما بينك وبين ابن كسرى وانه من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام فأرسل إلى ابن كسرى من يدعوه إلى الإيمان أو إعطاء الجزية أو الحرب فإن أسلم عليه ما عليكم وإن اختار أعطاء الجزية ولم يسلم فله ما كسب وعليه ما اكتسب وقد حقن دمه وأحرز أرضه ولا سبيل عليه إلا في حق عليه فإن أبى الإسلام واعطاء الجزية فلا يعظم عندك حربه ولا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتوك به فاستعن بالله واستنصره وتوكل عليه وإذا لقيت عدوك فقدم أهل البأس والنجدة في غير إهانة لهم ولا تغرير بهم وعليكم بالصبر فإنه ينزل النصر فإذا ظهرت فأكثر القتل في دبر المشركين واقتل المقاتلة واستبق النساء والصبيان ثم لا تتركن أحدا من العدو وراءك وإن اعطوك الصلح فلا تصالح إلا على الجلاء إلا أن تترك فيها من لا كيد له ولا نكاية وأحط بأمري وخذ بعهدي
وفي رواية انه قال له فيما كتب به إليه وابعث أليهم رجالا من أهل المنظر والرأي والجلد يدعونهم فإن الله عز وجل جاعل دعاءهم توهينا لهم وفلجا عليهم
ولما انتهى إلى سعد أمر عمر رضي الله عنه بالتوجه إلى يزدجرد جمع نفرا لهم نجار ولهم آراء ونفرا لهم منظر وعليهم مهابة
فأما الذين لهم نجار ولهم آراء واجتهاد فالنعمان بن مقرن وبسر بن أبي رهم وجبلة بن جوية الكناني وحنظلة بن الربيع الأسدي وفرات بن حيان العجلي وعدي بن سهيل والمغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب
وأما الذين لهم منظر لأجسامهم وعليهم مهابة ولهم آراء فعطارد بن حاجب والأشعث بن قيس والحارث بن حسان وعاصم بن عمرو وعمرو
ابن معدي كرب وغيرهم ممن سماه سيف في كتابه
وخالفه المدائني في بعضهم فلم يذكرهم وذكر معهم ممن لم يذكره سيف طليحة بن خويلد وزهرة بن جوية ولبيد بن عطارد وشرحبيل بن السمط
قال المدائني فاتوا الحيرة فأرسل إليهم رستم أين تريدون قالوا نريد ابن كسرى فأرسل معهم أساورة فجوزوهم إلى المدائن فوقفوا ببابه


وقال سيف إنهم طووا رستم حتى انتهوا إلى باب يزدجرد فوقفوا على خيول عراب معهم جنائب وكلها صهال فاستأذنوا فحبسوا وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه ليستشيرهم فيما يصنع بهم ويقول لهم وسمع بهم الناس فحضروهم وهم ينظرون إليهم وعليهم المقطعات والبرود وفي أيديهم سياط رقاق وفي أرجلهم النعال فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فدخلوا عليه
قال بعض من حضر هذا اليوم ممن سبي في القادسية ثم حسن إسلامه لما كان هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب على يزدجرد ثاب إليهم الناس ينظرون إليهم فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم وخيلهم تخبط ويوغر بعضها بعضا وجعل اهل فارس يسؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس وكان سيء الأدب فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن قال لترجمانه سلهم ما يسمون هذه الأردية فسأل النعمان بن مقرن وكان على الوفد ما تسمى رداءك قال البرد قال فتطير لموافقة هذا الاسم اسم شيء متطير به عندهم وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم ثم قال سلهم عن أحذيتهم فسأله فقال النعال فتطير أيضا لمثل ذلك ثم سأله عن الذي في يده فقال سوط والسوط بالفارسية الحريق فقال احرقوا فارس أحرقهم الله وكان تطيره على أهل فارس ثم قال لترجمانه سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا أمن أجل انا أجممناكم وتشاغلنا عنكم اجترأتم علينا فقال لهم النعمان بن مقرن إن شئتم أجبت


عنكم ومن شاء آثرته قالوا بل تكلم وقالوا للملك كلام هذا الرجل كلامنا فتكلم النعمان فقال إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به ويعرفنا الشر وينهانا عنه ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة فلم يدع لذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم ففعل فدخلوا معه جميعا على وجهين مكره عليه فاغتبط وطائع أتاه فازداد فعرفنا جميعا فضل ما جاءنا به على ما كنا عليه من العداوة والضيق ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف فنحن ندعوهم إلى ديننا وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون ما آخر شر منه الجزاء فإن أبيتم فالمناجزة فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه وعلى أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم فإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا منكم ومنعناكم وإلا قاتلناكم
قال فتكلم يزدجرد فقال إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا نغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم
فأسكت القوم فقام المغيرة بن زرارة النباش الأسدي فقال أيها الملك إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم وهم أشراف يستحيون من الأشراف وإنما يكرم الأشراف الأشراف ويعظم حقوق الأشراف الأشراف وتفخم الأشراف الأشراف وليس كل ما ارسلوا به جمعوه لك ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه وقد احسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك فجاوبني لأكون الذي


أبلغك ويشهدون على ذلك انك قد وصفتنا فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أحد أسوأ حالا منا وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعاما وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ولا نلبس إلا ما غزلنا من اوبار الإبل وأشعار الغنم ديننا أن يقتل بعضنا بعضا ويغير بعضنا على بعض فإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا فكانت حالتنا قبل اليوم على ما ذكرت لك وبعث الله إلينا رجلا معروفا نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده فأرضه خير أرضنا وحسبه خير احسابنا وبيته اعظم بيوتنا وقبيلته خير قبائلنا وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا واجملنا فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب له كان الخليفة من بعده فقال وقلنا وصدق وكذبنا وزاد ونقضنا فلم يقل شيئا إلا كان فقذف الله في قلوبنا اتباعه والتصديق له فصار فيما بيننا وبين رب العالمين فما قال لنا فهو قول الله وما امرنا به فهو أمر الله فقال لنا إن ربكم يقول إني أنا الله وحدي لا شريك لي كنت إذ لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهي وأنا خلقت كل شيء وإلي مصير كل شيء وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي ولأحلكم داري دار السلام فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الله وقال من تابعكم على هذا فله مالكم وعليه ما عليكم ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوهم مما تمنعون منه أنفسكم ومن أبى فقاتلوه فأنا الحكم بينكم فمن قتل منكم أدخلته الجنة ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر وأن شئت فالسيف او تسلم فتنجوا بنفسك فقال أتستقبلني بمثل هذا فقال ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به فقال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم لا شيء لكم عندي وقال ائتوني بوقر


من تراب واحملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن ارجعوا إلى صاحبكم واعلموه أني مرسل إليهم رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية ومنكل به وبكم من بعده ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور
ثم قال من أشرفكم فسكت القوم فقال عاصم بن عمرو أراد لناخذ التراب أنا أشرفهم أنا سيد هؤلاء فحملنيه قال أكذلك قالوا نعم فحمله على عنقه فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها فقال له أصحابه حملت ترابا قال نعم الفأل قد أمكنكم الله من أرضهم فلم يزل معه حتى قدم به على سعد فاخبره الخبر فقال سعد أبشروا فقد والله اعطانا الله أقاليد ملكهم وجعل المسلمون يزدادون في كل يوم قوة ويزداد عدوهم في كل يوم وهنا واشتد على جلساء الملك ما صنع وما صنع المسلمون من قبول التراب وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم وكيف رآهم فقال الملك ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا علي والله ما أنتم بأعقل منهم ولا احسن جوابا واخبره بكلام متكلمهم وقال لقد صدقني القوم لقد وعدوا أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه على أني وجدت أفضلهم أحمقهم لما ذكروا الجزية اعطيته ترابا يحمله على رأسه فخرج به ولو شاء اتقى بغيره وأنا لا أعلم
قال أيها الملك اخذ التراب أعقلهم وما أخذه إلا تطيرا وأبصرها دون أصحابه وخرج رستم من عنده كئيبا غضبان فبعث في أثر الوفد وقال لبعثه أن ادركتموهم تلا فينا أرضنا وإن اعجزوكم سلبكم الله أرضكم فرجع إليه من كان وجه أثرهم من الحيرة فأعلمه بفواتهم فقال ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك ما كان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظا واغار بعد ما خرج الوفد إلى يزدجرد إلى أن جاءوا صيادين قد اصطادوا سمكا وسار سواد بن مالك التميمي إلى


النجاد والفراض إلى جنبها فاستاق ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور فاوقروها سمكا واستاقوها فصبحوا بها العسكر فقسم سعد السمك بين الناس وقسم الدواب ونفل الخمس إلا ما رد منه على المجاهدين وأسهم على السبي وهذا يوم الحيتان وكان الآزاذمرد الازاذبة قد خرج في الطلب فعطف عليه سواد وفوارس معه فقاتلهم على قنطرة السيلحين حتى عرفوا أن قد نجت الغنيمة ثم أتبعوها حتى أبلغوها المسلمين وكانوا إنما يقرمون إلى اللحم وأما الحنطة والشعير والتمر فكانوا قد اكتسبوا منه ما اكتفوا به لو أقاموا زمانا فكانت السرايا إنما تسري للحوم ويسمون أيامها بها كيوم الأباقر ويوم الحيتان وخرج أيضا مالك بن ربيعة بن خالد من تيم الرباب ومعه المسافر بن النعمان التميمي في سرية اخرى فأغاروا على الفيوم فأصابوا أبلا لبني تغلب والنمر فشلوها ومن فيها فغدوا بها على سعد فنحرت الإبل في الناس واخصبوا
ولما كتب سعد إلى عمر رحمه الله يخبره بأمر ابن كسرى واعداده للمصادمة وان من كان صالح المسلمين من أهل السواد قد صاروا إلبا عليهم لأهل فارس قال وأمر الله بعد ماض وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية كتب إليه عند ذلك عمر رحمه الله
قد جاءني كتابك وفهمته فاقم مكانك حتى ينغض الله لك عدوك واعلم أن لها ما بعدها فإن منحك الله أدبارهم فلا ينزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله
وجعل عمر يدعوا لسعد خاصة وللمسلمين عامة ويدعون له معهم
وفيما ذكر سيف عن رجاله قالوا كان بين خروج رستم من المدائن وعسكرته بساباط وزحفه عنها إلى أن لقي سعدا أربعة أشهر لايقدم ولايقاتل رجاء أن يضجروا بمكانهم وان يجهدوا فينصرفوا وكان يكره القتال مخافة أن يلقى ما لقي من قبله ويحب المطاولة له لولا أن الملك جعل يستعجله وينهضه ويقدمه حتى أقحمه
وكتب عمر رضي الله عنه إلى سعد


إنه قد ألقى في روعي أنكم إذا لقيتم العدو وهزمتموهم فاطرحوا الشك وآثروا عليه اليقين فمن لاحن منكم أحدا من العجم بامان بإشارة أو بلسان ولا يدري الأعجمي ما كلمتموه به وكان عندهم أمانا فاجروا ذلك مجرى الأمان وآثروا اليقين والنية على الشك وإياكم والمحك وعليكم بالوفاء فإن الخطأ مع الوفاء له بقية والخطأ بالغدر هلكة وفيها وهنكم وقوة عدوكم وذهاب ريحكم وإقبال ريحهم وإياكم أن تكونوا شينا على المسلمين وسببا لتوهينهم
وكتب إليه سعد يستمده فكتب إليه عمر
أتستمدني وأنت في عشرة آلاف ومعك مالك بن عوف وحنظلة بن ربيعة وطليحة بن خويلد وعمرو بن معدى كرب في أمثالهم من فرسان العرب ومن معك من أهل الحسبة والرغبة في الجهاد فتوكل على الله واستعنه وناهض عدوك ولا تهيب الناس واستفتحوا بحسن النية والحسبة والزهد في الدنيا والإنصاف والصبر الصبر والصدق الصدق فإن النصر ينزل مع الصبر
والأجر على قدر الحسبة واحذر على المسلمين وتحرز من البيات واكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله واندب على الناس إلى القتال ونفل أهل البلاء ومن قتل قتيلا فنفله سلبه ونكل على المعصية واجعل الناس أسباعا واستعمل على كل سبع رجلا وقال بعضهم أعشارا وقد كتبت إلى المغيرة بن شعبة أن يشخص إليك في طائفة ممن قبله بالبصرة وكتبت إلى أبي عبيدة أن يمدك بجمع من الشام فإذا قدموا عليك فناهض عدوك وإن رأيت فرصة قبل ذلك فاغتنمها ولا تؤخر ذلك إن شاء الله ولا تستوحشن لقلة من معك ولا تهن لكثرة عدوك فكثيرا ما ينصر القليل ويخذل الكثير وقبلك طليحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب وحنظلة بن ربيعة وأوس بن معدان وابن زيد الخيل فلا تؤمرن أحدا منهم على اكثر من مائة وشاور عمرا وطليحة في الحرب ولا تولهما جمعا


فانتهى سعد رحمه الله إلى كل ما أمره به عمر رضي الله عنه من تهيئة الناس أسبعا أو أعشارا وقدم عليه المغيرة في ثمانمائة ويقال في ألف وخمسمائة والمسلمون في ضيق فقال المغيرة رحمه الله من آسى أخوانه بطعامه وزاده وبناقته وجمله فنحروا لهم واخرجوا أطعماتهم فأصابوا منها ووقوا وأشار المغيرة على سعد أن يوجه السرايا فيصيبوا الطعام والعلف فقبل سعد مشورته وبث السرايا فأصابوا من الأطعمة ما كانوا يكتفون به زمانا
وقد روي عن الشعبي أن عمر رحمه الله كتب إلى سعد مرتحله من زرود أن ابعث الى فرج الهند رجلا ترضاه يكون بحياله ردءا لك من شيء إن اتاك من تلك التخوم فبعث إليه المغيرة بن شعبة في خمسمائة فكان بحيال الأبلة من أرض العرب فاتى غضبا ونزل على جرير وهو يومئذ هنالك فلما نزل سعد بشراف كتب إلى عمر بمنزله ومنزل الناس فكتب إليه عمر
إذا جاءك كتابي هذا فعشر الناس وعرف عليهم وأمر على أجنادهم وعبئهم ومر رؤساء المسلمين أن يشهدوا وقدرهم وهم شهود ثم وجههم
إلى أصحابهم وواعدهم القادسية واضمم إليك المغيرة في خيله واكتب إلي بالذي يستقر عليه أمرهم
فبعث سعد إلى المغيرة فانضم إليه وإلى رؤساء القبائل فاتوه فقدر الناس وعبأهم بشراف فأمر أمراء الأجناد وعرف العرفاء على كل عشرة رجلا كما كانت العرافات أزمان النبي {صلى الله عليه وسلم} وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء وأمر على الرايات رجالا من أهل النباهة وأمر على الأعشار رجالا من الناس لهم وسائل في الإسلام وولى الحرب رجالا فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وركبانها وطلائعها فلم يخرج من شراف إلا عن تعبئة ولا فصل منها إلا بكتاب عمر وإذنه


قالوا فيما ذكر سيف عن رجاله وبعث عمر رحمه الله الأطبة وبعث على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي وجعل إليه الأقباض وقسمة الفيء وجعل داعيهم ورائدهم سلمان الفارسي فكان أمراء التعبئة يلون الأمير والذين يلون أمراء التعبئة أمراء الأعشار والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رؤساء القبائل فلما فرغ سعد من تعبئته وأعد لكل شيء من أمره جماعات ورؤساء كتب بذلك إلى عمر رحمه الله ولا خفاء بما بين مقتضى هذا الحديث وبين ما قبله من الاختلاف بالتأخر أو التقدم والله تعالى أعلم
وبعث سعد في مقامه بالقادسية إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أتى ميسان فطلب بقرا وغنما فلم يقدر عليها وتحصنوا منه في الأفدان وأوغلوا في الآجام فضرب حتى أصاب رجلا على طف أجمة فسأله واستدله على البقر والغنم فحلف له وقال ما أعلم وإذا هو راعي ما في تلك الأجمة فصاح منها ثور كذب والله وها نحن أولاء فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر فقسم ذلك سعد على الناس فأخصبوا أياما وهذا اليوم هو يوم الأباقر
وذكر المدائني أن حنظلة بن الربيع الأسيدي هو صاحب هذه الغارة وأنه أتى أسفل الفرات فلم يصب مغنما ولم يلق كيدا فرجع فلقوا رجلا فقالوا له هل تعلم مكان أحد من عدونا بحضرتك قال لا قد رغبتموهم فخلوا عن مساكنهم قالوا فتعلم مكان طعام أو شاء أو بقر قال لا وسمعوا خوار ثور من غيضة فدخلوها فأصابوا بقرا وغنما


قال وقال الحجاج لرجل من بني أسد أشهدت القادسية قال نعم قرمنا إلى اللحم فخرجت في رجال من المسلمين نلتمس اللحم فأخفقنا فلما أنصرفنا إذا بصوت عن إيماننا ادخلوا الغيضة فإن فيها غنيمة وأجرا فدخلنا غيضة قريبا منا فإذا عشرة من الأعاجم وإذا طعام وبقر وغنم فقاتلونا عما في أيديهم فاستشهد منا رجلان وقتلنا منهم ثمانية وأسرنا رجلين فقتلناهما صبرا وحملنا الطعام واستقنا الشاء والبقر فقسم سعد ذلك بين المسلمين ونفل كل رجل منا قتل رجلا سلبه فقال الحجاج هذه بشرى من الله لأوليائه لا يكون ذلك حتى يكون الجمع برا تقيا فكيف كانوا قال لا تسأل عن صدق قول ووفاء بالعهد وأداء للأمانة وصبر عند البأس والله أعلم ما يسرون فأما الظاهر فإنا لم نر قوما قط أزهد في دنيا ولا أشد لها بغضا ما اعتد على رجل منهم في يوم بواحدة من ثلاث لا بجبن ولا بغدر ولا بغلول أشداء على الكفار رحماء بينهم قال الحجاج هذه صفة الأبرار
وكتب عمر إلى سعد رضي الله عنهما أخبرني عن الناس وبلائهم أتفاضلت القبائل فيه أو خرجوا على السواء فكتب إليه إن القبائل لم تزل إلى أن كتبت إليك متساوية في كل غارة ومناهبة في جميع ما أعدوا وقسم ما ناهبوا ولم يفترقوا إلا في ثلاث لما نزلنا بلاد القوم وعسكرنا بالقادسية قرمت العرب إلى طعامهم وعاموا إلى شرابهم فانتدب لهم من مضر عاصم بن عمرو سواد بن مالك ومالك بن ربيعة والمساور بن النعمان وغالب بن عبد الله وعبيد الله بن وهب وعبيد الله بن عمير الأشجعي وعمرو بن الهذيل الأسدي وعمرو بن ربيعة والحارث بن ذي البردين فألحموا الناس


وألبنوهم حتى تفرغوا لحربهم وانتدب من ربيعة عبد الله بن عامر بن حجية وأبجر بن جابر وخالد بن المعمر وعائذ بن أبي مرضية ويزيد بن مسهر وسمى آخرين فانكحوا الناس واخدموهم بنات فارس وبنيهم فرغبوا في حربهم وانتدب من أهل اليمن خولى بن عمرو والحارث بن الحارث وعمرو بن خوثعة والقاسم بن عقيل وخميصة بن النعمان وسمى غيرهم فحملوا الناس على خيول وبغال وحمير ودعوا الخيل العراب
وأقام سعد بالمسلمين في منزله من القادسية ورستم بالحيرة وكف رستم عن القتال وطمع أن يضجر المسلمون بمكانهم وكف سعد عنهم والمسلمون وصبروا رجاء ان يصالحوا عن بلادهم ويعطوا الجزية ويسلموا
وكان عمر رحمه الله قد عرف أن القوم سيطاولونهم فلذلك ما عهد إلى سعد والمسلمين أن ينزلوا على حدود أرضهم وأن يطاولوهم أبدا حتى ينقضوهم فحينئذ نزلوا القادسية وقد وطنوا أنفسهم على الصبر وأبى الله إلا أن يتم نوره وإذا أراد الله أمرا أصابه فأقاموا واطمأنوا فكانوا يغيرون على السواد فانتسفوا ما يليهم فحووه وأعدوا للمطاولة أو يفتح عليهم
وكان عمر رضي الله عنه يمدهم بالأسواق إلى ما يصيبون فلما رأى ذلك يزدجرد من أمرهم وعلم أنهم غير منتهين وأنه إن أقام لم يتركوه وشكا إليه عظماء أهل فارس من نزولهم القادسية وإخرابهم البلاد بالغارات ورستم كاف عنهم مقيم بإزائهم أمر رستم بالشخوص لمنا جزتهم ورأى رستم أن ينزل بينهم وبين العتيق ثم يطاولهم مع المنازلة ورأى أن ذلك أمثل ما هم عاملون حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم وتدور لهم سعود
وعن سيف عن رجاله قالوا وجعلت السرايا تطوف ورستم بالنجف والجالينوس بين النجف والسيلحين وذو الحاجب بين رستم والجالينوس وقال
الناس لسعد قد ضاق بنا المكان فأقدم فزجر من كلمه بذلك وقال إذا كفيتم الرأي فلا تكلفوا فإنا لن نقدم إلا على رأي ذوي الرأي فاسكتوا ما سكتنا عنكم


وعن أبي عثمان النهدي أن سعدا رحمه الله لما نزل رستم النجف بعث الطلائع وأمرهم أن يصيبوا رجلا يسأله عن أهل فارس فأخرج طليحة في خمسة وعمرو بن معدي كرب في خمسة وذلك صبيحة قدم رستم الجالينوس وذا الحاجب وهم لا يشعرون بفصولهم من النجف فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الصفوف قد ملؤها فقال بعضهم ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم وهو يرى أن القوم بالنجف فأخبروه الخبر وقال بعضهم ارجعوا لا ينذر بكم عدوكم فقال عمرو لأصحابه صدقتم وقال طليحة لأصحابه كذبتم ما بعثتم لتخبروا عن السرح أو ما بعثتم إلا للخبر قالوا فما تريد قال أريد أن أخالط عسكر القوم أو أهلك قالوا أنت رجل في نفسك غرر ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن فارجع معنا فأبى وأتى سعد الخبر برحيل فارس فبعث قيس بن هبيرة وأمره على مائة وعليهم أن لقيهم فانتهى إليهم وقد افترقوا وفارقهم طليحة فرجع بهم قيس فأخبروا سعدا بقرب القوم ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه يجوسه وينظر ويتوسم فلما أدبر الليل أتى أفضل من توسم في ناحية العسكر فإذا فرس لم ير في خيل القوم مثله وفسطاط أبيض لم ير مثله فانتضى سيفه فقطع مقود الفرس ثم ضمه إلى مقود فرسه وحرك فرسه فخرج يعدو به ونذر به القوم فتنادوا وركبوا الصعبة والذلول فخرجوا في طلبه فلحقه وقد أصبح فارس من الجند فلما غشيه وبوأ له الرمح ليطعنه عدل طليحة فرسه فبدر الفارسي بين يديه فكر عليه طليحة فقسم ظهره بالرمح ثم لحق به آخر ففعل به مثل ذلك ولحق به آخر وقد رأى مصرع صاحبيه وهما ابنا عمه فازداد حنقا ففعل معه طليحة كما فعل معهما ثم كر عليه ودعاه إلى الإسار فعرف الفارسي أنه قاتله


فاستأسر وأمره طليحة ان يركض بين يديه ففعل ولحق الناس فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طليحة عسكر المسلمين فأحجموا ونكصوا وأقبل طليحة حتى غشى العسكر وهم على تعبئة فأفزغ الناس وجوزوه إلى سعد فلما انتهى إليه قال ويحك ما وراءك قال دخلت عساكرهم وجستها وقد أخذت أفضلهم توسما وما أدري أصبت أو أخطأت وها هو ذا فاستخبره فأقيم الترجمان بين سعد وبين الفارسي فقال الفارسي أتؤمنني على دمي إن صدقتك قال نعم والصدق في الحرب أحب إلينا من الكذب قال أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي باشرت الحرب وغشيتها وسمعت بالأبطال ولقيتها مذ أنا غلام إلى ان بلغت ما ترى فلم أرى ولم أسمع بمثل هذا أن رجلا قطع عسكرين لا يجترى ء عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة إلى ما هو دون ذلك فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند وهتك أطناب بيته وطلبناه فأدركه الأول وهو فارس الناس يعدل بألف فارس فقتله ثم أدركه الثاني وهو نظيره فقتله ثم أدركته ولا أظنني خلفت بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين وهما ابنا عمي فرأيت الموت فاستأسرت ثم أخبره عن أهل فارس أن الجند عشرون ومائة ألف وان الأتباع مثلهم خدام لهم وأسلم الرجل وسماه سعد مسلما وعاد إلى طليحة فقال لا والله ما تهزمون مادمتم على ما أرى من الوفاء والصدق والإصلاح والمواساة لا حاجة لي في صحبة فارس فكان من أهل البلاء يومئذ
وعن موسى بن طريف أن سعدا بعث طليحة وعمرو بن معدي كرب فأمر طليحة بعسكر رستم وأمر عمرا بعسكر الجالينوس فخرج في عدة وخرج طليحة وحده فبعث قيس بن هبيرة في آثارهما وقال إن لقيت قتالا فأنت عليهم فخرج حتى تلقى عمرا فسأله عن طليحة فقال لا علم لي به


فلما انتهيا إلى النجف قال له قيس ما تريد قال ان أغير على أدنى عسكرهم قال في هؤلاء قال نعم قال لا أدعك والله وذاك أتعرض المسلمين لما لا يطيقون قال وما أنت وذاك قال إني أمرت عليك ولو لم أكن أميرا لم أدعك فقال عمرو بعد ان شهد لقيس نفر باستعمال سعد إياه عليه وعلى طليحة والله يا قيس إن زمانا تكون علي فيه أميرا لزمان سوء لأن أرجع عن دينكم هذا إلى ديني الذي كنت عليه وأقاتل عليه حتى أموت أحب إلي من أن تؤمر علي ثانية ولئن عاد صاحبك الذي بعثك لمثلها لنفارقنه قال ذلك إليك بعد مرتك هذه فرده فرجع إلى سعد بالخبر وبأعلاج وأفراس وشكا كل واحد منهما صاحبه اما قيس فشكا عصيان عمرو وأما عمرو فشكا طاعة قيس فقال سعد يا عمرو الخير وسلامة مائة أحب إلي من مصاب مائة تقتل ألفا أتعمد إلى حلبة فارس فتصادمهم بمائة إن كنت لأراك أعلم بالحرب مما أرى فقال له عمرو إن الأمر لكمات قلت وخرج طليحة حتى أتى النجف فدخل عسكر رستم في ليلة مقمرة فتوسم فيه فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه ثم خرج حتى مر بعسكر ذي الحاجب فهتك على آخر بيته وحل فرسه ثم دخل على الجالينوس عسكره فهتك عن آخر بيته وحل فرسه ثم خرج حتى أتى الخرار وأتبعه هؤلاء فكان أولهم لحاقا به الجالينوس ثم الحاجبي ثم النخعي فأصاب الأولين وأسر الآخر وأتى به سعدا فأخبره وأسلم فسماه سعد مسلما ولزم طليحة فكان معه في تلك المغازي كلها
وعن موسى بن طريف أيضا قال قال سعد لقيس بن هبيرة أخرج يا عاقل فإنه ليس وراءك من الدنيا شيء تحنوا عليه حتى تأتيني بخبر القوم فخرج وسرح معه عمرو بن معدي كرب وطليحة فلما جاز القنطرة لم يسر إلا يسيرا حتى انتهى إلى خيل عظيمة منهم بحيالها ترد عن عسكرهم وإذا رستم قد ارتحل من النجف فنزل منزل ذي الحاجب وارتحل الجالينوس فنزل ذو الحاجب منزله


ونزل الجالينوس بطيز ناباذ وقدم تلك الخيل فقال قيس قاتلوا عدوكم يا معشر المسلمين فأنشب القتال وطاردهم ساعة ثم حمل عليهم فكانت هزيمتهم وأصاب منهم اثني عشر رجلا وأسر ثلاثة وأصاب أسلابا فأتوا سعدا بالغنيمة وأخبروه الخبر فقال هذه بشرى إن شاء الله إذا لقيتم جمعهم الأعظم وحدهم فلهم أمثالها ودعا عمرا وطليحة فقال كيف رأيتما قيسا فقال طليحة رأيناه أكيس منا وقال عمرو الأمير أعلم بالرجال منا فقال سعد إن الله أحيا بالإسلام قلوبا كانت ميتة وأمات به قلوبا كانت حية وإني أحذركما أن تؤثرا أمر الجاهلية على أمر الإسلام فتموت قلوبكما وأنتما حيان الزموا السمع والطاعة والإعتراف بالحقوق فما رأى الناس كأقوام أعزهم الله بالإسلام
قالوا ولما انتهى رستم إلى العتيق وقف عليه بحيال عسكر سعد ونزل الناس فما زالوا يتلاحقونى وينزلهم فينزلون حتى اعتموا من كثرتهم
وقال المدائني مكثوا ليلتهم كلها يتحدرون ومن غد إلى قريب من نصف النهار بعده تجب منها القلوب
وقال قيس بن أبي حازم وكان شهد القادسية كان مع رستم ثمانية عشر فيلا ومع الجالينوس خمسة عشر فيلا
وقال غيره كان في جملتها فيل سابور الأبيض وكانت الفيلة تألفه وكان أعظمها وأقدمها
وقال الرفيل كانت ثلاثة وثلاثون في القلب ثمانية عشر وفي المجنبتين خمسة عشر
قال ولما نزل رستم العتيق وبات به أصبح غاديا على التصفح والتحرز


فساير العتيق نحو خفان حتى أتى على مقطع عسكر المسلمين ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة فتأمل القوم حتى أتى على تل يشرف عليهم فلما وقف على القنطرة أرسل زهرة بن جوية وكان هناك مسلحة لسعد فخرج إليه حتى واقفه فأراده على أن يصالحهم ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه وجعل يقول فيما يقول إنكم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا فكنا نحسن جواركم ونكف الأذى لا عنكم ونوليهم المرافق الكثيرة ونحفظهم في أهل باديتهم فنرعيهم مراعينا ونميرهم من بلادنا ولا نمنعهم التجارة في شيء من أرضنا فقد كان لهم في ذلك معاش يعرض له بالصلح ولا يصرح فقال له زهرة صدقت قدكان ما تذكر وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا طلبتهم إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طالبتنا وهمتنا الآخرة كنا كما ذكرت يدين لكم من قدم عليكم منا ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم ثم بعث الله عز وجل إلينا رسولا فدعانا إلى دينه فأجبناه فقال لنبيه {صلى الله عليه وسلم} إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فانا منتقم بهم منه وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ولا يعتصم به أحد إلا عز قال رستم وما هو قال عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى قال ما أحسن هذا وأي شيء أيضا
قال وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى
قال حسن وأي شيء أيضا
قال والناس بنو آدم وحواء أخوة لأب وأم
فقال ما أحسن هذا ثم قال له رستم أرأيت لو أني رضيت هذا الأمر وأجبتكم إليه ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون
قال أي والله ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة
قال صدقتني والله أما أن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم


فقال له زهرة نحن خير الناس للناس ولا نستطيع أن نكون كما تقولون نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا
فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا منه وأنفوا فقال أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أجزعنا وأجبننا
وعن سيف عن رجاله قالوا أرسل سعد إلى المغيرة وبسر بن أبي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محسن وربعي بن عامر وقرفة بن أبي زاهر التيمي الوائلي ومذعور بن عدي العجلي والمضارب بن يزيد وسعيد بن مرة وهما من بني عجل أيضا وكان سعيد من دهاة العرب فقال لهم سعد إني مرسلكم إلى هؤلاء فما عندكم
قالوا نتبع ما تأمرنا به وننتهي إليه فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس فكلمناهم به
قال سعد هذا فعل الحزمة اذهبوا فتهيئوا
فقال ربعي بن عامر إن الأعاجم لهم آراء وأدب ومتى نأتهم جميعا يرون أنا قد أحتفلنا لهم فلا تزدهم على رجل فمالئوه جميعا على ذلك فقال فسرحني فسرحه فخرج ربعي بن عامر ليدخل على رستم عسكره فاحتسبه الذي على القنطرة وأرسل إلى رستم بمجيئه فاستشار عظماء أهل فارس فقال ما ترون أنباهي أم نتهاون فاجتمع ملؤهم على المباههاة فأظهروا الزبرج وبسطوا البسط والنمارق ولم يتركوا شيئا ووضعوا لرستم سرير الذهب وألبس زينته من


الأنماط والوسائد المنسوجة بالذهب وأقبل ربعي يسير على فرس له زباء قصيرة معه سيف له مشوف وغمده لفافة ثوب خلق ورمحه معلوب بقد معه حجفة من جلود البقر على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف ومعه فرسه ونبله فلما انتهى إلى أدنى البسط قيل له انزل فحمل فرسه عليها فلما استوت على البسط نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما ثم ادخل الحبل فيهما فلم يستطيعوا أن ينهوه وإنما أروه التهاون وعرف ما أرادوا فأراد استحراجهم وعليه درع له كأنه أضاة ويلمقة عباءة بعيره قد جابها وتدرعها وشدها على وسطه بسلب ولرأسه أربع ضفائر قد قمن قيما كأنهن قرون الوعول وكان أكثر العرب شعره فقالوا له ضع سلاحك فقال إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم أنتم دعوتموني فإن أحببتم أن آتيكم كما أريد وإلا رجعت فأخبروا رستما فقال أئذنوا له هل هو إلا رجل فأقبل يتوكأ على رمحه وزجه نصل يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركها متهتكة مخرقة فلما دنا من رستم تعلق به الحرس وجلس على الأرض وركز رمحه في البساط فقالوا ما حملك على هذا قال أنا لا نستحب القعود على زينتكم فقال له رستم ما جاء بكم فقال الله ابتعثنا وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخر ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبله قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها


دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله قال وما موعود الله قال الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي قال رستم قد سمعنا مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا قال نعم كم أحب إليك أيوم أم يومان قال لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا فقال إن مما سن لنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من بداتنا ولا نؤجلهم عند الإلتقاء أكثر من ثلاث فنحن مترددون عنكم ثلاثا فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل اختر الإسلام وندعك وأرضك أو الجزاء فنقبل ونكف عنك وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك أو المنابذة في اليوم الرابع ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا أنا كفيل لك بذلك على جميع من ترى قال أسيدهم أنت قال لا ولكن المسلمين فيما بينهم كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على اعلاهم فخلص رستم برؤساء أهل فارس فقال ما ترون هل سمعتم كلاما قط أوضح نصرا ولاأعز من كلام هذا الرجل قالوا معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب أما ترى إلى ثيابه فقال ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويزهدونه فيه فقال لهم هل لكم أن تروني فأريكم فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار ثم رمى ترسا ورموا حجفته فخرق ترسهم وسلمت حجفته فقال ياأهل فارس إنكم عظمتم الطعام والشراب وأنا صغرناهما ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل فلما كان الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن فأقبل في نحو ذلك الزي حتى إذا كان على أدنى البساط قيل له أنزل قال ذلك لو جئتكم في حاجتي فقولوا لملككم أله حاجة أم لي فإن قال لي فقد كذب ورجعت عنه وتركتكم وإن قال له لم آته إلا على ما أحب فقال

دعوه فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره
فقال له انزل قال لا أفعل فلما أبى سأله ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس قال إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي قال ما جاء بكم قال الله عز وجل من علينا بدينه وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث فأيها أجابوا إليه قبلناه الإسلام وننصرف عنكم أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك أو المنابذة فقال أو الموادعة إلى يوم فقال نعم ثلاثا من أمس فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه فقال ويلكم ألا ترون ما أرى جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به فهو في يمن الطائر ذهب بأرضنا وما فيها إليهم مع فضل عقله وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا فهو في يمن الطائر سيقوم على أرضنا دوننا فراده أصحابه الكلام حتى أغضبوه وأغضبهم فلما كان من الغد أرسل ابعثوا إلينا رجلا فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة
قالوا فلما جاء إلى القنطرة يعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستما في إجازته فأذن في ذلك فأقبل المغيرة والقوم في زيهم في الأمس لم يغيرا شيئا من شارتهم تقوية لتهاونهم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لايصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها غلوة وجاء المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس معه على سريره وشارته فوثبوا إليه فنتروه وأنزلوه ومغثوة فقال إنه كانت تبلغنا عنكم أحلام ولا أرى قوما أسفه منكم إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه ولم آتكم ولكنكم دعوتموني زاد المدائني وليس ينبغي لكم إذا أرسلتم إلي


أن تمنعوني من الجلوس حيث أردت وما أكلمكم إلا وأنا جالس معه اليوم علمت أنكم مغلوبون وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول
فقالت السفلة صدق والله العربي وقالت الدهاقين والله لقد رمى بكلام لايزال خولنا والضعفاء منا ينزعون إليه قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين يصغرون أمر هذه الأمة فمازحه رستم ليمحو ما صنع به فقال له يا عربي إن الحاشية قد تصنع ما لايوافق الملك فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك والأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق وليس ما صنعوا بضائرك ولا ناقصك عندنا فاجلس حيث شئت فأجلسه معه ثم قال ما هذه المغازل التي معك يعني السهام قال ما ضر الجمرة أن لا تكون طويلة ثم رماهم ثم قال له رستم تكلم أو أتكلم فقال المغيرة أنت الذي بعثت إلينا فتكلم فأقام الترجمان بينهما وتكلم رستم فحمد قومه وعظم الملك والمملكة وقال لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافا في الأمم ليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم أو اليومين أو الشهر أو الشهرين لأجل الذنوب فإذا انتقم الله منا فرضي رد إلينا عزنا ثم إنه لم تكن في الناس أمة أصغر عندنا أمرا منكم كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئا ولا نعدكم وكنتم إذا قحطت أرضكم وأصابتكم السنة استعنتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلادكم فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم وآمر لكل واحد منكم بوقر من تمر وبثوبين وتنصرفون عنا فإني لست أشتهي أن أقتلكم ولا آسركم
فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله سبحانه خالق كل شيء ورازقه يرفع من يشاء ويضع من يشاء فمن صنع شيئا فإن الله تبارك اسمه وتعالى هو يصنعه والذي صنعه وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل


بلادك من الظهور على الأعداء والتمكين في البلاد وعظم السلطان في الدنيا فنحن نعرفه ولا ننكره والله صنعه لكم ووضعه فيكم وهو له دونكم وأما ما ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب فنحن نعرفه والله ابتلانا بذلك وصيرنا إليه والدنيا دول ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه وأهل رخائها يتوقعون الشدة حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولو كنتم فيما آتاكم الله دوننا أهل شكر لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ولأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه إن الله تعالى بعث فينا رسولا فكذبه مكذبون وصدقه منا آخرون وأظهر الله دعوته وأعز دينه على كره ممن كذبه وحاده حتى دخلوا في الإسلام طوعا وكرها فأمرنا أن ندعوا من خالفنا إلى ديننا فمن أباه قاتلناه
وذكر نحو ما تقدم من الكلام في الأحاديث المتقدمة من دعائه إلى الإسلام وقال له فإن أبيت فكن لنا عبدا تؤدي الجزية عن يد وأنت صاغر وإلا السيف إن أبيت
فنخر رستم عند ذلك نخرة واستشاط غضبا ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الضحى غدا حتى أقتلكم أجمعين
فانصرف المغيرة وخلص رستم بأشراف فارس فقال أين هؤلاء منكم ما بعد هذا ألم يأتكم الأولان فجسراكم واستخرجاكم ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا هؤلاء والله الرجال صادقين أو كاذبين والله لئن كان بلغ من رأيهم وصونهم أمرهم أن لا يختلفوا ما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم وإن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء فلجوا وتجلدوا فقال والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم وإن هذا منكم رياء فازدادوا الجاجا


وفي بعض الروايات أن مما قال المغيرة لرستم وقد توعد المسلمين بأنهم مقتولون قال هو الذي نتمنى أن المقتول منا صائر في الجنة والهارب في النار وللباقي الصابر الظفر بحديث صادق ووعد لا خلف له وقد أصبنا في بلادكم حبة كأنها قطع الأوتار فأكلنا منها وأطعمنا أهالينا فقالوا لا صبر لنا حتى تنزلونا هذه البلاد
قال رستم أما لنقرننكم في الجبال
قال المغيرة أما وبنا حياة فلا
قال رستم ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب فليس بيننا وبينكم صلح ولنفقأن عينك غدا
فقال المغيرة وأنت ستقتل غدا إن شاء الله وإن ما قلت لي ليسرني لولا أن أجاهدكم بعد اليوم لسرني أن تذهبا جميعا
ورجع المغيرة فتعجبوا من قوله فقال رستم ما أظن هذا الملك إلا قد انقضى وأن أجمل بنا ألا يكون هؤلاء أصبر منا ولقد وعدوا وعدا ليموتن أو ليدركنه ولقد حذروا وخوفوا من الفرار خوفا لا يأتونه وقد رأيت ليلتي هذه كأن القوس التي في السماء خرت وكأن الحيتان خرجن من البحر وأن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فهل لكم أن تقبلوا بعض ما عرضوا عليكم قالوا لا
قال فأنا رجل منكم وكتب إلى يزدجرد بما كلمه به المغيرة فقال شاهين الأزدي لو لم يكن إلا ساسة دوابنا لأخذناهم بهم فكتب إليه يأمره بقتالهم وقال إذا لقيتهم فضع الرجال فيما بيني وبينك على كل ربوة رجلا فكلما حدث أمر نادى به بعضهم بعضا حتى يفضي الخبر إلي
وحدث سيف عن رجاله قالوا أرسل إليهم سعد بقية ذوي الرأي


جميعا وحبس الثلاثة فخرجوا حتى أتوه فقالوا له إن أميرنا يقول لك إن الحرب تحفظ الولاة وإني أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك وهي العاقبة بأن تقبل منا ما دعاك الله عز وجل إليه ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض إلا أن داركم لكم وأمركم فيكم وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوي عليكم واتق الله يا رستم ولا يكونن هلاك قومك على يديك فإنه ليس بينك وبين أن تغتبط إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك


فقال رستم إني قد كلمت منكم نفرا ولو أنهم فهموا عني رجوت أن تكونوا قد فهمتم وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام وسأضرب لكم مثلكم إنكم كنتم أهل جهد في المعيشة وقشف في الهيئة لا تمتنعون ولا تنتصفون فلم نسيء جواركم ولم ندع مواساتكم تقتحمون المرة بعد المرة فنميركم ثم نردكم وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم فلما تطعمتم طعامنا وشربتم شرابنا وأظلكم ظلنا وصفتم ذلك لقومكم ثم دعوتموهم فأتيتمونا بهم وإنما مثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلبا فقال وما ثعلب فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم فلما اجتمعت عليه سد عليها صاحب الكرم مدخلها فقتلها وقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والطمع مع الجهد فارجعوا عنا عامكم هذا وامتاروا حاجتكم ولكم العود كلما احتجتم فإني لا أشتهي أن أقتلكم وقد أصاب أناس كثير منكم ما أرادوا من أرضنا ثم كان مصيرهم القتل والمهرب ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم وخرج مما كان أصاب ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب وفي الجرة ثقب فدخل الأول فأقام فيها وجعلت الأخر ينقلن منها ويرجعون ويكلمنه في الرجوع فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله فضاق عليه الجحر ولم يطق الخروج فشكى القلق إلى أصحابه وسألهم المخرج فقالوا ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل
أن تدخل فكف وجوع نفسه وبقي في الجرة حتى إذا عاد كما كان أتى عليه صاحب الجرة فقتله فاخرجوا أو ليكونن هذا لكم مثلا
وقال لهم أيضا فيما قال لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ما خلاكم يا معشر العرب ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع ومثلكم في هذا مثل الذباب إذ رأى العسل طار وقال من يوصلني إليه وله درهمان حتى يدخله لا ينهاه أحد إلا عصاه فإذا دخله غرق ونشب وقال من يخرجني وله أربعة دراهم وضرب للقوم أمثالا غير هذه نحوا منها


قالوا فتكلم القوم فقالوا أما ما ذكرت من سوء حالنا فيما مضى وانتشار أمرنا فلم نبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار ويبقى الباقي منا في بؤس فبينا نحن في أسواء ذلك بعث الله عز وجل فينا رسولا من أنفسنا إلى الأنس والجن رحمة رحم بها من أراد رحمته ونقمه ينتقم بها ممن رد كرامته فبدأبنا قبيلة قبيلة فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنكارا لما جاء به ولا أجهد على قتله ورد ما جاء به من قومه ثم الذين يلونهم حتى طابقناه على ذلك كلنا فنصبنا له جميعا وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطى الظفر علينا فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما أتى به من الآيات المعجزة وكان مما أتى به من عند ربنا عز وجل جهاد الأدنى فالأدنى فصرنا في ذلك فيما بيننا نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا نخرج عنه ولا ننقص منه حتى اجتمعت العرب على هذا وكانوا من الاختلاف فيما لا يطيق الخلائق بالتفهم معه ثم أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله وننفذ لأمره ونستنجز موعوده وندعوكم إلى الإسلام وأحكامه فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله عز وجل وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزاء فإن فعلتم وإلا فإن الله عز وجل قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم فاقبلوا نصيحتنا فو الله لإسلامكم أحب إلينا


من غنائمكم ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن إرادتنا الطاعة وقتالنا الصبر وأما ما ضربتم لنا من الأمثال فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد الهزل ولكنا سنضرب لكم مثلا إن مثلكم مثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر والحب وأجرى لها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها فخلفه الفلاحون في القصور بما لا يحب وفي الجنان بمثل ذلك فأطال نظرتهم فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم استعتبهم فكابروه فدعا إليهم غيرهم فأخرجهم منها فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبدا ووالله لو لم يكن ما نقول لكم حقا ولم تكن إلا الدنيا لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عشيكم ورأينا من زبرجكم من صبر ولقارعناكم أو نغلبكم عليه
فقال رستم أتعبرون إلينا أو نعبر إليكم فقالوا بل اعبروا إلينا فخرجوا من عنده عشيا فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم وأرسل إليهم شأنكم والعبور فأرادوا القنطرة فأرسل إليهم لا ولا كرامة أما شيء قد غلبناكم عليه فلن نرده عليكم تكلفوا معبرا غير القناطر فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم
وذكر المدائني أن رستم وجه الجالينوس ليعبر القنطرة فوقف بحيال زهرة بن جوية وكان عليها وقال ليخرجن إلي الموكل بهذا الموضع فخرج زهرة على فرس كميت أغر ذنوب معه رمح معلوب وسيف رث الجفن فقال له الفارسي إنك لم توضع هذا الموضع إلا وأنت ركن من أركان أصحابك وأرى سيفك رث الجفن قال إن يكن رث المنظر فإنه حديد الضربة وقرب إليه الفارسي بالصلح ولم يصرح ومناه وقال نحسن جواركم ونرفقكم في معايشكم فقال زهرة إنا لم نأتكم نطلب الدنيا بغير آخرة إنما أتيناكم ندعوكم إلى ديننا فإن أبيتموه فدنياكم التي تعرضون علينا لنا إن شاء الله فقال له الفارسي فخلوا لنا الطريق فنعبرإليكم فنناجزكم قال لا قال ولم وأنتم تمنون

لقاءنا قال نكره أن نرد عليكم شيئا قد غلبناكم عليه فرجع إلى رستم فأخبره فأعظم ذلك فانصرف الجالينوس فجلس رستم يفكر فيما أخبره وغلبته عيناه فنام فانتبه ويده في كتف جارية قاعدة بين يدي فراشه فقال مالك قالت مالت يدك فرفعتها فقال أشفقت أن سقطت من فراش ديباج علي بساط ديباج فكيف بها غدا إذا انعفرت في التراب ووطئتها الخيل قالت وما يضطرك إلى ذلك وقد اعطوك مالك فيه نصف ونجاة إما أن تدخل في دينهم فتكون مثلهم وإما أن تفتدي منهم بشيء تعطيهم ويبقى لك أمرك وإما أن تذهب إلى مأمنك من الأرض فقال إن في عنقي حبلا أقاد به إلى مصرعي لا أقدر على الإمتناع
وبات الأعاجم ليلتهم يسكرون العتيق بالقصب والتراب والبراذع حتى جعلوه طريقا واستتم بعدما ارتفع النهار من الغد
قالوا ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسى أصحابه فختم عليها ثم صعد بها إلى السماء فاستيقظ مهموما حزينا فدعا خاصته وقصها عليهم وقال إن الله عز وجل ليعظنا لو أن فارس تركوني أتعظ أما ترى النصر قد رفع عنا وترى الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم في فعل ولا منطق
يوم أرماث
ولما تم السكر عبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم وجلس رستم على سريره وضربت عليه طيارة وعبأ في القلب ثمانية عشر فيلا عليها الصناديق والرجال وفي المجنبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته والبيزران بينه وبين ميسرته وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين


وأخذ المسلمون أيضا مصافهم وكانت التعبئة التي تقدم بها سعد قبل انفصاله عن شراف بإذن عمر رضي الله عنه أن جعل على المقدمة زهرة بن الجوية وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم وكان من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} وأحد التسعة الذين قدموا عليه فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة في العرافة وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط الكندي وكان شابا قد قاتل أهل الردة على الردة ووفي الله عز وجل فعرف ذلك له وعلى الساقة عاصم بن عمرو السعدي وعلى الطلائع سواد بن مالك التميمي وعلى المجردة سلمان بن ربيعة الباهلي وعلى الرجال حمال بن مالك الأسدي وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الخثعمي فلما تصافوا يومئذ جعل سعد زهرة وعاصما بين عبد الله بن المعتم وبين شرحبيل بن السمط ووكل صاحب الطلائع بالطرد وخلط بين الناس في القلب والمجنبات ونادى مناديه ألا إن الحسد لا يحل إلا على الاجتهاد في أمر الله تعالى يا أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الاجتهاد وذكر المدائني أنه كان على الميمنة يوم القادسية شرحبيل بن السمط وعلى
الميسرة هاشم بن عتبة وعلى الخيل قيس بن مكشوح وعلى الرجل المغيرة بن شعبة فالله تعالى أعلم
وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس كان به عرق النسا ودماميل وإنما هو على وجهه وفي صدره وسادة وهو مكب عليها مشرف على الناس من القصر يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة وهو أسفل منه وكان الصف إلى جانب القصر وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا
وقيل بل استخلفه على الناس لأجل شكواه فاختلف عليه الناس فقال سعد احملوني فأشرفوا به على الناس فارتقوا به فأكب مطلعا عليهم والصف في أصل حائط قديس حيث كان سعد يأمر خالدا فيأمر خالد الناس وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس فهم بهم سعد وشتمهم وقال أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالا لغيركم فحبسهم في القصر وقيدهم منهم أبو محجن الثقفي


وقال جرير يومئذ أما أني بايعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أن أسمع وأطيع لمن ولي الأمر وإن كان عبدا حبشيا
وقال سعد والله لايعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويساغبهم وهم بإزائهم إلا سننت فيه سنة يؤخذ بها من بعدي وذكر المدائني أنه أتى رستما رجل من أهل الحيرة ليلا فقال له أمير المسلمين وجع وهو في قصر العذيب مع العيال ولو طرقته خيل لقتل لا يشعر به أصحابه فانتخب رستم خمسمائة فارس فوجههم إليه فترفعوا عن العسكرين وقطعوا الوادي وأخذوا في خفض من الأرض وجاء رجل من العجم إلى المسلمين مستأمنا فأخبرهم فانتدب حنظلة بن الربيع الأسيدي في خمسمائة من تحت الليل فسار إلى العذيب وقال لأصحابه إنه ليطيب نفسي أن عبد الله بن سبرة بن سعد فانتهى إلى سعد عند طلوع الفجر ولم تصل إليهم الفرس
فأنذروه وأصبحوا فإذا الأساورة متحدرون من ناحية وادي السباع فتلقاهم عبد الله بن سبرة الواقفي أحد بني حرملة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة في سرعان الناس معه عشرة فوارس وغلام له رومي يقال له يزيد كان أصابه يوم اليرموك وأتبعهم حنظلة في أصحابه فقتل عبد الله بن سبرة قبل أن تتام إليه الخيل اسوارين
وقال مرة الهمداني وكان مع حنظلة لما دنونا من معتركهم سمعنا صوتا منكرا شديدا فقال حنظلة صوت ابن الكندية ورب الكعبة بعض هنات أبي قيس فانتهينا إليهم فإذا عبد الله بن سبرة يذمر أصحابه وهو يقول لغلامه يا يزيد ثكلتك أمك إن فاتك أحد وقد انكسر رمحه وهو يضربهم بعمود ما يضرب به رجلا إلا قتله ولا دابة إلا عقرها وإن غلامه ليذودهم عليه بالرمح فلما غشيهم حنظلة وأصحابه انهزموا فما تشاء أن تجد الخمسة والستة من المسلمين يخفقون أسوارا بأسيافهم إلا وجدته فقتل منهم ثلاثون ويقال مائة وأفلت الآخرون أكثرهم جريح فرجعوا إلى رستم فطلب الحيري ليقتله وظن أنه عين دس له فلم يقدر عليه وتحول سعد فنزل مع جماعة الناس


وفيما حكاه سيف عن رجاله أن سعدا رحمه الله بعدما تهدم على الذين اعترضوا على خالد بن عرفطة خطب من يليه يومئذ فحمد الله وأثنى عليه وقال إن الله وهو الحق وقوله الحق لا شريك له في الملك وليس لقوله خلف قال ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( 105 الأنبياء إن هذا ميراثكم وهو موعد ربكم وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج وأنتم تطعمون منها وتأكلون وتقتلون أهلها وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منه أصحاب الأيام منكم وقد جاءكم منهم هذا الجمع وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة وعزمن وراءكم فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة يجمع الله لكم الدنيا والآخرة ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله وأن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم
وكتب سعد إلى أهل الرايات إني قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي كان يعودني وما بي من جبون وإني مكب على وجهي وشخصي لكم باد فاسمعوا له وأطيعوا فإنه إنما يأمركم بأمري ويعمل برأي فقريء على الناس فزادهم خيرا فانتهوا إلى رأيه وقبلوا منه وتحاثوا على السمع والطاعة واجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع
قالوا وأرسل سعد للذين انتهى إليهم رأي الناس والذين انتهت إليهم نجدتهم وأصناف الفضل منهم إلى الناس فقال انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم وعليهم عند مواطن البأس فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به وانتم شعراء العرب وخطباؤهم وذووا رأيهم ونجدتهم وسادتهم فسيروا فيهم وحرضوهم على القتال فساروا فيهم
فقال قيس بن هبيرة أيها الناس احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم يزدكم واذكروا آلاء الله وارغبوا إليه في عادته فإن الجنة والغنيمة أمامكم وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء والأرض القفر والظراب الخشن والفلوات التي لا تقطعها الأدلة


وقال غالب بن عبد الله الليثي أيها الناس احمدوا الله على ما أبلاكم وسلوه يزدكم وادعوه يجبكم يا معشر معد ما علتكم اليوم وانتم في حصونكم يعني الخيل ومن لا يعصيكم معكم يعني السيوف فاذكروا حديث الناس في غد فإنه بكم غدا يبدأ وبمن بعدكم يثني
وقال ابن الهذيل الأسدي يا معشر معد اجعلوا حصونكم السيوف وكروا عليهم كأسود الأجم وتربدوا إليهم تربد النمور وادرعوا العجاج
وثقوا بالله تعالى وغضوا الأبصار فإذا كلت السيوف فإنها مأمورة فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه
وقال بسر بن أبي رهم احمدوا الله وصدقوا قولكم بفعل لا تموتن إلا وانتم مسلمون انصروا الله ينصركم ولا يكونن شيء بأهون عليكم من الدنيا فإنها تأتي من تهاون بها ولا تميلوا إليها فتهرب منكم
وقال عاصم بن عمرو يا معشر العرب إنكم أعيان العرب وقد صمدتم لأعيان العجم إنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم لا تحدثن اليوم أمرا تكونون به شينا على العرب غدا
وقال ربيع السعدي يا معشر العرب قاتلوا للدين والدنيا سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ( 133 آل عمران ) فإن عظم الشيطان عليكم الأمر فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل
وتقدم كل واحد من أولئك الذين بعثهم سعد من وجوه الناس بمثل هذا الكلام وتواثق الناس وتعاهدوا واهتاجوا لكل ما ينبغي لهم
وفعل أهل فارس فيما بينهم مثل ذلك وتعاهدوا وتوصوا واقترنوا بالسلاسل وكان المقترنون ثلاثين ألفا


وقال سعد للناس الزموا مواقفكم لا تحركوا شيئا حتى نصلي الظهر فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا واعلموا ان التكبير لم يعطه أحد قبلكم وإنما أعطيتموه تأييدا فإذا سمعتم الثانية فكبروا ولتستتموا عدتكم فإذا كبرت الثالثة فكبروا ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا ويطاردوا فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم
ويروى أنه لما نادى منادي سعد بالظهر نادى رستم أكل عمر كبدي أحرق الله كبده علم هؤلاء حتى علموا
وقيل إن رستم قال نحوا من هذا عندما نزل بين الحصن والعتيق وقد أذن مؤذن سعد الغداة ورأى الناس يتخشخشون فنادى في أهل فارس أن اركبوا فقيل له ولم قال أما ترون إلى عدوكم قد نودي فيهم فتخشخشوا لكم فقال له رجل قد كان رستم بعثه قبل ذلك عينا إلى عسكر المسلمين فانغمس فيهم وعرف حالهم وانصرف إليه فأخبره ان ذلك تخشخشهم للصلاة فقال رستم بالفارسية ما تفسيره أتاني صوت عند الغداة وإنما هو عمر الذي يعلم الكلاب العقل فلما سمع الأذان بالصلاة قال أكل عمر كبدي
قالوا ولما صلى سعد الظهر أمر غلاما كان عمر رحمه الله ألزمه إياه وكان من القراء بقراءة سورة الجهاد وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتيبة التي تليه وقرئت في كل كتيبة فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها
قال مصعب بن سعد وكانت قراءتها سنة يقرأها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عند الزحوف ويستقرئها فعمل الناس بذلك
قالوا ولما فرغ القراء كبر سعد فكبر الذين يلونه وكبر بعض الناس بتكبير بعض فتخشخش الناس ثم ثنى فاستتم الناس ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج أمثالهم من فارس فاعتوروا الطعن والضرب وخرج غالب بن عبد الله الليثي وهو يقول
قد علمت واردة المسالح
ذات البنان واللبان الواضح
أني سمام البطل المشايح
وفارج الأمر المهم الفادح
الرجز


فخرج إليه هرمز وكان من ملوك الباب وكان متوجا فأسره غالب أسرا فجاء به فأدخل إلى سعد وانصرف غالب للمطاردة
وذكر المدائني أن رستم أمر هرمز فتقدم في كتيبة فشد عليه غالب وزهرة ابن جوية فسبق إليه غالب في خيل فقتله
قالوا وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول
قد علمت صفراء بيضاء اللبب
مثل اللجين يتغشاه الذهب
أني أمر الأمر إمرارا السبب
مثلي على مثلك يعديه الكثب
الرجز
فطارد رجلا من أهل فارس فهرب منه وأتبعه حتى إذا خالط صفهم والتقى بفارس معه بغل فترك الفارس البغل واعتصم بأصحابه فحموه واستاق عاصم البغل والرحل حتى آوى به إلى الصف وإذا الفارس خباز الملك وإذا الذي كان معه لطف الملك الأخبصة والعسل المعقد فنفل ذلك سعد أهل موقف عاصم وبعث إليهم ليأكلوه وهم في موقفهم
وجال عمرو بن معدي كرب بين الصفين يحرض الناس ويقول إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقي من فرسه فإنما هو تيس
قال قيس بن أبي حازم فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم فوقف بين الصفين فرماه بنشابة فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها
فالتفت إليه ثم حمل عليه فاعتنقه ثم أخذ بمنطقته فاحتمله فوضعه بين يديه فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه ثم ألقاه وقال هكذا فافعلوا بهم فقلنا من يستطيع يا أبا ثور أن يصنع كما تصنع وقال بعضهم وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج كانت عليه ثم تكتبت الكتائب من هؤلاء وهؤلاء


وذكر المدائني أن رستم ظاهر يومئذ بين درعين وقرب له فرس فنزا عليه ولم يمسه بيده وقال اليوم ندق العرب دقا فقال له رجل قل إن شاء الله قال إن شاء وإن لم يشأ وقدم كتيبة عليها الدروع والمغافر والأداة الكاملة فدفعوا إلى جعفي وهم حديثوا العهد بالشرك فنازلوهم فلم تحك سيوفهم في جنبهم فظنوا أن الحديد لا يحك فيهم حتى حمل رجل منهم على أسوار فطعنه فقتله ونادى يا آل جعفي السلاح تنفذ فيهم فشأنكم بهم ونحو هذا قول عمرو بن معدي كرب في ذلك اليوم وقد رماه رجل من أهل العجم بنشابة فوقعت في كتفه وعليه درع حصينة فلم تنفد وحمل هو على الرجل فعانقه ثم صرعه فقتله وقال
أنا أبو ثور وسيفي ذو النون
أضربهم ضرب غلام مجنون
يا زيد إنهم يموتون
السريع
ولم يكن عمرو ولا قومه يجهلون أن القوم يموتون ولكن الشعر تحسن فيه هذه المآخذ ويملح بهذه المقاصد
ومثله قول الآخر
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لاينشرون أن قتلوا
المنسرح
ويفوق هذا كله قول الله سبحانه ولكتابه المثل الأعلى ولا تهنوا في
ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ) ( 104 النساء )
وقد بعدنا عما كنا بسبيله فلنعد إليه
قالوا لما تكتبت الكتائب بعد الطراد وتزاحف الناس صرفت الأعاجم فيولها نحو المسلمين فوجهت إلى الوجه الذي فيه بجيله ثلاثة عشر فيلا وصفوا على سائر الناس سبعة عشر ولما حمل أصحاب الفيلة تفرقت الكتائب وابذعرت الخيل وكادت بجبيلة تؤكل فرت خيلها نفارا فأرسل سعد بن بني أسد يا بني أسد ذببوا على بجيلة ومن لافها من الناس فخرج طليحة بن خويلد وحمال بن مالك الأسدي وغالب بن عبد الله والرفيل بن عمرو في كتائبهم فباشروا الفيلة حتى عزلها ركبانها وإن على كل فيل يومئذ عشرين رجلا


وقال موسى بن طريف قام طليحة في قومه حين استصرخهم سعد فقال يا عشيرتاه إن المنوه بإسمه الموثوق به أنتم وإن هذا يعني سعدا لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم لا ستغاثهم ابدؤهم الشدة وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعلهم شدوا ولا تصدوا وكروا ولا تفروا لله در ربيعة أي فري يفرون وأي قرن يغنون هل يوصل إلى مواقفهم فاغنوا عن مواقفكم أعانكم الله شدوا عليهم باسم الله فقام المعرور بن سويد وشقيق فشدوا والله عليهم فما زالوا يضربونهم ويطعنونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه فما ألبثه طليحة أن قتله
قالوا وقام الأشعث بن قيس فقال يا معشر كندة لله در بني أسد
أي فري يفرون وأي هذ يهذون عن موقفهم منذ اليوم أغنى كل قوم ما يليهم وانتم تنظرون من يكفيكم البأس أشهد ما أحسنتم اسوة أخوانكم من العرب وأنهم ليقتلون ويقتلون وانتم جثاة على الركب فوثب إليه منهم عشرة فقالوا عثر جدك إنك لتؤبسنا يا هذا نحن احسن الناس موقفا فمن أين خذلنا قومنا العرب واسأنا أسوتهم فها نحن معك فنهد ونهدوا فأزالوا الذين بإزائهم


ولما رأى أهل فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة بني أسد رموهم بحدهم وبدر المسلمون الشدة عليهم وهم ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد فاجتمعت حلبة فارس فيهم ذو الحاجب والجالينوس على بني أسد ومعهم تلك الفيلة وقد ثبتوا لهم وكبر سعد التكبيرة الرابعة فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على بني أسد وحملت الفيول في الميمنة والميسرة على الخيول فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد وألح فرسانهم على الرجل وجد المقاتلة مع الفيلة فقال بعض الأسديين والله لأموتن أو لأطعنن عيني بعض هذه الفيلة فقصد لأعظمها فيلا فقاتل حتى وصل إليه وعلى كل فيل قوم يقاتلون فطعن في عين ذلك الفيل بسيفه وضربه سائس الفيل بعمود فهشم وجهه وأدبر الفيل فخبط من حوله واشتد القتال عند فيل منها فقال حبيش الأسدي لبشر بن أبي العوجاء الطائي أرى القتال قد أشتد عند هذا الفيل فتبايعني على الموت فنحمل على حماته فنكشفهم أو نقتل دونه قال نعم فحملا فضرب حبيش رجلا من الفرس من حماة الفيل فقتله ودنوا من الفيل فضرب حبيش مشفره فرمى به وضرب الطائي ساقه فبرك الفيل وانطوت الفرس على بني أسد فقتل حبيش
وأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو فقال يا معشر بني تميم ألستم أصحاب


الإبل والخيل أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة قالوا بلى والله ثم نادى عاصم في رجال من قومه رماة وأخر أهل ثقافة فقال يا معشر الرماة ذبوا ركبان الفيلة عنا ويا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها وخرج يحميهم والرحى دائرة على بني أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد وأقدم أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذنابها وذباب توابيتها فقطعوا وضنها فما بقي لهم يومئذ فيل إلا أعرى وقتل أصحابها وتقاتل الناس ونفس عن بني أسد وردوا عنهم الفرس إلى مواقفهم فاقتتلوا حتى غربت الشمس ثم حتى ذهبت هدأة من الليل ثم رجع هؤلاء وهؤلاء وأصيب من بني أسد تلك العشية خمسمائة وكانوا ردءا للناس وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم فهذا يوم القادسية الأول وهو يوم أرماث
وقال عاصم بن عمرو التميمي في ذلك
ألم يأتيك والأنباء تسري
بما لاقيت في يوم النزال
ولما أن تزايل مقرفوهم
عصينا القوم بالاسل الطوال
وعريت الفيول من التوابي
وعطلت الخيول من الرجال
ولولا ذبنا عمن يلينا
للج الجمع فعل الضلال
حمينا يوم أرماث حمانا
وبعض القوم أولى بالحمال
الوافر
وقال عمرو بن ساس الأسدي
( فلا وأبيك لا ينفك فينا من السادات حظ ما بقينا
ألسنا المانحين لدى قديس
جموع الفرس مرداة طحونا
ولسنا مثل من لاطرق فيه
ولكن غثنا يلفى سمينا
ونحن إذا يريح الليل أمرا
يهم الناس عصمة من يلينا
ومرقصة منعناها إذا ما
رأت دون المحافظة التقينا
نذكرها إذا ولهت بنيها
ونحميها إذا نحمي بنينا
إذا افترش النواحي بالنواجي
و كان القوم في الأبدان جونا
إذا ثار الغبار كأن فيه
إذا اصطفت عجاجته طحينا
وقد علمت بنو أسد بأنا
نضارب بالسيوف إذا غشينا
( ونحن فواري الهيجا إذا مارأيت الخيل مسندة عرينا ) الوافر


وذكر المدائني خبر هذا اليوم وقد أورد كثيرا مما أورده في تضاعيف الأخبار المتقدمة وفي بعض ما ذكره أن المسلمين هم الذين عبروا إلى الفرس خلافا لما تقدم ذكره أنه لما عزم الفريقان على اللقاء أرسل سعد إلى جرير والمغيرة وحنظلة فقال إنكم قد أصبحتم في دار قد أذل الله لكم أهلها فأنتم تطئونهم منذ سنتين وقد أتوكم في جمع لا أظنهم يريدون أن يزايلوكم حتى يفصل بينكم ولستم وهم سواء في دنيا تقاتلون عنها وقد خلفوا مثلها فإن فروا فروا إلى مثلها وأنتم تقاتلون عن دينكم فإن فررتم فررتم عنه إلى فيافي لا خير فيها وأنتم غرر قومكم إنكم إن ظهرتم عليهم كان لكم أبناؤهم ونساؤهم وإن تواكلتم لم يبقوا منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم والأرض من وراءكم قفر بسابس ليس لكم فيها معقل ولا ملجأ فاتقوا الله واصبروا وحضوا المسلمين وواسوهم وتنجزوا موعود الله فإنه قال ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( 105 الأنبياء ) وقد وليت الحرب خالد بن عرفطة فالزموا السمع والطاعة ولاتهنوا ولاتفشلوا فتذهب ريحكم فخرجوا من عند سعد وقد استعد المشركون لقتالهم وهم وقوف يهابون العبور والإقدام فأرسل سعد إلى الناس لا تعبروا حتى آذن لكم وقد أخذ الناس العدة للقتال فوقفوا ينتظرون الإذن من سعد وحض رؤساء القبائل عشائرهم فلما طال وقوفهم ولم يأتهم إذن سعد قال جرير بن عبد الله أيها الناس ما تنتظرون أما تريدون أن تقاتلوهم إن لم يقاتلوكم وعبر النهر في بجيله فقال قيس بن مكشوح يا معشر مذحج قد تقدمكم أخوانكم فسابقوهم فوالله لا يسبق أحد اليوم إلا


أعطاه الله غدا على قدر سبقه في الدنيا وعبر قيس وعبر بعده عمرو بن معدي كرب وقال زهرة بن جوية يا بني تميم ما تنتظرون وقد مضى أخوانكم وعبروا واتبع الناس بعضهم بعضا فقال سعد اللهم أنهم عبروا ولم يستأمروني فاقض لهم بالنصر فصف المسلمون على ميمنتهم شرحبيل بن السمط وعلى ميسرتهم هاشم بن عتبة وعلى الخيل قيس بن مكشوح وعلى الرجالة المغيرة بن شعبة والمسلمون عشرة آلاف ويقال ما بين السبعة الآلاف إلى الثمانية عامة جثهم براذع الرحال قد عرضوا به الجريد يستترون بها وعلى رؤوسهم أنساع الرجال يطوي الرجل نسعة رحله على رأسه والمشركون ستون ألفا وقيل أكثر
وظاهر رستم بين درعين وقدم كتيبة عليهم الدروع والمغافر والأداة الكاملة فدفعوا إلى جعفي وقد تقدم خبرهم وأخرج رستم بعد ذلك كتيبة فيها الجالينوس فتقدم الجالينوس وقد اعتصب بعصابة ديباج معه ترس مذهب فتلقاه طليحة واختلفا ضربتين فوقعت ضربة الجالينوس في جحفة طليحة ووقع سيف طليحة في رأس الجالينوس قهشم البيضة وندرت عن رأسه وقد جرحه فولوا منهزمين إلى رستم فعظموا أمر العرب ليعذرهم وأخذ طليحة البيضة فنفلها فكانت قيمتها أربعمائة مثقال وأقبل قيس بن مكشوح يومئذ فوقف على المغيرة فقال ما رأيت كاليوم عديدا ولاحديدا فقال المغيرة إن هذا زبد من زبد الشيطان والله جاعل بعضه على بعض وحض المغيرة الناس وقال إن الكلام عند القتال فشل فالزموا الصمت ولا يزولن أحد منكم عن مركزه فإذا حركت رايتي فاحملوا فقال له رجل ما تنتظر قال اجلس فقال له رجل من بني مجاشع الله أكبر إني لأرى الأرض من خلل صفهم فكبروا واحملوا فقال له المغيرة اجلس وأقبل المغيرة على قيس بن مكشوح فقال احمل يا قيس فإني حامل ونكبني خيلك لا


أعرفنك إذا غلبت رجالي فيهم إن تجاوزها خيلك فإذا عضك السلاح رددتها على أعقابها في وجوه رجالي فيكون أشد عليهم من عدوهم وهز المغيرة رايته وحمل وأتبعه قيس فما وصلوا كتيبته حتى رجع فيهم طعنتين فقال طليحة يا بني أسد ما تستحيون الناس يقاتلون وانتم وقوف فحمل فقلت امرأة من بني أسد لبنيها وهم أربعة يا بني والله ما نبت بكم دار ولا أفحمتكم سنة ولقد أسلمتم طائعين وهاجرتم راغبين وجئتم بأمكم عجوزا كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس فقاتلوا عن دينكم وأمكم فوالله إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة فاشهدوا أشد القتال فحملوا فقالت اللهم احفظ في بني
وروى الشعبي أن هذه المرأة كانت من النخع وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى قولها كما أنكم بنو امرأة واحدة وزاد هاهنا ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره فأقبلوا يشتدون فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهي تقول اللهم ادفع عن بني فرجعوا إليها وقد احسنوا القتال فما كلم رجل منهم كلما
قال الشعبي فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء فيأتون أمهم فيلقونه في حجرها فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم
وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية في بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية فقالت لهم من أول الليل يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل ثم قالت لهم وقد تعلمون ما اعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظالها على سباقها وجللت نارا على أرواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام


حميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة فخرج بنوها قابلين لنصحها فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وأنشأ أولهم يقول
يا اخوتي إن العجوز الناصحة
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحه
فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تلقون عند الصالحه
من آل ساسان كلابا نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه
وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
الرجز
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله ثم حمل الثاني وهو يقول
إن العجوز ذات حزم وجلد
والنظر الأوفق والرأي السدد
قد أمرتنا بالسداد والرشد
نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب حماة في العدد
إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد
في جنة الفردوس والعيش الرغد
الرجز
فقاتل حتى استشهد رحمه الله ثم وحمل الثالث وهو يقول
والله لانعصي العجوز حرفا
قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفا
وتكشفوهم عن حماكم كشفا
الرجز
فقاتل حتى استشهد رحمه الله وحمل الرابع وهو يقول
لست لخنساء ولا لاخزم
ولا لعمر وذي السناء الأقدم
حميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة فخرج بنوها قابلين لنصحها فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وأنشأ أولهم يقول
يا اخوتي إن العجوز الناصحة
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحه
فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تلقون عند الصالحه
من آل ساسان كلابا نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه
وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
الرجز
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله ثم حمل الثاني وهو يقول
إن العجوز ذات حزم وجلد
والنظر الأوفق والرأي السدد
قد أمرتنا بالسداد والرشد
نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب حماة في العدد
إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد
في جنة الفردوس والعيش الرغد
الرجز
فقاتل حتى استشهد رحمه الله ثم وحمل الثالث وهو يقول


والله لانعصي العجوز حرفا
قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفا
وتكشفوهم عن حماكم كشفا
الرجز
فقاتل حتى استشهد رحمه الله وحمل الرابع وهو يقول
لست لخنساء ولا لاخزم
ولا لعمر وذي السناء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش العجم
ماض على الهول خضم خضرم
أما لفوز عاجل ومغنم
أو لوفاة في السبيل الأكرم
الرجز
فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه وعلى أخوته فبلغ الخبر أمهم فقالت الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجوا من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته فكان عمر رضي الله عنه يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة لكل واحد مائتي درهم حتى قبض رحمه الله
فهذا ما ذكره الزبير بن بكار والذي قبله ذكره المدائني رحمهما الله ولعل الخبرين صحيحان والله أعلم أي ذلك كان
ثم ذكر المدائني بعد من حسن بلاء بني أسد وانطواء الفرس عليهم في مجال الفيلة ما قد ذكرناه قبل في موضعه
وذكر أيضا أن الأشعث بن قيس قال عندما اشتد قتالهم لله در بني أسد أي فري يفرون وأنتم تنظرون يا معشر كندة
وقال زهرة بن جوية يا بني تميم قد صبر إخوانكم من بني أسد وأحسنوا فذودوا عنهم الفيلة وحماتها فحمل زهرة في بني تميم وجرير في بجيلة فكشفوا المشركين عن بني أسد وقد استشهد منهم خمسون رجلا وتحاجزوا قريبا من العصر فجمعوا بين الصلاتين ثم عاودوا القتال مطاردة ومشاولة حتى غابت الشمس
والتقى حنظلة بن الربيع الأسيدي وذو الحاجب فاختلفا طعنتين فصارا جميعا إلى الأرض فضرب حنظلة ذا الحاجب على رأسه فصرعه فحامت عنه الأساورة حتى ركب وحامى عن حنظلة القعقاع بن عمرو أحد بني يربوع وذريح أحد بني تيم اللات حتى ركب فقال ذريح
لما رأيت الخيل شك نحورها
رماح ونشاب صبرت جناحا
على الموت حتى أنزل الله نصره
وود جناح لو قضى فأراحا
كأن سيوف الهند حول لبانه
بوارق غيث من تهامة لاحا
الطويل


قال وأصيبت يومئذ عين المغيرة بن شعبة وتحاجزوا حين أمسوا فرجع المسلمون إلى عسكرهم ورجع رستم إلى عسكره هذا ما ذكره المدائني
ويقال إن القعقاع لم يشهد يوم أرماث هذا وإنما قدم من الشام بعد انقضائه فشهد سائر الأيام وأبلى فيها وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله
وذكر سيف عن بعض رجاله أن سعدا كان قد تزوج سلمى بنت خصيفة امرأة المثنى بن حارثة كما تقدم فنزل بها القادسية فلما كان يوم أرماث وجال الناس جعل سعد يتململ ويجول جزعا فوق القصر وكان لا يطيق جلوسا إلا على بطنه فلما رأت سلمى ما يصنع أهل فارس قالت وامثنياه ولا مثنى للخيل اليوم وهي عند رجل قد أضجره ما يرى من أصحابه ومن نفسه فلطم وجهها وقال أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى يعني أسدا وعاصما وبجيلة فقال أغيرة وجبنا قال والله لا يعذرني أحد اليوم إذا أنت لم تعذريني وأنت ترين ما بي فالناس أحق ألا يعذروني
فلما ظهر المسلمون لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه وكان غير جبان ولا علوم رضي الله عنه
وكانت القادسية في شوال سنة خمس عشرة وإبتداء أيامها يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من شوال أو لأيام بقين منه وقيل كانت في المحرم سنة أربع عشرة والأول أصح وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى

ذكر اليوم الثاني من أيام القادسية وهو يوم أغواثقالوا ولما أصبح الناس من الغد يعنون الغد من يوم أرماث أصبحوا على تعبئة وقد وكل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث فأما الرثيث فأسلموا إلى النساء يقمن عليهم حتى يقضي الله فيهم قضاءه وأما الشهداء فليدفنونهم هنالك على مشرق واد بين العذيب وبين عين شمس في عدوتيه جميعا وفي ذلك يقول سعد رحمه الله
جزى الله أقواما بجنب مشرق
غداة دعا الرحمن من كان داعيا
جنانا من الفردوس والمنزل الذي
يحل به ذو الخير ما كان باقيا
الطويل


وانتظر الناس بالقتال حمل الرثيث والأموال فلما استقلت بهم الإبل موجهة نحو العذيب طلعت عليهم نواصي الخيل من نحو الشأم وكان عمر رضي الله عنه قد أمر أبا عبيدة بن الجراح لما انقضى شأن اليرموك وفتح دمشق بصرف أهل العراق أصحاب خالد الذين قدم بهم عليه إلى العراق ولم يذكر له عمر خالدا فضن أبو عبيدة بخالد فحبسه وقد قيل إن عمر أمر بحبسه فأمسكه وسرح الجيش وهم ستة آلاف ألف من أبناء العرب من أهل الحجاز وسائرهم من ربيعة ومضر وأمر عليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو أي التميمي فعجله أمامه وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن مكشوح المرادي ولم يكن شهد الأيام وإنما أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق فصرف معهم وعلى المجنبة الأخرى الهزهاز بن
عدي العجلي فطوى القعقاع وتعجل فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث وقد عهد إلى أصحابه أن ينقطعوا أعشارا وهم ألف فكلما بلغ عشرة مد البصر سرح في آثارهم وتقدم هو في عشرة فأتى الناس فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وقال يا أيها الناس إني قد جئتكم في قوم والله لو كانوا بمكانكم ثم احسوكم لحسدوكم حظوتها وحاولوا أن يطيروا بها دونكم فاصنعوا كما أصنع فتقدم ثم نادى من يبارز فسكن الناس إليه وقالوا لقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يهزم جيش فيهم مثل القعقاع فخرج إليه ذو الحاجب فقال له القعقاع من أنت فقال أنا بهمن جاذوية فنادى بالتارت أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر فاجتلدا فقتله القعقاع وجعلت خيله ترد قطعا وما زالت إلى الليل وتنشط الناس وكأن لم تكن بالناس مصيبة وكأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وبلحاق القطع وانكسرت الأعاجم لذلك


وكان أول القتال قبل ان يقدم القعقاع المطاردة فلما قدم قال أيها الناس اصنعوا كما أصنع فنادى من يبارز فبرز له ذو الحاجب فقتله وآخر فقتله وخرج الناس من كل ناحية وبدأ الضرب والطعان ونادى القعقاع أيضا من يبارز فخرج إليه رجلان أحدهما البيزران والأخر البندوان فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان أحد بني تيم اللات فبارز القعقاع البيزران فضربه فأذرى رأسه وبارز ابن ظبيان البندوان فضربه فأذرى رأسه وحمل بنو عم القعقاع يومئذ عشرة عشرة من الرجال على إبل قد ألبسوها فهي مجللة مبرقعة وأطافت بهم خيولهم وأمروا أن تحمل تلك الإبل على خيل الفرس يشبهون بالفيلة التي أرسلت عليهم الفرس بالأمس فجعلت تلك الإبل لاتصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم وركبتهم خيول المسلمين فاستنوا بهم فلقي أهل فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث
ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل كانت توابيتها قد تكسرت بالأمس واستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان من الغد ولم ير اهل فارس في هذا اليوم شيئا يعجبهم وأكثر المسلمون فيهم القتل
وقالوا قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة كلما حمل حملة قتل فيها وآزر القعقاع يومئذ ثلاثة من بني يربوع وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون وقدم ذلك اليوم رسول لعمر رضي الله عنه بأربعة أفراس وأربعة أسياف ليقسمها سعد فيمن انتهى إليه البلاء إن كان لقى حربا فدعا حمال بن مالك والرفيل بن عمرو بن ربيعة الوالبين وطليحة بن خويلد الفقعسي وكلهم من بني أسد وعاصم بن عمرو التميمي فأعطاهم الأسياف ودعا القعقاع بن عمرو التميمي واليربوعيين وهم نعيم بن عمرو بن عتبان وعتاب بن نعيم بن عتاب وعمرو بن شبيب بن زنباع أحد بني زيد فحملهم على الأفراس فأصاب ثلاثة من بني يربوع ثلاثة أرباعها وأصاب ثلاثة من بني أسد ثلاثة أرباع السيوف فقال الرفيل في قطعة يذكر السيوف


لقد علم الأقوام أني أحقهم
إذا حصلوا بالمرهفات البواتر
الطويل
وقال القعقاع في شأن الخيل
ولم تعرف الخيل العراب سواءنا
عشية أغواث بجنب القوادس
الطويل
وذكر المدائني حرب هذا اليوم فخالف بعض ما تقدم وقال إن الناس لما اصبحوا غداة الثلاثاء عبر رستم إلى المسلمين بجنوده وفيلته من حين طلعت
الشمس إلى قريب من نصف النهار وأخذوا عدة الحرب وصافهم المسلمون وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم وعلى الميسرة هاشم بن عتبة وعلى الخيل المغيرة ابن شعبة وعلى الرجالة سلمة بن حديم فقال سعد بن عبيد الأنصاري يا أيها الناس إن الدنيا دار زوال وفتنة وأنتم منقلبون إلى دار الجزاء فلا يكونن شيء أحب إليكم من فراقها فإن ما عند الله خير للأبرار وتقدم أمام الناس فبرز له شهريار السجستاني فقتل كل واحد منهما صاحبه ثم طاردت الفرسان واقتتلوا حتى زالت الشمس وتحاجزوا وصلى المسلمون ثم عادوا إلى مصافهم فنصل من عسكر المشركين رجل يسأل المبارزة فبرز له زهرة بن جوية فقتله وحمل فوارس من المشركين على زهرة فعقروا به وندر سيفه من يده فقاتلهم راجلا يحثو في وجوههم التراب حتى توافت إليه خيل المسلمين فكشفوهم عنه وقد ذهبوا بسيفه فقال
فإن تأخذوا سيفي فإني محرب
خروج من الغلماء محتضر النصر
وإني لحام من وراء عشيرتي
أطاعن فيهم بالمثقفة السمر
الطويل
وقد روى غير المدائني هذا الشعر والخبر للأعرف بن الأعلم العقلي في هذا اليوم


وقال عمرو بن معدي كرب لقومه يا بني زبيد إني مخالط الجمع فانظروني قد نحر جزور وتعسيرها ثم اطلبوني فإنكم تجدوني وسيفي في يدي أقاتل به قدما لاأزول وفي رواية فإن تأخرتم عني فقد فقدتم أبا ثور وأين لكم مثل أبي ثور وحمل حتى خالطهم فستره الغبار فقال بعض الزبيديين أيا بني زبيد علام تدعون صاحبكم وقد توسط جمع المشركين والله ما أرى أن تدركوه حيا وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم فحملوا وحمل الناس حملة واحدة فانتهوا إليه وقد رمى فرسه بنشابة فسب فصرعه وعار وأخر عمرا
عنه المشركون وذلك بعدما طعنوه وإن سيفه لفي يده يضاربهم به فلما رأى أصحابه أخذ برجل فرس اسوار فاحتبسه وإن الفارسي ليضرب فرسه فما يتحرك فلما غشيه الجمع رمى بنفسه وخلا فرسه فركبه عمرو وقال أنا أبو ثور كدتم تفقدونني وثبت عمرو يقاتل فارسا وراجلا إذا قاتل راجلا شد مقود فرسه في وسطه وقاتل
وتزاحف الناس فقال رجل من المسلمين لرجل من الأنصار أعرني ترسك قال ما بي عنه غنى ولكن أي أتراس العجم تريد أتيتك به إن شاء الله فأشار له إلى ترس مذهب فحمل فلم يزل يقاتل حتى خلص إلى صاحب الترس فقتله واستلب ترسه فأتى به صاحبه فقال دونك
وصار الناس إلى السيوف فقاتلوا حتى أعتموا وتحاجزوا عند العتمة عن قتلى وجرحى كثير في الفريقين وقتل يومئذ رجل من طيء يكنى أبا كعب رجلا من المشركين وأخذ قلنسوته فلبسها وأقبل يعدو به فرسه وهو يقاتل فنظر إليه رجل من بجيلة يقال له مضرس وهو يقاتل فظن أنه من الفرس فطعنه فقال بسم الله قتلتني فقال مضرس إنا لله وعانقه فقال غفر الله لك يا أخي فبكى مضرس واحتمل أبو كعب فقال سعد الشهادة لا تقاد ولا كل ميتة مظنون غيرها ولكن من أحب أخذ الدية فكان مضرس يأتيه يعوده فيبكي حتى تبل دموعه لحيته ويقول أبو كعب غفر الله لك يا أخي
وقال أبو كعب
لعمري لقد ثارت رماح مضرس
بعلج هوى في الصف من آل فارس
الطويل


ثم مات أبو كعب بعد أيام من تلك الطعنة وصفح وليه عن الدية
ويروى أنه عرض مثل هذا بعينه لرجل آخر من طيء أيضا يقال له
بجير بن عميرة وكان أحمر شبيها بالعجم فاستلب رجلا من أهل فارس رايته فأقبل بها فبصر به رجل من كندة يدعى فروة فحمل عليه فطعنه فأصاب مقتله فنادى بجير بسم الله فاعتنقه فروة فأتيا سعدا فقال لهما أن الشهادة لا ثواب لها في الدنيا ولكن كفوا العجلات
وخرج يومئذ رجل من أهل فارس ينادي من يبارز فبرز له علباء بن جحش العجلي فبعجه علباء فأصاب سحره وبعج الفارسي علباء فخرق أمعاءه وخرا جميعا فأما الفارسي فمات من ساعته وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه فلم يستطع القيام فعالج ادخالها فلم يتأت له حتى مر به رجل من المسلمين فقال له يا هذا أعني على بطني فأدخله له فأخذ بصفاقيه ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صف فارس فقال
أرجو بها من ربنا الثوابا
قد كنت ممن يحسن الضرابا
الرجز
قالوا وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف الليل فكانت ليلة أرماث تدعى ليلة الهدأة وليلة أغواث تدعى ليلة السواد والنصف الأول يدعى السواد ثم لم يزل المسلمون يرون في يوم أغواث الظفر على فارس وقتلوا فيه عامة أعلامهم وجالت خيل القلب وثبت رجلهم فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا فلما ذهب السواد تفايأ الناس وباتوا على مثل ما بات القوم عليه ليلة أرماث ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا إلى أن تفايأوا فلما امسى سعد وسمع ذلك نام وقال لبعض من عنده إن تم الناس على الإنتماء فلا توقظوني فإنهم أقوياء على عدوهم وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظوني فإنهم على التساوي فإن سمعتم ينتمون فأيقظني فإنما إنتماؤهم من السوء


قالوا ولما اشتد القتال بالسواد وكان أبو محجن قد حبس وقيد فهو في القصر صعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله فزبره سعد ورده فنزل وأتى سلمى بنت خصفة فقال لها يا بنت خصفة هل لك إلي خير قالت وما ذاك قال تخلين عني وتعيرنني البلقاء فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي وإن أصبت وخشيت هذا فما أكثر من يفلت ويجرب صاحبه فقالت وما انا وذاك فرجع يرسف في قيوده ويقول
كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا
وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت
مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وأخوة
فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
ولله عهد لا أخيس بعهده
لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا
الطويل
فقالت سلمى إني استخرت الله ورضيت بعهدك فأطلقته وقالت أما الفرس فلا اعيرها ورجعت إلى بيتها فاقتاد أبو محجن الفرس فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها قيل بسرجها وقيل عريا ثم ذبب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبر وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبرز أمام الناس فحمل على القوم يلعب بين صفين برمحه وسلاحه وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا ويعجب الناس منه وهم لايعرفونه ولم يروه من النهار فقال بعضهم أوائل أصحاب هاشم بن عتبة أوهاشم نفسه


وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر والله لولا محبس أبي محجن الثقفي لقلت إن هذا أبو محجن وهذه البلقاء وقال بعض الناس إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن أن صاحب البلقاء الخضر وقال آخرون والله لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا ملك بيننا ولا يذكر الناس أبا محجن ولا يأبهون له لمبيته في محبسه فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس وتراجع المسلمون وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج فوضع عن نفسه وعن دابته واعاد رجله في قيده وقال
لقد علمت ثقيف غير فخر
بأنا نحن أكثرهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات
وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وانا وفدهم في كل يوم
فإن عيوا فسل بهم عروفا
وليلة قادس لم يشعروا بي
ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائي
وإن أترك أذيقهم الحتوفا
الطويل فقالت له سلمى في أي شيء حبسك هذا الرجل قال اما والله ما حبسني لحرام أكلته ولا شربته ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية وأنا أمرؤ شاعر يدب الشعر في لساني وينبعث على شفتي فيساء لذلك ثنائي فعلى ذلك حبسني قلت
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لاأذوقها
الطويل
ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث وليلة الهدأة وليلة السواد حتى إذا أصبحت أتته فصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن فدعا به فأطلقه وقال اذهب فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله قال لاجرم والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدا
حديث يوم عماس وهو اليوم الثالث من أيام القادسية


قالوا وأصبح المسلمون من اليوم الثالث وهم على مواقفهم وأصبحت الأعاجم كذلك وبين هؤلاء وهؤلاء قدر ميل في عرض ما بين الصفين وقد قتل من المسلمين ألفان بن رثيث وميت ومن المشركين عشرة آلاف وقال سعد من شاء غسل الشهيد الميت والرثيث ومن شاء فليدفنهم بدمائهم وجعلهم المسلمون وراء ظهورهم وأقبل الذين يحملونهم إلى القبور يتبعون القتلى ويبلغون الرثيث إلى النساء وكان النساء والصبيان يحفرون المقابر في اليومين يوم أرماث ويوم أغواث بعدوتي مشرق وكان في الطريق أصل نخلة بين القادسية والعذيب ليس بينهما يومئذ نخلة غيرها فكان الرثيث إذا انتهى بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تختها يستروح إلى ظلها فمر حاجب بن يزيد وكان على الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء وولاتهم ورجل من الجرحى من طيء يدعى بجيرا يقول وهو مستظل بظلها
ألا يا آسلمى يا نخلة بين قادس
وبين العذيب لا يجاورك النخل
الطويل
وآخر من بني ضبة أو من بني ثور يدعى غيلان وهو يقول
ألا يا آسلمى يا نخلة فوق جرعة
يجاورك الجمان والرمث والرغل
الطويل
قالوا وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه بالأمس ثم قال إذا طلعت لكم الشمس فأقبلوا مائة مائة وكلما توارث عنكم مائة فليتبعها مائة فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا ففعلوا ولا يشعر بذلك أحد وكان مكانهم مما صنع الله للمسلمين فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل طلعت نواصيها فكبر وكبر الناس وقالوا جاء المدد


وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها فجاءوا من قبل خفان فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب فاختلف الطعن والضرب ومدد المسلمين متتابع فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى إنتهى إليهم هاشم وقد طوى في سبعمائة فأخبروه برأي القعقاع وما صنع في يومه فعبأ أصحابه سبعين سبعين فلما نجز آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه فيهم قيس بن هبيرة المرادي وهو ابن المكشوح فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب كبر وكبر المسلمون وقد أخذوا مصافهم وقال هاشم أول القتال المطاردة ثم المراماة فأخذ قوسه فوضع سهما ثم نزع فرفعت فرسه رأسها فخل أذنيها فضحك وقال وأسوأتاه من رمية رجل ينتظره كل من رآه أين ترون سهمي كان بالغا فقيل العتيق فنزقها وقد نزع السهم عن أذنيها ثم ضربها فأقبلت تخرقهم حتى عاد إلى موقفه وقيل إنه نزل عن فرسه وفعل ذلك راجلا فالله أعلم
وما زالت مقانبة تطلع وقد بات المشركون في علاج توابيتهم حتى أعادوها على الفيلة فأصبحوا على مواقفهم وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها ومع الرجالة فرسان يحمونهم إذا أرادوا كتيبة دلفوا إليها بفيل
واتباعه لينفروا بهم خيلهم فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه احد كان أوحش وإذا طافوا به كان آنس فكان الفيل كذلك حتى عدل النهار
ولما قدم قيس بن المكشوح مع هاشم قام فيمن يليه فقال يا معشر العرب إن الله عز وجل قد من عليكم بالإسلام وأكرمكم بمحمد {صلى الله عليه وسلم} فأصبحتم بنعمتة أخوانا دعوتكم واحدة وأمركم واحد بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب فانصروا الله ينصركم وتنجزوا من الله تعالى فتح فارس فإن أخوتكم من أهل السام قد أنجز الله تعالى لهم فتح الشام وانتثال القصور الحمر والحصول الحمر


وخرج يوم عماس رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى من يبارز فخرج إليه رجل من المسلمين يقال له شبر بن علقمة وكان قصيرا دميما فقال يا معشر المسلمين قد أنصفكم الرجل فلم يجبه أحد ولم يخرج إليه أحد فقال أما والله لولا أن تزدروني لخرجت إليه فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وجحفته ثم تقدم فلما رآه الفارسي هدر ثم نزل إليه فاحتمله فألقاه ثم جلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود بمنطقته فلما استل السيف حاص الفرس حيصه فجذبه المقود فقلبه عنه فقام إليه وهو يسحب فافترسه فجعل أصحابه المسلمون يصيحون به فقال صيحوا ما بدا لكم فوالله لا أفارقه حتى أقتله ثم أسلبه فذبحه وسلبه ثم أتى سعدا بالسلب فنفله إياه فباعه باثنى عشر ألفا
قالوا ولما رأى سعد الفيلة تفرق الناس وعادت لفعلها يوم أرماث سأل هل لها مقاتل فقيل له نعم المشافر والعيون لا تنتفع بها بعدها فأرسل إلى القعقاع وأخيه عاصم أن اكفياني الفيل الأبيض وكان بإزائهما فأخذ القعقاع وعاصم رمحين أصمين لينين ودنوا في خيل ورجل وقالا اكتنفوه لتحيروه وفعل الآخران مثل ذلك فلما اكتنف الفيلان نظر كل واحد منهما يمنة ويسرة وهما يريدان أن يتخبطا فحمل القعقاع وعاصم والفيل الأبيض متشاغل بمن حوله فوضعا رمحيهما معا في عينيه وقبع ونفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره فنفحه القعقاع ورمى به ووقع لجنبه وقتلوا كل من كان عليه وقال حمال لصاحبه وقد قصدا إلى الفيل الأجرب إما أن تضرب المشفر وأطعن في عينهأو طعن في عينه وأضرب مشفره فاختار صاحبه الضرب فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه لا يخاف سائسه إلا على بطانه فطعنه في عينه فأقعى ثم استوى فنفحه الآخر فأبان مشفره وبصر به السائس ففقر أنفه وجبينه بفأسه


ويروى أن الفيلين صاحا عند ذلك صياح الخنزير ثم ولى الأجرب الذي عور فوثب في العتيق فأتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم فعبرت العتيق في أثره فبيتت المدائن في توابيتها وهلك من فيها
وقيل إنه بقي منها الفيل الأبيض لم يبق في المعركة غيره وإن الناس رشقوا مشافر الفيلة فعند ذلك انبعث الفيل الآخر فلم تنته عن المدائن وكانت تفعل بالناس الأفاعيل فاستقام للناس بعدها وجه القتال وخلصوا بأهل فارس فاجتلدوا على جرد بالسيوف حتى أمسوا وهم في ذلك على السواء
فكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا العرب والعجم فيه على السواء
ولايكون بينهم لفظة إلا تقاولها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد بالمدائن إذ كان أمر رستم بأن يرتب الرجال على الطريق بينهما ليبلغه بالتنادي ما يطرأفي العسكر من حينه فيرسل إليهم أهل النجدات ممن بقي عنده فيتقوون بهم وأصبحت عنده للذي لقى بالأمس الأمداد على البرد فلولا الذي صنع الله للمسلمين في الذي ألهم إليه القعقاع في اليومين وما أتاح لهم بهاشم لكسر ذلك المسلمين
وأصيب يومئذ مؤذن سعد بن أبي وقاص فتشاح الناس على الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف فأقرع بينهم سعد
قالوا ولما أمسى الناس من يومهم ذلك وأطعنوا إلى الليل واشتد القتال فصبر الفريقان فخرجا على السواء فلم يسمع إلا الغمائم من هؤلاء وهؤلاء فسميت ليلة الهرير لم يكن بعدها قتال بليل في القادسية


وجدد المشركون في تلك الليلة تعبئة وأخذوا في أمر لم يكونوا عليه في الأيام الثلاثة وبقي المسلمون على تعبئتهم فخرج مسعود بن مالك الأسدي وقيس بن هبيرة المرادي وهو ابن المكشوح وأشباههم فطاردوا القوم وحركوهم للقتال فإذا هم فيه أمة لايشهدون ولا يريدون إلا الزحف فقال قيس بن مكشوح لمن يليه ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة والرأي رأي الأمير وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجال فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم فتيسروا للحملة
قال دريد بن كعب النخعي وكان معه لواء النخع إن المسلمين قد تهيئوا للمزاحفة فاسبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه فنافسوهم في الشهادة وطيبوا بالموت أنفسا فإنه لا
نجاء من الموت إن كنتم تريدون الحياة وإلا فالآخرة ما أردتم
وقال الأشعث بن قيس يامعشر العرب إنه لاينبغي ان يكون هؤلاء أجرأ على الموت ولا أسخى أنفسا عن الدنيا منكم تنافسوا ولا تجزعوا من القتل فأنة أماني الكرام ومنايا الشهداء وترجل
وقال حنظلة بن الربيع وأمراء الأعشار ترجلوا أيها الناس وافعلوا كما نفعل ولا تجزعوا مما لابد منه فالصبر أنجى من الجزع
وفعل طليحة وغالب أهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك
وقال أنس بن الجليس ليلة الهرير فكان صليل الحديد فيها كضرب القيون ليلتهم حتى الصباح أفرغ عليهم الصبر افراغا
وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها ورأى العرب والعجم أمرالم يروا مثلة قط وانقطعت الأصوات والأخبار عن سعد ورستم فبعث سعد في تلك الليلة نجادا وهو غلام إلى الصف إذ لم يجد رسولا فقال انظر ماذا ترى من حالهم فرجع إليه فقال ما رأيت يابنى فقال رأيتهم يلعبون فقال أويجدون فأقبل سعد على الدعاء حتى إذاكان في وجه الصبح انتمى الناس فاستدل سعد بذلك على أنهم الأعلون وأن الغلبة لهم


قال بعضهم أول شى ء سمعه سعد ليلتئذ ممايستدل به على الفتح في نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهويقول
نخن قتلنا معشرا وزائدا
أربعة وخمسة وواحدا
تحسب فوق البلد الأساودا
حتى إذا ماتوا دعوت واحدا
الله ربي واحترزت جاهدا
الرجز
فاستدل سعد بهذا وربما سمع معه من غير القعقاع من الإنتماء واتسع له الرجاء فسمع عمرو بن معدي كرب يقول أنا ابن أسلة وطليحة يقول أنا ابن ليلى وسعد بن عمارة يقول أنا ابن أروى ثم سمع الانتساب من كل ناحية خذها وأنا الغلام الجرمي من النخع خذها وأنا الغلام المالكي من بني أسد خذها وأنا الغلام الأسعدي من عجل فأصبحوا والناس على مواقفهم متحاجزين فصلى المسلمون الغداة وقضوا من شأنهم
خبر اليوم الرابع من أيام القادسية
وهذا هو آخر أيامها ويسمى من بينها يوم القادسية وفية قتل الله رستم وأتم الفتح للمسلمين
قالوا وأصبح الناس ذلك اليوم حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها فسار القعقاع في الناس فقال إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم فاصبروا واحملوا فإن النصر مع الصبر فاجتمع إليه هلال بن علفة ومالك بن ربيعة والكلح الضبي وضراربن الخطاب وابن الهذيل وغالب وطليحة وعاصم بن عمرو ابن ذي البردين وأمثالهم ممن اختصر ذكره ومعهم عشائرهم ثم صمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح
ولما رأت ذلك القبائل قام فيهم رجال منهم فقالوا لايكونن هؤلاء أجد في أمرالله تعالى منكم ولا أسخى نفسا عن الدنيا تنافسوها فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين باءزائهم
وقام في ربيعة عتبة بن النهاس وفرات بن حيان والمعنى بن حارثة وسعيد بن مرة في امثالهم فقالوا أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم


واقتتل الناس إلى أن انفرج قلب المشركين حين قام قائم الظهيرة ؤقد ركد عليهم النقع واشتد الحر وسقفتهم الشمس فهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريرة فهوت في العتيق فانتهى القعقاع وأصحابة إلى السرير فعثروا به وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قدمت عليه يومئذ
بمال فهي واقفة فاستظل في ظل بغل منها وحمله وضرب هلال بن علفة العدل الذي على البغل الذي رستم تحتة فقطع حباله فوقع عليه أحد العدلين ولا تراه هلال ولا يشعر به فأزال من ظهره فقارا ويضربه ضربة فنفحت مسكا ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه فاقتحمه عليه هلال فتناوله وقد عام فأخرجه ثم ضرب جبينه بالسيف حتى قتله ثم جاء به فرمى به بين أرجل البغال وصعد السرير ثم نادى قتلت رستما ورب الكعبة إلي إلي فأطافوا به ما يحسون السرير وما يرونه وكبروا وتنادوا وانبت قلب المشركين عندها وانهزموا وقام الجالينوس على الردم ونادى أهل فارس إلى العبور وانسفى الغبار فأما المقترنون فإنهم خشعوا فتهافتوا في العتيق فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر وهم ثلاثون الفا


وأخذضرار بن الخطاب درفش كابيان راية كسرى فعوض عنها ثلاثين ألفا وكانت قيمتها ألف ألف ومائتي ألف وقتلوا في المعركة من الليل يعني ليلة الهرير عشرة آلاف سوى من قتلوا في تلك الثلاثة الأيام وأكب المسلمون على من ثبت لهم وعلى من سفل منهم عن الردم ومن ارتفع عنه فقتلوا منهم ستين ألفا فقتلوا يوم القادسية مائة ألف سوى من قتلوا في الأيام قبلة قالوا فلما انكشف أهل فارس فلم يبق منهم بين الخندق والعتيق أحد وطبقت القتلى ما بين قديس والعتيق أمر سعد زهرة بن جوية باتباعهم فنادى زهرة في المقدمات وساروا وأمر سعد القعقاع بمن سفل وشرحبيل بمن علا وأمر خالد بن عرفطة بسلب القتلى وبدفن الشهداءفدفن شهداءليلة الهرير ويوم القادسية ألفين وخمسمائة وقيل ثلاثة آلاف من وراء العتيق بحيال مشرق ودفن شهداءالأيام الثلاثة قبل ذلك على مشرق ويقال كانوا ألفين وخمسمائة وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شيءلم يجمع قبله ولابعده
وأرسل سعد إلى هلال بن علفة فدعا له فقال أين صاحبك يعني رستما قال رميت به تحت بغل فقال أذهب فجيء به فذهب فجاء به فقال له سعد جرده إلا ما شئت فخذ سلبه فلم يدع عليه شيئا ويقال إنه باع الذي سلبه بسبعين ألفا وكان قد تخفف حين وقع في الماء ولم توجد قلنسوته وكانت قيمتها مائة ألف


وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد فرأوا رستما ببابه مطروحا فقالوا أيهالأمير رأينا جسد رستم على باب قصرك وعليه رأس غيره وكان الضرب قد شوهه فضحك سعد وخرج زهرة في آثار أهل فارس فانتهى إلى الردم وقد تبعوه ليمنعوهم به من الطلب فقال زهرة لبكير بن عبد الله الليثي وهوالذي يقال له فارس أطلال وهو اسم فرس له كان يعرف بها يابكير أقدم وكان يقاتل على الإناث فضرب فرسه وقال ثبي أطلال فتجمعت وقالت وثبا وسورة البقرة ثم وثبت ووثب زهرة وكان على حصان وتتابع ذلك ثلاثمائة فارس فلحق زهرة بالقوم والجالينوس في آخرهم يحميهم فشاوله زهرة فاختلفا ضربتين فقتله زهرة وأخذ سلبه وقتل أولئك الفرار ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف ورجع زهرة في أصحابه حين أمسوا فباتوا في القادسية ولما رجع القعقاع وشرحبيل إلى سعد قال لشرحبيل أغد في طلب القعقاع وقال القعقاع أغد في طلب شرحبيل فعلا هذا وسفل هذا حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية قال الشعبي خرج القعقاع وأخوه وشرحبيل في طلب من ارتفع وسفل فقتلوهم في كل قرية وأجمة وشاطئ نهر ورجعوا فوافوا صلاة الظهر وهنأ الناس أميرهم و أثنى على كل حي خيرا وذكره منهم وقال في ذلك هلال بن علفة
جدعت أنوف العجم يوم لقيتهم
برستم والجمعان في أشغل الشغل
فضضت به رض الصفوف فقوضت
صفوفهم والحرب جامحة تغلي
الطويل
وقال الشماخ في قصيدة يرثي بكير بن عبد الله فارس أطلال ويذكر ما كان من فرسه في وثبتها المذكورة قبل
وغيب عن خيل بموقان أسلمت
بكير بني الشداخ فارس أطلال
غداة اقتحام القوم من بعد نطقها
وحلفتها عرض العتيق بادلال
الطويل
ولما قتل زهرة الجالينوس وأخذ سلبه جاء به إلى سعد فعرفه الأسارى الذين كانوا عند سعد وقالوا هذا سلب الجالينوس وكان سيدا من ساداتهم وعظيما من عظمائهم فقال سعد لزهرة هل أعانك عليه أحد قال نعم قال من قال الله عز وجل فنفله إياة


وقيل إنما جاء بالسلب وقد لبسه فانتزعه منه سعد وقال ألا انتظرت إذني وكتب فيه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن يمضي لزهرة ذلك السلب وعاتب سعدا في كتابه وقال له تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وبقي عليك مابقي من حربك تكسر قرنه وتفسد قلبه
ويروى ان سعدا استكثر له السلب فكتب فيه إلى عمر فكتب إليه إني قد نفلت من قتل رجلا سلبه فدفعه إليه سعد فباعه بسبعين ألفا
وقال زهرة في قتل الجالينوس
تبعنا جيوش الجالينوس وقد رأى
بعينه أمرا ذا إياس منكرا
لحقنا به نرمي الكرانيف سادرا
ويعجب إذخلى الجموح وشمرا
فوليته لما التقينا مصمما
أراه محياالموت أحمر أصفرا
الطويل
وقال سيف عن رجاله ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة استحيوا من الفرارفصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين لكل كتيبة منها رأس
من رؤساء المسلمين فأباد الله تلك الكتائب يومئذ
وقال سعيد بن المرزبان أصاب أهل فارس يومئذ بعدما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم قتلوا حتى أن كان الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه وحتى أنه ليأخذ سلاحه فيقتله به وحتى أنه ليأمر أحدالرجلين منهم بقتل صاحبه
وقال بعض من شهدها أبصر سلمان بن ربيعه الباهلي أناسامن الأعاجم تحت راية لهم قدحفروا لهاوجلسواتحتها وقالوا لا نبرح حتى نموت فحمل عليهم فقتلهم وسلبهم وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية وأحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت وكذلك أخوه عبد الرحمن بن ربيعة ذو النور مال على آخرين قد تكتبوا ونصبوا للمسلمين فطحنهم بخيله وقال الشعبي كات يقال لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور
وقال بعض بني معرض مارأينا مثل أهل القادسية هزمناهم فأتبعناهم وهم على خيولهم كأنها في طين ونحن على أرجلنا كأنا ظباءولقد أدركنا رجلا يعدو بة فرسه فصحنا به فلم يتحرك فأخذناه أسيرا


قال أبو وائل وشهدها لقد سمعت الفرس يقولون ما تقطع سيوفنا الشعر ولقد نزع منا النصر وقال الأسود النخعي شهدت القادسية فلقد رأيت غلاما منا من النخع يسوق ستين أوثمانين رجلا من أبناء الأحرار وأتى رجل سعدا فقال تجعل لي ثلث ما أجيئك به قال نعم فأتاه بأساورة قد أسرهم فقال له سعد كيف
أخذت هؤلاء وحدك قال صحت بهم وهم منهزمون فوقفوا لم يمتنع منهم أحد فجعل سعد يتعجب
وكان سعد أجرأ الناس وأشجعهم إنه نزل قصرا غير حصين يشرف منه على الناس ويرى قتالهم وصف المسلمين إلى أصل حائط القصر ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذوا برمته فوالله ما كربه هول تلك الأيام ولا أغلقه ودخل إليه في اليوم الرابع رجل من بجيلة فقال أبا إسحاق إن الناس قد جبنوك وقالوا لم يمنعك من الخروج الوجع قال ما أخاف ذلك على نفسي أوما ترى ما بي وسأخرج وكان به حبون ودماميل لا يستطيع أن يقر لها إلا مكب على صدره فركب فرسا فانتهى إلى باب القصر وقد تبوأ فيه حمام فطرنا فنفر الفرس فشب فانفجر ما كان من قروحه وخرج فوقف وحض المسلمين وقال لا تكون هذه الأعاجم أصبر على المقارعة منكم واعلموا ان القوم ملوا إن كنتم مللتم فنشط الناس وفي حديث غير هذا أن جريرا البجلي قال في ذلك اليوم
أنا جرير كنيتي أبو عمرو
قد نصر الله وسعد في القصر
الرجز
وقال رجل من المسلمين أيضا
نقاتل حتى أنزل الله نصره
وسعد بباب القادسية معصم
فأبنى وقد أمت نساء كثيرة
ونسوة سعد ليس فيهن أيم
الطويل
فلما بلغ ذلك من قولهما سعدا خرج إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه فعذره الناس وقال سعد يجيب جريرا من أبيات
وما أرجوا بجيلة غير أني
أؤمل أجرهم يوم الحساب
الوافر


وفي حديث يروى عن قيس بن أبي حازم وكان شهد تلك الحرب أن الفرس لما إنهزموا لحقوا بدير قرة وما وراءه ونهض سعد بالمسلمين حين نزل بدير قرة على من هناك من الفرس وقدم عليه بالدير عياض بن غنم في ألف رجل من الشام مددا لهم فأسهم لهم سعد مع المسلمين في ما أصابوا بالقادسية ثم أن الفرس هربت من دير قرة إلى المدائن يريدون نهاوند واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والفرنت والحرير والسلاح وثياب كسرى وخلوا ما سوى ذلك وأتبعهم سعد الطلب فبعث خالد بن عرفطة ووجه معه عياض بن غنم في أصحابه وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة وعلى ميمنتهم جرير بن
عبد الله وعلى الميسره زهرة بن جوية وتخلف سعد لما به من الوجع فلما أفاق من وجعه أتبع الناس بمن بقي معهم من المسلمين حتى أدركهم دون دجلة فلما وضعوا على دجلة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها حتى أتى سعدا علج من أهل المدائن فقال أدلكم على طريق تدركونهم قبل ان يمنعوا فخرج بهم على مخاضة بقطربل فكان أول من خاضها هاشم واتبعه خيله ثم جاز خالد بن عرفطة بخيله وتتابع الناس فخاضوا حتى جاوزوا فزعموا أنه لم يهتدي لتلك المخاضة بعد ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط فأشفق الناس أن يكون به كمين للعدو فتردد الناس وجبنوا عنه فكان أول من دخله بجيشه هاشم فلما جاز الاح للناس بسيفه فعرف الناس أن ليس به شيء يخافونه فأجاز بهم خالد بن عرفطة ثم لحق سعد بالناس حين انتهوا إلى جلولاء وبها جماعة من الفرس فكانت وقعة جلولاء بها فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها أفضل مما أصابوا بالقادسية وأصيبت إبنة لكسرى يقال لها من جانت ويقال ابنة ابنه وقال شاعر من المسلمين
يارب مهر حسن مطهم
يحمل أثقال الغلام المسلم
ينجو إلى الرحمن من جهنم
يوم جلولاء ويوم رستم
ويوم زحف الكوفة المقدم
ويوم لافي حدفه مهزم
وخر دين الكافرين للفم
الرجز


وفي كتاب المدائني عن أبي وائل قال هزمناهم يعني يوم القادسية حتى انتهوا إلى الفرات فقاتلونا عليه فهزمناهم حتى انتهوا إلى الصراة فقاتلونا عليها فهزمناهم حتى انتهوا إلى المدائن فدخلوها ونزل المسلمون دير السباع فجعلنا
نغاديهم فنقاتلهم فقال المسلمون هؤلاء في البيوت ونحن في الصحراء اعبروا إليهم فعبرنا إليهم فحصرناهم في الجانب الشرقي حتى أكلوا الكلاب والسنانير فخرجوا على حامية معهم الأثقال والعيال حتى نزلوا جلولاء الوقعية وتبعناهم فقاتلوا بها قتالا شديدا عن العيال والذراراي فجال المسلمون جولة فناداهم سعد يا معشر المسلمين أين أين أما رأيتم ما خلفكم أتأتون عمر منهزمين فعطفوا وهزم الله المشركين وسميت جلولاء الوقعية فتح الفتوح وسيأتي عبد ذكر فتح جلولاء والمدائن على التمام بعد انقضاء بقايا الأخبار عن شأن القادسية ومغانمها إن شاء الله تعالى
قال الشعبي بلغ الفيء بالقادسية ستمائة ألف ألف وكان خمسها عشرين ومائة ألف ألف وكان الملك يزدجرد بن كسرى قد حمل نصف الأموال إلى أهل فارس بالقادسية ليتوردوا بها بلاد العرب وليغزوا عمر رضي الله عنه في داره وقراره فعل مقتدر مغرور وأمر الجنود أن يحضروا الحرب بأموالهم وأن يختلفوا ليكون أجد لهم في الامتناع والمخاطرة لدنياهم فاجتمعت معهم من الأموال والزين والشارات على قدر أحسابهم مالا يحصى وكان سبب ذلك ما قضى الله عز وجل للمسلمين فساقه إليهم وكان يزدجرد قد استبقى النصف من الأموال وأقره في بيت المال على حاله فأفاءه الله على المسلمين يوم المدائن
وذكر المدائني أن المسور بن مخرمة أصاب يوم القادسية إبريق ذهب عليه يا قوت فقال له بعض الفرس آخذه منك بعشرة آلاف فأبى وأتى به سعدا فباعه بمائة ألف


وقال مخنث بن سليم إني لفي طلب المشركين يومئذ إذ لحقت رجلين أحدهما على فرس والآخر على بغل ثم ذكر حديثا إنتهى فيه إلى أن فاته صاحب الفرس ولحق بصاحب البغل فأخذه قال وأنا أريد ان آتي به سعدا وما من رأي أن انظر إليه فجاء مولى لي وأنا أصلي فحط الثقل واستخرج سفطا فنظر إليه وقال
لي أتدري ما معك قلت لا قال بعض كنوز كسرى فنظرت فإذا ناقة ذهب عليها رجل ذهب وبطان ذهب وزمام ذهب وإذا ذلك كله مكلل بالجوهر عليه مثال رجل من فضة فأتيت بها سعدا فقال ابشر بأفضل منه من ثواب الله وولاني مغانم القادسية ومعي غيري فجاء رجل بسفط آخر فألقاه في المغانم وقال أما والله لولا خوف الله ما أديته فإذا الذي جئت به لا يقارب ما جاء به الرجل فقلت من أنت قال والله ما اخبرك لتحمدني أنت ولا أحد من الناس وأصاب الناس رثة ومتاعا كبيرا
وقال طلحة بن مصرف أمروا مما وجدوا من الطيب للنساء ببعضه فأصاب كل إمرأة مع الناس يومئذ ثلاثة وثلاثون مثقالا من عنبر ومثلها من مسك وأشرك صبيان الذين استشهدوا في ذلك فأما الكافور فلم يعبأوا به شيئا وبعضهم استبدل منه بالملح كيلا بكيل وأصاب الرجل من المسلمين خمسة آلاف ونيف من سهمه وصير الله عز وجل العدة والأداة إلى المسلمين فلم يبق أحد إلا أردى وركب وفضل عنهم حتى جنبوا الجنائب
وذكر سيف عن رجاله قالوا وقسم سعد الفيئ بالقادسية على تسعة وثلاثين ألفا أو يزيدون وكان من شهدها أكثر من تسعة وثلاثين ألفا وأقل من الأربعين فأصيب منهم خمسة آلاف ومائتان وقيل وخمسمائة ثم لحق في الأيام الثلاثة بعد الوقعة عدد من استشهد فقسم الفيء على تلك العدة التي هي أقل من أربعين ألفا قالوا وأعطى الناس المتاع بالقيمة في سهم الرجل
قال إبراهيم بن يزيد كانوا ليقومون الشيء الثمين بالشيء اليسير


وقال الشعبي لم يقسم يومئذ لأكثر من فرسين ولا يقسم لأكثرمن هما قالوا فبلغ سهم الفرسين وصاحبهما سبعه وعشرين ألفا للرجل خمس ذلك وللفرسين سائر ذلك وللفرس الواحد بحساب ذلك عشرة آلاف ونيف وسهم الرجل الواحد خمسة آلاف ونيف وسهم الرجل الفارس ذي الفرس الواحد خمسة عشر
ألفا ونيف وكان القاسم بين الناس والمميز للخيل والذي يلي الأقباض سلمان بن ربيعة الباهلي
قال المدائني فجاء عمرو بن معدي كرب بفرسين يقودهما فقال سلمان لأحد الفرسين هذا هجين فقال عمرو الهجين يعرف الهجين فأغلظ له سعد عند ذلك وهدده فقال عمرو
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد
قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطي السوية من طعن فهل نهل
ولا سوية إذ تعطى الدنانير
ونحن في الصف قد تدمى حواجبنا
نعطى السوية مما أخلص الكير
البسيط
قالوا وكتب سعد بالفتح إلى عمر رحمه الله وبعدة من أصيب من المسلمين جملة وسمى له منهم من كان عمر يعرفه وكان كتابه إليه
أما بعد فإن الله عز وجل نصرنا على أهل فارس ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل وزلزال شديد وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراءون مثل زهوها فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونفله عنهم إلى المسلمين وأتبعهم المسلمون يقتلونهم على الأنهار وعلى صفوف الآجام وفي الفجاج وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القاريء وفلان وفلان ورجال من المسلمين لاتعلمهم الله بهم عالم كانوا إذا جن عليهم الليل يدوون بالقرآن دوي النحل وهم آساد من الناس لا تشبههم الأسود ولم يفضل من مضى منهم على من بقي إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم
ولما أتى عمر الكتاب بالفتح قام في الناس فقرأه عليهم وكان رضي الله عنه


لما أتاه الخبر بنزول رستم القادسية يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى بيته فلما لقيه البشير سأله من أين جاء فأخبره فقال يا عبد الله حدثني قال هزم الله العدو وعمر رضي الله عنه يخب معه ويستخبره والآخر يسير على ناقته وهو لايعرفه حتى دخل المدينة فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين فقال الرجل فهلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين وجعل عمر يقول له لا عليك يا أخي
وقال عمر للناس عندما قرى ء عليهم الفتح إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض فإذا عجز ذلك عنا تأسينا حتى نستوي في الكفاف إني والله ما أنا بملك فاستعبدكم ولكني عبد الله عرض علي الأمانة فإن أبيتها ورددتها عليكم وأتبعتكم حتى تشبعوا وترووا في بيوتكم سعدت وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتي شقيت ففرحت قليلا وحزنت طويلا وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب
وكتب سعد أيضا إلى عمر في ثلاثة أصناف من المسلمين اجتمعوا إليه يسأله عنهم عمن أسلم بعدما فتح الله تعالى عليهم ممن كان له عهد ومعونة وعمن أعتق الجند من رقيقهم بعد الفتح وعمن جاء بعدما فتح الله عليهم وأخبره أنه ممسك عن القسم حتى يأتيه رأيه
قالوا وكانت طائفة من الديلم ورؤساء أهل المسالح قد استجابوا للمسلمين واختاروا عهودهم على عهد فارس وقاتلوا مع المسلمين على غير الإسلام وكان حشوة فيمن أسلم منهم فلما فتح الله تعالى على المسلمين قال أولئك الذين لم يكونوا أسلموا إخواننا الذين سبقونا دخلوا في هذا الأمر من أول الشأن خير وأصوب رأيا والله لايفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل في هذا الأمر منهم فأسلموا فهم الصنف الأول من الذين سأل عنهم سعد عمر رضي الله عنهما قالوا وتتابع أهل العراق من أصحاب الأيام الذين شهدوا اليرموك


ودمشق ورجعوا ممدين لأهل القادسية فتوافوا بها من الغد ومن بعد الغد جاء أولهم يوم أغواث وآخرهم من بعد الغد من يوم الفتح وقدمت أمداد فيها مراد وهمدان ومن أبناء الناس فهذا الصنف الثاني من ممن كتب فيهم سعد
وأقام المسلمون في انتظار أمر عمر رضي الله عنه يقومون أقباضهم ويحزرون جندهم ويرمون أمورهم ويجددوون حربهم حتى جاءهم جواب عمر
أما بعد فالغنيمة لمن شهد الوقعة والمواساة لمن أغاث في ثلاث بعد الوقعة فاشركوهم ومن أعانكم في حربكم من أهل عهدكم ثم أسلم بعد الحرب في ثلاث ومن شهد حربكم من مملوك ثم عتق في ثلاث بعدها فأشركوا هؤلاء الاصناف الثلاثة فيما أفاء الله عليكم
وكانوا كتبوا إليه - أيضا - يسألونه عمن احتلم بعد الوقعة ممن شهدها فأجابهم عن ذلك أما بعد فمن أدرك الحلم ممن شهد الوقعة في ثلاث بعدها فأشركوهم وألحقوهم وأقسموا لهم ولمن لحق في ثلاث أو أسلم في ثلاث فإن الله لن يزيدكم بذلك ألا فضلا وليست في الفيوء أسوة بعد الخمس ألا هؤلاء الطبقات
وكتبو إلى عمر ايضا أن أقواما من أهل السواد ادعو عهودا ولم يقم على عهد ألايام لنا ولم يف به أحد علمناه ألا أهل بانقيا وبسما وأهل أليس الأخيرة وادعى سائر أهل السواد أن فارس أكرهوهم حشروهم فلم يخالفوا إلينا ولم يذهبوا في الأرض
وكتبوا إليه أيضا في كتاب آخر أن أهل السواد جلوا فجاءنا من تمسك بعهده ولم يجلب علينا فتممنا لهم على ما كان بين المسلمين وبينهم قبلنا وزعموا أن أهل الأرض قد لحقوا بالمدائن فأحدث إلينا فيمن أقامو فيمن جلا وفي من ادعى أنه استكره وحشر فهرب ولم يقاتل أو استسلم فإنا بأرض رغيبة
والأرض خلاء من أهلها وعددنا قليل وقد كثر أهل صلحنا وإن اعمر لها وأوهن لعدونا تألفهم


فلما انتهى ما كتبوا به إلى عمر رضي الله عنه قام في الناس فقال إنه من يعمل في بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه ومن يتبع السنة وبينه إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ماعند الله لأهل طاعته أصاب أمره وظفر بحظه وذلك أن الله عز وجل يقول ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحد ( 49 الكهف ) وقد ظهر أهل الأيام والقوادس بما يليهم وجلا أهله وأتاهم من أقام على عهدهم فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا وفيمن أقام ولم يدع شيئا ولم يجل وفيمن استسلم
فأجمعوا على ان الوفاء لمن أقام وكف وأن من ادعى وصدق بمنزلتهم ومن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم وأن يجعل أمر من جلا إلى المسلمين فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة وإن شاءوا أتموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال وأن يخيروا من أقام واستسلم بين الجزاء والجلاء وكذلك الفلاح
فكتب عند ذلك عمر رضي الله عنه جوابا عما كتبوا إليه في ذلك
أما بعد فإن الله عز وجل أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين العدل في السيرة والذكر فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة ولم يرضى منة إلا بالكثير وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد ولا في شدة ولا رخاء والعدل وإن رئي لنا فهو اقوى وأطفاء للجور وأقمع للباطل من الجور وإن رئي شديدا فهو انكس للكفر فمن تم على عهده من أهل السواد ولم يعن عليكم بشيء فله الذمة وعليهم الجزية وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم أو يذهب في الأرض فلا تصدقوهم بما ادعو من ذلك إلا أن تشاءوا وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم وأبلغوهم مأمنهم ومن أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم ما لأهل الذمة بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة والفلاحون إذا فعلوا ذلك وكل من ادعى شيئا فصدق فلهم الذمة وإن كذبوا نبذ إليهم وأما


من أعان وجلا فذلك أمر جعله الله إليكم فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقوموا لكم في أرضكم ولهم الذمة وعليهم الجزية فإن كرهوا ذلك فاقتسموا ما أفاء الله عليكم منهم
فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى من أهل السواد أن يتراجعوا ولهم الذمة وعليهم الجزية وتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده إلا أن خراجهم أثقل وأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم وعقدوا لهم وانزلوا من اقام منزلة ذي العهد وكذلك الفلاحون ولم يدخل في الصلح ما كان لآل كسرى ولا كان لمن خرج معهم ولم يجب إلى الأسلام ولا إلى الجزية فصارت فيئا لمن أفاء الله عليه كالصوافي في الأول وسائر السواد لهم ذمة وأخذوهم بخراج كسرى وكان على رءوس الرجال وما بأيديهم من الحصة والأموال وكان مما أفاء الله عليهم ما كان لآل كسرى ومن صوب معهم وعيالهم وعيال من قاتل معهم وماله وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه وما كان للسكك فلم يتأت قسم ذلك الفيء الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم لأنه كان متفرقا في كل السواد فكان يليه لأهل الفيءمن وثقوا به وتراضوا عليه
قالوا وأدلى جرير وبجيلة يوم القادسية بمثل ما كان عمر جعل لهم من ربع الخمس مما أفاء الله يوم البويب فكتب سعد إلى عمر بذلك فأجابه قد ضللت إذا وما أنامن المهتدين إني إنما كنت جعلت لهم ربع الخمس مما أفاء الله على المثنى حين أمددته بهم في وجههم ذلك إلى البويب نفلا فقد أخذوه أيام البويب ثم ولم يمضوا ولكن رجعوا إلى أرض العرب فعنفهم بما ادعوا مما ليس لهم ولا لي وقل لهم والله لولا أني قاسم مسئول لبلغت منكم فلما بلغ الكتاب سعدا أمر جريرا بجمع بجيلة فجمعهم له فقرأ عليهم سعد الكتاب فقال جرير صدق والله عمر وأسأنا وتتابع على ذلك قومه إلا امرأة يقال لها أم
كرز فإنها قالت كذبت والله يا جرير وجعل جرير يقول لها حلا يا أم كرز فتعود له بالتكذيب فلا يزيد على أن يقول حلا يا أم كرز
وخالف المدائني ما ذكره سيف في قصة جرير وقومه وقال إن سعدا لما جمع الغنائم وعزل الخمس وأراد قسمة الباقي قال له جرير إن أمير المؤمنين جعل لنا الربع وقال بعضهم الثلث بعد الخمس من كل شيء فبعث سعد بالخمس إلى عمر كتب إليه بقول جرير فقال عمر صدق جرير قد جعلت له ولقومه ما كان من السواد فخيروهم فإن شاءوا اعطوا وكان قتالهم للجعالة وإن شاءوا فلهم سهم المسلمين وقتالهم فخيرهم سعد فاختاروا سهام المسلمين فالله أعلم أي ذلك كان
وذكر المدائني أيضا أنه كان فيمن قدم على عمر مع الخمس الأسدي الذي طعن الفيل فضربه سائسه على وجهه فهشم وجهه فقال له عمر من أنت وما هذا يعني الضربه التي في وجهه قال أصابني قدر من قدر الله فأخبر القوم عمر خبره فعانقه عمر وقال أبشر فهي نور لك يوم القيامة فهل لك من حاجة قال تكتب إلى سعد يعطيني محتلما يخدمني وفرسي فكتب إلى سعد أعطه محتلمين ففعل ذلك سعد
قال الشعبي وأمر عمر رضي الله عنه في الأعشار بخمسمائة فرس نفلا من خيل فارس لتقسم في أهل البلاء فأصاب كل عشر خمسون فرسا فأصاب النخع عشرون وقيل خمسة وعشرون وأصاب سائرهاسائر مذحج
قالوا وكتب عمر رحمه الله إلى سعد أنبئني أي فارس كان يوم القادسية أفرس وأى راجل كان أرجل وأى راكب كان أثبت فكتب إليه إني لم أر فارسا مثل القعقاع بن عمرو حمل في يوم ثلاثينحملة فقتل في كل حملة كميا ولم أر راجلا مثل يعفور بن حسان الذهلي إنه جاء في يوم بخمسة
فوارس يختل الفارس منهم حتى يردفه ثم يغلبه على عنانه حتى يأتي به سلما ولم أر راكبا مثل الحارث بن قرم البهزي إنه جاء ببعيره يرفعه ثم ركب الكراديس ففرق بينها فإذا نفر بالفارس انحط عنه فعانقه ثم قتله ثم يثب على بعيره من قيام==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-الي هنا ---------------------------