الأحد، 26 فبراير 2023

ج3وج4.كتاب مقدمة ابن خلدون ابن خلدون

 

ج3وج4.كتاب مقدمة ابن خلدون ابن خلدون
---
ثم إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات، وحصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع، فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات، لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة، فيكلفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع، ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد، فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم، وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدة، ويمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم. وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله، فيقعد عن سوقه، ويتعدد ذلك ويتكرر، ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح، ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية، فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار، لا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها، فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش.
وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجياية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل. ثم إنه ولو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع، فإنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس. ولو كان غيره في تلك الصفقات لكان تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية. ثم فيه التعرض لأهل عمرانه، واختلال الدولة بفسادهم ونقصه، فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات، وكان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك.
وكان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة، ثم يختارونه من أهل الفضل والدين والأدب والسخاء والشجاعة والكرم، ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل، وأن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه، ولا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع، وأن لا يستخدم العبيد فإنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة.
واعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولايدر موجوده إلا الجباية وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بذلك،، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية السلطان. وأما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة. وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان، أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم، ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاؤون، وببيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن. وهذه أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم. وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف، أعني التجار والفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها، فيحمل السلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً، سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس، فإنها أجدر بنمو الأموال، وأسرع في تثميره، ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته. فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته وسلطانه، والله يلهمنا رشد أنفسنا، وينفعنا بصالح الأعمال، والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والأربعون
في أن ثروة السلطان..وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة والسبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية بمقدار غنائهم وعصبيتهم، ولأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل. فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الجباية، معتاض عن ذلك بما هو يروم من الاستبداد عليهم، فله عليهم عزة وله إليهم حاجة. فلا يطير في سهمانه من الجباية إلى الأقل من حاجته. فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي مملقين في الغالب، وجاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم، ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته.

فإذا استفحلت طبيعة الملك، وحصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه، قبض أيديهم عن الجبايات، إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم، وتقل حظوظهم إذ ذاك لقلة غنائهم في الدولة، بما انكبح من أعنتهم، وصار الموالي والصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة وتمهيد الأمر، فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها، ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال، فتكثر ثروته وتمتلىء خزائنه ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سائر قومه، فيعظم حال حاشيته وذويه، من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطي ويتسع جاههم، ويقتنون الأموال ويتأثلونها.
ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية وفناء القبيل الماهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار، ولكثرة الخوارج والمنازعين والثوار، وتوهم الانتقاض، فصار خراجه لظهرائه وأعوانه، وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات، وأنفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة، وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق، فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال، فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم، وضيق نطاقه على صاحب الدولة. ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة، ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة. ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم، فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئاً فشيئاً وواحداً بعد واحد، على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم، ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها، ويتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه.
وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم، في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حديرة وبني برد وأمثالهم، وكذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا. سنة الله التي قد خلت في عباده.
فصل: ولما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان، بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر، ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته. وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم.

واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع. فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه، فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين، ولا أهل العصبية المزاحمون له، بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك، لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها، سيما عند استفحال الدولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتخلق بالشر. وأما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته، فقل أن يخلى بينه وبين ذلك أما أولاً فلما يراه الملوك أن ذويهم وحاشيتهم، بل وسائر رعاياهم مماليك لهم، مطلعون على ذات صدورهم، فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضناً بأسرارهم وأحوالهم أن يطلع عليها أحد، وغيرة من خدمته لسواهم. ولقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس، فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم، وما أبيح الجج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف. وأما ثانياً فلأنهم وإن سمحوا بحل ربقته هو فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال، لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم، إذ لم يكتسب إلا بها وفي ظل جاهها، فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به. ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر، وهو في النادر الأقل، فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضاً أو بالقهر ظاهراً، لما يرون أنه مال الجباية والدول، وأنه مستحق للإنفاق في المصالح. وإذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة واليسار المكتسبين من وجوه المعاش، فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية والدول التي تجد السبيل إليه بالشرع والعادة. ولقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بإفريقية الخروج عن عهدة الملك واللحاق بمصر فراراً من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس، فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده، وركب السفين من هنالك، وخلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت والذخيرة، وباع كل ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجواهر، حتى الكتب، واحتمل ذلك كله إلى مصر ونزل على الملك الناصر محمد بن قلاون، سنة سبع عشرة من المائة الثامنة، فأكرم نزله ورفع مجلسه، ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئاً فشيئاً بالتعريض إلى أن حصل عليها، ولم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرايته التي فرضت له، إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره. فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب، وإنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم، وما يتوهمونة من الحاجة فغلط ووهم. والذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة والفلاحة. والدول أنساب، لكن:
النفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
والله سبحانه هو الرزاق، وهو الموفق بمنه وفضله، والله أعلم.
الفصل الثاني والأربعون
في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجبايةوالسبب في ذلك أن الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم، ومنه مادة العمران. فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات، أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها، قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وانقطع أيضاً ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم، وقلت نفقاتهم جملة وهم معظم السواد، ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم. فيقع الكساد حينئذ في الأسواق، وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك، لأن الخراج والجباية إنما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح. ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج. فإن الدولة كما قلناه هي السوق الأعظم، أم الأسواق كلها، وأصلها ومادتها في الدخل والخرح، فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه. وأيضاً فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان منهم إليه، ومنه إليهم، فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية. سنة الله في عباده.
الفصل الثالث والأربعون
في أن الظلم مؤذن بخراب العمراناعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصارة، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان، لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة.
وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام، وما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة، بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها، فقال له: أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى، وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية، وهذا أسهل مرام. فتنبه الملك من غفلته وخلا بالموبذان سأله عن مراده، فقال له: أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل. والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبة الرب وجعل له قيماً، وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها، وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال، وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة، فتركوا العمارة، والنظر في العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع، فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم، وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها، فقلت العمارة، وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها.
فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه، وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج، وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور، وأقبل الملأ على مباشرة أموره بنفسه، فحسنت أيامه وانتظم ملكه. فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران، وإن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض.
ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها، ولم يقع فيها خراب. واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر. فلما كان المصر كبيراً وعمرانه كثيراً وأحواله متسعة بما لا ينحصر، كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً، لأن النقص إنما يقع بالتدريج. فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين. وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة الأخرى، فترفعه بجدتها، وتجبر النقص الذي كان خفياً فيه، فلا يكاد يشعر به، إلا أن ذلك في الأقل النادر.
والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول.

ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله.
واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهماً. وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر.
ولو كان كل واحد قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع، التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر. إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان، فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه، عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه. " وما ربك بظلام للعبيد " .
ولا تقولن أن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع، وهي من ظلم القادر، لأن المحارب زمن حرابته قادر. فإن في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول: العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أو مال على ما ذهب إليه كثير، وذلك إنما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته، وأما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة. الطريق الثاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة، فهي المؤذنة بالخراب، وأما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال، والمدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعاً وسياسة، فليست من القدر المؤذن بالخراب. والله قادر على ما يشاء.
فصل: ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق. وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق، لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران.
فإذا مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم، بل لا مكاسب لهم سواها، فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة. وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الاحتكار

وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس، بشراء ما بين ايديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع. وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل، فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء، إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم. وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين من الأفاق في البضائع، وسائر السوقة، وأهل الدكاكين في المآكل والفواكه، وأهل الصنائع فيما يتخذ من الألات والمواعين، فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات، وتتوالى على الساعات، وتجحف برؤوس الأموال، ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح، ويتثاقل الواردون من الأفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك، فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا، لأن عامته من البيع والشراء. وإذا كانت الأسواق عطلاً منها بطل معاشهم، وتنقص جباية السلطان أو تفسد، لأن معظمها من أواسط الدولة، وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه. ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة. ويتطرق هذا الخلل على التدريج ولا يشعر به.
هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة، وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض.
ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء، وحظر أكل أموال الناس بالباطل سداً لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش.
واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال، فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة، فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج. ثم لا يزال الترف يزيد، والخرج بسببه يكثر، والحاجة إلى أموال الناس تشتد، ونطاق الدولة بذلك يزيد، إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها. والله أعلم.
الفصل الرابع والأربعون
في الحجاب كيف يقع في الدولوأنه يعظم عند الهرم اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه، لأنه لا بد لها من العصبية التي بها يتم أمرها ويحصل استيلاؤها، والبداوة هي شعار العصبية، والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك، وإن كان قيامها بعز الغلب فقط، فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضاً عن منازع الملك ومذاهبه. فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الأذن.
فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بالمجد، واحتاج إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه، لما يكثر حينئذ من بحاشيته، فيطلب الانفراد عن العامة ما استطاع، ويتخذ الأذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته، ويتخذ حاجباً له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة.
ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت خلق صاحب الدولة إلى خلق الملك، وهي خلق غريبة مخصوصة، يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها. وربما جهل تلك الخلق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم، فسخطوه وصاروا إلى حالة الانتقام منه. فانفرد بمعرفة هذه الأداب الخواص من أوليائهم، وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت، حفظاً على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم، وعلى الناس من التعرض لعقابهم.
فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول، يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من العامة. والحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من العامة. والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا، كما حدث لأيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية، وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جرياً على مذهب الاشتقاق الصحيح.

ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معروف، وكملت خلق الملك على ما يجب فيها، فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني، وصار اسم الحاجب أخص به، وصار بباب الخلفاء داران للعباسية: دار الخاصة، ودار العامة، كما هو مسطور في أخبارهم.
ثم حدث في الدول حجاب ثالث أخص من الأولين، وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة. وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب، وحاولوا الاستبداد عليهم، فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنه بطانة أبيه وخواص أوليائه، يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة، وفساد قانون الأدب، ليقطع بذلك لقاء الغير، ويعوده ملابسة أخلاقه هو، حتى لا يتبدل به سواه، إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه، فيكون هذا الحجاب من دواعيه. وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر. ويكون دليلاً على هرم الدولة ونفاد قوتها. وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم، لأن القائمين بالدولة يحاولون ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم، لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصاً مع الترشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه.
الفصل الخامس والأربعون
في انقسام الدولة الواحدة بدولتيناعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها. وذلك أن الملك عندما يستفحل ويبلغ من أحوال الترف والنعيم إلى غايتها، ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به، يأنف حينئذ عن المشاركة، ويصير إلى قطع أسبابها ما استطاع، بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه. فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم، ونزعوا إلى القاصية واجتمع إليهم من يلحق بهم، مثل حالهم من الاغترار والاسترابة. ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية، فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها. ولا يزال أمر يعظم بتراجع نطاق الدولة، حتى يقاسم الدولة أو يكاد.
وانظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزاً مجتمعاً، ونطاقها ممتداً في الاتساع، وعصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر، فلم ينبض عرق من الخلاف سائر أيامه، إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم، لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة، ولم يتم أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية.
ثم لما خرج الأمر من بني أمية، واستقل بنو العباس بالأمر، وكانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب والترف، وآذنت بالتقلص عن القاصية، نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، قاصية دولة الإسلام، فاستحدث بها ملكاً واقتطعها عن دولتهم وصير الدولة دولتين. ثم نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره، وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة ومغيلة وزناتة، واستولى على ناحية المغربين. ثم ازدادت الدولة تقلصاً فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم. ثم خرج الشيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة، واستولوا على إفريقية والمغرب، ثم مصر والشام والحجاز، وغلبوا على الأدارسة، وقسموا الدولة دولتين أخريين، وصارت الدولة العربية ثلاث دول: دولة بني العباس بمركز العرب، وأصلهم ومادتهم الإسلام، ودولة بني أمية المجددين بالإندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق، ودولة العبيديين بإفريقية ومصر والشام والحجاز. ولم تزل هذه الدول إلى أن كان انقراضها متقارباً أو جميعاً.
وكذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى: وكان بالقاصية بنو سامان فيما وراء النهر وخراسان، والعلوية في الديلم وطبرستان، وآل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء. ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك. ثم انقسمت دولتهم أيضاً بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم.
وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية، لما بلغت إلى غايتها أيام باديس بن المنصور، خرح عليه عمه حماد واقتطع ممالك الغرب لنفسه، ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملوية، واختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة، ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطري، واستحدث ملكاً آخر قسيماً لملك آل باديس، وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها، ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعاً.

وكذلك دولة الموحدين لما تقلص ظلها ثار بإفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها، واستحدثوا ملكاً لأعقابهم بنواحيها. ثم لما استفحل أمرهم واستولى على الغاية، خرج على الممالك الغربية من أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم، واستحدث ملكاً ببجاية وقسنطينة وما إليها، أورثه بنيه، وقسموا به الدولة قسمين، ثم استولى على كرسي الحضرة بتونس، ثم انقسم الملك ما بين أعقابهم، ثم عاد الاستيلاء فيهم.
وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه، كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس، وملوك العجم بالمشرق، وفي ملك صنهاجة بإفريقية، فقد كان لآخر دولتهم في كل حصن من حصون إفريقية ثائر مستقل بأمره كما تقدم ذكره. وكذا حال الجريد والزاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره.
وهكذا شأن كل دولة لا بد وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف والدعة وتقلص ظل الغلب، فيقتسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر وتتعدد فيها الدول. والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل السادس والأربعون
في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفعقد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحداً بعد واحد، وبينا أنها تحدث للدولة بالطبع، وأنها كلها أمور طبيعية لها. وإذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية، كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني. والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها، لما أنه طبيعي، والأمور الطبيعية لا تتبدل. وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة، فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم، ويظن أنه ممكن الارتفاع، فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم، ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم، وليس كذلك، فإنها أمور طبيعية للدولة، والعوائد هي المانعة له من تلافيها. والعوائد منزلة طبيعية أخرى، فإن من أدرك مثلاً أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب، ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات، فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي والاختلاط بالناس، إذ العوائذ حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه. ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه.
وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها، لولا التأييد الإلهي والنصر السماوي. وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس. فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر.
وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها الماضة الخمود، كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال، وهي انطفاء. فاعتبر ذلك، ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدر فيه. " ولكل أجل كتاب " .
الفصل السابع والأربعون
في كيفية طروق الخلل للدولةاعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما. فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند، والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين. فلنذكر أولاً طروق الخلل في الشوكة والعصبية، ثم نرجع إلى طروقه في المال والجباية.

واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية، وأنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها، وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة. فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف وجدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته ذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك، فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم. ويأخذهم الترف أيضاً أكثر من سواهم لمكانهم من الملك والعز والغلب، فيحيط بهم هدمان وهما الترف والقهر. ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر، فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه، فيهلكون ويقفون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم، وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها، فتنحل عروتها وتضعف شكيمتها، وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية، إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية، لفقدان الرحم والقرابة منها. وقد كنا قدمنا أن شأن العصبية وقوتها إنما هي بالقرابة والرحم، لما جعل الله في ذلك. فينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية، ويحس بذلك أهل العصائب الأخرى، فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسراً طبيعياً فيهلكهم صاحب الدولة، ويتبعهم بالقتل واحداً بعد واحد. ويقفد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول، مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا. فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل، حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبية وينسوا نعرتها وسورتها ويصيروا أجراء على الحماية، ويقلون لذلك، فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور، فيتجاسر الرعايا على نقض الدعوة في الأطراف، ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف، لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم. ولا يزال يتدرج ونطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة. وربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث، على قدر قوتها في الأصل كما قلناه، ويقوم بأمرها غير أهل عصبيتها، لكن إذعاناً لأهل عصبيتها ولغلبهم المعهود.
واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام، انتهت أولاً إلى الأندلس والهند والصين.
وكان أمر بني أمية نافذاً في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف، حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يرد أمره. ثم تلاشت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا.
وجاء بنو العباس فغضوا من أعنة بني هاشم وقتلوا الطالبيين وشردوهم، فانحلت عصبية عبد مناف وتلاشت، وتجاسر العرب عليهم، فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقية وأهل الأندلس وغيرهم، وانقسمت الدولة. ثم خرج بنو إدريس بالمغرب، وقام البربر بأمرهم إذعاناً للعصبية التي لهم، وأمناً أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة.
فإذا خرج الدعاة آخراً فيتغلبون على الأطراف والقاصية، وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدولة. وربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصاً، إلى أن ينتهي إلى المركز، وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف، فتهلك وتضمحل، وتضعف الدولة المنقسمة كلها.

وربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب، ويكفي صاحبها، بما حصل لها في تمهيد أمرها الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق. ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد أن يتصور عصياناً أو خروجاً إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له، فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده. وربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم. فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة، فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الذي يحدث من العصائب والعشائر. ثم لا يزال أمر الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها، شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء، إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور. ولكل أجل كتاب، ولكل دولة أمد. " والله يقدر الليل والنهار " ، وهو الواحد القهار.
وأما الخلل الذي يتطرق من جهة المال، فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر، فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات، والتعفف عن الأموال، فتتجافى عن الإمعان في الجباية، والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال، ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة، فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال. ثم يحصل الاستيلاء ويعظم، ويستفحل الملك، فيدعو إلى الترف، ويكثر الأنفاق بسببه، فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم، بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة. ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات، وينتشر ذلك في الرعية، لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها. ويحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه، ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده. ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس، وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا، فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا، من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال، بشبهة أو بغير شبهة. ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسرعلى الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم، وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم، ولا تجد عن ذلك وليجة. ويكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم، وبما اتسع لذلك من جاههم، فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية، وتفشو السعاية فيهم بعضهم عن بعض للمنافسة والحقد، فتعمهم النكبات والمصادرات واحداً واحداً إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم، ويفقد ما كان للدولة من االأبهة والجمال بهم. فإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم. ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة، وضعفت عن الاستطالة والقهر، فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال، ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه. فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند، ولا يغني فيما يريد. ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي، والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه، إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعرض لاستيلاء الطلاب. فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها، وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفىء. والله مالك الأمور ومدبر الأكوان، لا إله إلا هو.
فصل في اتساع نطاق الدولةأولاً إلى نهايته ثم تضايقه طوراً بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها

قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة والملك، وهو الثالث من هذه المقدمة، أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها. واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها وجهاتها. فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر، ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق. وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى. وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها. وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة الباس. فإذا استفحل العز والغلب وتوفرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات، وزخر بحر الترف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقت حواشيهم. وعاد من ذلك إلى نفوسهم هيئات الجبن والكسل، بما يعانونه من خنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية، بمفارقة البداوة وخشونتها، وبأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة والتنازع عليها، فيفضي إلى قتل بعضهم بيعض، ويكبحهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم، فتفقد الأمراء والكبراء، ويكثر التابع والمرؤوس، فيفل ذلك من حد الدولة، لكسر من شوكتها. ويقع الخلل الأول في الدولة، وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدم. ويساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز، وتجاوز الحدود بالبذخ، بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط خيول، فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثاني في الدولة وهو الذي من جهة المال والجباية. ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين. وربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم. وربما اعتز أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستقلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات، ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة، فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلة الأموال والجباية. فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند والمال والولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال. والمفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة. فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل. ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول، ويقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية، يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك، ويقع فيه ما وقع في الأول. فكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى، ومجددون ملكاً. حتى تنقرض الدولة، وتتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم، فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه.

واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على الأمم، ثم تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخولوه من النعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أمية وغلب بنو العباس. ثم تزايد الترف، ونشأت الحضارة، وطرق الخلل، فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية والعلوية، واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها، إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلوية من كل جانب، وتمهدت لهم دول، ثم قتل المتوكل، واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم، واستقل الولاة بالعمالات في الأطراف. وانقطع الخراج منها، وتزايد الترف. وجاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه، مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان، وبني الصفار السند وفارس، وبني طولون مصر، وبنى الأغلب إفريقية، إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة، وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر، وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه. ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم، إلى أن تلاشت دولهم. واستبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين. وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولى بن دوشي خان ملك التتر والمغل حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام. وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول. ولا يزال طوراً بعد طور إلى أن تنقرض الدولة. واعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت. فهكذا سنة الله في الدول إلى أن يأتي ما قدرالله من الفناء على خلقه. و " كل شي هالك إلا وجهه " .
الفصل الثامن والأربعون
في حدوث الدولة وتجددها كيف يقعاعلم أن نشأة الدول وبدايتها إذا أخذت الدولة المستقرة في الهرم والانتقاص يكون على نوعين: إما بأن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم، فتكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه وما يستقر في نصابه، يرثه عنه أبناؤه أو مواليه، ويستفحل لهم الملك بالتدريج، وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه، ويتنازعون في الاستئثار به، ويغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه، وينتزع ما في يده، كما وقع في دولة بني العباس حين أخذت دولتهم في الهرم، وتقلص ظلها عن القاصية، واستبد بنو سامان بما وراء النهر، وبنو حمدان بالموصل والشام، وبنو طولون بمصر، وكما وقع بالدولة الأموية بالأندلس وافترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال، وانقسمت دولاً وملوكاً أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم. وهذا النوع لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة حرب لأنهم مستقرون في رئاستهم، ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة بحرب، وإنما الدولة أدركها الهرم وتقلص ظلها عن القاصية، وعجزت عن الوصول إليها.
والنوع الثاني بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاوزها من الأمم والقبائل إما بدعوة يحمل الناس عليها كما أشرنا إليه، أو يكون صاحب شوكة وعصبية كبيراً في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك، وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزازعلى الدولة المستقرة، وما نزل بها من الهرم فيتعين له ولقومه الاستيلاء عليها، ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون أمرها كما يتبين. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل التاسع والأربعون
في أن الدولة المستجدة..إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة

قد ذكرنا أن الدول الحادثة المتجددة نوعان: نوع من ولاية الأطراف إذا تقلص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها، وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة الدولة في الأكثر كما قدمناه، لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوتهم، والنوع الثاني نوع الدعاة والخوارج على الدولة، وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة، لأن قوتهم وافية بها، فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به، فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال تتكرر وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب. ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة. والسبب في ذلك أن الظفر في الحروب إنما يقع كما قدمناه بأمور نفسانية وهمية، وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلاً به لكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر، ولذلك كان الخداع من أنفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظفر به، وفي الحديث: " الحرب خدعة " .
والدولة المستقرة قد صيرت العوائد المألوفة طاعتها ضرورية واجبة كما تقدم في غير موضع، فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة ويكسر من همم أتباعه وأهل شوكته، وإن كان الأقربون من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته، إلا أن الأخرين أكثر، وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التسليم للدولة المستقرة، فيحصل بعض الفتور منهم، ولا يكاد صاحب الدولة المستجدة يقاوم صاحب الدولة المستقرة. فيرجع إلى الصبر والمطاولة، حتى يتضح هرم الدولة المستقرة، فتضمحل عقائد التسليم لها من قومه، وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه، فيقع الظفر والاستيلاء.
وأيضاً فالدولة المستقرة كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك وتوسع من النعيم واللذات، واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية، فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة، وتعظم فيهم الأبهة الملكية، ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختياراً واضطراراً فيرهبون بذلك كله عدوهم. وأهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك، لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب، بما ببلغهم من أحوال الدولة المستقرة، ويحجمون عن قتالهم من أجل ذلك، فيصير أمرهم إلى المطاولة، حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم، ويستحكم الخلل فيها في العصبية والجباية، فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة. سنة الله في عباده.
وأيضاً فأهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم، ثم هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليها، فتتمكن المباعدة بين أهل الدولتين سراً وجهراً، ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة، يصيبون منه غرة باطناً وظاهراً، لانقطاع المداخلة بين الدولتين، فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام، وينكلون عن المناجزة حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة وفناء عمرها، ووفور الخلل في جميع جهاتها، ويتضح، لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى منها، من هرمها وتلاشيها، وقد عظمت قوتهم بما اقتطعوه من أعمالها ونقصوه من أطرافها، فتنبعث هممهم يداً واحدة للمناجزة، ويذهب ما كان يفت في عزائمهم من التوهمات، وتنتهي المطاولة إلى حدها، ويقع الاستيلاء آخراً بالمعاجلة.
واعتبر ذلك في دولة بني العباس حين ظهورها، حين قام الشيعة بخراسان بعد انعقاد الدعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد. وحينئذ تم لهم الظفر واستولوا على الدولة الأموية.
وكذا العلوية بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الديلم، كيف كانت مطاولتهم حتى استولوا على تلك الناحية. ثم لما انقضى أمر العلوية وسما الديلم إلى ملك فارس والعراقين، فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتى اقتطعوا أصبهان، ثم استولوا على الخليفة ببغداد.

وكذا العبيديون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشيعي ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين، ويزيد يطاول بني الأغلب بإفريقية حتى ظفر بهم، واستولوا على المغرب كله، وسموا إلى ملك مصر، فمكثوا ثلاثين سنة أو نحوها في طلبها يجهزون إليها العساكر والأساطيل في كل وقت، وبجيء المدد لمدافعتهم براً وبحراً من بغداد والشام، وملكوا الإسكندرية والفيوم والصعيد، وتخطت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين. ثم نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها، واقتلع دولة بني طغج من أصولها، واختط القاهرة، فجاء الخليفة بعد، المعز لدين الله، فنزلها لستين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندرية.
وكذا السلجوقية ملوك الترك لما استولوا على بني سامان، وأجازوا من وراء النهر مكثوا نحواً من ثلاثين سنة، يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتى استولوا على دولته. تم زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيام من الدهر.
وكذا التتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبع عشرة وستمائة فلم يتم لهم الاستيلاء إلا بعد أربعين سنة.
وكذا أهل المغرب، خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة، فطاولوهم سنين، ثم استولوا عليه. ثم خرج الموحدون بدعوتهم على لمتونة، فمكثوا نحواً من ثلاثين سنة يحاربونهم، حتى استولوا على كرسيهم بمراكش.
وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحدين فمكثوا يطاولونهم نحواً من ثلاثين سنة، واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملكهم. ثم أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى، حتى استولوا على كرسيهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كله في تواريخ هذه الدول. فهكذا حال الدول المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة. سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبصاراً بالإيمان، وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل. فكان ذلك كله خارقاً للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة. وإذا كان ذلك خارقاً فهو من معجزات نبينا صلوات الله عليه، المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية. والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية، ولا يعترض بها. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل الخمسون
في وفور العمران آخر الدولةوما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات اعلم أنه قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها، إما من الدين إن كانت الدعوة دينية أو من المكارمة والمحاسنة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للدول. وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا، وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفر، ويكثر التناسل. وإذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل. وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي، فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنماء. ولا تقولن إنه قد مر لك أن أواخر الدولة يكون فيها الإجحاف بالرعايا، وسوء الملكة، فذلك صحيح، ولا يعارض ما قلناه، لأن الإجحاف وإن حدث حينئذ، وقلت الجبايات فإنما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين، من أجل التدريج في الأمور الطبيعية. ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول. والسبب فيه: أما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر، بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات، أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة، فيقل احتكار الزرع غالباً، وليس صلاح الزرع وثمرته بمستمر الوجود، ولا على وتيرة واحدة، فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلتها مختلفة، والمطر يقوى ويضغف ويقل ويكثر، والزرع والثمار والضرع على نسبته، إلا أن الناس واثقون في أقواتهم بالاحتكار. فإذا فقد الاحتكار عظم توقع الناس للمجاعات فغلا الزرع، وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا، وكان بعض السنوات، والاحتكار مفقود، فشمل الناس الجوع.

وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه، أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل، أو وقوع الوباء. وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة. وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائماً فيسري الفساد إلى مزاجه. فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة. وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة. وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف، فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك. وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة، لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلة المغرم، وهو ظاهر. ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري، ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات، ويأتي بالهواء الصحيح. ولهذا أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير، كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب. والله يقدر ما يشاء.
الفصل الحادي والخمسون
في أن العمران البشري.. .لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري، وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه، وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه، وحكمه فيهم: تارة يكون مستنداً إلى شرع منزلي من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه، وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة، ولمراعاته نجاة العباد في الأخرة، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط.
وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً. ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة " ، والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة، فإن هذه غير تلك. وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير.
ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين: أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم، ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص. وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة، لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها. الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً. وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر، إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم، فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية، والاقتداء فيها بالشرع أولاً، ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم.
ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما. فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه، ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الأداب الدينية والخلقية، والسياسة الشرعية والملوكية، وحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك، ولا سوقة. ونص الكتاب:
نص كتاب طاهر بن الحسينلابنه عبد الله بسم الله الرحمن الرحيم

" أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته، ومراقبته عز وجل، ومزايلة سخطه. واحفظ رعيتك في الليل والنهار. والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسوؤل عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه. فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل فيهم، والقيام بحقه وحدوده عليهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم ومنصبهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسربهم، وإدخال الراحة عليهم. ومؤاخذك بما فرض عليك، وموقفك عليه، وسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت. ففرغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك، ولا يشغلك عنه شاغل، وإنه رأس أمرك وملاك شأنك، وأول ما يوقفك الله عليه. وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعلك، المواظبة على ما فرض الله عزوجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك، وتوقعها على سننها، من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزوجل فيها، ورتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصرف فيه رايك ونيتك، واحضض عليه جماعة ممن معك وتحت يدك، وادأب عليها، فإنها كما قال الله عز وجل: " تنهى عن الفحشاء والمنكر " .
ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمثابرة على خلائقه، واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده. وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه، وبلزوم ما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الأثارعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قم فيه بالحق لله عزوجل. ولا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد.
وآثر الفقه وأهله والدين وحملته، وكتاب الله عز وجل والعاملين به، فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها. ومع توفيق الله عز وجل يزداد المرء معرفة وإجلالاً له، ودركاً للدرجات العلى في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك، والثقة بعدلك.
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعاً، ولا أخص أمناً، ولا أجمع فضلاً منه. والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها.
ولا تقصر في طلب الأخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد والإعانة، والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته، ومرافقة أولياء الله في دار كرامته. واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويمخص من الذنوب، وأنك لن تحوط نفسك من قائل، ولا تنصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامتك وخاصتك. وأحسن ظنك بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك.
ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبرآء، والظنون السيئة بهم، آثم إثم. فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم، وارفضه فيهم، يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم. ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمداً، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها. ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك، والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك. والمباشرة، لأمور الأولياء وحياطة الرعية والنظر في حوائجهم، وحمل مؤوناتهم، أيسر عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة.
واخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن، ومؤاخذ بما أساء. فإن الله عز وجل جعل الدين حرزاً وعزاً، ورفع من اتبعه وعززه.

واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى. وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك. واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك، وتتم لك مروءتك.
وإذا عاهدت عهداً فأوف به، وإذا وعدت الخير فأنجزه. واقبل الحسنة وادفع بها. واغمض عن عيب كل في عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهل النميمة، فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها، تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر. وأحبب أهل الصلاح والصدق، وأعز الأشراف بالحق، وأعن الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الأخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك. وأنعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب، وآثر الحلم والوقار، وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله.
وإياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء، فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين لله عز وجل. وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به. واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء. ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه، واستطالوا بما أعطاهم الله عز وجل من فضله.
ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى، واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم والتفقد، لأمورهم والحفظ لحمائهم، والإغاثة لملهوفهم.
واعلم أن الأموال إذا اكتنزت واذخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم، نمت وزكت، وصلحت بها العامة، وترتبت بها الولاية، وطاب بها الزمان واعتقد فيها العز والمنفعة. فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله. ووفر منه على أولياء أمير المومنين قبلك حقوقهم، وأوف من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة لك، واستوجبت المزيد من الله تعالى، وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك. وطب نفساً بكل ما أردت، وأجهد نفسك فيما حمدت لك في هذا الباب، وليعظم حقك فيه، وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وفي سبيل حقه. وأعرف للشاكرين حقهم، وأثبهم عليه، وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يورث التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله عز وجل وفيه، وارج الثواب منه، فإن الله سبحانه قد أسبغ فضله. واعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد، يزدك الله خيراً وإحساناً، فإن الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وإحسان المحسنين.
ولا تحقرن ذنباً، ولا تمالئن حاسداً، ولا ترحمن فاجراً، ولا تصلن كفوراً، ولا تداهنن عدواً، ولا تصدقن نماماً ولا تأمنن غداراً، ولا توالين فاسقاً، ولا تتبعن غاوياً، ولا تحمدن مرائياً، ولا تحقرن إنساناً، ولا تردن سائلاً فقيراً ولا تحسنن باطلاً، ولا تلاحظن مضحكاً، ولا تخلفني وعداً، ولا تزهون فخراً، ولا تظهرن غضباً، ولا تباينن رجاء، ولا تمشين مرحاً، ولا تزكين سفيهاً، ولا تفرطن في طلب الأخرة، ولا ترفعن للنمام عيناً، ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.
وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة. ولا تدخلن في مشورتك أهل الرفه والبخل، ولا تسمعن لهم قولاً، فإن ضررهم أكثر من نفعهم.

وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح. واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلاً، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم. ووال من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم. واجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى الأنسان به ربه، وأن العاصي بمنزلة الخزي، وهو قول الله عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " . فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم في فيئك حظاً ونصيباً، وايقن أن الجود أفضل أعمال العباد، فأعده لنفسك خلقاً و أرض به عملاً ومذهباً. وتفقد الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم، فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم فى طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً. وحسب في السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وعطيته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته. فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضل الباب الأخر، ولزوم العمل به تلق أن شاء الله تعالى به نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً.
واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض. وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتؤمن السبل، وينتصف المظلوم، وتأخذ الناس حقوق وتحسن المعيشة، ويودى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقيم الدين. ويجري السنن والشرائع في مجاريها. واشتد في أمر الله عز وجل. وتورع عن النطف، وامض لإقامة الحدود. وأقلل العجلة، وابعد عن الضجر والقلق، واقنع بالقسم، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صحتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم، وتثبت وتأن وراقب وانظر وتفكر وتدبر واعتبر، وتواضع لربك، وارفق بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم، فإن الدماء من الله عزوجل بمكان عظيم، فلا تبغ انتهاكاً لها بغير حقها.
وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزاً ورفعة، ولأهله توسعة ومنعةً، ولعدوه كبتاً وغيظاً، ولأهل الكفر من معاديهم ذلاً وصغاراً، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم، ولا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا عن أحد من خاصتك ولا حاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الأحتمال له. ولا تكلف أمراً فيه شطط. واحمل الناس كلهم على أمر الحق، فإن ذلك اجمع لإلفتهم وألزم لرضاء العامة.
واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً، وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم، وقيمهم. فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعدل بالسياسة والعفاف. ووسع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف. فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك واستجررت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، وكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتياض جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة. فتنافس فيها ولا تقدم عليها شيئاً، تحمد عاقبة أمرك. أن شاء الله تعالى. واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك خبر عمالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله معايناً، لأموره كلها. وإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضه، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمره وقد أتاه على ما يهوى، فأغواه ذلك وأعجبه، فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره. فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة. وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك.

وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيشغلك ذلك حتى تمرض منه. وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت بدنك ونفسك، وجمعت أمر سلطانك.
وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم. وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مؤونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم منافراً وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على ربع مظلمته إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، وكل بأمثاله أهل الصلاح في رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وخلالهم إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم. وتعاهد ذوي البأساء ويتماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم. وانصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم وقواماً يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يود ذلك إلى سرف في بيت المال.
واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعاً في نيل الزيادة وفضل الرفق بهم. وربما تبرم المتصفح، لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل ذكره وفكره منها ما يناله به من مؤونة ومشقة. وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الأجل كالذي يستقل ما يقربه من الله تعالى، وتلتمس به رحمته.
وأكثر الإذن للناس عليك وأرهم وجهك، وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى.
واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة.
ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه وتعالى، والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته، وبإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وجل.
واعرف ما يجمع عمالك من الأموال، وما ينفقون منها. ولا تجمع حراماً، ولا تنفق إسرافاً.
وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها. وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر، وإعلامك بما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.

وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمور الدولة ورعيتك. ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه، واستخر الله عز وجل فيه، وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه، والتثبت منه. ولا تمنن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم. ولا تقبل من أحد إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور المسلمين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك. وتفهم كتابي إليك وأمعن النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله. وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز وجل رضاً، ولدينه نظاماً، ولأهله عزاً وتمكيناً وللملة والذمة عدلاً وصلاحاً. وأنا أسأل الله عز وجل أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام. وحدث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره أعجب به الناس، واتصل بالمأمون فلما قرىء عليه، قال: ما أبقى أبو الطيب، يعني طاهراً، شيئاً من أمور الدنيا والدين، والتدبير والرأي والسياسة، وصلاح الملك والرعية، وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة، إلا وقد أحكمه وأوصى به. ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به، ويعملوا بما فيه. هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة. والله أعلم.
الفصل الثاني والخمسون
في أمر الفاطميوما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح، عل أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته.
ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار. وللمتصوفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أخرى، ونوع من الاستدلال، وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم. ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند، ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم، ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى. فنقول: إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي، منهم الترمذي وأبو داود والبزاز وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة: مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس، وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث بن جزء، بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره. إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل. فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي، تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها. ولا تقولن: مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين، فإن الاجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول، والعمل بما فيهما، وفي الاجماع أعظم حماية وأحسن دفع. وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك، فقد نجد مجالاً للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك.
ولقد توغل أبو بكر بن أبي خيثمة، على ما نقل السهيلي عنه، في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي فقال: ومن أغربها إسناداً ما ذكره أبو بكر الإسكاف، في فوائد الأخبار، مسنداً إلى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب بالمهدي فقد كفر ومن كذب بالدجال فقد كذب " . وقال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك، فيما أحسب. وحسبك هذا غلواً. والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس. على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضاع.
وأما الترمذي فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عباس، من طريق عاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة إلى زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم:

" لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث الله فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي " . هذا لفظ أبي داود وسكت عليه. وقال في رسالته المشهورة: إن ما سكت عليه في كتابه فهو صالح. ولفظ الترمذي: " لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي " ، وفي لفظ آخر: " حتى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح. ورواه أيضاً من طريق موقوفاً على أبي هريرة. وقال الحاكم: رواه الثورى وشعبة وزائدة، وغيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم، قال: وطرق عاصم عن زرعن عبد الله كلها صحيحة، على ما أصلته من الاحتجاج بأخبار عاصم، إذ هو إمام من أئمة المسلمين. انتهى.
إلأ أن عاصماً قال فيه أحمد بن حنبل: كان رجلاً صالحاً، قارئاً للقرآن خيراً ثقة، والأعمش أحفظ منه. وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث. وقال العجلي: كان يختلف عليه في زر وأبي وائل، يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما. وقال محمد بن سعد: كان ثقة، إلا أنه كثير الخطإ في حديثه. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي أن أبا زرعة يقول: عاصم ثقة، فقال: ليس محله هذا. وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كل من اسمه عاصم سيىء الحفظ. وقال أبو حاتم: محله عندي محل الصدق صالح الحديث، ولم يكن بذلك الحافظ. واختلف فيه قول النسائي. وقال ابن حراش: في حديثه نكرة. وقال أبو جعفر العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ، وقال الدار قطني: في حفظه شيء. وقال يحيى القطان: ما وجدت رجلاً اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ. وقال أيضاً سمعت شعبة يقول: حدثنا عاصم بن أبي النجود وفي الناس ما فيها، وقال الذهبي: ثبت في القراءة، وهو في الحديث دون التثبت، صدوق فهم، وهو حسن الحديث.
وإن احتج أحد بأن الشيخين أخرجا له، فنقول أخرجا له مقروناً بغيره لا أصلاً. والله أعلم.
وخرج أبو داود في الباب عن علي رضي الله عنه، من رواية فطر بن خليفة عن القاسم بن أبي مرة عن أبي الطفيل عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً " . وفطر بن خليفة وإن وثقه احمد ويحيى بن القطان وابن معين والنسائي وغيرهم، إلا أن العجلي قال: حسن الحديث وفيه تشيع قليل. وقال ابن معين مرة: ثقة شيعي. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنا نمر على فطر وهو مطروح لا نكتب عنه. وقال مرة: كنت أمر به وأدعه مثل الكلب. وقال الدار قطني: لا يحتج به. وقال أبو بكر بن عياش: ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه. وقال الجرجاني: زائغ غير ثقة. انتهى.
وخرج أبو داود أيضاً بسنده إلى علي رضي الله عنه عن هارون بن المغيرة، عن عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن أبي خالد، عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال علي ونظر إلى ابنه الحسين: " إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق، يملأ الأرض عدلاً " . وقال هارون: حدثنا عمر بن أبي قيس عن مطرف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر، سمعت علياً يقول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث على مقدمته رجل يقال له منصور يوطىء أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب على كل مؤمن نصره أو قال إجابته " سكت أبو داود عليه. وقال في موضع آخر في هارون: هو من ولد الشيعة. وقال السليماني: فيه نظر. وقال أبو داود في عمر بن أبي قيس: لا بأس به، في حديثه خطأ. وقال الذهبي: صدق له أوهام. وأما أبو إسحاق السبيعي وإن خرج عنه في الصحيحين فقد ثبت أنه اختلط آخر عمره، وروايته عن علي منقطعة، وكذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة. وأما السند الثاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان ولم يعرف أبو الحسن إلا من رواية مطرف بن طريف عنه. انتهى.
وخرج أبو داود أيضاً عن أم سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك، من طريق علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة قالت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المهدي من ولد فاطمة " . ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المهدي فقال: " نعم هو حق وهو من بني فاطمة " .

ولم يتكلم عليه بصحيح ولا غيره، وقد ضعفه أبو جعفرالعقيلي وقال: " لا يتابع علي بن نفيل عليه، ولايعرف إلا به " .
وخرج أبوداود أيضاً عن أم سلمة من رواية صالح بن الخليل عن صاحب له عن أم سلمة قال: " يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، فيبعث إليه بعث من الشام، فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام، وعصائب أهل العراق فيبايعونه. ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب. والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض، فيلبث سبع سنين " . وقال بعضهم تسع سنين. ثم رواه أبو داود من رواية أبي خليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة، فتبين بذلك المبهم في الإسناد الأول. ورجاله رجال الصحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز.
وقد يقال: إنه من رواية قتادة، عن أبي الخليل، وقتادة مدلس وقد عنعنه، والمدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع. مع أن الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي، نعم ذكره أبو داود في أبوابه.
وخرج أبو داود أيضاً وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق عمران القطان عن قتادة عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين " . هذا لفظ أبي داود وسكت عليه. ولفظ الحاكم: " المهدي منا، أهل البيت، أشم الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، يعيش هكذا، وبسط يساره وإصبعين من يمينه السبابة والإبهام وعقد ثلاثة " قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وعمران القطان مختلف في الاحتجاج به، إنما أخرج له البخاري استشهاداً لا أصلاً. وكان يحيى القطان لا يحدث عنه. وقال يحيى بن معين: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بشيء. وقال أحمد بن حنبل: أرجو أن يكون صالح الحديث. وقال يزيد بن زريع: كان حرورياً وكان يرى السيف على أهل القبلة. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو عبيد الأجري: سالت أبا داود عنه فقال من أصحاب الحسن، وما سمعت إلا خيراً. وسمعتة مرة أخرى ذكره فقال: ضعيف، أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء وخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق زيد العمي عن أبي صديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث، فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن في أمتي المهدي يخرج، يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً " . زيد الشاك، قال قلنا: وما ذاك، قال: سنين! قال: " فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني " . قال: " فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله " . لفظ الترمذي قال: هذا حديث حسن. وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن ماجة والحاكم: " يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فتسع، فتنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا بمثلها قط، تؤتي الأرض أكلها ولا يذخر منه شيء. والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي أعطني! فيقول خذ!،. انتهى.
وزيد العمي وإن قال فيه الدار قطني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنه صالح، وزاد أحمد: إنه فوق يزيد الرقاشي وفضل بن عيسى، إلا أنه قال فيه أبو حاتم: ضعيف، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال يحيى بن معين في رواية أخرى: لا شيء. وقال مرة: يكتب حديثة، وهو ضعيف. وقال الجرجاني: متماسك، وقال أبو زرعة: ليس بقوي واهي الحديث ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بذاك، وقد حدث عنه شعبة. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ومن يروي عنهم ضعفاء، على أن شعبة قد روى عنه، ولعل شعبة لم يرو عن أضعف منه.

وقد يقال أن حديث الترمذي وقع تفسيراً لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثواً. لا يعده عداً " . ومن حديث أبي سعيد قال: " من خلفائكم خليفة يحثو المال حثواً " . ومن طريق أخرى عنهما قال: " يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده " . انتهى. وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهدي ولا دليل يقوم على أنه المراد منها. ورواه الحاكم أيضاً من طريق عوف الأعرابي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جوراً وظلماً وعدواناً، ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً " .
وقال فيه الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ورواه الحاكم أيضاً من طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً، وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعاً أو ثماني " . يعني حججاً. وقال فيه، حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة، لكن ذكره ابن حيان في الثقات، ولم يرد أن أحداً تكلم فيه. ثم رواه الحاكم أيضاً من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الوراق وأبو هارون العبدي عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تملأ الأرض جوراً وظلماً، فيخرج رجل من عترتي، فيملك سبعاً أو تسعاً، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً " .
وقال الحاكم فيه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وإنما جعله على شرط مسلم لأنه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الوراق. وأما شيخه الآخر وهو أبو هارون العبدي فلم يخرج له. وهو ضعيف جداً متهم بالكذب، ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمة في تضعيفه.
وأما الراوي له عن حماد بن سلمة وهو أسد بن موسى ويلقب أسد السنة، وإن قال البخاري: مشهور الحديث، واستشهد به في صحيحه، واحتج به أبو داود والنسائي، إلا أنه قال مرة أخرى: ثقة لو لم يصنف كان خيراً له. وقال فيه محمد بن حزم: منكر الحديث.
ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصديق الناجي، عن الحسن بن يزيد السعدي أحد بني بهدلة عن أبي سعيد الخدري قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي ينزل الله عز وجل له القطر من السماء، وتخرج الأرض بركتها، وتملأ الأرض منه قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يعمل على هذه الأمة، سبع سنين وينزل على بيت المقدس " .
وقال الطبراني فيه ورواه جماعة عن أبي الصديق، ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحداً ا إلا أبا الواصل، فإنه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد. انتهى. وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم، ولم يعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد، ورواية أبي الصديق عنه. وقال الذهبي في الميزان إنه مجهول. لكن ذكره ابن حبان في الثقات. وأما أبو الواصل الذي رواه عن أبي الصديق فلم يخرج له أحد من الستة. وذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الثانية، وقال فيه: يروي عن أنس، وروى عنه شعبة وعتاب بن بشر.
وخرج ابن ماجة في كتاب السنن عن عبد الله بن مسعود، من طريق يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذرفت عيناه وتغير لونه، قال، فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه فقال: إنا، أهل البيت، اختار الله لنا الأخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملأها قسطاً كما ملؤوها جوراً. فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج. انتهى.

وهذا الحديث يعرف عند المحدثين بحديث الرايات. ويزيد بن أبي زياد راوية، قال فيه شعبة: كان رفاعاً، يعني يرفع الأحاديث التي لا تعرف مرفوعة. وقال محمد بن الفضيل: كان من كبار أئمة الشيعة. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ، وقال مرة: حديثه ليس بذلك. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال العجلي: جائز الحديث. وكان بآخره يلقن. وقال أبو زرعة: لين، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال الجرجاني: سمعتهم يضعفون حديثه. وقال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثة، وغيره أحب إلي منه. وقال ابن عدي: هو من شيعة أهل الكوفة، ومع ضعفه يكتب حديثه. وروى له مسلم لكن مقروناً بغيره. وبالجملة فالأكثرون على ضعفه. وقد صرح الأئمة بتضعيف هذا الحديث، الذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وهو حديث الرايات. وقال وكيع بن الجراح فيه: ليس بشيء. وكذلك قال أحمد بن حنبل. وقال أبو قدامة: سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات، لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته، أهذا مذهب إبراهيم، أهذا مذهب علقمة، أهذا مذهب عبد الله؟! وأورد العقيلي هذا الحديث في الضعفاء. وقال الذهبي: ليس بصحيح.
وخرج ابن ماجة عن علي رضي الله عنه من رواية ياسين العجلي، عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي منا، أهل البيت، يصلح الله به في ليلة " . وياسين العجلي وإن قال فيه ابن معين ليس به بأس، فقد قال البخاري: فيه نظر. وهذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جداً. وأورد له ابن عدي في الكامل، والذهبي في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له، وقال هو معروف به.
وخرج الطبراني في معجمه الأوسط، عن علي رضي الله عنه، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أمنا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله، فقال: " بل منا، بنا يختم الله كما بنا فتح، وبنا يستنقذون من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بينة، كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك " . قال علي: أمومنون أم كافرون؟ قال: " مفتون وكافر " . انتهى.
وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال. وفيه عمر بن جابر الحضرمي وهو أضعف منه. قال أحمد بن حنبل: روي عن جابر مناكير، وبلغني أنه كان يكذب، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال، كان ابن لهيعة شيخاً أحمق ضعيف العقل، وكان يقول: " علي في السحاب " ، وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول: " هذا علي قد مر في السحاب " . وخرج الطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه، أن، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يكون في آخر الزمان فتنة يحصل الناس فيها كما يحصل الذهب في المعدن. فلا تسبوا أهل الشام ولكن سبوا أشرارهم فإن فيهم الأبدال يوشك أن يرسل على أهل الشام صيب من السماء فيفرق جماعتهم، حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم. فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات، المكثر يقول هم خمسة عشر ألفاً، والمقلل يقول هم اثنا عشر ألفاً، وأمارتهم " أمت أمت " ، يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك، فيقتلهم الله جميعاً، ويرد الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ورايتهم.
وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال. ورواه الحاكم في المستدرك، وقال، صحيح الإسناد، ولم يخرجاه في روايته. ثم يظهر الهاشمي فيرد الله الناس إلى الفتهم... إلخ وليس في طريقه ابن لهيعة وهو إسناد صحيح كما ذكر. وخرج الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه، من رواية أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال: " كنا عند علي رضي الله عنه، فسأله رجل عن المهدي، فقال علي: هيهات. ثم عقد بيده سبعاً، فقال ذلك يخرج في آخر الزمان، إذا قال الرجل الله الله قتل، ويجمع الله له قوماً قزعاً، كقزع السحاب، يؤلف الله بين قلوبهم فلا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحد دخل فيهم، عدتهم على عدة أهل بدر، لم يسبقهم الأولون، ولا يدركهم الأخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر. قال أبو الطفيل، قال ابن الحنفية: أتريده؟ قلت: نعم! قال: فإنه يخرج من بين هذين الأخشبين. قلت لا جرم والله، ولا أدعها حتى أموت، ومات بها يعني مكة، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. انتهى.

وإنما هو على شرط مسلم فقط، فإن فيه عماراً الذهني ويونس بن أبي إسحاق، ولم يخرج لهما البخاري وفيه عمرو بن محمد العنقزي، ولم يخرج له البخاري احتجاجاً بل استشهاداً، مع ما ينضم إلى ذلك من تشيع عمار الدهني، وهو وإن وثقه أحمد وابن معيني وأبو حاتم والنسائي وغيرهم، فقد قال علي بن المديني عن سفيان أن بشر بن مروان قطع عرقوبيه، قلت في أي شيء؟ قال: في التشيع. وخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن علي بن زياد اليمامي، عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نحن، ولد عبد المطلب، سادات أهل الجنة، أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي " . انتهى.
وعكرمة بن عمار وإن أخرج له مسلم فإنما أخرج له متابعة. وقد ضعفه بعض ووثقه آخرون. وقال أبو حاتم الرازي: هو مدلس فلا يقبل، إلا أن يصرح بالسماع. وعلي بن زياد قال الذهبي في الميزان: لا ندري من هو ثم قال الصواب فيه عبد الله بن زياد. وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه يعقوب بن أبي شيبة، وقال فيه يحيى بن معين ليس به بأس، فقد تكلم فيه الثوري، قالوا لأنه رآه يفتي في مسائل ويخطىء فيها. وقال ابن حيان: كان ممن فحش عطاؤه فلا يحتج به. وقال أحمد بن حنبل: سعد بن عبد الحميد يدعي أنه سمع عرض كتب مالك والناس ينكرون عليه ذلك، وهو ههنا ببغداد لم يحج، فكيف سمعها؟ وجعله الذهبي ممن لم يقدح فيه كلام من تكلم فيه. وخرج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عباس موقوفاً عليه، قال مجاهد قال لي ابن عباس: لو لم أسمع أنك مثل أهل البيت ما حدثتك بهذا الحديث، قال، فقال مجاهد: فإنه في ستر لا أذكره لمن يكره! قال، فقال ابن عباس: " منا، أهل البيت، أربعة: منا السفاح ومنا المنذر ومنا المنصور ومنا المهدي،. قال، فقال مجاهد: بين لي هؤلاء الأربعة. فقال ابن عباس: أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه، وأما المنذر، أراه قال، فإنه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل من حقه، وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه الشطر مما كان يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرهب منه عدوه على مسيرة شهرين، والمنصور يرهب منه عدوه على مسيرة شهر وأما المهدي فإنه الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وتأمن البهائم السباع، وتلقي الأرض أفلاذ كبدها قال: لاقلت وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال، الأسطوانة من الذهب والفضة " .
وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه. وإسماعيل ضعيف وإبراهيم أبوه، وإن خرج له مسلم، فالأكثرون على تضعيفه!.
وخرج ابن ماجة عن ثوبان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلاً لم يقتله قوم،. ثم ذكر شيئاً لا أحفظه، قال: " فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي.
ورجاله رجال الصحيحين، إلا أن فيه أبا قلابة الجرمي، وذكر الذهبي وغيره أنه مدلس، وفيه سفيان الثوري وهو مشهور بالتدليس، وكل واحد منهما عنعن ولم يصرح بالسماع فلا يقبل، وفيه عبد الرزاق بن همام وكان مشهوراً بالتشيع وعمي في آخر وقته فخلط، قال ابن عدي حدث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد، ونسبوه إلى التشيع. انتهى.

وخرج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي من طريق ابن لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرمي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي " . يعني سلطانه. قال الطبراني تفرد به ابن لهيعة، وقد تقدم لنا في حديث علي الذي خرجه الطبراني في معجمه الأوسط أن ابن لهيعة ضعيف، وأن شيخه عمر بن جابر أضعف منه. وخرج البزار في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط، واللفظ للطبراني، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فثمان وإلا فتسع، تنعم فيها أمتي نعمة لم ينعموا بمثلها: ترسل السماء عليهم مدراراً، ولا تذخر الأرض شيئاً من النبات، والمال كدوس، يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني، فيقول خذ! قال الطبراني والبزار تفرد به محمد بن مروان العجلي. زاد البزار: ولا نعلم أنه تابعه عليه أحد وهو وإن وثقه أبو داود وابن حبان أيضاً بما ذكره في الثقات، وقال فيه يحيى بن معين: صالح، وقال مرة ليس به بأس، فقد اختلفوا فيه. قال أبو زرعة ليس عندي بذلك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: رأيت محمد بن مروان العجلي حدث بأحاديث وأنا شاهد لم نكتبها، تركتها على عمد، وكتب بعض أصحابنا عنه كأنه ضعفه. وخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي هريرة قال: " حدثني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق. قال: قلت وكم يملك. قال خمساً واثنتين. قال قلت: وما " خمساً واثنتين؟ قال: " لا أدري " .
وهذا السند، وإن كان فيه بشير بن نهيك، وقال فيه أبو حاتم لا يحتج به، فقد احتج به الشيخان ووثقه الناس ولم يلتفتوا إلى قول أبي حاتم لا يحتج به. إلا أن فيه رجاء بن أبي رجاء اليشكري، وهو مختلف فيه. قال أبو زرعة: ثقة، وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو داود: ضعيف، وقال فيه: صالح. وعلق له البخاري في صحيحه حديثاً واحداً. وخرج أبو بكر البزار في مسنده والطبراني في معجمه الكبير، والأوسط عن قرة بن إياس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتملأن الأرض جوراً وظلماً، فإذا ملئت جوراً وظلماً، بعث الله رجلاً من أمتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، فلا تمنع السماء من قطرها شيئاً، ولا تدخر الأرض شيئاً من نباتها. يلبث فيكم سبعاً أوثماني أوتسعاً " . يعني سنين.
وفيه داود بن المجبر بن قحذم، عن أبيه وهما ضعيفان جداً. وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المهاجرين والأنصار، وعلي بن أبي طالب عن يساره، والعباس عن يمييه، إذ تلاحى العباس ورجل من الأنصار، فأغلظ الأنصاري للعباس، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد العباس وبيد علي وقال: " سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جوراً وظلماً، وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً. فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي، فإنه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهدي.
وفيه عبد الله بن عمر العمري وعبد الله بن لهيعة وهما ضعيفان.
وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون فتنة لا يسكن فيها جانب إلا تشاجر جانب، حتى ينادي مناد من السماء أن أميركم فلان. وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف جداً. وليس في الحديث تصريح ذكر المهدي، وإنما ذكروه في أبوابه وترجمته استئناساً.
فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان.

هي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه. وربما تمسك المنكرون لشأنه بما رواه محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح بن أبي عياش، عن الحسن البصري، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا مهدي إلا عيسى ابن مريم " . وقال يحيى بن معين في محمد بن خالد الجندي: إنه ثقة. وقال البيهقي: تفرد به محمد بن خالد. وقال الحاكم فيه: إنه رجل مجهول. واختلف عليه في إسناده: فمرة يروي كما تقدم وينسب ذلك لمحمد بن إدريس الشافعي، ومرة يروي عن محمد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. قال البيهقي: فرجع إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول، عن أبان بن أبي عياش وهو متروك، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو منقطع، وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب. وقد قيل في: " أن لا مهدي إلا عيسى " أي لا يتكلم في المهد إلا عيسى، يحاولون بهذا التأويل رد الاحتجاج به، أو الجمع بينه وبين الأحاديث، وهو مدفوع بحديث جريح. ومثله من الخوارق.
وأما المتصوفة فلم يكن المتقدمون منهم يخوضون في شيء من هذا، وإنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال وما يحصل عنها من نتائج المواجد والأحوال، وكان كلام الإمامية والرافضة من الشيعة في تفضيل علي رضي الله تعالى عنه، والقول بإمامته وادعاء الوصية له بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، والتبري من الشيخين كما ذكرناه في مذاهبهم. ثم حدث فيهم بعد ذلك القول بالإمام المعصوم، وكثرت التآليف في مذاهبهم. وجاء الإسماعيلية منهم يدعون ألوهية الإمام بنوع من الحلول، وآخرون يدعون رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ، وآخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منهم، وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلين على ذلك بما قدمناه من الأحاديث في المهدي وغيرها.
ثم حدث أيضاً عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس. وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة، فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم. وظهر منهم أيضاً القول بالقطب والأبدال، وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء. وأشربوا أقوال الشيعة، وتوغلوا في الديانة بمذاهبهم، حتى لقد جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة، أن علياً رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة. واتصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولايعلم هذا عن علي من وجه صحيح. ولم تكن هذه الطريقة خاصة بعلي كرم الله وجهه، بل الصحابة كلهم أسوة في طرق الهدى، وفي تخصيص هذا بعلي دونهم رائحة من التشيع قوية، يفهم منها ومن غيرها مما تقدم دخولهم في التشيع، وانخراطهم في سلكه.

وظهر منهم أيضاً القول بالقطب وامتلأت كتب الإسماعيلية من الرافضة، وكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر. وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقنه بعضهم من بعض، وكأنه مبني على أصول واهية من الفريقين. وربما يستدل بعضهم بكلام المنجمين في القرانات، وهو من نوع الكلام في الملاحم، ويأتي الكلام عليها في الباب الذي يلي هذا. وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين في شأن الفاطمي، ابن العربي الحاتمي في كتاب عنقاء مغرب وابن قسي في كتاب خلع النعلين وعبد الحق بن سبعين، وابن أبي واطيل تلميذه في شرحه كتاب خلع النعلين. وأكثر كلماتهم في شأنه ألغاز وأمثال، وربما يصرحون في الأقل و يصرح مفسر وكلامهم. وحاصل مذهبهم فيه، على ما ذكر ابن أبي واطيل، أن النبوة بها ظهر الحق والهدى بعد الضلال والعمى، وأنها تعقبها الخلافة، ثم يعقب الخلافة الملك، ثم يعود تجبراً وتكبراً وباطلاً. قالوا: ولما كان في المعهود من سنة الله رجوع أمور إلى ما كانت وجب أن يحيا أمر النبوة والحق بالولاية، ثم بخلافتها، ثم يعقبها الدجل مكان الملك والتسلط، ثم يعود الكفر بحاله. يشيرون بهذا لما وقع من شأن نبوة، والخلافة بعدها، والملك بعد الخلافة: هذه ثلاث مراتب. وكذلك الولاية التي هي لهذا الفاطمي، والدجل بعدها كناية عن خروج الدجال على أثره، والكفر من بعد ذلك. فهي ثلاث مراتب على نسبة الثلاث مراتب الأولى. قالوا: ولما كان أمر الخلافة لقريش حكماً شرعياً بالإجماع الذي لا يوهنه إنكار من لم يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخص من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم، إما ظاهراً كبني عبد المطلب، وأما باطناً ممن كان من حقيقة الآل، والآل من إذا حضر لم يغب من هو آله. وابن العربي الحاتمي سماه في كتابه " عنقاء مغرب " من تأليفه: خاتم الأولياء، وكنى عنه بلبنة الفضة إشارة إلى حديث البخاري في باب خاتم النبيين، قال صلى الله عليه وسلم: " مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل رجل ابتنى بيتاً وأكمله، حتى إذا لم يبق منه إلا موضع لبنة فأنا تلك اللبنة " . فيفسرون خاتم النبيين باللبنة التي أكملت البنيان، ومعناه النبي الذي حصلت له النبوة الكاملة. ويمثلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنبوة، ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرتبة التي هي خاتمة الولاية، كما كان خاتم الأنبياء حائزاً للمرتبة التي هي خاتمة النبوة. فكنى الشارع عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة البيت في الحديث المذكور. وهما على نسبة واحدة فيها. فهي لبنة واحدة في التمثيل. ففي النبوة لبنة ذهب، وفي الولاية لبنة فضة للتفاوت بين الرتبتين، كما بين الذهب والفضة. فيجعلون لبنة الذهب كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولبنة الفضة كناية عن هذ الولي الفاطمي المنتظر، وذلك خاتم الأنبياء وهذا خاتم الأولياء.
وقال ابن العربي فيما نقل ابن أبي واطيل عنه: وهذا الإمام المنتظر وهو من أهل البيت من ولد فاطمة، وظهوره يكون من بعد مضي - خ ف ج - من الهجرة ورسم حروفاً ثلاثة يريد عددها بحساب الجمل، وهو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستمائة والفاء أخت القاف بثمانين، والجيم المعجمة بواحده من أسفل ثلاثة، وذلك ستمائة وثلاث وثمانون سنة، وهي في آخرالقرن السابع. ولما انصرم هذا العصر ولم يظهر حمل ذلك بعض المقلدين لهم على أن المراد بتلك المئة مولده، وعبر بظهوره عن مولده، وأن خروجه يكون بعد العشر والسبعمائة فإنه الإمام الناجم من ناحية المغرب " .

قال: وإذا كان مولده كما زعم ابن العربي سنة ثلاث وثمانين وستمائة فيكون عمره عند خروجه ستاً وعشرين سنة،. قال: وزعموا أن خروج الدجال يكون سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمدي، وابتداء اليوم المحمدي عندهم من يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تمام ألف سنة لما. قال ابن أبي واطيل في شرحه كتاب خلع النعلين: الولي المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمد المهدي وخاتم الأولياء، وليس هو بنبي وإنما هو ولي ابتعثه روحه وحبيه. قال صلى الله عليه وسلم: " العالم في قومه كالنبي في أمته " . وقال: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. ولم تزل البشرى تتابع به من أول اليوم المحمدي إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم وتأكدت وتضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته، وازدلاف زمانه منذ انقضت إلى، هلم جرا " قال: " وذكر الكندي أن هذا الولي، هو الذي يصلي بالناس صلاة الظهر، ويجدد الإسلام، ويظهرالعدل، ويفتح جزيرة الأندلس ويصل إلى رومية فيفتحها ويسير إلى المشرق فيفتحه، ويفتح القسطنطينية، ويصير له ملك الأرض، فيتقوى المسلمون ويعلو الإسلام، ويظهر دين الحنيفية، فإن من صلاة الظهر إلى صلاة العصر وقت صلاة، قال عليه الصلاة والسلام، " ما بين هذين وقت " وقال الكندي أيضاً: الحروف العربية غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة وثلاث وأربعون، وسبع دجالية، ثم ينزل عيسى في وقت صلاة العصر، فيصلح الدنيا وتمشي الشاة مع الذئب. ثم يبقى ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة وستين عاماً، عدد حروف المعجم وهي - ق ي ن - ، دولة العدل منها أربعون عاماً " . قال ابن أبي واطيل: " وما ورد من قوله لا مهدي إلا عيسى، فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته، وقيل لا يتكلم في المهد إلا عيسى. وهذا مدفوع بحديث جريج وغيره. وقد جاء في الصحيح أنه قال: " لا يزال هذا الأمر قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشياً. وقد أعطى الوجود أن منهم من كان في أول الإسلام، ومنهم من سيكون في آخره. وقال: " الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى وثلاثون أو ستة وثلاثون، وانقضاؤها في خلافة الحسن، وأول أمر معاوية، فيكون أول أمر معاوية خلافة أخذاً بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء، وأما سابع الخلفاء فعمر بن عبد العزيز، والباقون خمسة من أهل البيت من ذرية علي، يؤيده قوله: " إنك لذو قرنيها " يريد الأمة، أي إنك لخليفة في أولها، وذريتك في آخرها. وربما استدل بهذا الحديث القائلون بالرجعة. فالأول هو المشار إليه عندهم بطلوع الشمس من مغربها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيلى لتنفقن كنوزهما في سبيل الله، وقد أنفق عمر بن الخطاب كنوز كسرى في سبيل الله، والذي يهلك قيصر وينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حياً يفتح القسطنطينية: فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجش. كذا قال صلى الله عليه وسلم: " ومدة حكمه بضع " ، والبضع من ثلاث إلى تسع وقيل إلى عشر. وجاء ذكر أربعين، - في بعض الروايات سبعين. فأما الأربعون فإنها مدتة ومدة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده، على جميعهم السلام قال: " وذكر أصحاب النجوم والقرانات أن مدة بقاء أمره وأهل بيته من بعده مائة وتسعة وخمسون عاماً، فيكون الأمر على هذا جارياً على الخلافة والعدل أربعين أو سبعين، ثم تختلف الأحوال فتكون ملكاً. انتهى كلام ابن أبي واطيل.

وقال في موضع آخر: " نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمدي حين تمضي ثلاثة أرباعه " . قال: " وذكر الكندي يعقوب بن إسحق في كتاب الجفر الذي ذكر فيه القرانات أنه إذا وصل القرآن إلى الثور على رأس ضح بحرفين الضاد المعجمة والحاء المهملة، يريد ثمانية وتسعين وستمائة من الهجرة، ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى " . قال: وقد ورد في الحديث أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ينزل بين مهرودتين، يعني حلتين مزعفرتين صفراوين ممصرتين واضعاً كفيه على أجنحة الملكين، له لمة، كأنما خرج من ديماس، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، كثير خيلان الوجه. وفي حديث آخر: مربوع الخلق وإلى البياض والحمرة. وفي آخر: إنه يتزوج في الغرب. والغرب دلو البادية، يريد أنه يتزوج منها وتلد زوجته. وذكر وفاته بعد أربعين عاماً. وجاء أن عيسى يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب عمر بن الخطاب. وجاء أن أبا بكر وعمر يحشران بين نبيين " . قال ابن أبي واطيل: والشيعة تقول إنه هو المسيح، مسيح المسايح من آل محمد. قلت وعليه حمل بعض المتصوفة حديث لا مهدي إلا عيسى، أي لا يكون مهدي إلا المهدي الذي نسبته إلى الشريعة المحمدية نسبة عيسى إلى الشريعة الموسوية في الاتباع وعدم النسخ " . إلى كلام من أمثال هذا يعينون فيه الوقت والرجل والمكان بأدلة واهية وتحكمات مختلفة، فينقضي الزمان ولا أثر لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل كما تراه من مفهومات لغوية وأشياء تخييلية وأحكام نجومية. في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر.
وأما المتصوفة الذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدد لأحكام الملة ومراسم الحق ويتحينون ظهوره لما قرب من عصرنا. فبعضهم يقول من ولد فاطمة، وبعضهم يطلق القول فيه. سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب، كان في أول هذه المائة الثامنة، وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكريا عن أبيه أبي محمد عبد الله عن أبيه الولي أبي يعقوب المذكور.
هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة، وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا. والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه.
وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك. وعصبية الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الأفاق، ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش، إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر، منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها، وهم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم وإمارتهم وآرائهم يبلغون آلافاً من الكثرة. فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم، ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته وحمل الناس عليها. وأما على غير هذا الوجه، مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الأفاق ثمن غير عصبية ولا شوكة إلا مجرد نسبة في أهل البيت، فلا يتم ذلك، ولا يمكن، لما أسلفناه من البراهين الصحيحة.

وأما ما تدعيه العامة والأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه ولا علم يقيده، فيتحينون ذلك على غير نسبة وفي غير مكان، تقليداً لما اشتهر من ظهور فاطمي، ولا يعلمون حقيقة الأمر كما بيناه. وأكثر ما يتحينون في ذلك القاصية من الممالك وأطراف العمران، مثل الزاب بإفريقية والسوس من المغرب. ونجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان ذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة واعتقادهم أنه منهم أو قائمون بدعوته، زعماً لا مستند لهم، إلا غرابة تلك الأمم وبعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثرة أو قلة أو ضعف أو قوة، ولبعد القاصية عن منال الدولة وخروجها عن نطاقها، فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن. ربقة الدولة ومنال الأحكام والقهر، ولا محصول لديهم في ذلك إلا هذا. وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة يميه تمامها وسواساً وحمقاً. وقتل كثير منهم. أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي قال: خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة وعصر السلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التصوف، يعرف بالتويزري نسبة إلى توزر مصغراً، وادعى أنه الفاطمي المنتظر واتبعه الكثير من أهل السوس من ضالة وكزولة وعظم أمره، وخافه رؤساء المصامدة على أمرهم، فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً وانحل أمره.
وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة وعشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس، وادعى أنه الفاطمي، واتبعه الدهماء من غمارة، ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره. وكثير من هذا النمط. وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا، وهو أنه صحب في حجه في رباط العباد، وهو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها، رجلاً من أهل البيت من سكان كربلاء، كان متبوعاً معظماً كثير التلميذ والخادم. قال وكان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان. قال وتأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق فانكشف لي أمرهم، وأنهم إنما جاؤوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر وانتحال دعوة الفاطمي بالمغرب. فلما عاين دولة بني مرين، ويوسف بن يعقوب يومئذ منازل لتلمسان، قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط، وليس هذا الوقت وقتنا. ويدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافئة لأهل الوقت، فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن ولا شوكة له، وأن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان، ورجع إلى الحق وأقصر عن مطامعه وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت، لا سيما في المغرب. إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره، وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر، ويعتني بذلك ويكثر تابعه. وأكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها، لما قدمناه من طبيعة معاشهم، فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا. إلا أن الصبغة الدينية فيهم لا تستحكم لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة والنهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك، لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة، ومنها توبتهم. فتجد تابع ذلك المنتحل للدعوة القائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الإقتداء والاتباع، إنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة، ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش بأقصى جهدهم. وشتان بين طلب هذا الأجر في صلاح الخلق وبين طلب الدنيا، فاتفاقهما ممتنع، لا تستحكم لهم صبغة في الدين، ولا يكمل لهم نزوغ عن الباطل على الجملة، ولا يكثرون.

ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه، وولايته في نفسه دون تابعه. فإذا هلك انحل أمرهم وتلاشت عصبيتهم. وقد ولع ذلك بإفريقية، لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة، ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطن منهم يعرفون بمسلم، وكان يسمى سعادة، وكان أشد ديناً من الأول وأقوم طريقة في نفسه، ومع ذلك فلم يستتب أمر تابعه كما ذكرناه، حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح. وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك، ويلبسون فيها وينتحلون اسم السنة وليسوا عليها إلا الأقل، فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم. انتهى.
الفصل الثالث والخمسون
في حدثان الدول والأمموفيه الكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر، سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا، ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها. والتطلع إلى هذا طبيعة للبشر مجبولون عليها. ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام. والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة. ولقد نجد في المدن صنفاً من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه، فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه. فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها، وكثير من ضعفاء العقول كا يستكشفون عواقب أمرهم، في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك، ما بين خط في الرمل ويسمونه المنجم، وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب، ونظر في المرايا والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار، لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك، وأن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية.
وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم، ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه. وكل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها، وما يحدث لهم من الحرب والملاحم، ومدة بقاء الدولة، وعدد الملوك فيها، والتعرض لأسمائهم، ويسمى مثل ذلك الحدثان.
وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إليهم في ذلك، وقد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدولة، كما وقع لشق وسطيح في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن، أخبرهم بملك الحبشة بلادهم، ثم رجوعها إليهم، ثم ظهور الملك والدولة للعرب من بعد ذلك. وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حين بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح، وأخبرهم بظهور دولة العرب. وكذا كان في جيل البربر كهان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن، ويقال من غمرة، وله كلمات حدثانية على طريقة الشعر برطانتهم وفيها حدثان كثير، ومعظمه فيما يكون لزناتة من الملك والدولة بالمغرب وهي متداولة بين أهل الجيل. وهم يزعمون تارة أنه ولي، وتارة أنه كاهن، وقد يزعم بعض مزاعمهم أنه كان نبياً، لأن تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير. والله أعلم.
وقد يستند الجيل في ذلك إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم، كما وقع لبني إسرائيل، فإن انبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عندما يعنونهم في السؤال عنه.
وأما في الدولة الإسلامية فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدنيا ومدتها على العموم، وفيما يرجع إلى الدولة وأعمارها على الخصوص. وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام آثار منقولة عن الصحابة، وخصوصاً مسلمة بني إسرائيل، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما. وربما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة وتأويلات محتملة.

ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك، مستندهم فيه. والله أعلم، الكشف بما كانوا عليه من الولاية. وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: أن فيكم محدثين، فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة. وأما بعد صدر الملة وحين علق الناس على العلوم والاصطلاحات، وترجمت كتب الحكماء إلى اللسان العربي، فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجمين في الملك والدول وسائر الأمور العامة من القرانات، وفي المواليد والمسائل وسائر الأمور الخاصة من الطوالع لها، وهي شكل الفلك، عند حدوثها. فلنذكر الآن ما وقع لأهل الأثر في ذلك ثم نرجع لكلام المنجمين.
أما أهل الأثر فلهم في مدة الملل وبقاء الدنيا، على ما وقع في كتاب السهيلي، فإنه نقل عن الطبري ما يقتضي أن مدة بقاء الدنيا منذ الملة خمسمائة سنة، ونقض ذلك بظهور كذبه. ومستند الطبري في ذلك أنه نقل عن ابن عباس، أن الدنيا جمعة من جمع الأخرة، ولم يذكر لذلك دليلاً. وسره والله أعلم تقدير الدنيا بأيام خلق السماوات والأرض وهي سبعة، ثم اليوم بألف سنة لقوله: " وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " . قال: وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أجلكم في أجل من كان قبلكم، من صلاة العصر إلى غروب الشمس " . وقال: " بعثت أنا والساعة كهاتين،، وأشار بالسبابة والوسطى، وقدر ما بين صلاة العصر وغروب الشمس حين صيرورة، ظل كل شيء مثليه، يكون على التقريب نصف سبع، وكذلك وصل الوسطى على السبابة، فتكون هذه المدة نصف سبع الجمعة كلها، هو خمسمائة سنة.
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: " لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم " ، فدل ذلك على أن مدة الدنيا قبل الملة خمسة الأف وخمسمائة سنة.
وعن وهب بن منبه أنها خمسة الأف وستمائة سنة أعني الماضي. وعن كعب أن مدة الدنيا كلها ستة الأف سنة.
قال السهيلي: وليس في الحديثين ما يشهد لشيء مما ذكره، مع وقوع الوجود بخلافه.
فأما قوله: " لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم " ، فلا يقتضي نفي الزيادة على النصف. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، فإنما فيه الأشارة إلى القرب، وأنه ليس بينه وبين الساعة نبي غيره، ولا شرع غير شرعه.
ثم رجع السهيلي إلى تعيين أمد الملة من محرك آخر، لو ساعده التحقيق، وهو أنه جمع الحروف المقطعة في أوائل السور بعد حذف المكرر، قال: وهي أربعة عشر حرفاً يجمعها قولك " ألم، يسطع، نص، حق، كره " فأخذ عددها بحساب الجمل فكان سبعمائة وثلاثة، إضافة إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثه، فهذه هي مدة الملة، قال: ولا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف وفوائدها. قلت: وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التعويل عليه.
والذي حمل السهيلي على ذلك إنما هو ما وقع فى كتاب السير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أحبار اليهود، وهما أبو ياسر وأخوه حي، حين سمعا من الأحرف المقطعة " آلم " وتأولاها على بيان المدة بهذا الحساب، فبلغت إحدى وسبعين، فاستقلا المدة. وجاء حي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: هل مع هذا غيره، قال: " آلمص " ، ثم استزاد " آلر " ، ثم استزاد " آلمر " ، فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدة. وقال: قد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى لا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً، ثم ذهبوا عنه. وقال لهم أبو ياسر: ما يدريكم لعله أعطى عددها كلها تسعمائة وأربع سنين، قال ابن إسحق: فنزل قوله تعالى: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " .
ولا يقوم من القصة دليل على تقدير المدة بهذا العدد، لأن دلالة هذه الحروف على الأعداد ليست طبيعية ولا عقلية، وإنما هي بالتواضع والاصطلاح الذي يسمونه حساب الجمل. نعم إنه قديم مشهور، وقدم الأصطلاح لا يصير حجة. وليس أبو ياسر وأخوه حي ممن يؤخذ رأيه في ذلك دليلاً، ولا من علماء اليهود، لأنهم كانوا بادية بالحجاز، غفلاً من الصنائع والعلوم، حتى عن علم شريعتهم، وفقه كتابهم وملتهم، وإنما يتلقفون مثل هذا الحساب كما تتلقفه العوام في كل ملة. فلا ينهض للسهيلي دليل على ما ادعاه من ذلك.

ووقع في الملة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجمالي في حديث خرجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان، من طريق شيخه محمد بن يحيى الذهبي عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد الليثي عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه، قال: قال حذيفة بن اليمان: والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قائد فئة إلى أن تنقضي الدنيا، يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. وسكت عليه أبو داود، وقد تقدم أنه قال في رسالته ما سكت عليه في كتابه فهو صالح، وهذا الحديث إذا كان صحيحاً فهو مجمل، ويفتقر في بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجود أسانيدها. وقد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السنن على غير هذا الوجه. فوقع في الصحيحين من حديث حذيفة أيضاً قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذاك إلى قيام الساعة إلا حدث عنه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابه هؤلاء.
ولفظ البخاري: ما ترك شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره. وفي كتاب الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة العصر بنهار، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه.
وهذه الأحاديث كلها محمولة على ما ثبت في الصحيحين من أحاديث الفتن والأشراط لا غير، لأنه المعهود من الشارع صلوات الله وسلامه عليه، في أمثال هذه العمومات. وهذه الزيادة التي تفرد بها أبو داود في هذا الطريق شاذة منكرة، مع أن الأئمة اختلفوا في رجاله. فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثة مناكير، وقال البخاري يعرف منه وينكر، وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. وأسامة بن زيد وإن خرج له في الصحيحين ووثقه ابن معين، فإنما خرج له البخاري استشهاداً، وضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وأبو قبيصة بن ذؤيب مجهول. فتضعف هذه الزيادة التي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مر.

وقد يستندون في حدثان الدول على الخصوص إلى كتاب الجفر، ويزعمون أن فيه علم ذلك كله من طريق الأثار والنجوم لا يزيدون على ذلك، ولا يعرفون أصل ذلك ولا مستنده. واعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي، وهو رأس الزيدية، كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص. وقع ذلك لجعفر ونظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء. وكان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير، فرواه عنه هارون العجلي وكتبه، وسماة الجفر باسم الجلد الذي كتب عليه، لأن الجفر في اللغة هو الصغير وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق. وهذا الكتاث لم تتصل روايته ولا عرف عينه، وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل. ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل الكرامات، وقد صح عنه أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم، فتصح كما يقول. وقد حذر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه، فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف. وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوة، وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة. وقد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام، غير منسوب إلى أحد. وفي أخبار دولة العبيديين كثير منه. وانظر ما حكاه ابن الرقيق في لقاء أبي عبد الله الشيعي لعبيد الله المهدي، مع ابنه محمد الحبيب، وما حدثاه به، وكيف بعثناه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن، فأمره بالخروج إلى المغرب، وبث الدعوة فيه على علم لقنه أن دعوته تتم هناك، وأن عبيد الله لما بنى المهدية بعد استفحال دولتهم بإفريقية قال: " بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار " ، وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها، وبلغ هذا الخبر حافده إسماعيل المنصور، فلما حاصره صاحب الحمار أبو يزيد بالمهدية، كان يسائل عن منتهى موقفه، حتى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الذي عينة جده عبيد الله فأيقن بالظفر، وبرز من البلد، فهزمه واتبعه إلى ناحية الزاب فظفر به وقتله. ومثل هذه الأخبار عندهم كثيرة.
التنجيموأما المنجمون فيستندون في حدثان الدول إلى الأحكام النجومية. أما في الأمور العامة مثل الملك والدول فمن القرانات، وخصوصاً بين العلويين، وذلك أن العلويين زحل والمشتري يقترنان في كل عشرين سنة مرة، ثم يعود القران إلى برج آخر في تلك المثلثة من التثليث الأيمن، ثم بعده إلى آخر كذلك، إلى أن يتكرر في المثلثة الواحدة اثنتي عشرة مرة تستوي بروجه الثلاثة في ستين سنة، ثم يعود فيستوي بها في ستين سنة، ثم يعود ثالثة ثم رابعة، فيستوي في المثلثة باثنتي عشرة مرة، وأربع عودات في مائتين وأربعين سنة، ويكون انتقاله في كل برج على التثليث الأيمن، وينتقل من المثلثة إلى المثلثة التي تليها، أعني البرج الذي يلي البرج الأخير من القران الذي قبله في المثلثة. وهذا القران الذي هو قران العلويين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط: فالكبير هو اجتماع العلويين في برجة واحدة من الفلك، إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة وستين سنة مرة واحدة، والوسط هو اقتران العلوي في كل مثلثة اثنتي عشرة مرة، وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلثة أخرى، والصغير هو اقتران العلويين في درجة برج، وبعد عشرين سنة يقترنان في برج آخرعلى تثليثه الأيمن في مثل درجه أو دقائقه.

مثال ذلك وقع القران أول دقيقة من الحمل، وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من القوس، وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من الأسد، وهذه كلها نارية، وهذا كله قران صغير. ثم يعود إلى أول الحمل بعد ستين سنة ويسمى دور القران وعود القران، وبعد مائتين و أربعين ينتقل من النارية إلى الترابية لأنها بعدها، وهذا قران وسط. ثم ينتقل إلى الهوائية ثم المائية، ثم يرجع إلى أول الحمل في تسعمائة وستين سنة وهو الكبير. والقران الكبير يدل على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدولة، وانتقال الملك من قوم إلى قوم، والوسط على ظهور المتغلبين والطالبين للملك، والصغير على ظهور الخوارج والدعاة وخراب المدن أو عمرانها. ويقع أثناء هذه القرانات قران النحسين في برج السرطان في كل ثلاثين سنة مرة ويسمى الرابع. وبرج السرطان هو طالع العالم، وفيه وبال زحل وهبوط المريخ، فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب، وسفك الدماء، وظهور الخوارج، وحركة العساكر، وعصيان الجند، والوباء والقحط، ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر السعادة والنحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدليل فيه.
قال جراس بن أحمد الحاسب في الكتاب الذي ألفه لنظام الملك: " ورجوع المريخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملة الأسلامية لأنه كان دليلها، فالمولد النبوي كان عند قران العلويين ببرج العقرب، فلما رجع هنالك حدث التشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم والدين ونقصت أحوالهم، وربما انهدم بعض بيوت العبادة. وقد يقال: إنه كان عند قتل علي رضي الله عنه، ومروان من بني أمية، والمتوكل من بني العباس. فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام.
وذكر شاذان البلخي: " أن الملة تنتهي إلى ثلثمائة وعشرين. وقد ظهر كذب هذ القول. وقال أبو معشر: يظهر بعد المائة والخمسين منها اختلاف كثير، ولم يصح ذلك " . وقال جراس: " رأيت في كتب القدماء أن المنجمين أخبروا كسرى عن ملك العرب وظهور النبوة فيهم، وأن دليلهم الزهرة وكانت في شرفها، فيبقى الملك في أربعين سنة. وقال أبو معشر في كتاب القرانات: القسمة إذا انتهت إلى السابعة والعشرين من الحوت فيها شرف الزهرة. ووقع القران مع ذلك ببرج العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ دولة العرب وكان منهم نبي ويكون قوة ملكه ومدته على ما بقي من درجات شرف الزهرة، وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت، ومدة ذلك ستمائة وعشر سنين. وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزهرة، ووقوع القسمة أول الحمل، وصاحب الجد المشتري.
وقال يعقوب بن إسحق الكندي: أن مدة الملة تنتهي إلى ستمائة وثلاث وتسعين سنة، قال: لأن الزهرة كانت عند قران الملة في ثمان وعشرين درجة وثلاثين دقيقة الحوت. فالباقي إحدى عشرة درجة وثماني عشرة دقيقة، ودقائقها ستون، فيكون ستمائة وثلاثاً وتسعين سنة. قال: وهذه مدة الملة باتفاق الحكماء، ويعضده الحروف الواقعة في أول السور بحذف المكرر واعتباره بحساب الجمل. قلت: وهذا هو الذي ذكره السهيلي، والغالب أن الأول هو مستند السهيلي فيما نقلناه عنه.
قال جراس: " سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدة أردشير وولده وملوك الساسانية فقال: دليل ملكه المشتري، وكان في شرفه فيعطى أطول السنين وأجودها، أربعمائة وسبعاً وعشرين سنة، ثم تزيد الزهرة، وتكون في شرفها وهي دليل العرب، فيملكون لأن طالع القران الميزان، وصاحبه الزهرة، وكانت عند القران في شرفها، فدل أنهم يملكون ألف سنة وستين سنة. وسأل كسرى أنو شروان وزيره بزرجمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب، فأخبره أن القائم منهم يولد لخمس وأربعين من دولته، ويملك المشرق والمغرب، والمشتري يغوص إلى الزهرة، وينتقل القران من الهوائية إلى العقرب، وهو مائي وهو دليل العرب، فهذه الأدلة تفضي للملة بمدة دور الزهرة وهي ألف وستون سنة. وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك، فقال مثل قول بزرجمهر. وقال توفيل الرومي المنجم في أيام بني أمية: " إن ملة الإسلام تبقى مدة القران الكبير تسعمائة وستين سنة، فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة، وتغير وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملة، فحينئذ إما أن يفتر العمل به أو يتجدد من الأحكام ما يوجب خلاف الظن.

قال جراس: " واتفقوا على أن خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنار، حتى تهلك سائر المكونات، وذلك عندما يقطع قلب الأسد أربعاً وعشرين درجة، التي هي حد المريخ وذلك بعد مضي تسعمائة وستين سنة.
وذكر جراس: أن ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان، أتحفه به في هدية، وأنه تصرف للمأمون في الاختبارات بحروب أخيه، وبعقد اللواء لطاهر، وأن المامون أعظم حكمته، فسأله عن مدة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه واتصاله في ولد أخيه، وأن العجم يتغلبون على الخلافة من الديلم في دولة سنة خمسين، ويكون ما يريده الله، ثم يسوء حالهم، ثم تظهر الترك من شمال المشرق فيملكونه إلى الشام والفرات وسيحون وسيملكون بلاد الروم، ويكون ما يريده الله. فقال له المأمون: من أين لك هذا؟ فقال من كتب الحكماء ومن أحكام صصة بن داهر الهندي الذي وضع الشطرنج. قلت والترك الذين أشار إلى ظهورهم بعد الديلم هم السلجوقية، وقد انقضت دولتهم أول القرن السابع.
قال جراس: وانتقال القران إلى المثلثة المائية من برج الحوت يكون سنة ثلاث ثلاثين وثمانمائة ليزدجرد، وبعدها إلى برج العقرب حيث كان قران الملة سنة ثلاث وخمسين. قال والذي في الحوت هو أول الانتقال. والذي في العقرب يستخرج مف دلائل الملة. قال: وتحويل السنة الأولى من القران الأول في المثلثات المائية في ثاني رجب سنة ثمان وستين وثمانمائة " . ولم يستوف الكلام على ذلك.
وأما مستند المنجمين في دولة على الخصوص، فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه، لأن له دلالة عندهم على حدوث الدولة، وجهاتها من العمران، القائمين بها من الأمم، وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديانهم وعوائدهم وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات. وقد توجد هذه الدلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالاً عليه، فمن هذا يوجد الكلام في الدول.
وقد كان يعقوب بن إسحق الكندي منجم الرشيد والمأمون وضع في القرانات الكائنة في الملة كتاباً سماه: الشيعة بالجفر، باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق، وذكر فيه فيما يقال حدثان دولة بني العباس، وأنها نهايته، وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد، أنها تقع في انتصاف المائة السابعة، وأن بانقراضها يكون انقراض الملة. ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب ولارأينا من وقف عليه، ولعله غرق في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد، وقتل المستعصم آخر الخلفاء. وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمونه الجفر الصغير، والظاهر أنه وضع لبني عبد المؤمن، لذكر الأولين من ملوك الموحدين فيه على التفصيل، ومطابقة من تقدم عن ذلك من حدثانه، وكذب ما بعده.
وكان فى دولة بني العباس من بعد الكندي منجمون وكتب في الحدثان. وانظر ما نقله الطبري في أخبار المهدي عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدولة، قال: بعث إلي الربيع والحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام أبيه، فجئتهما جوف الليل، فإذا عندهما كتاب من كتب الدولة يعني الحدثان، وإذا مدة المهدي في عشر سنين. فقلت هذا الكتاب لا يخفى على المهدي، وقد مضى من دولته ما مضى، فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه. قالا: فما الحيلة؟ فاستدعيت عنبسة الوراق مولى آل بديل، وقلت له انسخ هذه الورقة، واكتب مكان عشر أربعين ففعل، فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشك أنها هي. ثم كتب الناس من بعد ذلك في حدثان الدول منظوماً ومنثوراً ورجزاً ما شاء الله أن يكتبوه، وبأيدي الناس متفرقة كثير منها، وتسمى الملاحم. وبعضها في حدثان الملة على العموم، وبعضها في دولة على الخصوص. وكلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة. وليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه المنسوب إليه.
الملاحم: فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرانة من بحر الطويل على روي الراء، وهي متداولة بين الناس. وتحسب العامة أنها من الحدثان العائم، فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل. والذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولة لمتونة، لأن الرجل كان قبيل دولتهم، وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمود وملكهم لعدوة الأندلس. ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضاً قصيدة تسمى التبعية أولها:

طربت وما ذاك مني طرب ... وقد يطرب الطائر المغتصب
وما ذاك مني للهو أراه ... ولكن لتذكار بعض السبب
قريباً من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال. ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين وأشار فيها إلى الفاطمي وغيره. والظاهر أنها مصنوعة. ومن الملاحم بالمغرب أيضاً ملعبة من الشعر الزجلي منسوبة لبعض اليهود، ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويين والنحسين وغيرهما، وذكر ميتته قتيلاً بفاس. وكان كذلك فيما زعموه. وأوله:
في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا ... فافهموا يا قوم هذي الإشارا
نجم زحل أخبر بذي العلاما ... وبدل الشكلا وهي سلاما
شاشية زرقا بدل العماما ... وشاش أزرق بدل الغرارا
يقول في آخره:
قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي ... يصلب ببلدة فاس في يوم عيد
حتى يجيه الناس من البوادي ... وقتله ياقوم على الفراد
وأبياته نحو الخمسمائة، وهي في القرانات التي دلت على دولة الموحدين. ومن ملاحم المغرب أيضاً قصيدة من عروض المتقارب على روي الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحدين، منسوبة لابن الأبار. وقال لي قاضي قسنطينة الخطيب الكبير أبو علي بن باديس، وكان بصيراً بما يقوله، وله قدم في التنجيم فقال لي: إن هذ ابن الأبار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مقتول المستنصر، وإنما هو رجل خياط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ. وكان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة وبقي بعضها في حفظي مطلعها:
عذيري من زمن قلب ... يغر ببارقه الأشنب
ومنها:
ويبعث من جيشه قائداً ... ويبقى هناك على مرقب
فتأتي إلى الشيخ أخباره ... فيقبل كالجمل الأجرب
ويظهر من عدله سيرة ... وتلك سياسة مستجلب
ومنها في ذكر أحوال تونس على العموم:
فإما رأيت الرسوم انمحت ... ولم يرع حق لذي منصب
فخذ في الترحل عن تونس ... وودع معالمها واذهب
فسوف تكون بها فتنة ... تضيف البريء إلى المذنب
ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس، فيها بعد السلطان أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذكر محمد أخيه من بعده. يقول فيها:
وبعد أبي عبد الإله شقيقه ... ويعرف بالوثاب في نسخة الأصل
إلا أن هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه، وكان يمني بذلك نفسه إلى أن هلك.
ومن الملاحم في المغرب أيضاً الملعبة المنسوبة إلى الهوشني على لغة العامة في عروض البلد التي أولها:
دعني بدمعي الهتان ... فترت الأمطار ولم تفتر
واستقت كلها الويدان ... وأنى تملي وتنغدر
البلاد كلها تروي ... فأولى ماميل ماتدري
ما بين الصيف والشتوي ... والعام والربيع تجري
قال حين صحت الدعوى ... دعني نبكي ومن عذر
أنادي من في الأزمان ... ذا القرن اشتد وتمري
وهي طويلة ومحفوظة بين عامة المغرب الأقصى، والغالب عليها الوضع، لأنه لم يصح منها قول إلا على تأويل تحرفه العامة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصة. ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي في كلام طويل شبه ألغاز لا يعلم تأويله إلا الله. لتخلله أوفاق عددية ورموز ملغوزة، وأشكال حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة، وتماثيل من حيوانات غريبة. وفي آخرها قصيدة على روي اللام، والغالب أنها كلها غير صحيحة، لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة ولا غيرها. وسمعت أيضاً أن هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سينا وابن عقب، وليس في شيء منها دليل على الصحة، لأن ذلك إنما يؤخذ من القرانات. ووقفت بالمشرق أيضاً على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي وكلها ألغاز بالحروف أولها:
إن شئت تكشف سر الجفر يا سائلي ... من علم جفر وصي والد الحسن
فافهم وكن واعياً حرفا وجملته ... والوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن

أما الذي قبل عصري لست أذكره ... لكنني أذكر الآتي من الزمن
بشهر بيبرس يبقى بعد خمستها ... بحاء ميم بطيش نام في الكنن
شين له أثرمن تحت سرته ... له القضاء قضى أي ذلك المنن
فمصر والشام مع أرض العراق له ... وأذربيجان في ملك إلى اليمن
ومنها:
وآل بوران لما نال طاهرهم ... الفاتك الباتك المعني بالسمن
لخلع سين ضعيف السن سين أتى ... لا لو فاق ونون ذي قرن
قوم شجاع له عقل ومشورة ... يبقى بحاء وأين بعد ذو سمن
ومنها:
من بعد باء من الأعوام قتلته ... يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن
ومنها:
هذا هو الأعرج الكلبي فاعن به ... في عصره فتن ناهيك من فتن
يأتي من الشرق في جيش يقدمهم ... عار عن القاف قاف جد بالفتن
بقتل دال ومثل الشام أجمعها ... أبدت بشجو على الأهلين والوطن
إذا أتى زلزلت يا ويح مصرمن الزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء وظاء وعين كلهم حبسوا ... هلكا وينفق أموالاً بلا ثمن
يسير القاف قافاً عند جمعهم ... هون به إن ذاك الحصن في سكن
وينصبون أخاه وهو صالحهم ... لا سلم الأ لف سين لذاك بني
تمت ولايتهم بالحاء لا أحد ... من السنين يداني الملك في الزمن
ويقال إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر:
يأتي إليه أبوه بعد هجرته ... وطول غيبته والشظف والزرن
وأبياتها كثيرة والغالب أنها موضوعة، ومثل صنعتها كان في القديم كثير أو معروف الانتحال.
حكى المؤزخون لأخبار بغداد: أنه كان بها أيام المقتدر وراق ذكي يعرف بالدنيالي، يبل الأوراق ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريد منهم من الدنيا، وأنه وضع في بعض دفاتره ميماً، مكررة ثلاث مرات، وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر وكان عظيماً في الدولة فقال له: هذا كناية عنك، وهومفلح مولى المقتدر، ميم في كل واحدة. وذكر عندها ما يعلم فيه رضاه مما يناله من الدولة ونصب لذلك علامات من أحواله المتعارفة موه بها عليه، فبذل له ما أغناه به. ثم وضعه للوزير، الحسن بن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً فجاءه بأوراق مثلها وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف، وبعلامات ذكرها وأنه يلي الوزارة للثامن عشر من الخلفاء وتستقيم الأمور على يديه، ويقهر الأعداء، وتعمر الدنيا في أيامه، وأوقف مفلحاً هذا على الأوراق وذكر فيها كوائن أخرى، وملاحم من هذا النوع، مما وقع ومما لم يقع، ونسب جميعه إلى دانيال، فأعجب به مفلح. ووقف عليه المقتدر، واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سبباً لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز. والظاهر أن هذه الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع.
ولقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية، عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي، وكان عارفاً بطرائقهم، فقال: كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية، وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجال معينين عنده، ويلغز عليهم بحروف يعينها في ضمنها لمن يراه منهم. وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة، وزاد فيها الخراصون من ذلك الجنس في كل عصر، وشغل العامة بفك رموزها، وهو أمر ممتنع، إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله، ويوضع له وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه. فرأيت من كلام هذا الرجل الفاصل، شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة. " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " . والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الباب الرابع من الكتاب الأول
في البلدان والأمصار وسائر العمرانوما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق
الفصل الأول
في أن الدول أقدم من المدن والأمصاروأنها إنما توجد ثانية عن الملك وبيانه أن البناء واختطاط المنازل إنما هو من منارع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة كما قدمناه. وذلك متآخر عن البداوة ومنازعها. وأيضا فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير. وهي موضوعة للعموم لا للخصوص، فتحتاج إلى اجتماع الأيدي، وكثرة التعاون. وليست من الأمور الضرورية للناس التى تعم بها البلوى، حتى يكون نزوعهم إليها اضطراراً، بل لا بد من إكراههم على ذلك، وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك، أو مرغبين في الثواب والأجر الذي لا يفي بكثرته إلا الملك والدولة. فلا بد في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدولة والملك.
ثم إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيدها، وبما اقتضته الأحوال السماوية والأرضية فيها، فعمر الدولة حينئذ عمر لها. فإن كان عمر الدولة قصيراً وقف الحال فيها عند انتهاء الدولة وتراجع عمرانها وخربت، وإن كان أمد الدولة طويلاً ومدتها منفسحة، فلا تزال المصانع فيها تشاد والمنازل الرحيبة تكثر وتتعدد، ونطاق الأسواق يتباعد وينفسخ، إلى أن تتسع الخطة وتبعد المسافة وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها.
ذكر الخطيب في تاريخه أن الحمامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستين ألف حمام، وكانت مشتملة على مدن وأمصار متلاصقة ومتقاربة تجاوز الأربعين، ولم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران. وكذا حال القيروان وقرطبة والمهدية في الملة الأسلامية، وحال مصر القاهرة بعدها فيما يبلغنا لهذا العهد.
وأما بعد انقراض الدولة المشيدة للمدينة: فإما أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية يمدها العمران دائماً، فيكون ذلك حافظاً لوجودها، ويستمر عمرها بعد الدولة كما تراه بفاس وبجاية من المغرب، وبعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال، لأن أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرفه والكسب، تدعو إلى الدعة والسكون الذي في طبيعة البشر، فينزلون المدن والأمصار ويتأهلون. وأما إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسسة مادة تفيدها العمران بترادف الساكن من بدوها، فيكون انقراض الدولة خرقاً لسياجها، فيزول حفظها، ويتناقص عمرانها شيئاً فشيئاً، إلى أن يبذعر ساكنها وتخرب، كما وقع بمصر وبغداد والكوفة بالمشرق والقيروان والمهدية وقلعة بني حماد بالمغرب، وأمثالها فتفهمه. وربما ينزل المدينة بعد انقراض مختطيها الأولين ملك آخر ودولة ثانية، يتخذها قراراً وكرسياً يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها. فتحفظ تلك الدولة سياجها، وتتزايد مبانيها ومصانعها، بتزايد أحوال الدولة الثانية وترفها، وتستجد بعمرانها عمراً آخر، كما وقع بفاس والقاهرة لهذا العهد. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل الثاني
في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار

وذلك أن القبائل والعصائب إذا حصل لهم الملك اضطروا للاستيلاء على الأمصار لأمرين: أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدعة والراحة وحط الأثقال، واستكمال ما كان ناقصاً من أمور العمران في البدو، والثاني دفع ما يتوقع على الملك من أمر المنازعين والمشاغبين. لأن المصر الذي يكون في نواحيهم ربما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم، والخروج عليهم، وانتزاع ذلك الملك الذي سموا إليه من أيديهم، فيعتصم بذلك المصر ويغالبهم. ومغالبة المصر على نهاية من الصعوبة والمشقة. والمصر يقوم مقام العساكر المتعددة لما فيه من الأمتناع ونكاية الحرب من وراء الجدران، من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة. لأن الشوكة والعصابة إنما احتيج إليهما في الحرب للثبات، لما يقع من بعد كرة القوم بعضهم على بعض عند الجولة، وثبات هؤلاء بالجدران، فلا يضطرون إلى كبير عصابة ولا عدد. فيكون حال هذا الحصن، ومن يعتصم به من المنازعين، مما يفت في عضد الأمة التي تروم الأستيلاء، ويخضد شوكة استيلائها. فإذا كانت بين أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن، من مثل هذا الأنخرام، وإن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أولاً، وحط أثقالهم، وليكون شجاً في حلق من يروم العزة والامتناع عليهم من طوائفهم وعصائبهم. فتعين أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار والاستيلاء عليها. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث
في أن المدن العظيمة..والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني وغيرها، وأنها تكون على نسبتها. وذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم. فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك، حشر الفعلة من أقطارها، وجمعت أيديهم على عملها. وربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوى والقدر في حمل أثقال البناء، لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك، كالمخال وغيره. وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة، مثل إيوان كسرى، وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب، إنما كانت بقدرتهم متفرقين أو مجتمعين، فيتخيل لهم أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير، في طولها وقدرها، لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت تلك المباني عنها. ويغفل عن شأن الهندام والمخال، وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية.
وكثيرمن المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء، واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم، ما يشهد له بما قلناه عيانا. وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية، نسبة إلى قوم عاد، لتوهمهم أن مباني عاد مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم وليس كذلك، فقد نجد آثاراً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم، وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم، كإيوان كسرى ومباني العبيديين من الشيعة بإفريقية، والصنهاجيين، وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد. وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان، وبناء الموحدين، في رباط الفتح ورباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة، في المنصورة بإزاء تلمسان. وكذلك الحنايا التي جلب إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة أيضاً لهذا العهد. وغير ذلك من المباني والهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريباً وبعيداً، تيقنا أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم. وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة. ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد. وقد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي أكثر السنين، ويشاهدونها لا تزيد في جوها ومساحتها وسمكها على المتعاهد. وإنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك. حتى إنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة، كان يتناول السمك من البحر طرياً فيشويه في الشمس. يزعمون بذلك أن الشمس حارة فيما قرب منها، ولا يعلمون أن الحر فيما لدينا هو الضوء لانعكاس الشعاع بمقابلة سطح الأرض والهواء. وأما الشمس في نفسها فغير حار، ولا باردة. وإنما هي كوكب مضيء لا مزاج له. وقد تقدم شيء من هذا في الفصل الثاني، حيث ذكرنا أن آثار الدولة على نسبة قوتها في أصلها. والله يخلق مايشاء ويحكم مايريد.
الفصل الرابعفي أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها
الدولة الواحدة والسبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التعاون ومضاعفة القدر البشرية.
وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم. فيبتدىء الأول منهم بالبناء ويعقبه الثاني والثالث، وكل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي، حتى يتم القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلاً للعيان. يظنه من يراه من الأخرين أنه بناء دولة واحدة.
وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب، وأن الذي بناه سبأ بن يشجب، وساق إليه سبعين وادياً. وعاقه الموت عن إتمامه، فأتمه ملوك حمير من بعده.
ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة وقناتها الراكبة على الحنايا العادية. وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها. ويشهد لذلك المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها وتأسييسها، فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها ولم يكمل القصد فيها. ويشهد لذلك أيضاً أنا نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخبريبها، مع أن الهدم أيسرمبن البناء بكثير، لأن الهدم رجوع إلى الأصل الذي هو العدم، والبناء على خلاف الأصل. فإذا وجدنل بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمه مع سهولة الهدم، علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة، وأنها ليست أثر دولة واحدة. وهذا مثل ماوقع للعرب في إيوان كسرى، لما اعتزم الرشيد على هدمه، وبعث إلى يحيى بن خالد وهو في مجلسه يستشيره في ذلك، فقال: يا أمير المومنين لا تفعل واتركه ماثلاً يستدل به على عظيم ملك آبائك الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل، فاتهمه في النصيحة، وقال: أخذته النعرة للعجم. والله لأصرعنه. وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه، واتخذ له الفؤوس وحماه بالنار، وصب عليه الخل، حتى إذا أدركه العجز بعد ذلك كله وخاف الفضيحة، بعث إلى يحيى يستشيره ثانياً في التجافي عن الهدم، فقال: يا أمير المؤمنين لا تفعل، واستمر على ذلك، لئلا يقال: عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم، فعرفها الرشيد وأقصر عن هدمه.
وكذلك اتفق للمأمون في هدم الأهرام التي بمصر وجمع الفعلة لهدمها، فلم يحل بطائل. وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط الظل وما بعده من الحيطان، وهنالك كان منتهى هدمهم. وهو إلي اليوم فيما يقال منفذ ظاهر. وبزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان. والله أعلم.
وكذلك حنايا المعلقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم وتستجيد الصناع حجارة تلك الحنايا، فيحاولون على هدمها الأيام العديدة. ولا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق، وتجتمع له المحافل المشهورة. شهدت منها فى أيام صباي كثيراً.
" والله خلقكم وما تعملون " .
الفصل الخامس
فيما يجب مراعاته في أوضاع المدنوما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المصللوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولما كان ذلك للقرار والمأوى، وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها، وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها: فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل، وأما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها. ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض. فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً، أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو لمروج خبيثة، أسرع إليها العفن من مجاورتها، فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة، وهذا مشاهد.

والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقية، فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه. ولقد يقال أن ذلك حادث فيها، ولم تكن كذلك من قبل. ونقل البكري في سبب حدوثه، أنه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم بالرصاص. فلما فض ختانه صعد منه دخان إلى الجو وانقطع. وكان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه. وأراد بذلك أن الأناء كان مشتملاً على بعض أعمال الطلسمات لوبائه، وأنه ذهب سره بذهابه، فرجع إليها العفن والوباء.
وهذه الحكاية من مذاهب العامة ومباحثهم الركيكة. والبكري لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرقه فنقله كما سمعه.
والذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميات ركودها. فإذا تخللتها الريح وتفشت وذهبت بها يميناً وشمالاً، خف شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات.
والبلد إذا كان كثير الساكن وكثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة، وتحدث الريح المتخللة للهواء الراكد، ويكون ذلك معيناً له على الحركة والتموج. وإذا خص الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته وتموجه، وبقي ساكناً راكداً، وعظم عفنه وكثر ضرره. وبلد قابس هذه، كانت عندما كانت إفريقية مستجدة العمران، كثيرة الساكن تموج بأهلها موجاً. فكان ذلك معيناً على تموج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه، فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض. وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها، فكثر العفن والمرض. فهذا وجهه لا غير.
وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت، ولم يراع فيها طيب الهواء. وكانت أولاً قليلة الساكن، فكانت أمراضها كثيرة. فلما كثر ساكنها انتقل حالها عن ذلك. وهذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بالبلد الجديد، وكثير من ذلك في العالم. فتفهمه تجد ما قلته لك.
وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور: منها الماء، بأن يكون البلد على نهر، أو بإزائها عيون عذبة ثرة. فإن وجود الماء قريباً من البلد يسهل على الساكن حاجة الماء وهي ضرورية، فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة. ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب، ولا بد لها من المرعى. فإذا كان قريباً طيباً، كان ذلك أرفق بحالهم، لما يعانون من المشقة في بعده. ومما يراعى أيضاً المزارع، فإن الزروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها، كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله. ومن ذلك الشجر للحطب والبناء، فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقود النيران للاصطلاء والطبخ. والخشب أيضاً ضروري لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم. وقد يراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية. إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول. وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات، وما تدعو إليه ضرورة الساكن. وقد يكون الواضع غافلاً عن حسن الاختيار الطبيعي، أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه، ولا يذكر حاجة غيرهم، كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وإفريقية، فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم، من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح. ولم يراعوا الماء، ولا المزارع، ولا الحطب، ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف، ولا غير ذلك، كالقيروان. والكوفة والبصرة وأمثالها. ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.

ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر، أن تكون في جبل، أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد، تكون صريخاً للمدينة متى طرقها طارق من العدو. والسبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر، ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات، ولا موضعها متوعر من الجبل، كانت في غرة للبيات، وسهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها، لما يأمن من وجود الصريخ لها. وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالاً وخرجوا عن حكم المقاتلة. وهذه كالإسكندرية من المشرق، وطرابلس من المغرب، وبونة وسلا. ومتى كانت القبائل أو العصائب موطنين بقربها، بحيث يبلغهم الصريخ والنعير، وكانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها، كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها، لما يكابدونه من وعرها، وما يتوقعونه من إجابة صريخها. كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها. فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الأسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية، مع أن الدعوة من ورائها ببرقة وإفريقية، وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها. ولذلك والله أعلم، كان طروق العدو للإسكندرية وطرابلس في الملة مرات متعددة. والله تعالى أعلم.
الفصل السادس
في المساجد والبيوت العظيمة في العالمإعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه، وجعلها مواطن لعبادته، يضاعف فيها الثواب، وينمي بها الأجور. وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه، لطفاً بعباده وتسهيلاً لطرق السعادة لهم.
وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت فى الصحيحين، وهي مكة والمدينة وبيت المقدس. أما البيت الحرام الذي بمكة، فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. أمره الله ببنائه، وأن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن، وقام بما أمره المله فيه. وسكن إسماعيل به مع هاجر، ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله، ودفنا بالحجر منه. وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام. أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله. ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحق عليه السلام حواليه. والمدينة مهاجر نبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه، آمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها، فبنى مسجده الحرام بها، وكان ملحده الشريف في تربتها. فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم، وعظمة دينهم. وفي الأثار من فضلها ومضاعفة الثواب فى مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف. فلنشر إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كفل ظهورها في العالم.

فأما مكة فأوليتها - فيما يقال - أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور، ثم هدمها الطوفان بعد ذلك. وليس فيه خبر صحيح يعول عليه. وإنما اقتبسوه من مجمل الآية في قوله: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " . ثم بعث الله إبراهيم، وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ماهو معروف. وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر بالفلاة، فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما. وكيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم، ومرور الرفقة من جرهم بهما، حتى احتملوهما وسكنوا إليهما، ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه. فاتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتاً يأوي إليه، وأدار عليه سياجاً من الردم وجعله زرباً لغنمه. وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مراراً لزيارته من الشام، أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب، فبناه واستعان فيه بابنه إسماعيل، ودعا الناس إلى حجه، وبقي إسماعيل ساكناً به. ولما قبضت أمه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم، ثم العماليق من بعدهم. واستمر الحال على ذلك، والناس يهرعون إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة، لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممن دنا أو نأى. فقد نقل أن التبابعة كانت تجج البيت وتعظمه، وأن تبعاً كساها الملاء والوصائل، وأمر بتطهيرها وجعله لها مفتاحاً. ونقل أيضاً أن الفرس كانت تحجه وتقرب إليه، وأن غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم. ولم يزل لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله ثم كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعبوا إلى كنانة، ثم كنانة إلى قريش وغيرهم. وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره. وأخرجوهم من البيت وملكوا عليهم يومئذ، قصي بن كلاب، فبنى البيت وسقفه بخشب الدوم وجريد النخل. وقال الأعشى:
خلفت بثوبي راهب الدور والتي ... بناها قصي والمضاض بن جرهم
ثم أصاب البيت سيل، ويقال حريق وتهدم، وأعادوا بناءه وجمعوا النفقة لذلك من أموالهم. وانكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها للسقف. وكانت جدرانه فوق القامة، فجعلوها ثمانية عشر ذراعاً. وكان الباب لاصقاً بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخله السيول. وقصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده وتركوا منه ستة أذرع وشبراً أداروها بجدار قصير، يطاف من ورائه، وهو الحجر. وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه، وزحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السكوني. ورمى البيت سنة أربع وستين فأصابه حريق. يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فتصدعت حيطانه، فهدمه ابن الزبير، وأعاد بناءه أحسن ما كان، بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بنائه واحتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: لولا قومك حديثو عهد بكفم لرددت البيت على قواعد إبراهيم، ولجعلت له بابين: شرقياً وغربياً، فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام. وجمع الوجوه والأكابر حتى عاينوه.
وأشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس، فأدار على الأساس الخشب، ونصب من فوقها الأستار حفظاً للقبلة. وبعث إلى صنعاء في الفضة والكلس، فحملها وسأل عن قطع الحجارة الأول، فجمع منها ما احتاج إليه. ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام. ورفع جدرانها سبعاً وعشرين ذراعاً، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه. وجعل فرشها وأزرها بالرخام، وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذهب.

ثم جاء الحجاج لحصاره أيام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانه. ثم لما ظفر بابن الزبير شاورعبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه ورد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم. ويقال: إنه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة، وقال: وددت أني كنت حملت أبا حبيب من أمر البيت وبنائه ما تحمل، فهدم الحجاح منها ستة أذرع وشبراً مكان الحجر، وبناها على أساس قريش، وسد الباب الغربي وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي. وترك سائرها لم يغير منه شيئاً. فكل البناء الذي فيه اليوم، بناء ابن الزبير. وبين بنائه وبناء الحجاج في الحائط، صلة ظاهرة للعيان، لحمة ظاهرة بين البناءين. والبناء متميزعن البناء بمقدار إصبع، شبه الصدع وقد لحم.
ويعرض ههنا إشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف. ويحذر الطائف أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها، فيقع طوافه داخل البيت بناء على أن الجدار إنما قام على بعض الأساس وترك بعضه، وهو مكان الشاذروان. وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود، لا بد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائماً لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت. وإذا كانت الجدران كلها من بناء ابن الزبير، وهو إنما بني على أساس إبراهيم، فكيف يقع هذا الذي قالوه. ولا مخلص من هذا إلا بأحد أمرين: إما أن يكون الحجاج هدمه جميعه وأعاده، وقد نقل ذلك جماعة، إلا أن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين وتمييز أحد الشقين من أعلاه عن الآخر في الصناعة يرد ذلك، وأما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم من جميع جهاته، وإنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله. فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزبير ليست على قواعد إبراهيم. وهذا بعيد، ولا محيص من هذين. والله تعالى أعلم.
ثم إن ساحة البيت، وهو المسجد، كان فضاء للطائفين، ولم يكن عليه جدار أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من بعده. ثم كثر الناس، فاشترى عمر رضي الله عنه، دوراً هدمها وزادها في المسجد، وأدار عليها جداراً دون القامة. وفعل مثل ذلك عثمان، ثم ابن الزبير، ثم الوليد بن عبد الملك. وبناه بعمد الرخام. ثم زاد فيه المنصور وابنه المهدي من بعده ووقفت الزيادة واستقرت على ذلك لعهدنا.
وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به أكثر من أن يحاط به. وكفى من ذلك أن جعله مهبطاً للوحي والملائكة ومكاناً للعبادة وفرض شعائر الحج ومناسكه وأوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم والحق مالم يوجبه لغيره، فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم. وأوجب على داخله أن يتجرد من المخيط إلا إزاراً يستره. وحمى العائذ به والراتع في مسارحه من مواقع الأفات، فلا يراع فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا يحتطب له شجر. وحد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم، ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع، ومن طريق الجعرانة تسعة أميال إلى الشعب، ومن طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة، ومن طريق جدة سبه أميال إلى منقطع العشائر.
هذا شأن مكة وخبرها وتسمى أم القرى، وتسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب، ويقال لها أيضاً بكة. قال الأصمعي: لأن الناس يبك بعضهم بعضاً إليها أي يدفع. وقال مجاهد: إنما هي باء بكة أبدلوها ميماً، كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين. وقال ا لنخعي: بالباء للبيت - وبالميم للبلد. وقال الزهري: بالباء للمسجد كله وبالميم للحرم. وقد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظمه، والملوك تبعث إليه بالأموال والذخائر، مثل كسرى وغيره.

وقصة الأسياف وغزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة. وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها، سبعين ألف أوقية من الذهب، مما كان الملوك يهدون للبيت قيمتها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمائتي قنطار وزناً. وقال اله علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك، فلم يفعل. ثم ذكر لأبي بكر، فلم يحركه. هكذا قال الأزرقي. وفي البخاري بسنده إلى أبي وائل قال: جلست إلى شيبة بن عثمان، وقال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين. قلت ما أنت بفاعل؟ قال.: ولم؟ قلت: فلم يفعله صاحباك. فقال: هما اللذان يقتدى بهما. وخرجه أبو داود وابن ماجة، وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس، وهو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين سنة تسع وتسعين ومائة، حين غلب على مكة عمد إلى الكعبة فأخذ ما في خزائنها وقال: ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعاً فيها لا ينتفع به، نحن أحق به نستعين به على، حربنا، وأخرجه وتصرف فيه وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ.
وأما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان، أول أمره أيام الصابئة، موضعاً لهيكل الزهرة، وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه، ويصبونه على الصخرة التي هناك. ثم دثر ذلك الهيكل، واتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. وذلك أن موسى صلوات الله عليه، لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس، كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحق، ويعقوب من قبله، وأقاموا بفرض التيه، أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها، وأن يكون فيها التابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها، وأن يصنع مذبحاً للقربان، وصف ذلك كله في التوراة أكمل وصف فصنع القبة ووضع فيها تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر، لما تكسرت ووضع المذبح عندها.
وعهد الله إلى موسى بأن يكون هرون صاحب القربان، ونصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها ويقربون في المذبح أمامها، ويتعرضون للوحي عندها. ولما ملكوا أرض الشام أئزلوها بكلكال من بلاد الأرض المقدسة ما بين قسم بني يامين وبني أفراييم. وبقيت هنالك أربع عشرة سنة: سبعاً مئة الحرب، وسبعاً بعد الفتح أيام قسمة البلاد ولما توفي يوشع عليه السلام نقلوها إلى بلد شيلو قريباً من كلكال، وأداروا عليها الحيطان. وأقامت على ذلك ثلاثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مر، وتغلبوا عليهم. ثم ردوا عليهم القبة ونقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف. ثم نقلت أيام طالوت إلى كنعان في بلاد بني يامين. ولما ملك داود عليه السلام نقل القبة والتابوت إلى بيت المقدس وجعل عليها خباء خاصاً ووضعها على الصخرة. وبقيت تلك القبة قبلتهم، ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس، وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها، فلم يتم له ذلك، وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه، ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام. واتخذ عمده من الصفر وجعل به صرح الزجاج وغشى أبوابه وحيطانه بالذهب، وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذهب، وجعل فى ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد، وهو التابوت الذي فيه الألواح. وجاء به من صهيون بلد أبيه داود نقله إليها أيام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط والكهنوتية حتى وضعه في القبر، ووضعت القبة والأوعية والمذبح، كل واحد حيث أعد له من المسجد. وأقام كذلك ما شاء الله. ثم خربه بختنصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه، وأحرق التوراة والعصا، وصاغ الهياكل ونثر الأحجار.
ثم لما أعادهم ملوك الفرس، بناه عزير نبي إسرائيل لعهده، بإعانة بهمن ملك الفرس، الذي كانت الولادة لبني إسرائيل عليه من سبي بختنصر. وحد لهم في بنيانه حدوداً دون بناء سليمان بن داود عليهما السلام، فلم يتجاوزوهما.

وأما الأواوين التي تحت المسجد، يركب بعضها بعضاً، عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين. ويتوهم كثير من الناس أنها إصطبلات سليمان عليه السلام، وليس كذلك. وإنما بناها تنزيهاً للبيت المقدس عما يتوهم من النجاسة، لأن النجاسات في شريعتهم، وإن كانت في باطن الأرض، وكان ما بينها وبين ظاهر الأرض محشواً بالتراب، بحيث يصل ما بينها وبين الظاهر خط مستقيم ينجس ذلك الظاهر بالتوهم، والمتوهم عندهم كالمحقق، فبنوا هذه الأواوين على هذه الصورة بعمود الأواوين السفلية تنتهي إلى أقواسها وينقطع خطه، فلا تتصل النجاسة بالأعلى على خط مستقيم. وتنزه البيت عن هذه النجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطهارة والتقديس.
ثم تداولتهم ملوك يونان والفرس والروم. واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدة: لبني حشمناي من كهنتهم، ثم لصهرهم هيرودس ولبنيه من بعده. وبنى هيرودس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام، وتأنق فيه حتى أكمله في ست سنين. فلما جاء طيطش من ملوك الروم وغلبهم وملك أمرهم خرب بيت المقدس ومسجدها، وأمر أن يزرع مكانه. ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه. ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصرانية تارة وتركه أخرى، إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت أمه هيلانة، وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم، فأخبرها القمامصة بأنه رمي بخشبته على الأرض، وألقي عليها القمامات والقاذورات. فاستخرجت الخشبة، وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم، وخربت ما وجدت من عمارة البيت، وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة، حتى غطاها وخفي مكانها جزاء بزعمها عما فعلوه بقبر المسيح.
ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم، وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام والفتح، وحضر عمر لفتح بيت المقدس، وسأل عن الصخرة فأري مكانها وقد علاها الزبل والتراب، فكشف عنها وبنى عليها مسجداً على طريق البداوة. وعظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه، وما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت.
ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده، على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال، كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفي مسجد دمشق، وكانت العرب تسميه بلاط الوليد. وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد، وأن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه.
ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها، وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهرة من الشيعة واختل أمرهم، زحف الفرنجة إلى بيت المقدس، فملكوه وملكوا معه عامة ثغور الشام. وبنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها، حتى إذا استقل صلاح الدين ابن أيوب الكردي بملك مصر والشام، ومحا أثر العبيديين وبدعهم زحف إلى الشام وجاهد من كان به من الفرنجة، حتى غلبهم على بيت المقدس، وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشام. وذلك لنحو ثمانين وخمسائة من الهجرة. وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد.
ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت وضع، فقال: مكة. قيل: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قيل: فكم بينهما؟ قال: أربعون سنة. فإن المدة بين بناء مكة وبين بناء بيت المقدس، بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان. لأن سليمان بانيه، وهو ينيف على الألف بكثير.
واعلم أن المراد بالوضع، في الحديث، ليس البناء، وإنما المراد أول بيت عين للعبادة. ولايبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة. وقد نقل أن الصابئة بنوا على الصخرة هيكل الزهرة، فلعل ذلك لأنها كانت مكاناً للعبادة، كما كانت الجاهلية تضع الأصنام والتماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها. والصابئة الذين بنوا هيكل الزهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام، فلا تبعد مئة الأربعين سنة بين وضع مكة للعبادة ووضع بيت المقدس، وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف. وإن أول من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام، فتفهمه ففيه حل هذا الإشكال.

وأما المدينة المنورة - وهي المسماة بيثرب - فهي من بناء يثرب بن مهلائل من االعمالقة وبه سميت. وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز. ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها وعلى حصونها. ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها، لما سبق من عناية الله بها، فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك وشرفه في سابق أزله. وأواه أبناء قيلة ونصروه، فلذلك سموا الأنصار. وتمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات وغلب على قومه وفتح مكة وملكها. وظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلده! فأهمهم ذلك، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنه غير متحول. حتى إذا قبض صلى الله عليه وسلم كان ملحده الشريف بها. وجاء في فضلها من الأحاديث الصحيحه ما لا خفاء به. ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة، وبه قال مالك رحمه الله، لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المدينة خير من مكة " . نقل ذلك عبد الوهاب في المعونة، إلى أحاديث أخرى تدل بظاهرها على ذلك. وخالف أبو حنيفة والشافعي.
وأصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام. وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب. فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة، لما سبق من عناية الله. لها، وتفهم سر الله في الكون وتدريجه على ترتيب محكم في أمور الدين والدنيا.
وأما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض، إلا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند. لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه.
وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم. منها بيوت النار للفرس وهياكل يونان وبيوت العرب بالحجاز، التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها في غزواته. وقد ذكر المسعودي منها بيوتاً لسنا من ذكرها في شيء، إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق ديني، ولا يلتفت إليها ولا إلى الخبر عنها. ويكفي في ذلك ما وقع في التواريخ. فمن أراد معرفة الأخبار. فعليه بها. والله يهدي من يشاء سبحانه.
الفصل السابع
في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلةوالسبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر، منذ آلاف من السنين قبل الإسلام، وكان عمرانها كله بدوياً، ولم تستمر فيهم الحضارة حتى تستكمل أحولها. والدول التي ملكتهم من الإفرنجة والعرب لم يطل أمد ملكهم فيهم، حتى ترسخ الحضارة منها، فلب تزل عوائد البداوة وشؤونها، فكانوا إليها أقرب، فلم تكثر مبانيهم. وأيضاً فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو. والصنائع من توابع الحضارة، وإنما تتم المباني بها، فلا بد من الحذق في تعلمها. فلما لم يكن للبربرانتحال لها لم يكن لهم تشوف إلى المباني فضلاً عن المدن. وأيضاً فهم أهل عصبيات وأنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم. والأنساب والعصبية أجنح إلى البدو.
وإنما يدعو إلى المدن الدعة والسكون، ويصير ساكنها عيالاً على حاميتها، فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها. ولا يدعوهم، إلي ذلك إلا الترف والغنى، وقليل ما هو في الناس. فلذلك كان عمران إفريقية والمغرب كله اوأكثره بدوياً، أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال. وكان عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى وأمصاراً ورساتيق، من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها، لأن العجم في الغالب ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها ويتناغون في صراحتها والتحامها إلا في الأقل. وأكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب، لأن لحمة النسب أقرب وأشد. فتكون عصبيته كذلك، وتنزع بصاحبها إلى سكنى البدو والتجافي عن المصر الذي يذهب بالبسالة ويصيره عيالاً على غيره، فافهمه وقس عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل الثامن
في أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلةبالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول:

والسبب في ذلك. ما ذكرنا مثله في البربر بعينه، إذ العرب أيضاً أعرق في البدو وأبعد عن الصنائع. وأيضاً فكانوا أجانب من الممالك التي استولوا عليها قبل الإسلام. ولما تملكوها لم ينفسح الأمد حتى تستوفي رسوم الحضارة، مع أنهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم. وأيضاً فكان الدين أول الأمر مانعاً من المغالاة في البنيان والإسراف فيه في غير القصد، كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة، وقد وقع الحريق في القصب الذي كانوا بنوا به من قبل، فقال: افعلوا، ولا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات. ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة. وعهد إلى الوفد وتقدم إلى الناس أن لا يرفعوا بنياناً فوق القدر. قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقربكم من السرف ولا يخرجكم عن القصد. فلما بعد العهد بالدين والتحرج في أمثال هذه المقاصد، وغلبت طبيعة الملك والترف، واستخدم العرب أمة الفرس وأخذوا عنهم الصنائع والمباني، ودعتهم إليها أحوال الدعة والترف، فحينئذ شيدوا المباني والمصانع، وكان عهد ذلك قريباً بانقراض الدولة، ولم ينفسح الأمد لكثرة البناء واختطاط المدن والأمصار إلا قليلاً، وليس كذلك غيرهم من الأمم. فالفرس طالت مدتهم آلافاً من السنين وكذلك القبط والنبط والروم، وكذلك العرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة، طالت آمادهم ورسخت الصنائع فيهم، فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عدداً وأبقى على الأيام أثراً. واستبصر في هذا تجده كما قلت لك. والله، وارث الأرض ومن عليها.
الفصل التاسع
في أن المباني التي كانت تختطها العربيسرع إليها الخراب إلا في الأقل والسبب في ذلك شأن البداوة والبعد عن الصنائع كما قدمناه، فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها. وله، والله أعلم، وجه آخر وهو أمس به، وذلك قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه: من المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنه بالتفاوت في هذه تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطبيعي. والعرب بمعزل عن هذا، وإنما يراعون مراعي إبلهم خاصة، لا يبالون با لماء طاب أو خبث، ولا قل أو كثر، ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض، ونقلهم الحبوب من البلد البعيد.
وأما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها. والظعن كفيل لهم بطيبها لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات. وانظر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان، كيف لم يراعوا في اختطاطها إلى مراعي إبلهم. وما يقرب من القفر ومسالك الظعن، فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن، ولم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم، كما قدمنا بأنه يحتاج إليه في حفظ العمران. فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار، ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس. فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي كانت سياجاً لها، أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن. " والله يحكم لا معقب لحكمه " .
الفصل العاشر
في مبادىء الخراب في الأمصاراعلم أن الأمصار إذا اختطت أولاً تكون قليلة المساكن، وقليلة آلات البناء، من الحجر والجير وغيرهما مما يعالى على الحيطان عند التأنق: كالزلج والرخام والربج والزجاج والفسيفساء والصدف، فيكون بناؤها يومئذ بدوياً وآلاتها فاسدة. فإذا عظم عمران المدينة وكثر ساكنها كثر الآلات بكثرة الأعمال حينئذ، وكثر الصناع إلى أن تبلغ غايتها من ذلك كما سبق بشأنها. فإذا تراجع عمرانها وخف ساكنها قلت الصنائع لأجل ذلك ففقدت الأجادة في البناء والإحكام والمعالاة عليه بالتنميق. ثم تقل الأعمال لعدم الساكن فيقل جلب الآلات من الحجر والرخام وغيرهما، فتفقد ويصير بناؤهم وتشييدهم من الآلات التي في مبانيهم، فينقلونها من مصنع إلى مصنع، لأجل خلاء أكثر المصانع والقصور والمنازل لقلة العمران، وقصوره عما كان أولاً. ثم لا تزال تنقل من قصر إلى قصر ومن دار إلى دار إلى أن يفقد الكثير منها جملة، فيعودون إلى البداوة فى البناء واتخاذ الطوب عوضاً عن الحجارة، والقصور عن التنميق بالكلية. فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى والمدر،. ويظهر عليها سيما البداوة. ثم تمر في التناقص إلى غايتها من الخراب إن قدر لها به. سنه الله في خلقه.
الفصل الحادي عشر
في أن تفاضل الأمصار..والمدن في كثرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة والسبب في ذلك أنه قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه: وأنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك. والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاً لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه. وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات، وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح، وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت، فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم.
وأهل مدينة أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال، وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات، فتصرف في حالات الترف وعوائده. وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه، فيكون لهم بذلك حظ من الغنى. وقد تبين لك في الفصل الخامس في باب الكسب والرزق، أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال. فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة. ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجاته من التأنق في المساكن والملابس واستجادة الأنية والماعون واتخاذ الخدم والمراكب. وهذه كلها أعمال تستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها، فتنفق أسواق الأعمال والصنائع، ويكثر دخل المصر وخرجه، ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية. ثم زاد الترف تابعاً للكسب وزادت عوائده وحاجاتة. واستنبطت الصنائع لتحصيلها، فزادت قيمها، وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية، ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول.
وكذا في الزيادة الثانية والثالثة. لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى، بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب ورفه وبعوائد من الترف لا توجد في الآخر. فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر، كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف: القاضي مع القاضي، والتاجر مع التاجر، والصانع مع الصانع، والسوقي مع السوقي، والأمير مع الأمير، والشرطي مع الشرطي.
واعتبر ذلك في المغرب مثلاً بحال فاس مع غيرها من أمصاره الآخرى، مثل بجاية وتلمسان وسبتة، تجد بينهما بوناً كثيراً على الجملة. ثم على الخصوصيات، فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان، وكذا كل صنف مع أهل صنفه. وكذا أيضاً حال تلمسان مع وهران والجزائر، وحال وهران والجزائر مع ما دونهما، إلى أن تنتهي إلى المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط، أو يقصرون عنها. وما ذاك إلا لتفاوت الأعمال فيها، فكأنها كلها أسواق للأعمال. والخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه، وكذا القاضي بتلمسان. وحيث الدخل والخرج أكثر تكون الأحوال أعظم. وما بفاس أكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف، فالأحوال أضخم. ثم هكذا حال وهران وقسنطينة والجزائر وبسكرة حتى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها، ولا تعد في الأمصار إذ هي من قبيل القرى والمدر. فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة، لما أن أعمالهم لا تفي بضروراتهم. ولا يفضل ما يتأثلونه كسباً، فلا تنمو مكاسبهم. وهم لذلك مساكين محاويح، إلا في الأقل النادر. واعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء والسؤال. فإن السائل بفاس أحسن حالاً من السائل بتلمسان أو وهران. ولقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم ورأيتهم يسألون كثيراً من أحوال الترف واقتراح المآكل، مثل سؤال اللحم والسمن وعلاج الطبخ والملابس والماعون، كالغربال والآنية. ولو سأل السائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر وعنف وزجر.

ويبلغنا لهذا العهد عن أصوال أهل القاهرة ومصر من الترف والغنى في عوائدهم ما نقضي منه العجب. حتى إن كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النقلة إلى مصر لذلك، ولما يبلغهم من أن شأن الرفه بمصر أعظم من غيرها. وتعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم، أو أموال مختزنة لديهم،. وأنهم أكثر صدقة وإيثاراً من جميع أهل الأمصار، وليس كذلك. وإنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر والقاهره أكثر من عمران هذه الأمصار التي لديك، فعظمت لذلك أحوالهم.
وأما حال الدخل والخرج فمتكافىء في جميع الأمصار. ومتى عظم الدخل، عظم الخرج وبالعكس. ومتى عظم الدخل والخرج، اتسعت أحوال الساكن ووسع المصر.
وكل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره، واعتبره بكثرة العمران، وما يكون عنه من كثرة المكاسب التي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه. ومثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة، وكيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها. فإن بيوت أهل النعم والثروة والموائد الخصبة منها، تكثر بساحتها وأفنييها نثير الحبوب وسواقط الفتات، فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش. ويكثر في سربها الجرذان، وتأؤي إليه السنانير وتحلق فوقها عصائب الطيور، حتى تروح بطاناً وتمتلىء شبعاً ورياً. وبيوت أهل الخصاصة والفقر الكاسدة أرزاقهم، لا يسري بساحتها دبيب ولا يحلق بجوها طائر، ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة ولا هرة، كما قال الشاعر:
يسقط الطير حيث ينتثر الحب ... وتغشى منازل الكرماء
فتأمل سر الله تعالى في ذلك، واعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات، وفتات الموائد بفضلات الرزق والترف وسهولتها على من يبذلها، لاستغنائهم عنها في الأكثر بوجود أمثالها لديهم. واعلم أن اتساع الأحوال وكثرة النعم في العمران تابع لكثرته. والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو غني عن العالمين.
الفصل الثاني عشر
في أسعار المدناعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس: فمنها الضروري وهي الأقوات من الحنطة والشعير وما في معناهما كالباقلا والحمص والجلبان وسائر حبوب الأقوات ومصلحاتها كالبصل والثوم وأشباهه، ومنها الحاجي والكمالي مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني. فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه، رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه، وغلت أسعار الكمالي من الأدم والفواكه وما يتبعها، وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه، كان الأمر بالعكس من ذلك. والسبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت، فتتوفر الدواعي على اتخاذها، إذ كل واحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله، لشهره أو سنته، فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع، أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه، لا بد من ذلك. وكل متخذ لقوته، تفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كثيرة، تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر، فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك، فترخص أسعارها في الغالب، إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية. ولولا احتكار الناس لها، لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران.
وأما سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها، فإنها لا تعم فيها البلوى، ولا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين، ولا الكثير منهم. ثم إن المصر إذا كان مستبحراً، موفور العمران، كثير حاجات الترف، توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حاله، فيقصر الموجود منها عن الحاجات قصوراً بالغاً. ويكثر المستامون لها، وهي قليلة في نفسها، فتزدحم أهل الأغراض، ويبذل أهك الرفه والترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم، فيقع فيها الغلاء كما تراه.

وأما الصنائع والأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران، فسبب الغلاء فيه أمور ثلاثة: الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه، والثاني اعتزاز أهل الأعمال بخدمتهم وامتهان أنفسهم، لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، والثالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم، وإلى استعمال الصناع في مهنهم، فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها، فيعتز العمال والصناع وأهل الحرف، وتغلو أعمالهم، وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك.
وأما الأمصار الصغيرة، القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها، وما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت، فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه، فيعز وجودة لديهم، ويغلو ثمنه على مستامه. وأما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة لقلة الساكن وضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص في سعره.
وقد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات، قيمة ما يفرض عليها من المكوس والمغارم للسلطان، في الأسواق وأبواب المصر وللجباة في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم. وبذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية، إذ المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة. وبالعكس كثيرة في الأمصار لا سيما في آخر الدولة. وقد تدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح، ويحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد. وذلك أنهم، لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر، وبلاده المتوعره الخبيثة الزراعة النكدة النبات، وملكوا عليهم الأرض الزاكية والبلد الطيب، فاحتاجوا إلى علاج المزارع والفدن لإصلاح نباتها وفلحها، وكان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم ومواد من الزبل وغيره لها مؤونة، وصارت في فلحهم نفقات لها خطر، فاعتبروها في سعرهم. واختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك.
ويحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنها لقلة الأقوات والحبوب في أرضهم، وليس كذلك، فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيما علمناه وأقومهم عليه، وقل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح، إلا قليلاً من أهل الصناعات والمهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. ولهذا يختصهم السلطان في عطائهم بالعولة، وهي أقواتهم وعلوفاتهم من الزرع. وإنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه.
ولما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم ارتفعت عنهم المؤن جملة في الفلح مع كثرته وعمومه، فصار ذلك سبباً لرخص الأقوات ببلدهم. والله مقدر الليل والنهار، وهو الواحد القفار، لا رب سواه.
الفصل الثالث عشر
في قصور أهل الباديةعن سكنى المصر الكثير العمران والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران، يكثر ترفة كما قدمناه، وتكثر حاجات ساكنه من أجل الترف، وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها، فتنقلب ضرورات وتصير الأعمال فيه كلها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية، بازدحام الأغراض عليها من أي الترف، وبالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات، ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأقوات والأعمال، فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه. ويعظم خرجه، فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤنهم.
والبدوي لم يكن دخله كثيراً، إذ كان ساكناً بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب، فلم يتأثل كسباً ولا مالاً فيتعذرعليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير، لغلاء مرافقه وعزة حاجاته. وهو في بدوه يسد خلته بأقل الأعمال، لأنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤنه، فلا يضطر إلى المال. وكل من يتشوف إلى المصر وسكناه من أهل البادية، فسريعاً ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه، إلا من تقدم منهم تأثل المال، ويحصل له منه فوق الحاجة، ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف. فحينئذ ينتقل إلى المصر، وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم. وهكذا شأن بداية عمران الأمصار. والله بكل شيء محيط.
الفصل الرابع عشر
في أن الأقطار في اختلاف أحوالها..بالرفه والفقر مثل الأمصار

اعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار، وتعددت الأمم في جهاته، وكثر ساكنه اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال، وما يأتي ذكره من أنها سبب للثروة، بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته، فيعود على الناس كسباً يتأثلونه، حسبما نذكر ذلك في فصل المعاش وبيان الرزق والكسب. فيزيذ الرفه لذلك، وتتسع الأحوال، ويجيء الترف والغنى، وتكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق، فيكثر مالها ويشمخ سلطانها، ويتفنن في اتخاذ المعاقل والحصون، واختطاط المدن، وتشييد الأمصار.
واعتبر ذلك بأقطار المشرق، مثل مصر والشام وعراق العجم والهند والصين، وناحية الشمال كلها، وأقطارها وراء البحر الرومي، لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم، وعظمت دولهم، وتعددت مدنهم وحواضرهم، وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد، من أحوال تجار الأمم النصرانية، الواردين على المسلمين بالمغرب، في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. وكذا تجار أهل المشرق، وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أحوال أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين، فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرفه غرائب تسير الركبان حديثها، وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر. ويحسب من يسمعها في العامة أن ذلك زياده في أموالهم، أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم، أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم، وليس كذلك. فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار، إنما هو ببلاد السودان، وهي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم، لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأمواك، ولاستغنوا عن أموال الناس بالجملة.
ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك، واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتساعها ووفورأموالها، فقالوا بأن عطايا الكواكب والسهام في مواليد أهل المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب. وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه. وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي، وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي، وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره. وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال التي هي سببه، فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الآفاق، لا أن ذلك لمجرد الأثر النجومي. فقد فهمت مما أشرنا لك أولاً أنه لا يستقل بذلك، فإن المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمرلا بد منه.
واعتبر حال هذا الرفه من العمران، في قطر إفريقية وبرقة، لما خف ساكنها وتناقص عمرانها، كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة. وضعفت جباياتها، فقلت أموال دولها، بعد أن كانت دول الشيعة وصنهاجة بها، على ما بلغك من الرفه وكثرة الجبايات واتساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم. حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته في غالب الأوقات. وكانت أموال الدولة، بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال، يستعدها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة.
وقطر المغرب وإن كان في القديم دون إفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك. وكانت أحواله في دول الموحدين متسعة وجباياته موفورة. وهو لهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه، وتناقصه، فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره، ونقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوساً، وكاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال إفريقية، بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان، في طول ما بين السوس الأقصى وبرقة. وهي اليوم كلها أو أكثرها قفار وخلاء وصحارى، إلا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
الفصل الخامس عشرفي تأثل العقار والضياع في الامصار وحال فوائدها ومستغلاتها

اعلم أن تأثل العقار والضياع الكثيرة لأهل الأمصار والمدن، لا يكون دفعة واحدة، ولا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهم من الثروة، ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمها عن الحد، ولو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ. وإنما يكون ملكهم وتأثلهم لها تدريجاً، إما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه، حتى تتأذى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر كذلك، أو أن يكون بحوالة الأسواق. فإن العقار في أواخر الدولة وأول الأخرى، عند فناء الحامية، وخرق السياج، وتداعي المصر إلى الخراب، تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها، بتلاشي الأحوال، فترخص قيمها وتتملك بالأثمان اليسيرة، وتتخطى بالميراث إلى ملك الآخر، وقد استجد المصر شبابه باستفحال الدولة الثانية، وانتظمت له أحوال رائقة حسنة، تحصل معها الغبطة في العقار والضياع، لكثر الغبطة في العقار والضياع، لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها، ويكون لها خطر لم يكن في الأول. وهذا معنى الحوالة فيها. ويصبح مالكها من أغنى أهل المصر، وليس ذلك بسعيه واكتسابه، إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك.
وأما فوائد العقار والضياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه، إذ هي لا تفي بعوائد الترف وأسبابه، وإنما هي في الغالب لسد الخلة وضرورة المعاش. والذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملك من العقار والضياع، إنما هو الخشية، من يترك خلفه من الذرية الضعفاء، ليكون مرباهم به ورزقهم فيه، ونشؤهم بفائدته ماداموا عاجزين عن الاكتساب. فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم. وربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشي، فيكون ذلك العقار قواماً لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. وأما التمول وإجراء أحوال المترفين فلا. وقد يحصل ذلك منه للقليل أو النادر بحوالة الأسواق، حصول الكثرة البالغة منه، والعالي في جنسه وقيمته في المصر. إلا أن ذلك إذا حصل فربما امتدت إليه أعين الأمراء والولاة، واغتصبوه في الغالب، أو أرادوه على بيعه منهم، ونالت أصحابه منه مضار ومعاطب. والله غالب على أمره، وهو رب العرش العظيم.
الفصل السادس عشر
في حاجات المتمولين من أهل الأمصارإلى الجاه والمدافعة وذلك أن الحضري إذا عظم تموله وكثر للعقار والضياع تأثله، وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك، وانفسحت أحواله في الترف والعوائد، زاحم عليها الأمراء والملوك وغصوا به. ولما في طباع البشر من العدوان، تمتد أعينهم إلى تملك ما بيده، وينافسونه فيه، ويتحيلون على ذلك بكل ممكن، حتى يحصلونه في ربقة حكم سلطاني، وسبب من المؤاخذة ظاهر، ينتزع به ماله. وأكثر الأحكام السلطانية جائرة في الغالب، إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية وهي قليلة اللبث. قال صلى الله عليه وسلم : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تعود ملكاً عضوضاً " . فلا بد حينئذ لصاحب المال والثروة الشهيرة في العمران، من حامية تذود عنه، وجاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك، أو خالصة له أو عصبية يتحاماها السلطان، فيستظل هو بظلها، ويرتع فى أمنها من طوارق التعدي. وإن لم يكن له ذلك، أصبح نهباً بوجوه التحيلات وأسباب الحكام. والله يحكم لامعقب لحكمه.
الفصل السابع عشر
في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدولوإنما ترسخ باتصال الدولة ورسوخها

والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتاً غير منحصر. ويقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون بمنزلة الصنائع، ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه، المهرة فيه. وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها، ويتلون ذلك الجيل بها. ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات، حذق أولئك الصناع في صناعتهم، ومهروا في معرفتها. والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكاماً ورسوخاً. وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستبحار العمران وكثرة الرفه في أهلها. وذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة، لأن الدولة تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها ورجالها. وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتساعها بالمال، فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا وخرجها في أهل الدولة، ثم فيمن تعلق بهم من أهل المصر، وهم الأكثر، فتعظم لذلك ثروتهم، ويكثر غناهم، وتتزيد عوائد الترف ومذاهبه، وتستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه، وهذه هي الحضارة. ولهذا نجد الأمصار التي في القاصية، ولوكانت موفورة العمران، تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها، بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة ومقرها. وما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم وفيض أمواله فيهم، كالماء يخضر ما قرب منه، مما قرب، من الأرض، إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد. وقد قدمنا أن السلطان والدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق وما قرب منه، وإذا بعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة. ثم إنه إذا اتصلت تلك الدولة، وتعاقب ملوكها في ذلك المصر، واحدا بعد واحد، استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخاً.
واعتبر ذلك في اليهود، لما طال ملكهم بالشام نحواً من ألف وأربعمائة سنة، رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده، والتفنن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل. حتى إنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. ورسخت الحضارة أيضاً وعوائدها في الشام منهم، ومن دولة الروم بعدهم ستمائة سنة، فكانوا في غاية الحضارة.
وكذلك أيضاً القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين، فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر، وأعقبهم بها ملك اليونان والروم، ثم ملك الإسلام الناسخ للكل. فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلة. وكذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن، لاتصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتبابعة آلافاً من السنين. وأعقبهم ملك مضر.
وكذلك الحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط والفرس بها، من لدن الكلدانيين والكينية والكسروية والعرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر من أهل الشام والعراق ومصر.
وكذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة واستحكمت بالأندلس، لاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط، ثم ما أعقبها من ملك بني أمية - آلافاً من السنين. وكلتا الدولتين عظيمة. فاتصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت.

وأما إفريقية والمغرب، فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم. إنما قطع الروم والإفرنجة إلى إفريقية البحر، وملكوا الساحل، وكانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة. فكانوا على قلعة أو فاز. وأهل المغرب لم تجاورهم دولة، وإنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر. ولما جاء الله بالإسلام وملك العرب إفريقية والمغرب، ولم يلبث فيهم ملك العرب إلا قليلاً أول الإسلام، وكانوا لذلك العهد في طور البداوة، ومن استقر منهم بإفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفه، إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة. ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود، على يد ميسرة المظفري أيام هشام بن عبد الملك، ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلوا بأمر أنفسهم، وإن بايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية، لأن البرابر هم الذين تولوها، ولم يكن من العرب فيها كثير عدد. وبقيت إفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب، فكان لهم من الحضارة بعض الشيء، بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه، وكثرة عمران القيروان. وورث ذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم. وذلك كله قليل، لم يبلغ أربعمائة سنة. وانصرمت دولتهم، واستحالت صبغة الحضارة، بما كانت غير مستحكمة. وتغلب بدو العرب الهلالين عليها وخربوها، وبقي أثر خفي من حضارة العمران فيها. وإلى هذا العهد يؤنس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف، فتجد له من أحوال الحضارة في شؤون منزله وعوائد أحواله، آثاراً ملتبسة بغيرها، يميزها الحضري البصير بها، وكذا في أكثر أمصار إفريقية. وليس ذلك في المغرب وأمصاره، لرسوخ الدولة بإفريقية أكثر أمداً منذ عهد الأغالبة والشيعة وصنهاجة.
وأما المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس، حظ كبير من الحضارة. واستحكمت به عوائدها، بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس. وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً وكرهاً. وكانت من اتساع النطاق ما علمت، فكان فيها حظ صالح من الحضارة واستحكامها، ومعظمها من أهل الأندلس. ثم انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النصارى إلى إفريقية، فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً، معظمها بتونس، امتزجت بحضارة مصر، وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب وإفريقية حظ صالح من الحضارة عفى عليه الخفا، ورجع على أعقابه. وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة. وعلى كل حال فآثار الحضارة بإفريقية أكثر منها بالمغرب وأمصاره، لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب، ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس.
واعلم أنها أمور متناسبة، وهي حال الدولة في القوة والضعف، وكثرة الأمة أو الجيل، وعظم المدينة أو المصر، وكثرة النعمة واليسار. وذلك أن الدولة والملك صورة الخليقة والعمران، وكلها مادة لها، من الرعايا والأمصار وسائر الأحوال. وأحوال الجباية عائدة عليه، ويسارهم في الغالب من أسواقهم، ومتاجرهم. وإذا أفاض السلطان عطاءه وأمواله في أهلها، انبثت فيهم، ورجعت إليه، ثم إليهم منه. فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج، عائدة عليهم في العطاء. فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا، وعلى نسبة يسار الرعايا أيضاً وكثرتهم، يكون مال الدولة. وأصله كله العمران وكثرته. فاعتبره وتأمله في الدول تجده. والله سبحانه وتعالى يحكم لا معقب لحكمه.
الفصل الثامن عشر
في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمرهوأنها مؤذنة بفساده

قد بينا لك فيما سلف، أن الملك والدول غاية للعصبية، وأن الحضارة غاية للبداوة، وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس. كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً. وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة، ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك، لأنه غاية لا مزيد وراءها. وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران، دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها. والحضارة، كما علمت، هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه، كالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنزل. وللتأنق في كل واحد من هذه، صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة، لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد، ويعجز الكسب عن الوفاء بها. وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله، والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران، فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجاته. ثم تزيدها المكوس غلاء لأن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية الدولة في استفحالها، وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم. والمكوس تعود على البياعات بالغلاء، لأن السوقة والتجار كلهم، يحتسبون على سلعهم وبضائعهم، جميع ماينفقونه، حتى في مؤونة أنفسهم، فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى الإسراف. ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة، ويغلب عليهم الفقر. ويقل المستامون للبضائع، فتكسد الأسواق وتفسد حال المدينة.
وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف. وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في الأسواق والعمران.
وأما فساد أهلها في ذاتهم، واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد، والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها، بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوض عليه واستجماع الحيلة له، فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والرباء في البياعات. ثم تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه، والمجاهرة به وبدواعيه، واطراح الحشمة في الخوض فيه، حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم، الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. وتجدهم أيضاً أبصر بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح، حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم، إلا من عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة. ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب، وأهملته الدولة من عدادها، وغلب عليه خلق الجوار والصحابة، وإن كانوا أصحابه أهل أنساب وبيوتات. وذلك أن الناس بشر متماثلون، وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولاطيب منبته. ولهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول، منطرحين في الغمار، منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من أخلاقهم، وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها، وهو معنى قوله تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً " .

ووجهه أن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم، لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها، فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص، واحداً واحداً، اختل نظام المدينة وخربت. وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواصي: أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب، حتى إن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور، تطيراً به، وليس المراد ذلك ولا أنه خاصة في النارنج، وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثم إن النارنج والليم والسرو وأمثال ذلك، مما لا طعم فيه ولا منفعه، هو من غايات الحضارة، إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط، ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترفة وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه. ولقد قيل مثل ذلك في الدفلى، وهو من هذا الباب، إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها، ما بين أحمر وأبيض، وهو من مذاهب الترف.
ومن مفاسد الحضارة أيضاً الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح، من الزنا واللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع: إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه إذ هو لغير رشدة، لأن المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين والقيام عليهم فيهلكون، ويؤدي ذلك إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً وهو أشد في فساد النوع إذ هو يؤدي إلى أن لا يوجد النوع. والزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه. ولذلك كان مذهب مالك، رحمه الله، في اللواط أظهر من مذهب غيره، ودل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح. فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف، وأنه إذا بلغ غايتة انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم، كالأعمار الطبيعية للحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري لا يقدر على مباشرة حاجاته، إما عجزاً لما حصل له من الدعة، أو ترفعاً لما حصل له من المربى في النعيم والترف. وكلا الأمرين ذميم. وكذلك لا يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى في قهر التأديب والتعليم، فهو لذلك عيال على الحاميه التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً في دينه غالباً بما أفسدت منه العوائد وطاعتها، وما تلونت به النفس من ملكاتها كما قررناه، إلا في الأقل النادر. وإذا فسد الإنسان فى قدرته ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة. وبهذا الاعتبار كان الذين يتقربون، من جند السلطان، إلى البداوة والخشونة، أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها. وهذا موجود في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم من العمران والدول. والله سبحانه وتعالى، كل يوم، هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن.
الفصل التاسع عشر
في أن الأمصار التي تكون كراسي للملكتخرب بخراب الدولة وانتقاضها قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت، فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه، وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب، ولا يكاد ذلك يتخلف. والسبب فيه أمور: الأول: أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن التحذيق. ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة، فتقل النفقات ويقصر الترف. فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة، ونقصت أحوال الترف فيها، نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر، لأن الرعايا تبع للدولة، فيرجعون إلى خلق الدولة: إما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم، أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال، وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد، فتقصر لذلك حضارة المصر، ويذهب منه كثير من عوائد الترف. وهي معنى ما نقول في خراب المصر.

الأمر الثاني: أن الدولة إنما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب، وإنما يكون بعد العداوة والخروب. والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين، وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الأخر، فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة. وخصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها، حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف، فتكون عنها حضارة مستأنفة.. وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصهما، ومعنى اختلال العمران في المصر.
الأمر الثالث: أن كل أمة لا بد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية ملكهم. وإذا ملكوا وطناً آخر تبعاص للأول، وأمصاره تابعة لأمصار الأول. واتسع نطاق الملك عليهم.
ولابد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة، لأنه شبه المركز للنطاق، فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان، فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول. والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا، فتنتقص حضارته وتمدنة وهو معنى اختلاله. وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان، وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة، ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد، ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس. وبالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول.
الأمر الرابع: أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة لا بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها، بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة. وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة. إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان المصر، لأن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشىء في الدولة فهم شيعة لها. وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية، فهم بالميل والمحبة والعقيدة. وطبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة، فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها. فبعضهم على نوع التغريب والحبس، وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف، بحيث لا يؤدي إلى النفرة، حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة. وينزل مكانهم في حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر. وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه، وهو معنى اختلال عمرانه. ثم لا بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة، وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتاً داخله البلى، والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحه، وله قدرة - على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك الأوضاع، وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت، ثم يعيد بناءه ثانياً.
وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه. وعلمناه.
" والله يقدر الليل والنهار " .
والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة، أن الدولة والملك للعمران، بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها. وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر، بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع، فتتعين السياسة لذلك. أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة، وإذا كانا لا ينفكان، فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر، كما كان عدمه مؤثراً في عدمه. والخلل العظيم إنما يكون من خلل الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم، أو بني أمية أو بني العباس كذلك. وأما الدول الشخصية، مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد، فأشخاصها متعاقبة على العمران، حافظة لوجوده وبقائه، وقريبة الشبه بعضها من بعض، فلا تؤثر كثير اختلال. لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة، وهي مستمرة مع أشخاص الدول. فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران، فأذهبت أهل الشوكة بأجمعهم، عظم الخلل كما قررناه أولاً. والله قادر على ما يشاء. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز.
الفصل العشرون
في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائعدون بعض وذلك أنه من البين أن أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضاً، لما في طبيعة العمران من التعاون. وما يستدعي من الأعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومون عليه، ويستبصرون في صناعته ويختصون بوظيفته، ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه، لعموم البلوى به في المصر والحاجة إليه. وما لا يستدعي في المصر يكون غفلاً، إذ لا فائدة لمنتحله في الاحتراف به. وما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش، فيوجد في كل مصر، كالخياط والحداد والنجار وأمثالها. وما يستدعي لعوائد الترف وأحواله، فإنما يوجد في المدن المستبحرة في العمارة، الآخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاح والصائغ والدهان والطباخ والصفار والسفاج والفراش والذباح وأمثال هذه، وهي متفاوتة. قدر ما تريد عوائد الحضارة وتستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع، فتوجد بذلك المصر دون غيره. ومن هذا الباب الحمامات لأنها إنما توجد في الأمصار مستحضرة المستبحرة العمران، لما يدعو إليه الترف والغنى من التنعم. ولذلك لا يكون في المدن المتوسطة. وإن نزع بعض الملوك والرؤساء إليها، فيختطها ويجري أحوالها. إلا أنها إذا لم تكن لها داعيه من كافة الناس، فسرعان ما تهجر وتخرب، وتفر عنها القومة، لقلة فائدتهم ومعاشهم منها. والله يقبض ويبسط.
الفصل الحادي والعشرون
في وجود العصبية في الأمصاروتغلب بعضهم علي بعض من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر، وإن لم يكونوا أهل نسب واحد، إلا أنه كما قدمناه أضعف مما يكون بالنسب، وأنه تحصل به العصبية بعضاً مما تحصل بالنسب. وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر، يجذب بعضهم بعضاً إلى، أن يكونوا لحماً لحماً وقرابة قرابة، تجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله، فيفترقون شيعاً وعصائب. فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية، احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم، والنظر في حماية بلدهم، ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة. والنفوس بطباعها متطاوله على الغلب والرياسة، فتطمح المشيخة - لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة - إلى لاستبداد، وينازع كل صاحبه، ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والأحلاف. ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب، فيعصوصب كل لصاحبه، ويتعين الغلب لبعضهم، فيعطف على أكفائه، ليغض من أعنتهم. ويتتبعهم بالقتل أو التغريب، حتى يخضد منهم الشوكات النافذة، ويقلم الأظفار الخادشة. ويستبد بمصره أجمع. ويرى أنه قد استحدث ملكاً يورثه عقبه، فيحدث في ذلك الملك الأصغر ما يحدث في الملك الأعظم، من عوارض الجدة والهرم.

وربما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم، أصحاب القبائل والعشائر والعصبيات والزحوف والحروب والاقطار والممالك، فيتحلون بها، من الجلوس على السرير، واتخاذ الآلة، وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد، والتختم والتحية، والخطاب بالتهويل، وما يسخر منه من يشاهد أحوالهم، لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل. إنما دفعهم إلى ذلك تقلص الدولة والتحام بعض القرابات، حتى صارت عصبية. وقد يتنزه بعضهم عن ذلك ويجري على مذاهب السذاجة فراراً من التعريض بنفسه للسخرية والعبث. وقد وقع هذا بإفريقية لهذا العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجريد، من طرابلس وقابس وتؤزر ونفطة وقفصة وبسكرة والزاب، وما إلى ذلك. سموا إلى مثلها عند تقلص ظل الدولة عنهم منذ عقود من السنين، فاستغلبوا على أمصارهم واستبدوا بأمرها على الدولة في الأحكام والجباية وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرضة، وأقطعوها جانباً من الملاينة والملاطفة والانقياد، وهم بمعزل عنه. وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. وحدث في خلقهم من الغلظة والتجبر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم. ونظموا أنفسهم في عداد السلاطين، على قرب عهدهم بالسوقة، حتى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العباس، وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكرة في أخبار الدولة. وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدولة الصنهاجية، واستقل بأمصار الجريد أهلها، واستبدوا على الدولة، حتى انتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي، ونقلهم كلهم من إمارتهم بها إلى المغرب، ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن. وهذا التغلب يكون غالباً في أهل السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة والرياسة فى المصر، وقد يحدث التغلب لبعض السفلة من الغوغاء والدهماء. وإذا حصلت له العصبية والالتحام بالأوغاد، لأسباب يجرها له المقدار، فيتغلب على المشيخة والعلية، إذا كانوا فاقدين للعصابة. والله سبحانه وتعالى غالب على أمره.
الفصل الثاني والعشرون
في لغات أهل الأمصارإعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة، أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها، ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية، وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه. والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم، والدين والملة صورة للوجود وللملك. وكلها مواد له، والصورة مقدمة على المادة، والدين إنما يستفاد من الشريعة، وهي بلسلن العرب، لما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها. واعتبرذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم، وقال: إنها خب، أي مكر وخديعة. فلما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان مان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً، هجرت كلها في جميع ممالكها، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم، وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. وصار اللسان العربي لسانهم، حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة. ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره، إن كان بقي فى الدلالات على أصله، وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام.

وأيضاً فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد، من أعقاب العرب، المالكين لها، الهالكين في ترفها، بما كثروا العجم الذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم. واللغات متوارثة، فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء، وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئاً فشيئاً. وسميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار، بخلاف لغة البدو من العرب، فإنها كانت أعرق في العروبية. ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق، وزناتة والبربر بالمغزب، وصار لهم ملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية، فسد اللسان العربي لذلك، وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين، وصار ذلك مرجحاً لبقاء اللغة المضرية من الشعر والكلام، إلا قليلاً بالأمصار، عربية. فلما ملك التتر والمغول بالمشرق، ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح، وفسدت اللغة العربية على الإطلاق، ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية، بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر، وبلاد الشمال، وبلاد الروم، وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام، إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من علوم العرب، وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك. وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب، لبقاء الدين طالباً لها، فانحفظت بعض الشيء. وأما في ممالك العراق وما وراءه، فلم يبق له أثر ولا عين، حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي، وكذا تدريسه في المجالس. والله أعلم بالصواب. والله مقدر الليل والنهار. صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
الباب الخامس من الكتاب الأول
في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائعوما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل
الفصل الأول
في حقيقة الرزق والكسبوشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية اعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه، في حالاته وأطواره، من لدن نشوئه إلى أشده إلى كبره " والله الغني وأنتم الفقراء " . والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه " وسخر لكم الشمس والقمر وسخر لكم البحر وسخر لكم الفلك وسخر لكم الأنعام. وكثير من شواهده. ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه، بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرة، فهي مشتركة في ذلك. وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض. فالإنسان متى اقتدر على نفسه، وتجاوز طور الضعف، سعى في اقتناء المكاسب، لينفق ما آتاة الله منها، في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: " فابتغوا عند الله الرزق " .
وقد يحصل له ذلك بغير سعي، كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله. إلا أنها إنما تكون معينة، ولا بد من سعيه معها كما يأتي، فتكون له تلك المكاسب معاشاً إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة، ورياشاً ومتمولاً إن زادت على ذلك. ثم إن ذلك الحاصل أو المقتنى، إن عادت منفعته على العبد، وحصلت له ثمرته، من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمي ذلك رزقاً. قال صلى الله عليه وسلم: " إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " . وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمى بالنسبة إلى المالك رزقاً، والمتملك منه حنيئذ بسعي العبد وقدرته يسمى كسباً. وهذا مثل التراث، فإنه يسمى بالنسبة إلى الهالك كسباً ولا يسمى رزقاً، إذ لم يحصل له به منتفع، وبالنسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقاً. وهذا حقيقة مسمى الرزق عند أهل السنة. وقد اشترط المعتزلة في تسميته رزقاً أن يكون بحيث يصح تملكه، وما لا يتملك عندهم فلا يسمى رزقاً. وأخرجوا الغصوبات والحرام كله عن أن يسمى شيء منها رزقاً. والله تعالى يرزق الغاصب والظالم والمؤمن والكافر، ويختص برحمته وهدايته من يشاء. ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع بسطها.

ثم اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل ، فلا بد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه. قال تعالى: " فابتغوا عند الله الرزق " . والسعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكل من عند الله. فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول. لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان مقتنى من الحيوان أو النبات أو المعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع.
ثم إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول، وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق، التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة. وإذا تقرر هذا كله فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات، إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه هو قيمة عمله، وهو القصد بالقنية، إذ ليس هنالك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها. مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر، فقيمته أكثر. وإن كان من غير الصنائع، فلا بد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس، فإن اعتبار الأعمال والنفقات فيها ملاحظ فى أسعار الحبوب كما قدمناه، لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومؤونته يسيرة، فلا يشعر به إلا القليل من أهل الفلح. فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية، وتبين مسمى الرزق، وأنه المنتفع به. فقد بان معنى الكسب والرزق وشرح مسماهما.
واعلم أنه إذا فقدت الأعمال، أو قلت بانتقاص العمران، تأذن الله برفع الكسب.
ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن، كيف يقل الرزق والكسب فيها، أو يفقد، لقلة الأعمال الإنسانية. وكذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر، يكون أهلها أوسع أحوالاً وأشد رفاهية كما قدمناه قبل. ومن هذا الباب تقول العامة في البلاد، إذا تناقص عمرانها إنها قد ذهب رزقها، حتى أن الأنهار والعيون ينقطع جريها في القفر، لما أن فور العيون إنما يكون بالإنباط والامتراء الذي هو بالعمل الإنساني، كالحال في ضروع الأنعام، فما لم يكن إنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة، كما يجف الضرع إذا ترك امتراؤه. وانظره في البلاد التي تعهد فيها العيون لأيام عمرانها، ثم يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنها لم تكن. " والله يقدر الليل والنهار " .
الفصل الثاني
في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبهاعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله، وهو مفعل من العيش. كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه، جعلت موضعاً له على طريق المبالغة. ثم إن تحصيل الرزق وكسبه: إما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه، على قانون متعارف، ويسمى مغرماً وجباية، وإما أن يكون من الحيوان الوحشي باقتناصه وأخذه برميه من البر أو البحر، ويسمى اصطياداً، وإما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المتصرفة بين الناس في منافعهم، كاللبن من الأنعام، والحرير من دوده، والعسل من نحله، أو يكون من النبات في الزرع والشجر بالقيام عليه وإعداده لاستخراج ثمرته. ويسمى هذا كله فلحاً. وإما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانئة: إما في مواد بعينها، وتسمى الصنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسية وأمثال ذلك، أو في مواد غير معينة، وهي جميع الامتهانات والتصرفات، وإما أن يكون الكسب من البضائع وإعدادها للأعواض، إما بالتقلب بها في البلاد أو احتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها. ويسمى هذا تجارة.

فهذه وجوه المعاش وأصنافه، وهي معنى ما ذكره المحققون من أهل الأدب والحكمة كالحريري وغيره، فإنهم قالوا: " المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة " : فأما الإمارة فليست بمذهب طبيعي للمعاش، فلا حاجة بنا إلى ذكرها، وقد تقدم شيء من أحوال الجبايات السلطانية وأهلها في الفصل الثاني، وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش. أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات، إذ هي بسيطة وطبيعية فطرية، لا تحتاج إلى نظر ولا علم، ولهذا تنسب قي الخليقة إلى آدم أبي البشر، وأنه معلمها والقائم عليها، إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة. وأما الصنائع فهي ثانيتها ومتأخرة عنها، لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار، ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدووثان عنه. ومن هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليقة، فإنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى. وأما التجارة وإن كانت طبيعية في الكسب، فالأكثر من طرقها ومذاهبها، إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع، لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. ولذلك أباح الشرع فيه المكاسبة، لما أنه من باب المقامرة، إلا أنه ليس أخذاً لمال الغير مجاناً، فلهذا اختص بالمشروعية. والله أعلم.
الفصل الثالث
في أن الخدمة ليست من المعاش الطبيعياعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الذي هو بسبيله، من الجندي والشرطي والكاتب. ويستكفي في كل باب بمن يعلم غناءه فيه ويتكفل بأرزاقهم من بيت ماله. وهذا كله مندرج في الإمارة ومعاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة، والملك الأعظم هو ينبوع جداولهم. وأما ما دون ذلك من الخدمة فسببها أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته، أو يكون عاجزاً عنها، لما ربي عليه من خلق التنعم والترف، فيتخذ من يتولى ذلك له، ويقطعه عليه أجراً من ماله. وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان، إذ الثقة بكل أحد عجز، ولأنها تزيد في الوظاثف والخرج وتدل على العجز والخنث اللذين ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما. إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابن عوائده لا ابن نسبه. ومع ذلك فالخديم الذي يستكفى به ويوثق بغنائه كالمفقود، إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات: إما مضطلع بأمره وموثوق فيما يحصل بيده، وإما بالعكس فيهما، وهو أن يكون غيرمضطلع بأمره ولا موثوق فيما يحصل بيده، وإما بالعكس في إحداهما فقط، مثل أن يكون مضطلعاً غير موثوق أو موثوقاً غير مضطلع. فأما الأول، المضطلع الموثوق، فلا يمكن أحد استعماله بوجه، إذ هو باضطلاعه وثقته غني عن أهل الرتب الدنية ومحتقر لمنال الأجر من الخدمة، لاقتداره على أكثر من ذلك، فلا يستعمله إلا الأمراء أهل الجاه العريض، لعموم الحاجة إلى الجاه. وأما الصنف الثاني. من ليس بمضطلع ولا موثوق، فلا ينبغي لعاقل استعماله، لأنه يجحف بمخدومه في الأمرين معاً، فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة، ويذهب ماله بالخيانة أخرى، فهو على كل حال كل على مولاه. فهذان الصنفان لا يطمع أحد في استعمالهما. ولم يبق إلا استعمال الصنفين الآخرين: موثوق غير مضطلع، ومضطلع غير موثوق. وللناس الترجيح بينهما مذهبان، ولكل من الترجيحين وجه. إلا أن المضطلع، ولو كان غير موثوق، أرجح لأنه يؤمن من تضييعه، ويحاول على التحرز عن خيانته جهد الاستطاعة. وأما المضيع ولو كان مأموناً، فضرره بالتضييع أكثر من نفعه. فاعلم ذلك واتخذه قانوناً في الاستكفاء بالخدمة. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء.
الفصل الرابع
في أن ابتغاء الأموال من الدفائنوالكنوز ليس بمعاش طبيعي

اعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار، يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض، ويبتغون الكسب من ذلك. ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض، مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية، لا يفض ختامها ذلك إلا من عثر على علمه، واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان. فأهل الأمصار بإفريقية يرون أن الإفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك، وأودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها. وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والروم والفرس. ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة، من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال، ممن لم يعرف طلسمه ولا خبره، فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان. أو يشارف الأموال والجواهر موضوعة، والحرس دونها منتضين سيوفهم. أو تميد به الارض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر.
ونجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي وأسبابه، يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي، إما بخطوط عجمية، أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن، بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها، يبتغون بذلك الرزق منهم، بما يبعثونهم على الحفر والطلب، ويموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا، من منال الحكام والعقوبات. وربما تكون عند بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه، وهو بمعزل عن السحر وطرقه، فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار، والتستر فيه بظلمات الليل، مخافة الرقباء وعيون أهل الدول. فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال، يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم. والذي يحمل على ذلك في الغالب، زيادة على ضعف العقل، إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة، فيطلبونه بالوجوه المنحرفة، وعلى غير المجرى الطبيعي، من هذا وأمثاله، عجزاً عن السعي في المكاسب، وركوناً إلى تناول الرزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله واكتسابه. ولا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك، من غير وجهه، في نصب ومتاعب وجهد شديد أشد من الأول، ويعرضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات. وربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف وعوائده، وخروجها عن حد النهاية، حتى تقصر عنها وجوه الكسب ومذاهبه، ولا تفي بمطالبها. فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي، لم يجد وليجة في نفسه، إلا التمني لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة، ليفي له ذلك بالعوائد التي حصل في أسرها، فيحرص على ابتغاء ذلك ويسعى فيه جهده. ولهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة، ومن سكان الأمصار الكثيرة الترف المتسعة الأحوال، مثل مصر وما في معناها. فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك وتحصيله، ومساءلة الركبان عن شواذه، كما يحرصون على الكيمياء. هكذا يبلغنا عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة، لعلهم يعثرون منه على دفين أو كنز، ويزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه، لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة كلها في مجاري النيل، وأنه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق. ويموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل، تستراً بذلك من الكذب، حتى يحصل على معاشه، فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السحرية لتحصيل مبتغاه من هذه، كلفاً بشأن السحر متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه. فعلومهم السحرية وآثارها باقية بأرضهم في البراري وغيرها. وقصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك وقد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق، تعطى فيها كيفية العمل بالتغوير بصناعة سحرية حسبما تراه فيها وهي هذه:
يا طالباً للسر في التغوير ... إسمع كلام الصدق من خبير
دع عنك ما قد صنفوا في كتبهم ... من قول بهتان ولفظ غرور
واسمع لصدق مقالتي ونصيحتي ... إن كنت ممن لا يرى بالزور
فإذا أردت تغور البئر التي ... حارت لها الأوهام في التدبير

صور كصورتك التي أوقفتها ... والرأس رأس الشبل في التقوير
ويداه ماسكتان للحبل الذي ... في الدلو ينشل من قرار البير
وبصدره هاء كما عاينتها ... عدد الطلاق احذر من التكرير
ويطا على الطاءات غير ملامس ... مشي اللبيب الكيس النحرير
ويكون حول الكل خط دائر ... تربيعه أولى من التكوير
واذبح عليه الطير والطخه به ... واقصده عقب الذبح بالتبخير
بالسندروس وباللبان وميعة ... والقسط والبسه بثوب حرير
من أحمر أو أصفر لا أزرق ... لا أخضر فيه ولا تكدير
ويشده خيطان صوف أبيض ... أو أحمر من خالص التحمير
والطالع الأسد الذي قد بينوا ... ويكون بدء الشهر غير منير
والبدر متصل بسعد عطارد ... في يوم سبت ساعة التدبير
يعني أن تكون الطا آت بين قدميه كأنه يمشي عليها وعندي أن هذه القصيدة من تمويهات المتخرفين، فلهم في ذلك أحوال غريبة واصطلاحات عجيبة، وتنتهي التخرفة والكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة والدور المعروفة بمثل هذه، ويحفرون بها الحفر ويضعون فيها المطابق والشواهد التي يكتبونها في صحائف كذبهم، ثم يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصحائف، ويبعثونه على اكتراء ذلك المنزل وسكناه ويوهمونه أن به دفيناً من المال لا يعبر عن كثرته، ويطالبونه بالمال لاشتراء العقاقير والبخورات لحل الطلاسم، ويعدونه بظهور الشواهد التي قد أعدوها هنالك بأنفسهم ومن فعلهم، فينبعث لما يراه من ذلك وهو قد خدع ولبس عليه من حيث لا يشعر، وبينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم، يلبسون به عليهم، ليخفى عند محاورتهم فيما يتناولونه، من حفر وبخور وذبح حيوان وأمثال ذلك.
وأما الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علم ولا خببر. واعلم أن الكنوز، وإن كانت توجدة لكنها في حكم النادر على وجه الاتفاق، لا على وجه القصد إليها. وليس ذلك بأمر تعم به البلوى، حتى يدخر الناس غالباً أموالهم تحت الأرض، ويختمون عليها بالطلاسم، لا في القديم ولا في الحديث. والركاز الذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء، وهو دفين الجاهلية، إنما يوجد بالعثور والاتفاق، لا بالقصد والطلب. وأيضاً فمن اختزن ماله وختم عليه بالأعمال السحرية فقد بالغ في إخفائه ، فكيف ينصب عليه الأدلة والأمارات لمن يبتغيه. ويكتب ذلك في الصحائف، حتى يطلع علي ذخيرته أهل الأمصار والأفاق، هذا يناقض قصد الإخفاء. وأيضاً فأفعال العقلاء لا بد وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع. ومن اختزن المال فإنما يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره. وأما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحد، وإنما هو للبلا والهلاك، أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم، فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه.
وأما قولهم: أين أموال الأمم من قبلنا، وما علم فيها من الكثرة والوفور فاعلم أن الأموال من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة إنما هي معادن ومكاسب، مثل الحديد والنحاس والرصاص وسائر العقارات والمعادن. والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانية ويزيد فيها أو ينقصها. وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث. وربما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى اخرى بحسب أغراضه، والعمران الذي يستدعيه. فإن نقص المال في المغرب وإفريقية، فلم ينقص ببلاد الصقالبة والإفرنج، وإن نقص في مصر والشام، فلم ينقص في الهند والصين. وإنما هي الآلات والمكاسب، والعمران يوفرها أو ينقصها، مع أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات، ويسرع إلى اللؤلؤ جوهر أعظم مما يسرع إلى غيره. وكذا الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير، ينالها من البلاء والفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت.

وأما ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز، فسببه أن مصر كانت في ملكة القبط منذ آلاف أو يزيد من السنين، وكان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذهب والفضة والجواهر واللآلىء، على مذهب من تقذم من أهل الدول. فلما انقضت دولة القبط، وملك الفرس بلادهم نقروا على ذلك في قبورهم وكشفوا عنه، فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف: كالأهرام من قبور الملوك وغيرها. وكذا فعل اليونانيون من بعدهم وصارت قبورهم مظنة لذلك لهذا العهد. ويعثر على الدفين فيها في كثير من الأوقات. أما ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرمون به موتاهم في الدفن من أوعية وتوابيت من الذهب والفضة معدة لذلك، فصارت قبور القبط منذ آلاف من السنين مظنة لوجود ذلك فيها. فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها، واستخراجها. حتى إنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة، ضربت على أهل المطالب. وصارت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمهوسين، فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذريعة إلى الكشف عنه والذرع باستخراجه. وما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم، نعوذ بالله من الخسران، فيحتاج من وقع له شيء من هذا الوسواس، أو ابتلي به، أن يتعوذ بالله من العجز والكسل في طلب معاشه، كما تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وينصرف عن طرق الشيطان ووسواسه، ولا يشغل نفسه بالمحالات والكاذب من الحكايات. " والله يرزق من يشاء بغير حساب " .
الفصل الخامس
في أن الجاه مفيد للمالوذلك أنا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه. والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته، من ضروري أو حاجي أو كمالي، فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه. وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل، يستعمل فيها الناس من غير عوض، فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه. فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها، فتتوفر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة، فتفيد الغنى لأقرب وقت، ويزداد مع الأيام يساراً وثروة. ولهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدمناه. وفاقد الجاه بالكلية ولو كان صاحب مال، فلا يكون يساره إلا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه، وهؤلاء هم أكثر التجار. ولهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير. ومما يشهد لذلك، أنا نجد كثيراً من الفقهاء وأهل الدين والعبادة، إذا اشتهروا حسن الظن بهم، واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم ، فأخلص الناس في إعانتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم. أسرعت إليهم الثروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتنى، إلا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم. رأينا من ذلك أعداداً في الأمصار والمدن. وفي البدو، يسعى لهم الناس في الفلح والنجر، وكل قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه، فينمو ماله ويعظم كسبة، ويتأثل الغنى من غير سعي. ويعجب من لا يفطن لهذا السر في حال ثروته وأسباب غناه ويساره. والله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب.
الفصل السادسفي أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً..
لأهل الخضوع والتملق وإن هذا الخلق من أسباب السعادة

قد سبق لنا فيما سلف أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم. ولو قدر أحد عطل عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية. وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته. وعلى نسبة ذلك نمو كسبه أو نقصانه. وقد بينا آنفاً أن الجاه يفيد المال، لما يحصل لصاحبه من تقرب الناس إليه بأعمالهم وأموالهم، في دفع المضار وجلب المنافع. وكان ما يتقربون به من عمل أو مال عوضاً عما يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض في صالح أو طالح. وتصير تلك الأعمال في كسبه، وقيمها أموال وثروة له، فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت. ثم إن الجاه متوزغ في الناس ومترتب فيهم طبقة بعد طبقة، ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية وفي السفل إلى من لا يملك ضراً ولا نفعاً بين أبناء جنسه. وبين ذلك طبقات متعددة. حكمة الله في خلقه. بما ينتظم معاشهم وتتيسر مصالحهم ويتم بقاؤهم لأن النوع الإنساني لما كان لا يتم وجوده وبقاؤه إلا بتعاون أبنائه على مصالحهم، لأنه قد تقرر أن الواحد منهم لا يتم وجوده. وأنه وإن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصح بقاؤه. ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع، ولما جعل الله لهم من الاختيار، وأن أفعالهم إنما تصدر بالفكر والروية لا بالطبع. وقد يمتنع، من المعاونة فيتعين حمله عليها، فلا بد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم، لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع. وهذا معنى قوله تعالى: " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون " . فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم، بالإذن والمنع، والتسلط بالقهر والغلبة، ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة، وعلى أغراضه فيما سوى ذلك، ولكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات، والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي. لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير، إلا بوجود شر يسير من أجل المواد، فلا يفوت الخير بذلك، بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير. وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم.
ثم إن كل طبقة من طباق أهل العمران، من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق. وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد هذا الجاه من أهل الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه. والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش، ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ، عنه كذلك، وإن كان ضيقاً وقليلاً فمثله. وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله وعلى نسبة سعيه ذاهباً وآيباً في تنميته كأكثر التجار. وأهل الفلاحة في الغالب، وأهل الصنائع كذلك، إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم، فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة وإنما يرمقون العيش ترميقاً ويدفعون ضرورة الفقر مدافعة. وإذا تقرر ذلك، وأن الجاه متفرع، وأن السعادة والخير مقترنان بحصوله، علمت أن باذله وإفادته من أعظم النعم وأجلها، وأن باذله من أجل المنعمين. وإنما يبذله لمن تحت يديه، فيكون بذله بيد عالية وعن عزة، فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملق، كما يسأل أهل العز والملوك، وإلا فيتعذر حصوله. فلذلك قلنا إن الخضوع والتملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصل للسعادة والكسب، وإن أكثر أهل الثروة والسعادة بهذا الخلق. ولهذا نجد الكثير ممن يتخلق بالترفع والشمم، لا يحصل لهم غرض من الجاه، فيقتصرون في التكسب على أعمالهم، ويصيرون إلى الفقر والخصاصة.

واعلم أن هذا الكبر والترفع من الأخلاق المذمومة، إنما يحصل من توهم الكمال، وأن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة، كالعالم المتبخر في علمه، أو الكاتب المجيد في كتابته أو الشاعر البليغ في شعره. وكل محسن في صناعته يتوهم أن الناس محتاجون لما بيده، فيحدث له ترفع عليهم بذلك، ويهذا يتوهم أهل الأنسات، ممن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبرون بما رأوه أو سمعوه من حال آبائهم في المدينة، ويتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم. فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم إذ الكمال لا يورث وكذلك أهل الحيلة والبصر والتجارب بالأمور، قد يتوهم بعضهم كمالاً في نفسه بذلك واحتياجاً إليه.
وتجد هؤلاء الأصناف كلهم مترفعين، لا يخضعون لصاحب الجاه، ولا يتملقون لمن هو أعلى منهم. ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على الناس، فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك، ويعده مذلة وهواناً وسفهاً. ويحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار مما يتوهم في نفسه، ويحقد على من قصر له في شيء مما يتوهمه من ذلك. وربما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه، ويستمر في عناء عظيم من إيجاب الحق لنفسه أو إباية الناس له من ذلك. ويحصل له المقت من الناس لما في طباع البشر من التأله. وقل أن يسلم أحد منهم لأحد في الكمال والترفع عليه، إلا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كله في ضمن الجاه. فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه، وهو مفقود له كما تبين لك، مقته الناس بهذا الترفع ولم يحصل له حظ من إحسانهم. وفقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي هي أعلى منه، لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود من تعاهدهم وغشيان منازلهم، ففسد معاشه، وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل. وأما الثروة فلا تحصل له أصلاً. ومن هذا اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ، وأنه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظ، وهذا معناه. ومن خلق لشيء يسر له. والله المقدر، لا رب سواه.
ولقد يقع في الدول أضراب في المراتب من أهل هذا الخلق، ويرتفع فيها كثير من السفلة، وينزل كثير من العلية بسبب ذلك. وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم، ويئس من سواهم من ذلك. وإنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السلطان، وكأنهم خول له.
فإذا استمرت الدولة وشمخ الملك، تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته وتقرب إليه بنصيحته، واصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته. فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه، ويتزلف إليه بوجوه خدمته، ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه. حتى يرسخ قدمه معهم، وينظمه السلطان في جملته، فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة، وينتظم في عدد أهل الدولة. وناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا صعابها ومهدوا أكنافها مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار، وتشمخ به نفوسهم على السلطان ويعتدون بآثاره، ويجرون في مضمار الدالة بسببه، فيمقتهم السلطان لذلك ويباعدهم. ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم، ولا يذهبون إلى دالة ولا ترفع. إنما دأبهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه، متى ذهب إليه، فيتسع جاههم وتعلو منازلهم، وتنصرف إليهم الوجوه. والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده. ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم، لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من السلطان ومقتاً وإيثاراً لهؤلاء المصطنعين عليهم، إلى أن تنقرض الدولة. وهذا أمر طبيعي في الدول. ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه.
الفصل السابع
في أن القائمين بأمور الدين..من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب

والسبب في ذلك أن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال، وأنها متفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى فيه، كانت قيمتها أعظم وكانت الحاجة إليها أشد. وأهل هذه الصنائع الدينية لا تضطر إليهم عامة الخلق، وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه. وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات، فليس على وجه الاضطرار والعموم، فيقع الاستغناء عن هؤلاء. في الأكثر. وإنما يهتم بهم وبإقامة مراسمهم صاحب الدولة، بما له من النظر في المصالح فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه. لا يساويهم بأهل الشوكة ولا بأهل الصنائع الضرورية، وإن كانت بضاعتهم أشرف من حيث الدين والمراسم الشرعية، لكنه يقسم بحسب عموم الحاجة وضرورة أهل العمران، فلا يصح في قسمتهم إلا القليل. وهم أيضاً لشرف بضائعهم أعزة على الخلق وعند نفوسهم، فلا يخضعون لأهل الجاه، حتى ينالوا منه حظاً يستدرون به الرزق، بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك، لما هم فيه من الشغل بهذه الصنائع الشريفة المشتملة على أعمال الفكر والتدبر. بل ولا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدنيا لشرف صنائعهم، فهم بمعزل عن ذلك. فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب. ولقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك علي، فوقع بيدي أوراق مخرقة من حسابات الدواوين بدار المأمون، تشتمل على كثير من الدخل والخرج يومئذ. وكان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين فوقفته عليه. وعلم منه صحة ما قلته ورجع إليه. وقضينا العجب من أسرار الله في خليقته، وحكمته في عوالمه. والله الخالق القادر، لارب سواه.
الفصل الثامن
في أن الفلاحة من معاش المستضعفينوأهل العافية من البدو وذلك لأنه أصيل في الطبيعة وبسيط في منحاه. ولذلك لا تجده ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب، ولا من المترفين. ويختص منتحله بالمذلة. قال صلى الله عليه وسلم، وقد رأى السكة ببعض دور الأنصار: " ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل " . وحمله البخاري على الاستكثار منه. وترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو تجاوز الحد الذي أمر به. والسبب فيه والله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التحكم واليد العالية، فيكون الغارم ذليلاً بائساً، بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة. قال صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرماً " إشارة إلى الملك العضوض، القاهر للناس، الذي معه التسلط والجور، ونسيان حقوق الله تعالى في المتمولات، واعتبار الحقوق كلها مغرماً للملوك والدول. والله قادر على ما يشاء. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل التاسع
في معني التجارة ومذاهبها وأصنافهااعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال، بشراء السلع بالرخص، وبيعها بالغلاء، أياً ما كانت السلعة، من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش. وذلك القدر النامي يسمى ربحاً. فالمحاول لذلك الربح: إما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء، فيعظم ربحه، وإما بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه، فيعظم ربحه. ولذلك قال بعض الشيوخ من التجار، لطالب الكشف عن حقيقة التجارة: أنا أعلمها لك في كلمتين، اشتراء الرخيص وبيع الغالي. فقد حصلت التجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الذي قررناه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه.
الفصل العاشرفي أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها

قد تقدم لنا أن معنى التجارة تنمية المال، بشراء البضائع ومحاولة بيعها بالغلاء بأغلى من ثمن الشراء. اما بانتظار حوالة الأسواق ، أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى، أو بيعها، بالغلاء على الآجال. وهذا الربح بالنسبة إلى أصل المال نزر يسير، لأن المال إن كان كثيراً عظم الربح، لأن القليل في الكثير كثير. ثم لا بد في محاولة هذه التنمية الذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة، في شراء البضائع وبيعها، ومعاملتهم في تقاضي أثمانها. وأهل النصفة قليل، فلا بد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع، ومن المطل في الأثمان المجحف بالربح. كتعطيل المحاولة في تلك المدة وبها نماؤه. ومن الجحود والإنكار المسحت لرأس المال، إن لم يتقيد بالكتاب والشهادة. وغناء الحكام في ذلك قليل، لأن الحكم إنما هو على الظاهر، فيعاني التاجرمن ذلك أحوالاً صعبة. ولا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء والمشقة، أو لا يحصل، أو يتلاشى رأس ماله. فإن كان جريئاً على الخصومة، بصيراً بالحسبان، شديد المماحكة، مقداماً على الحكام، كان ذلك أقرب له إلى النصفة منهم بجراءته، ومماحكته، وإلا فلا بد له من جاه يدرع به، فيوقع له الهيبة عند الباعة، ويحمل الحكام على إنصافه من غرمائه، فيحصل له بذلك النصفة واستخلاص ماله منهم، طوعاً في الأول وكرهاً في الثاني. وأما من كان فاقداً للجراءة والإقدام من نفسه، وفاقد الجاه من الحكام، فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتجارة، لأنه يعرض ماله للضياع والذهاب، ويصيره مأكلة للباعة، ولا يكاد ينتصف منهم، لأن الغالب في الناس، وخصوصاً الرعاع والباعة، شرهون إلى ما في أيدي الناس سواهم، متوثبون عليه. ولولا وازع الأحكام لأصبحت أموال الناس نهباً. " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين " .
الفصل الحادي عشر
في أن خلق التجار نازلة..عن خلق الأشراف والملوك وذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء، ولا بد فيه من المكايسة ضرورة. فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها، وهي أعني خلق المكايسة، بعيدة عن المروءة، التي تتخلن بها الملوك والأشراف. وأما إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم، من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان رداً وقبولاً، فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف. ولذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة، لأجل ما يكسب من هذا الخلق. وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه، لشرف نفسه وكرم جلاله، إلا أنه في النادر بين الوجود. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه، وهو رب الأولين والآخرين.
الفصل الثاني عشر
في نقل التاجر للسلع

التاجر البصير بالتجارة، لا ينقل من السلع، إلا ما تعم الحاجة إليه، من الغني والفقير والسلطان والسوقة، إذ في ذلك نفاق سلعته. وأما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط، فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ، بأعواز الشراء من ذلك البعض، لعارض من العوارض، فتكسد سوقه وتفسد أرباحه. وكذلك إذا نقل السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها، فإن الغالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة وحاشية الدولة، وهم الأقل. وإنما يكون الناس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كل صنف، فليتحر ذلك جهده، ففيه نفاق سلعته أو كسادها. وكذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة، أو شدة الخطر في الطرقات، يكون أكثر فائدة للتجار وأعظم أرباحاً وأكفل بحوالة الأسواق. لأن السلع المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة، لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها، فيقل حاملوها ويعز وجودها. وإذا قلت وعزت غلت أثمانها. وأما إذا كان البلد قريب المسافة، والطريق سابل بالأمن، فإنه حينئذ يكثر ناقلوها، فتكثر وترخص أثمانها. ولهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالاً، لبعد طريقهم ومشقته، واعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف والعطش. لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة، يهتدي إليها أدلاء الركبان، فلا يرتكب خطر هذا الطريق وبعده إلا الأقل من الناس. فتجد سلع بلاد السودان قلية لدينا، فتختض بالغلاء، وكذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع التجار من تناقلها وويسرع إليهم والثروة من أجل ذلك. وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق، لبعد الشقة. وأما المترددون في الأفق الواحد، ما بين أمصاره وبلدانه، ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة، لكثرة السلع وكثرة ناقليها. و " الله هو الرزاق ذو القوة المتين " .
الفصل الثالث عشر
في الاحتكارومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار، أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم. وأنه يعود على فائدته، بالتلف والخسران. وسببه، والله أعلم، أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطراراً، فتبقى النفوس متعلقة به. وفي تعلق النفوس بمالها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً.
ولعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل. وهذا وإن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به، لإعطائه ضرورة من غير سعة في العذر فهو كالمكره. وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعمات لا إضطراراً للناس إليها، وإنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات، فلا يبذلون أموالهم فيها إلا باختيار وحرص. ولا يبقى لهم تعلق بما أعطوه. فلهذا يكون من عرف بالاحتكار، تجتمع القوى النفسانية على متابعته، لما يأخذه من أموالهم، فيفسد ربحه. والله تعالى أعلم.
وسمعت فيما يناسب هذا، حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا أبو عبد الله الآبلي قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد، وهو الفقيه أبو الحسن المليلي، وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال، فأطرق ملياً، ثم قال لهم: من مكس الخمر. فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا، وسألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانت الجبايات كلها حراماً، فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه. والخمر قل أن يبذل فيها أحد ماله، إلا وهو طرب مسرور بوجدانه، غير أسف عليه، ولا متعلقة به نفسه. وهذه ملاحظة غريبة. والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكن الصدور.
الفصل الرابع عشر
في أن رخص الأسعار مضربالمحترفين بالرخيص وذلك أن الكسب والمعاش، كما قدمناه، إنما هو بالصنائع أو التجارة. والتجارة هي شراء البضائع والسلع وادخارها. يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة في أثمانها، ويسمى ربحاً. ويحصل منه الكسب والمعاش للمحترفين بالتجارة دائماً. فإذا استديم الرخص في سلعة، أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة، ولم يحصل للتاجرحوالة الأسواق فيه فسد الربح والنماء بطول تلك المدة، وكسدت سوق ذلك الصنف، ولم يحصل التاجر إلا على العناد، فقعد التجارعن السعي فيها وفسدت رؤوس أموالهم.

واعتبر ذلك أولاً بالزرع، فإنه إذا استديم رخصه كيف تفسد أحوال المحترفين به، بسائر أطواره، من الفلح والزراعة لقلة الربح فيه، ونزارته أو فقده. فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قلة، ويعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم، وتفسد أحوالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة. ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضاً بالطحن والخبز، وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرف من لدن زراعته إلى صيرورته مأكولاً.
وكذا يفسد حال الجند، إذا كانت أرزاقهم من السلطان عند أهل الفلح زرعاً، فإنها تقل جبايتهم من ذلك، ويعجزون عن إقامة الجندية التي هم بسببها ويرتزقون من السلطان عليها، ويقطع عنهم الرزق، فتفسد أحوالهم. وكذا إذا استديم الرخص في العسل والسكر، فسد جميع ما يتعلق به، وقعد المحترفون به عن التجارة فيه. وكذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرخص أيضاً. فإذا الرخص المفرط مجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص، وكذا الغلاء المفرط أيضاً. وربما يكون في النادر سبباً لنماء المال بسبب احتكاره وعظم فائدته. وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق، وعلم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران. وإنما يحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه، واضطرار الناس إلى الأقوات من بين الغني والفقير. والعالة من الخلق هم الأكثر في العمران، فيعم، الرفق بذلك، ويرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاص. و " الله هو الرزاق ذو القوة المتين " . والله سبحانه وتعالى رب العرش العظيم.
الفصل الخامس عشر
في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساءوبعيدة من المروءة قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح، ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج، وهي عوارض هذه الحرفة. وهذه الأوصاف تغض من الذكاء والمروءة وتخدج فيها، لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس. فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذكاء، وأفعال الشر والسفسفة تعود بضد ذلك، فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت. وتنقص خلال الخير إن تأخرت عنها، بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس، شأن الملكات الناشئة عن الأفعال. وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم. فمن كان منهم سافل الطور، مخالفاً لشرار الباعة، أهل الغش والخلابة والخديعة والفجور في الأيمان على البياعات والأثمان إقراراً وإنكاراً، كانت رداءة تلك الخلق عنده أشد، وغلبت عليه السفسفة، وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة. وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته. وفقدان ذلك فيهم في الجملة. ووجود الصنف الثاني منهم، الذي قدمناه في الفصل قبله أنهم يدرعون بالجاه، ويعوض لهم من مباشرة ذلك، فيهم نادر وأقل من النادر. وذلك أن يكون المال قد توفر عنده دفعة بنوع غريب، أو ورثه عن أحد من أهل بيته، فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة، وتكسبه ظهوراً وشهرة بين أهل عصره، فيترفع عن مباشرة ذلك بنفسه، ويدفعه إلى من يقوم له به من ولائه وحشمه. ويسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره وإتحافه، فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر. فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن المحرجات، إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب، فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ووفاقهم، أو خلافهم فيما يأتون أو يذرون من ذلك، إلا أنه قليل، ولا يكاد يظهر أثره. " والله خلقكم وما تعملون " .
الفصل السادس عشر
في أن الصنائع لا بد لها من العلم
==========
ج4. كتاب : مقدمة ابن خلدون ابن خلدون


إعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري، وبكونه عملياً هو جسماني محسوس. والأحوال الجسمانية المحسوسة، نقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل، لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة، والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى، حتى ترسخ صورته. وعلى نسبة الأصل تكون الملكة. ونقل المعاينة أو عب وأتم من نقل الخبر والعلم. فالملكة الحاصلة عنه أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة على الخبر. وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته. ثم إن الصنائع منها البسيط ومنها المركب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب هو الذي يكون للكماليات. والمتقدم منها في التعليم هو البسيط، لبساطته أولاً، ولأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله، فيكون سابقاً في التعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصاً. ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل، بالاستنباط شيئاً فشيئاً على التدريج، حتى تكمل. ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال، إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة، لا سيما في الأمور الصناعية. فلا بد له إذن من زمان. ولهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة، ولا يوجد منها إلا البسيط، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع، خرجت من القوة إلى الفعل.
وتنقسم الصنائع أيضاً: إلى ما يختص بأمر المعاش، ضرورياً كان أو غير ضروري، وإلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان، من العلوم والصنائع والسياسة. ومن الأول الحياكة والجزارة والنجارة والحدادة وأمثالها. ومن الثاني الوراقة، وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتجليد، والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثال ذلك. ومن الثالث الجندية وأمثالها. والله أعلم.
الفصل السابع عشر
في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمرانالحضري وكثرته والسبب في ذلك أن الناس، وما لم يستوف العمران الحضري وتتمدن المدينة إنما همم في الضروري من المعاش، وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها. فإذا تمدنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عليه، صرف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش. ثم إن الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات، والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية، فهو مقدم لضرورته على العلوم والصنائع، وهي متأخرة عن الضروري. وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائع للتأنق فيها حينئذ، واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف والثروة. وأما العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط، خاصة المستعمل في الضروريات من نجار أو حداد أو خياط أو حائك أو جزار. وإذا وجدت هذه بعد، فلا توجد فيه كاملة ولا مستجادة. وإنما يوجد منها بمقدار الضرورة، إذ هي كلها وسائل إلى غيرها وليست مقصودة لذاتها.
إذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات، كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها، فكملت بجميع متمماتها وتزايدت صنائع أخرى معها، مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله، من جزار ودباغ وخراز وصائغ وأمثال ذلك. وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات، ويتأنق فيها في الغاية، وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها. بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال، لما يدعو إليه الترف في المدينة مثل الدهان والصفار والحمامي والطباخ والسفاج والهراس ومعلم الغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع، ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها، فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك. وقد تخرج عن الحد إذا كان العمران خارجاً عن الحد، كما بلغنا عن أهل مصر، أن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الإنسية، ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرقص والمشي على الخيوط في الهواء، ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة، وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب. لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة. أدام الله عمرانها بالمسلمين. والله الحكيم العليم.
الفصل الثامن عشر
في أن رسوخ الصنائع..

في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن هذه كلها عوائد للعمران والوأم. والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الآمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال. وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها. ولهذا فإنا نجد في الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارة، لما تراجع عمرانها وتناقص، بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من الأمصار المستحدثة العمران، ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة. وما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكررها، وهذه لم تبلغ بعد. وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد، فإنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها، كالمباني والطبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص وتنضيد الفرش في القصور، وحسن الترتيب والأوضاع في البناء، وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين، وإقامة الولائم والأعراس وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده. فتجدهم أقوم عليها وأبصر بها. وتجد صنائعها مستحكمة لديهم، فهم على حصة موفورة من ذلك وحظ متميز بين جميع الأمصار. وإن كان عمرانها قد تناقص، والكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة. وما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية وما قبلها من دولة القوط، وما بعدها من دولة الطوائف وهلم جرا. فبلغت الحضارة فيها مبلغاً لم تبلغه في قطر، إلا ما ينقل عن العراق والشام ومصر أيضاً، لطول آماد الدول فيها، فاستحكمت فيها الصنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتنميق. وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران، لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية، حال الصبغ إذا رسخ في الثوب. وكذا أيضاً حال تونس فيما حصل فيها من الحضارة من الدول الصنهاجية والموحدين من بعدهم، وما استكمل لها في ذلك من الصنائع في سائر الأحوال، وإن كان ذلك دون الأندلس. إلا أنه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما، وتردد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كل سنة. وربما سكن أهلها هناك عصوراً، فينقلون من عوائد ترفهم وحكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان. فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناة، ومن أحوال الأندلس لما أن أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السابعة. ورسخ فيها من ذلك أحوال، وإن كان عمرانها ليس بمناسب لذلك لهذا العهد. إلا أن الصبغة إذا استحكمت، فقليلاً ما تحول إلا بزوال محلها. وكذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابن حماد أثراً باقياً من ذلك، وإن كانت هذه كلها اليوم خراباً أو في حكم الخراب. ولا يتفطن لها إلا البصير من الناس، فيجد من هذه الصنائع آثاراً تدلة على ما كان بها، كأثر الخط الممحو في الكتاب. والله الخلاق العليم " .
الفصل التاسع عشر
في أن الصنائع إنما تستجادوتكثر إذا كثر طالبها والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً، لأنه كسبه ومنه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنفع. وإن كانت الصناعة مطلوبة وتوجه إليها النفاق كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فيجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها، ولا يوجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك وفقدت للإهمال. ولهذا يقال عن علي رضي الله عنه: " قيمة كل امرء ما يحسن " . بمعنى أن صناعته هي قيمته، أي قيمة عمله الذي هو معاشه. وأيضاً فهنا سر آخر وهو أن الصنائع وإجادتها إنما تطلبها الدولة، فهي التي تنفق سوقها وتوجه الطلبات إليها. وما لم تطلبه الدولة، وإنما يطلبها غيرها من أهل المصر، فليس على نسبتها، لأن الدولة هي السوق الأعظم، وفيها نفاق كل شيء، والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة. فما نفق فيها كان أكثرياً ضرورة. والسوقة وإن طلبوا الصناعة فليس طلبهم بعام ولا سوقهم بنافقة. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء.
الفصل العشرون
في أن الأمصار إذا قاربت الخرابانتقصت منها الصنائع

وذلك لما بيناه من أن الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها. فإذا ضعفت أحوال المصر، وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقلة ساكنه تناقص فيه الترف، ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم، فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف. لأن صاحبها حينئذ لا يصح له بها معاشه، فيفر إلى غيرها، أو يموت، ولا يكون خلف منه، فيذهب رسم تلك الصنائع جملة، كما يذهب النقاشون والصواغون والكتاب والنساخ وأمثالهم من الصناع لحاجات الترف. ولا تزال الصناعات في التناقص ما زال المصر في التناقص، إلى أن تضمحل. والله الخلاق العليم، سبحانه وتعالى.
الفصل الحادي والعشرون
في أن العرب أبعد الناس عن الصنائعوالسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري، وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها. والعجم من أهل المشرق وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها، لأنهم أعرق في العمران الحضري وأبعد عن البحر وعمرانه. حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحش في القفر، والإعراق في البدو، مفقودة لديهم بالجملة، ومفقودة مراعيها، والرمال المهيئة لنتاجها. ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة، حتى تجلب إليه من قطر آخر. وانظر بلاد العجم، من الصين والهند وأرض الترك وأمم النصرانية، كيف استكثرت فيهم الصنائع، واستجلبها الأمم من عندهم.
وعجم المغرب من البربر، مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. ويشهد لك بذلك قلة الأمصار بقطرهم كما قدمناه. فالصنائع بالمغرب لذلك قليلة وغير مستحكمة، إلا ما كان من صناعة الصوف في نسجه، والجلد في خرزه ودبغه. فإنهم لما استحضروا بلغوا فيها المبالغ، لعموم البلوى بها، وكون هذين أغلب السلع في قطرهم، لما هم عليه من حال البداوة. وأما المشرق فقد رسخت الصنائع فيه، منذ تلك الأمم الأقدمين من الفرس والنبط والقبط وبني إسرائيل ويونان والروم أحقاباً، متطاولة، فرسخت فيهم أحوال الحضارة، ومن جملتها الصنائع كما قدمناه، فلم يمح رسمها. وأما اليمن والبحرين وعمان والجزيرة، وإن ملكه العرب، إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرة منهم، واختطوا أمصاره ومدنه، وبلغوا الغاية في الحضارة والترف. مثل عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم والتبابعة والأذواء، فطال أمد الملك والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفرت الصنائع ورسخت، فلم تبل ببلى الدولة كما قدناه. فبقيت مستجدة حتى الآن. واختصت بذلك للوطن، كصناعة الوشي والعصب وما يستجاد من حوك الثياب والحرير فيها. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
الفصل الثاني والعشرون
في أن من حصلت له ملكة في صناعةفقل أن يجيد بعدها ملكة في أخرى ومثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها، ورسخت في نفسه، فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة أو البناء، إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها. والسبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس وألوان، فلا تزدحم دفعة. ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعداداً لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الآخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة، فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف. وهذا بين يشهد له الوجود. فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها، ثم يحكم من بعدها أخرى، ويكون فيهما معاً على رتبة واحدة من الإجادة. حتى إن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة. ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية، فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته، بل يكون مقصراً فيه إن طلبه، إلا في الأقل النادر من الأحوال. ومبني سببه على ما ذكرناه من الاستعداد وتلوينه بلون الملكة الحاصلة في النفس. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه.
الفصل الثالث والعشرون
في الإشارة إلى أمهات الصنائع

اعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة، لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد. إلا أن منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضوع، فنخصها بالذكر ونترك ما سواها: فأما الضروري فكالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة، وأما الشريفة بالموضوع فكالتوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب. فأما التوليد فإنها ضرورية في العمران وعامة البلوى، إذ بها تحصل حياة المولود ويتم غالباً. وموضوعها مع ذلك المولودون وأمهاتهم. وأما الطب فهو حفظ الصحة للإنسان ودفع المرض عنه، ويتفرع عن علم الطبيعة، وموضوعه مع ذلك بدن الإنسان. وأما الكتابة وما يتبعها من الوراقة، فهي حافظة على الإنسان حاجته ومقيمة لها عن النسيان، ومبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب، ومخلدة نتائح الأفكار والعلوم في الصحف، ورافعة رتب الوجود للمعاني. وأما الغناء فهو نسب الأصوات ومظهر جمالها للأسماع. وكل هذه الصنائع الثلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم ومجالس أنسهم، فلها بذلك شرف ليس لغيرها. وما سوى ذلك من الصنائع فتابعة وممتهنة في الغالب. وقد يختلف ذلك باختلاف الأغراض والدواعي. والله أعلم بالصواب.
الفصل الرابع والعشرون
في صناعة الفلاحةهذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقوات والحبوب، بالقيام على إثارة الأرض لها وازدراعها، وعلاج نباتها، وتعهده بالسقي والتنمية إلى بلوغ غايته، ثم حصاد سنبله واستخراج حبه من غلافه وإحكام الأعمال لذلك، وتحصيل أسبابه، ودواعيه. وهي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً، إذ يمكن وجوده من دون جميع الأشياء إلا من دون القوت. ولهذا اختصت هذه الصناعة بالبدو. إذ قدمنا أنه أقدم من الحضر وسابق عليه، فكانت هذه الصناعة لذلك بدوية، لا يقوم عليها الحضر ولا يعرفونها، لأن أحوالهم كلها ثانية عن البداوة، فصنائعهم ثانية عن صنائعها وتابعة لها. والله سبحانه وتعالى مقيم العباد فيما أراد.
الفصل الخامس والعشرون
في صناعة البناءهذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري وأقدمها، وهي معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل للكن والمأوى للأبدان في المدن. وذلك أن الإنسان لما جبل عليه من الفكر في عواقب أحواله، لا بد له أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر والبرد، كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف والحيطان من سائر جهاتها. والبشر مختلفون في هذه الجبلة الفكرية التي هي معنى الإنسانية، فالمقيدون فيها، ولو على التفاوت، يتخذون ذلك باعتدال، كأهل الإقليم الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس و أما أهل البدو فيبعدون عن اتخاذ ذلك، لقصور أفكارهم عن إدراك الصنائع البشرية، فيبادرون للغيران والكهوف المعدة من غير علاج،. ثم المعتدلون والمتخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون فتكثر بيوتهم في البسيط الواحد، بحيث يتناكرون ولا يتعارفون فيخشى من طروق بعضهم بعضاً بياتاً، فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة سياج الأسوار التي تحوطهم. ويصير جميعها مدينة واحدة ومصراً واحداً يحوطهم فيها الحكام بدفاع بعضهم عن بعض. وقد يحتاجون إلى الاعتصام من العدو ويتخذون المعاقل والحصون لهم ولمن تحت أيديهم. وهؤلاء مثل الملوك ومن في معناهم من الأمراء وكبار القبائل. ثم يختلف أحوال البناء في المدن، كل مدينة على ما يتعارفون ويصطلحون عليه، ويناسب مزاج أهوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر. وكذا حال أهل المدينة الواحدة. فمنهم من يتخذ القصور والمصانع العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدور والبيوت والغرف الكبيرة لكثرة ولده وحشمه وعياله وتابعه، ويؤسس جدرانها بالحجارة ويلحم بينها بالكلس، ويعالي عليها بالأصبغة والجص، ويبالغ في كل ذلك بالتنجيد والتنميق، إظهاراً للبسطة بالعناية في شأن المأوى. ويهيىء مع ذلك الأسراب والمطامير لاختزان أقواته، والاصطبلات لربط مقرباته إذا كان من أهل الجنود وكثرة التاج والحاشية، كالأمراء ومن في معناهم. ومنهم من يبني الدويرة والبيوت لنفسه وسكنه وولده لا يبتغي ما وراء ذلك، لقصور حاله عنه واقتصاره على الكن الطبيعي للبشر. وبين ذلك مراتب غير منحصرة.

وقد يحتاج لهذه الصناعة أيضاً عند تأسيس الملوك وأهل الدول المدن العظيمة والهياكل المرتفعة، ويبالغون في إتقان الأوضاع وعلو الأجرام مع الإحكام لتبلغ الصناعة مبالغها. وهذه الصناعة هي التي تحصل الدواعي لذلك كله. وأكثر ما تكون هذه الصناعة في الأقاليم المعتدلة من الرابع وما حواليه، إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها. وإنما يتخذون البيوت حظائر من القصب والطين أو يأوون إلى الكهوف والغيران. وأهل هذه الصناعة القائمون عليها متفاوتون: فمنهم البصير الماهر، ومنهم القاصر. ثم هي تتنوع أنواعاً كثيرة: فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر، يقام بها الجدران ملصقاً بعضها إلى بعض بالطين والكلس الذي يعقد معها فيلتحم كأنها جسم واحد، ومنها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطان بأن يتخذ لها لوحان من الخشب مقدران طولاً وعرضاً باختلاف العادات في التقدير. وأوسطه أربع أذرع، في ذراعين فينصبان على أساس، وقد بوعد ما بينهما على ما يراه صاحب البناء في عرض الأساس، ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدل. ويسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين، ثم يوضع فيه التراب مختلطاً بالكلس، ويركز بالمراكز المعدة لذلك، حتى ينعم ركزه ويختلط أجزاؤه بالكلس، ثم يزاد التراب ثانياً وثالثاً إلى أن يمتلىء ذلك الخلاء بين اللوحين، وقد تداخلت أجزاء الكلس والتراب وصارت جسماً واحداً. ثم يعاد نصب اللوحين على الصورة الأولى، ويركز كذلك إلى أن يتم وتنتظم الألواح كلها سطراً فوق سطر، إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحماً، كأنه قطعة واحدة، ويسمى الطابية وصانعه الطواب. ومن صنائع البناء أيضاً أن تجلل الحيطان بالكلس، بعد أن يحل بالماء ويخمر أسبوعاً أو أسبوعين، على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للألحام. فإذا تم له ما يرضاه من ذلك عالاه من فوق الحائط، وذلك إلى أن يلتحم.
ومن صنائع البناء عمل السقف بأن تمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت، ومن فوقها الألواح كذلك موصولة بالدساتر، ويصب عليها التراب والكلس، ويبلط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها وتلتحم ويعالى عليها الكلس كما عولي على الحائط. ومن صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق والتزيين، كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يخمر بالماء، ثم يرجع جسداً وفيه بقية البلل، فيشكل على التناسب تخريماً بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق ورواء. وربما عولي على الحيطان بقطع الرخام أو الآجر أو الخزف أو بالصدف أو السبج، يفصل أجزاء متجانسة أو مختلفة، وتوضع في الكلس على نسب وأوضاع مقدرة عندهم، يبدو به الحائط للعيان، كأنه قطع الرياض المنمنمة. إلى غير ذلك من بناء الجباب والصهاريج لسيح الماء، بعد أن تعد في البيوت قصاع الرخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصهريج، يجلب إليها من خارج في القنوات المفضية به إلى البيوت. وأمثال ذلك من أنواع البناء.

وتختلف الصناع في جميع ذلك لاختلاف الحذق والبصر، ويعظم عمران المدينة ويتسع فيكثرون. وربما يرجع الحكام إلى نظر هؤلاء فيماهم أبصر به من أحوال البناء. وذلك أن الناس في المدن الكثيرة الازدحام والعمران، يتشاحون حتى في الفضاء والهواء للأعلى والأسفل، في الانتفاع بظاهر البناء، مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان. فيمنع جاره من ذلك، إلا ما كان له فيه حق. ويختلفون أيضاً في استحقاق الطرق والمنافذ، للمياه الجارية، والفضلات المسربة في القنوات. وربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناته لتضايق الجوار، أو يدعي بعضهم على جاره اعتلال حائطه وخشية سقوطه، ويحتاج إلى الحكم عليه بهدمه ودفع ضرره عن جاره، عند من يراه، أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرصة بين شريكين، بحيث لا يقع معها فساد في الدار ولاإهمال لمنفعتها. وأمثال ذلك. ويخفى جميع ذلك إلا على أهل البصر بالبناء العارفين بأحواله، المستدلين عليها بالمعاقد والقمط ومراكز الخشب وميل الحيطان واعتدالها وقسم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها، وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت والحيطان وغير ذلك. فلهم بهذا كله البصر والخبرة التي ليست لغيرهم. وهم مع ذلك يختلفون بالجودة والقصور في الأجيال باعتبار الدول وقوتها.
فإنا قدمنا أن الصنائع، وكمالها إنما هو بكمال الحضارة، وكثرتها بكثرة الطالب لها. فلذلك عندما تكون الدولة بدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها. كما وقع للوليد بن عبد الملك، حين أجمع على بناء مسجد المدينة والقدس ومسجده بالشام، فبعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناءة فبعث إليه منهم من حصل له غرضه من تلك المساجد.
وقد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة، مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الارتفاع، وأمثال ذلك، فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله. وكذلك في جر الأثقال بالهندام، فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة تعجز قدر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط ، فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل، بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية، تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفاً وتسمى آلة لذلك بالمخال، فيتم المراد من ذلك بغير كلفة. وهذا إنما يتم بأصول هندسية معروفة، متداولة بين البشر. وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد، التي يحسب الناس أنها من بناء الجاهلية. وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني، وليس كذلك، وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه. فتفهم ذلك. والله يخلق ما يشاء سبحانه.
الفصل السادس والعشرون
في صناعة النجارةهذه الصناعة من ضروريات العمران ومادتها الخشب. وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل للآدمي في كل مكون من المكونات منافع تكمل بها ضروراته، أو حاجاته، وكان منها الشجر، فإن له فيه من المنافع ما لا ينحصر مما هو معروف لكل أحد. ومن منافعها اتخاذها خشباً إذا يبست. وأول منافع الخشب أن يكون وقوداً للنيران في معاشهم، وعصياً للاتكاء والذود، وغيرهما من ضرورياتهم، ودعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثم بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو والحضر. فأما أهل البدو، فيتخذون منها العمد والأوتاد لخيامهم، والحدوج لظعائنهم، والرماح والقسي والسهام لسلاحهم. وأما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسي لجلوسهم. وكل واحدة من هذه فالخشبة مادة لها، ولا تصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة.

والصناعة المتكللة بذلك، المحصلة لكل واحد من صورها هي النجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أولاً: إما بخشب أصغر، أو ألواح. ثم تركب تلك الفصائل بحسب الصور المطلوبة. فهو في كل ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام، إلى أن تصيرأعضاء لذلك الشكل المخصوص. والقائم على هذه الصناعة هو النجار وهو ضروري في العمران. ثم إذا عظمت الحضارة وجاء الترف، وتأنق الناس فيما يتخذونه من كل صنف، من سقف أو باب أو كرسي أو ماعون، حدث التأنق في صناعة ذلك واستجادته بغرائب من الصناعة كمالية، ليست من الضروري في شيء. مثل التخطيط في الأبواب والكراسي، ومثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها وتشكيلها، ثم تؤلف على نسب مقدرة وتلحم بالدساتر فتبدو لمرأى العين ملتحمة، وقد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كل شيء يتخذ من الخشب فيجيء آنق ما يكون. وكذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتخذة من الخشب، من أي نوع كان.
وكذلك قد يحتاج إلى هذه الصناعة في إنشاء المراكب البحرية ذات الألواح والدسر، وهي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه وكلكله، ليكون ذلك الشكل أعون لها على مصادمة الماء، وجعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح. وربما اعينت بحركة المجاذيف كما في الأساطيل. وهذه الصناعة من أصلها محتاجة إلى جزء كبير من الهندسة في جميم أصنافها، لأن إخراج الصور من القوة إلى الفعل على وجه الإحكام، محتاج إلى معرفة التناسب في المقادير، إما عموماً أو خصوصاً. وتناسب المقادير لا بد فيه من الرجوع إلى المهندس.
ولهذا كان أئمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذه الصناعة، فكان أوقليدس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجاراً وبها كان يعرف. وكذلك أبلونيوس صاحب كتاب المخروطات وميلاوش وغيرهم. وفيما يقال: إن معلم هذه الصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام، وبها أنشأ سفينة النجاة التي كانت بها معجزته عند الطوفان. وهذا الخبر وإن كان ممكناً أعني كونه نجاراً، إلا أن كونه أول من علمها أو تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد. وإنما معناه والله أعلم الإشارة إلى قدم النجارة لأنه لم تصح حكاية عنها قبل خبر نوح عليه السلام، فجعل كأنه أول من تعلمها. فتفهم أسرار الصنائع في الخليقة. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل السابع والعشرون
في صناعة الحياكة والخياطةاعلم أن المعتدلين من بشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في الدفء كالفكر في الكن. ويحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحر والبرد. ولا بد لذلك من إلحام الغزل حتى يصير ثوباً واحداً، وهو النسج والحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه وإن مالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعاً يقدرون منها ثوباً على البدن بشكله وتعدد أعضائه واختلاف نواحيها. ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوباً واحداً على البدن ويلبسونها. والصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي الخياطة. وهاتان الصناعتان ضروريتان في الغمران، لما يحتاج إليه البشر من الرفه. فالأولى لنسج الغزل من الصوف والكتان والقطن إسداء في الطول وإلحاماً في العرض وإحكاماً لذلك النسج بالالتحام الشديد، فيتم منها قطع مقدرة: فمنها الأكسية من الصوف للاشتمال، ومنها الثياب من القطن والكتان للباس. والصناعة الثانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال والعوائد، تفصل أولاً بالمقراض قطعاً مناسبة للأعضاء البدنية، ثم تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلاً أو حبكاً أوتنبيتاً أو تفتيحاً على حسب نوع الصناعة.

وهذه الثانية مختصة بالعمران الحضري لما أن أهل البدو يستغنون عنها، وإنما يشتملون الأثواب اشتمالاً. وإنما تفصيل الثياب وتقديرها وإلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة وفنونها. وتفهم هذا في سر تحريم المخيط في الحج، لما أن مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيوية كلها والرجوع إلى الله تعالى. " كما خلقنا أول مرة " . حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيباً ولا نساء ولا مخيطاً ولاخفاً، ولايتعرض لصيد ولا لشيء من عوائده التي تكونت بها نفسه وخلقه، مع أنه يفقدها بالموت ضرورة. وإنما يجيء كأنه وارد على المحشر ضارعاً بقلبه مخلصاً لربه، وكان جزاؤه إن تم له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
سبحانك ما أرفقك بعبادك وأرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك.
وهاتان الصنعتان قديمتان في الخليقة لما أن الدفء ضروري للبشر في العمران المعتدل. وأما المنحرف إلى الحر فلا يحتاج أهله إلى دفء. ولهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأول من السودان أنهم عراة في الغالب. ولقدم هذه الصنائع ينسبها العامة إلى إدريس عليه السلام، وهو أقدم الأنبياء. وربما ينسبونها إلى هرمس، وقد يقال: إن هرمس هو إدريس. والله سبحانه وتعالى هو الخلاق العليم.
الفصل الثامن والعشرون
في صناعة التوليد

وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه، من الرفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك. ثم ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. وهي مختصة بالنساء في غالب الأمر، لما أنهن الظاهرات بعضهن على عورات بعض. وتسمى القائمة على ذلك منهن القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء والقبول، كأن النفساء تعطيها الجنين وكأنها تقبله. وذلك أن الجنين إذا استكمل خلقه في الرحم وأطواره وبلغ إلى غايته، والمدة التي قدر الله لمكثه، وهي تسعة أشهر في الغالب، فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النزوع لذلك، وبضيق عليه المنفذ فيعسر. وربما مزق بعض جوانب الفرج بالضغط، وربما انقطع بعض ما كان في الأغشية من الالتصاق والالتحام بالرحم. وهذه كلها آلام يشتد لها الوجع، وهو معنى الطلق، فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشيء بغمز الظهر والوركين وما يحاذي الرحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدافعة في إخراج الجنين، وتسهيل ما يصعب منه بما يمكنها، وعلى ما تهتدي إلى معرفة عسره. ثم إذا خرج الجنين بقيت بينة وبين الرحم الوصلة حيث كان يتغذى منها متصلة من سرته بمعاه. وتلك الوصلة عضو فضلي لتغذية المولود خاصة، فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدى مكان الفضيلة ولا تضر بمعاه ولا برحم أمه، ثم تحمل مكان الجراحة منه بالكي أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثم إن الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضيق، وهو رطب العظام سهل الانعطاف والانثناء، فربما تتغير أشكال أعضائه وأوضاعها لقرب التكوين ورطوبة المواد، فتتناوله القابلة بالغمز والإصلاح، حتى يرجع كل عضو إلى شكله الطبيعي ووضعه المقدر له، ويرتد خلقه سوياً. ثم بعد ذلك تراجع النفساء وتحاذيها بالغمز والملاينة لخروج أغشية الجنين، لأنها ربما تتأخر عن خروجه قليلاً. ويخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطبيعية قبل استكمال خروج الأغشية، وهي فضلات، فتتعفن ويسري عفنها إلى الرحم فيقع الهلاك، فتحاذر القابلة هذا وتحاول في إعانة الدفع إلى أن تخرج تلك الأغشية إن كانت قد تأخرت، ثم ترجع إلى المولود فتمرخ أعضاءه بالأدهان والذرورات القابضة، لتشده، وتجفف رطوبات الرحم، وتحنكه لرفع لهاته، وتسعطه لاستفراغ نطوف دماغه، وتغرغره باللعوق لدفع السدد من معاه وتجويفها عن الالتصاق. ثم تداوي النفساء بعد ذلك من الوهن الذي أصابها بالطلق، وما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود وإن لم يكن عضواً طبيعياً فحالة التكوين في الرحم صيرته بالالتحام كالعضو المتصل، فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. وتداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم، من جراحة التمزيق عند الضغط في الخروج. وهذه كلها أدواء نجد هؤلاء القوابل أبصر بدوائها. وكذلك ما يعرض للمولود مدة الرضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهن أبصر بها من الطبيب الماهر. وما ذاك إلا لأن بدن الإنسان في تلك الحالة إنما هو بدن إنساني بالقوة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدناً إنسانيا بالفعل، فكانت حاجته حينئذ إلى الطبيب أشد. فهذه الصناعة كما تراه ضرورتة في العمران للنوع الإنساني، لا يتم كون أشخاصه في الغالب دونها.
وقد يعرض لبعض أشخاص النوع الاستغناء عن هذه الصناعة: إما بخلق الله ذلك لهم معجزة وخرقاً للعادة، كما في حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أو بإلهام وهداية، يلهم لها المولود ويفطر عليها، فيتم وجودهم من دون هذه الصناعة. فأما شأن المعجزة من ذلك، فقد وقع كثيراً. ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مسروراً مختوناً، واضعاً يديه على الأرض شاخصاً ببصره إلى السماء. وكذلك شأن عيسى في المهد وغير ذلك. وأما شأن الإلهام فلا ينكر. وإذا كانت الحيوانات العجم تختص بغرائب من الإلهامات كالنحل وغيرها، فما ظنك بالإنسان المفضل عليها. وخصوصاً من اختص بكرامة الله.

ثم الإلهام العام للمولودين في الإقبال على الثدي أوضح شاهد على وجود الإلهام العام لهم. فشأن العناية الإلهية أعظم من أن يحاط به. ومن هنا يفهم بطلان رأي وحكماء الأندلس، فيما احتجوا به لعدم انقراض الأنواع، واستحالة انقطاع المكونات. وخصوصاً في النوع الإنساني. وقالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك، لتوقفه على وجود هذه الصناعة التي لا يتم كون الإنسان إلا بها. إذا لو قدرنا مولوداً دون هذه الصناعة وكفالتها إلى حين الفصال لم يتم بقاؤه أصلاً. ووجود الصنائع دون الفكر ممتنع لأنها ثمرته وتابعة له. وتكلف ابن سينا في الرد على هذا الرأي لمخالفته إياه، وذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع، وخراب عالم التكوين، ثم عوده ثانياً لاقتضاءات فلكية وأوضاع غريبة تندر في الأحقاب بزعمه، فتقتضي تخمير طينة مناسبه لمزاجه بحرارة مناسبة، فيتم كونه إنساناً. ثم يقيض له حيوان يخلق فيه إلهاماً لتربيته والحنو عليه إلى أن يتم وجوده وفصاله وأطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان وهذا الاستدلال غير صحيح، وإن كنا نوافقه على انقطاع الأنواع، لكن من غير ما استدل به. فإن دليله مبني على إسناد الأفعال إلى العلة الموجبة ودليل القول بالفاعل المختار يرد عليه، ولا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال والقدرة القديمة، ولا حاجة إلى هذا التكلف.
ثم لو سلمناه جدلاً، فغاية ما ينبني عليه اطراد وجود هذا الشخص بخلق الإلهام، لتربيته في الحيوان الأعجم. وما الضرورة الداعية لذلك؟ وإذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم، فما المانع من خلقه للمولود نفسه، كما قررناه أولاً. وخلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره، فكلا المذهبين شاهدان كلى أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قررته لك. والله تعالى أعلم.
الفصل التاسع والعشرون
في صناعة الطبوأنها محتاج إليها في الحواضر والأمصار دون البادية هذه الصناعة ضرورية في المدن والأمصار لما عرف من فائدتها، فإن ثمرتها حفظ، للأصحاء، ودفع المرض عن المرضى بالمداواة، حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم. واعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الجامع للطب كما ينقل بين أهل الصناعة، وإن طعن فيه العلماء، وهو قوله: " المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء، وأصل كل داء البردة " . فأما قوله: المعدة بيت الداء، فهو ظاهر، وأما قوله الحمية رأس الدواء، فالحمية الجوع وهو الاحتماء عن الطعام. والمعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية، وأما قوله: أصل كل داء البردة، فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة، قبل أن يتم هضم الأول. وشرح هذا أن الله سبحانه خلق الإنسان وحفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل، وينفذ فيه القوى الهاضمة والغاذية إلى أن يصير دماً ملائماً لأجزاء البدن من اللحم والعظم. ثم تأخذه النامية فينقلب لحماً وعظماً. ومعنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزية طوراً بعد طور حتى يصير جزءاً بالفعل من البدن. وتفسيره أن الغذاء، إذا حصل في الفم ولاكته الأشداق، أثرت فيه حرارة الفم طبخاً يسيراً، وقلبت مزاجه بعض الشيء، كما تراة في اللقمة إذا تناولتها طعاماً، ثم أجدتها مضغاً، فترى مزاجها غير مزاج الطعام. ثم يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموساً وهو صفو ذلك المطبوخ، وترسله إلى الكبد وترسل ما رسب منه في المعاء ثفلاً، ثم ينفذ إلى المخرجين. ثم تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير دماً عبيطاً وتطفو عليه رغوة من الطبخ هي الصفراء. وترسب منه أجزاء يابسة هي السوداء، ويقصر الحار الغريزي بعض الشيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثم ترسلها الكبد كلها في العروق والجداول، ويأخذها طبخ الحار الغريزي هناك، فيكون عن الدم الخالص بخار حار رطب يمد الروح الحيواني. وتأخذ النامية مأخذها في الدم فيكون لحماً، ثم غليظه عظاماً. ثم يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق واللعاب والمخاط والدمع. هذه صورة الغذاء وخروجه من القوة إلى الفعل لحماً.

ثم إن أصل الأمراض ومعظمها هي الحميات. وسببها أن الحار الغريزي قد يضعف عن إتمام النضج في طبخه في كل طورمن هذه، فيبقى ذلك الغذاء دون نضج. وسببه غالباً كثرة الغذاء في المعدة، حتى يكون أغلب على الحار الغريزي، أو إدخال الطعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأول، فيشتغل به الحار الغريزي ويترك الأول بحاله. أو يتوزع عليهما فيقصر عن تمام الطبخ والنضج. وترسله المعدة كذلك إلى الكبد، فلا تقوى حرارة الكبد أيضاً على إنضاجه. وربما بقي في الكبد من الغذاء الأول فضلة غير ناضجة. وترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق والدمع واللعاب إن اقتدر على ذلك. وربما يعجز عن الكثير منه، فيبقى في العروق والكبد والمعدة، وتتزايد مع الأيام. وكل ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطبخ والنضج يعفن، فيتعفن ذلك الغذاء غير الناضج وهو المسمى بالخلط. وكل متعفن ففيه حرارة غريبة، وتلك هي المسماة في بدن الإنسان بالحمى.
واعتبر ذلك بالطعام إذا ترك حتى يتعفن وفي الزبل إذا تعفن أيضاً، كيف تنبعث فيه الحرارة وتأخذ مأخذها. فهذا معنى الحميات في الأبدان وهي رأس الأمراض، وأصلها كما وقع في الحديث. ولهذه الحميات علاجات بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثم تناوله الأغذية الملائمة حتى يتم برؤه. وكذلك في حال الصحة له علاج في التحفظ من هذا المرض وغيره، وأصله كما وقع في الحديث. وقد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص، فيتولد عنه مرض في ذلك العضو، أوتحدث جراحات في البدن: إما في الأعضاء الرئيسة، أو في غيرها. وقد يمرض العضو ويحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلها جماع الأمراض، وأصلها في الغالب من الأغذية، وهذا كله مرفوع إلى الطبيب.
ووقوع هذه الأمراض في أهل الحضر والأمصار أكثر، لخصب عيشهم، وكثرة مآكلهم، وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية، وعدم توقيتهم لتناولها. وكثيراً ما يخلطون بالأغذية من التوابل والبقول والفواكه، رطباً ويابساً، في سبيل العلاج بالطبخ، ولا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربما عددنا في اللون الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات والحيوان، فيصير للغذاء مزاج غريب. وربما يكون بعيداً عن ملاءمة البدن وأجزائه. ثم إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفضلات. والأهوية منشطة للأرواح ومقوية بنشاطها لأثر الحار الغريزي في الهضم. ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار، إذ هم في الغالب وادعون ساكنون، لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً، ولا تؤثر فيهم أثراً، فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن والأمصار، وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة.
وأما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب، والجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب، حتى صار لهم ذلك عادة. وربما يظن أنها جبلة لاستمرارها. ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة وعلاج الطبخ بالتوابل والفواكه إنما يدعو إليه ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه، فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها ويقرب مزاجها من ملاءمة البدن. وأما أهويتهم فقليلة العفن، لقلة الرطوبات والعفونات، إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن.
ثم إن الرياضة موجودة فيهم من كثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات أو مهنة أنفسهم في حاجاتهم، فيحسن بذلك كله الهضم ويجود ويفقد إدخال الطعام على الطعام. فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد عن الأمراض، فتقل حاجتهم إلى الطب. ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه. وما ذاك إلا للاستغناء عنه، إذ لو احتيج إليه لوجد. لأنه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه. " سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً " .
الفصل الثلاثون
في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية

وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس. فهو ثاني رتبة عن الدلالة اللغوية، وهو صناعة شريفة، إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان. وأيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأذى بها الأغراض إلى البلد البعيد، فتقضى الحاجات، وقد دفعت مؤونة المباشرة لها، ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين، وما كتبوه في علومهم وأخبارهم، فهي شريفة بجميع هذه الوجوه والمنافع. وخروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم، وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك، تكون جودة الخط في المدينة إذ هو من جملة الصنائع. وقد قدمنا أن هذا شأنها وأنها تابعة للعمران، ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرأون، ومن قرأ منهم أوكتب فيكون خطه قاصراً وقراءته غير ناففة. ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن وأسهل طريقاً، لاستحكام الصنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد، وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين وأحكاماً في وضع كل حرف، ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه، فتعتضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم، وتأتي ملكته على أتم الوجوه.
وإنما أتى هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال.
وليس الشأن في تعليم الخط بالأندلس والمغرب كذلك في تعلم كل حرف بانفراده، على قوانين يلقيها المعلم للمتعلم، وإنما يتعلم بمحاكاة الخط من كتابة الكلمات جملة. ويكون ذلك من المتعلم ومطالعة المعلم له، إلى أن يحصل له الإجادة ويتمكن في بنانه الملكة، فيسمى مجيداً. وقد كان الخط العربي بالغاً مبالغة من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف، وهو المسمى بالخط الحميري. وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة إلى المنذر نسباء التبابعة في العصبية، والمجددين لملك العرب بأرض العراق. ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة، لقصور ما بين الدولتين. فكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر. ويقال: إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية ويقال حرب بن أمية، وأخذها من أسلم بن سدرة. وهو قول ممكن، وأقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراق، إذا ... ساروا جميعاً، والخط والقلم
وهو قول بعيد لأن إياداً، وإن نزلوا ساحة العراق، فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. والخط من الصنائع الحضرية. وإنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط والقلم من غيرهم من العرب، لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها، فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة، ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال. ورأيت في كتاب التكملة لابن الأبار، عند التعريف بابن فروخ القيرواني الفاسي الأندلسي، من أصحاب مالك رضي الله عنه، واسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق، مثل الألف واللام، والميم والنون؟ قال: نعم، قلت: وممن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أمية. قلت: وممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان. قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال من أهل الأنبار. قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارىء طرأ عليه من أهل اليمن. قلت: وممن أخذه ذلك الطارىء؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام. وهو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها ... ورأي على غير الطريق يعبر
وللموت خير من حياة تسبنا ... بهاجرهم فيمن يسب وحمير

انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة. وزاد في آخره: حدثني بذلك أبو بكر بن أبي حميرة في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الوقشي عن أبي عمر الطلمنكي ابن أبي عبد الله بن مفرح. ومن خطه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمد بن حشيش بن عمر بن أيوب المعافري التونسي عن بهلول بن عبيدة الحمي عن عبد الله بن فروخ. انتهى.
وكان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة، وكانوا يمنعون من تعلمها إلا بإذنهم. ومن حمير تعلمت مضر الكتابة العربية، إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو، فلا تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق لبون ما بين البدو والصناعة واستغناء البدو عنها في الأكثر، فكانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريباً من كتابتهم لهذا العهد، أو نقول إن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة، لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول. وأما مضر فكانوا أعرق في البدو وأبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشام ومصر، فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوحش لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع.
وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها. ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً، ويتبع رسمه خطأ أو صواباً. وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسماً، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه.
ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم أصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه. ويقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنه: إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، وفي زيادة الياء في بأييد إنه تنبية على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض. وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط. وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح. واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر. والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش، وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً، وكان ذلك كمالاً في حقه، وبالنسبة إلى مقامه، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية، التي هي أسباب المعاش والعمران كلها. وليست الأمية كمالاً في حقنا نحن، إذ هو منقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا، شأن الصنائع كلها، حتى العلوم الاصطلاحية. فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا.
ثم لما جاء الملك للعرب، وفتحوا الأمصار، وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلموه وتداولوه، فترقت الإجادة فيه، واستحكم، وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان، إلا أنها كانت دون الغاية. والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد.

ثم انتشرت العرب في الأقطار والممالك، وافتتحوا إفريقية والأندلس، واختط بنو العباس بغداد وترقت الخطوط فيها إلى الغاية، لما استبحرت في العمران، وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية، وخالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة، في الميل إلى إجادة وجمال الرونق وحسن الرواء. واستحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رايتها ببغداد علي بن مقلة الوزير ثم تلاه في ذلك علي بن هلال، الكاتب الشهير بابن البواب، ووقف سند تعليمها عليه في المائة الثالثة وما بعدها. وبعدت رسوم الخط البغدادي وأوضاعه عن الكوفة، حتى انتهى إلى المباينة. ثم ازدادت المخالفة بعد تلك العصور بتفنن الجهابذة في إحكام رسومه وأوضاعه، حتى انتهت إلى المتأخرين مثل ياقوت والولي علي العجمي. ووقف سند تعليم الخط عليهم، وانتقل ذلك إلى مصر، وخالفت طريقة العراق بعض الشيء، ولقنها العجم هنالك، فظهرت مخالفة لخط أهل مصر أو مباينة. وكان الخط الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد يقرب من أوضاع الخط المشرقي. وتميز ملك الأندلس بالأمويين، فتميزوا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط، فتميز صنف خطهم الأندلسي، كما هو معروف الرسم لهذا العهد. وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر. وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم وانتسخت الكتب وأجيد كتبها وتجليدها، وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له، وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه.
ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية وتناقصت تناقص ذلك أجمع، ودرست معالم بغداد بدروس الخلافه، فانتقل شأنها من الخط والكتابة، بل والعلم إلى مصر والقاهرة، فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد. وللخط بها معلمون يرسمون للمتعلم الحروف بقوانين في وضعها. وأشكالها متعارفة بينهم. فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف على أشكال تلك الأوضاع. وقد لقنها حسناً وحلقاً فيها دربة وكتاباً، وأخذها قوانين عملية فتجيء أحسن ما يكون.
وأما أهل الأندلس، فافترقوا في الأقطار، عند تلاشي ملك العرب بها ومن خلفهم من البربر، وتغلبت عليهم أمم النصرانية، فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية، من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد. وشاركوا أهل الغمران بما لديهم من الصنائع، وتعلقوا بأذيال الدولة، فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفى عليه. ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما. وصارت خطوط أهل إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس وما إليها، لتوفر أهل الأندلس بها عند الجالية من شرق الأندلس.
وبقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس ولا تمرسوا بجوارهم. إنما كانوا يفدون على دار الملك بتونس، فصار خط أهل إفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس، حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء، وتراجع أمر الحضارة والترف بتراجع العمران، نقص حينئذ حال الخط وفسدت رسومه، وجهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران. وبقيت فيه آثار الخط الأندلسي، تشهد بما كان لهم من ذلك، لما قدمناه من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها. وحصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي، لقرب جوارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريباً، واستعمالهم اياهم سائر الدولة. ونسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك وداره كأنه لم يعرف. فصارت الخطوط بإفريقية والمغربين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة، وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها، إلا العناء والمشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة، حتى لا تكاذ تقرأ إلا بعد عسر. ووقع فيه ما وقع في سائر الصنائع، بنقص الحضارة وفساد الدول. والله يحكم لا معقب لحكمه.
ولًلاستاذ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب قصيدة من بحر البسيط على روي الراء يذكر فيها صناعة الخط وموادها. من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفع بها من يريد تعلم هذه الصناعة. واولها:
يا من يريد إجادة التحرير ... ويروم حسن الخط والتصوير
إن كان عزمك في الكتابة صادقاً ... فارغب إلى مولاك في التيسير

أعدد من الأقلام كل مثقف ... صلب يصوغ صناعة التحبير
وإذا عمدت لبريه فتوخه ... عند القياس بأوسط التقدير
انظر إلى طرفيه فاجعل بريه ... من جانب التدقيق والتخضير
واجعل لجلفته قواماً عادلاً ... خلوا عن التطويل والتقصير
والشق وسطه ليبقى بريه ... من جانبيه مشاكل التقدير
حتى إذا اتقنت ذلك كله ... فالقط فيه جملة التدبير
لاتطمعن في أن أبوح بمسزه إني أضن بسره المستور
لكن جملة ما أقول بأنه ... ما بين تحريف إلى تدوير
وألق دواتك بالدخان مدبراً ... بالخل أو بالحصرم المعصور
وأضف إليه مغرة قد صولت ... مع أصفر الزرنيخ والكافور
حتى إذا ما خمرت فاعمد إلى ... الورق النقي الناعم المخبور
فاكبسه بعد القطع بالمعصار كي ... ينأى عن التشعيث والتغيير
ثم اجعل التمثيل دأبك صابراً ... ما أدرك المأمول مثل صبور
ابدأ به في اللوح منتضياً له ... عزماً تجرده عن التشمير
لاتخجلن من الردى تختطه ... في أول التمثيل والتسطير
فالأمر يصعب ثم يرجع هيناً ... ولرب سهل جاء بعد عسير
حتى إذا أدركت ما أملته ... أضحيت رب مسرة وحبور
فاشكر إلهك واتبع رضوانه ... إن الإله يجيب كل شكور
وارغب لكفك أن تخط بنانها ... خيراً تخلفه بدار غرور
فجميع فعل المرء يلقاه غداً ... عند الشقاء كتابة المنشور
واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني، فلا بد لكل منهما ان يكون واضح الدلالة.
قال الله تعالى: " خلق الإنسان، علمه البيان " وهو يشتمل بيان الأدلة كلها. فالخط المجرد كماله أن تكون دلالته واضحة، بإبانة حروفه المتواضعة وإجادة وضعها ورسمها كل واحد على حدة متميزعن الاخر، إلأ ما اصطلح عليه الكتاب من إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض، سوى حروف اصطلحوا على قطعها، مثل الألف المتقدمة في إلكلمة، - وكذا الراء والزأي والدال والذال وغيرها، بخلاف ما إذا كانت متأخرة، وهكذا إلى آخرها. ثم ان المتأخرين من الكتاب اصطلحوا على وصل كلمات، بعضها ببعض، وحذف حروف معروفة عندهم، لا يعرفها إلا أهل مصطلحهم فتستعجم على غيرهم. وهؤلاء كتاب دواوين السلطان وسجلات القضاة، كأنهم انفردوا بهذا الاصطلاح عن غيرهم، لكثرة موارد الكتابة عليهم، وشهرة كتابتهم وإحاطة كثير من دونهم بمصطلحهم. فإن كتبوا ذلك لمن لا خبرة له بمصطلحهم فينبغي أن يعدلو عن ذلك إلى البيان ما أستطاعوه، وإلا كان بمثابة الخط الأعجمي، لأنهما بمنزلةواحدة من عدم التواضع عليه. وليس بعذر في هذا القدر إلا كتاب الأعمال السلطانية في الأموال والجيوش، لأنهم مطلوبون بكتمان ذلك عن الناس ، فإنه من الأسرار السلطانية التي يجب إخفاؤها، فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم، ويصير بمثابة المعمي 5وهو الاصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب والفواكه والطيور أو الازاهر، ووضع أشكال اخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون لتادية ما في ضمائرهم با لكتابة. وربما وضع الكتاب للعثور على ذلك، وإن لم يضعوه أولأ، قوانين بمقاييس استخرجوها لذلك بمداركهم يسمونها فك المعمى. وللناس في ذلك دواوين مشهورة. والله العليم الحكيم.
الفصل الحادي والثلاثون
في صناعة الوراقة

كاذت العناية قديما بالدواوين العلمية والسجلات، في نسخها وتجليدها وتصحيحها بالرواية والضبط. وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة وتوابع الحضارة. وقد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدولة وتناقص العمران، بعد ان كان منه في الملة الإسلامية بحر زاخر بالعراق والأندلس، إذ هو كله من توابع العمران واتساع نطاق الدولة ونفاق أسواق ذلك لديهما. فكثرت التآليف العلمية والدواوين، وحرص الناس على تناقلهما في الآفاق والأعصار فانتسخت وجلدت. وجاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتيبة والدواوين، واختصت بالأمصار العظيمة العمران. وكانت السجلات أولاً لانتساخ العلوم، وكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات، والصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد، لكثرة الرفه وقلة التآليف صدر الملة كما نذكره، وقلة الرسائل السلطانية والصكوك مع ذلك ، فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفا للمكتوبات وميلًا بها إلى الصحة والإتقان.
ثم طما بحر التآليف والتدوين، وكثر ترسيل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك. فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد، وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه. واتخذه الناس من بعده صحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية. وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت. ثم وقفت عناية أهل العلوم وهمم أهل الدول، على ضبط الدواوين العلمية وتصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها وواضعيها، لأنه. الشأن الأهم من التصحيح والضبط، فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها، والفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها. وما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدونها، فلا يصح إسناد قول لهم ولا فتيا. وهكذا كان شأن أهل العلم وحملته في العصور والأجيال والآفاق. حتى لقد قصرت فائدة الصناعة الحديثية في الرواية على هذه فقط، إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث وحسنها ومسندها ومرسلها ومقطوعها وموقوفها من موضوعها، قد ذهبت وتمخضت زبدة في تلك الأمهات المتلقاة بالقبول عند الأمة. وصار القصد إلى ذلك لغواً من العمل. ولم تبق ثمرة الرواية والاشتغال بها، إلا في تصيحيح تلك الأمهات الحديثية، وسواها من كتب الفقه للفتيا، وغير ذلك من الدواوين والتآليف العلمية، واتصال سندها بمؤلفيه، ليصح النقل عنهم والإسناد إليهم. وكانت هذه الرسوم بالمشرق والأندلس معبدة الطرق واضحة المسالك. ولهذا نجذ الدواوين المنسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان والإحكام والصحة. ومنها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك. وأهل الأفاق يتناقلونها إلي الآن ويشدون عليها يد الضنانة. ولقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب وأهله، لانقطاع صناعة الخط والضبط والرواية منه بانتقاص عمرانه وبداوة أهله. وصارت الأمهات والدواوين تنسخ بالخطوط البدوية، ينسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخط وكثرة الفساد والتصحيف، فتستغلق على متصفحها، ولا يحصل منها فائدة إلا في الأقل النادر.
وأيضاً فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا، فإن غالب الأقوال المعزوة غير مروية عن أئمة المذاهب، وإنما تتلقى من تلك الدواوين على ما هي عليه. وتبع ذلك أيضاً ما يتصدى إليه بعض أئمتهم من التأليف لقلة بصرهم بصناعته، وعدم الصنائع الوافية بمقاصده. ولم يبق من هذا الرسم بالأندلس، إلا إثارة خفية بالأنحاء، وهي على الاضمحلال. فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب. والله غالب على أمره.
ويبلغنا لهذا العهد أن صناعة الرواية قائمة بالمشرق، وتصحيح الدواوين لمن يرومه بذلك سهل على مبتغيه، لنفاق أسواق العلوم والصنائع كما نذكره بعد. إلا أن الخط الذي بقي من الإجادة في الانتساخ هنالك إنما هو للعجم، وفي خطوطهم. وأما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب وأشد. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل الثاني والثلاثون
في صناعة الغناء

هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة، بتقطيع الأصواات على نسب منتظمة معروفة، يوقع على كل صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة. ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث عنه من الكيفية فى تلك الأصوات. وذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب، فيكون: صوت، نصف صوت وربع آخر، وخمس آخر، وجزء من أحد عشر من آخر. واختلاف هذه النسب، عند تأديتها إلى السمع، يخرجها من البساطة إلى التركيب. وليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع، بل للملذوذ تراكيب خاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقى، وتكلموا عليها كما هو مذكوز في موضعه. وقد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات، إما بالقرع أو بالنفخ في آلات تتخذ لذلك، فتزيدها لذة عن السماع. فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف: منها المزمار ويسمونه الشبابة، وهي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة، ينفخ فيها فتصوت. ويخرج الصوت من جوفها على سدادة من تلك الأبخاش. ويقطع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعاً على تلك الأبخاش وضعاً متعارفاً، حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه، وتتصل كذلك متناسبة، فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه. ومن جنس هذه الألة المزمار الذي يسفى الزلامي، وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب، جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفوذتين كذلك بأبخاش معدودة، ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل، فينفذ النفخ بواسطتها إليها، وتصوت بنغمة حادة. ويجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة.
ومن أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق، وهو بوق من نحاس، أجوف في مقدار الذراع، يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دور الكف في شكل بري القلم.
وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه، فيخرج الصوت ثخيناً دوياً، وفيه أبخاش أيضاً معدودة. وتقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب، فيكون ملذوذاً. ومنها آلات الأوتار وهي جوفاء كلها: إما على شكل قطعة من الكرة، مثل البربط والرباب، أو على شكل مربع كالقانون، توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة ليتأتى شد الأوتار ورخوها عند الحاجة إليه بإدارتها. ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوسي يمر عليها بعد أن يطلى بالشمع والكندر. ويقطع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر. واليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار، فيما يقرع أو يحك بالوتر، فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة. وقد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض، على توقيع متناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع.
ولنبين لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء. وذلك أن اللذة كما تقرر في موضعه هي إدراك الملائم، والمحسوس إنما تدرك منه كيفية. فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذوذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة. فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها، وكذا الملائم من الملموسات، وفي الروائح، ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري لأنه المدرك، وإليه تؤديه الحاسة. ولهذا كانت الرياحين والأزهار العطريات أحسن رائحة وأشد ملاءمة للروح، لغلبة الحرارة فيها، التي هي مزاج الروح القلبي.

وأما المرئيات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها، فهو أنسب عند النفس وأشد ملاءمة لها. فإذا كان المرئي متناسباً في أشكاله وتخاطيطه التي له بحسب مادته، بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع، وذلك هو معنى الجمال والحسن في كل مدرك، كان ذلك حينئذ مناسباً للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها. ولهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. وفي هذا سر تفهمه إن كنت من أهله، وهو اتحاد المبدإ، وإن كل ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحاداً في البداية، يشهد لك به اتحادكما في الكون. ومعناه من وجه آخر أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء. فتود أن تمتزج بما شاهدت فيه الكمال لتتحد به، بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدإ والكون. ولما كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى مدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني، فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كل إنسان بالحسن في المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة. والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدة والقلقلة والضغط وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن.
فأولاً: أن لا يخرج من الصوت إلى مدة دفعة بل بتدريج، ثم يرجع كذلك وهكذا إلى المثل، بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين. وتأمل هذا من استقباح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج، فإنه من بابه.
وثانياً: تناسبها في الأجزاء كما مر أول الباب، فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه، على حسب ما يكون التنقل مناسباً على ما حصره أهل صناعة الموسيقى. فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة كانت ملائمة ملذوذة. ومن هذا التناسب ما يكون بسيطاً، ويكون الكثير من الناس مطبوعين عليه، لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة، كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك. وتسمي العامة هذه القابلية بالمضمار. وكثير من القراء بهذه المثابة، يقرأون القرآن، فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير فيطربون بحسن مساقهم وتنا سب نغماتهم. ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب، وليس كل الناس يستوي في معرفته ولا كل الطبائع توافق صاحبها في العمل به إذا علم.
وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى، كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم. وقد أنكر مالك رحمه الله تعالى القراءة بالتلحين، وأجازها الشافعي رضي الله تعالى عنه. وليس المراد تلحين الموسيقى الصناعي، فإنه لا ينبغي أن يختلف في حظره، إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكل وجه، لأن القراءة والأداء تحتاج إلى مقدار من الصوت لتعيين أداء الحروف من حيث إتباع الحركات في مواضعها، ومقدار المد عند من يطلقة أو يقصره، وأمثال ذلك. والتلحين أيضاً يتعين له مقدار من الصوت لا يتم إلا به من أجل التناسب الذي قلناه في حقيقة التلحين. فاعتبار أحدهما قد يخل بالأخر إذا تعارضا. وتقديم التلاوة متعين فراراً من تغيير الرواية المنقولة في القرآن، فلا يمكن اجتماع التلحين والأداء المعتبر في القرآن بوجه. وإنما المراد عن اختلافهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه، فيردد أصواته ترديداً على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره، ولا ينبغبي ذلك بوجه كما قاله مالك. هذا هو محل الخلاف. والظاهر تنزية القرآن عن هذا كله كما ذهب إليه الإمام رحمه الله تعالى، لأن القرآن هو محل خشوع بذكر الموت وما بعده وليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات. وهكذا كانت قراءة الصحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود، فليس المراد به الترديد والتلحين، إنما معناه حسن الصوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنطق بها. وإذ قد ذكرنا معنى الغناء، فاعلم أنه يحدث في العمران، إذا توفر وتجاوز حد الضرروي إلى الحاجي، ثم إلى الكمالي، وتفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة. لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره، فلا يطلبها، إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفنناً في مذاهب الملذوذات. وكان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم. وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به، حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة، ولهم مكان في دولتهم، وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها. وهذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم، ومملكة من ممالكهم.
وأما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر، يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها، في عدة حروفها المتحركة والساكنة ويفضلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً يكون كل جزء منها مستقلاً بالإدادة، لا ينعطف على الآخر. ويسمونه البيت فيلائم الطبع بالتجزئة أولاً، ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادىء، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها. فلهجوا به فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره، لأجل اختصاصه بهذا التناسب. وجعلوه ديواناً لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومحكاً لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب. واستمروا على ذلك. وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف، قطرة من بحر من تناسب الأصوات، كما هو معروف في كتب الموسيقى. إلا أنهم لم يشعروا بما سواه، لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علماً ولا عرفوا صناعة. وكانت البداوة أغلب نحلهم. ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في قضاء خلواتهم، فرجعوا الأصوات وترنموا. وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغييراً بالغين المعجمة والباء الموحدة. وعللها أبو إسحق الزجاج بأنها تذكر بالغابر وهو الباقي، أي بأحوال الآخرة. وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة، كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره. وكانوا يسمونه السناد، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحلوم. وكانوا يسمون هذا الهزج، وهذا البسيط، كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم شأن البسائط كلها من الصنائع.
ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم. فلما جاء الإسلام، واستولوا على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم، وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ. وما ليس بنافع في دين ولا معاش، فهجروا ذلك شيئاً ما. ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي كان دينهم ومذهبهم. فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ. وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والزمامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات ولحنوا عليها أشعارهم.
وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب وحائر مولى عبد الله بن جعفر، فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر. ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره. وما زالت صناعة الغناء تتمزج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وابنه حماد. وكان من ذلك في دولتهم ببغداد، ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد، وأمعنوا في اللهو واللعب، واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه. وجعل صنفاً وحده، واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج، وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب، معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان، ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرون ويفرون ويتثاقفون، وأمثال ذلك من اللعب المعد للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو.

وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها. وكان للموصليين غلام اسمه زرياب، أخذ عنهم الغناء فأجاد، فصرفوه إلى المغرب غيرة منه، فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس. فبالغ في تكرمته، وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات، وأحله من دولته وندمائه بمكان. فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف. وطما منها بإشبيلية بحر زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب. وانقسم على أمصارها، وبها الأن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها. وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف، إلا وظيفة الفراغ والفرح. وهي أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه. والله أعلم.
الفصل الثالث والثلاثون
في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً
وخصوصاً الكتابة والحساب قد ذكرنا في الكتاب أن النفس الناطقة للإنسان، إنما توجد فيه بالقوة. وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولاً، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكاً بالفعل وعقلاً محضاً، فتكون ذاتاً روحانية وتستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلاً فريداً، والصنائع أبداً يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً، والملكات الصناعية تفيد عقلاً، والحضارة الكاملة تفيد عقلاً، لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل، ومعاشرة أبناء الجنس، وتحصيل الآداب في مخالطتهم، ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها. وهذه كلها قوانين تنتظم علوماً، فيحصل منها زيادة عقل.
والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك، لأنها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف الصنائع. وبيانه أن في الكتابة انتقالاً من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس، فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل، ما دام ملتبساً بالكتابة وتتعود النفس ذلك دائماً. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات، وهو معنى النظر العقلي الذي يكتسب به العلوم المجهولة، فتكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل. ويحصل به مزيد فطنة وكيس في الأمور، لما تعودوه من ذلك الانتقال. ولذلك قال كسرى في كتابه، لما رآهم بتلك الفطنة والكيس، فقال: " ديوانه، أي شياطين أو جنون " . قالوا: وذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة. ويلحق بذلك الحساب فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في العدد بالضم والتفريق، يحتاج فيه إلى استدلال كثير، فيبقى متعوداً للاستدلال والنظر، وهو معنى العقل. والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلاً ما تشكرون.
الباب السادس من الكتاب الأول
في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقهوسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق فالمقدمة في الفكر الإنساني، الذي تميز به البشر عن الحيوانات واهتدى به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والنظر في معبوده وما جاءت به الرسل من عنده، فصار جميع الحيوانات في طاعته وملك قدرته وفضله به على كثير خلقه.
الفصل الأول
في أن العلم والتعليم طبيعي..في العمران البشري

وذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات، في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكن وغير ذلك. وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به، لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع الميء لذلك التعاون، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى، والعمل به واتباع صلاح أخراه. فهو مفكر في ذلك كله دائماً، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين، بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر. وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع. ثم لأجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع، فيكون الفكر راغباً في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى من سبقه بعلم، أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك، أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه، فيلقن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه. ثم إن فكره ونظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق، وينظر ما يعرض له لذاته واحداً بعد آخر، ويتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له، فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علماً مخصوصاً. وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشيء إلى تحصيل ذلك، فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التعليم من هذا. فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر. والله أعلم.
الفصل الثاني
في أن تعليم العلم من جملة الصنائعوذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه، إنما هم بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً. وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنا نجد فهم المسئلة الواحدة من الفن الواحد ووعيها، مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن، وبين من هو مبتدىء فيه، وبين العامي الذي لم يحصل علماً، وبين العالم النحرير. والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما، فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي. والملكات كلها جسمانية، سواء كانت في البدن أو في الدماغ، من الفكر وغيره، كالحساب. والجسمانيات كلها محسوسة، فتفتقر إلى التعليم. ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق وجيل. ويدل أيضاً على أن تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به، شأن الصنائع كلها، فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم، إذ لو كان من العلم لكان واحداً عند جميعهم. ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين والمتأخرين، وكذا أصول الفقه وكذا العربية، وكذا كل علم يتوجه إلى مطالعته، تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة، فدل على أنها صناعات في التعليم. والعلم واحد في نفسه. وإذا تقرر ذلك، فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب، باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه. وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر. وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس، واستبحر عمرانها، وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة. ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما، وما كان فيهما من الحضارة. فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلاً، كان في دولة الموحدين بمراكش مستفاداً منها. ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها، وقرب عهد انقراضها بمبدئها، فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل.

وبعد انقراض الدولة بمراكش، ارتحل إلى المشرق من إفريقية، القاضي أبو القاسم بن زيتون، لعهد أواسط المائة السابعة، فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب، فأخذ عنهم، ولقن تعليمهم. وحذق في العقليات والنقليات، ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن. وجاء على أثره من المشرق أبوعبد الله ابن شعيب الدكالي. كان ارتحل إليه من المغرب، فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقر بها. وكان تعليمه مفيداً، فأخذ عنهما أهل تونس. واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلاً بعد جيل، حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام، شارح ابن الحاجب، وتلميذه وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه. فإنه قرأ مع ابن عبد السلام، على مشيخة واحدة، وفي مجالس بأعيانها، وتلميذ ابن عبد السلام بتونس، وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد، إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع سندهم.
ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشد إلى المشرق وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب، وأخذ عنهم ولقن تعليمهم. وقرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة، وحذق في العقليات والنقليات. ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد، ونزل بجاية واتصل سند تعليمه في طلبتها. وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشد إلى تلميذه وأوطنها وبث طريقته فيها. وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقل من القليل.
وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان، ولم يتصل سند التعليم فيهم، فعسرعليهم حصول الملكة والحذق في العلوم. وأيسر طرق هذه الملكة قوة اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها. فتجد طالب العلم منهم، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية، سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم. ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل، تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده. وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ من سواهم، لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود من المكة العلمية وليس كذلك. ومما يشهد بذلك في المغرب، أصن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة، وهي بتونس خمس سنين. وهذه المدة بالمدارس، على المتعارف، هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها، فطال أمدها في المغرب لهذه العصور لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة، لا مما سوى ذلك. وأما أهل الأندلس، فذهب رسم التعليم من بينهم، وذهبت عنايتهم بالعلوم، لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين. ولم يبق من رسم العلم عندهم إلا فن العربية والأدب، اقتصروا عليه، وانحفظ سند تعليمة بينهم، فانحفظ بحفظه. وأما الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عيني. وأما العقليات فلا أثر ولا عين وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران، وتغلب العدو على عامتها، إلا قليلاً بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها. والله غالب على أمره.
وأما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه، بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة، لاتصال العمران الموفور واتصال السند فيه. وإن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت، مثل بغداد والبصرة والكوفة، إلا أن الله تعالى قد أدال منها بامصار أعظم من تلك. وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان، وما وراء النهر من المشرق، ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة وعمرانها متصلاً وسند التعليم بها قائماً. فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم، بل وفي سائر الصنائع. حتى إنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم، أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب، وأنهم أشد نباهة وأعظم كيساً بفطرتهم الأولى. وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك، ويولعون به، لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك.

وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة، اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول والسابع، فإن الأمزجة فيها منحرفة والنفوس على نسبتها كما مر. وإنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب، هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة، من العقل، المزيد، كما تقدم في الصنائع، ونزيده الآن شرحاً وتحقيقاً. وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا، وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم، وجميع تصرفاتهم. فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك، حتى كأنها حدود لا تتعدى. وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم. ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلاً جديداً، تستعد به لقبول صناعة أخرى، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف.
ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك، مثل أنهم يعلمون الحمر الإنسية والحيوانات العجم من الماشي والطائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها، ويعجز أهل المغرب عن فهمها فضلاً عن تعليمها. وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية، تزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس، إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات، فيزدادون بذلك كيساً لما يرجع إلى النفس من الاثار العلمية، فيظنه العامي تفاوتاً في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك. ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو، كيف تجد الحضري متحلياً بالذكاء ممتلئاً من الكيس، حتى إن البدوي ليظنة أنه قد فاتة في حقيقة إنسانيته وعقله، وليس كذلك. وما ذاك إلا لإجادته من ملكات الصنائع .والآداب، في العوائد والأحوال الحضرية، ما لا يعرفه البدوي. فلما امتلأ الحضري في الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها، ظن كل من قصرعن تلك الملكات أنها لكمال في عقله، وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وحبلتها عن فطرته، وليس كذلك. فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته، وإنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك فهو رونق الصنائع والتعليم، فإن لهما آثاراً ترجع إلى النفس كما قدمناه. وكذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم والصنائع أرسخ رتبة وأعلى قدماً، وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة، لما قدمناه في الفصل قبل هذا، ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب، وليس ذلك بصحيح فتفهمه. والله يزيد في الخلق ما يشاء، وهو إله السماوات والأرض.
الفصل الثالث
في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر الثمرانوتعظم الحضارة والسبب في ذلك أن تعليم العلم، كما قدمناه، من جملة الصنائع. وقد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف، تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم، انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع. ومن تشوف بفطرته إلى العلم، ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة، فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي، لفقدان الصنائع في أهل البدو كما قدمناه، ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة، شأن الصنائع في أهل البدو.

واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لما كثرعمرانها صدر الإسلام، واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم، واستنباط المسائل والفنون، حتى أربوا على المتقدمين وفاتوا المتأخرين. ولما تناقص عمرانها وابذعر سكانها، انطوى ذلك البساط، بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن، لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة، من بلاد مصر، لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليم العلم. وأكد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور بها، منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا. وذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية - سلطانهم على من يتخلفونة من ذريتهم، لما له عليهم من الرق أو الولاء، ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته. فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركاً لولدهم، ينظر عليها أو يصيب منها، مع ما فيهم غالباً من الجنوح إلى الخير والصلاح والتماس الأجور في المقاصد والأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك وعالمت الغلات والفوائد، وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جرايتهم منها، وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها. والله يخلق ما يشاء.
الفصل الرابع
في أصناف العلومالواقعة في العمران لهذا العهد اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار، تحصيلاً وتعليماً، هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطإ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي. ولا مجال فيها للعقل، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأ صول، لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة، لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي. إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر، بثبوت الحكم في الأصل، وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه. وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات، من الكتاب والسنة التي هي مشروعة لنا من الله ورسوله، وما يتعلق بذلك من العلوم التي تهيأوها للإفادة. ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي، الذي هو لسان الملة وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة، لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنمق أو بالإجماع أو بالإلحاق، فلا بد من النظر في الكتاب: ببيان ألفاظه أولاً، وهذا هوعلم التفسير، ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله، واختلاف روايات القراء في قراءته، وهذا هو علم القراءات، ثم بإسناد السنة إلى صاجها، والكلام في الرواة الناقلين لها، ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم، ويعمل ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك. وهذه هي علوم الحديث.

ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني، يفيذنا العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهذا هو أصول الفقه. وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى المكلفين، وهذا هو الفقه. ثم إن التكاليف: منها بدني، ومنها قلبي، وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد مما لا يعتقد. وهذه هي العقائد الإيمانية في الذات والصفات وأمور الحشر والنعيم والعذاب والقدر. والحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو علم الكلام. ثم النظر في القرآن والحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية، لأنه متوقف عليها وهي أصناف. فمنها علم اللغة وعلم النحو وعلم البيان وعلم الأدب، حسبما نتكلم عليها كلها. وهذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية وأهلها، وإن كانت كل ملة على الجملة لا بد فيها من مثل ذلك، فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث إنها علوم الشريعة المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشريعة المبلغ لها.
وأما على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها. وكل ماقبلها من علوم الملل فمهجورة، والنظر فيها محظور. فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد " . ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة، فغضب حتى تبين الغضب في وجهه، ثم قال: ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي.
ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها، في هذه الملة بما لامزيد عليه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها، وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون، فجاءت من ورا الغاية في الحسن والتنميق. وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التعليم. واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون. وقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم، بالمغرب، لتناقص العمران فيه وانقطاع سند العلم والتعليم، كما قدمناه في الفصل قبله. وما أدري ما فعل الله بالمشرق، والظن به نفاق العلم فيه واتصال التعليم في العلوم، وفي سائر الصنائع الضرورية والكمالية، لكثرة عمرانه والحضارة، ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم. والله سبحانه وتعالى هو الفعال لما يريد، وبيده التوفيق والإعانة.
الفصل الخامس
علوم القرآن من التفسير والقراءاتالقرآن هو كلام الله المنزل على نبيه، المكتوب بين دفتي المصحف. وهو متواتر بين الأمه، إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرق مختلفة في بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها، وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة، تواتر نقلها أيضاً بأدائها، واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير، فصارت هذه القراءات السبع أصولاً للقراءة. وربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع، إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل. وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها. وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء، وهو غير منضبط. وليس كذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. وأباه الأكثر، وقالوا بتواترها، وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها، كالمد والتسهيل، لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع وهو الصحيح.

ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها، إلى أن كتبت العلوم ودونت فكتبت فيما كتب من العلوم، وصارت صناعة مخصوصة وعلماً منفرداً، وتناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل، إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين، وكان معتنياً بهذا الفن من بين فنون القرآن، لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي عامر، واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته، فكان سهمه في ذلك وافراً. واختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية، فنفقت بها سوق القراءة، لما كان هو من أئمتها، وبما كان له من العناية بسائر العلوم عموماً وبالقراءات خصوصاً. فظهر لعهده أبو عمرو الداني وبلغ الغاية فيها، ووقفت عليه معرفتها. وانتهت إلى روايته أسانيدها، وتعمدت تآليفه فيها. وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها، واعتمدوا من بينها كتاب التيسير له.
ثم ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال أبو القاسم بن فيره من أهل شاطبة، فعمد إلى تهذيب ما دونه أبو عمرو وتلخيصه. فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف " أ ب ج د " ، على ترتيب أحكمه ليتيسرعليه ما قصده من الاختصار، وليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفن استيعاباً حسناً، وعني الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين، وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس.
وربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً، وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية، لأن فيه حروفاً كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط، كزيادة اليا في باييد وزيادة الألف في لا أذبحنه، ولا أوضعوا، والواو في جزاؤ الظالمين، وحذف الألفات في مواضع دون أخرى، وما رسم فيه من التا آت ممدوداً، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء، وغير ذلك. وقد مر تعليل هذا الرسم المصحفي عند الكلام في الخط. فلما جاءت هذه مخالفة لأوضاع الخط وقانونه، احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضاً عن كتبهم في العلوم. وانتهت بالمغرب إلى أبي عمرو الداني المذكور، فكتبت فيها كتباً، من أشهرها: كتاب المقنع، وأخذ به الناس وعولوا عليه. ونظمه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روي الراء، وولع الناس بحفظها. ثم كثر الخلاف في الرسم، في كلمات وحروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاج من موالي مجاهد، في كتبه، وهو من تلاميذ أبي عمرو الداني، والمشتهر بحمل علومه ورواية كتبه. ثم نقل بعده خلاف آخر، فنظم الخراز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافاً كثيراً، وعزاه لناقليه، واشتهرت بالمغرب، واقتصر الناس على حفظها. وهجروا بها كتب أبي وأبي عمرو والشاطبي في الرسم.
التفسيروأما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزل جملاً جملاً، وآيات آيات، لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع. ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخاً له. وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين لذلك كما قال تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرفه أصحابه، فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولاً عنه. كما علم من قوله تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح " ، أنها نعي النبي صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وتداول ذلك التابعون من بعدهم، ونقل ذلك عنهم. ولم يزل ذلك متناقلاً بين الصدر الأول والسلف، حتى صارت المعارف علوماً، ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين. وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثالهم من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.

ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب، فوضعت الدواوين في ذلك، بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب، فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن، لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التفسيرعلى صنفين: تفسير نقلي مستند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي. وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين. وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. فإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ! بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم، مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم، في أمثال هذه الأغراض، أخباراً موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملؤوا كتب التفسير بهذه المنقولات. وأصلها كما قلناه عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص، وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب أخر مشهور بالمشرق.
والصنف الآخر من التفسير، وهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول، إذ الأول هو المقصود بالذات. وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعات. نعم قد يكون في بعض التفاسير غالباً. ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفسير، كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق، إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد، فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة، حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة. فصار بذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة. وإذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية، محسناً للحجاج عنها، فلا جرم أنه مأمون من غوائله، فليغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان.
ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين، وهو شرف الدين الطيبي، من أهل توريز من عراق العجم، شرح فيه كتاب الزمخشري هذا، وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها. ويبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة، لا على ما يراه المعتزلة، فأحسن في ذلك ما شاء، مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة. وفوق كل ذي علم عليم.
الفصل السادس
علوم الحديث

وأما علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوعة، لأن منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه، وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفاً من الله بعباده وتخفيفاً عنهم، باعتبار مصالحهم التي تكفل الله لهم بها قال تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " . ومعرفة الناسخ والمنسوخ وإن كان عاماً للقرآن والحديث، إلا أن الذي في القرآن منه اندرج في تفاسيره، وبقي ما كان خاصاً بالحديث راجعاً إلى علومه، فإذا تعارض الخبران بالنفي والإثبات، وتعذر الجمع بينهما ببعض التآويل، وعلم تقدم أحدهما، تعين أن المتأخر ناسخ. وهو من أهم علوم الحديث وأصعبها. قال الزهري: " أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه " . وكان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة. ومن علوم الحديث النظر في الأسانيد، ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط، لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخباررسول الله صلى الله عليه وسلم فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن، وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضبط. وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة، ويكون لنا ذلك دليلاً على القبول أو الترك.
وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين، وتفاوتهم في ذلك وتميزهم فيه واحداً واحداً. وكذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها، بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الذي نقل عنه، وبسلامتها من العلل الموهنة لها، وتنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم بقبول الأعلى ورد الأسفل. ويختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن. ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة، مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب، وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. وبوبوا على كل واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة اللسان أو الوفاق. ثم النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة، وتفاوت رتبها، وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرد.
ثم اتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مفترق، وما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبه. وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة والتابعين معروفة عند أهل بلده، فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق، ومنهم بالشام ومصر. والجميع معروفون مشهورون في أعصارهم. وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة، لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك وسيد الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه، ثم أصحابه مثل الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وابن وهب وابن بكير والقعنبي ومحمد بن الحسن ومن بعدهم الإمام أحمد بن حنبل في آخرين من أمثالهم.
وكان علم الشريعة في مبدإ هذا الأمر نقلاً صرفاً، شمر لها لسلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها. وكتب مالك رحمه اللة كتاب الموطإ، أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه، ثم عني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيدها المختلفة. وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين، وقد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعدده باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره، فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين. واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب، بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث، فتكررت لذلك أحاديثه، حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة ألاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفه في كل باب.

ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى، فألف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منها. وجمع الطرق والأسانيد، وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. وقد استدرك الناس عليهما في ذلك. ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي، في السنن بأوسع من الصحيح، وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل، إما من الرتبة العالية في الأسانيد، وهو الصحيح، كما هو معروف، وإما من الذي دونه من الحسن وغيره، ليكون ذلك إماماً للسنة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة، وهي أمهات كتب الحديث في السنة، فإنها وإن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب. ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها هي علم الحديث، وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ، فيجعل فناً برأسه وكذا الغريب. وللناس فيه تآليف مشهورة، ثم المؤتلف والمختلف. وقد ألف الناس في علوم الحديث وأكثروا. ومن فحول علمائه وأئمتهم أبو عبد الله الحاكم، وتآليفه فيه مشهورة، وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه. وأشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح، كان لعهد أوئل المائة السابعة، وتلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك. والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما تحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة. وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدمين، إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة، على تعددهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم، لم يكونوا ليغفلوا شيئاً من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر، هذا بعيد عنهم. وإنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمهات المكتوبة، وضبطها بالرواية عن مصنفيها، والنظر في أسانيدها إلى مؤلفها، وعرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط والأحكام، لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمس إلا في القليل.
فأما البخاري، وهو أعلاها رتبة، فاستصعب الناس شرحه واستغلقوا منحاه، من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق، ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم. ولذلك يحتاح إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه، لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق، ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب. وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديث، في أبواب كثيرة، بحسب معانيه وأخلافها. ومن شرحه، ولم يستوف هذا فيه، فلم يوف حق الشرح: كابن بطال وابن المهذب وابن التين ونحوهم. ولقد سمعت كثيراً من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة، يعنون أن أحداً من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من بهذا الاعتبار. وأما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به، وأكبوا عليه وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري، من غير الصحيح، مما لم يكن على شرطه، وأكثر ما وقع له في التراجم. وأملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحاً، وسماه المعلم بفوائد مسلم. اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه. ثم أكمله القاضي عياض من بعده وتممه، وسماه إكمال المعلم. وتلاهما محيي الدين النووي، بشرح استوفى ما في الكتابين، وزاد عليهما، فجاء شرحاً وافياً.
وأما كتب السنن الأخرى وفيها معظم مآخذ الفقهاء، فأكثر شرحها في كتب الفقه، إلا ما يختص بعلم الحديث، فكتب الناس عليها، واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاتها، والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها في السنة.
واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد، بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها، تنزلها أئمة الحديث وجهابذته وعرفوها. ولم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل، ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها، بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه. ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، حين ورد على بغداد، وقصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: " لا أعرف هذه، ولكن حدثني فلان!. ثم أتى بجميع تلك الاحاديث على الوضع الصحيح، ورد كل متن إلى سنده، وأقروا له بالامامة.

واعلم أيضاً أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال فابو حنيفة رضي اللة تعالى عنه، يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها، ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها، وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده خمسون ألف حديث، ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك. وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين، إلى ان منهم من كان قليل البضاعة في الحديث، فلهذا قلت! روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة. ومن كان قليل البضاعة من الحديث، فيتعين عليه طلبه وروايتة والجد والتشمير في ذلك لياخذ الدين عن أصول صحيحة، ويتلقى الاحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل الرواية، لأجل المطاعن التي تعترضه فيها والعلل التي تعرض في طرقها، سيما والجرح مقدم عند الأكثر، فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الاخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد. ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق.
هذا مع أن! أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق، لأن المدينة دار الهجرة وما8 وى الصحابة، ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثروالامام أبوحنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل، وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي. وقلت من أجلها روايته فقل حديثه. لا أنه ترك رواية الحديث متعمدا، فحاشاه من ذلك. ويدل على أنه من كبإر المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم، والتعويل عليه واعتباره رداً وقبولا. واما غيره من المحدثين وهم الجمهور، فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم، والكل عن اجتهاد. وقد توسع اصحابه من بعده في الشروط وكثرت روايتهم.
وروى الطحاوي فاكثر وكتب مسنده، وهو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين، لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه. وشروط الطحاوي في غير متفق عليها، كالرواية عن المستور الحال وغيره، فلهذا قدم الصحيحان، بل وكتب السنن المعروفة قدمت عليه لتأخر شروطه عن شروطهم. ومن أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفقق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك ، فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم، والتماس المخارج الصحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم بما في حقائق الآمور.
الفصل السابع
علم الفقه وما يتبعه من الفرائضالفقة هو معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة ، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقة. وكان السلف يستخرجونها من تلك الادلة على اختلاف فيها بينهم. ولا بد من وقوعه ضرورة. فإن الأدلة من النصوص وهي بلغة العرب، وفي اقتضا آت ألفاظها بكثير من معانيها خصوصاً الأحكام الشرعية اختلاف بينهم معروف. وايضا فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها، فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضا. فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها، وايضاً فالوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص. وما كان منها غير ظاهر في النصوص فيحمل على منصوص لمشابهة بينهما، وهذه كلها مثارات للخلاف ضرورية الوقوع. ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم.
ثم إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك

مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالاته بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منهم من عليتهم، وكانوا يسمون لذلك القراء، أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. وبقي الأمر كذلك صدر الملة. ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب، وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعةً وعلماً فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء. وانقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرأي والقياس، وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث، وهم أهل الحجاز. وكان الحديث قليلاً في أهل العراق كما قدمناه، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، فلذلك قيل أهل الرأي. ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة، وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشافعي من بعده.
ثم أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به. وهم الظاهرية. وجعلوا مدارك الشرع كلها منحصرة في النصوص والإجماع وردوا القياس الجلي والعلة المنصوصة إلى النص، لأن النص على العلة نص على الحكم في جميع محالها. وكان إمام هذا المذهب داود بن علي وابنه وأصحابهما. وكانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة. وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلها أصول واهية. وشذ بمثل ذلك الخوارج. ولم يحفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح. فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشي، منها إلا في مواطنهم. فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن، والخوارج كذلك. ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة. ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب المجلدة. وربما يعكف كثير من الطالبين، ممن تكلف بانتحال مذهبهم، على تلك الكتب، يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم، فلا يحلو بطائل، ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه. وربما عد بهذه النحلة من أهل البدع بتلقيه العلم من الكتب، من غير مفتاح المعلمين.
وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس، على علو رتبته في حفظ الحديث، وصار إلى مذهب أهل الظاهر، ومهر فيه، باجتهاد زعمه في أقوالهم. وخالف إمامهم داود وتعرض للكثير من أئمة المسلمين، فنقم الناس ذلك عليه، وأوسعوا مذهبه استهجاناً وإنكاراً، وتلقوا كتبه بالإغفال والترك، حتى إنها يحظر بيعها بالأسواق، وربما تمزق في بعض الأحيان. ولم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز.
فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ومقامه في الفقه لا يلحق، شهد له بذلك أهل جلدته وخصوصاً مالك والشافعي.
وأما أهل الحجاز فكان إمامهم مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى. واختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره، وهو عمل أهل المدينة. لأنه رأى أنهم، فيما يتفقون عليه، من فعل أو ترك، متابعون لمن قبلهم، ضرورة لدينهم واقتدائهم، وهكذا إلى الجيل المباشرين لفعل النبي صلى الله عليه وسلم الآخذين ذلك عنه. وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية. وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره، لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، بل هو شامل للأمة.
واعلم أن الإجماع إنما هو الإنفاق على الأمر الديني عن اجتهاد. ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى، وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله وسلامه عليه. وضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعم الملة،. ذكرت في باب الإجماع لأنها أليق الأبواب بها، من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها وبين الإجماع. إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلة، واتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. ولو ذكرت المسئلة في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره، أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق بها.

ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحمهما الله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختص بمذهب. وخالف مالكاً رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. وجاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. وكان من علية المحدثين. وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث، فاختصوا بمذهب آخر. ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم. وسد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم. ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرحوا بالعجز والإعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كل من اختص به من المقلدين. وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب. ولم يبق إلا نقل مذاهبهم. وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية، لا محصول اليوم للفقه غير هذا.
ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليلده. وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة. فأما أحمد بن حنبل، فمقلدوه قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية، وللاخبار بعضها ببعض. وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظاً للسنة ورواية الحديث وميلاً بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن، وكان لهم ببغداد صولة وكثرة، حتى كانوا يتواقعون مع الشيعة في نواحيها. وعظمت الفتنة من أجل ذلك، ثم انقطع ذلك عند استيلاء التتر عليها. ولم يراجع وصارت كثرتهم بالشام. وأما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصين، وما وراء النهر وبلاد العجم كلها. ولما كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام، وكان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس، فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية وحسنت مباحثهم في الخلافيات، وجاؤوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة وهي بين أيدي الناس. وبالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي ابن العربي وأبو الوليد الباجي في رحلتهما.
وأما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها، وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار. وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم. ثم درس ذلك كله بدروس المشرق وأقطاره. وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر، أخذ عنه جماعة منهم. وكان من تلميذه بها: البويطي والمزني وغيرهم وكان بها من المالكية جماعة من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم وابن المواز وغيرهم. ثم الحارث بن مسكين وبنوه، ثم القاضي أبو إسحق بن شعبان وأصحابه.
ثم انقرض فقه أهل السنة والجماعة من مصر بظهور دولة الرافضة، وتداول بها فقه أهل البيت وكان من سواهم يتلاشوا ويذهبوا. وارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد، آخر المائة الرابعة، على ما أعلم، من الحاجة والتقليب في المعاش. فتأذن خلفاء العبيديين بإكرامه، وإظهار فضله نعياً على بني العباس في اطراح مثل هذا الإمام، والاغتباط به. فنفقت سوق المالكية بمصر قليلاً، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب، فذهب منها فقه أهل البيت وعاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم ورجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام، فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه. واشتهر فيهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام وعز الدين بن عبد السلام أيضاً، ثم ابن الرفعة بمصر وتقي الدين بن دقيق العيد، ثم تقي الدين السبكي بعدهما. إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد، وهو سراج الدين البلقيني، فهو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا بل كبير العلماء من أهل العصر.

وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس. وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم. والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة. وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه دون غيره، ممن لم تصل إليهم طريقته. وأيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. ولما صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه، بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم. وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة، يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة، واتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا.

وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد. وأهل المغرب جميعاً مقلدون لمالك رحمه الله. وقد كان تلاميذه افترقوا بمصر والعراق، فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويز منداد وابن اللبان والقاضي أبو بكر الأبهري، والقاضي أبو الحسين بن القصار والقاضي عبد الوهاب ومن بعدهم. وكان بمصر ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم والحارث بن مسكين وطبقتهم. ورحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي، ولقي مالكاً. وروى عنه كتاب الموطأ، وكان من جملة أصحابه. ورحل بعده عبد الملك بن حبيب، فأخذ عن ابن القاسم وطبقته، وبث مذهب مالك في الأندلس ودون فيه كتاب الواضحة. ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية. ورحل من إفريقية أسد بن الفرات، فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً، ثم انتقل إلى مذهب مالك. وكتب علي بن القاسم في سائر أبواب الفقه، وجاء إلى القيروان بكتابه وسمي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه، وعارضه بمسائل الأسدية، فرجع عن كثير منها. وكتب سحنون مسائلها ودونها وأثبت ما رجع عنه منها، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد أن يمحو من أسديته ما رجع عنه، وأن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك، فترك الناس كتابه واتبعوا مدونة سحنون، على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمى المدونة والمختلطة. وعكف أهل القيروان على هذه المدونة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبية. ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة والمختلطة في كتابه المسمى بالمختصر ولخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب، واعتمده المشيخة من أهل إفريقية واخذوا به، وتركوا ما سواه. وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية وهجروا الواضحة وما سواها. ولم يزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الامهات بالشرح والإيضاح والجمع ، فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا، مثل ابن رشد وأمثاله. وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الامهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر،. فاشتمل عين جميع أقوال المذاهب، وفرع الامهات كلها في هذا الكتاب. ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة، وزخرت بحار المذهب المالكي في الآفقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان. ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك، أ إلى ان جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب، لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسئلة، فجاء كالبرنامج للمذهب. وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين، وابن المبشر وابن اللهيت وابن رشيق وابن شاس. وكانت بالإسكندرية في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله. ولم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب، لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين، وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية. ولما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة، عكف عليه الكثير من طلبة المغرب، وخصوصا أهل بجاية، لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب. فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك، فجاء به وانتشر بقطر بجاية في تلميذه، ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية. وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه، لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. وقد شرحه جماعة من شيوخهم كابن عبد السلام وابن رشد وابن هارون، وكلهم من مشيخة أهل تونس، وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام، وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثامن
علم الفرائض

وأما علم الفرائض، وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة، من كم تصح، باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها. وذلك إذا هلك أحد الورثة وأنكرت سهامه على فروض ورثته، فإنه حينئذ يحتاج إلى حسبان يصحح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعاً في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة. وقد تكون هذه المناسخات أكثر من واحد واثنين، وتتعدد كذلك بعدد أكثر. وبقدر ما تتعدد تحتاج إلى الحسبان، وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهيبن، مثل أن يقر بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ. وينظر مبلغ السهام، ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة. وكل ذلك يحتاج إلى الحسبان، فأفردوا هذا الباب من أبواب الفقه، لما اجتمع فيه إلى الفقه من الحسبان. وكان غالبا فيه، وجعلوه فناً مفرداً. وللناس فيه تآليف كثيرة، أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت، ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي ومن متأخري إفريقية ابن النمر الطرابلسي وأمثالهم.
وأما الشافعية والحنفية والحنابلة، فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة، شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه والحساب، وخصوصأ أبا المعالي رضي الله تعالى عنه وأمثاله من أهل المذهب. وهو فن شريف لجمعه بين المعقول والمنقول، والوصول به إلى الحقوق في الوراثات، بوجوه صحيحة يقينية، عندما تجهل الحظوظ وتشكل على القاسمين. وللعلماء من أهل الأمصار بها عناية. ومن المصنفين من يحتاج فيها إلى الغلو في الحساب، وفرض المسائل التي تحتاج إلى استخراج المجهولات من فنون الحساب: كالجبر والمقابلة والتصرف في الجذور وأمثال ذلك، فيملؤون بها تآليفهم. وهو وإن لم يكن متداولأ بين الناس، ولا يفيد فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته وقلة وقوعه، فهو يفيد المران وتحصيل الملكة في المتداول على أكمل الوجوه.
وقد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله، بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه، ان الفرائض ثلث العلم وأنها أول ما ينسى، وفي رواية: نصف العلم، خرجه أبو نعيم الحافظ. واحتج به أهل الفرائض، بناء على أن المراد بالفرائض فروض الوراثة. والذي يظهر أن هذا المحمل بعيد، وأن المراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات والعادات والمواريث وغيرها. وبهذا المعنى يصح فيها النصفية والثلثية.
وأما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى علوم الشريعة كلها. ويعني هذا المراد أن حمل لفظ الفرائض على هذا الفن المخصوص، أوتخصيصه بفروض الوراثة، إنما هو اصطلاح ناشىء للفقهاء عند حدوث الفنون والاصطلاحات. ولم يكن، صدر الإسلام، يطلق هذا اللفظ إلا على عمومه مشتقا من الفرض الذي هو، لغة، التقدير أو القطع. وما كان المراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه، وهي حقيقته الشرعية، فلا ينبغي أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل التاسع
أصول الفقهوما يتعلق به من الجدل والخلافيات إعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدراً وأكثرها فائدة، وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف. وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن، ثم السنة المبينة له. فعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأحكام تتلقى منه، بما يوحى إليه من القرآن ويبينه بقوله وفعله، بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر. وأما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها، قولا أو فعلا، بالنقل الصحيح، الذي يغلب على الظن صدقه. وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار، ثم تنزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت، مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة، فصار الإجماغ دليلاً ثابتاً في الشرعيات.

ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة، فإذا هم يقيسون الأشباه منها بالأشباه. ويناظرون الأمثال بالامثال بإجماع منهم، وتسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإن كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه، لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسموها بما ثبت، وألحقوها بما نص عليه، بشروط في ذلك الإلحاق، تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظن ان حكم الله تعالى فيهما واحد، وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه، وهو القياس، وهو رابع الأدلة.
وأتفق جمهور العلماء على أن هذه هي اصول الأدلة، وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس، إلا أنه شذوذ. وألحق بعضهم بهذه الأدلة الأربعة أدلة اخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها، لضعف مداركها وشذوذ القول فيها. فكان من أول مباحث هذا الفن النظر في كون هذه أدلة. فأما الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه، والتواتر في نقله ، فلم يبق فيه مجال للاحتمال. وأما السنة وما نقل إلينا منها، فالإجماع على وجوب العمل بما يصح منها كما قلناه، معتضدا بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه، من إنفاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام والشرائع أمراً وناهياً. واما الإجماع فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للآمة. وأما القياس فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه. هذه اصول الآدلة. ثم إن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر، بالنظر في طرق النقل وعدالة الناقلين، لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه، الذي هو مناط وجوب العمل بالخبر. وهذه أيضاً من قواعد الفن.
وبلحق بذلك، عند التعارض بين الخبرين، وطلب المتقدم منهما، معرفة الناسخ والمنسوخ، وهي من فصوله أيضاً وأبوابه. ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالات الألفاظ ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق، من تراكيب الكلام على الإطلاق، يتوقف طى معرفة الدلالات الوضعية مفردةً ومركبةً. والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان. وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علومأ ولا قوانين،ولم يكن الفقه حينئذ! يحتاج إليها، لأنها جبلة وملكة. فلما فسدت الملكة في لسان العرب، قيدها الجهابذة المتجردون لذلك، بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة، وصارت علومأ يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام، وهي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة بين تراكيب الكلام وهو الفقه.
ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصل أهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك،، وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أن اللغة لا تثبت قياساً، والمشترك لا يراد به معنياً، معاً، والواو لا تقتضي الترتيب، والعام إذا أخرجت أفراد الخاص منه هل يبقى حجة فيما عداها، والأمر للوجوب أو الندب وللفور أو التراخي، والنهي يقتضي الفساد أو الصحة، والمطلق هل يحمل على المقيد، والنص على العلة كاف في التعدد أم لا؟ وأمثال هذه. فكانت كلها من قواعد هذا الفن. ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية. ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن، لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاسس ويماثل من الأحكام وتنقيح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علق به في الأصل، من تبين أوصاف ذلك المحل، أو وجود ذلك الوصف في الفرع، من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه إلى مسائل أخرى من توابع ذلك، كلها قواعد لهذا الفن.

واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً، فعنهم أخذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها، لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم. فلما انقرض السلف، وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل، احتاح الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه. وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالتة المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلمون أيضاً كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع، لكثرة الأمثلة منها والشواهد، وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. والمتكلمون يجردون صور تلك المسائهل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم، فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن.
وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم، فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده، وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه. وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون، كتاب البرهان لإمام الحرمين، والمستصفى للغزالي، وهما من الأشعرية. وكتاب العهد لعبد الجبار، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة، قواعد هذا الفن وأركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكفمين، المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والأمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريغ المسائل. وأما كتاب المحصول، فاختصره تلميذ الإمام مثل سراج الدين الأموي في كتاب التحصيل، وتاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل. واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات. وكذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج. وعني المبتدئون بهذين الكتابين، وشرحهما كثير من الناس. وأما كتاب الإحكام للآمدي وهو أكثر تحقيقاً في المسائل، فلخصه أبو عمرو بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير. ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه. وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات.
وأما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثيراً، وكان من أحسن كتابة المتقدمين فيها تأليف أبي زيد الدبوسي، وأحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم، وهو مستوعب. وجاء ابن الساعاتي من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب الأحكام وكتاب البزدوي في الطريقتين، وسمى كتابه بالبدائع، فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها، وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونة قراءة وبحثاً. وأولع كثيرمن علماء العجم بشرحه. والحال على ذلك لهذا العهد.
هفه حقيقة هذا الفن وتعيين موضوعاته وتعديد التآليف المشهورة لهذا العهد فيه.
والله ينفعنا بالعلم، ويجعلنا من أهله، بمنه وكرمه، إنه على كل شي قدير.
الخلافيات

وأما الخلافيات فاعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين، باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافاً لا بد من وقوعه لما قدمناه. واتسع ذلك في الملة اتساعاً عظيماً، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم. ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكان من حسن الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم، ومنعوا من تقليد سواهم، لذهاب الاجتهاد، لصعوبته وتشعب العلوم التي هي مواده، باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة، وأجري الخلاف بين المتمسكين بها، والأخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية.
وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه، تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة، يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده وتمسك به. وأجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه: فتارة يكون الخلاف بين الشافعي ومالك، وأبو حنيفة يوافق أحدهما، وتارة يكون مالك وأبي حنيفة، والشافعي يوافق أحدهما، وتارة بين الشافعي وأبي حنيفة، ومالك يوافق أحدهما. وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة، ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته.
وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم، ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه. وتآليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية، لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت، فهم لذلك أهل النظر والبحث. وأما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر. وأيضاً فأكثرهم أهل المغرب، وهم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل. وللغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ، ولأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص جلبه من المشرق، ولأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة، ولابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدله، وقد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي، مدرجاً في كل مسألة منه ما ينبني عليها من الخلافيات.
الجدالوأما الجدل وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم، فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج. ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلاً، وكيف يكون مخصوصاً منقطعاً، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت لخصمه الكلام والاستدلال. ولذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد، من الحدود والآداب، في الاستدلال، التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره. وهي طريقتان: طريقة البزدوي، وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال، وطريقة العميدي، وهي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان، وأكثره استدلالاً. وهو من المناحي الحسنة، والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. وإذا اعتبرتا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي والسوفسطائي. إلا أن صور الأدلة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. وهذا العميدي هو أول من كتب فيها ونسبت الطريقة إليه. وضع الكتاب المسمى بالإرشاد مختصراً، وتبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي وغيره، جاؤوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطريقة التآليف. وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الأمصار الإسلامية. وهي مع ذلك كمالية وليست ضرورية. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل العاشر
علم الكلام

وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية، بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة. وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد. فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق والمآخذ، ثم نرجع إلى تحقيق علم الكلام وفيما ينظر ونشير إلى حدوثه في الملة، وما دعا إلى وضعه فنقول: إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونه. وكل واحد من تلك الأسباب حادث أيضاً، فلا بد له من أسباب أخرى. ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها، لا إله إلا هو سبحانه.
وتلك الأسباب في ارتقائها تتضاعف فتنفسح طولاً وعرضاً، ويحار العقل في إدراكها وتعديدها. فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط، سيما الأفعال البشرية والحيوانية، فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود والإدارات، إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته والقصد إليه. والقصودات والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة، يتلو بعضها بعضاً. وتلك التصورات هي أسباب قصد الفعل. وقد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى، وكل ما يقع في النفس من التصورات فمجهول سببه، إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية، ولا على ترتيبها. إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر، يتبع بعضها بعضاً، والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها. وإنما يحيط علماً في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة، وتقع في مداركها على نظام وترتيب، لأن الطبيعة محصورة للنفس وتحت طورها. وأما التصورات فنطاقها أوسع من النفس، لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس، فلا تكاد النفس تدرك الكثير منها فضلاً عن الإحاطة. وتأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب والوقوف معها، فإنه واد يهيم فيه الفكر ولا يخلو منه بطائل، ولا يظفر بحقيقة. قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. وربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمه، وأصبح من الضالين الهالكين. نعوذ بالله من الحرمان والخسران المبين.
ولا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه في قدرتك أو اختيارك، بل هو لون يحصل للنفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحرزنا منها، فلنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة. وأيضاً فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول، لأنها إنما يوقف عليها بالعادة، وقضية الاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر. وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة، " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " ، فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها وإلغائها جملة، والتوجه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها، لترسخ صبغة التوحيد في النفس، على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا، وطرق سعادتنا، لاطلاعه على ما وراء الحس.

قال صلى الله عليه وسلم: " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " . فإن وقف عند تلك الأسباب، فقد انقطع وحقت عليه كلمة الكفر، وإن سبح في بحر النظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحداً بعد واحد، فأنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب وأمرنا بالتوحيد المطلق. " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد " . ولا تثقن بما يزعم لك الفكر مني أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسفه رايه في ذلك. واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه أنه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحق من ورائه. ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الأعمى أيضاً يسقط من الوجود عنده صنف المسوعات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة، لما أقروا به. لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم، ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق، لوجدناه منكراً للمعقولات وساقطة لديه بالكلية. فإذا علمت هذا فلعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقاً من ذلك، والله من ورائهم محيط. فاتهم إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به في اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك، لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك. وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، يل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال.
ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن للعقل حد يقف عنده ولا يتعدى طوره، حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته، فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه. وتفطن من هذا الغلط من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا، وقصور فهمه واضمحلال رأيه، فقد تبين لك الحق من ذلك. وإذا تبين ذلك، فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا، خرجت عن أن تكون مدركة، فيضل العقل في بيداء الأوهام، ويحار وينقطع. فإذا: التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيراتها، وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها، إذ لا فاعل غيره. وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته، وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه لا غير.

وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين: " العجز عن الإدراك إدراك " . ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط، الذي هو تصديق حكمي، فإن ذلك من حديث النفس. وإنما الكمال فيه حصول صفة منه، تتكيف بها النفس. كما أن المطلوب من الأعمال والعبادات أيضاً حصول ملكة الطاعة والانقياد، وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود، حتى ينقلب المريد السالك ربانياً. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتصاف. وشرحه أن كثيراً من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين، قربة إلي الله تعالى، مندوب إليها، ويقول بذلك ويعترف به ويذكر مأخذه من الشريعة، وهو لو رأى يتيماً أو مسكيناً من أبناء المستضعفين، لفر عنه، واستنكف أن باشره، فضلاً عن التمسيح عليه للرحمة، وما بعد ذاك من مقامات العطف والحنو والصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم، ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف. ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الاؤل، وهو الاتصاف بالرحمة وحصول ملكتها. فمتى رأى يتيماً أو مسكيناً بادر إليه ومسح عليه والتمس الثواب في الشفقة عليه، لا يكاد يصبر عن ذلك، ولو دفع عنه. ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده. وكذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به، والعلم الحاصل عن الاتصاف ضرورة، هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف. وليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم، حتى يقع العمل ويتكرر مراراً غير منحصرة، فترسخ الملكة ويحصل الاتصاف والتحقيق، وبجيء العلم الثاني النافع في الآخرة. فإن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى والنفع، وهذا علم أكثر النظار، والمطلوب إنما هو العلم الحالي الناشىء عن العادة.
واعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا: فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف، وما طلب عمله من العبادات، فالكمال فيها في حصول الاتصاف والتحقيق بها. ثم إن الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة. قال صلى الله عليه وسلم: " في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة " ، فإن الصلاة صارت له صفة وحالاً يجد فيها منتهى لذته وقرة عينه، وأين هذا من صلاة الناس ومن لهم بها؟ " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون " اللهم وفقنا، " واهدنا الصراط المستقيم: صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين " .
فقد تبين لك من جميع ما قررناه، أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس، ينشأ عنها علم اضطراري للنفس، هو التوحيد، وهو العقيدة الإيمانية، وهو الذي تحصل به السعادة، وأن ذلك سواء في التكاليف القلبية والبدنية. ويتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف كلها وينبوعها، هو بهذه المثابة وأنه ذو مراتب: أولها التصديق القلبي الموافق للسان، وأعلاها حصول كيفية، من ذلك الاعتقاد القلبي، وما يتبعه من العمل، مستولية على القلب، فيستتبع الجوارح. وتندرج في طاعتها جميع التصرفات، حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. وهذا أرفع مراتب الإيمان، وهو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة. إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين. قال صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " . وفي حديث هرقل، لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، فقال في أصحابه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا! قال وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ومعناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها، شأن الملكات إذا استقرت، فإنها تحصل بمثابة الجبلة والفطرة. وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان، وهي في المرتبة الثانية من العصمة. لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوباً سابقاً، وهذه حاصلة للمؤمنين حصولاً تابعاً لأعمالهم وتصديقهم. فبهذه الملكة ورسوخها، يقع التفاوت في الإيمان، كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف.

وفي تراجم البخاري رضي الله عنه، في باب الإيمان، كثير منه، مثل: " أن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص، وأن الصلاة والصيام من الإيمان، وأن تطوع رمضان من الإيمان، والحياء من الإيمان " . والمراد بهذا كله الإيمان الكامل، الذي أشرنا إليه وإلى ملكته، وهو فعلي. وأما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء، وحمله على التصديق منع من التفاوت، كما قال أئمة المتكلمين، ومن اعتبر أواخر الأسماء، وحمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت. وليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق، إذ التصديق موجود في جميع رتبه، لأنه أول ما يطلق عليه اسم الإيمان، وهو المخلص من عهدة الكفر، والفيصل بين الكافر والمؤمن، فلا يجزي أقل منه. وهو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت، وإنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه، فافهم.
واعلم أن الشارع وصف لنا هذا الإيمان، الذي في المرتبة الأولى، الذي هو تصديق، وعين أموراً مخصوصة، كلفنا التصديق بها بقلوبنا، واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا، وهي العقائد التي تقررت في الدين. قال صلى الله عليه وسلم، حين سئل عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر: خيره وشره " .
وهذه هي العقائد الإيمانية المقررة في علم الكلام. ولنشر إليها مجملة لتتبين لك حقيقة هذا الفن وكيفية حدوثه، فنقول: اعلم أن الشارع لما أمرنا بالإيمان بهذا الخالق، الذي رد الأفعال كلها إليه، وأفرده بها كما قدمناه، وعرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا، لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود، إذ ذلك متعذر على إدراكنا ومن فوق طورنا. فكلفنا: أولاً، اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين، وإلا لما صح أنه خالق لهم، لعدم الفارق على هذا التقدير، ثم تنزيهه عن صفات النقص، وإلا لشابه المخلوقين، ثم توحيده بالاتحاد، وإلا لم يتم الخلق للتمانع، ثم اعتقاد أنه عالم قادر، فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الإيجاد والخلق، ومريد وإلا لم يخصص شيء من المخلوقات، ومقدر لكل كائن، وإلا فالإرادة حادثة. وأنه يعيدنا بعد الموت تكميلاً لعنايته بالإيجاد، ولو كان للغناء الصرف كان عبثاً، فهو للبقاء السرمدي بعد الموت. ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد، لاختلاف أحواله بالشقاء والسعادة، وعدم معرفتنا بذلك، وتمام لطفه بنا في الإنباء بذلك، وبيان الطريقين. وأن الجنة للنعيم وجهنم للعذاب. هذه أمهات العقائد الإيمانية، معللة بأدلتها العقلية، وأدلتها من الكتاب والسنة كثيرة. وعن تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققها الأئمة، إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد، أكثر مثارها من الآي المتشابهة، فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل. فحدث بذلك علم الكلام.

ولنبين لك تفصيل هذا المجمل. وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود، بالتنزيه المطلق، الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها، فوجب الإيمان بها. ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي آخرى قليلة توهم التشبيه، مرة في الذات وأخرى في الصفات. فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه. وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها، ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول الكثير منهم: اقرأوها كما جاءت، أي آمنوا بأنها من عند الله. ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها، لجواز أن يكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له. وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات، وتوغلوا في التشبيه: ففريق شبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه، عملاً بظواهر وردت بذلك، فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق، لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار. وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق، التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة، أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية، وجمع بين الدليلين بتأويلها. ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك بدافع عنهم، لأنه قول متناقض، وجمع بين نفي وإثبات: إن كانا لمعقولية واحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة، ففد وافقونا في التنزيه، ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسماً من أسمائه. ويتوقف مثله على الإذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات، كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التجسيم، فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات، جهة لا كالجهات، نزول لا كالنزول، يعنون من الأجسام.
واندفع ذلك بما اندفع به الأول، ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي، لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها، مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن. ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له، وفي كتاب الحافظ بن عبد البر وغيرهم، فإنهم يحومون على هذا المعنى. ولا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم. ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء، وألف المتكلمون في التنزيه، حدثت بدعة المعتزلة، في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب، فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة، زائدة على أحكامها، لما يلزم ذلك من تعدد القديم بزعمهم، وهو مردود بأن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها، وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام. وهو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ، وإنما هو إدراك للمسموع أو المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر، ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس، فقضوا بأن القرآن مخلوق، وذلك بدعة صرح السلف بخلافها وعظم ضرر هذه البدعة، ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم، فحمل الناس عليها. وخالفهم أئمة السلف، فاستحل لخلافهم أيسار كثير منهم ودماؤهم.

وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد، دفعاً في صدور هذه البدع. وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين، فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه. وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف. وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل. ورد على المبتدعة في ذلك كله، وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح، وكمل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب. وألحق بذلك الكلام في الإمامة، لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية، في قولهم إنها من عقائد الإيمان. وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة فيها لمن هي له، وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية، ولا تلحق بالعقائد، فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعة علم الكلام: إما لما فيه من المناظرة على البدع، وهي كلام صرف، وليست براجعة إلى عمل، وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي. وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفى طريقته من بعده تلميذه، كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها ووضع المقدمات العقلية، التي تتوقف عليها الأدلة، والأنظار، وذلك مثل: إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها، لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان، على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة، لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشىء، فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك.
ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي، فأملى في الطريقة كتاب الشامل وأوسع القول فيه. ثم لخصه في كتاب الإرشاد واتخذه الناس إماماً لعقائدهم. ثم انتشر من بعد ذلك علم المنطق في الملة.
وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية، بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، يسبر به الأدلة منها كما يسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين، فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدتهم إلى ذلك. وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها، ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله، كما صار إليه القاضي، فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى، وتسمى طريقة المتأخرين. وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية، وجعلوهم من خصوم العقائد، لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله، وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم. ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحداً، من اشتباه المسائل فيهما.

واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته، وهو نوع استدلالهم غالباً. فالجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات، هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم، وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجود. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فروضها صحيحة من الشرع، من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية، فترفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد. وإذا تأملت حال الفن في حدوثه، وكيف تدرج كلام الناس فيه صدراً بعد صدر، وكلهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلة، علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن، وأنه لا يعدوه.
ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين، والتبست مسائل الكلام، بمسائل الفلسفة، بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخر. ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع، ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تأليفهم. إلا أن هذه الطريقة، قد يعنى بها بعض طلبة العلم، للاطلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج، لوفور ذلك فيها. وأما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام، فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين، وأصلها كتاب الإرشاد، وما حذا حذوه.
ومن أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده، فعليه بكتب الغزالي والإمام ابن الخطيب، فإنها وإن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم، فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع، ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم. وعلى الجملة، فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأما الآن، فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارىء عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته. ولقد سئل الجنيد رحمه الله، عن قوم مر بهم من المتكلمين يفيضون فيه، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص؟ فقال: " نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب " . لكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة، إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها. والله ولي المؤمنين.
الفصل الحادي عشر
في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكرأعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر وآثارها والمكونات الثلاثة عنها، التي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلها متعلقات القدرة الإلهية وعلى أفعال صادرة في الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتب، وهي الأفعال البشرية، ومنها غير منتظم ولامرتب، وهي أفعال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع ، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشيا، فلأجل الترتيب بين الحوادث لا بد من التفطن بسببه أو علته أو شرطه، وهي على الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلا ثانياً عنها ولا يمكن إيقاع المتقدم متأخراً ولا المتأخر متقدماً. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخراً عنه، وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادىء في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، وشرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي انتهى إليه الفكر، فكان أول عمله. ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته مثلاً، لو فكر في إيجاد سقف يكنه انتقل بذهنه إلى الحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر ثم يبدأ في العمل بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف، وهو آخر العمل.

وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل، فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض. ثم يشرع في فعلها. وأول هذا الفكر هو المسبب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأولها في العمل هو المسبب الأول وهو آخرها في الفكر. ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الانتظام في الأفعال البشرية.
وأما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب فيما يفعل، إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا بالفكر. ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، وغير المنتظمة إنما هي تبع لها، اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها فكانت مسخرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث، بما فيه، فكان كله في طاعته وتسخره. وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى: " إني جاعل في الأرض خليفة " فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته. فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشطرنج: فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات والخمس الذي ترتيبها وضعي، ومنهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق، لأن لعب الشطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسببات بالطبع، لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
الفصل الثاني عشر
في العقل التجريبي وكيفية حدوثهإنك تسمع في كتب الحكماء قولهم أن الإنسان هو مدني الطبع، يذكرونه في إثبات النبوات وغيرها. والنسبة فيه إلى المدينة، وهي عندهم كناية عن الإجتماع البشري. ومعنى هذا القول، أنه لا تمكن حياة المنفرد من البشر، ولا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه. وذلك لما هوعليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبداً بطبعه. وتلك المعاونة لا بد فيها من المفاوضة أولاً، ثم المشاركة وما بعدها. وربما تفضي المعاملة عند اتحاد الأعراض إلى المنازعة والمشاجرة فتنشأ المنافرة والمؤالفة، والصداقة والعداوة. ويؤول إلى الحرب والسلم بين الأمم والقبائل. وليس ذلك على أي وجه اتفق، كما بين الهمل من الحيوانات، بل للبشر بما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال وترتيبها بالفكر، كما تقدم. جعل منتظماً فيهم، ويسرهم لإيقاعه على وجوه سياسية وقوانين حكمية، ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح، وعن الحسن إلى القبيح، بعد أن يميزوا القبائح والمفسدة، بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة، وعوائد معروفة بينهم ، فيفارقون الهمل من الحيوان، وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال وبعدها عن المفاسد.

هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحس كل البعد ولا يتعمق فبها الناظر، بل كلها تدرك بالتجربة وبها يستفاد، لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات وصدقها وكذبها، يظهر قريباً في الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. ويستفيد كل واحد من البشر القدر الذي يسر له منها مقتنصاً له بالتجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه، حتى يتعين له مايجب وينبغي، فعلاً وتركاً. وتحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. ومن تتبع ذلك سائر عمره حصل له العثورعلى كل قضية قضية. ولا بد بما تسعه التجربة من الزمن. وقد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلد فيها الأباء والمشيخة والأكابر، ولقن عنهم ووعى تعليمهم، فيستغني عن طول المعاناة في تتبع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه واتباعه، طال غناؤه في التأديب بذلك، فيجري في غير مألوف ويدركها على غير نسبة، فتوجد آدابه ومعاملاته سيئة الأوضاع بادية الخلل، ويفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. وهذا معنى القول المشهور: " من لم يؤدبه والده أدبه الزمان " . أي من لم يلفن الآداب في معاملة البشر من والديه وفي معناهما المشيخة والأكابر ويتعلم ذلك منهم، رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الأيام، فيكون الزمان معلمه ومؤدبه لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه.
وهذا هو العقل التجريبي، وهو يحصل بعد العقل التمييز في الذي تقع به الأفعال كما بيناه. وبعد هذين مرتبة العقل النظر في الذي تكفل بتفسيره أهل العلوم، فلا يحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. والله جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون.
الفصل الثالث عشر
في علوم البشر وعلوم الملائكةإنا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم: أولها: عالم الحس، ونعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك، ثم نعتبر الفكر الذي اختص به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانية علماً ضرورياً بما بين جنبينا من مدارك العلمية التي هي فوق مدارك الحس، فتراه عالماً آخر فوق عالم الحس. ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره التي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات، نحو الحركات الفعلية، فنعلم أن هناك فاعلاً يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة. وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة. وربما يستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني وذواته بالرؤيا وما نجد في النوم، ويلقى إلينا فيه من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة، وتطابق الواقع في الصحيحة منها، فنعلم أنها حق ومن عالم الحق. وأما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحس. ولا نجد على هذا العالم الروحاني برهاناً أوضح من هذا، فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلاً.
وما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته وترتبها، المسماة عندهم بالعقول، فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه، كما هو مقرر في كلامهم في المنطق. لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية. وهذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات، فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان ويحكمها. وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر، لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية والروحانية. ويشترك في عالم الحس مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته، وهي ذوات مجردة عن الجسمانية والمادة، وعقل صرف يتحد فيه العقل والعاقل والمعقول، وكأنه ذات حقيقتها الإدراك والعقل، فعلومهم حاصلة دائماً مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة.

وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كله مكتسب، والذات التي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئاً شيئاً، حتى تستكمل، ويصح وجودها بالموت في مادتها وصورتها. فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي والإثبات دائماً، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين. فإذا حصل وصار معلوماً افتقر إلى بيان المطابقة، وربما أوضحها البرهان الصناعي، لكنه من وراء الحجاب. وليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة. وقد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المعطابقة بالعيان الإدراكي. فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد الذي في علمه، وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية. وكشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالأذكار التي أفضلها صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبالتنزه عن المتناولات المهمة ورأسها الصوم، وبالوجهة إلى الله بجميع قواه. والله علم الإنسان ما لم يعلم.
الفصل الرابع عشر
في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلامإنا نجد هذا الصنف من البشرتعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر وأحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية والنزوعية من الشهوة والغضب وسائر الأحوال البدنية، فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية، من العبادة والذكر لله بما يقتضي معرفتهم به، مخبرين عنه بما يوحى إليهم في تلك الحالة، من هداية الأمة على طريقة واحدة وسنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنه جبلة فطرهم الله عليها. وقد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب. وبينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة والمركبة على تركيب طبيعي من أعلاها وأسفلها متصلة كلها اتصالاً لا ينخرم. وأن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاورها من الأسفل والأعلى، استعداداً طبيعياً، كما في العناصر الجسمانية البسيطة، وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والرويه. وهذا الاستعداد الذي في جانبي كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال فيها.
وفوق العالم البشر في عالم روحاني، شهدت لنا به الآثار التي فينا منه، بما يعطينا من قوى الإدراك والإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف وتعقل محض، وهو عالم الملائكة، فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للإنسلاخ من البشرية إلى الملكية، لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات، وفي لمحة من اللمحات. ثم تراجع بشريتها وقد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها في البشر. وهذا هو معنى الوحي وخطاب الملائكة. والأنبياء كلهم مفطورون عليه، كأنه جبلة لهم ويعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة والغطيط ما هو معروف عنهم. وعلومهم في تلك الحالة علم شهادة وعيان، لا يلحقه الخطأ والزلل، ولا يقع فيه الغلط والوهم، بل المطابقة قيه ذاتية لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة، عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية، لا يفارق علمهم الوضوح، استصحاباً له من تلك الحالة الأولى، ولما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها، يتردد ذلك فيهم دائماً إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها، كما في قوله تعالى: " إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا إليه واستنفروه " . فافهم ذلك وراجع ما قدمناه لك أول الكتاب، في أصناف المدركين للغيب، يتضح لك شرحه وبيانه، فقد بسطناه هنالك بسطاً شافياً. والله الموفق.
الفصل الخامس عشر
في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب

قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات، وأن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له، يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه، وهو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائباً وشاهداً، على ما هي عليه، وهو العقل النظري. وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه، ويبدأ من التمييز فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة، معدود من الحيوانات، لاحق بمبدئه في التكوين، من النطفة والعلقة والمضغة. وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس والأفئدة التي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا: " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط، لجهله بجميع المعارف. ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته، فكمل ذاته الإنسانية في وجودها. وانظر إلى قولى تعالى مبدأ الوحي على نبيه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم " ، أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلاً له بعد أن كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هوعليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي وأشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده، وهي الإنسانية. وحالتاه الفطرية والكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي. وكان الله عليماً حكيماً.
الفصل السادس عشر
في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنةوما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية والمبتدعة في الاعتقادات إعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى النجاة والفوز بالنعيم، وأنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين، يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. وكان في خلال هذا الخطاب، ومن ضروراته، ذكر صفاته سبحانه وأسمائه، ليعرفنا بذاته، وذكر الروح المتعلقة بنا، وذكر الوحي والملائكة، الوسائط بينه وبين رسله إلينا. وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته ولم يعين لنا الوقت في شيء منه. وثبت في هذا القرآن الكريم حروفاً من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها. وسمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابهاً. وذم على اتباعها فقال تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام. ولذا قال الفقهاء في اصطلاحهم: المحكم المتضح المعنى. وأما المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي التي تفتقر إلى نظم وتفسير يصحح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها وتشتبه. وعلى هذا قال ابن عباس: " المتشابه يؤمن به ولا يعمل به " وقال مجاهد وعكرمة: " كلما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه " وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين. وقال الثوري والشعبي وجماعة من علماء السلف: " المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط الساعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السور، وقوله في الآية: " هذه أم الكتاب " أي معظمه وغالبه والمتشابه أقله، وقد يرد إلى المحكم. ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به. وسماهم أهل زيغ، أي ميل عن الحق من الكفار والزنادقة وجهلة أهل البدع. وأن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصداً لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم.

ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلا هو فقال: وما يعلم تأويله إلا الله. ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط فقال: والراسخون في العلم يقولون آمنا به. ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفاً، ورجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء ومع عطفه إنما يكون إيماناً بالشاهد، لأنهم يعلمون التأوبل حينئذ فلا يكون غيباً. ويعضد ذلك قوله: " كل من عند ربنا " ويدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر. إن الألفاظ اللغوية إنما يفهم منها المعاني التي وضعها العرب لها، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ وإن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه، فلا سبيل لنا إلى ذلك. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن، فهم الذين عنى الله " ، فاحذروهم. هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة. وجاء في السنة ألفاط مثل ذلك حملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد.
وإذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها.
فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وامثال ذلك، فليس هذا والله أعلم من المتشابه، لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل ولا غيره وإنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه وعلى لسان نبيه. وقال: " إنما علمها عند الله " والعجب ممن عدها من المتشابه وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة. وقد قال الزمخشري: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأن القرآن المنزل مؤلف منها، والبشر فيها سواء، والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. وإن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح، كقولهم في طه، إنه نداء من طاهر وهادي وأمثال ذلك. والنقل الصحيح متعذر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. وأما الوحي والملائكة والروح والجن، فاشتباهها من خفاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. وقد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة والجنة والدخال والفتن والشروط، وما هو بخلاف العوائد المألوفة، وهو غير بعيد، إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه. وسيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهبم، ولم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه، مما يوهم ظاهره نقصاً اوتعجيزاً. وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم. وتنازعوا وتطرقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول، " وما توفيقي إلا بالله " : إعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم، قادر، مريد، حي، سميع، بصير متكلم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم. وكذا أثبت لنفسه اليدين والعينين والوجه والقم واللسان، إلى غيرذلك من الصفات: فمنها ما يقتضي صحة ألوهية، مثل العلم والقدرة والإرادة، ثم الحياة التي هي شرط جميعها، ومنها ما هي صفة كمال، كالسمع والبصر والكلام، ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء، وكالوجه واليدين والعينين التي هي صفات المحدثات. ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح.

فأما السلف من الصحابة والتابعين فأثبثوا له صفات الألوهية والكمال وفوضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله. ثم اختلف الناس من بعدهم، وجاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاماً ذهنية مجردة، ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته، وسموا ذلك توحيداً، وجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله، ولا تتعلق بها قدرة الله تعالى، سيما الشرور والمعاصي منها، إذ يمتنع على الحكيم فعلها. وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. وسموا ذلك عدلاً، بعد أن كانوا أولاً يقولون بنفي القدر، وأن الأمر كله مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك، كما ورد في الصحيح. وإن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني وأصحابه القائلين بذلك. وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي، منهم، تلميذ الحسن البصري، لعهد عبد الملك بن مروان. ثم آخراً إلى معمر السلمي، ورجعوا عن القول به. وكان منهم أبو الهذيل العلاف، وهو شيخ المعتزلة. أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. وكان من نفاة القدر، واتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجوددة لظهور مذاهبهم يومئذ.
ثم جاء إبراهيم النظام، وقال بالقدر، واتبعوه. وطالع كتب الفلاسفة وشدد في نفي الصفات وقرر قواعد الاعتزال. ثم جاء الجاحظ والكعبي والجبائي، وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الذي يسمى كلاماً، وإما أن أصل طريقتهم نفي صلة الكلام. فلهذا كان الشافعي يقول: حقهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم. وقرر هؤلاء طريقتهم وأثبتوا منها وردوا، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح، فرفض طريقتهم، وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي والحرث بن أسد المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة. فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية وأثبت الصفات القائمة بذات الله تعالى، من العلم والقدرة والإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء. وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر لأنها وإن أوهم ظاهراً النقص بالصوت والحرف الجسمانيين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت، وهو ما يدور في الخلد. والكلام حقيقة فيه دون الأول، فأثبتوها لله تعالى وانتفى إيهام النقص. وأثبتوا هذه الصفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى. وصار القرآن اسماً مشتركاً بين القديم بذات الله تعالى، وهو الكلام النفسي والمحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم

فالمراد الأول، وإذا قيل مقروء، مسموع، فلدلالة القراءة والكتابة عليه. وتوزع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنه لم يسمع من السلف قبله: لا إنه يقول إن المصاحف المكتوبة قديمة، ولا أن القراءة الجارية على السنة قديمة، وهو شاهدها محدثة. وإنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه. وأما غير ذلك فإنكار للضروريات، وحاشاه منه. وأما السمع والبصر، وإن كان يوهم إدراك الجارحة، فهو يدل أيضاً لغة على إدراك المسموع والمبصر، وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما. وأما لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللغوية فما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز. كما في قوله تعالى: " يريد أن ينقض " وأمثاله، طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة. وحملهم على هذا التأويل، وإن كان مخالفاً لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف وهم المحدثون والمتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى، مجهولة الكيفية. فيقولون في: " استوى على العرش " تثبت له استواء، بحيث مدلول اللفظة، فراراً من تعطيله. ولا نقول بكيفيته فراراً من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب، من قوله: " ليس كمثله شيء " ، " سبحان الله عما يصفون " ، " تعالى الله عما يقول الظالمون " ، " لم يلد ولم يولد " ، ولا يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، والاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار والتمكن، وهو جسماني. وأما التعديل الذي يشنعون بإلزامه، وهو تعطيل اللفظ، فلا محذور فيه. وإنما المحذور في تعطيل الآلة. وكذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق، وهو تمويه. لأن التشابه لم يقع في التكاليف. ثم يدعون أن هذا مذهب السلف، وحاشا لله من ذلك. وإنما مذهب السلف ما قررناه أولاً من تفويض المراد بها إلى الله، والسكوت عن فهمها. وقد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك: " إن الاستواء معلوم الثبوت لله " وحاشاه من ذلك، لأنه يعلم مدلول الاستواء. وإنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة، وهو الجسماني، وكيفيته أي حقيقته. لأن حقائق الصفات كلها كيفيات، وهي مجهولة الثبوت لله. وكذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء، وأنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أين الله؟ وقالت: في السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم

يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله، بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر، أن الله في السماء، فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار. ومن أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل " ليس كمثله شيء " وأشباهه. ومن قوله: " وهو الله في السموات وفي الأرض " ، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعاً، والمراد غيره. ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين، والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية وينزهونه عن مدلول الجسماني منها. وهذا شيء لا يعرف في اللغة. وقد درج على ذلك الأول والآخر منهم. ونافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية والحنفية. ورفضوا عقائدهم في ذلك، ووقع بين متكلمي الحنفية ببخارى وبين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف. وأما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية، وأنها لا كالأجسام. ولفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات. وإنما جرأهم عليه إثبات هذه الظواهر، فلم يقتصروا عليه، بل توغلوا وأثبتوا الجسمية، يزعمون فيها مثل ذلك وينزهونه بقول متناقض سفساف، وهو قولهم: جسم لا كالأجسام. والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود وغير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر وغير ذلك، فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي. فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا لله وصفاً موهماً يوهم النقص لم يرد في كلامه، ولا كلام نبيه. فقد تبيين لك الفرق بين مذاهب السلف والمتكلمين السنية والمحدثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسمة بما أطلعناك عليه. وفي المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه، حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال: اعفوني من اللحية والفرج وسلوا عما بدا لكم من سواهما. وإن لم يتأول ذلك لهم، بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة، وحملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم، وإلا فهو كفر صريح والعياذ بالله. وكتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع، وبسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة. وإنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات وجملها. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وأما الظواهر الخفية الأدلة والدلالة، كالوحي والملائكة والروح والجن والبرزخ وأحوال القيامة والدجال والفتن والشروط، وسائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله، وهم أهل السنة، فلا تشابه، وإن قلنا فيه بالتشابه، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول: اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات، وأرفعها. وهو وإن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى كأن الحقائق فيها مختلفة.
فالطور الأول: عالمه الجسماني بحسه الظاهر وفكره المعاشي وسائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر.
الطور الثاني: عالم النوم، وهو تصور الخيال بإنفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة والأمكنة وسائر الأحوال الجسمانية، ويشاهدها في إمكان ليس هو فيه. ويحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية والأخروية، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه. وهذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر، وهما مختلفان في المدارك كما تراه.
الطور الثالث: طور النبوة، وهو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته وتوحيده، وتنزل ملائكته عليهم بوحيه، وتكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة.

الطور الرابع: طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه ويعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى، وهي دار الجزاء الأكبر نعيماً وعذاباً في الجنة أو في النار. والطوران الأولان شاهدهما وجداني، والطور الثالث النبوي شاهده المعجزة والأحوال المختصة بالأنبياء، والطور الرابع شاهده ما تنزل على الانبياء من وحي الله تعالى في المعاد وأحوال البرزخ والقيامة، مع أن العقل يقتضي به، كما نبهنا الله عليه، في كثير من آيات البعثة. ومن أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالاً تليق به. لكان إيجاده الأول عبثاً. إذ الموت إذا كان عدماً كان مآل الشخص إلى العدم، فلا يكون لوجوط الأول حكمة. والعبث على الحكيم محال. وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافاً بيناً يكشف لك غور المتشابه. فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية. قال الله تعالى: " والله أخرجكم من بطون أمهاثكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانية ويوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة.
وأما مداركه في الطور الثاني، وهو طور النوم، فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه ولا يرتاب، مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها. والناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء، ويزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر والحس الباطن، فتصور محسوسه بالظاهر في الحواس كلها. ويشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية، مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد.
الفريق الثاني: المتكلمون، أجملوا فيها القول، وقالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة، وهذا أليق، وإن كنا لا نتصور كيفيته. وهذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار.

وأما الطور الثالث، وهو طور الأنبياء، فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النبي الله والملائكة، ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة، ويرى الجنة والنار، والعرش والكرسي، ويخترق السموات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها، ويلقى النبيين هنالك، ويصلي بهم، ويدرك أنواع المدارك الحسية، كما يدرك في طوره الجسماني والنومي، بعلم ضروري يخلقه الله له، لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح، ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صوره إلى الحس المشترك. فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم، لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه، فيكون على هذا حقيقة الوحي والرؤيا من النبي واحدة في يقينها وحقيقتها، وليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي ستة أشهر وأنها كانت بمئة الوحي ومقدمته، ويشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة. وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدة كما هي في الصحيح، حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات. وبعد ذلك نزل عليه " براءة " في غزوة تبوك جملة واحدة، وهو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط، ومن الخيال إلى الحس المشترك، لم يكن بين هذه الحالات فرق. وأما الطور الرابع، وهو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر، وهم مجردون عن البدن، أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام، فمداركهم الحسية موجودة، فيرى الميت في قبره الملكان يسائلانه، ويرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه، ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه، ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين، وغير ذلك. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر، وفيه قتلى المشركين من قريش، وناداهم بأسمائهم، فقال عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال: " والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول " . ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم - كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه، ويرون الملائكة ويرون ربهم، كما ورد في الصحيح: إنكم ترون ربكم يوم القيامة، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدنيا وهي حسية مثلها، وتقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلنا وسر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن وبمداركه، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية، فقد استصحبت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح، فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها، أرفع من إدراكها، وهي في الجسد. قاله الغزالي رحمه الله، وزاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها، بعد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالاً لها، كان في البدن وصوراً.
وأنا أقول: إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطنت لها كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة، لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا، وإنما هي تختلف بالقوة والضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. ويشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علماً ضرورياً بتلك المدارك، أي مدرك كان، ويعنون به هذا القدر الذي أوضحناه. وهذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه. ولو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه. فلنفزع إلى الله سبحانه في الهداية والفهم عن أنبيائه وكتابه، بما يحصل به الحق في توحيدنا، والظفر بنجاتنا والله يهدي من يشاء.
الفصل السابع عشر
في علم التصوف

هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة. وقال القشيري رحمه الله: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس. والظاهر أنه لقب. ومن قال: اشتقاقه من الصفاء، أو من الصفة، فبعيد من جهة القياس اللغوي، قال: وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه.
قلت: والأظهر أن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف. فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة، اختصوا بمآخذ مدركة لهم، وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم، وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضا والغضب والصبر والشكر، وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهي التي يتميز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم عن الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به، والنشاط عن الحمام، والكسل عن الإعياء. وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته، لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة، فترسخ وتصير مقاماً للمريد، وإما أن لا تكون عبادة، وإنما تكون صفة حاصلة للنفس. من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة. قال صلى الله عليه وسلم: " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " . فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار، وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان. وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله. وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية. فلذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله، وينظر في حقائقها، لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس، لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة.
وغاية أهل العبادات، إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع، أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد، ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولاً، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاماً، ويترقى منها إلى غيرها. ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف، اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من فوق إلى فوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك.

فلما كتبت العلوم ودونت، وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقتهم. فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، كما فعله المحاسبي في كتاب الرعاية له، ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله القشيري في كتاب الرسالة، والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم. وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء، فدون فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم. وصار علم التصوف في الملة علما مدوناً، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك.
ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه وتجدد نشؤه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيد، إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً. ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك. فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم المدنية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم. فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون، ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا هاجمهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها. وتبعهم في ذلك أهل الطريقة، ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم.
ثم إن قوماً من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك التي وراءه، واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك، باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها. فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ، وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش. هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة.
ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم، إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة، لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة، وإن لم يكن هناك استقامة كالسحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلا الكشف الناشىء عن الاستقامة. ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة، وحوذي بها جهة المرئي، فإنه يتشكل فيه معوجاً على غير صورته. وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحاً. فالاستقامة للنفس، كالانبساط للمرآة، فيما ينطبع فيها من الأحوال. ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف، تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية، وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك. وأهل الفتيا بين منكرعليهم ومسلم لهم. وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق، رداً وقبولاً، إذ هي من قبيل الوجدانيات.
تفصيل وتحقيق: يقع كثيراً في كلام أهل العقائد، من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل. ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه. ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: إما بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى انه هو عينها، وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلاً. فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحد منها، حتى تتضح معانيها فنقول، إن المباينة تقال لمعنيين:

أحدهما المباينة في الحيز والجهة، ويقابله الاتصال. وتشعر هذه المقابلة على هذه التقيد بالمكان: إما صريحاً، وهو تجسيم، أو لزوماً وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة. وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى. من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال في البارىء أنه مباين مخلوقاته، ولا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات. وما يقال من أن المحل لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضده، فهو مشروط بصحة الاتصاف أولاً، وأما مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلو عن المعنى وضده، كما يقال في الجماد، لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي. وصحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها. والبارىء سبحانه منزة عن ذلك. ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين وقال: " ولا يقال في البارىء مباين للعالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه. وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه، بناء على وجود الجواهر غير المتحيزة. وأنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارىء في أخص الصفات، وهو مبسوط في علم الكلام.
وأما المعنى الآخر للمباينة، فهو المغايرة والمخالفة، فيقال: البارىء مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته. ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط. وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين كأهل الرسالة ومن نحا منحاهم. وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية، إلى أن البارىء تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته. وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون وسقراط، وهو الذي يعينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصرفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان، تنتفي إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء، فإن تلك مغايرة صريحة، ولا يقولون بذلك. وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام، وهو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به. وهو أيضاً عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأمامية. وتقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين: الأولى: أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها، متحدة بها في المتصورين، وهي كلها مظاهر له، وهو القائم عليها، أي المقوم لوجودها، بمعنى لولاه كانت عدماً وهو رأي أهل الحلول.
الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد، فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصفات. وغالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية، وهي أوهام. ولا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم والظن والشك، وإنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة، وجود في المدرك البشري فقط. ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم، لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرره بعد، بحسب الإمكان. والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال، كما في المدارك البشرية، غير مفيد، لأن ذلك إنما ينقل من المدارك الملكية، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم. وقصد من يصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال. وربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض.
وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه، فأتى بالأغمض فالأغمض، بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم. كما فعل الفرغاني، شارح قصيدة ابن الفارض، في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح، فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه، أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية، التي هي مظهر الأحدية، وهما معاً صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير. ويسمون هذا الصدور بالتجلي.

وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات، على نفسه، وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور، لقوله في الحديث الذي يتناقلونه: " كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق ليعرفوني " . وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق، وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية، وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين، والكمل من أهل الملة المحمدية. وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية، وهي مرتبة المثال، ثم عنها العرش، ثم الكرسي، ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. هذا في عالم الرتق،، فإذا تجلت، فهي في عالم الفتق. انتهى.
ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات، وهوكلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه، وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل. وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب فإنه لا يعرف في شيء من مناحيه. وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة، وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه، يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله، بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها.
والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى، وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب. كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها، وزيادة القوة المعدنية، ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها في نفسها، وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية، ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة. وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل، هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية، وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه، لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة، ولا من جهة المادة، فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية، وهي في الحقيقة واحدة بسيطة، والاعتبار هو المفضل لها، كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها. فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع، في كل موجود كما ذكرناه، وتارة بالكل مع الجزء، على طريقة المثال. وهم في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه، وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال. والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب، أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان، من أن وجودها مشروط بالضوء، فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه.
وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي، بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضاً مشروطة بوجود المدرك العقلي، فإذا، الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل في الوجود، بل هو بسيط واحد. فالحر والبرد، والصلابة واللين، بل والأرض والماء، والنار والسماء والكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها، لما جعل في المدرك من التفصيل، الذي ليس في الموجود، وإنما هو في المدارك فقط. فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل، إنما هو إدراك واحد، وهو أنا لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النائم، فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر، فقد كل محسوس، وهو في تلك الحالة، إلا ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذلك اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري، ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل، وهذا هو معنى قولهم: الوهم، لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية.

هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان، وهو في غاية السقوط، لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون إليه يقيناً مع غيبته عن أعيينا، وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا. والإنسان قاطع بذلك، ولا يكابر أحد نفسه في اليقين، مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون: إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة، ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات، ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق، وهو مقام العارف المحقق. ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع، وهي عقبة صعبة، لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها، فتخسر صفقته. فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة.
ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف منه، مثل الهروي، في كتاب المقامات له، وغيره. وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ثم ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة، مذهباً لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة، حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات، في فصول التصوف منها، فقال: " جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد " . وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم. فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قاله الشيعة في النقباء. حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف، ليجعلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم، رفعوه إلى علي رضي الله عنه، وهو من هذا المعنى أيضاً. وإلا فعلي، رضي الله عنه، لم يختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا حال. بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة. ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص، بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة.
تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم. نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من ذلك اختصاص علي بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهاباً مع عقائد التشيع المعروفة لهم. والذي يظهر أن المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق في الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيهاً بالإمام في الظاهر، وأن يكون على وزانه في الباطن وسموه قطباً لمدار المعرفة عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه. فتأمل ذلك.
يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي، وما شحنوا به كتبهم في ذلك، مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات، وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم. والله يهدي إلى الحق.
تذييل: وقد رأيت أن أجلب هنا فصلاً من كلام شيخنا العارف، كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيات، كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها وهي قوله:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ... تثنية أبطلها الواحد
توحيدة إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد

فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: استشكل الناس إطلاق لفظ الجحود على كل من وحد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفوه. ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأن الوجود كله حقيقة واحدة وآنية واحدة. وقد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم: الحق عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية. وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأن كل ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. وهذا معنى: كان الله، ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه، كان عندهم. ومعنى قول لبيد الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " ألا كل شيء، ما خلا الله، باطل " . قالوا فمن وحد ونعت، فقد قال بموجد محدث، هو نفسه، وتوحيد محدث هو فعله، موجد قديم، هو معبود.
وقد تقدم معنى التوحيد انتفاء عين الحدوث، وعين الحدوث الآن ثابتة بل متعددة، والتوحيد مجحود، والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، وهما معاً في بيت واحد: ليس في البيت غيرك! فيقول الآخر بلسان حاله: " لا يصح هذا إلا لوعدمت أنت " !...
وقد قال بعض المحققين في قولهم: خلق الله الزمان، هذه ألفاظ تناقض أصولها، لأن خلق الزمان متقدم على الزمان، وهو فعل لا بد من وقوعه في الزمان، وإنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللغات عن تأدية الحق فيها وبها. فإذ تحقق أن الموحد هو الموحد، وعدم ما سواه جملة، صح التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم: " لا يعرف الله إلا الله " . ولا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم والآثار، وإنما هو من باب: " حسنات الأبرار سيئات المقربين " . لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية. ومن ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصاً، مع علمه بمرتبته، وأنه تلبيس تستلزمه العبودية ويرفعه الشهود، ويطهر من دنس حدوثه عين الجمع. وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحدة وإنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل، التحريض والتنبيه والتفطين، لمقام أعلى، ترتفع فيه الشفعية ويحصل التوحيد المطلق، عيناً لا خطاباً. وعبارة فمن سلم استراح، ومن نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه وبصره. وإذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ. والذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كاف. والتعلق في مثل هذا حجاب، وهو الذي أوقع في المقالات المعروفة " . انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات، ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الذي ألفه في المحبة، وسماه التعريف بالحب الشريف. وقد سمعته من شيخنا أبي مهدي مراراً إلا أني رأيت رسوم الكتاب. أوعى له، لطول عهدي به. والله الموفق.

ثم إن كثيراً من الفقهاء وأهل الفتيا، انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها، وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة. والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل، فإن كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال، لتحصل تلك الأذواق، التي تصير مقاماً ويترقى منه إلى غيره كما قلناه، وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب، مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد، وتركيب الأكوان في صدورها عن موجدها ومكونها كمامر، وثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، ورابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم، يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات، تستشكل ظواهرها، فمنكر ومحسن ومتأول. فأما الكلام في المجاهدات والمقامات، وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها، ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها، فأمر لا مدفع فيه لأحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقق بها هو عين السعادة، وأما الكلام في كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات، فأمر صحيح غير منكر. وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني من أئمة الأشعرية على إنكارها، لالتباسها بالمعجزة، فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي، وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور، لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية، فإن صفة نفسها التصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات، وإنكارها نوع مكابر.
وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك، وهو معلوم مشهور. وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات، فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه، لما أنه وجداني عندهم، وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه، لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك، ونتركه فيما تركناه من المتشابه. ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات، على الوجه الموافق لظاهر الشريعة، فأكرم بها سعادة. وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات، ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أن الإنصاف. في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب، والمجبور معذور.
فمن علم منهم فضله واقتداؤه، حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله. وإن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها، كما وقع لأبي يزيد البسطامي وأمثاله. ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر، فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك، إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. وأما من تكلم بمثلها، وهو حاضر في حسه، ولم يملكه الحال، فمؤاخذ أيضاً. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج، لأنه تكلم في حضور، وهو مالك لحاله. والله أعلم.
وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل، لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب، ولا هذا النوع من الإدراك، إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به، بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن، وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث، وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. وعلم الله أوسع وخلقه أكبر، وشريعته بالهداية أملك، فلم ينطقوا بشيء مما يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده، بل ويلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء، ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد. والله الموفق للصواب.
الفصل الثامن عشر
علم تعبير الرؤيا

هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع، وكتب الناس فيها. وأما الرؤيا والتعبير لها، فقد كان موجوداً في السلف كما هو في الخلف. وربما كان في الملوك والأمم من قبل، إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام. وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بد من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا، كما وقع في القرآن. وكذلك ثبت في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر رضي الله عنه. والرؤيا مدرك من مدارك الغيب. وقال صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وقال: " لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو ترى له " .
وأول ما بدىء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه: " هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ " يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك، مما فيه ظهور الدين وإعزازه.
وأما السبب في كون الرؤيا مدركاً للغيب فهو أن الروح القلبي، وهو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي، ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن، وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية وإحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس، وتصريف القوى الظاهرة، وغشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل، انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي، فيستجم بذلك لمعاودة فعله، فتعطلت الحواس الظاهرة كلها، وذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب. ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان، والروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته، إذ حقيقته وذاته عين الإدراك. وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية، ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه. فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرد عنه، لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك، فيعقل كل مدرك. فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله، فلا بد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له، وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها، وهي الشاغل الأعظم، فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة به من عالمه. وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسماني، لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية. والمدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية، والمتصرف منها هو الخيال. فإنه ينترع من الصور المحسوسة صوراً خيالية، ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت للحاجة إليها عند النظر والاستدلال. وكذلك تجرد النفس منها صوراً أخرى نفسانية عقلية، فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول، والخيال واسطة بينهما. وكذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه، ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة له، ويدفعه إلى الحس المشترك، فيراه النائم كأنه محسوس، فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي. والخيال أيضاً واسطة. هذه حقيقة الرؤيا.
ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام الكاذبة، فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم. لكن إن كانت تلك الصور متنرلة من الروح العقلي المدرك فهي رؤيا، وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها، منذ اليقظة، فهي أضغاث أحلام.

واعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحتها، فيستشعر الرائي البشارة من الله بما ألقى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا، كأنه يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة، ولو كان مستغرقاً في نومه، لثقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن وعوارضه، ومنها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه، فلا يتخللها سهو ولا نسيان. ولا يحتاج إلى إحضارها بالفكر والتذكر، بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه. ولا يغرب عنه شيء منها، لأن الإدراك النفساني ليس بزماني ولا يلحقه ترتيب، بل يدركه دفعة في زمن فرد. وأضغاث الأحلام زمانية، لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه. وأفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك والمتقدم والمتأخر. ويعرض النسيان العارض للقوى الدماغية. وليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية، ولا ترتيب فيها. وما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. وقد تبقى الرؤيا بعد الانتباه حاضرة في الحفظ أياماً من العمر، لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه، إذا كان الإدراك الأول قوياً، وإذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر والوجهة إليها، وينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة، وإنما هي من أضغاث الأحلام. وهذه العلامات من خواص الوحي. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه " والرؤيا لها نسبة من النبوة والوحي كما في الصحيح. قال صلى الله عليه وسلم: الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فلخواصها أيضاً نسبة إلى خواص النبوة، وبذلك القدر، فلا تستبعد ذلك، فهذا وجه الحق. والله الخالق لما يشاء.
وأما معنى التعبير، فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال، فصوره، فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء، كما يدرك معنى السلطان الأعظم، فيصوره الخيال بصورة البحر، أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية. فإذا استيقظ، وهو لم يعلم من أمره، إلا أنه رأى البحر أو الحية، فينظر المعبر بقوة التشبيه، بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة، وأن المدرك وراءها، وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك ، فيقول مثلاً هو السلطان: لأن البحر خلق عظيم يناسب أن تشبه به السلطان، وكذلك الحية، يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها، وكذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية، وأمثال ذلك. ومن المرئي ما يكون صريحاً، لا يفتقر إلى تعبير، لجلائها ووضوحها أو لقرب النسبة فيها بين المدرك وشبهه. ولهذا وقع في الصحيح، الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان. فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل، والتي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير، والرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث.
واعلم أيضاً أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه، فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس، وما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئأً. فلا يمكن من ولد أعمى اكمه أن يصور له السلطان بالبحر، ولا العدو بالحية، ولا النساء بالآواني، لآنه لم يدرك شيئاً من هذه. وإنما يصور له الخيال أمثال هذه، في شبهها ومناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات والمشمومات. وليتحفظ المعبرمن مثل هذا، فربما اختلط به التعبيروفسد قانونه.

ثم إن علم التعبير، علم بقوانين كلية، يبني عليها المعبرعبارة ما يقص عليه. وتأويله كما يقولون: البحر يدل على السلطان، وفي موضع آخريقولون: البحريدل على الغيظ، وفي موضع آخر على الهم والأمر الفادح. ومثل ما يقولون: الحية تدل على العدو وفي موضع آخريقولون تدل على الحياة وفي موضع آخر هي كاتم سر وأمثال ذلك. فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية. ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هوأليق بالرؤيا. وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النوم، ومنها ما ينقدح في نفس المعبربالخاصية التي خلقت فيه، وكل ميسرلما خلق له. ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف. وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء، وكتبت عنه في ذلك قوانين، وتناقلها الناس لهذا العهد. وألف الكرماني فيه من بعده. ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا. والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني، من علماء القيروان، مثل الممتع وغيره، وكتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه وأحضرها. وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس.
وهوعلم مضيء بنور النبوة للمناسبة التي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي، كما وقع في الصحيح. والله علام الغيوب.
الفصل التاسع عشر
العلوم العقلية وأصنافهاوأما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان، من حيث إنه ذوفكرفهي غيرمختصة بملة ، بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النوع الإنساني، منذكان عمران الخليقة. وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة، وهي مشتملة على أربعة علوم: الأول علم المنطق، وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الآمور الحاصلة المعلومة، وفائدته تمييز الخطأ من الصواب، فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها،، ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفياً وثبوتاً بمنتهى فكره. ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية. أو النفس التي تنبعث عنها الحركات وغيرذلك، ويسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي وهو العلم الثاني منها. وإما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات، ويسمونه العلم الإلهي وهو العلم الثالث منها. والعلم الرابع وهو الناظر في المقادير، ويشتمل على اربعة علوم، وهي تسمى التعاليم.
أولها: علم الهندسة، وهو النظر في المقادير على الإطلاق. إما المنفصلة من حيث كونها معدودة، أو المتصلة، وهي إما ذو بعد واحد وهو الخط، أو ذو بعدين وهو السطح، أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التعليمي. ينظر في هذين المقادير وما يعرض لها، أما من حيث ذاتها، أومن حيث نسبة بعضها إلى بعض.
وثانيها: علم الأرتماطيقي، وهو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد، ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة.
وثالثها: علم الموسيقى، وهو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد، وثمرته معرفة تلاحين الغناء.
ورابعها: علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك، وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيارة والثابتة، والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية! المشاهدة الموجودة لكل واحد منها، ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها.
فهذه اصول العلوم الفلسفية وهي سبعة: المنطق وهو المقدم منها وبعده التعاليم، فالآرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى، ثم الطبيعيات، ثم الإلهيات، ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه. فمن فروع الطبيعيات الطب، ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج، وهي قوانين لحسبانات حركات الكواكب وتعديلها، للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك: ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية. ونحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها.

واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام، وهما فارس والروم، فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفوراً فيهم، والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم، فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم. واخذ ذلك عنهم الامم من فارس ويونان، فاختص بها القبط، وطمى بحرها فيهم، كما وقع في المتلومن خبر هاروت وماروت، وشأن السحرة، وما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه، فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن، إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع. الله أعلم بصحتها. مع ان سيوف الشرع قائمة على ظهورها، مانعة من اختبارها.
وأما الفرس، فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيماً، ونطاقها متسعاً، لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك. ولقد يقال: إن هذه العلوم، إنما وصلت إلى يونان منهم، حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية، فاستولى على كتبهم وعلومهم. إلأ أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم، ما لا يأخذه الحصر كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمرأن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدًى، فقد هدانا الله بأهدى منه ، وإن يكن ضلالاً فقد كفاناه الله. فطرحوها في الماء أو في النار، وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا.
وأما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولاً، وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب، وحملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة وغيرهم. واختص فيها المشاؤون منهم، أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم. كانوا يقرأون في رواق يظلهم من الشمس والبرد على ما زعموا. واتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون، من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط الدن، ثم إلى تلميذه أفلاطون، ثم إلى تلميذه أرسطو، ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفروسي وتامسطيوس وغيرهم. وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم، الني غلب الفرس علي ملكهم، وانتزع الملك من أيديهم. وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيها صيتاً وشهرةً. وكان يسمى المعلم الأول، فطار له في العالم ذكر.
ولما انقرض أمر اليونان، وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية، هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها. وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدةً باقيةً في خزائنهم. ثم ملكوا الشام، وكتب هذه العلوم باقيةٌ فيهم.

ثم جاء الله بالإسلام، وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له، وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم. وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن الصنائع، حتى إذا تبحبح السلطان والدولة، وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم، وتفننوا في الصنائع والعلوم. تشوفوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية، بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها، وبما تسموا إليه أفكار الإنسان فيها. فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم، أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة، فبعث إليه بكتاب أوقليدوس وبعض كتب الطبيعيات. فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها، وازدادوا حريصاً على الظفر بما بقي منها. وجاء المأمون بعد ذلك، وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله، فانبعث لهذه العلوم حرصاً، وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي. وبعث المترجمين لذلك، فأوعى منه واستوعب. وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. وخالفوا كثيراً من آراء المعلم الأول، واختصوه بالرد والقبول، لوقوف الشهرة عنه. ودونوا في ذلك الدواوين، واربوا على من تقدمهم في هذه العلوم. وكان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي، وأبو علي بن سينا بالمشرق، والقاضي أبو الوليد ابن رشد، والوزير أبو بكر بن الصائني بالأندلس، إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. واختص هؤلاء بالشهرة والذكر، واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم، وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات. ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق وعلى مسلمة بن أحمد المجريطي، من أهل الأندلس وتلميذه. ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة، واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها، والذنب في ذلك لمن ارتكبه. ولو شاء ربك ما فعلوه.
ثم إن المغرب والأندلس، لما ركدت ريح العمران بهما، وتناقصت العلوم بتناقصه، اضمحل ذلك منهما، إلا قليلاً من رسومه تجدها في تفاريق من الناس، وتحت رقبة من علماء السنة. ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة، وخصوصاً في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر، وأنهم على ثبج من العلوم العقلية والنقلية، لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم. ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة، من بلاد خراسان، يشتهر بسعد الدين التفتازاني، منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان، تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم. وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعاً على العلوم الحكمية وتضلعاً بها وقدماً عالية في سائر الفنون العقلية. والله يؤيد بنصره من يشاء.
وكذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة، من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعددة، وداوينها جامعة وحملتها متوفرون، وطلبتها متكثرون. والله أعلم بما هنالك، وهو يخلق مايشاء ويختار.
الفصل العشرون
العلوم العددية

وأولها الأرتماطيقي، وهو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف، إما على التوالي أو بالتضعيف. مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد: فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد، ومثل ضعف الواسطة، إن كانت عدة تلك الأعداد فرداً مثل الأعداد على تواليها والأزواج على تواليها والأفراد على تواليها. ومثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة بأن يكون أولها نصف ثانيها، وثانيها نصف ثالثها إلخ، أو يكون أولها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها إلخ. فإن ضرب الطرفين أحدهما في الأخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد أحدهما في الآخر. ومثل مربع الواسطة إن كانت العدة فرداً، وذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر. ومثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية والمربعات والمخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن تجمع من الواحد إلى العدد الأخير، فتكون مثلثة. وتتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع، ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله، فتكون مربعة. وتزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبله فتكون مخمسة وهلم جرا. وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض. ففي عرضه الأعداد على تواليها، ثم المثلثات على تواليها، ثم المربعات، ثم المخمسات إلخ، وفي طوله كل عدد وأشكاله بالغاً ما بلغ. ويحدث في جمعها وقسمة بعضها على بعض طولاً وعرضاً خواص غريبة، استقريت منها، وتقررت في دواوينهم مسائلها. وكذلك ما يحدث للزوج والفرد، وزوج الزوج وزوج الفرد، وزوج الزوج والفرد، فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن وليست في غيره.
وهذا الفن أول أجزاء التعاليم وأثبتها، ويدخل في براهين الحساب. وللحكماء المتقدمين والمتأخرين فيه تآليف، وأكثرهم يدرجونه في التعاليم ولا يفرعونه بالتأليف.
فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة وغيره من المتقدمين. وأما المتأخرون فهم عندهم مهجوز إذ هو غير متداول، ومنفعته في البراهين لا في الحساب، فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية، كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم.
علم الحساب

ومن فروع علم العدد صناعة الحساب، وهي صناعة عملية في حسبان الأعداد بالضم والتفريق. فالضم يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع. وبالتضعيف، أي يضاعف عدد بآحاد عدد آخر، وهذا هو الضرب، والتفريق أيضاً يكون في الأعداد، إما بالإفراد، مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح، أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية، تكون عدتها محصلة وهو القسمة. وسواء كان هذا الضم والتفريق في الصحيح من العدد أو الكسر. ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد، وتلك النسبة تسمى كسراً. وكذلك يكون الضم والتفريق في الجذور، ومعناها العدد الذي يضرب في مثله، فيكون منه العدد المربع. والعدد الذي يكون مصرحاً به يسمى المنطق، ومربعه كذلك، ولا يحتاج فيه إلى تكلف عمل بالحسبان. والذي لا يكون مصرحاً به يسمى الأصم ومربعه: إما منطق مثل جذور ثلاثة الذي مربعه ثلاثة، وإما أصم، مثل جذر ثلاثة الذي مربعه جذر ثلاثة، وهو أصم، ويحتاج إلى عمل من الحسبان. فإن تلك الجذور أيضاً يدخلها الضم والتفريق. وهذه الصناعة الحسابية حادثة احتيج إليها للحسبان في المعاملات، وألف الناس فيها كثيراً وتداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان. ومن أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لأنها معارف متضحة وبراهينها منتظمة، فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب. وقد يقال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره، إنه يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس، فيصير ذلك له خلقاً ويتعود الصدق ويلازمه مذهباً. ومن أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير. ولابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد، ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب وهو مستغلق على المبتدىء، بما فيه من البراهين الوثيقة المباني، وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه، وهو كتاب جدير بذلك. وساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب، لابن منعم، والكامل للأحدب، ولخص براهينها وغيرها عن اصطلاح الحروف فيها، إلى علل معنوية ظاهرة، هي سر الإشارة بالحروف وزبدتها. وهي كلها مستغلقة، وإنما جاءها الاستغلاق من طريق البرهان شأن علوم التعاليم، لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها. وإذا قصد شرحها، فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال. وفي ذلك من العسرعلى الفهم، مما لا يوجد في أعمال المسائل، فتأمله. والله يهدي بنوره من يشاء، وهو القوي المتين.
علم الجبرومن فروعه الجبر والمقابلة، وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض، إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب: أولها العدد لأن به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه، وثانيها الشيء، لأن كل مجهول فهو من جهة إبهامه شيء، وهو أيضاً جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية، وثالثها المال وهو أمر مبهم، وما بعد ذلك فعلى نسبة الأس من المضروبين. ثم يقع العمل المفروض في المسألة فيخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثرمن هذه الأجناس، فيقابلون بعضها ببعض. ويجبرون ما فيها من الكسر. حتى يصير صحيحاً. ويحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن، حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم، وهي العدد والشيء والمال. فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد، تعين، فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعين. والمال إن عادل الجذور فيتعين بعدتها. وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين، وهي مبهمة، فيعينها ذلك الضرب المفصل. ولا يمكن المعادلة بين اثنين واثنين. وأكثرما انتهت المعادلة عندهم إلى ست مسائل، لأن المعادلة بين عدد وجذر ومال مفردة أو مركبة تجيء ستة. وأول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه. وكتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه. وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا. ومن أحسن شروحاته كتاب القرشي. وقد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعادلات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس، وبلغها إلى فوق العشرين، واستخرج لها كلها أعمالاً وثيقة وأتبعها ببراهين هندسية. والله يزيد في الخلق ما يشاء، سبحانه وتعالى.


المعاملات والفرائضومن فروعه أيضاً المعاملات، وهو تصريف الحساب، في معاملات المدن، في البياعات والمساحات والزكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات، تصرف في ذلك صناعتا الحساب في المجهول والمعلوم والكسر والصحيح والجذور وغيرها. والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدربة بتكرار العمل، حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب. ولأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة، من أشهرها معاملات الزهراوي وابن السمح وأبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم.
ومن فروعه أيضاً الفرائض: وهي صناعة حسابية، في تصحيح السهام لذوي الفروض، في الوراثات إذا تعددت، وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته، أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كله، أو كان في الفريضة، إقراراً أو انكار من بعض الورثة دون بعض، فيحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة إلى كم تصح، وسهام الورثة من كل بطن مصححاً، حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه وكسوره وجذوره ومعلومه ومجهوله، ويترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية ومسائلها. فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه، وهو أحكام الوراثات في الفروض، والعول والإقرار والإنكار والوصايا والتدبير وغير ذلك من مسائلها، وعلى جزء من الحساب في تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي، وهي من أجل العلوم. وقد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها، مثل: الفرائض ثلث العلم، وإنها أول ما يرفع من العلوم، وغير ذلك. وعندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات، فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم. وأما الفرائض العينية فكثيرة، وقد ألف الناس في هذا الفن قديماً وحديثاً وأوعبوا. ومن أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله تعالى كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي، وكتاب ابن المنمر والجعدي والصردي وغيرهم. لكن الفضل للحوفي، فكتابه مقدم على جميعها. وقد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس، فأوضح وأوعب. ولإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي، تشهد باتساع باعه في العلوم، ورسوخ قدمه، وكذا للحنفية والحنابلة. ومقامات الناس في العلوم مختلفة. والله يهدي من يشاء بمنه وكرمه، لا رب سواه.
الفصل الحادي والعشرون
العلوم الهندسيةهذا العلم هو النظر في المقادير: إما المتصلة كالخط والسطح والجسم، وإما المنفصلة، كالأعداد فيما يعرض لها من العوارض الذاتية. مثل أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين. ومثل أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في جهة ولو خرجا إلى غير نهاية. ومثل أن كل خطين متقاطعين، فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان، ومثل أن الأربعة مقادير المتناسبة، ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع، وأمثال ذلك. والكتاب المترجم لليونانيين في هذه الضناعة كتاب أوقليدس، ويسمى كتاب الأصول الأركان، وهو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين، وأول ما ترجم من كتب اليونانيين في الملة أيام أبي جعفر المنصور، ونسخه مختلفة باختلاف المترجمين. فمنها لحنين بن إسحاق، ولثابت بن قرة، وليوسف بن الحجاج، ويشتمل على خمس عشرة مقالة. أربعة في السطوح، وواحدة في الأقدار المتناسبة، وواحدة في نسبة السطوح بعضها إلى بعض، وثلاثة في العدد، والعاشرة في المنطقات والقوى على المنطقات، ومعناه الجذور وخمس في المجسمات. وقد اختصره الناس مختصرات كثيرة، كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء. أفرد له جزءاً منها اختصة به. وكذلك ابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار وغيرهم. وشرحه آخرون شروحاً كثيرة وهو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق.

واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره، لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها، فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع. وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب أفلاطون: " من لم يكن مهندساً، فلا يدخلن منزلنا " . وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: " ممارسة علم الهندسة للفكر، بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران " . وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه. ومن فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكرية والمخروطات. أما الأشكال الكرية، ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس وميلاوش فى سطوحها وقطوعها. وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش، لتوقف كثير من براهينه عليه. ولا بد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة ، لأن براهينها متوقفة عليهما. فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية، وما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكر، فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكرية سطوحها وقطوعها. وأما المخروطات، فهو من فروع الهندسة أيضاً. وهو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع، ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض، ببراهين هندسية، متوقفة على التعليم الأول. وفائدتها تظهر في الصنائع العلمية التي موادها الأجسام، مثل النجارة والبناء، وكيف تصنع التماثيل الغريبة والهياكل النادرة، وكيف يتحيل على جر الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والمخال وأمثال ذلك. وقد أفرد بعض المؤلفين في هذا الفن كتاباً في الحيل العملية، يتضمن من الصناعات الغريبة والجيل المستظرفة كل عجيبة. وربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية، وهو موجود بأيدي الناس، ينسبونه إلى بني شاكر. والله تعالى أعلم.
المساحةومن فروع الهندسة المساحة، وهو فن يحتاج إليه في مسح الأرض، ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما، أو نسبة أرض من أرض إذا قويست بمثل ذلك. ويحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع والفدن وبساتين الغراسة، وفي قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء أو الورثة وأمثال ذلك. وللناس فيها موضوعات حسنة وكثيرة. والله الموفق للصواب بمنه وكرمه.
المناظرة من فروع الهندسة: وهوعلم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري، بمعرفة كيفية وقوعها، بناء على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي، رأسه نقطة الباصر وقاعدته المرثي. ثم يقع الغلط كثيراً في رؤية القريب كبيراً والبعيد صغيراً. وكذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء وراء الأجسام الشفافة كبيرة ورؤية النقط النازلة من المطر خطاً مستقيماً، والسلقة دائرة وأمثال ذلك. فيبتين في هذا العلم أسباب ذلك وكيفياته بالبراهين الهندسية، ويتبين به أيضاً اختلاف المنظر في القمر، باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال هذا. وقد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين. وأشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم. ولغيره فيه الإسلاميين تآليف وهو من هذه العلوم الرياضية وتفاريعها.
الفصل الثاني والعشرون
علم الهيئةوهو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة. ويستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك، لزمت عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية. كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس، بوجود حركة الإقبال والإدبار، وكما يستدل بالرجوع والاستقامة للكواكب، على وجود أفلاك صغيرة، حاملة لها، متحركة داخل فلكها الأعظم ، وكما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة، وكما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له، وأمثال ذلك. وإدراك الموجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها إنما هو بالرصد، فإنا إنما علمنا حركات الإقبال والإدبار به. وكذا تركيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرجوع والاستقامة وأمثال ذلك.

وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيراً، ويتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين. وكانت تسمى عندهم ذات الحلق. وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس. وأما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل. وكان في أيام المأمون شيء منه، وصنع لهذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق. وشرع في ذلك فلم يتم. ولما مات ذهب رسمه وأغفل، واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة، وليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب. وإن مطابقة حركة الآلة في الرصد لحركة الأفلاك والكواكب إنما هو بالتقريب ولا يعطي التحقيق، فإذا طال الزمان ظهر تفاوت ذلك التقريب. وهذه الهيئة صناعة شريفة، وليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطي صورة السماوات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة ، بل إنما تعطي أن هذه الصور والهيآت للأفلاك لزمت عن هذه الحركات. وأنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازماً لمختلفين، وإن قلنا إن إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم، ولا يعطي الحقيقة بوجه، على أنه علم جليل، وهو أحد أركان التعاليم. ومن أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي، منسوباً لبطليموس. وليس من ملوك اليونان الذين أسماوهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب وقد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا، وأدرجه في تعاليم الشفاء. ولخصه ابن رشد أيضاً من حكماء الأندلس، وابن السمح. وابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار. ولابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها وحذف براهينها هندسية. والله علم الإنسان ما لم يعلم. سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين.
علم الأزياجومن فروعه علم الأزياج وهو صناعة حسابية على قوانين عددية، فيما يخص كل كوكب من طريق حركته، وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك، يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها، على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة.
ولهذه الصناعة قوانين، كالمقدمات والأصول، لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية، وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات، واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلاً على المتعلمين، وتسمى الأزياج. ويسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الضناعة تعليلاً وتقويماً. وللناس فيه تآليف كثيرة للمتقدممن والمتأخرين، مثل البتاني وابن الكماد. وقد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة. ويزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد. وأن يهودياً كان بصقلية ماهراً في الهيئة والتعاليم، وكان قد عني بالرصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب وحركاتها، فكأن أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون. ولخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج، فولع الناس لما سهل من الأعمال فيه، وإنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبنى عليها الأحكام النجومية، وهو معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدول والمواليد البشرية والكوائن الحادثة كما نبينه بعد، ونوضح فيه أدلتهم إن شاء الله تعالى. والله الموفق لما يحبه ويرضاه، لا معبود سواه.
الفصل الثالث العشرون
علم المنطق

وهو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعروفة للماهيات، والحجج المفيدة للتصديقات، وذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس. وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق وغيره، وإنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات وهي مجردة من المحسوسات. وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة، وهي الكلي. ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى، توافقها في بعض، فيحصل له صورة تنطبق أيضاً عليهما باعتبار ما اتفقا فيه. ولا يزال يرتقي في التجريد إلى الكلي الذي لا يجد كلياً آخر معه يوافقه، فيكون لأجل ذلك بسيطاً. وهذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها. ثم ينظر بينه وبين الحيوان ويجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما، ثم ينظر بينهما وبين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي، وهو الجوهر، فلا يجد كلياً يوافقه في شيء، فيقف العقل هنالك عن التجريد. ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم والصنائع، وكان العلم: إما تصوراً للماهيات، ويعني به إدراك ساذج من غير حكم معه، وإما تصديقاً، أي حكماً بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التآليف، فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج، فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص، وإما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقاً. وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصور، لأن فائدة ذلك إذا حصل، فإنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي. وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد، فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية، ليتميز فيها الصحيح من الفاسد، فكان ذلك قانون المنطق. وتكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملاً جملاً ومتفرقاً متفرقاً. ولم تهذب طرقه ولم تجمع مسائله، حتى ظهر في يونان أرسطو، فهذب مباحثه ورتب مسائله وفصوله، وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها. ولذلك يسمى بالمعلم الأول، وكتابه المخصوص بالمنطق يسمى النص، وهو يشتمل على ثمانية كتب: أربعة منها في صورة القياس، وأربعة في مادته. وذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء: فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه، ومنها ما يكون المطلوب فيه الظن، وهو على مراتب. فينظر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده، وما ينبغي أن تكون مقدماتة بذلك الاعتبار، ومن أي جنس يكون من العلم أو من الظن. وقد ينظر في القياس، لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة. ويقال للنظر الأول إنه من حيث المادة، ونعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن، ويقال للنظر الثاني إنه من حيث الصورة وإنتاج القياس على الإطلاق، فكانت لذلك كتب المنطق ثمانية: الأول: في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات في الذهن، وهي التي ليس فوقها جنس، ويسمى كتاب المقولات.
والثاني: في القضايا التصديقية وأصنافها، ويسمى كتاب العبارة.
والثالث: في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق، ويسمى كتاب القياس، وهذا آخر النظر من حيث الصورة.
ثم الرابع: كتاب البرهان، وهو النظر في القياس المنتج لليقين، وكيف يجب أن تكون مقدماته يقينية. ويختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه، مثل كونها ذاتية وأولية وغير ذلك. وفي هذا الكتاب الكلام في المعرنات والحدود، إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد والمحدود لا يحتمل غيرها، فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب.
والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم، وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات، ويختص أيضاً من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى، وهي مذكورة هنالك. وفي هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه، بتمييز الجامع بين طرفي المطلوب المسمى بالوسط وفيه عكوس القضايا.
والسادس: كتاب السفسطة وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق، ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد، وهذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه.

والسابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم، وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات.
والثامن: كتاب الشعر، وهو القياس الذي يفيد التمثيل والتشببه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه، وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية.
هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين. ثم إن حكماء اليونانيين، بعد أن تهذبت الصناعة ورتبت، رأوا أنه لا بد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها وهي الجنس والفصل والنوع والخاص والعرض العام، فاستدركوا فيها مقالة، تختص بها مقدمة بين يدي الفن، فصارت مقالاته تسعاً، وترجمت كلها في الملة الإسلامية. وكتبها وتناولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص، كما فعله الفارابي وابن سينا، ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس. ولابن سينا كتاب الشفاء، استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها. ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق، وألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته، وهي الكلام في الحدود والرسوم، نقلوها من كتاب البرهان وحذفوا المقولات، لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات. وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس، وإن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدمين لكنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه. ثم تكلموا في القياس، من حيث إنتاجه للمطالب على العموم، لا بحسب مادة. وحدقوا النظر فيه بحسب المادة، وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة. وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماماً وأغفلوها كأن لم تكن، وهي المهم المعتمد في الفن. ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاماً مستبجراً ونظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم، فطال الكلام فيه واتسع. وأول من فعل الإمام فخر الدين ابن الخطيب، ومن بعده أفضل الدين الخونجي، وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل، ومختصر الموجز وهو حسن في التعليم، ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق، أخذ بمجامع الفن وأصوله، يتداوله المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كأن لم تكن، وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه. والله الهادي للصواب. اعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف والمتكلمين. وبالغوا في الطعن عليه والتحذير منه وحظروا تعلمه وتعليمه. وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي والإمام ابن الخطيب، فسامحوا في ذلك بعض الشيء. وأكب الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلاً، يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين، فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره. فلنبين لك نكتة القبول والرد في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، وذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام، لنصر العقائد الإيمانية بالحجج العقلية، كانت طريقتهم في ذلك بأدلة خاصة وذكروها في كتبهم كالدليل علىحدث العالم بأثبات الآعراض وحدوثها وامتناع خلو الآجسام عنها وما لا يخلو عن الحوادث حادث وكأثبات التوحيد بدليل التمانع وأثبات الصفات القديمة بالجوامع الآربعة إلحاقاً

للغائب بالشاهد وغير ذلك " من أدلتهم المذكورة في كتبهم ثم قرروا تلك الآدلة بتمهيد قواعد وأصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد والزمن الفرد والخلاء بين الآجسام ونفي الطبيعة والتركيب العقلي للماهيات وأن العرض لا يبقى زمنين وإثبات الحال وهي صفة لموجود لاموجودة ولامعدومة وغير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة ثم ذهب الشيخ أبوالحسن والقاضي أبو بكر والآستاذ أبو إسحق إلى أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها ولهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد، والقدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. وإذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي وإثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس، التي هي الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض والعام وهذا باطل عند المتكلمين. والكلي والذاتي عندهم إنما هو اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه، أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس والتعريف المبني عليها والمقولات العشر، ويبطل العرض الذاتي، فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان وتبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل. وهي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس، ولا يبقى إلا القياس الصوري. ومن التعريفات المساوىء في الصادقية على إفراد المحمود، لا يكون أعم منها، فيدخل غيرها، ولا أخص فيخرج بعضها، وهو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع والمنع، والمتكلمون بالطرد والعكس، وتنهدم أركان المنطق جملة. وإن أثبتنا هذه كما في علم المنطق ابطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أد لتهم على العقائد كما مر، فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق، وعدوه بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل. والمتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة، ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله،وصح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي ووجود الماهيات الطبيعية وكلياتها في الخارج، قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية، وإن كان منافيا لبعض أدلتها، بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية، كنفي الجوهر الفرد والخلاء وبقاء الأعراض وغيرها، ويستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر والقياس العقلي. ولم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه، وهذا راي الإمام والغزالي وتابعهما لهذا العهد، فتأمل ذلك واعرف مدارك العلماء ومآخذهم فيما يذهبون إليه. والله الهادي والموفق للصواب.
الفصل الرابع والعشرون
الطبيعياتوهوعلم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسكون، فينظرفي الأجسام السماوية والعنصرية وما يتولد عنها من إنسان وحيوان ونبات ومعدن، وما يتكون في الأرض من العيون والزلازل، وفي الجو من السحاب والبخار والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك. وفي مبدإ الحركة للأجسام وهو النفس على تنوعها في الإنسان والحيوان والنبات. وكتب ارسطوفيه موجودة بين ايدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة، أيام المأمون، وألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان والشرح.
وأوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء، جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ، ثم لخصه في كتاب النجاة وفي كتاب الإشارات، وكأنه يخالف ارسطو في الكثيرمن مسائلها ويقول برأيه فيها. وأما ابن رشد فلخص كتب أرسطو وشرحها متبعا له غيرمخالف. وألف الناس بعده! في ذلك كثيراً، لكن هذه هي المشهورة لهذا العهدوالمعتبرة ، فى الصناعة. ولأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لابن سينا، وللإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن، وكذا الآمدي. وشرحه أيضاً نصير الدين الطوسي المعروف بخواجة، من أهل المشرق، وبحث مع الإمام في كثير من مسائله، فأوفى على أنظارهوبحوثه. وفوق كل ذي علم عليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الخامس والعشرون
علم الطب

ومن فروع الطبيعيات صناعة الطب، وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح، فيحاول صاحبها حفظ الصحة وبرء المرض بالآدوية والآغذية، بعد أن يبين المرض الذي يخص كل عضومن أعضاء البدن، وأسباب تلك الامراض التي تنشأ عنها وما لكل مرض من الآدوية، مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها، وعلى المرض بالعلامات المؤذية بنضجه وقبوله للدواء، أولاً: في السجية والفضلات والنبض، محاذين لذلك قوة الطبيعة، فإنها المدبرة في حالتي الصحة والمرض. وإنما الطيبب يحاذيها ويعينها بعض الشيء، بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة والفصل والسن،ويسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب. وربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام وجعلوه علماًخاصاً، كالعين وعالمها وأكحالها. وكذلك ألحقوا بالفن منافع الأعضاء ومعناه التي خلق لأجلها كل عضو من أعضاء البدن الحيواني. وإن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب، إلا إنهم جعلوه من لواحقه وتوابعه.
ولجالينوس في هذا الفن كتاب جليل، عظيم المنفعة، وهو إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين، يقال إنه كان معاصرا لعيسى عليه السلام، ويقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب ومطاوعة اغتراب. وتآليفه فيها هي الآمهات التي اقتدى بها جميع الآطباء من بعده. وكان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاؤوا من وراء الغاية، مثل الرازي والمجوسي وابن سينا، ومن أهل الأندلس أيضاً كثيرٌ. وأشهرهم ابن زهر. وهي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران وتناقصه، وهي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة والترف كما نبينه بعد.
وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصره علىبعض الأشخاص، ويتداولونه متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا عن موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون: كالحرث بن كلدة وغيره. والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شىءوإنما هوأمر كان عادياً للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي صلىالله عليهوسلم، من نوع ذكرأحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: " أنتم أعلم بأموردنياكم . فلا ينبغي أن يحمل شيء من الذي وقع من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه ، اللهم إلا إن استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني ، فيكون له اثر عظيم في النفع. وليس ذلك من الطب المزاجي وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية، كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه. والله الهادي إلى الصواب لا رب سواه.
الفصل السادس والعشرون
الفلاحةهذه الصناعة من فروع الطبيعيات، وهي النظرفي النبات من حيث تنميته ونشؤه بالسقي والعلاج واستجادة المنبت وصلاحية الفصل وتعاهده بما يصلحه ويتمه من ذلك كله. وكان للمتقدمين بها عناية كثيرة، وكان النظر فيها عندهم عاماً في النبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصه وروحانيته ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر، فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك. وترجم من كتب اليونانيين، كتاب الفلاحة النبطية، منسوبة لعلماء النبط، مشتملة من ذلك على علم كبير. ولما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب، وكان باب السحر مسدوداً، والنظر فيه محظوراً، فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك، وحذفوا الكلام في الفن الآخرمنه جملةً. واختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج، وبقي الفن الآخرمنه مغفلأ. نقل منه مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر إن شإء الله تعالى.
وكتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة، ولا يعدون فيها الكلام في الغراس والعلاج وحفظ النبات من حوائجه وعوائقه وما يعرض في ذلك كله وهي موجودة.
الفصل السابع والعشرون
علم الإلهيات

وهي علم ينظر في الوجود المطلق. فأولاً في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات، من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك، ثم ينظر في مبادىء الموجودات وأنها روحانيات، ثم في كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها، ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدإ. وهو عندهم علم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه، وأن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الردعليهم بعد. وهوتال للطبيعيات في ترتيبهم، ولذلك يسمونه علم ماوراء الطبيعة وكتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس ولخصه ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة وكذلك لخصها ابن رشد من حكماء الأندلس ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها، ورد عليهم الغزالي مارده منها، ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث، وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها، فصارت فن واحد. ثم غيروا ترتيب الحكماء فى مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فناً واحداً قدموا فيه الكلام في الأمور العامة، ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها ثم بالروحانيات وتوابعها، إلى آخر العلم، كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية، وجميع من بعده من علماء الكلام.
وصار علم الكلام مختلطاً بمسائل الحكمة، وكتبه محشوة بها، كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد. والتبس ذلك على الناس، وهو صواب، لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة، كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه، بمعنى أنها لا تثبت إلا به. فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره. وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج، فليس بحثاً عن الحق فيها ليعلم بالدليل بعد أن لم يكن معلوماً هو شأن الفلسفة، بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها، وتدفع شبه أهل البدع عنها، الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية. وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها، وكثير ما بين المقامين. وذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية، فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية، فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشارع إلى مدرك، فينبغي أن نقدمة على مداركنا ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولوعارضه، بل نعتقد ما أمرنا به اعتقاداً وعلماً، ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه.
والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية، فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضتهم، واستدعى ذلك الحجج النظرية، ومحاذاة العقائد السلفية بها. وأما النظر في مسائل الطبيعيات والإلهيات بالتصحيح والبطلان، فليس من موضوع علم الكلام، ولا من جنس أنظار المتكلمين. فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتآليف. والحق، مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل. وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال، وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتقاد بالدليل، وليس كذلك. بل إنما هو رد على الملحدين، والمطلوب مفروض الصدق معلومة.
وبهذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضاً، فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام واحداً فيها كلها. مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك. والمدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة، وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة، لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل. والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله أعلم بالصواب.
الفصل الثامن والعشرون
علوم السحر والطلسمات==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-الي هنا ---------------------------