ج7وج8.كتاب البصائر والذخائر أبو حيان التوحيدي
جاء مزبّد إلى بئرٍ ليستقي منها فوجد الحبل كثير
العقد فقال: ليس هذا حبل، هذا سبحة العجوز؛ هكذا قال، ومتى أعربت برد اللفظ وخالف
المحكيّ، والغرض غير ما قيل على ما قيل، ومتى حرّف زال عن الاستطراف، إلا أن يكون
البيان عن عربيٍّ فصيح اللهجة أو أعرابي بيّن اللسان، فإن ذاك متى تحّرف أيضاً فسد.
حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت جاريةً سوداء في درب
الزعفراني - وكانت جسيمةً ضخمة -
فقلت لصاحب لي: ما في الدنيا أضرط من سوداء، فقالت: من
جانبٍ في لحيتك.
قال أبو العيناء: سمعت جاراً لي أحمق وهو يقول لجار له:
والله لهممت أن أوكّل بك من يصفع رقبتك ويخرج هذا الجنون من أقصى حجر بخراسان.
قيل لبعض ولد أبي لهب: العن معاوية، قال: ما أشغلني ب
تبّت.
أمر المتوكّل ببدرةٍ فوضعت في أقصى الدار، ودعا بعّبادة
وبالزرجونة فقال لهما: من عدا إلى تلك البدرة وسبق وأخذها فهي له، فتعاديا جميعاً
فسبقته الزرجونة فأخذت البدرة، فقال المتوكل: ويلك تسبقك امرأة؟ فقال: يا سيّدي هذه
تعدو ببدادين وأنا أعدو بخرجين، وبيننا كثير.
قال أبو العيناء: بينا أنا في طريق مكّة في يومٍ حارٍّ
إذا شيخٌ قد لجأ إلى ميلٍ وعليه شملةٌ خلقة، فقلت له: ممّن الرجل؟ فقال: من هذه
القفرة، فقلت: فمن أين معاشكم؟ قال: منكم معاشر الحجّاج، قلت: نحن نأتيكم في السنة
ثلاثة أسهر فالباقي من أين؟ فقال: إنّ الله عزّ وجلّ رزقنا من حيث لا ندري أكثر
مما رزقنا من حيث ندري؛ قلت: هل لك في أرض الرّيف والخصب، أرض العراق أو الشام؟
قال: لولا أن الله تعالى أرضى بعض العباد بشرّ البلاد، ما وسع خير البلاد جميع
العباد.
قال أبو العيناء في كلامٍ له: كان أبي يحبّني، فقال ابن
مكرّم: كان أبوك يحب الخرا قال: فلو رآك إذاً للطعك.
قال رجلٌ لآخر في الحمّام: أيش تعمل ها هنا؟ قال: أسوّي
لأمّك مهزّة.
لما مات عروة بن الورد قالت سلمى: يا عروة ما كان أكلك
باجتحاف، ولا شربك باشتفاف، ولا لبستك بالتفاف، ولا نومك بالتحاف، وال كنت تشبع
ليلة الأضياف، ولا تنام ليلةً تخاف.
فصلٌ لكاتب: وصل إليّ كتابك لا عدمتك إّلا برؤيته.
قال أعرابيٌّ لآخر في كلامٍ له: أتجلب التّمر إلى هجر؟
قال: نعم إذا أجدبت أرضها وجف نخلها.
شاعر: الطويل
تركت لك القصوى لتدرك فضلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي
فرق
ولم يك بي عنها نكولٌ وإنّما ... تغاضيت عن حقّي فتمّ لك
الحقّ
ولا بدّ لي من أن أكون مصلّياً ... إذا كنت أرضى أن يكون
لك السّبق
قال أبو العيناء، قال الأصمعي: قلت لأعرابي: أين منزلك؟
قال: من وراء اليمن بطالعين، يريد بشهرين.
غزا قاصٌّ فقيل له: أتحبّ الشهادة؟ فقال: أي والذي أسأله
أن يردّني إليكم.
عرضت على مديني جاريةٌ فقال: ما أدقّ رأسها!فقالت: تريد
أن تبني على رأسي غرفة.
دخل أبو العيناء على ابن مكرّم فقال له: كيف أنت؟ فقال
له أبو العيناء: كما تحبّ، فقال: فلم أنت منطلق كالحزنبل؟ شاعر: الطويل
ألا ربّ همٍّ يمنع النوم برحه ... أقام كقبض الراحتين
على الجمر
بسطت له وجهي لأكبت حاسداً ... وأبديت عن نابٍ ضحوكٍ وعن
ثغر
وشوقٍ كأطراف الأسنّة في الحشا ... ملكت عليه طاعة الدمع
أن يجري
دعا أعرابيٌّ فقال: اللهمّ ارزقني نفساً طيبة مطمئنة
قانعةً بعطائك، راضيةً بقضائك، موقنةً بلقائك.
قال مساور بن هند لرجل: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا
المساور بن هند، قال: ما أعرفك، قال: فتعساً ونكساً لمن لا يعرف القمر.
قيل لصوفيّ: ما نصيبك من الحقّ؟ قال: نصيبي منه أنّي
نصيبه وكفاني.
أبو العتاهية: المديد
اقطع الدنيا بما انقطعت ... وادفع الدنيا بما اندفعت
واقبل الدنيا إذا سلست ... واترك الدنيا إذا امتنعت
تطلب النفس الغنى أبداّ ... والغنى في النفس لو قنعت
كتب عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى سلمان الفارسي رضي
الله عنه وهو بالمدائن: أما بعد، فإنّ مثل الدنيا مثل الحيّة ليّنٌ مسّها، قاتلٌ
سمّها، فأعرض عما يعجبك منها، لقلّة ما يصحبك عند مفارقتها، وضع عنك همومها لما تؤمن
به من سرعة فراقها، ولتكن أسرّ ما تكون بها أحذر ما تكون لها، فإنّ كلّ من اطمأنّ
إليها وإلى سرورها أشخصته إلى مكروهها.
قيل لصوفّي: ما الفرق بينك وبينك؟ قال: الحقّ.
قال الجمّاز لقينةٍ: البسيط
ماذا تقولين فيمن شفّه حزنٌ ... من شدّة الحبّ حتى صار
حرّانا
فقالت:
إذا رأينا محبًّا قد أضرّ به ... جهد الصّبابة أوليناه
إحسانا
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: ما افتقرت كفٌّ تختّمت
بفيروزج، وتفسيره ظفر؛ هكذا قال أبو جعفر ابن بابويه، وما لحقت شيخاً أكبر منه ولا
أطول باعاً في العلم، وما أدري كيف حقيقة هذا، وللرافضة أخبار كثيرة يروونها عن
جعفر بن محمد عليه السلام لم يقلها قط، ولا محصول لها، ولا فائدة معها، ولا حقيقة لشيءٍ
منها، وتى رددتها عليهم غضبوا وشنعوا وقالوا: أنت رديْ الدين ولهذا تردّ على
الصادقين.
خرج المأمون يوماً إلى ندمائه ومعه رقعةٌ مكتوب فيها: يا
موسى، فقال: هل تعرفون لها معنى. فقالوا: لا، فقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: يا
أمير المؤمنين، هذا إنسان يحذّر إنساناً، أما سمعت الله تعالى يقول " يا موسى
إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من النّاصحين " فقال المأمون:
صدقت، هذه صرف جاريتي، كتبت إلى أختها متيّم جارية عليّ بن هشام أننا على قتله
فحذرته؛ فما ردعه ذاك عن قتله.
روي أن جاراً كان يتراءى لعائشة، فأمرت بقتله، فرأت في
المنام قائلاً يقول لها: قتلت رجلاً من مسلمي الجنّ، قالت: لو كان مسلماً اطّلع على
نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقيل: إنما كان يجيء فيستمع القرآن؛ فتصدقت
باثني عشر ألف درهم.
قيل لداود بن رشيد: لم كره الناس أن يدخلوا بنسائهم في
شوّال؟ قال: مات فيه بالطاعون الجارف تسع عشرة ألف عروس.
وصف أعرابيٌّ مطراً فقال: السماء واكفةٌ والأرض راشفةٌ.
لما عزم نوبخت على الإسلام كتب رقعتين، إحداهما "
الدين والإسلام ومحمد وآله
" وكتب في أخرى " المجوسية ومحبة الشمس "
ودعا برجل من المسلمين فقال: ادفنهما حيث شئت، فدفنهما وخرج، ودخل نوبخت فأخذ الارتفاع،
فوجد السعود كلها في ناحية المشرق فقال: الحق في المشرق، وأخرج الرقعة فإذا رقعة " الإسلام
ومحمد وآله " وكان ذلك سبب تشيّعه.
قال ابن جدار المصري: قال لي أبو العمثيل شاعر بني طاهر
النعمان اسمٌ من أسماء الدم، ولم يعن شقائق النعمان بن المنذر؛ قال أبو العمثيل:
حدثت به الأصمعيّ وكتبه.
هذا غريب جداً، وليته وصله بشاهدٍ أو حديثٍ أو مثالٍ أو
كتاب، فليس كلّ مرسلٍ مقبولاً ولا كلّ عارضٍ ثابتاً، ولولا الشاهد والمثل وقفت
الرّواية وانتهى العلم وسقط التفاضل.
قال أعرابي: خير أموال الناس أشبههم بالناس، يعني النخل.
قال ثعلب: قول الناس " ماخور " لتردد الناس
فيه، ومنه قول الله عزّ وجلّ
" وترى الفلك مواخر فيه " قال اليزيدي: مخرت
السفينة إذا شقّت الماء بجؤجؤها، والمواخر هي الشواقّ.
قال بعض العلماء: ما جيل من الأجيال ولا أمة من الأمم
إّلا ولهم أمور قد اصطلحوا عليها وسنن قد ألفوها، يحمدون في بعضها ويذمّون، ولم
يحو جيلٌ منها جميع المحمود، ولا احتازت أمةٌ منها جميع المذموم، ولكن تقاسموا
المحامد والمذامّ تقاسماً بالجواهر والطبائع، وبالإكراه والاختيار، وبالدّواعي
الظاهرة والأسباب الخافية. على ذلك تجد الهند والروم والفرس والعرب، وهؤلاء هم
أرباب جميع الفضائل، والناس عليهم عيالٌ من بعد لأنهم الأركان والعمد والجراثيم
والأصول، ومن عداهم تابعٌ لهم وآخذٌ منهم وسالكٌ سبيلاً من سبلهم. انظر إلى العرب
مع فضلها وذكائها، ولسانها وبيانها، وسيفها وسنانها، وصبرها وعزائها، وسخائها
وشجاعتها، ورأيها وبديهتها، وفكرها وغوصها، ومعرفتها التي هي خالص الجوهر وزبدة الطبيعة،
لأنّ أمرهم في القديم جرى على هذه وبهذه الأسباب عرف، وذلك أنّ فساد الحاضرة ونفج
المترفين ومحبّ الراحة ورعونة أصحاب النعم كانت بعيدةً عنهم، وكانوا في جميع
متصرّفهم واختلاف أحوالهم لا يعرفون إّلا التساجل بالبيان والعقل، والتباهي
بالصّواب والأدب، وكانوا في كلّ فصلٍ على أقصى حدوده وأعلى قلله، وعلى هذه الحال،
فإذا فصلت أحوالهم وميّزت أمورهم أصبت أشياء هي في جانبٍ من العقل وعلى بعدٍ من
الحقّ، مثل كيّهم السّليم من الإبل إذا أصابها العرّ ليذهب العرّ عن السّقيم؛ هذا
زعمهم وعلمهم وعليه بصيرتهم وعملهم؛ وكشقّ الرجل برقع حبيبته وشقّ الحبيبة رداء
حبيبها، وقولهم إنها متى لم تفعل هذا وهو متى لم يفعل ذاك عرض السيف بينهما
واستحالت المحبة بغضاً، والاستحلاء مقتاً، والقبول رداً، وفيه قال عبد بني الحسحاس: الطويل
وكم قد شققنا من رداءٍ محبّرٍ ... ومن برقعٍ عن طفلةٍ
غير عانس
إذا شقّ برد شقّ بالبرد برقع ... دواليك حتى كلّنا غير
لابس
وكما علّقوا الحليّ على السليم رجاء إفاقته؛ قال
النابغة: الطويل
يسهّد من بيت العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه
قعاقع
وكما فقأوا عين الفحل إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً، فإن
زادت على الألف فقأوا العين الأخرى: يزعمون أن ذلك يدفع عنها العارة والعين.
وكما سقوا العاشق ماء السلوان؛ قال الأصمعي: هي خرزةٌ
تحلّ بماءٍ ثم تسقى أصحاب الهوى؛ فزعموا أنه يسلو صاحب العشق بذلك. قال: ويقال سلا
يسلو سلوًّا إذا ذهلت نفسه عنه؛ قال: ويقال: سلي يسلى سلوًّا، ويقال أيضاً: سلى
يسلى سلياً، قال رؤبة: الرجز
لو أشرب السلوان ما سليت ... ما بي غنىً عنك ولو غنيت
وكما أوقدوا خلف المسافر ناراً إذا كرهوا إيابه.
وكما ضرب الثور إذا امتنعت البقر من الماء.
وكما زعموا أنّ المقلات إذا وطئت رجلاً شريفاً مقتولاً
عاش ولدها، والمقلات: التي لا يعيش لها ولد.
وكما زعموا أنّ الرجل إذا خدرت رجله فذكر أحبّ الناس
إليه ذهب عنه الخدر.
وكما يحذف الصبيّ سنّه إذا سقطت في عين الشمس ويقول:
أبدليني بها أحسن منها؛ ويزعمون أن الصبيّ متى لم يفعل هذا لم تنبت أسنانه إّلا
عوجاً ولا تعلق.
وكما قالوا إن الفرس المهقوع - والهقعة دائرة تكون
بالفرس - إذا ركبه رجلٌ فعرق الفرس اغتلمت امرأته وطمحت عينها إلى غير أبي مثواها،
وقد قال رجلٌ من العرب: الطويل
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرًّا
عجانها
فأجابه آخر: الطويل
وقد يركب المهقوع من لست مثلةً ... وقد يركب المهقوع زوج
حصان
وكما عقدوا السّلع والعشر في أذناب الثيران وأضرموا
النار فيها وأصعدوها جبلاً وعراً يستسقون بذلك، ويدعون الله عزّ وجلّ، هذا إذا
أمحل البلد وعزّ القطر.
وكما أن من ولد في القمر رجعت قلفته وكان كالمختون.
وكما عقدوا الرّتيمة بغصن الشجرة عند السّفر وتفقّدوها
عند الإياب، فإذا وجدوها على حالها قضوا بأنّ الحليلة لم تخن، وإن وجدوها منحلّةً
حكموا بفجورها.
وكما زعموا أن الداخل إلى بلد مخوف الوباء يجب أن يقف
على أوائل البلد فينهق كما ينهق الحمار، ومتى فعل ذلك أمن وباءها.
وكما زعموا أن من علّق على نفسه كعب أرنبٍ لم تقربه
الجنّ.
فأمّا ما كان مثل إمساكهم عن بكاء القتيل إلى أن يؤخذ
بثأره، فالغرض فيه ظاهر، والعادة فيه مقبولة، وهذا الضّرب معروف السبب، صحيح
العلّة، وليس من الأوّل في شيءٍ، لأنّ تلك دلّت على سفه الأحلام وعلى جهل الطباع
وعلى فساد المعرفة.
وهكذا الفرس في كثيرٍ من أمورها وعاداتها وأخبارها
ورواياتها.
ومتى حسنت غايتك بتصفّح أسرار العالم وأخلاق الأمم رأيت
العجائب وعرفت الغرائب.
وللهند ما يربي على جميع الناس؛ وأقلّهم تخليطاً الروم،
وذلك أيضاً لأسبابٍ؛ على أنهم ما خلوا ولا عروا.
شاعر: الكامل
يا من يؤمّل أن تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت
واسمع
فلأنصحنّك في المشورة والذي ... حجّ الحجيج إليه فاقبل
أو دع
اصدق وعفّ وبرّ واصبر واحتمل ... واحلم ودار وكفّ واسمح
واشجع
للخنساء ويقال لأبي المثلّم الهذلي: البسيط
لو أن للدهر مالاً كان متلده ... لكان للدهر صخرٌ مال
قنيان
آبي الهضيمة حمّال العظيمة مت ... لاف الكريمة لا سقطٌ
ولا وان
حامي الحقيقة نسّال الوديقة مع ... تاق الوسيقة جلدٌ غير
ثنيان
ربّاء مرقبةٍ منّاع مغلبة ... ورّاد مشربةٍ قطّاع أقران
شهّاد أنديةٍ حمّال ألويةٍ ... هبّاط أوديةٍ سرحان فتيان
التارك القرن مصفرّاً أنامله ... كأنّ في ريطتيه نضح
أرقان
يعطيك ما لا تكاد النفس تبلغه ... من التّلاد وهوبٌ غير
منّان
قيل لعاصم بن عيسى: بم سدت قومك؟ قال:ببذل النّدى، وكفّ
الأذى، ونصرة المولى.
من كلام الأوّلين على وجه الدهر: إذا زللت فارجع، وإذا
ندمت فأقلع، وإذا أسأت فاندم، وإذا منيت فاكتم، وإذا قريت فأفضل، وإذا منعت فأجمل.
قيل لأبي هاشم الصوفي وقد جاء من ناحية النهر: في أيّ
شيءٍ كنت اليوم؟ قال: في تعليم ما لا ينسى وليس لشيءٍ من الحيوان عنه غنى، قيل:
وما هو؟ قال: السّباحة.
قال بعض الملوك لوزرائه: أيّ الرّجال خيرٌ؟ قال بعضهم:
الشّجاع، قال: الشجاع يموت فيذهب ذكره؛ قال آخر: السّخيّ، قال: السخي ينفذ ما
عنده؛ قال آخي: التّقيّ، قال: التقيّ تقواه لنفسه، قالوا: فمن؟ قال: الذي يموت
ويبقى تدبيره.
شاعر: الكامل
ما زالت الدنيا تقلّب بالفتى ... طوراً تجود له وطوراً
تسلبه
من لم يزل متعجّباً من حادثً ... تأتي به الأيام طال
تعجّبه
قال الثوريّ لشريك بن عبد الله: لم ترض أن وليت القضاء
لمنصور حتى وليت للمهدي؟ فقال: إني شيخٌ كبير وعليّ دينٌ ولي عيال، فقال سفيان:
والله لأن تلقى الله ومعك دينك وعليك دينك أفضل من أن تلقاه وأنت عاملٌ لهم.
تزوج رجلٌ صغير الأير امرأةً، فلما دخل بها اعتذر إليها
فقال: هو وإن كان صغيراً فهو ذكيّ، قالت: ليته كان كبيراً وهو أبله، أيش عليّ من
بلهه؟! قال الكندي: من أراد الإلقاح فليقطر على الحشفة زئبقاً خالصاً ويذرّ عليها شيئاً
من المسك ليطرد برد الفرج ريحه فإنه يلقح.
قال كسرى لبعض عمّاله: كيف نومك بالليل؟ قال: أنامه
كلّه، قال: أحسنت، لو سرقت ما نمت هذا النوم كلّه.
ذكر المغيرة عمر فقال: كان به عقلٌ يمنعه من أن يخدع،
ودينٌ يمنعه من أن يخدع.
قيل ليزيد بن المهلّب: بم نلت هذا الأمر؟ قال: بالعلم؛
قالوا: فقد رأينا من هو أعلم منك لم ينل ما نلت؛ قال: ذلك علمٌ أخطئ به مواضعه،
وهذا علمٌ أصيب به فرصته.
قيل لفيلسوفٍ: فلانٌ يحسن القول فيك، قال: سأكافيه، قيل:
بماذا؟ قال: بأن أحقّق قوله.
أغلظ سفيهٌ فقيل له: لم لم تغضب؟ فقال: إن كان صادقاً
فليس ينبغي أن أغضب، وإن كان كاذباً فبالحري أن لا أغضب.
تقدّم إلى الشعبيّ رجلان فقال أحدهما: إني اشتريت من هذا
غلاماً صبيحاً فصيحاً صحيحاً، فقال: هذه صفة محمد بن عمير سيّد بني تميم.
كان على سيف بعض الشّراة مكتوباً: ثأر الله من الظالمين.
شاعر: الطويل
حسامٌ غداة الرّوع ماضٍ كأنّه ... من الله في قبض النفوس
رسول
قال رجل لآخر: أتدري لم غلا السّعر ببغداد؟ قال: لا،
قال: لأنّ كلّ بلدٍ خبزه أكثر من أهله وبغداد أهله أكثرن خبزه.
قيل لأعرابي: أتحنّ إلى الحاضرة؟ فقال: البادية أفسح،
والجسم فيها أصحّ.
كاتب: لي حرمةٌ سالفةٌ، وفيك أملٌ قديمٌ، وهما يقتضيانك
حقاً لا تدفعه، ويطالبانك بذمامٍ لا تنكره.
قال واصل بن عطاء: لأن يقول الله عزّ وجلّ لي يوم
القيامة: " هلاّ قلت " أحبّ إلي من أن يقول: " لم قلت " لأنه
إذا قال: لم قلت؟ طالبني بالبرهان، وإذا قال: هلاّ قلت، فليس غير ذلك يزيد.
استدلّ هشام بن الحكم على أنّ الباري جلّ جلاله جسمٌ
بقوله " لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ " ؛ قال: لو كان غير جسمٍ لم يكن هذا
مدحاً.
وقال أبو حامد المروزوذي: ألا تعلم أنه لو كان جسماً لم
كان هذا منفياً؟ وكان يقول: لا أدري ما فائدة هشام في اعتقاده أنه جسمٌ وهو يعلم
اضطراراً أن نفي هذا الاسم على الحدّ المقتضى أدخل في التوحيد.
قال سهل الأحول - وكان يكتب لإبراهيم بن المهدي - : ما
أحسن حسن الظنّ إّلا منه العجز، وما أقبح سوء الظنّ إّلا أن فيه الحزم.
قال بعض الناظرين في معاني القرآن: " وما قتلوه وما
صلبوه " هذه الهاء للظن
" إنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك ٍمنه ما لهم من
علمٍ إّلا اتّباع الظّنّ وما قتلوه يقيناً " ذلك الظنّ.
مات أخٌ لجحا فقالت له أمه: اذهب فاشتر الكفن والحنوط،
قال: لا أذهب، ابعثوا غيري، قالوا: لم ؟ قال: أخاف أن تفوتني الجنازة.
قال أبو العيناء: أكلت مع بعض أمراء البصرة فقدّم إلينا
جديٌ سمينٌ، فضرب القوم بأيديهم إليه فقال: ارفقوا به فإنه بهيمة.
قال ابن مسعودٍ رحمه الله: ما الدّخان على النّار بأدلّ
من الصّاحب على الصّاحب.
قال بعض المفسّرين: قوله تعالى " تفقّد صواع الملك
" الصواع: الطرجهارة.
سئل أعرابيٌ عن راعٍ فقال: هو الرائح الباكر، الحالب
العاصر، والحاذف الكاسر.
قال صالح بن سليمان: لا تستصغروا أحداً فإنّ العزيز ربما
شرق بالذباب.
قيل لمزبّد: لم لا تكون كفلان؟ - يعني رجلاً موسراً -
فقال: بأبي أنتم، كيف أشبه بمي يضرط فيشمّت، وأعطس فألطم؟ العرب تقول في أمثالها:
ليس ابن أمّك كابن علّة.
قال بعض البلغاء لرجلٍ يصفه: لو أراد الخير أن يتلبّس
لبوساً حسناً ما تلبّس إّلا بك.
شاعر: مجزوء الكامل
لم يبق من طلب الغنى ... إّلا التعرّض للحتوف
فلأفعلن وإن رأي ... ت الموت يلمع في السيوف
إني امرؤٌ لم أوت من ... طلبٍ ولا همٍّ شريف
لكنّه قدرٌ يزو ... ل عن القويّ إلى الضّعيف
كتب كسرى إلى هرمزد: استقلل كثير ما تعطي واستكثر قليل
ما تأخذ، فإنّ قرّة عين الكريم فيما يعطي، وسرور اللئيم فيما يأخذ؛ ولا تجعل
الشحيح أميناً، ولا الكذاب صفيّاً، فإنّه لا عفّة مع شحٍّ، ولا أمانة مع كذبٍ.
قال شاعر في وصف سيف: الكامل
إني لبست لحربكم فضفاضةً ... كالنّهي رقرقه رياح شمال
ومهنّداً كالملح ليس لحدّه ... عهدٌ بتمويهٍ ولا بصقال
ترضيك هزّته إذا ما شمته ... وتقول حين تراه: لمعة آل
شاعر يصف بعيراً: الرجز
كأنّما الزّمام والتصدير ... يمدّه حين يقال سيروا
عمود ساجٍ جوفه منجور ... عام به في لجةٍ قرقور
في ذي صراريّ له صرير
دخل سعيد بن عتبان الجعفري على هشام بن عبد الملك فقال:
يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أصفك بصفتك، فإن ينحرف كلام فلهيبة الإمام وتصرّف
الأعوام، فربّ جواد عثر في استنانه، وكبا في ميدانه، فرحم الله عبداً أقصر عن
لفظه، وألصق الأرض بلحظه؛ فخاف هشامٌ أن يتكلّم بكلامٍ يقصّر به عن جائزته، فعزم
عليه فسكت.
قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك؟ قال: أرى دخان جاري فأثرد.
قام رجلٌ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير
المؤمنين،اذكر بمقامي هذا مقاماً لا يشغل الله عنك فيه كثرة من يختصم إليه حين
تلقاه بلا ثقةٍ من عمل، ولا براءةٍ من ذنب؛ فبكى حتى غشي عليه، ثم قضى حاجته.
لما انصرف أبو مسلمٍ من حرب عبد الله بن علي رأى كأنّه
على فيلٍ والشمس والقمر في حجره، فأرسل إلى عابرٍ يألفه ويسكن إليه فقصّ عليه
فقال: الرسم، فقبض عشرة آلاف درهم، فقال: قل، فقال: اعهد عهدك فإنك هالكٌ، قال
الله تعالى " ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل
" وقال: " وجمع الشّمس والقمر يقول الإنسان يومئذٍ أين المفرّ " .
قال مالك بن طوق للعتّابي: إني رأيتك سألت فلاناً حاجةً فرأيتك
قليلاً، قال: وكيف لا أكون قليلاً ومعي حيرة الحاجة، وذلّ المسألة، وخوف الرّدّ؟
قال ابن السّمّاك: اللهمّ إني آمر بطاعتك وربّما قصّرت، وأنهى عن معصيتك وربّما
اقترفت، وقد تعلم إنّي إنما أدور على أن أعظّمك في صدور خلقك، فارحمني بذلك يا
أرحم الراحمين.
تقدّم إلى سوّار بن عبد الله ثلاثة إخوة في قسمة ميراثٍ
فقال: اجعلوا لأكبركم خير المواضع، فال أحدهم: لا أفعل حتى تقرع بيننا، قال: ويحك
لم؟ قال: لأنّي بحظّي أوثق مني بعقلي، فأقرع فخرج خيرها له.
قال بهرام جور: إذا تقدّم في الأعمال قبل وقتها انتفع
بها في وقتها، وإذا عملت في وقتها انتفع بها بعد وقتها، وإذا عملت بعد وقتها لم
ينتفع بها.
شاعر في المأمون: الخفيف
خلّفوه بعرصتي طرسوس ... مثلما خلّفوا أباه بطوس
شاعر يهجو قوماً: البسيط
بيض المطابخ لا تشكو ولائدهم ... غسل القدور ولا غسل
المناديل
قال ابن عبّاس رحمه الله: الحوت الذي كان مع موسى عليه
السلام كان مشقوق البطن مملوحاً.
كان محمد بن أبي خالد من أحسن الناس وجهاً؛ قال: كنت
أصلّي في يوم عيد خلف المأمون وإلى جانبي يحيى بن أكثم ومن الجانب الآخر عمرو بن
مسعدة، فلما سجد قال لي يحيى في سجوده سرّاً: أنا والله ميتٌ من حبك يا حبيبي.
أظنّ يحيى بن أكثم لم يعبأ بصلاة العيد لأنها سنّة،
ولعلّه لو كان في فريضةٍ لما عمل هذا، إن صحّت الحكاية.
لعمرو بن دعبل في محمد بن عبد الله بن بشر: الوافر
رغيف محمدٍ ضخمٌ ولكن ... مصافحة الكواكب دون لمسه
يبيت رغيفه معه ضجيعاً ... مخافة آكلٍ من دون عرسه
يصون رغيفه بخلاً عليه ... ويبذل عرضه من دون فلسه
ووجه محمد حسنٌ طريرٌ ... ولكن شانه بدناة نفسه
ولو غمس ابن بشرٍ في بحارٍ ... لجفّفها ويبّسها بيبسه
قال أعرابي: إنّ الباقي وإن كان عزيزاً لأهل أن يطلب،
وإن الفاني وإن كان موجوداً لأهل أن يرفض.
قال أبو عبيدة: قلت لابن فضالة: أيما أفضل عندك اليمن أم
العراق أم الشام؟ فقال: سبحان الله، ما يبغي لأحدٍ أن يسأل عن هذا وقد بينّه الله
تعالى في كتابه فقال: " ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم " يعني
الشام، وقال في اليمن " بلدةٌ طيّبةٌ وربٌّ غفورٌ " وقال " يعلّمون
النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " يعني العراق.
قال العتبي لأحمد بن أبي خالد الأحول: هل أنكرت عليّ يوم
دخولي إلى المأمون شيئاً؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: ضحك من شيءٍ فكان ضحكك أكثر
من ضحكه.
وهب رجلٌ لقاصٍّ خاتماً بلا فصٍّ فقال: وهب الله لك في
الجنّة غرفةّ بلا سقف.
قال جحظة: قال لي ثعلب: المرأة الصالحة كالغراب الأعصم
وهو الأبيض الرّجلين؛ قال: ولا يكاد يوجد.
وأنا أقول والرجل الصالح في هذا المكان كالكبريت الأحمر
قال ميمون بن هارون: ثلاث غلاّتٍ في ثلاثة بلدانٍ متساويات: الزيتون بفلسطين،
والتّمر بالبصرة، والأرز بالأهواز.
قال رجلٌ ليوسف عليه السلام: كيف صنع بك إخوتك حيث طرحوك
في الجبّ؟ فقال: لا تسألني عن صنيع إخوتي ولكن سلني عن صنيع ربّي.
قال المتوكّل للفتح بن خاقان وقد خرج عليهم وصيفٌ الخادم
المعروف بالصغير في أحسن زيّ: يا فتح أتحبّه؟ قال: أنا لا أحبّ من تحبّ، ولكني
أحبّ من يحبّك لا سيّما مثل هذا.
هذا جواب عقلٍ شريف الجوهر على المحلّ.
حضر رجلٌ جنازةً فنظر إلى لحد الميت، فلما دلّي في
الحفرة قال لأبي الهذيل: يا أبا الهذيل، الإيمان برجوع هذا صعب، فقال أبو الهذيل:
الذي أنشأه يعيده.
هذا جوابٌ مستوفىً لانّ النشأة الثانية مقيسةٌ على
النشأة الأولى، ولكنّ الجواب الذي يجري ف يمناقضة الرجل غير هذا، يقال للرجل: إن
كان الإيمان برجوع هذا صعباً فإهماله على ما كان له وعليه أصعب، لأنّ هذا المتعجّب
لا بدّ له من إثبات إحسانٍ وإساءةٍ وجورٍ وعدلٍ وخيرٍ وشرٍّ وحقٍّ وباطل، وكلّ هذا
قد تصرّف فيه هذا الملحد، فليس رجوعه ليجزى بما صنع إّلا دون إبطاله جملةً، لأنّ
الفاعل قد فعله في الأول وصرفه في الوسط، وأضاف إليه أشياء ووقف عليه أشياء، وتمام
الحكمة فيما ابتدأ به مرتبطٌ بإعادته ومجازاته، وإّلا فقد خلت الحال الأولى من غرض
الحكماء، وعادت العاقبة إلى لعب السفهاء، والخالق البارئ المصوّر جلّ فعله عما
يشينه ويشكّك في حكمته ويذهل العقل عن معرفته، وإنما ذهلت العقول وكلّت المعارف
عما تفرّد به في ذاته، فأمّا ما وصله بالخلق فقد أثار دفائنه وفتح خزائنه وقاد
العقول إلى تحصيله، وصرف اللسان على إيضاحه، وبعث الخواطر في انتزاعه، وقرن
التكليف في ذلك بتأييدٍ ولطفٍ وكفايةٍ وصنع. وإنما فتن هؤلاء القوم في هذه الأمور
لتسرّعهم بالحكم قبل عرفان العلة وقضائهم بالأمر قبل استقرار الأصل واستراحتهم إلى
السابق من غير اتهامٍ له، وهذا بلاءٌ قد عمّ وداءٌ قد دبّ؛ نعم وهل يصار إلى
الوجدان إّلا بعد أن يبتلى بكرب الطلب، وهل يطمأنّ إلى ما نشأ من الأصل إّلا بعد
التعب مع تأسيس الأصل، وهل يتنعّم بالمحبوب إّلا بعد عائقٍ شوّق إليه وتخوّف من
الانقطاع عنه؟ هكذا الترتيب في الشاهد وبه يذلً كلّ جاحد. جعلنا الله ممن إذا قصد الحقّ أصاب،
وإذا دعي إلى الخير أجاب، وإذا ألمّ بالشّبهة أقلع وأناب، وكفانا مؤونة الهوى،
فإنّه أسحر من الشيطان الرجيم.
أتى عمرو بن معدي كرب مجاشع بن مسعودٍ بالبصرة فقال له:
اذكر حاجتك، فقال: حاجتي صلة مثلي، فأعطاه عشرة آلاف درهم وفرساً من بنات الغبراء
وسيفاً قاطعاً ودرعاً حصينة وغلاماً خياراً؛ فلما خرج من عنده قال له الناس: كيف وجدت
صاحبك؟ قال: لله بنو سليمٍ ما أشدّ في الهيجاء لقاءها، وأكرم في اللّزبات عطاءها،
وأثبت في المكرمات بناءها، لقد قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها،
وهاجيتها فما أفحمتها، وأنشد: الطويل
ولله مسؤولاً نوالاً ونائلاً ... وصاحب هيجا يوم هيجا
مجاشع
نقلت هذا من خطّ ابن السّراج النّحوي؛ ومعنى قوله
أجبنتها: أي ما وجدتهم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين، ومتى شدّدت الحرف فقلت: بخّلته
انقلب المعنى إلى أنك تنسبه إلى البخل وبطل معنى وجدته، وهكذا نظائر هذا الحرف.
قال المدائني: قدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي على
المهلّب بن أبي صفرة فرأى بنيه قد ركبوا عن آخرهم فقال: أنّس الله بتلاحقهم
الإسلام، فوالله لئن لم يكونوا أسباط نبوّةٍ إنهم لأسباط ملحمةٍ.
قال قبيصة بن مسعود الشيباني يوم ذي قار يحرّض قومه:
الحذر لا يغني من القدر، والدّنيّة أغلظ من المنيّة، واستقبال الموت خيرٌ من
استدباره، والطعن في الثّغر خيرٌ منه وأكرم من الدّبر، يا بني بكر حاموا فما من
المنايا بدّ؛ هالكٌ معذورٌ خيرٌ من ناجٍ فرور.
كان الحجاج يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أتى الوفد الذين
قدموا على عبد الملك بن مروان من عند الحجاج وزياد حاضر قال زياد: يا أمير
المؤمنين إنّ الحجّاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا
تأخذه فيك لومة لائم؛ فلم يكن بعد ذلك أحد أخفّ على قلبه منه.
دخل جرير بن عبد الله على المنصور - وكان واجداً عليه -
فقال له: تكلم بحجّتك، فقال: لو كان لي ذنبٌ تكلّمت بعذري، ولكنّ عفو أمير
المؤمنين أحبّ إليّ من براءتي.
قال رجلّ لمالك بن طوق حين عزل عن عمله: أصبحت والله
فاضحاً متعباً، أما متعباً فلكلّ والٍ بعدك أن يلحقك، وأما فاضحاً فلكلّ والٍ قبلك
لحسن سيرتك.
قال العتبي: وقع ميراث بين ناسٍ من آل أبي سفيان وبني أمية
فتشاحّوا وتضايقوا، فارتفعوا إلى عمرو بن عتبة فقال: إن لقريش لدرجاً تزلق عنها
أقدام الرجال، وأفعالاً تخضع لها رقاب الأموال، وألسنا تكلّ عنها الشّفار
المشحوذة، وغاياتٍ تقصّر عنها الجياد المنسوبة، فلو كانت الدنيا لهم ضاقت عن سعة
أحلامهم، ولو احتفلت الدنيا ما تزيّنت إّلا بهم، ثم إنّ ناساً منهم تخلّقوا بأخلاق
العوام وكان لهم رفقٌ في اللؤم، وخرقٌ في الحرص، لو أمكنهم لقاسموا الطّير
أرزاقها، إن خافوا مكروهاً تعجّلوا له الفقر، وإن عجّلت لهم نعمةٌ أخّروا عنها
الشكر.
كاتب: أعطاك الله حتى ترضى، وزادك بعد الرّضى وتوخّى لك
من فضله وسعته ما لا تهتدي إليه مسألتك، ولا يحيط قلبك لمعرفته، وأضعف لك أضعافاً
تجوز منى المتمنّين واستزادة المستزيدين، وجعل ذلك موصولاً بالنعمة والثواب الذي
ذكره وذخره للمحسنين.
وقف أهل المدينة وأهل مكة بباب أبي جعفر، فأذن الربيع
لأهل مكة قبل أن يأذن لأهل المدينة، فقال جعفر بن محمد عليهما السلام: أتأذن لأهل
مكة قبل أهل المدينة؟ قال الربيع: إنّ مكّة العشّ، فقال جعفر عليه السلام: عشٌّ
والله طار خيره وبقي شرّه.
قال الحسن: إن الدين فوق القصير ودون الغلوّ.
قال ابن عائشة لرجلٍ معه صبي: من هذا؟ قال: يتيمٌ لنا،
قال: ابن من ؟ قال: ابن ابني، قيل به: أيكون من أنت أبوه يتيماً؟ فقال: قد سمّى
الله عزّ وجلّ نبيّه يتيماً وعبد المطلب حيّ، فمن أعلى من عبد المطلب؟! وقف
أعرابيٌّ على المدائني وكان همًّا والمدائني يأكل تمراً، فقال: شيخٌ همّ، غابر
ماضين، ووافد محتاجين، أكلني الفقر، وأذلّني الدّهر، فأعن ضعيفاً؛ فأعطاه.
قال سهل بن هارون: أدخل على الفضل بن سهل ملك التبت وهو
أسير فقال: أماترى الله عزّ زجلّ قد أمكن منك بغير عهدٍ ولا عقد، فما شكرك إن صفحت
عنك ووهبت لك نفسك؟ قال: أجعل النفس التي وهبتها بذلةً لك متى أردتها؛ فقال الفضل:
شكراً لله عزّ وجلّ؛ فكلّم المأمون فصفح عنه.
قال العتبي: ذم أعرابيٌّ رجلاً قال: تهون عليه عظام
الذنوب، وتحسن لديه قباح العيوب، ولئن كان في الأرض سباخٌ إنه لمن سباخ بني آدم.
سئل يزيد بن هارون عن أكل الطّين فقال: حرام، فقال
الرجل: أحرام؟ قال: نعم، من القرآن، قال الله عزّ وجلّ " يا أيّها النّاس
كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً " ولم يقل كلوا الأرض.
دعا أعرابيٌّ لرجلٍ فقال: اللهمّ كما كتبت لن عنده رزقاً
فاكتب له عندك أجراً.
قال سهل بن صخر لابنه: يا بنيّ إذا ملكت ثمن غلامٍ فاشتر
به غلاماً فإنّ الجدود في نواصي الرجال.
ذكر الشراب عند محمد بن واسع فقال: لولا أنهم يتكاتمون
عيوبه لما شربوه.
قال كسرى لأصحابه: أيّ شيءٍ أضرّ على الإنسان؟ قالوا:
الفقر، قال كسرى: الشحّ أضرّ منه، لأن الفقير إذا وجد اتّسع والشحيح لا يتسع وإن
وجد.
قيل لجعفر بن محمد عليهما السلام: لم حرّم الله الرّبا؟
فقال: لئلا يتمانع الناس المعروف.
تعرّض أعرابي لمعاوية في طريقٍ وسأله، فمنعه، فتركه ساعة
ثم عاوده في مكانٍ آخر، فقال له: ألم تسألني آنفاً؟ قال: بلى، ولكن بعض البقاع
أيمن من بعضٍ؛ فوصله.
وصف العباس بن الحسن العلويّ جليساً فقال: جليسه لطيب
عشرته أطرب من الإبل على الحداء ومن الثّمل على الغناء. وذم رجلاً فقال: ما الحمام
على الإصرار، والدّين على الإقتار، وشدّة السّقم في الإسفار، إلا أخفّ من لقاء
فلان.
قال الحجاج بن خيثمة لابنه: والله ما تشبهين، فقال:
والله لأنا أشبه بك منك بأبيك، ولأنت كنت أشدّ تحصيناً لأمّي من أبيك وأمك.
ذكر الإماء عند بعض الخلفاء فقال: الإماء ألذّ مجامعة
وأغلب شهوةً وأحسن في التبذل وآنق في التدلل؛ فقال بعض الحاضرين: تردّد ماء الحياء
في وجه الحّرة أحسن من تبذّل الأمة.
قيل لجعفر بن محمد عليهما السلام: إن أبا جعفر المنصور
لا يلبس مذ صارت إليه الخلافة إّلا الخشن، ولا يأكل إّلا الجشب، فقال: لم يا ويحه،
مع ما مكّن الله له من السلطان وجبي إليه من الأموال؟ فقيل: إنما يفعل ذلك بخلاً
وجمعاً للمال؛ فقال جعفر: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما له ترك دينه.
كاتب: أما بعد فحقّ لمن أزهر بقولٍ أن يثمر بفعلٍ.
لما مرض معاوية دخل إليه عمرو بن العاص فقال معاوية:
أعائداً جئت أم شامتاً؟ فقال عمرو: ولم تقول هذا؟ فوالله ما كلفتني رهقاً، ولا
أصعدتني زلقاً، ولا جرعتني علقماً، فلم أستثقل حياتك وأستبطئ وفاتك؟ فقال معاوية:
الوافر
فهل من خالدٍ إمّا هلكنا ... وهل بالموت يا للنّاس عار
قال سلم بن قتيبة: لا تمازحوا فيستخفّ بكم الناس، ولا
تدخلوا الأسواق فترقّ أخلاقكم، ولا ترجّلوا فتزدريكم أكفاؤكم.
قال عامر بن الطفيل لثابت بن قيس: والله لئن تعرضت لعنّي
وفنّي وذكاء سنّي لتولينّ عني، فقال له ثابت: أما والله لئن ترضت لشبابي وشبا
أنيابي وسرعة جوابي لتكرهنّ جنابي.
ورد العطويّ على والي الأهواز بكتابٍ مزوّرٍ فقال له:
أقم، فلمّا كان اليوم الثاني خاصم الحاجب، فقال له: أتخاصم الحاجب؟! قال: فأردت مني
أن يكون كتابي مزوّراً، وكلامي ضعيفاً؟! فاستطرفه ووصله.
سأل داود بن فلان جعفر بن حرب: ما المحال؟ فقال: ما لا
يتصّور في الوهم مثل قائم قاعد، قال: وكلّ ما لا يتصور في الوهم محال؟ قال: نعم،
قال: فإن الله عزّ وجلّ على زعمك محالٌ، فإنه لا يتصور في الوهم؛ فما أحار جواباً؛
معناه: ما ردّ جواباً. يقال: حار يحور أي رجع يرجع، وقال الله عزّ وجلّ "
إنّه ظنّ أن لن يحور " أي ظنّ أنه لا يرجع. والحائر كأنه المتراجع المتدافع المتتابع،
وكذلك الماء، وقد مرّ فيما سلف من هذا الفصل أشفّ من هذا.
625 - وأما المسألة والجواب ففيهما شيءٌ ما استوفيّ:
اعلم أنّ الله تعالى عليٌّ بذاته وصفاته وحقيقته ومعناه من كل ما نحاه الفهم،
وحصّله التّمييز، ودلّ عليه الوهم، ولحظه العقل، وساق إليه التعارف، وقربه القول،
وتمثّله القلب، وتحدث به النفس. فزعم السائل أنه متى لم تقم في النفس صورته فهو محال
جدلٌ، والجدل محطوطٌ عن الإنسان في معرفة صانعه وإثبات منشئه، وليس الله - على ما
أخبرنا عنه - لعلّةٍ صريحةٍ وسببٍ قائمٍ ولحالٍ معروفةٍ، فإنه لو كان على ما هو
عليه كشيءٍ من هذه الأشياء لكان منقوصاً من ذلك الوجه، بل النقص والكمال فعلان له،
يوسف بهما من وهبهما له وساقهما إليه، وعلى ما يمكن أن يقال نقول في ذلك بما يغنيك
عن الشكّ فيه وإن بعدت عن الطمأنينة إليه: أما تعلم أنه لو قام في النفس، أو التبس
في العقل، أو تمثّل في القلب، أو برز بالتحصيل، أو أشير إليه في جهةٍ أو نفي من
ناحية، أو أثبت في حال، كان تصرّف هذا كله علّةً ونقصاً، وأنه متى فرض كذلك فقد جهل
من حيث قصد العلم به؛ وإنما انتهى العالمين به إلى أنه لا علم لهم به، فكان عجزهم
عن لحوقهم لحوقاً، وجهلهم ما يستحيل تصويره علماً، ووقوفهم عند نهاياتهم تعبّداً،
وبحثهم عما وراء ذلك اجتراءاً، وسؤالهم عما طوي عنهم فضولاً، وتشكّكهم بعد البرهان
خذلاناً، وسكونهم إلى الظنّ خسراناً، وتصريفهم القول فيه بهتاناً. أتراك لا تعرف
حقيقته ولا تعقل صفته إّلا بعد أن تكون موسوماً بسماتك ومردوداً إلى أحكامك؟
هيهات، إنه لو قبل نعتاً من نعوتك لكان خلقاً مثلك ولم يكن خالقاً لك، وإنما وجب
أن يترقّى عنك وعن صفاتك لأنه فاعلك وفاعلها، فكيف يستعير وصفك وهو غنيٌّ عنك؟ أم
كيف يشبهك وهو بعيدٌ منك؟ أم كيف يهتدي عقلك إليه وعقلك خلقٌ مثلك، وهو مبتلىً
بمثل عجزك ومرميٌّ بقصور غايتك؟ وهل استفدت عقلك المضيء إّلا منه؟ وهل وجدت لسانك
المبين إّلا عنده؟ وهل لجأت في النوائب إّلا إليه؟ أغرّك منه إحسانه إليك، وإنعامه
عليك، ورفقه بك، ودعاؤه لك، ومناجاته إياك؟ الزم حدّك، وارجع إلى صفتك، واقض حقّ
عبوديتك، واطلب المزيد بامتثال الأمر، وتسكين النفس، ورعاية ما هو متصلٌ منه بك،
وثابتٌ له عندك، فلو قد سألك عنك - على قربك منك - لظهرت فضيحتك لشائع جهلك؛ ولو
طالبتك بما له عليك لقيّدك العيّ عن الاحتجاج لنفسك؛ بل لو حاسبك على ما تجتنيه
لنفسك، وتختاره لجمالك وتراه ذخراً لحياتك لبان خلل عقلك، وتلجلج فصيح لسانك، وحار
ثاقب نظرك، ودحضت ثوابت حجّتك، ولكنت أوّل من يلوذ به، دامع العين، دامي الفؤاد،
سليب العدة، ملطوم الخدّ، نادم القلب. هناك تعلم أنّ الملوك لا ينازعون ولا
يتبدّلون، ولا يجادلون ولا يمتهنون. فحسبك منه أنه لاطف سرّك، وفتح ناظر قلبك،
وعرض أصناف نعمه عليك، لتكون لنفسك خيراً مما أنت عليه، وتفارق ما أنت فيه لما أنت
أحوج إليه.
قال رجل: قلب الله الدنيا، فقال المأمون: اذن تستوي! قال
أبو خازم: الذي يلقى من لا يتقي الله من تقيّة الناس أشدّ مما يلقى من يتقي الله
من تقيّة الله.
كان لخزيمة بن خازم كاتبٌ ظريف أديب، وكان يتنادر على
خزيمة كثيراً، فقام يوماً بين يديه فقال: إلى أين تقوم يا هامان؟ فقال الكاتب:
أبني لك صرحاً.
قال أعرابيٌّ يصف مطراً: احرنجأ من السحاب متكفّت
الأعالي لاحق التّوالي، فهو غادٍ عليك أو سارٍ، سير السبلان وليّ الغدران.
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: العقول خزائن الحكمة.
قال جعفر بن قدامة: سمعت أعجمياً يقول وهو يجمّش جاريةً
لعائشة بنت المعتصم: يا ابن الزانية، أيّ شيء ينفعك إذا أذبحتني.
كتب ابن المعتزّ إلى رجلٍ يذمّه: ذكرت حاجة أبي فلان
المكني ليعرق لا ليكرم، فلا وصلها الله بالنجاح، ولا يسّر بابها للانفتاح؛ وذكرت
عذراً يفصح به عن نفسه، فوالله ما يفصح عنها لكنه يصحّ عليها؛ وأنا والله أصونك
عنه، وأنصح لك فيه، فإنّه خبيث النيّة، متلقّف للمعايب، مقلّبٌ للسانه بالملق،
يتأبّس بالتخلق وجه الخلق، موجودٌ عند النعمة، مفقودٌ عند الشّدّة، قد أنس بالمسألة،
وضري بالردّ، فلا تعقّ عقلك باختياره، ولاتوحش النعمة بإذلالها به، والسلام.
قيل لمجنونٍ كان بالبصرة: عدّ لنا مجانين البصرة، قال:
كلفتموني شططاً، أنا على عدّ عقلائهم أقدر.
قيل لأعرابي: لم يقال أباعك الله في الأعراب؟ قال: لأنّا
نجيع كبده، ونعرّي جلده، ونطيل كدّه.
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: كان إذا تكلّم أفاد، وإذا سئل
جاد، وإذا ابتدأ أعاد.
شاعر: الرجز
يا إبلي روحي إلى الأضياف ... إن لم يكن فيك صبوحٌ كاف
فأبشري بالقدر والأثافي ... وغارفٍ ومغرفٍ غرّاف
قيل لفيلسوف: ما الحسن؟ قال: حسن الإنسان أن يكون ذا
اعتدالٍ في الصورة، وقبولٍ في الرواء، ومنظر مليح الشمائل.
قال عمر بن ذرّ: اللهمّ إن كنا عصيناك فقد تركنا من
معاصيك أبغضها إليك، وهو الإشراك بك، وإن كنّا قصّرنا عن بعض طاعتك فقد تمسكنا
بأحبّها إليها، وهو شهادة أن لا إله إّلا الله وأن رسلك جاءت بالحقّ من عندك.
قال أبو العيناء: قفلت لمخنّث: كيف جوفك؟ قال: أدخل
لسانك وذقه.
طلب اليونانيون ملكاً للملك بعد أن مات ملكهم، فقال بعض
الحاضرين: فلان الفيلسوف: لا يصلح للملك، قيل: ولم؟ قال: لأنه كثير الخصومة، وليس
يخلو في خصومته من أن يكون ظالماً، والظالم لا يصحّ للملك لظلمه، أو يكون مظلوماً،
فأحرى أن لا يصلح لضعفه، فقيل له: أنت أحقّ بالملك ممّن ذكرنا.
قال أبو العيناء: قطعني ثلاثة؛ قلت مرةً لصوفي: ما هذه
الصّفرة في وجهك؟ قال: لأكلك شهواتي؛ وقلت لعبّادة وقد تأوّه مرةً من شيء: من
تحتي، فقال: ومعي ثلاثة؛ وقلت لمغنية غنت: أين الصّيحة؟ فقالت: خبّأتها لثالثك.
وقع في بعض العساكر بالليل هيج، فوثب خراسانيٌّ إلى
دابّته ليلجمها فصيّر اللجام في الذنب من الدهش فقال: هب جبهتك عرضت ناصيتك كيف
طالت؟ ها أنا عارضٌ عليك من كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جملةً
شريفةً تكون لك مادّةً في الباطن، وجمالاً في الظاهر، وعمدةً عند الشّبهات، وحجّةً
يزم المنازعات، وهو الكلام الذي قد بان عليه النور، وأيّد بالبرهان، واستخلص من حق
التقوى، يجمع لك الأدب والتأديب، ويدلّك على الصّلاح والتسديد، وقد سبق أبو عثمان إلى
جمعه في " البيان والتبيّن " وليس على ما يأتي به عثمان مزيد، فإنه الشيخ
المقدّم والبليغ المعظّم؛ لكنّي أرى أن لا أخلي هذا الكتاب من شعبةٍ كبيرة من ذلك،
وأمرّ أيضاً بأطرافه مفسّراً وشارحاً ومنتصراً وناصحاً، فقد نسب إليه عليه وآله
السلام ما يكثر قدره ولا يلصق البتة به.
قال صلّى الله عليه وآله، ورزقنا النظر إليه والوقوف يوم
القيامة بين يديه: المؤمن مألفةٌ ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف؛ دخلت الهاء
للمبالغة كما دخلت في راوية وعلاّمة ونسّابة، تقول: ألفته آلفه إلفاً وإلافاً،
وألفته أولفه إيلافاً، وألّفته وتألّفته: استعلمته واستعطفته، وكأنه أراد بهذا أن
المؤمن يفزع إليه ويقتبس منه. وهذا الخبر يمنع من الاعتزال والتفرّد وإن كانت السّلامة
في الغالب فيهما، لأنّه لا يألف حتى يخالط، وكل هذا منافٍ للتعزّب والانقطاع عن
الناس، والحكمة أيضاً في نظام العالم تقتضي معونة كلّ من لبس قميص الحياة خاصةً
إذا كان شريكك في الصورة، أعني إذا كان قريباً منك: إمّا بالنّسب وإما بالأدب وإما بالبلد
وإما بالصّناعة وإما بالتّخطيط وإما بالمشابهة، ولهذا السرّ يتعصّب هذا لأهل بلده
وأرباب صناعته وبني جنسه، ويستدعي أيضاً عونهم لنفسه.
وقد يقال هنا أيضاً: لم عرضت المنافسة واشتدّ الحسد وكثر
التتبّع حتى أفضى ذلك في بعض المواضع إلى البوار والقتل والجلاء والهلاك. وأفضل ما
يتولّد منه الهجر الطويل والمنازعة الشديدة؟ والجواب عن هذا سيمر مع اخواتة في
الموضع الذي نفددة لجميع مسائل هذا الكتاب مما سمعنا ووعيناه وغير ذلك مما أثرناه
واستنبطناه. فالتمس هناك ذاك، فهذا موضعٌ قد جردناه لكلام رسول الله صلّى الله
عليه وآله.
وقال عليه السلام: المرء مع من أحبّ، وهذا يتضمّن زجراً
وبشرى، فأما الزجر فلمن قارن قرناء السّوء، وأما البشرى فلمن اقتدى بأهل التقوى.
وقال عليه السلام: حبّك الشيء يعمي ويصمّ؛ دلّ على أن
محبّتك يمتزج بها الهوى، وتجاذبها الشهوة، وتذل معها النفس، ويكلّ عندها العقل، فذاك
هو الإعماء والإصماء، وإنما أراد التّمثيل باللفظ والزّجر بالمعنى، وهذه المحبة
بهذه الصفة مقصورة على ما اتصل بالدنيا وأسبابها، فأما أمور الآخرة وطرائق الدّين
فإنّ حبّك لها لا يعمي ولا يصمّ، بل يزيدك في سمعك وضياء بصرك ونور قلبك وطهارة
خاطرك.
وقال عليه السلام: الناس كإبلٍ مائة، لا تكاد تجد فيها
راحلةً؛ دلّ بذلك على عزّ الموافق لك وقلة المتحمّل عنك. وليس هذا القول منافياً
لقوله: الناس كأسنان المشط، لأن قوله الثاني مقصورٌ على ما لهم وعليهم من الأحكام
التي قيدهم الله فيها بالتكليف، وقرن أمورهم فيها بالوعد والوعيد، وإّلا فالاختلاف
بينهم قائم، وقد تفاضلوا بالعافية، وتباينوا بمراتب التّقوى.
وقال عليه السلام: المؤمن مرآة المؤمن؛ دلّ بهذا على أن
المؤمن ينظر إلى أخيه فيقوّم نفسه به، وكذاك ذاك مع أخيه، وكأنهما يتواعظان
ويتواصيان، وهذا كلامٌ جامعٌ لخير الدنيا والآخرة. وقد دلّ على الألفة، لأن الفارد
لا مرآة له، والمرآة من الرؤية مفعال، كالآلة في مفعل كالمقطع، وجمعها مراءٍ على
وزن مراعٍ. وربما سمعت من هؤلاء " مرايا " ، وذلك خطأ، ذكره أبو حاتم وأبو زيد. وأما المرايا فجمع مريّ،
والمريّ الناقة التي تحلب كأنها تمري، يقال: مريتها وامتريتها - لا همزة في هذه الحروف،
إن شئت ذكّرت وإن شئت أنّثت؛ وبالاستعارة يقال في الفرس إذا كان جواداً: مريته
واستمريته، كأنك تستدعي الجري من الجواد كما تستدعي الدّرّ من الناقة، وكان القياس
في المرايا أن يقال في واحدتها مريّة - بالهاء - لكنها شذّت عن بابها: ألا ترى أن
العرايا واحدتها عريّ، والسّرايا واحدتها سريّة، والشّرايا واحدتها شريّة - وهي
الجارية المشتراة - فكأنها شذّت لأنه لا مذكّر لها، فقام التذكير فيها مقام
التأنيث، ولو زاحمها المذكّر بهذه الصفة لأخذت علامتها بحقّ واجب، وكأنها قامت مقام
قولك: حائض، لما أمن من اللّبس، لأن الرجل لا يشاركها. هذا مذهبٌ في الملاحن يقال:
رأيته، أي أصبت رئته، وهو مرئيٌّ مثل مرعيّ، وكذلك من الرؤية. فأما رويت -
بالتخفيف - فمعناه حدّثت وأسندت وأنشدت، والرّواء: الحبل، فكأن معنى " رويت
الحديث " : شددته بإسناده وأحكمته. وأمّا الرّواء - بفتح الراء - فالماء
الذي يروي، وأما الرّواء - بضم الراء وهمزة - فالمنظر، وكأنه من الرؤية. وكذلك
الرّيّ - مثل الرّعي - ومنه قوله " أثاثاً وريّاً " وقد يثقّل فيقال
" ورئياً " على مذهب من قال رأيته؛ فقد اجتمع في " رأيت "
ثلاثة معان: معنىً أخذ من الرؤية بالبصر، ومعنى أخذ من الرأي وهو مايرى القلب،
ومعنى أخذ من الريّة؛ والعرب تقول: من أين ريّتكم، أي من أين ترتوون، أي من أين
مستقاكم. وأمّا الريّة - بالتخفيف - فما يروى به النار؛ هكذا عند الأصمعي، وقال
أبو حنيفة صاحب " النبات " : هي بالتشديد كالنّيّة من نويت.
وقد مضى هذا كالمستقصى بعد أن عرض على القوّام بهذا
الشأن وبعد أن تتبّع به صحيح الكتب، فاجتهد في معرفتها وحفظ نظائرها، فإن الأدب
أنسٌ إن شئت أنساً، وكنزٌ إن طلبت كنزاً، وجمالٌ إن أحببت جمالاً، ومثوبةٌ إن قصدت
ثواباً؛ حفظك الله معيناً، وأعانك ناصراً.
وقال عليه السلام: " المؤمن من أمنه الناس " ؛
هذا وسفه لمن كان الإيمان لبوسه، والتوحيد عقيدته، والزهد في الدنيا قاعدته، وكأنّما
أخذ هذه الصفة من اللفظ، لأنّ من أمن الناس أمنوه، أي إذا لم يخفهم لم يخافوه،
وعلى هذا يؤخذ من الأمن، وكأنّ الأمن من الإيمان، والباب فيهما واحد. وكان بعض
السّلف يقول: السلام المؤمن، أي يؤمّن الخائفين إذا وصلوا خوفهم بالطاعة، وكأنّ
هذا يوجد في صفات ويصير بها مؤمناً للمؤمنين فيكون لفظ فعلة من الأمن ولفظ فعلهم
فعله من الإيمان؛ وكذلك وصف الله تعالى الآخرة بدار السلام وبدار القرار وبدار
الخلد، لأن هذه ممزوجة من الخوف.
وقرأ ابن القعقاع " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم
السّلام لست مؤمناً " بفتح الميم - وهذا يؤخذ من الأمن كما قلت لك.
وقال صلّى الله عليه وآله: " حسن العهد من الإيمان " ؛
قال هذا في امرأةٍ كانت تغشاه في منزل عائشة، فكأنها وجدت في نفسها من ذلك. فقال
عليه السلام: " إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان
" : دلّ بهذا القول على حفظ الحالة السالفة ومراعاة من شوهد، وحثّ أيضاً على
جميع ما كان موصولاً به قريباً منه، لأن اللفظ مطلقٌ إطلاقاً، وفي ضمنه إيضاحٌ عن
حسن الخلق، وقد قال عليه السلام: " إنّ أحدكم ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم
القائم " . وكيف لا يقول هذا وقد قاله الله عزّ وجلّ " وإنّك لعلى خلقٍ
عظيمٍ " .
651ب - سمعت القاضي أبا حامد يقول: لما نهض رسول الله
صلّى الله عليه وآله وسلّم بعبء الرسالة، وأدّى ما فيها من حقّ الأمانة، وبلغ
الحدّ فيما رسمه التكليف وورد به الأمر، أمره الله عزّ وجلّ بأشياء تكميلاً لشأنه
ودلالةً على فخامة أمره فقال " خذ العفو " وقال " فإذا الذي بينك
وبينه عداوةٌ " ، فلم يقنع للعدوّ إّلا بمنزلة الوليّ حتى يكون حميماً - أي
قريباً؛ فلما قضى ما عليه في جميع ذلك أثنى عليه وعجّب منه واستثبته فيه بقوله عزّ
وجلّ " وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ " وناهيك بعظيمٍ الله معظّمه، وناهيك
بمحسنٍ الله تعالى مثن عليه.
651ج - وقال بعض مشايخنا: لولا أنّ الدّين مقدّم الشأن
لقدّمت الخلق عليه لأنّي أجد الخلق إذا اعتدل وحسن وظهر، جامعاً لقرّة العين، وسرور
البال، وطيب الحياة، وإحراز الخير، والسلامة من القيل والقال.
وكان بعض الأوائل يقول: إنما صار مرتبة الخلق هذه
المرتبة لأن الخلق تابع للخلق، فكما لا يتمّ المشار إليه بحسن الخلق إّلا بأن يكون
سويّ الخلق، كذلك لا يكمل سويّ الخلق إلا بأن يكون حسن الخلق.
وقال بعض الصّوفية: بالخلق يستفاد الكون، وبالخلق يستفاد
الخلد؛ وكأنّ معنى هذا الرمز أنّا بالخلق نكون في هذه الدار، وبالخلق ننتقل إلى
أخرى الآثار، هذه بائدةٌ وتلك باقية؛ والكالم في الأخلاق واسع، وفيما أشرنا إليه
مقنعٌ.
وقال صلّى الله عليه وآله: " دع ما يريبك لما لا
يريبك، فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه؛ هذا دليلٌ على أمرٍ جامعٍ لخير الآجل
والعاجل إذا وقعت العناية من الناظر فيه، لأنّه ما من شيءٍ من أمر الدنيا والدّين
إّلا وفيه ما يريب؛ تقول: رابني يريبني، وأراب هو إذا أتى بريبةٍ أو دخل في ريبة؛
والرّيب: الشك. ومن تمسك بمعنى هذا الخبر في مقاصده كلها كان السلم والسلامة والأمن
والأمانة صواحبه، وذلك أن فيما ينظر فيه مما يعلم أو يعمل ما يريب كما أن فيه ما
يبين، فالأولى عند كل معتقدٍ أن يتوقّف عنه إذا راب، كما أنّ الواجب أن يمضي عليه
إذا وضح. وما أحوج المتكلّمين إلى المصير إلى هذا، فإنّهم يمرّون على غلوائهم
كأنّهم لا يريبهم رائب.
وقال صلّى الله عليه: " لا يلدغ المؤمن من جحرٍ
مرّتين " ؛ هذا قاله لأبي عزّة الشاعر، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وآله
أسره يوم بدر، فسأله أن يمنّ عليه على أن لا يحضّض ولا يحرّض ولا يهجو رسول الله
صلّى الله عليه وآله؛ فلما خلص إلى مكة خدعه المشركون وأرغبوه، وكان ذا عيالٍ كثير
وكرشٍ كبير، فعاد إلى الحال الأولى، وأخفر الذّمّة - هكذا يقال بالألف - ونبذ
العهد، وكفر اليد، وجحد المنّة، واستحقّ اللعنة. فلما أسر من بعد أتي به إلى
النبيّ صلّى الله عليه وآله، فطلب العفو، فقال عليه السلام: " والله لا رجعت
إلى مكة، ولا قعدت بفناء الكعبة تمسح عارضيك وتقول: سخرت من محمد مرّتين، ثم أمر
فضرب عنقه " . يقال سخرت منه وبه، والأوّل أفصح؛ فكأنّ المعنى في الخبر أن المؤمن
حازم، وأنه إذا أتي من شيء مرةً حذره وأعدّ له، وكان منه على يقظةٍ واحتراس، وما
هكذا الفاجر، فإنه يجهل حظّه، وينسى نصيبه، ويذهب في هواه طلق الجموح، غير راعٍ ما
عليه، ولا مرعٍ على ما هو إليه. ولفظ الخبر على مذهب الخبر، ولكنه قد اشتمل على
النّهي وصورة النهي، كأنه قال: لا يؤتينّ أحدكم من سوء نظره وقلّة احتراسه.
وقال عليه السلام: " لا تنزع الرّحمة إلا من شقيّ؛ ثم
قال: من لا يرحم لا يرحم " ؛ المعنى في قوله: من لا يرحم لا يرحم أبين منه في
قوله: لا تنزع الرحمة إلا من شقي، وذلك أن الرحمة إذا نزعها الله عزّ وجلّ منه
فإنه يشقى بضدّ الرحمة وهي القسوة. والمعتزليّ يقول لك: كيف لا يكون قاسياً من
نزعت الرحمة منه، وكيف لا يكون ضريراً من سلب بصره؟ فإذا قيل له: فما تقول؟ قال:
ليس الخبر حقًّا، فإن قيل على التهمة الواقعة لك: ما وجه القول؟ فليس يضيق مثل هذا
الإطلاق عند جميع الأمّة عن تأويل يطّرد فيه المعنى ويتمّ عليه المغزى، فيقول على
التكليف: كأنّ المراد أن الفاسق القاسي يعاقبه الله عزّ وجلّ على ذنوبه بنزع
الرحمة من قلبه،وهذا بعد استحقاق العبد ذلك بما اجترم واجترح.
وسألتبعض الحكماء والعلماء عن هذا فتعسّف، وقال: كأنّ من
شقي بسعيه وقدم القيامة صفراً من الخير كمن نزعت الرحمة من قلبه، أي لم يعامل بما
يستحقه السعيد؛ فعلى هذا الرحمة من الله تعالى جزاءٌ إلا أنها منزوعةٌ عن هذا؛
وكلّ هذا واهٍ ضعيف، والكلام على جملته مفيد المعنى مقبول المراد غير مأبيٍّ ولا
مردود.
ولست أحبّ من هؤلاء العلماء هذا التّنقير فيما هذا
سبيله، فإنه أخذٌ بالكظم وحنقٌ على الجرّة وصدٌّ عن سبيل العلم والعمل، وشغلٌ بما
لا يجدي ولعله يضّر، وبئس الشيء التكلّف؛ وإن هذا الباب سيجرّ الإنسان إلى تفتيش
كلام الله عزّ وجلّ، وتكشيف كلام رسول الله صلّ ى الله عليه وآله،ومن ها هنا اجترأ
هذا فقال: ليس هذا كلام الله، وليس هذا قول رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ التالي
قد حرّف، وأنّ الراوي قد خرّف.
أنا سمعت رجلاً بالمدينة - وكان من بلد المنصور - يقرأ:
هذا صراط عليٍّ مستقيم، يضيف الصّراط إلى عليّ؛ فقلت: من تريد بعليّ؟ فقال: ابن
أبي طالب عليه السلام، قلت: فأعرب آخر الكلام، فقال: مستقيم - بالكسر - فقلت: إن
القراءة قد استمرّت على نحوين، إما " هذا صراطٌ عليٌّ مستقيمٌ " فتكون
" عليّ " نعتاً للصراط وإما " صراطٌ عليّ مستقيمٌ " ؛ وما عرض
لكسر مستقيم. فقال لي: أراك لا تفهم، أما تعلم أن الاستقامة بعليٍّ أليق منها
بالصّراط؟ على أن الصّراط هو عليٌّ والمستقيم هو عليٌّ.
وقد غرّ بجهلهم واجترائهم وسوء تأويلهم وارتكابهم دين
الله تعالى القويم والفتنة فيه إلى زيادة، وإلى الله المشتكى وعليه التوكّل في حفظ
ما أمرنا بحفظه، وترك ما أمرنا بتركه، فما نقدر على خير إّلا بإذنه، ولا ننصرف عن
شيءٍ إّلا بصنعه، وهو وليّنا ومولانا.
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: " التّؤدة من الله
عزّ وجلّ والعجلة من الشيطان "
؛ وليس هذا
على أن الله يتئد والشيطان يعجل، ولكنّه على وجه العقل قريبٌ من الحق صحيحٌ في
العقل، وذلك أن التؤدة كلها من الله تعالى أي بإذنه ودلالته وإرشاده، وكأن العجلة
من الشيطان أي بتسويله وتزيينه ومراده، لأنّ الشيطان يتوقّع زلّتك، ويتمنّى غرّتك،
لكنه لا يجد ذلك في تؤدتك وتثبّتك وأناتك، فهو يتمنّى ذلك في عجلتك؛ فحثّ عليه
السلام على التؤدة لأن التّوقّي معها، والسلامة مع التوقّي، ونهى عن العجلة لأن
الزّلّة مع العجلة والهلاك مع العثرة، يقال: اتّأد يتّئد اتّئاداً وتأيّد يتأيّد
تأيّداً، وتأنّى يتأنّى تأنّياً، وهو مأخوذ من الونا - يقصر ويمدّ - وقد مرّ من
قبل أشبع من هذا؛ ويقال منه أيضاً: استأنى يستأني استيناءً والأمر منه: استأن، ويقال
إين في أمرك، أي ارفق، فأما إن فبمعنى حن إذا أمرت، لأنك تقول: حان يحين، كما تقول
آن يئين، فأما يؤون فيترفّق.
وقال صلّى الله عليه وآله: الدنيا سجن المؤمن. سئل ابن
الخلفاني عن هذا الحديث سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وأنا أسمع، فقال: حديثٌ حسن
الإسناد، الناس قد تقبّلوه ورووه، وليس فيه ما يوهي أصلاً ويردّ نصاً ويفحش
تأويلاً، وتأويله ظاهر وذلك أنّ المؤمن فيها غريبٌ لأنّه فيها مستوحشٌ، وعنها
متجافٍ، وبها متبرّم، يرى الرّوح في جوار الله الكريم، ونعيمه المقيم، حيث لا لغو
فيها ولا تأثيم، وهو كالحبيس عن مقرّه وموطنه، وقد وصل بالحديث: والدنيا جنّة
الكافر لأنه لا يلحظ معاداً، ولا يشتاق ثواباً، ولا يخاف حساباً، يحبّ العاجلة
وتذره الآخرة، يرى السعادة فيما تعجّل وصفا، وطاب وكفى. وكأنّ هذا الخبر غير منافٍ
لقوله: الدنيا خير مطيّة المؤمن، هذا إذا كان قاله، فإني لا أثق بجميع ما روي، ولا
أجيز كلّ ما أخبر، وإنما ألوذ بالقول مفيداً أو مستفيداً، وأرجو أن تسلم العاقبة
مع سلامة النيّة وحسن القصد في القول والعمل، وإنما لم يناف الأول الثاني لأنّ
المعنى في الثاني مستقلٌّ بنفسه، وذلك أنّ المؤمن ها هنا يحرث للآخرة، ومنها
يتزوّد للآجلة، وبرغبته عنها يستحقّ الدرجة العالية.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الدّالّ على الخير كفاعله
" ؛ هذا حثٌّ على الخير وتشبيهٌ لمن وطّأ الطريق إليه ودلّ الطالب عليه بمن
تفرّد بفعله، واشتراك بين من دلّ وبين من قبل ليقع التعاطف، ويعمّ التلاطف،
وليكونوا كنفس واحدة. ألا تراه كيف نهى عن التّباين في قوله: لا تقاطعوا ولا
تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً؟وإنما صحّ التشبيه لأنّ الدلالة من الدالّ على
الخير خيرٌ، وقبول الدلالة من القابل خير، فكأنّ هذا بمّا دلّ وهذا بما قبل فاعلان
خيراً.
وقال صلّى الله عليه وآله: " المؤمن ينظر بنور الله تعالى
" ؛ قد أطال الناس القول في هذا وما تباعدوا عن ذلك، وفي الخبر زيادةٌ وهي:
اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.
658ب -
سمعت بصراء العلماء يقولون: نور الله جلّ جلاله هو
المعنى الذي خلص من الهوى ودواعيه، وتنزّه عن الرّياء وطرقه، فإنه كالضياء في أفق
القلب، به يستدرك المؤمن غائب الأمر، ويتحقّق باطن الحال، ويطّلع على مكنون النفس. وسمعت البقّال
يقول: ولعله أشار بالمؤمن إلى بعض من حضره، فخصّه بالوصف وأبانه بالتشريف، وهذا فيه
بعدٌ فإن اللفظ مرسل. وقلا بعض الفلاسفة: هذا هو إشارةٌ إلى اقتباس النفس من العقل
وإلقائها إلى الإنسان ومن ذلك الرؤيا؛ قال: ولذلك قال عليه السلام: الرؤيا الصادقة
جزء من أجزاء النبوة. وللعابر أيضاً تصيّدٌ للدّليل واستشرافٌ للتمثيل، وقد مرّ من
ذلك في هذا الكتاب ما هو كالبيان عن هذه الأصول، وفي مثله: سأل رجلٌ أبا عبد الله
الزبيري الضرير عن رؤيا رآها، فقال الزبيري: سلني عنها بين يدي القاضي. وكان
المستعير معدّلاً؛ فغدا إلى مجلس القاضي ووافى المعدّل، فابتدر فسأل وقال: إني
رأيت كأنّي قاعدٌ عند الله عزّ وجلّ، والله تعالى يخلق السموات والأرضين، فأعظمت ذلك،
فما تأويله؟ قال الزبيري: أيها القاضي أسقط عدالة هذا الرجل فإنّ الله تعالى يقول
" ما أشهدتهم خلق السّموات والأرض " ورؤياه تدلّ على أنه شاهد زورٍ؛
ففحص القاضي عنه فوجد ذلك كذلك. وكلّ من كان أخلى بالاً مع الله عزّ وجلّ، وأشدّ
التفاتاً إلى الآخرة،وأقلّ التباساّ بالدنيا، فإنّ كلامه أصوب، وحاسته أحدّ،
وخاطره أثقب، وحكمه أنفذ، وظنّه أصدق، وحدسه أفتق، وقد شهدت التجربة بذلك على جري
الدهر؛ يقال: كان ذلك على وجه الدهر وأشب الدهر وجري الدهر وسالف الدهر. والفراسة:
الإصابة، ومنه افتراس الأسد فريسته؛ هكذا حفظته عن الثقة العالم، وإذا انضمت الثقة
إلى العدل والعلم، سعد الرجل، وذلك أنك لا تشاء أن تجد عالماً لا ثقة له، أو ثقةً
لا علم له إّلا وجدت، فأما العزيز فالعالم الثقة، وأعزّ منه الثقة الورع الدّين
الزاهد، فقد يستعمل الثقة العالم الدين ولا ديانة له، ولا ورع معه، مدًّا لجاهه وبسطاً
لأمره وتألفاً لطالبيه واختداعاً للراغبين فيه، وآفات العلماء لا يحصيها إّلا ربّ
السماء، وما أحبّ بسط اللسان فيهم، رعايةً لذمام العلم وأخذاً بأدب النفس، ومصيراً
إلى أحسن الهدي؛ ستر الله عليهم فضائحهم، ونقلهم إلى ما يرضى عنهم، إنه مالكهم،
والقائم عليهم وجعلنا ممّن تغمّده بعفوه، وقرّبه من نجاته، وآواه إلى جنّته.
قال صلّى الله عليه وآله: " إنك لا تجد فقد شيءٍ
تركته لله عزّ وجلّ " .
وقال عليه السلام: " المنتعل راكب " .
وقال: المرء كثيرٌ بأخيه يكسوه برفده. يقال رفدته،
والرّفد: العطاء، والإرفاد: الإعطاء؛ وأبو تمام يقول: الطويل
أسائل نصرٍ لا تسله فإنّه ... أحنّ إلى الإرفاد منك إلى
الرّفد
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " لا خير لك في صحبة من
لا يرى لك مثل ما ترى له "
.
قال أنس: قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل أو
أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكّل؛ قال البقال: معنى هذا القول أن التوكّل مجانبٌ
للإهمال والكسل؛ بل هو بعد إعمال الحزم وبذل الكيس ونفي اللّوم ورفع أسباب النّدم.
ولقد سمعت ابن الخليل يقول: فما وجه التوكّل بعد العقل؟
قيل: لأنه يعقلها ولم يستغن عن حفظها، فقد يحلّ العقال من أراد وينجو؛ وإنما أراد
عليه السلام أن لا تبقى على صاحبها بقيةٌ من أسباب النّدم ولا حال تبعث اللائمة
عليه، ولكن يبلي العذر، وينتظر القدر، ويتبع الأثر والخبر.
وسمعت بعض الصوفية يقول: التوكّل حالٌ تتوسّط الاسترسال
والاعتمال، لئلاّ يكون المتوكّل باعتماله ساكناً إليه، ولا بتوكّله مهملاً له،
ولكن يقبل أدب الله عزّ وجلّ في حفظ ما استحفظ، ثم يلوذ به فيما لا يستطيع حفظه
إّلا بمعونته.
وكان أبو حامد يقول: قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: إن
الله لا يقبل دعاء ثلاثة أو لا يجيب ثلاثة؛ رجلٍ يقول: اللهم خلّصني من هذه
المرأة، فإنّ الله تعالى يقول: إنما جعلت طلاقها في يدك وأبحت ذلك، لئلا تظنّ أني
قد ابتليتك فتطلب الفرج ممن قد سبق له الفرج ولا يجيب دعاء من يقول اللهم خلصني من
هذه الأمة، فإنه يقول: قد جعلت لك أن تبيعها أو تعتقها؛ ولا يجيب دعاءً من يقول:
اللهم اردد عليّ مالي - قال: يعني التاجر الذي اشترى ولم يشهد - فإنه يقول: قد
ندبتك إلى الشّهادة حفظاً لمالك واحتياطاً في أمرك، فتركت الأمر وخالفت إلى
النّهي، ثم عطفت تتمنّى الأماني، ليس لك عندي إّلا ما عرفت؛ وهذا كله حقّ،
والاستعانة بالله عزّ وجلّ أحقّ وأحقّ.
وقال صلّى الله عليه وآله: لا حكيم إّلا ذو عثرة؛ وقال
في مكان آخر: لا حكيم إّلا ذو أناة، ولا حكيم إّلا ذو تجربة؛ وفي اللفظ الأول معنى
لطيف وهو أن الحكيم قد يعثر فلا يخرج بذلك من الحكمة والصّفة المستحقة، فكأنّ
العبد إن تعلّت رتبته في الفضائل، وطالت يده في التجارب، فإنه يبين بعجزه عن حال
من لا يزلّ ولا يهفو، وهذا أيضاً دليلٌ على انتفاء العصمة من صفات الإنسان، أعني
أنه لا يحوي معنىً يصير به ممّن لا يجوز عليه الخطأ ولا يقع معه نسيانٌ على ما زعمت
الرافضة في إمامها، فإنّ هذا نعت إله الخلق، وهم لفرط غلّوهم في أئمتهم يلحقونهم
بصفات ربّهم ولا يبالون، كل ّذلك تجليحاً وجرأةً، ولهذا نشأت فيهم الغالية. ولقد
قلت لسيخٍ منهم وكأني أتغابى عليه: لم قال هؤلاء إنّ علياً عليه السلام إله؟ قال:
لأن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال لهم: عليٌّ إله؛ قلت: ولم إذا قال جعفر
ذلك كان كذلك؟ ومن أين لك أن الإمام قال ذلك. قال: هذا كله من كلام الناصبة.
وكان الخليل بن أحمد السجستاني يقول: لا يجوز أن يتعبّد
الله أحد من الخلق بمحبة أحدٍ من الخلق، لأن ذلك خارجٌ من الحكمة، وذلك أنّ
الإنسان - بزعمه - لا يفعل المحبة ولا البغضة، وإنما المحبة والبغضة والشهوة
والكراهية عوارض للإنسان من قبل الله عزّ وجلّ؛ فقيل له: فإنّا نحبّ الرسول وقد
أمرنا بذلك، قال: تلك المحبة كنايةٌ عن الطاعة؛ ألا ترى أن الله عزّ وجلّ يحبّ على
هذا المعنى، وقد قرن المحبة بالاتّباع، والاتّباع هو الطاعة في قوله تعالى "
قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعون " فرسول الله محبوبٌ على ذلك؛ قيل له: فكيف
تكون محبتنا لله كنايةً عن طاعتنا له؟ فقال: كما كان حبّ الله لنا كناية عن ثوابه
لنا في قوله " يحببكم الله
" .
قال ابن عباس، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: " ليس الخبر
كالمعاينة؛ إنّ الله عزّ وجلّ قال لموسى عليه السلام: إنّ قومك فعلوا كذا وفعلوا
كذا فلم يبال، فلما عاد وعاين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه " .
وقد سمعت بعض الحكماء يقول: إنما صار العيان يورث
الاضطرار لأنه يشارط الحواسّ، والحواسّ سريعة التقلّب والتبدّل،والخبر يصحب العقل،
والعقل كهف الدّعة، وجوهر القرار، ومعدن السّكون، ولهذا ترى هدي العاقل أهدى من
ظاهر الأحمق، لأنّ الأحمق لا صمت له، ولا سمت معه، والحواسّ طلائع العقل وروّاده،
وأقربها إلى العقل ما سلك إليه طريق السّمع. ألا ترى أنّ من سمع ففهم أشرف ممّن
أبصر فعلم؟ والإنسان قد يفقد البصر ويجوز الفضل بكمال العقل، وقلّ ما يوجد من عدم
السّمع ففاز بشرف العقل. قال: ويوضح هذا أن البصر يلقط من المشاهدات ما قابله،
والسمع يحيط بكل ما يرعاه ويهديه إلى العقل، فكأنّ السمع أخدم للعقل، وعلى قدر خدمته
له قربه منه، وعلى حسب قربه منه عنايته به.
وسمعت غير هذا الفاضل يقول: البصر في الجسم بمنزلة العقل
في النفس، كأن العقل عين النفس، والبصر عين الجسم، ولهذا ما يستدلّ بسكون الطّرف
وحسن تدوير الحماليق على زيادة الإنسان ونقصه.
قال عبد الله بن عمر: ما زلت أسمع " زر غبًّا تزدد
حبًّا " حتى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله بدور الظلام ونجوم الإسلام
قال ذلك؛ يقال: زار يزور زيارةً، ورجل زورٌ وهم زور، وجمعٌ آخر، يقال: زوّار،
والصحيح زائر وزائرون؛ والزّوار والمزاورة مثل الحوار والمحاورة والخصام
والمخاصمة. يقال: فلانٌ زير نساءٍ: أخذ من هذا إذا كنّ يزرنه ويزورهنّ؛ فأما الغبّ
والإغباب فهو أن تزور مرةً وتترك أياماً، ومنه لحمٌ غابٌّ أي بائت. والمعنى في
" تزدد حباً " كنايةٌ عن الطّراوة والخفّة على قلب المزور ممن يزوره،
والمزير: الفاضل؛ والمزر نوعٌ من النبيذ. فأما قول العامة: ما أمزره - في الشتم -
فليس بعربية - ، وكذلك قولهم: مزّار؛ هكذا قال السيرافي.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الخير عادةٌ والشرّ
لجاجة " ؛ كأن الخير بالاعتياد ليس أن الخير عادة، وليس هذا حدّ الخبر ولا
حقيقته، ولكن الخير بالعادة، ولوضوح المعنى أيضاً ما جاز أن يرسل اللفظ هكذا.
والشرّ أيضاً إنما هو باللّجاجة، وما أكثر من يهمّ بشيءٍ من الشر طلباً للتّشفّي
حتى إذا قرع بابه وفّر أنيابه تتابع ولجّ واستشرى، وأمعن واستقصى وبالغ، ولم يكن
بلوغ تلك الغاية من أربه، ولا إليه ساق عقدة عزمه، ولكن تجاوز الحدّ باللجاجة.
يقال: ألجّ ولجّ والتجّ والجّج، واللجوج ذميمٌ عند كل راءٍ وسامع، وبئس الخلق هو،
وحسبك أنه مركبٌ إلى النار، ومجلبة للعار، ومذهبةٌ للأقدار والأخطار؛ واللجاجة كأنها
ضيق النفس عن احتمال الحق.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الخير كثيرٌ ومن بعمل
به قليل " .
قال الحسن البصري: المعتبر كثير والمعتبر قليل؛ وقلت
لأبي النّفيس: من المعتبر؟ فقال الفقيه عن الله عزّ وجلّ.
وقال صلّى الله عليه: " المستشار مؤتمن " ؛
كأنه أرشد من استشير إلى الأمانة بما وصفه به لأنّ المستشير لم يلق إليه ذات صدره
حتى جعله أميناً في نفسه. والمشورة - بضم الشين - مثل المعونة وقد جيز بسكون الشين
أيضاً، وأصل اشتقاق الكلمة من شرت الدابة إذا حركته لشور ما عنده؛ ومنه شرت العسل،
أي أخذته ورقيت إليه، والسّين لطلب الفعل في قولك استشرته، ويقال: استشار الرجل
إذا حسنت شارته، يقال: هو صيّرٌ شيّر إذا كان حسن الصورة والشارة.
وقال عليه السلام: " كلّ معروفٍ تصنعه إلى غنيٍّ أو
فقير فهو صدقة " ؛ قال ابن قتيبة: المعروف كل ما عرفته النفس واطمأن إليه
القلب، والله معروفٌ بسكون البال وفزع الإنسان إليه، والمؤمن عارفٌ بذلك.
وقال صلّى الله عليه: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا
يعنيه " ؛ تقول: عناني هذا الأمر كأنه أشار إليك بطلوعه عليك أو باحتياجك
إليه يعنيك؛ ويقال: عنيت بحاجتك، هكذا قال ثعلب في " الفصيح " بضم
العين، وقال لغيره: يجوز عنيت - بفتح العين - .
سمعت بعض أصحاب الورع يقول: ترك ما لا يعني صعبٌ، وكان
بعض المشايخ ممن يتحلى بالحكمة ويتظاهر بالفضيلة دخل حمّاماً فوجده حاراً، فقال
لمن بجنبه: ما أحرّ هذا الحمام؟ قال هذا: ذاك كأني لا أعلم أنك تجد من حرارة هذا
البيت ما أجد، حتى تتجرّد لهذا القول وتشغل نفسي بهذا الخبر، وتقيّد لسانك بهذا اللفظ،
فما الذي أفاد هذا أحدنا؟ ولقد أخذ هذا الشيخ مأخذاً صعباً؛ وقيل: من التّوقّي ترك
التّجنّي، وترك الإفراط في التوقي؛ وكأنّ هذا الرجل قريبٌ من صاحب الزّبيبة، فإن
رجلاً رؤي بمنىً وعرفات وبيده زبيبة وهو ينادي: ألا من ضاعت له زبيبة؟ فقيل له:
أمسك، فإنّ هذا من الورع الذي يمقته الله عزّ وجلّ، ولنفس حصةٌ ولها استراحة
وعليها منها كدب ومع التزمت ومع التقبض هشاشة ومع التعمّل دماثة، وللإنسان من كلّ
شيءٍ حظّ، ولكل شيءٍ منه نصيب، ولو كان الإنسان مصبوباً في قالب واحد، ومصوغاً على
خطٍّ واحد، ولو كان الإنسان واحداً، ومسلولاً عن طبيعة واحدة، لكان هذا يستمرّ بعض
الاستمرار، ويتجوّز فيه بعض التجوز؛ فأما وهو مؤلّفٌ من أخلاط، ومركّبٌ على طبائع،
ومجموعٌ متضادات، فالا بدّ أن يميل إلى شيء، ويميل به شيء، ويرى مرة طافياً ومرة
راسباً، ومرة راضياً ومرة غاضباً، ومرة هادئاً ومرة صاخباً، ومرة قانعاً ومرة
ساخطاً، ومرة لاحقاً ومرة غالطاً، وأنه ما دام بين أشياء متعادية وأحوالٍ مترامية،
فلا بدّ أن يترجح بالزّيادة والنقص، والربح والوكس، إلى أن يأخذ الله جلّت عظمته
بيده، ويجذب بضبعه، ويؤويه إلى رضوانه. على أنّ هذا الشيخ قد استفاد بما كان منه
لوماً لنفسه، وتنبيهاً لها من رقدته، ووصيّةً لغيره، وذكراً مأثوراً من بعده.
وقال صلّى الله عليه وآله: " إنما التجبّر في
القلوب " .
وقال عليه السلام: " سوداء ولودٌ خيرٌ من حسناء لا
تلد " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " المتشبّع بما لم يعط
كلابس ثوبي زورٍ " .
وقال عليه وآله السلام: " أعظم النّساء بركةً
أقلّهن مؤونةً " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " اطلبوا الخير عند حسان
الوجوه " ؛ قال لنا أبو الشيّخ الأصبهاني - وعليه قرأنا جميع ما اتصل في هذا
الجزء من أمثال رسول الله صلّى الله عليه وآله: سمعت عليّ بن حزم يقول: تفسير هذا
الحديث في قول عمر بن الخطاب، فإنه قال: إن للناس وجوهاً، فأكرموا وجوه الناس؛
فقال: فمن كان له في الناس وجهٌ قيل فلان حسن الوجه.
هذا الذي قاله الشيخ عن هذا الشيخ حسنٌ مرضيّ، كأنه ذهب
إلى من كان له جاهٌ وكان وجهاً ووجيهاً، فمسألته تعطفه صيانةً لجاهه وطلباً لمنزلة
الخير عند الله تعالى بذمائم عند الناس، فإن عباد الله في أرض الله شهود الله على
خلق الله تعالى.
وسمعت بعض الحكماء يقول: السابق إلى النفس من هذا الخبر
هو الحسن المتعارف؛ وإنما اختصّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ذوي الوجوه الحسنة
لأنّ حسن الظاهر دليلٌ على صحّة الباطن، أي لأنّ حسن المرأى شاهدٌ على اعتدال
العقل، والعقل يأمر بالمواساة ويبعث على الخير. وقال أيضاً: إن الحسن موصولٌ بالحياء؛
لهذا قلّما ترى التجليح في ذي الوجه الصبيح، ومتى تمّ حياء الوجه ورقّ عليه اللسان
عن الردّ وحرج الصدر بالحقّ، صار ذلك سبباً للرحمة وداعية إلى النجاح.
وهذا جوابٌ قريبٌ مقبول، ليس للقلب عنه نبّو، ولا للعقل عليه
مستكرةٌ. والكلام في هذا الفنّ طويل الطّرفين، جمّ الفوائد، ولكنّي قد مللت بما
أمللت، فلهذا أروي بعض ما أطوي ولا أفسّر خيفة الإطالة الجالبة للملالة، وبئس
الشيء الملل في العلم واقتباسه، والكسل في العمل وإخلاصه، لكني من البشر، ممزوجٌ
بالخير والشرّ.
وقال صلّى الله عليه وآله: " القناعة مالٌ لا ينفد " .
وقال عليه السلام: " ما عال من اقتصد " .
وقال عليه السلام: " أيّ داءٍ أدوى من البخل " .
وقال عليه السلام: " لا يجنى من الشّوك العنب " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " رأس العقل بعد الإيمان
بالله عزّ وجلّ التودّد إلى الناس
" .
وقال عليه السلام: " إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " اليسر يمنٌ والعسر شؤم " .
وقال عليه السلام: " الناس معادن " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " ما قلّ وكفى خيرٌ ممّا
كثر وألهى " .
وقال عليه السلام: " من صمت نجا " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " العائد في هبته كالكلب
يقيء ثمّ يعود فيه " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " البس جديداً وعش
حميداً، قال صلّى الله عليه وآله لعمر
" .
وقال عليه السلام: " المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد
انقاد وإذا أنيخ استناخ " ؛ أراد بهذه الدلالة على وطاءة جانبه وسماحة أخلاقه
وسهولة أمره، وأنك لا تهزّه إلى خيرٍ لك أو له إّلا اهتزّ، ولا تدعوه إلى رشدٍ
إّلا أسرع إليه، وأنه كثير الاسترسال، ظاهر التوكّل، قد ألقى مقاليده إلى الله عزّ
وجلّ، وإلى أوليائه؛ وما تجد هكذا الفاجر المنافق، فإن الشراسة فيه غالبة، والاحتياط
والحزم والتحرّز منه بنجوة، يتوهّم أنه إنما يعيش بتأتّيه وقدرته واستطاعته، وهذا
ظنّ لا حقيقة له، ورأيٌ لا محصول معه. إنّ الله عزّ وجلّ مالك النواصي، ومصرّ ف
الجوارح، ومقلّب القلوب، وباعث الخواطر.
والأنف
- بقصر الحرف - هو الذي يشتكي أنفه، هكذا هو من البعير
والإنسان وكلّ ذي أنفٍ؛ والأنف كالظّهر وهو الذي يشتكي ظهره، وإياك أن تقول: يشكو
بطنه ويشتكي من بطنه، هذا كله لكنةٌ والعربية ما سلف. وقولهم أنف فلان من القبيح كأنه
لوى أنفه عنه، وليّ الأنف في هذه الحال كنايةٌ عن زيّ الوجه، وزيّ الوجه كنايةٌ عن
الإعراض، والإعراض كناية عن الانصراف وترك القبيح، وإذا قيل لك: أما تأنف من كذا
وكذا؟ فهذا يراد بك، والأنف موضع الخنزوانة، والخنزوانة الكبر، يقال: فلان أنفٌ
إذا كان يعاف القاذورة، وفلان نطفٌ إذا كان يأتي القاذورة، كأنه يسرع فيها ويسيل
كالناطف - وهو السائل - ؛ وتقول:
أنفت الرّجل إذا ضربت أنفه - والهمزة مفتوحة، والضمة
لكنةٌ في ألسنة العامّة، وهو نظير قولك: جبهته وبطنته وصدرته، إذا ضربت جبهته
وبطنه وصدره. وتقول: كان فلان في أنف شبابه يفعل كذا وكذا، أي في عنفوانه أو أوّله؛ وأما
قولك فعلت كذا وكذا آنفاً، أي منذ الآن، واستأنفت الأمر أي أعدته، كأنك طلبت أنفه
أي أوله؛ وقد أناف فلان على مائة سنة، أي أشرف عليها، كأنّ المعنى من شرف الأنف
وإشرافه على الوجه، وفيه لغة، يقال: ناف أيضاً، ومنه عبد مناف كأنه مصدر ناف؛
وكلأٌ أنفٌ أي لم يرع بعد، وفلان قد أوفى على نيّفٍ وستّين سنة - تشدد الياء؛ هكذا
قال أبو حاتم. فتأمّل هذا الأدب واحفظ هذا العلم، فقد سيق إليك وأنت مستريح.
وأما قوله: إذا أنيخ استناخ، هكذا يقال ولا يقال: أنيخ
فناخ، إنما يقال: برك واستناخ، وقد شذّ عن وجه القياس إّلا أنه محفوظ.
وقال صلّى الله عليه وآله: " المؤمن القويّ أحبّ
إلى الله من المؤمن الضعيف
" .
وقال عليه السلام: " فضل العلم خيرٌ من فضل العمل " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " ربّ مبلّغ أوعى من
سامع " .
وقال عليه السلام: " لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه
" ؛ قيل: يا رسول الله، وكيف يذلّ نفسه؟ قال: " يتعرض من البلاء لما لا
يطيق " .
قال ابن عمر: سمعت من الحجّاج كلاماً أنكرته، فأردت أن
أغيّر عليه، فذكرت قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: " لا ينبغي للمؤمن أن
يذلّ نفسه " ، الخبر، فأمسكت؛ فرحم الله ابن عمر، وهل يجوز ترك الأمر
بالمعروف بهذا التأويل؟ أما إنه متى شاع هذا بين الناس وجنحوا إليه، وعملوا عليه،
ظهر الفساد في البرّ والبحر، وتعجّل كلّ واحدٍ في راحته وعزّه، وقبض يده ولسانه
عمّا فرض الله عزّ وجلّ عليه من إقامة المعروف وإماتة المنكر؛ أما إنه موقوف على
التأويل فإنك لا تجد قائلاً قولاً ولا فاعلاً فعلاً إّلا وهو في حاله تلك يبسط عذراً،
ويدّعي سرّّا ويتعسف تأويلاً. ولعلّ هذا الحديث واهي الإسناد، فاسد المخرج، أو قد
صحبه في الحال ما سقط منه عند الرواية، وما أظنّ أكثر من هذا؛ على أن حسن الظنّ
أحسن.
قال صلّى الله عليه وآله: " من رزق من شيء فليلزمه؛
حثّ بهذا على استجلاب الرزق
" .
وقال عليه السلام: " الشاهد يرى ما لا يرى الغائب " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " المؤمن غرٌّ كريم
والفاجر خبّ لئيم " ؛ أشار عليه السلام بهذا النّعت إلى سلامة صدر المؤمن
لأنّ إيمانه يبعثه على حسن الظنّ والاسترسال، فيكون بعض ذلك غرارة، إّلا أن غرارة
بإيمانٍ أنفع في الدين والدنيا من حذاقةٍ بفجور؛ الحزم كلّه حرس حريم الدّين وإن
أباح سرّ الدنيا، والإضاعة كلّ الإضاعة فيما خلب وأهمل الدّين، وكلّ هذا يراه
الإنسان - مع إيمانه القويّ، وسرّه المرضي - من حبّ العاجلة، ولعمري فطام النفس
عنها شديد، ولكنّ الثّواب على قدر المشقّة والجزاء على قدر العمل.
والغرّ في اللغة هو الغرير وهو المغترّ، والغرارة - بفتح
الغين - كالمصدر هو حالها؛ فأما الغرّ - بفتح الغين - فالحدّ، وهو ثني الثوب،
العرب تقول: طويت فلاناً على غرّه، أي لبسته على دخل، والغرور - أيضاً بضم الغين -
مصدر عر يغرّ غروراً، والغرور - بفتح الغين - يقال هو الشيطان، ويقال: هو الدنيا،
وأما الغرارة - بكسر الغين - فالظّرف يحمل فيه التّبن وما أشبهه.
وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا تلاقوا
تواصوا، وكان فيما يقولون: كونوا بلهاّ كالحمام، كان المعنى: فوّضوا أموركم إلى
الله عزّ وجلّ ولا تتجاوزوا في الاحتياط والحزم والترقيح في المعيشة ما يليق
بإيمانكم ويحفظ مروءاتكم. وقد قال السلف: تعايش الناس ملء مكيال، ثلثاه فطنةٌ وثلثه
تغافل. والعرب تعتد في أمثالها قولها: الاستقصاء فرقة؛ وقال جعفر ابن محمد الصادق
عليهما السلام: عظّموا أقداركم بالتغافل، فقد قال الله عزّ وجلّ " عرّف بعضه
وأعرض عن بعضٍ " . وقال المبّرد: قال الله تعالى " ولستم بآخذيه إّلا أن
تغمضوا فيه " .
واعلم أنّ هذا التأديب يجمع خير الدّين وروح الدنيا،
ولهذا نوى أن المتكلمين في الدّين والمتجادلين بين المسلمين يأخذون أنفسهم
وقرناءهم في بابٍ من الاستقصاء ضيّق، لا يدخله المتطامن فضلاً عن المنتصب. ولهذا
قلّ التألّه فيهم، ورحلت هيبة الله عن قلوبهم، وكثر التأويل في كلّ أمورهم عليهم،
وطمع فيهم الشيطان في جميع أحوالهم. والله لقد تصفّحت خلقاً لا أحصي عددهم ببغداد
منذ سنة خمسين إلى يومنا هذا، فما رأيت منهم من ترجى له السّلامة إّلا رجاءً
قليلاً، منهم أبو القاسم الواسطي، بل هو أشفّهم فيما تجلّى للعين وطهر للحسّ، على
أنه يرمى بالنّفاق، ويقرف بالقبيح، ولا سليم على الناس، ولا معصوم من الخلق. فأما
جعل فمن دونه، فنسأل الله عزّ وجلّ أن لا يهتك أستارنا كما هتك أستارهم، ولا يقبّح
أخبارنا كما قبّح أخبارهم.
حدّثني القاضي الموفّق المراغي قال: كان سبب نكبة أبي
عمرو الأصبهاني، وزير عليّ بن ركن الدولة شؤم النّصيبيّ أبي إسحاق، غلام جعل، وذلك
أنه فتح عليه باب الخنا، وسوّغ له التهالك في المجون، وهوّن عليه أمر الدّين،
ومنعه من أسباب البّر والصدقة والتعبّد، فقسا قلب ذلك الرجل، وجمدت كفّه، وجعد
بنانه، وطال هذيانه، وعظم طغيانه، فأخذه الله تعالى أخذةً، جعلها نقمةً له وموعظةً
للناظر إليه.
وكان القاضي هذا يقول: سمعت النّصيبيّ يقول وقد انتشى من
الصّرف من الخمر: لو صحّ أمر الدّين في نفسي لما وجدتني عاكفاً على هذا، لكنّي ما
أجد صحةّ ولا أعرف حقيقةً، وأما الكلام الذي نديره بيننا وبين الخصوم مثاله مثال
قول القائل: أين الباب المجصّص؟ فيقول له المجيب: عند الدّرب المرصّص، فيقول
السائل: فأين الدرب المرصّص؟ فيقال: عند الباب المجصّص.
هذا قليلٌ من كثير ما ينطوي عليه هذا وأشباهه من الناس، والطريف
أنّ القوم يقطعون بالوعيد، ويحكمون بالتخليد، ويأخذون بأشدّ التشديد، ثم يركبون من
الدنيا سنامها ويقتحمون من النار جاحمها؛ على هذا تجد القاضي الأسداباذي قاضي
الرّي وابن عبّاد ومن لفّ لفّهما، وما أدري ما أقول في هذه الطائفة الداعية إلى
الحقّ بزعمها، العاكفة على الفسوق والكفر باختيارها. ما هذا إّلا العناد ومجاهرة
ربّ العالمين بالإلحاد. ولولا أنّي أجد لهيباً في نفسي من هذه الأمور المتناقضة،
لما شغلت خاطري بهم ولا أعملت لساني فيهم، فلهم ربّ يجزيهم جزاءهم ويحاسبهم
حسابهم، ولكنّي يدركني أسفٌ على دين الله عزّ وجلّ كيف يتلعّب به قومٌ لا خلاق
لهم، ولا من عقيدة معهم، وإنما أتوا من الفضل الذي تقدّم هذا الكلام، وهو أنهم
رضوا من أنفسهم في الدين بالكلام فيه، والتشكيك عليه، وإنشاء مسائل لا يسأل عنها
أحد، ولا يدلّ عليها وسواس، وادّعوا أن الإقبال على هذا النوع تصحيحٌ للتوحيد، ومعرفةٌ
بالأصول، وإثباتٌ للحقّ، ثم فارقوا العمل وإخلاصه، وأعرضوا عن الآخرة وطلبها
بالتهجّد والصّوم وطول الصّمت وبذل النفس. ومتى واقفتهم شاغبوك وصاخبوك ورموك
بدائهم، وازدحموا عليك بكيدهم.
فجانب - أيدك الله - هذه الخصلة القادحة في عقد الدّين،
الفاضحة لأصول الأخلاق - أعني الجدل والنّقار والاستقصاء - واعلم أنّ الله عزّ
وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله قد أوضحا لك منهج السلامة، وسلكا بك طريق الرّشد،
فما لاح لك من ذلك فقل به واعمل عليه، وما أشكل فقف عنه ولذ بالله فيه، واتّق الله
عزّ وجلّ، فإنّ له مقاحم هي مهالك؛ وإياك والتهاون بما ألقيت إليك، فإنّي لم أجد
فساد الدّين والدنيا إّلا من هذه الخصلة النكدة.
وقال صلّى الله عليه وآله لرجلٍ من جهينة: " ما لك
من مالك إّلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت " .
وقال عليه السلام لرجلٍ قال له: " أوصني، فقال:
عليك باليأس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنّه فقرٌ حاضر " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " أنزلوا الناس منازلهم
" ؛ سألت القاضي أبا حامدٍ عن هذا فقال: ليس يعني في منازلهم عند الله، فإنّ
تلك مطويّةٌ عن معارف الخلق، وإنما ذلك على ما ظهر من حليهم، ونطق به شاهدهم، ودلّ
عليه ما تعاطوا بينهم. وكان أبو السائب القاضي ببغداد يشنأ رجلاً، فدخل إليه المشنوء
يوماً فلم يحفل به أبو السائب ولم يرفع إليه طرفه، فوجد الرجل من ذلك، فجرّ الحديث
إلى أن قال لأبي السائب: أيّها القاضي، أنزل الناس منازلهم، فقد وصّى رسول الله
صلّى الله عليه وآله بذلك، فقال أبو السائب: يا غلام، خذ بيد الشيخ إلى الكنيف فما
أعرف له منزلاً غيره، وقد أمسكت عن إقامة السّنّة فيه فأبى، فأخذ الشيخ إلى الكنيف
وبقي يومه حتى كلّم أبو السائب فيه فأطلقه. وكان أبو السائب داهية الأرض، وكان قد
ربع الآفاق وتصوّف، وعرف الأمور وقلب الدهور.
وقال صلّى الله عليه وآله لرجلٍ: " أولم ولو بشاةٍ " ؛ هذا
قاله لرجلٍ خطب كريمة قومٍ، فأحبّ عليه السلام بذلك التئام الشّمل وإشادة الأمور
وتمام الألفة واجتلاب المحمدة واستدعاء البركة؛ يقال: أولم يولم إيلاماً مثل آلم
يؤلم إيلاماً، ولكنّ الأشهر في أولم الوليمة، والإيلام على بابه في قياسه. فأما
ألم يألم ألماً فالمؤلم؛ وقيل في الأليم إنه المؤلم، كذا فسّر أرباب الكلام في
القرآن.
وكان سلام والد أبي عبيدٍ مملوكاً، وكان لا يفصح، فأسلم
قاسماً في المكتب، وكان يضربه ويطالبه بما يتعلم؛ وكان يقول: إنما أدربك حتى تألم
أي أضربك حتى تعلم، فجعل الضاد دالاً والعين ألفاً. ثم إن الله تعالى أنبت أبا
عبيدٍ نباتاً حسناً، وكفله وتولاّه، وفتح عليه باباً في تفسير غريب حديث رسول الله
صلّى الله عليه وآله لم يسبقه إليه أحدٌ، والناس من بعده سلكوا طريقه، وكان ثقةً
عالماً ورعاً، وكتبه كلها جليلة القدر خطيرة، لا يقوم بها إّلا عالم.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الصبر عند الصّدمة
الأولى " .
وقال عليه السلام: " أفضل العمل أدومه وإن قلّ " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " مداراة الناس صدقة " .
وقال صلّى الله عليه وآله بدور الظلام ونجوم الإسلام:
" ما تقص مالٌ من صدقة
" .
سمعت بعض الناس يقول: هذا المحال بعينه وكذبٌ من
الرّواية؛ كيف يضاف إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي هو الحقّ من الله،
الباطل؟ كيف لا ينقص مالٌ من صدقة؟ إذا أخذت من درهم دانقاً فما ينقص منه دانق؟
وإذا أخذت من عشرةٍ درهماً فما يصير تسعة؟ وهذا إنما قاله عن عطن ضيّقٍ وجهلٍ
متراكم، والعجب أنه من الشعراء ويترفّض ويدّعي تحقّقاً بمذاهب الإمامية، ولكن هذا
من ثمرة عقلٍ سخيف، وكذلك تجد أكثرهم؛ وإنما المعنى على الاختصار إنما هو على أن الناقص
عند المصّدق مرعيٌّ عند الله عزّ وجلّ بالخلف عليه والبركة فيه، وهذا الباطن فيه
يوفي في وضوحه على الظاهر اللفظ، لأن التناقض منفيٌّ عن كلام كثيرٍ من السّفهاء
فضلاً عن كلام الحكماء والأنبياء عليهم السلام، فضلاً عن كلام سيّد الأنبياء عليه
السلام، وأمثال هؤلاء الذين بهرجوا الحكم، وشدّوا باب التأويل، ومنعوا من موارد
العلم، وصدّوا عن سواء السبيل، أعانوا إخوانهم من الشياطين في الضّلال والتضليل.
وقال صلّى الله عليه وآله: " من صدق الله نجا " .
وقال عليه السلام: " سكّان الكفور كسكّان القبور
" ؛ وقال أهل العلم باللغة:
الكفور جمع كفر، والكفر: القرية؛ ورووا أيضاً: تخرجكم
الرّوم منها كفراً كفراً، أي قريةً قريةً، وكأنه دلّ عليه السلام على أنّ سكّان
الأطراف والقرى يبغي لهم أن يخالطوا الحاضر للتعلم والتفقه والتأدب والتنبه، فبالاجتماع
والتلاقي يقع التفاصح عن المعاني، والتعاون على البر. والكفر: التغطية، ومنه كفر فلانٌ كأنه ستر نعمة
الله عليه بالجحود والعنود، ومنه الكافر في السلاح أي الداخل فيه، ويقال: تكفّر في
درعه، والكافر: الزارع، هكذا قاله الناس، وزعموا أنه من هذا المعنى.
ورأيت كثيراً من المتكلمين يسرعون إلى تكفير قومٍ من أله
القبلة لخلاف عارضٍ في بعض فروع الشريعة، وهذا الإقدام عندي مخوف العاقبة مذموم
البديّ، وكيف يخرج الإنسان من دين يجمع أحكاماً كثيرة، وقد تحلّى منه بأشياء كثيرة
ليست خطأ منه، وليس المعارض له بالتكفير بأسعد منه في نقل الاسم إليه؛ كذلك أبو
هاشم يكفر أباه أبا علي الجبّائي وأبو علي يكفّر ابنه، وحدّثني أبو حامد المروروذي
أن أختاً لأبي هاشم تكفّر أباها وأخاها؛ وأما أصحاب أبي بكر ابن الإخشيذ كالأنصاري
وابن كعب وابن الرّمّاني وغيرهم، فكلّهم يكفّرون أبا هاشم وأصحابه وجعلاً
وتلامذته، وخذ على هذا غيرهم، وما أدري ما هذه المحنة الراكدة بينهم، والفتنة
الدائرة معهم! أين التقوى والورع والعمل الصالح ولزوم الأولى والأحوط؟ إلى متى
تذال الأعراض وقد حماها الدّين، إلى متى تهتك الأستار وقد أسبلها الله عزّ وجلّ؟
إلى متى يستباح الحريم وقد حظره الله إلي متى تسفك الدماء وقد حرمها الله ما أعجب
هذا الأمر! كانّ الله تعالى لم يأمرهم بالألفة والمعاونة، ولم يحثّهم على المرحمة
والتعاطف، وكأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يحذّرهم التفرّق في الدين
والطعن على سلف المسلين.
وقال عليه السلام: " الشديد من غلب هواه " .
وقال عليه السلام: " المستشير مغاث " .
وقال: " الولد ريحان من الجنة " .
وقال: " خيركم خيركم لأهله " .
وقال: " السّفر قطعةٌ من العذاب " .
وقال عليه السلام: " خيركم من طال عمره وحسن عمله " .
وقال: " حسن الجوار عمارةٌ للديار " .
وقال: " الأنصار شعارٌ والناس دثار " .
وقال: " لا سهل إّلا ما جعلت سهلاً " .
وقال: " خير النّساء الولود الودود " .
قولا: " الإبل عزٌّ والغنم بركة " .
وقال:
" ما نحل والدٌ ولده أفضل من أدبٍ حسن " ،
يقال: المعنى ما وهب له، والنحلة: نحلة المرأة، وكأنّ النّحلة التي هي العقيدة
وجمعها النّحل إنما هي كالهبة من الله عزّ وجلّ، انتحل فلانٌ كذا أي ذهب إليه
واشتمل عليه، وتنحّل إذا تكذب في الدعوى، يقال ما انتحل ولكن تنحّل إذا أظهر غير
ما أضمر. فأما نحل الإنسان - في الّلازم - فمعناه هزل - بضم الهاء، ولا يقال هزل
بفتح الهاء - وهزله الله يدلك عليه، وهو مهزول اللحم، واللحم الهزيل كأنه الغثّ
الذي لا شحم له أو ليس بغريض. والغريض: الطّريّ؛ والطريّ بتشديد الياء - يدلك عليه
قوله تعالى " لتأكلوا منه لحماً طريّاً وتستخرجوا " . فأما الطارئ - بالهمزة - فالذي
يطرأ بلداً أي يرد ويقدم؛ والغريض الإغريض: الجمّار، والغريض: الغضّ، والهمزة زيدت
في الإغريض لفرق، وإّلا فالغريض الأصل الذي هو الطّراوة، والطّراوة الجدّة -
والجدة بتشديد الدال - فإما الجدة - بتخفيف الدال - فالغنى والإصابة؛ تقول: وجد
يجد جدةً، كما تقول: وعد يعد عدةً، ووصف يصف صفةً، ووزن يرن زنةً، وومق يمق مقةً،
ووثق يثق ثقةً، ووقر يقر قرةً، والقرة: الثقل في الأذن وغيرها، وفي المثل: نعوذ بالله
من طئة الذّليل أي أخذته شديدة ومسّه خشنٌ كالجبان الظافر، فإنّه يجهز ولا يقال
يجيز، إنما الإجازة في الحديث أو في الطريق فأما الإجهاز ففي الجريح إذا لم يترك
على جراحته، ولكن أتي عليه، ولا يكون الإجهاز إلا بعد أن يثخن ويؤتى عليه.
والطّراوة غير الطّلاوة، يقال طلاوة وطلاوة، فأما حلاوة فبفتح الحاء، وإن رفعت
الحاء تحوّل المعنى إلى حلاوة القفا، تقول: طرحته على حلاوة القفا. الطّراوة:
الغضوضة؛ هكذا قال أبو حنيفة، وأبى أن يقال: الغضاضة؛ وقال: إنما الغضاضة هي فيما
يغصّ من الإنسان أي يوكس حقّه ويستهان بقدره. وقد يكون الشيء طريًّا لا طلاوة له،
والطّلاوة: الماء والترقرق، وفي الإنسان: الدّماثة والقبول؛ والدّماثة: السهولة،
يقال: أرضٌ دمثةٌ إذا كانت سهلة المحافر والمواطئ وكانت كريمة النّبات؛ هكذا يقول
أبو حنيفة أعني الدّينوري أحمد بن داود صاحب كتاب النّبات والأنواء، وكان ثقةً صدوقاً
عالماً شديد التحقّق بالحكمة، وله لهجةٌ بدويّةٌ وبيانٌ شافٍ ووصفٌ مستقصىً، يزيد
بهذه الخاصة على علماء كانوا قبله، فإنّك لن تجد لواحدٍ منهم غزارته واسحنفاره -
الاسحنفار: المضيّ في الكلام؛ ويقال: له مضاء وغناء، وكأنّ المضاء كالنّفاذ،
والمضيّ كالنّفوذ، وليس بينهما فضلٌ مشعورٌ به ولكنّ للنفس عندهما وقفةً وتحيراً.
وقال عليه وآله السلام: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم
الصابر.
وقال:
حسن الملكة نماء؛ النّماء ممدود، وهو الاسم، ويقال نمى
ينمي نمياً، وهو المختار، ولغة أخرى: نما ينمو نموّاً ونماءً؛ والنّماء: الزيادة؛
ويقال نمى إليّ حديث كذا، فكأنه زاد فشوّه حتى بلغه؛ ويقال: لا تقطعوا نامية الله عزّ
وجلّ، زعم الرّواة أنه عنى به النهي عن الخصاء؛ وفي الدّعاء يقال: نماه الله، وقد
قيل: أنماه الله، وهو أقيس وهو أقلّ.
وقال عليه السلام: من بدا جفا؛ زعم العلماء أن معناه: من
سكن البادية غلظ، كأنه إنما تستفاد الرّقّة بالحاضرة لأنهم أهل المحاضرة؛
والمحاضرة فيها تفهيم واستفهام، والرقّة تابعةٌ لهذه الحال، ومعنى بدا: ظهر، كأنه
من خرج إلى ظاهر المدن، لأنّ من سكن هناك فهو ظاهرٌ لا يستره الجدار ولا يكنّه
البنيان. وتقول منه: بدا يبدو فهو بادْ والمصدر البدوّ، فأما البدء فالابتداء؛ وقلا
سيبويه: يقال: بدا لي كذا يبدو بداً وبداءً، والقصر عند غيره مرذول.
والناس يقولون إنّ طائفة من الشيعة تقول بالبداء، وزعموا
أنّ أصل هذا القول نشأ عن المختار، فإنّه كان يعد أصحابه عن الله عزّ وجلّ الظّفر،
فإذا حال معنى الوعد قال: بدا لله، خيفة أن يقال: أخلف الله.
وقال عليه وآله السلام: لو كان لابن آدم واديان من ذهبٍ
لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إّلا التّراب ويتوب الله على من تاب؛
يقال: كان هذا في القرآن، وعلى ظاهره مسحة تلك الطريقة، والله أعلم بحقيقة الحال فيه،
وإنما تقول ما قالوا ونسكت عن ما سكتوا، ولسنا أعلم ممّن سلف، بل الأقدمون هم
المقدّمون والأوّلون هم الأولون، وإنما نحن لهم تبع، والجميع في الحق شرع. ومعنى
شرع: سواء،
والشريعة: الموردة لاستواء الشاربة في الارتواء.
وقال عليه وآله السلام: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول
ما يسخط الرّب؛ يعني أن البشرية تعجز عن تحمّل الحكم، والعقل يحجزه عن تكرّه
القضاء، فيبدي من الحزن ما تقتضيه الرحمة، ويضمر من التسليم ما يوجبه حال العصمة.
وقال صلّى الله عليه وآله لرجلٍ: " أخذنا فألك من
فيك " ، الفأل هاهنا مهموز، فأما الرجل الفال إذا كان فائل الرأي فلا همزة
فيه، وقد مرّ الكلام في هذه الكلمة آخذاً بنصيبه من الإيضاح والشرح.
وقال: " من عمل عملاً ردّاه الله عمله " ، أي ألبسه ذلك، أي جزاه جزاءه، وكأنه
بيان قوله جلّت عظمته " فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ
شرًّا يره " يقال في اللغة: حسن الرّدية كما يقال: حسن المشية وحسن النّيمة -
من النوم - وحسن الفضلة، والتفضل هو التبذل بالثوب الواحد، كأنّه خلاف الحفلة،
لأنّ الحفلة للمباهاة، والفضلة للمباسطة؛ وأما الرّدى فالهلاك، يقال: أرداه الله
أي أهلكه، وتردّى هو أيضاً معناه هلك، ومنه قوله تعالى " والمتردّية "
والتردي كأنه من علٍ يكون. فأما قول العامة: ترادى فلان فإني سألت عنه السيرافي - وكان إمام عصره
حفظاً وضبطاً وعرافةً وثقةً - فقال: كلام مهزولٌ لا مجال له في شريف كلام العرب.
وقال عليه وآله السلام: غبار الجهاد ذريرة الجنّة؛ حدثنا
بهذا الحديث ميسرة بن علي إمام جامع قزوين في سنة خمسين وثلاثمائة عن محمد بن أيوب
الرازي، وسألت عنه ابن الجعابي فزوى وجهه كأنه لم يره صحيحاً.
وعلى ذكر ابن الجعابي، فإني سألته عن قوله عليه السلام
لعمار: يا عمّار تقتلك الفئة الفئة الباغية، قال: لا أصل له ولا فضل، وإنما ولّده
مولد. كذا قاله، وأما غيره فإنّه قال: هو من المعجزات لأنه إخبارٌ بالغيب، وقد قال
عمرو بن العاص لما قيل لمعاوية إنّ ابنه يذكر سماعه من رسول الله صلّى الله عليه
وآله يقول: " يا عمّار تقتلك الباغية " ، فأجابه بأن قاتله من جاء به
إلى القتال؛ فإن كان الأمر على ما قاله فالشّهداء الذي قتلوا في غزواتهم مع النبيّ
صلّى الله عليه وآله كلهم هو قتلهم، والله المستعان.
وقال عليه السلام للأنصار يصفهم مادحاً ومبيناً لما رأى
منهم: " إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع " ؛ قد فسر المبرّد
هذا في أول كتابه الكامل وأوضح المعنى فيه، وعلى التقريب نقول: الفزع ينقسم مرةً
إلى الرّوع الذي يبقى فيه الإنسان حتى تعتريه الحيرة ويخامره الرّعب، فكأنّه فاتحة
المكروه، وينقسم مرةً إلى أنه إغاثةٌ وإصراخٌ ومعونة وإنجاد. وهذا المعنى من رسول الله
صلّى الله عليه وآله في تقريظ الأنصار: أي أنتم عند المعونة والنصرة تكثرون لشرفكم
وشجاعتكم، فأما عند الفيء والقسمة وما عرض من أكثر الناس. وهذا من روائع الكلام الذي هو بنفسه
يدلّ على علوّ قائله وشرف الناطق به.
وقال عليه السلام: " إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ معالي
الأخلاق ويكره سفسافها " ؛ السفساف: الخسيس، وسفسف فلانٌ في كذا إذا أدقّ
نظره وتتبّع حواشيه خيفة أن يفوته منه شيءٌ.
وقال عليه السلام: " أمّتي كالمطر لا يدرى آخره
خيرٌ أن أوّله " ؛ ليس هذا منافياّ لقوله: " خير القرون القرن الذي بعثت
فيهم ثم الذين يلونهم على ذلك " ، وليس هذا أيضاً منافياً لقوله في وصف
الزمان: " لا يزداد الزمان إّلا صعوبةً، ولا الناس إّلا شحاً، ولا تقوم
الساعة إّلا على شرار الناس " . وإذا عبرت بجواب ما تقدّم من المسائل رأيت
الكلام في هذا واقعاً موقعه ومستمراً مريره.
وقال عليه السلام: " لا عيش إّلا عيش الآخرة " .
وقال: " خزائن الخير والشرّ مفاتيحها الرّجال " .
وقال: " أعظم النكاح بركةً أيسره مؤونةً " .
وقال: " قيّدوا العلم بالكتاب " .
وقال: " كاد الفقر أن يكون كفراً " .
وقال: " همّة العلماء الرعاية وهمّة السّفهاء
الرّواية " .
وقال: " التمسوا الرزّق في خبايا الأرض " .
وقال: " ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً " .
وقال عليه وآله السلام: " في كل كبدٍ حرّى أجرٌ
" ؛ والحرّى العطشى، والمعروف الحّران في المذكّر، وحرّان لا ينصرف، ومعنى
قوله لا ينصرف: لا ينّون آخر الكلمة، ولعلك إن لم تأخذه من حرّ - إذا عطش - يحرّ
حرّة انصرف، لأنك تجعله إذ ذاك من حرن فهو حرّان مكان حرون؛ ألا ترى أنك إذا صرفت
حسّان وتيّان وحيّان وزمّان عن باب فعلان إلى باب فعّال صرفت، فإنك إذ أخذت حسّان
من حسن يحسن حسناً فهو حسّان كان فعّالاً وصرفت، وإذا أخذته من حسّ كان فعلان ولم يصرف؛
وإذا أخذت حيّان من حان فهو حيان كان فعّالاً وصرفت، وإذا أخذته من الحياة أو
الحيا كان فعلان ولم يصرف، وكذلك إذا أخذت تيان من التّين - وهو بائعه وجامعه -
كان فعالاً وصرفت، وإذا أخذته من تيّ كان فعلان ولم يصرف، وكذلك زمّان إن أخذته من
زمن بالمكان إذا أقام كان فعالاً وصرفت، وإن أخذته من زمّ يزمّ كان فعلان ولم
يصرف، والكلام في زمان سيمرّ أشبع. ومن هذا الحرّ، يقال: حرّ يومنا إذا وهجت شمسه،
وحرّ المملوك بحرّ وحرّ اليوم يحرّ، وما هاهنا فاصلٌ طبيعيٌّ ولا شاهدٌ عقليٌّ،
والسّماع في مثله عزيز. وهذا غاية ما أقدر عليه، وأجد سبيلاً إليه، وإنما أتكلف ما
يستطاع.
فخذ من كلّ ما يقرع سمعك ويروق فهمك صافيه، ودع عليّ
كدره واغفر لي خطئي في هذا الكتاب لصوابه، ولا تنكر حسني فيه لقبيحي منه، واعلم أن
من طلب عيباً وجده.
وقال عليه السلام: " أفضل الصّداقة على ذي رحمٍ
كاشحٍ " ؛ الكاشح: العدوّ؛ كأنه من كشح عني إذا أعرض أي طوى كشحه. وسمعت من
يقول: لأنه أضمر العداوة في كشحه. وكشحته إذا ضربت كشحه، كما تقول بطنته ورأسته
وفأدته وكبدته إذا ضربت هذه المواضع منه، أعني البطن والرأس والفؤاد والكبد، وكذلك
طحلته، من الطّحال، وكأن بابه متلئبٌ أي مطّرد ومتتابع؛ هكذا حفظت. وناقة مكشوحةٌ
إذا كويت في كشحها، وجمع الكشح كشوح، وقد سمعت أكشاحاً، والعرب تقول: أصبح فلانٌ
وصاحبه يتكاشحان ولا يتناصحان، ويتكاشران ولا يتعاشران.
وقال عليه السلام: " أصحابي كالنّجوم بأيّهم
اقتديتم فقد اهتديتم " ، وكان أبو حامد يقول: جمع النبيّ صلّى الله عليه وآله
وأصحابه بهذه الكلمة تحت الشّرف والعمل والعلم، وهذا هو التزكية، وناهيك بمن رسول
الله صلّى الله عليه وآله مزكّيه والدّاعي إليه، وإن كان التفاضل قائماً بينهم،
وهكذا يوجب حكم المثل من قوله أيضاً، لأن النجوم تجتمع في الإزهار والإضاءة ثم
إنها تتفاضل في ذلك، وليس فيها ما لا يهتدي به، ولا يبصر بضيائه، ولا يقتبس من
نوره؛ هكذا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله. ومن كان منهم أقدمهم مولداً، وأكبرهم
سنًّا، وأسبقهم هجرةً، وأكثرهم تجربةً، وأشدّهم ملابسةً، كأبي بكر الصديق، كان
أولى بالاقتداء به والمصير إلى قوله وفعله وهديه.
وكان يقول: كيف يطلق عليه السلام هذا القول وهو قد عرف -
بزعم الرافضة - أنه سيكفر فيرتد ويضلّ ويحمل أمةً قد تعب محمد صلّى الله عليه وآله
وسلّم في إرشادها وهدايتها إلى الله عزّ وجلّ وإنقاذها من النار، على الضلالة
والردة والكفر والفسوق؟ هذا لا يسع توهّمه فكيف اعتقاده والإيمان به؟ فقيل لأبي حامد
وأنا أسمع: هذا الخبر لا يقتضي هذا الكلام كله وهذا التهجين للقوم جملة، لأنه من
الآحاد، والمذهب في الخبر الواحد معروف، لأنه لا يجب به علم، وإن كان يصار به إلى
عمل لانقطع بصحة موقعه من الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله، فقال أبو
حامد: إن الخبر لما أسند إلى ما عرف من حال الصحابة في هجرتها ونصرتها وسابقتها
وعلمها وعملها وغنائها وجميل بلائها وغير ذلك من أفعال وأخلاق وعقود، وما أثنى
الله عزّ وجلّ عليهم بها، وتمّت كلمة الله تعالى معها، وطارت الشريعة في آفاقها،
وثبتت على عهدها وميثاقها، وساحت على فسيطها، وظهرت على الأديان كلّها، وجب أن
يكون صحيحاً أو في حكم الصحيح - أعني في حكم ما لو قاله لم يردده أصل، ولم ينثلم
به ركن، ولم يحله عقل، ولم يأبه فهم.
753 - وقال: وعلى أنّا لو نفينا هذا الخبر، وبهرجنا هذا
المعنى، وعدلنا أيضاً عن السيرة المحكيّة، والقصة المرويّة، لكان فيما يوجبه حال
نبيٍّ أتى من الله تعالى بالحقّ المبين، والمصلحة الشاملة، والمنفعة الكاملة،
والخير الفائض، ودعا باللطف، وصدع بالأمر، وكان الله تعالى متولّي حراسته، وعاصم
نفسه، وناشر رايته، ما يقتضي هذا المعنى في الخبر وإحقاقه.
753ج - قال: وإنما الطعن على السّلف من عادة قومٍ لا خلاق
لهم، ولا علم عندهم، ولم يطّلعوا على خفيّات الأمور، وعلى أسرار الدّهور، ولم
يميّزوا الحال بين نبيٍّ جاء من عند الله تعالى هادياً للخلق، وسائقاً إلى الجنّة،
وبين متنبئ مخرق بالحيلة، ولبّس بالمداهنة، ودلّى بالغرور، وزخرف بالباطل. والطاعن
على السّلف قد أشار إلى هذا المعنى وإن لم يفصح به، وألمّ بهذا البلاء وإن لم
يتربّع فيه - حرس الله علينا دينه بسلامة القلب على من نصر رسوله عليه السلام،
وسلك سبيله، واتبّع دليله، وقبل منه دقيقه وجليله، ولا جعل في قلوبنا غلاًّ للذين
آمنوا، إنه بنا رؤوف رحيم.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " إنّكم لن تسعوا الناس
بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم
" .
وقال عليه السلام: " استعينوا على حوائجكم
بالكتمان، فإنّ كلّ ذي نعمةٍ محسودٍ
" .
وقال عليه السلام: " العبادة في الهرج كالهجرة
إليّ. والهرج بغي الفساد "
.
وقال عليه السلام: " من أحبّ أخاه فليعلمه؛ حثّ
بهذا على المواصلة " .
وقال عليه السلام: " من رزق من شيءٍ فليلزمه، حثّ
بهذا على استمداد الرزق "
.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الإيمان قيّد الفتك؛
هذا لئلا يقدم المغيظ بالهوى على المحظور " .
وقال عليه السلام: " حلق الذّكر رياض الجنّة،
والذاكر في الغافلين كالمحارب في المنهزمين " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " إنّ الله جلّت عظمته
قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " صنائع المعروف تقي
مصارع السّوء " .
وقال: " التائب من الذّنب كمن لا ذنب له " .
وقال عليه السلام: " أبغض الرّجال إلى الله عزّ
وجلّ الألدّ الخصم " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " أخوف ما أخاف على
أمّتي منافقٌ عليم اللسان
" .
وقال عليه السلام: " رحم الله عبداً قال خيراً فغنم
أو سكت فسلم " .
وقال:
" صلة الرّحم مثراةٌ في المال منسأةٌ في الأجل
" ؛ الحرف مهموز في الأصل وتليينه جائز، ولكن لا تعتقدن عند التليين أنّ
الحرف من النّسيان، ولا تقولنّ في النّسيان النّسيان فإن قولك النّسيان تثنية
للنّسا، والنّسا هو عرقّ مقصور يستنبطه الفخذ - ويقال الفخذ أيضاً، والفخذ يذكّر
على مذهب الفرّاء لخلوّ اللفظ من علامة التأنيث، ويؤنث عند غيره لإضمار التأنيث، وكأن
العرب فيها على مذهبين، وللفخذ نظائر. ومن النّسيان تقول: رجل نسٍ ورجلان نسيان؛
فأما قوله: منسأة في الأجل، فمن نسأ الله في أجله أي أخرّه، ويقال أيضاً: أنسأ
الله أجله، المعنى في اللفظين واحد، وقوله تعالى " إنّما النّسيء زيادةٌ في
الكفر " مهموز، وما أعرف قارئاً ذهب إلى ترك الهمزة، فأما: " نسوا الله
فنسيهم " فلا همز، وفسّر: تركوا الله فتركهم، وإنما الفرق عرضي تابعٌ للمعنى،
وهكذا تجد هذا الجنس كالحصان - بكسر الحاء - وهو الفرس، والحصان - بفتح الحاء - هي
المرأة العفيفة والحصن والمحصنة، والفتح يدل على أنها استعفّت. ومن هذا الضرب
الحيّة والحيّ والحيا والحياء وحيّان وحيوة وحيوان والحيّ الذي هو القبيلة، وذلك
أن معنى الحيا شائع في أثناء هذه الأسماء، كأنهم رأوا الغيم يحيا له البشر
والنّعم، فأفردوا له اسماً من الحياة، ثم وجدوا الحياء في الوجه لا يكون إّلا من
شرف النفس ونقاء الجوهر، فدلّهم ذلك على أنّ صاحب هذا النعت أحيى ممن لا حياء له،
لأن خالع الحياء في قلة رقبته وتهوّره يشبّه بالميت، وكأنّهم وجدوا جماعة ناسٍ من بطنٍ
واحدٍ إذا انتسبوا إلى أبٍ أو اجتمعوا أو اجتوروا - أي تجاوروا - فتمّ بينهم
التعايش والحياة، وكأنّهم رأوا الحيّة طويلة العمر كثيرة الحركة، فأفرغوا عليه
سمةً تدلّ على خصوصيتها. وأما حيوة في الأسماء فكأنها حياة سكّنت ياؤها واجتلبت
لها الواو والبناء على حاله. وهذا شكلٌ من الكلام لولا أنّي قد سمعته ووعيته
واستخرجته وتدبّرته وعرضته على العلماء ويسّرته لكان الإقلال منه أسلم. لكنّ هذا
الكتاب قد جعلته خزانة لنفسي، ومرجعاً لدرسي، ففي نظرائي وأشكالي من فهمه أثبت من
فهمي، وذهنه أنفذ من ذهني، وحفظه أغزر من حفظي، وقلبه أذكى من قلبي، لكني آثرت أن
يكون لي فيمن دوني أثر، كما كان لمن فوقي عندي أثر، وإذا تيقظت قليلاً رأيت أهل
الفضل كنفس واحدة تستنسخ الفضائل على الزمان في ذوي الأرواح الطاهرة والجواهر
النيرة والطبائع المشحوذة والعقول السليمة. فأقلل من الطعن إن ظفرت بما يحسن في
عقلك طعناً، وخاصم نفسك عني فإنّه أشبه بكرمك، وأبعد للإدالة منك، ومن عاب عيب،
ومن هاب هيب، ومن صان صين، ومن أعان أعين، والحرّ أوقف بالطبيعة، والقصاص فأتمّ في
الشريعة، وقد قيل: كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد.
وقال عليه السلام: " حفّت الجنة بالمكاره وحفّت
النار بالشهوات " ؛ ولوال أن التكليف والمدح والذمّ والكرامة والإهانة لا تتم
أحكامها ولا يثبت نظامها إّلا بأن تكون الجنة المرغوب فيها والنار المرهوب منها،
على ما وصف عليه السلام لما كانت، فإنّ ربّ الخلق أعلم بالخلق، وباني الدار أعلم
بالدار، وربّ المنزل أعرف بالمسكن، وليس السلامة إلا في التسليم.
وقال عليه السلام: " الرزق يطلب العبد كما يطله
أجله " ؛ هذا الكلام كمايةٌ عن مصير الرّزق إلى العبد كملاً كمصيره إليه، إما
بالاكتساب والاحتساب، وإما بغير اكتساب ولا احتساب، فكأنه دلّ على أنه لا بدّ
للعبد البرّ والفاجر من استيفاء أكله إلى آخر أجله، وكان بعض الصوفية يقول: إما أن
ترزق وإما أن تصبر وإما أن تقبض.
والكلام في الزّرق خفيٌّ، والبحث عنه شاقٌّ، والمدخل فيه
غامض، والناس على طبقاتهم يموجون فيه بالصّحيح والسّقيم، والفاسد والسليم. والحقّ
الذي لا يطور به الباطل، والحجة التي لا تتخّونها شبهة، أنّ الإنسان منذ يسقط من
بطن أمه إلى أن يلحد في ضريحه مكفولٌ به، مصنوعٌ له، وأنّ كافله وصانعه يدبّره بمشيئته
وإرادته على ما سبق من علمه وحكمته، فالعبد مرةً محرومٌ ليبتلى صبره، ومرةً واجدٌ
ليعرف شكره، ولن يصفو من الدّنس وال يعرى من لباس الهوى ولا يصلح لسكنى الجنة إّلا
بهذا النوع من التقليب، وهذا الشكل من الترتيب: بين حالٍ يكون فيها مرتهناً بشكرٍ
يمتري له المزيد، وبين أخرى يكون ممتحناً فيها بصبرٍ يوجب له المزيد، فليس ينفكّ
من النعمة، إّلا أنه في الغنى أبطر وفي الفقر أضجر، وحكم الله ينفذ فيه على كرهٍ
منه. فما أحسن بمن أوسع الله عليه في ذات يده أن يكون مراعياً لحقّ الله عليه، وما
أولى بمن ضيّق عليه أن يكون واثقاً من الله بما لديه، فلعلّ الصّنع له فيما زوي
عنه وحجب وهو لا يدري، ولعلّ النظر له فيما حرم وهو لا يشعر.
وأنا أستحسن قول رجلٍ قال لعبيد الله بن سليمان: لو كان
للوزير بي عناية ما كان عني نابي الطّرف، ولا كنت من دركي منه على حرف؛ فقال عبيد
اله: أيها الرجل، على رسلك، فعسى نظري لك في الإعراض عنك، ولعل استصلاحي إياك
بالانقباض منك، ثق باهتمامي بك إلى أوان إسعافك، فإنّ تقرّبك إليّ بتفويضك أجلب
للنيل إليك من تباعدك عني باقتضائك، واعلم أني وزير.
هذا - أيدك الله - فصلٌ عجيب سقته إليك لتعلم أنّ
الإشارة في هذا المعنى إذا نقلتها إلى ما بينك وبي الله عزّ وجلّ علمت أنه أحقّ
بتفويضك وسكونك وتسليمك، وأنه أقدر على صرف المكروه واجتلاب المحبوب من عبيد الله
بن سليمان، واستلطف في قوله واعلم بأني وزير فإنه ينّبهك على أمر خطير.
وسمعت بعض مشايخنا يقول: كيف لا أثق بالله جلّ جلاله
وأعتمد عليه، ولقد رأيته يؤتيني ما أحب فيما أكره أكثر مما أصيب أنا ما أحب فيما
أحب.
وقال عليه السلام: " الزّكاة قنطرة الإسلام " .
وقال: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له " .
وقال عليه وآله السلام: " المؤمنون هينون لينون
" ؛ هيّن ليّن هين لين على وجه واحد، وكذلك ميّت وميت؛ وكان البديهي الشاعر
العروضي يقول: التشديد يدلّ على أن الموت قد حلّ به وفارق الحياة، والتخفيف على
أنه مقتبلٌ كائنٌ مع حياته وحركته؛ قال: والهين بالتخفيف يدلّ على أن ذلك منه
سجية، والتشديد يدل على أنه متكلف. وهذا نوع من التعسّف لا يصحبه دليل، ولا يشهد
له تأويل، إنما كان يهذي بمثل هذا ويكثر منه، وأقبح بالتكلّف، خاصةً بذي اللّسن العالم.
وقال صلّى الله عليه وآله: " لا تطرحوا الدّرّ في
أفواه الكلاب " ؛ هذا رواه لنا ابن
مخلد بفارس، ومرّ بي بعينه في كلامٍ لعيسى بن مريم عليه السلام طويل.
وقال: " بعثت بالحنيفيّة السّمحة " .
وقال:
" اللهمّ غبطاً لا هبطاً " ؛ نصبه على المصدر
كأنه: أسألك غبطاً أي أن أغبط غبطاً لا أن أهبط هبطاً، ومصدرٌ آخر وهو الهبوط -
بضم الهاء - ؛ والهبوط - بالفتح - هو المكان الذي يهبط منه، وهبط أي نزل، ومنه مهبط
جبريل عليه السلام؛ ويقال: هبطه أيضاً، وقد سمعت يتهبّط، فأما أهبطه فهبط فبابه
مجرى بيّن، والهبوط خلاف الصّعود، كما أن الهبوط خلاف الصّعود.
وقال عليه السلام: " أصحابي كالملح في الطّعام " .
وقال عليه السلام: " مروا بالخير وإن لم تفعلوه " .
وقال عليه السلام: أهل القرآن أهل الله " .
وقال عليه السلام: " الصّدق والبرّ في الجنة " .
وقال عليه السلام: " علّق سوطك حيث يراه أهلك " .
وقال عليه السلام: " التّواضع شرف المؤمن " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " لا خير في العيش إّلا
لسميعٍ واعٍ " .
وقال عليه السلام: " استنزلوا الرّزق بالصّدقة " .
وقال عليه السلام: " لكلّ شيءٍ عمادٌ وعماد الدّين
الفقه " .
وقال عليه السلام: " لا خير في المراء وإن كان في
حقٍّ " .
وقال عليه السلام: " انظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى
من فوقك " .
وقال عليه السلام: " المعروف بابٌ من أبواب الجنّة " .
وقال عليه السلام: " خيانة الرجل في علمه أشدّ من
خيانته في ماله " .
وقال عليه السلام: " السؤال نصف العلم " .
وقال عليه السلام: " الدعاء سلاح المؤمن " .
وقال عليه السلام: " المجالس أمانة " .
وقال عيه السلام: " الظّلم ظلماتٌ يوم القيامة " .
وقال عليه السلام: " الدّين الحبّ والبغض في الله " .
وقال عليه السلام: " الحكمة ضالّة المؤمن " .
وقال عليه السلام: " أحبب للناس ما تحبّ لنفسك " .
وقال عليه السلام: " النصر مع الصّبر والفرج مع
الكرب " .
وقال:
" الدعاء مخّ العبادة " ؛ رأيت بعض المتكلّمين
يقول: إنما هو محّ العبادة - بالحاء غير معجمة، وسألت العلماء عنه فكرهوا قول هذا الرجل
وقالوا: المحّ صفرة البيض. فأما محّ الثوب قد درس، ويقال أمحّ. فأما المخّ -
بالخاء معجمةً - فهو ما تجده في العظم. فكأنه عليه السلام دلّ بهذا القول على أن الدعاء
خالصة العبادة ولبّها. لأنّ العبادة وإن طالت متى خلت من الدعاء لم يكن لها دعامةٌ
تثبت عليها، ولا عمادةٌ ترجع إليها، وذاك أن الدّعاء يستخلص القلب ويبعث على
المذلّة، ويستخرج سرّ النفس، ويبيّن ذلّ العبد إذا سأل من عزّ الرب إذا سئل. وقد
ندب الله عزّ وجلّ إلى الدعاء بقوله " ادعوني أستجب لكم " .
وسمعت ابن البقال الشاعر - وكان على مذهب ابن الراوندي -
يقول: ادعوني أستجب لكم فندعوه فلا يستجيب لنا، وإن تكلّمنا سخّفنا؛ فقال له بعض
أصحابنا: إنّ هذا الوعد من الله عزّ وجلّ في الاستجابة مشروطٌ بالمشيئة، يصحّ ذلك
إذا قرأت قوله " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " وهذا كما قال: " وانكحوا
الأيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله
والله واسعٌ عليمٌ " ، فقد يقال: قد نرى من ينكح ويتزوج ثم لا يغنيهم الله؛
وهذا الاعتراض يبطل أيضاً لأنّ الإغناء لا يتعلّق بالعرض والأثاث والخرثيّ والنّعم
والخيل؛ قد يحوي هذا كلّه من يحكم عليه بالفقر - أعني فقر النفس - وقد يعرى من هذا
كلّه من تجده طيّب النّفس ريّح القلب واثقاً بالله عزّ وجلّ، ولهذا قال صلّى الله
عليه وآله: ليس الغنى من كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس. نعم، على أنّ الإغناء
قد يقع من الله عزّ وجلّ، ولكنّ العبد لا يستغني به، فإذا اعتبرت الإنسان بعد
الإغناء، وضممت كلاًّ إلى نظيره على ما يوجبه النظر الصحيح، علمت أنّ الذي قاله
الله حقّ، وأن الذي هذى به الطاعن باطل؛ قال الشاعر: وغنى النفس ما ينبغي لك أن
تحفظه في هذا الموضع: السريع
قالت أما ترحل تبغي الغنى ... قلت فمن للطارق المعتم
قالت فهل عندك شيءٌ له ... قلت نعم جهد الفتى المعدم
فكم وحقّ الله من ليلةٍ ... قد طعم الضّيف ولم أطعم
إنّ الغنى للنفس يا هذه ... ليس الغنى في الثوب والدّرهم
وقال آخر في نظيره: السريع
لا تكثري لومي على أنّني ... صاحب إملاقٍ وإقلال
في قوت يومي سعةٌ للذي ... يأكله الضّيف على حال
ما ضرّ ضيفي أنّني معدمٌ ... وأنه في أنعم البال
إن الغنى في النفس يا هذه ... ليس الغنى في كثرة المال
والصوفية تزعم أن الفقر في الجملة أفضل من الغنى في
الجملة؛ والكلام فيه سيمرّ في عرض ما نفرده لهم، ونرويه عنهم، ونقوله مضافاً إلى
ما يطرّد على طرائقهم من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
وقال عليه السلام: " خير الهدي هدي محمد، وشرّ
الأمور محدثاتها " .
وقال عليه السلام: " داووا مرضاكم بالصّدقة، وردّوا
نائبة البلاء بالدعاء " .
وقال عليه السلام: " أشراف أمّتي حملة القرآن
وأصحاب الليل " .
وقال عليه السلام: " الشتاء ربيع المؤمن، يقصر
نهاره فيصوم ويطول ليله فيقوم
" .
وقال عليه السلام عن الله عزّ وجلّ: " أنا عند حسن
ظنّ عبدي بي فليظنّ بي ما شاء؛ حسن الظّنّ من العبادة " .
وقال عليه السلام: " صل من قطعك، وأعط من حرمك،
واعف عمّن ظلمك " .
وقال صلّى الله عليه وآله: رحم الله امرءاً أصلح من
لسانه " .
وقال عليه السلام: " التوبة من الذّنب أّلا تعود
فيه " .
وقال عليه السلام: " كفى بالمرء فتنةً ان يشار إليه
بالأصابع " .
وقال: " حبّبوا الله إلى الناس يحببكم " .
وقال: " الأنبياء قادة والفقهاء سادة " .
وقال عليه السلام: " عش ما شئت فإنّك ميت، واجمع ما
شئت فإنك تارك، ودع ما شئت فإنك مستريح، وقدّم ما شئت فإنك واجد " .
وقال عليه السلام: " لله ما أعطى وما أخذ " .
وقال عليه السلام: " من يزرع سيّئاً يحصد ندامة " .
وقال عليه السلام: " الخلق الحسن يذهب الخطايا " .
وقال عليه السلام: " البلاء موكّل بالمنطق " .
وقال عليه السلام: " نعم صومعة الرجل بيته " .
وقال عليه السلام: " ما استودع الله عبداً عقلاً
إّلا استنقذه به يوماً ما
" .
وقال عليه السلام: " إياك والمدح فإنّه الذّبح " .
وقال عليه السلام: " الأنساب علمٌ لا نيفع وجهلٌ لا
يضرّ " .
وقال عليه السلام: " عملٌ قليلٌ مع علمٍ خيرٌ من
كثيرٍ مع جهل " .
وقال عليه السلام: " من سعادة ابن آدم رضاه بما قسم
الله عزّ وجلّ له " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " أمرنا أن نكلّم الناس
على قدر عقولهم " .
وقال: " اللهمّ أعط كلّ منفقٍ خلفاً؛ اللهم أعط كلّ
ممسكٍ تلفاً " .
وقال عليه السلام: " أكثروا ذكر هادم اللذّات " .
وقال عليه السلام: " صوموا تصحّوا وسافروا تغنموا
" ؛ سمعت بعض الصوفيّة المشهورين يقول: باطن هذا الكلام: أي صوموا عن الفحشاء
تصحّوا بالطاعة، وسافروا إلى الله تعالى بالهمم الجامعة تغنموا رضاه عنكم ونظره
إليكم، فإنّ ذلك أعلى من الجنة وأشرف من الخلد، بل كلّ ذلك تابعٌ لرضاه عنك ونظره
إليك وقبوله إياك. وهذا الباطن لا يدفع ذلك الظاهر، وما دام القوم على هذا المنهج
فهم أسعد قوم، وهم أسعد من قومٍ ادّعوا الباطن فنحلوا الباطل، وهم طائفةٌ من
الشّيعة لهم دعوى لا برهان معها، وتمثيلاتٌ لا منفعة فيها، وقد مقتهم أصناف الناس
لقبح ما أتوا به من الإلباس.
وقال عليه السلام: " من خزن لسانه رفع الله تعالى
قدره وشأنه " .
وقال صلّى الله عليه وآله: " الجماعة رحمةٌ والفرقة
عذاب " .
وقال عليه السلام: " مقصّرٌ سخيٌّ أحبّ إلى الله
عزّ وجلّ من مجتهدٍ بخيل "
.
وقال عليه السلام: " أشقى الأشقياء من اجتمع عليه
فقر الدنيا وعذاب الآخرة " .
وقال عليه السلام: " من لم يشكر القليل لم يشكر
الكثير " .
وقال عليه السلام:اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه
فإنه يداك واعد في الموتى وقال عليه السلام: " الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذا
أدبرت أسفرت " .
وقال عليه السلام: " السلطان ظلّ الله في أرضه " .
وقال عليه السلام: " كتب الله المصيبة والأجل، وقسم
المعيشة والعمل " .
وقال عليه السلام: " أحسنوا جوار نعم الله عزّ وجلّ " .
وقال:
" أصفر البيوت جوفٌ صفرٌ من كتاب الله تعالى "
؛ الصّفر - بكسر الصاد - الخالي، والصّفر - بالضم - معروف، والعامة تلحن، هكذا قاله أبو
حاتم، وكان عالماً متقناً. والصفير من الفم والصفّار: الذي يصفر؛ ويقال لبائع
الصّفر أيضاً صفّار، ويقال أيضاً في المثل: صفر وطبه كأنه كناية عن قولهم: ما بقي عنده
شيء. وفي المثل أيضاً: والله ما كفأت له إناءً ولا أصفرت له فناء. فأما صفّرته كما
تقول حمّرته فكلامٌ شائع؛ ويقال في المثل: هذا لا يلتاط بصفري، كأنه عبارة عن
قولهم: هذا لا تهواه نفسي ولا يلصق بفؤادي، والمصفور: المستسقي، والمصفور: من جوفه غليظٌ.
وقال عليه السلام: " لا تحقرنّ من المعروف شيئاً " .
وقال عليه السلام: " أفلح من رزق لبّاً " .
وقال: " لو دخل العسر جحراً لدخل اليسر وراءه حتى
يخرجه " .
وقال: " هدّية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم " .
وقال عليه السلام: الموت تحفة المؤمن " .
وقال: " في المعاريض مندوحةٌ عن الكذب " وقال:
" طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ
" .
وقال عليه السلام: " البرّ ما اطمأنّ له القلب
والإثم ما حكّ في النفس " ؛ وقد يسمع من أصحاب الحديث من يقول ما حاك -
بالألف - ؛ قال أبو حاتم: وذلك باطل؛ إنما يقع حاك في مشيته إذا تقلّع وحرّك
كتفيه، فأما هذا فهو حكّ كأنه ضدّ الطمأنينة، أي الإثم ما صحبه قلقٌ واضطراب.
وقال: " تجافوا لذوي الهيئات عن زلاّتهم " ،
ويروى أيضاً: لذوي الهبات؛ فكأنه جاز هذا فيهم لأنّ ذوي الهبة هم أصحاب الزي
والمروءة، وزلاّتهم لا تكون ديدناً لهم، إنما يعتريهم الذّنب الفينة بعد الفينة،
أي زماناً بعد زمان، ليس المنكر من شأنهم ولا القبيح من أخلاقهم، وإنما يلحقهم ما
يلحقهم للبشرية، ولهم أحسن رجعةٍ وأفضل إقلاع وأجمل إنابة؛ فأمر صلّى الله عليه أن
يتجافى لهم عن زلاّتهم لحالهم النائبة عن حال غيرهم.
وقال عليه السلام: " مطل الغنيّ ظلم " ، ويروى
أيضاً هذا المعنى بلفظ آخر، يقال: قال عليه السلام: ليّ الواجد ظلم؛ واللّيّ: المطل لأنه
مصدر لوى يلوي ليّاً ولياناً؛ والواجد: الغني، وهو الذي له وجدٌ أي غنىّ أي ما
يجده، وله جدةٌ أيضاً، وهو ذاك بعينه، فأمّا الوجدان فمقصورٌ على وجد يجد وجداناً،
وهو نقيض العدم؛ والوجود من ألفاظ المتكلّمين شنيعٌ قد أباه العلماء.
وقال عليه السلام: " المؤمنون عند شروطهم. هذا خبرٌ
يتضمن حثًّا على الثّبات على الشرط والوفاء بالعهد " .
وقال عليه السلام: " إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ إغاثة
اللهفان " .
وقال عليه السلام: " الولد لفراش وللعاهر الحجر
" ؛ قال القاضي أبو حامد: أراد صلّى الله عليه وآله لحوق الولد بظاهر الفراش،
وإن جاز أن لا يكون مخلقاً من مائه، وجعل الخيبة للعاهر وهو الزاني. وتقول: عهر
بها يعهر عهارة وعهورة، فأما المساعاة فهي أيضاً كنايةٌ عن الزّنا ولكنها مقصورةٌ
على الإماء. ومن مدّ الزّناء عنى به الفعال الذي يتمّ بفاعلين كالخصام والطّعان،
ومن قصر أراد الاسم؛ وقد قيل مثل هذا في الرّضا، والقصر الوجه؛ فأما السّرى فقد
استوى فيه الوجهان وهما المدّ والقصر. وكان بعض العلماء يقول: وللعاهر الحجر
إشارةٌ إلى الرّجم، وخولف في ذلك.
وقال عليه السلام: " والولاء لمن أعتق " ؛
الواو مفتوحة فإذا كسرت انقلب المعنى. وذلك أن الولاء إنما هو ترتيب الشيء على
خطٍّ واحد؛ تقول: واليت بين كذا وكذا موالاةً وولاءً، وفلانٌ يقرأ على الولاء؛
والولاء أيضاً الموالاة والنصرة والمودّة، ومنه في دعاء الوتر: إنه لا يذلّ من
واليت ولا يعزّ من عاديت، والأصل من ولي الشيء يلي كأنه لصق به وقرب منه. والولاية
- بفتح الواو - يقال: هي النّصرة، والولاية - بكسر الواو - يقال: هي المودّة،
والنصرة والمودة يتقاربان لأنّ إحداهما شريكة الأخرى وقسمتها ودالّةٌ عليها
ومشيرةٌ إليها، لا تتم إّلا بها، إّلا أنّي حكيت ما وعيت.
وقال عليه السلام: " من ذبّ عن عرض أخيه كان ذلك له
حجاباً من النار " ؛ أي من ردّ غيبة أخيه، والغيبة حالٌ تعرض للغائب على
قبحٍ، والغيبة مصدر غاب يغيب غياباً وغيوباً وغيبةً ومغيباً وغيباً، والغيابة ما
يغاب فيه، وفي التنزيل: " غيابة الجب " ، والجب قليت كالبئر. فأما ذب يذبّ ذبًّا، وفلان حسن الذّبّ عن
حرمه، فإنّ أصله من الذّباب، وذلك إنّه طنّ على سمعك أو لهج بطيرانه في وجهك طردته
بيدك، ونفضت عليه طرف كمّك، فسمّي هذا الفعل ذبًّا، ثم أسبغ المعنى فيما وسعه
للطافة اللفظ ووضوح الغرض.
وهذا النظر أصلٌ كبير من أصول الكلام، لأنك إذا جددت في
الفحص عن دفائن هذا الباب انثال عليك من الشاهد والمثل والدّليل والعلل ما يقوّي
في نفسك حكم الاشتقاق وتتبّع المعاني. ألا ترى أنك إذا استوضحت جليّة المعاني في
قولهم: يغير والغَيرة والغِيرة والغارة وغار الماء وأغار الجبل والغوار والمغاورة،
وغار وأنجد، وتغايرت الضّرائر، وغيّره طول العهد - وجدتها مشتقّةً من قولك: هذا
غير هذا؟! فتأمّل ذلك ببصيرتك فقد فتحت لك بابها، ورفعت سجفها، وذلّلت الطريق
إليها، وإنّ الاشتقاق مضطرٌّ إلى المصير إليه والعمل عليه ولو كره ذلك.
850ب - وكان نفطويه ممن يأبى الاشتقاق، ويزعم أن الأسماء
كانت توافت متشابهةً في الصّورة والصّيغة وإّلا فلا اشتقاق، لأنك متى أسّست
الاشتقاق في أسماء أساساً لم تنته منه إلى حدّ، وذلك أنك تدّعي أن هذا الاسم شقّ
من هذا الاسم، وهذا اللفظ أطلق لهذا المعنى، فيلزمك أن تمرّ أبداً على ذلك، لأنّ الثاني
ليس بأولى بأن يكون مأخوذاً من الثالث من الأول من الثاني، ولا الثالث أولى بأن
يكون مأخوذاً من الرابع من الثاني من الثالث؛ هكذا حكاه لنا أبو القاسم التّميمي
اللغوي، وكان قدم بغداد مع عضد الدّولة سنة أربعٍ وستين وثلاثمائة، وشاهدته، وكان
جيّد الكلام فسيح العارضة، وكان يقرف بالكذب مع هذا كلّه، والكذب شينٌ، وحسبك
خساسةً بخلةٍ ماحقةٍ لكلّ خلّةٍ حسنة، أعاذنا الله تعالى منه ولا اضطرنا إليه.
850 - وكان ركن الدّولة يقول: منافع الكذب في وزن منافع
الصّدق، ولو ارتفع جملةً لبطل الانتفاع كله بالدّين والدنيا؛ هذا قاله بالفارسية،
ولكن حكاه لي ابن مكرّم الكاتب، وكان خصّيصاً به أثيراً عنده. فأما أبو عبد الله
المحتسب بفارس، وكان يعرف بجراب الكذب، فإني سمعته يقول: إن منعت من الكذب انشقّت
مرارتي، وإني لأجد به مع ما يلحقني من عاره ما لا أجد من الصّدق مع ما ينالني من نفعه؛
وهذا غاية الشّقاء ونهاية الخذلان، ولا حول ولا قوة إّلا بالله العليّ العظيم.
نعم: فأما صاحب المنطق فإنه جعل الاشتقاق فنًّا من
الفنون في الكلام، وقد بيّنه في كتابه في المقولات.
هذا -
أيدك الله - آخر الجزء السابع، وقد اشتمل على ما يخطب لي
ودّك الشارد، ويعيد إليّ قلبك النافر، ويبلّغني منك في نفسك ما أتمنى لها من خيرٍ
تكون أنجحنا به، وفضلٍ تصير أوحدنا فيه. فتصفّح الآن أوراقه، وامتط النشاط، فتجد نمطاً
نمطاً وفناً فناً، يأسرك ويحيّرك كله، وانتظر الثامن، فقد ارتفع جلّه. واعلم واحدة
ثم اصنع ما شئت: لن تنتفع بالعلم ما طلبته بشمخ أنف، وصعر خدٍّ، وعزّة نفس، لا
والله حتى تضع في التماسه رداء الكبر عن عاتقك، وتستنفد فيه غاية جهدك، فلعلّ الله
يزكّيك ويشرّفك في الدّين والدنيا،إنه على كلّ شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ بصير. وصلّى
الله على نبيّه محمد وآله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
بسم الله الرحمن الرحيمربّ أعن برحمتك
الجزء الثامناللهمّ لك أذلّ، وبك أعز، وإليك أشتاق، ومنك
أفرق، وتوحيدك أعتقد، وعليك أعتمد، ورضاك أبتغي، وسخطك أخاف، ونقمتك أستشعر،
ومزيدك أمتري، وعفوك أرجو، وفيك أتحيّر ومعك أطمئنّ، وإياك أعبد، إيّاك أستعين، لا
رغبة إّلا ما نيط بك، ولا عمل إّلا ما زكّي لوجهك، ولا طاعة إّلا ما قابله ثوابك،
ولا سالم إّلا ما أحاط به لطفك، ولا هالك إّلا من قعد عنه توفيقك، ولا مغبوط إّلا
من سبقت له الحسنى منك.
إلهي، من عرفك قاربك، ومن نكرك حرم نصيبه منك، ومن أثبتك
سكن معك، ومن نفاك قلق إليك، ومن عبدك أخلص لك، ومن أحبّك غار عليك، ومن عظّمك ذهل
فؤاده عند جلالك، ومن وثق بك ألقى مقاليده إليك.
إلهي، ظهرت بالقدرة فوجب الاعتراف بك، وبطنت بالحكمة
فوجب التّسليم لك، وبدأت بالإحسان فسارت الآمال إليك، وكنت أهلاً للتّمام فوقفت
الأطماع عليك، وبحثت العقول عنك فنكصت على أعقابها بالحيرة فيك، وذلك أنّ سرّكلا
يرام حوزه، وشأنك لا يحول كنهه، وفعلك لا يجحد تأثيره؛ لك الأمارة والعلامة، وبك السّلامة
والاستقامة، وإليك الشوق والحنين، وفيك الشّكّ واليقين.
هذا الجزء - أبقاك الله - هو الجزء الثامن من كتاب
البصائر، بصائر أهل العلم والأدب، والحكمة والتجربة، نسأل الله تعالى تمام الكتاب،
فإنّه قد حوى معاني سابقةً إلى النفوس بالقبول، وأغراضاً جاريةً مع الفهم،
وأسراراً خفيّةً في العلم، فارغب فيه رغبة عاشق، ولا تسل عنه سلوة قالٍ، ولا يزهدّنّك
فيه مللٌ عارض، وسخفٌ متوسط، فإنّ العاقبة فيهما غير ما لاح لك منهما، واعلم أنّك
مداوىً بهما وبغيرهما، واختلاطك ينتفع بكل ما تسمع وتعي، ومزاجك يعتدل بكلّ ما ترى
وتروي، ولو كنت صرفاً لعشت بالصّرف، ولو كنت صفواً لكمل أمرك بالصّفاء، ولكنّك
مؤلفٌ من نقص وكمال، ومقرونٌ بعجزٍ وقوة، ومقلّبٌ بين العطب والسّلامة، ومحمولٌ
على النّزاع والسآمة، ولكلٍّ منك نصيب، ولك في كلّ منه حظّ، وأنت في هذه النقيبة
مرشّحٌ لطهارةٍ لا نجاسة معها، ومسوقٌ إلى غايةٍ لا آفة فيها، فانتبه للخافية التي
فيك، والحظ المعنى الذي يوفيك تارةً ثم يستوفيك، واعجب من فناءٍ يثمر البقاء، ومن
كدرٍ يورث الصّفاء، ومن كدٍّ ينقطع إلى راحة؛ وتعبٍ ينتهي إلى استراحة، ومن إبهامٍ
يؤدّي إلى إيضاح، ومن ضرورةٍ تتعلّق باختيار، ومن حاجةٍ تتصل بغنىً، ومن رقٍّ يشرف
على حرّية، ومن سخطٍ يرقيك إلى رضىً، فليس للتعجّب موقعٌ أحسن من هذا الاعتبار.
وعذ بالله تعالى عند خوفك، وثق به عند أمنك، وانتسب إليه انتساب من كان به، وبقي
بإبقائه، ووجد بإنشائه، وعرف بتعريفه، ووقف بتوقيفه، ولزم حدود أمره، وانتهى إلى
معالمه، وراقبه في سرّه وجهره. واعلم أنّك منقولٌ عن قليل إلى حالٍ لا تشهد فيها
إّلا ما قدّمت من إحسانك وإساءتك.
أما ترى - أيّدك الله - كيف أتخلّص من حديثٍ إلى حديث، وأركّب
معنىً على معنىً، عجزاً عن إتمام ما أبدأ به، وقلقاً إلى ما لا أصل إليه؛ وليتني
لم أناد بنقصي في هذا الكتاب بين النّاس، فقد والله تمرّست بأمرٍ قصاراي فيه أن
أجبه بالتّعنيف، وأواجه باللائمة، وإن جلفت بالقذع وذكرت بالشّنآن، ومن لي بحاكمٍ
منصف، وصديقٍ ملطف، وعدوًّ مبقٍ، وصاحبٍ مشفق، بل من لي بمداهنٍ لا يكاشفني،
ومنافقٍ لا يوافقني، وجارٍ لا يرتصد عثرتي، ورفيقٍ لا يجهل عليّ، بل من لي بشامتٍ
يرحم، وظالمٍ يتندّم، وهل مكلّمك وسامعك إّلا من إن بعد رجم، وإن دنا نحض، وإن
تمكّن استأصل، وإن عاقب أسرف، وإن ملك أباد، وإن قدر انتقم، وإن انتقم أتى على
الدّقّ والجلّ، وذهب بالحرث والنسل، ولكن أضرّ بي ما أرى من فساد الزمان، واضطراب
الوقت، وانتكاث مرائر الدّين، وتصوّح رياض الدّنيا، ودروس أعلام التوحيد، وانقراض أهل
العلم، وتحاسد أبناء الفضل، وتنابذ ذوي الآداب، وتداعي رباع الجميل، وتأوّد أغصان
الخير، وتهادر شقائق الشّيطان، وتخاذل أهل التحّرج.
فوالله ما شين وجه التّقى، ولا استحال بال المؤمن، ولا
أخرس لسان الورع، ولا قصر زند المجاهد، ولا قسا قلب الراحم، ولا جفّت أقلام كفّ
الباذل، ولا عرق جبين السائل، ولا خابت حقيقة المستبصر حتى خلت عراص الشريعة من
قوّامها، وآذنت الدّنيا أهلها بالسّيف، وخاض أهل العلم في الباطل، واستعين في
الحكمة بالسّفه، وتوصّل بالطاعة إلى المعصية، وسلك بالأمانة طريق الخيانة، واغتّر بالدّنيا
المشبّهة بالماء الملح، والبرق الّلامع، والسّحاب الخائل، والظل الزّائل، وأحلام
النائم، والعسل المدوف بالسّم.
واعلم أن الله تعالى جعل للمؤمن نورين: أحدهما ظاهر،
والآخر باطن، فظاهره آلةٌ لباطنه، وباطنه عدّةٌ لآخرته ومعاده. فمن أفاعيل الظاهر
طلب معاشه، واستصلاح أموره، ودفع المضارّ عن بدنه، والتحفّظ من الموارد المخوفة في
عاجلته؛ ومن أفاعيل الباطن طهارة قلبه، وإخلاص نيّته لربّه، وتوهّم ما وعده على
طاعته من ثوابه، واختيار العفو في الانتقام، والأناة على الإقدام، ونفي الأحقاد، وإطفاء
نار الجسد، وإيثار الصّدق وإن ظنّه لا ينجيه من عدوّه، والوفاء لمن وثق به،
والحياء من كشف أحدٍ عن ذنبه، وخلع طاعة الشّهوات، وقمع حومة الشّهوة، واستشعار
القناعة، ورفض معاشرة الحرص، وإجلال العلماء، وتفضيل العلم، وأخذ النّفس بوظائف
الكرم وفرائض الذّمام؛ وهذا النّور الرّوحانيّ على حسب ما يعطي الإنسان منه يكون
مرغبه في العمل الصالح، وحبّه للسلامة من الأدناس، وتمسّكه بمحاسن الخصال.
وإذا استحكم علم الإنسان، ودقّت رويّته، كان جلّ سعيه
فيما يحرز به نصيبه من الكدّ الذي لا نهاية له، ويبلغ ما يقيم بدنه وإن قلّ قدره،
لعلمه بزوال اللذّات، وتصرّم الشهوات، وأنّه وإن رخص في المواتاة لم تكن لذلك
نهاية، لا يملّ ما يطرف به، ويستطرف ما في يد غيره، وهذا ينفد الأوقات، ويستغرق
الأعمار، ولذلك وجب على ذي اللّبّ والمعرفة رفض الدّنيا، والأخذ منها بالبلغة،
والانشغال بجميعه في إحراز حظّه الذي يستريح بالوصول إليه من الألم، ووجب عليه
الصبر على مكابدة النّوائب النازلة، والفجائع الواردة، إذ علم أنّ لها انقطاعاً لا
محالة، وأنّ الدولة تسلبها، والأيام تزيلها وتغيّبها، فإذا صحّح هذا عنده اليقين استخفّ
المكاره، واستحقر بعزائه المصائب، ولم يعرّج من الدنيا إّلا على بلغة، ثم يكون
كالغريب المحتبس عن أهله ووطنه، الأسير في يدّ عدوّه، لا يتهنّأ بشيء من عيشه، ولا
يستريح إّلا إلى الحيل في التخلّص ممّا حلّ به من الذّل والأسر.
ليس هذا الفصل من كلامي، ومن لي بهذه الديباجة الخسروانيّة،
وبهذه الحكمة الرّوحانية! قدري مخفضّ عن هذا وما ضارعه، لكنّي وجدته منسوباً إلى
الحسن بن سهل، ولعله أخو ذي الرياستين، فرسمته في هذا الكتاب حتى كأنّي ناهبت
ونافست، وادّعيت الكمال وأشرت إلى العصمة.
وأرجو أن يكون اختلاف كلامهم في معاتبتي صادراً عن صدورٍ
نقيّة، فقد والله أتعبوني، وأكلوني وشربوني، فمن قائلٍ: ما أحسن هذا الكتاب لولا
ما حواه من السّخف والقاذورة، وذكر الهنات وألفاظ السّفلة؛ وقال آخر: كلّ ما فيه
حسنٌ لو خلا من اللغة والنحو، فليس هذا الموضع الجدّ لا يمتزج بالهزل، والعلم لا يختلط
بالجهل، والحكمة لا تنزل في جوار السّفه، والرّشد لا يتّصل بالغيّ؛ ومن قائلٍ:
جميع ما فيه أحسن من كلامك؛ ومن قائلٍ: ما مزيّة هذا الكتاب على جميع ما تقدّم من
الكتب، وهل فيه فنٌّ إّلا وهو متقضىً في معدنه، مأخوذٌ من أهله على أحسنه، وهل
ينتدب إنسانٌ لجمع كلامٍ وتأليف كتابٍ - مع هذا الاحتفال - إّلا وهو يحبّ الزّيادة
على النّقص، ويودّ رفع جهلٍ قد ثبت، ويقصد رقع واهيةٍ قد تركت - وكلامٌ كثير قد
أهملت روايته على وجهه، وبرمت باعتقاده فضلاً عن إثباته، وجميع ما قيل موهوبٌ لهم
رعايةً لآدابهم، ومحافظةً على ذمام الحكمة بيني وبينهم، ومسائلتهم قبول الاعتذار
إليهم. ولما احتجت إلى هذا السّلم - علماً بأن حجّتي داحضةٌ، وبرهاني مدخولٌ، وبياني
قصيرٌ - ثقةً بأنّ الزمان يديل، والفلك دوّار، وأنّ اللائمة ستشمت، والاستقصاء
سيفرّق، والظلم سيصرع، والإساءة ستندّم.
أنشدني بندار بن غانم الحلواني الكاتب لنفسه في حالٍ
التاثت بينه وبين منافسٍ له في الرّتبة، حاسدٍ له على النعمة يقال له عمرو:
المنسرح
يختار عمروٌ عداوتي سفهاً ... وأبتغي سلمه ويمتنع
كله إلى بغيه سيصرعه ... فالدهر بيني وبينه جذع
على أنّي ما أخليت هذا الكتاب - مع التقصير - من حجّةٍ
إن سمعت أشرق وجهي، وأضاء بصري، وتقوّم منآدي، ونمى قدري، ومن عذر إن تفضّل بقبوله
حسنت حالي، واطمأنّ بالي، وسقط ما علّي، وثبت ما لي، ولكنّ الإنصاف معدومٌ في
الوهم والحلم، فكيف يلتمس في التحقيق واليقظة؟ وإذا علم الله صلاح النيّة وشرف العزيمة
فكلّ ما عداه جلل.
قال أحمد بن الطّيّب، في كتاب وضعه، قولاً متى سقته
هاهنا كان لي عذراً عن الخصم إن آثر البقيا، ولم ينتهز الفرصة في العداوة، وأحبّ
لي السّلامة بعد العثرة، كما تمنّى لنفسه الاستمرار بعد التوفيق؛ قال: واعلم أنّ
قوماً سيقولون: من واضع هذا الكتاب؟ فإن قيل: أحمد بن الطّيّب قالوا: ومن أحمد بن
الطّيّب؟ فإن قيل لهم: السّرخسيّ مولى أمير المؤمنين، قالوا: ومن السّرخسيّ مولى
أمير المؤمنين؟ فتكون مسألة السائل كأنّها بحالها، وقد استفرغ المجيب جهده. وأحمد
بن الطّيّب لا يحبّ أن يخطّي به أحدٌ اسمه واسم أبيه وولاءه والبلد الذي فيه مولده
ومولد أبيه، ثم بعد ذلك قيمته ومقداره من العلم، بعد أن يكون المقوّم منصفاً غير
جائر، وسليم الطبع غير حسود، فإنّ عليًّا رضي الله عنه يقول: قيمة كلّ امرئٍ ما
يحسن؛ وقال: قال أصحابنا: لم نر كلمةً أحصّ على طلب العلم من هذه الكلمة، فمن نظر في
كتابنا هذا نظراً ظاهراً أمتعه ولذّه وألهاه وسرّه، وصار له جليساً فصيحاً،
ومحدّثاً بيّناً، وأنيساً مخلصاً، يحفظ سرّه، ويأمن غيبه، ويسقط باب التحفّظ عنه.
قيل لعمر بن عبد العزيز: ما بقي من لذّتك؟ قال: محادثة
جليس.
وقال عليّ رضي الله عنه: شرّ الإخوان من تكلّف له.
شاعر: المجتث
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إّلا من الإخوان
قال سهل بن هارون: ما زلت أدخل فيما يرغب بي عنه حتى
استغنيت عمّا يرغب لي فيه.
قال الأحنف بن قيس: الحديث شجون، والشّجون: الرّواضع
التي تأخذ من معظم النهر، فشبّه تلك الرّواضع من نهر ماءٍ بعوارض الحديث إذا افتن.
قال: إذا طال القول حتى يبعد أوّله من آخره، فقد وجد
السامع عذراً في التّقصير عن فهمه، وإذا كان العتب بين السامع والقائل، وصحّ العذر
للسامع في عدم العذر والفهم رجع العتب إلى القائل.
قال: وقيل لبعض اليونانيين - هكذا رأيت بخطّ ابن السيرافي
بفتح الياء - : لم تسمع أكثر مما تتكلّم؟ فقال: إنّما خلق الله تعالى لي لساناً
واحداً وأذنين ليكون كلامي أقلّ من استماعي.
ويقال: الأحمق إذا حدّث ذهل، وإذا تكلّم عجل، وإذا حمل
على القبيح فعل.
قال: وقال عمرو بن هشام: تحدّثنا عند الأوزاعي ومعنا أعرابيٌّ من
بني عليم لا يتكلّم فقلنا: بحقّ ما سمّيتم خرس العرب ألا تتحدث مع القوم؟ فقال:
إنّ الحظّ للمرء في إذنه، وإنّ الحظّ في لسانه لغير، وقد ذكرنا ذلك للأوزاعي فقال:
وأبيه لقد حدّثكم فأحسن.
وقيل للفرزدق: ما صيّرك إلى القصار بعد الطّوال؟ قال:
لأنّي رأيتها في الصّدور أولج، وفي المجافل أبلج.
وقالت مليكة بنت الحطيئة بأبيها: ما بال قصارك أكثر من
طوالك؟ قال: لأنّها في الآذان أمضى، وبأفواه الرّواة أعلق.
قيل لسراقة البارقي: لم تترك الإطالة في محافل الخطابة؟
فقال: إذا أحطت معناك، وأصبت مغزاك، كان الفضل تكلّفاً.
وقال أبو سفيان بن حرب لعبد الله بن الزّبعرى: لو أسهبت!
قال: حسبك من الشرّ غرّةٌ لائحة، أو سمةٌ فاضحة.
وذكر خالد بن صفوان رجلاً فقال: قاتله الله، أما والله
إنّ قوافيه لقلائد، وإنّ ألفاظه لعلائق.
قال أحمد بن الطّيّب: ونحن نعلم أنّ الشعراء يقولون
دائماً، والخطباء يخطبون أبداً، والناس يتمثّلون كثيراً، والقول كثير، وفي كلّ
وقتٍ خبرٌ طائر، وسنّةٌ محدثة، وسياسةٌ جديدة، وآراء مختلفة، وأهواء مبتدعة، ومحنٌ
من الله كما يريد، لا يمنع منها، ولا يسأل عنها، فليس لمذهبنا هذا في كتابنا رباطٌ
يربط به، ولا نهاية يوقف عندها.
هذا آخر كلام أحمد، ولنا به أسوة، ومن جملة ما قاله عذر.
وتعود إلى العادة في نشر البصائر غير مكترثين لما يقال،
ولا عابثين بما يتكلّف، فإنّ من أعار الناس أذنه حشوها شرًّا، وأوسعوه غيظاً، ولم
يصغوا له إّلا بعار الأبد، وخسران الدّهر، وفوت الدّنيا، وذهاب الدّين. نسأل الله
ربّ السّماء والأرض، وخالق الماء والهواء، أن يكلف ويوكل بك عيناً حانية، ويداً ناصرة،
إنه وليّ الإجابة.
1 - قال قيس بن عاصم: وفدت إلى رسول الله صلّى الله عليه
وعلى آله، فقلت: عظنا يا رسول الله عظةٍ ننتفع بها، فإنّا قومٌ نعيش في البادية،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " يا قيس، إنّ مع العزّ ذلاًّ،
وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيءٍ حساباً، وإنّ على كلّ
شيءٍ رقيباً، وإنّ لكلّ حسنةٍ ثواباً، وإنّ لكلّ سيّئةٍ عقاباً، وإنّ لكلّ أجلٍ
كتاباً، وإنّه لا بدّ لك يا قيس من قرينٍ يدفن معك، هو حيٌّ وأنت ميّت، فإن كان
كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إّلا معك، ولا تبعث إّلا معه، ولا
تسأل إّلا عنه، فلا تجعله إّلا صالحاً، فإنّه إن صلح أنست به، وإن فسد لم تستوحش
إّلا منه، هو عملك " .
2 - قال أعرابيّ: زكاة اللسان تعليم البيان.
3 - قال لي بعض الفقهاء: ما أشبّه الدّنيا وخداعها إّلا
بقحبةٍ حسناء تغازلك وتشير إليك وترغب فيك، حتى إذا أجبتها ودنوت منها صاحت
بالوالي، وصرخت بالناس، وأسلمتك إلى الفضية، وزوّدتك الندم وعضّ الأنامل من الغيظ.
4 - كاتب: فلا زلت مشمولاً بالنّعم، مغموراً بالكرم، حتى
يكون كلّ يومٍ من أيامك موفياً في الفضل على أمسه، مقصّراً عن فضيلة غده، ووصل
الله تعالى لك إلهام الصبر على ما زرئته، بإيزاع الشكر على ما منحته، لينجز لك
بالأوّل موعوده، ويوجب لك بالثاني مزيده.
5 - قال أعرابيّ: روّحوا الأذهان كما تروّحوا الأبدان.
6 - قيل لعقيل بن علّفة: لم تهجو قومك؟ قال: إن الغنم
إذا لم يصفّر بها لم تشرب.
7 - لمّا أخذ عبد الحميد بن ربعي وأتي به المنصور ومثل
بين يديه قال: لا عذر لي فأعتذر، وقد أحاط بي الذّنب، وأنت أولى بما ترى، قال
المنصور: إنّي لست أقتل أحداً من آل قحطبة، أهب مسيئهم لمحسنهم، قال: إن لم يكن
فيّ مصطنعٌ فلا حاجة بي إلى الحياة، ولست أرضى أن أكون طليق شفيعٍ وعتيق ابن عمّ،
قال: اخرج
فإنّك جاهل، أنت عتيقهم ما حييت.
8 - عدا كلبٌ خلف غزالٍ فقال له الغزال: إنك لا تلحقني،
قال: لم؟ قال: لأني أعدو لنفسي، وأنت تعدو لصاحبك.
9 - قال فيلسوف: أحيوا قلوب إخوانكم ببصائر نيّاتكم كما تحيون
موات البلد بنوامي البذر، فإنّ نفساً تنقذ من الشّبهات أفضل من أرضٍ تصلح للنّبات.
قال بعض البلغاء: فضل العلم المسموع على المال المجموع
كفضل النّصل الصنع على الغمد الوضيع.
قال أعرابيّ: من كان مولى نعمتك فكن عبد شكره.
قال الحكيم بن عيّاش الكلبي: الطويل
صلبنا لكم زيداّ على جذع نخلةٍ ... ولم أر مهديًّا على
الجذع يصلب
وقستم بعثمانٍ عليًّا سفاهةً ... وعثمان خيرٌ من عليٍّ
وأطيب
بلغ قوله جعفراً الصادق، رضي الله عنه، فرفع يديه إلى
السماء وهما ترعشان فقال: اللهمّ إن كان عبدك كاذباً فسلّط عليه كلبك. فبعثه بنو
أميّة إلى الكوفة، فبينما هو يدور في سككها إذ افترسه الأسد، واتصل خبره بجعفرٍ
فخرّ لله ساجداً وقال: الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا.
قال أعرابيّ: جليس الملوك ينبغي أن يكون حافظاً للسّمر،
صابراً على السّهر.
قلت لأبي النّفيس الرّياضي: كيف رأيت الدهر؟ قال: وهوباً
لما سلب، سلوباً لما وهب، كالصبيّ إذا لعب.
رأى فيلسوفاً إنساناً سميناً فقال له: يا هذا، ما أكثر
عنايتك برفع سور جسمك.
وقيل لفيلسوف: إنّ فلاناً يحكي عنك كلّ سوءٍ، فقال: لأنه
لا ينتهي إلى الخير فيحكي.
قال أعرابيّ: نفسك راحلتك، إن رفّهتها اضطلعت، وإن
نفّهتها انقطعت.
كاتب:
اتصل بي خبر الفترة في إلمامها وانحسارها، ونبأ الشّكاة
في حلولها وارتحالها، فكاد يشغل القلق بأوّله عن السّكون لآخره، وتذهل عادية
الحيرة في ابتدائه عن عائدة المسرّة في انتهائه، وكان التصرّف في كلتا الحالتين بحسب
قدرهما: ارتياعاً للأولى، وارتياحاً للأخرى.
قال بعض السّلف: الأحمق إن تكلّم فضحه حمقه، وإن سكت
فضحه عيّه، وإن عمل أفسد، وإن ترك ضيّع، لا يغنيه علمه، ولا ينتفع بعلم غيره، ولا
يستريح زاجره، تودّ أمّه أنّها ثكلته، وتتمنى امرأته أنّها فقدته، يأخذ جليسه منه
الوحشة، ويتمنّى جاره منه الوحدة، إن كان أصغر أهل بيته عنّى من فوقه، وإن كان
أكبرهم أفسد من دونه.
كان جرير بن إسماعيل جواداً بماله معطاءً، فلامه روح بن
حاتم المهلّبي على ذلك وقال له: إّني أخاف عليك الفقر وتعس الدّهر، فقال جرير: إّني أكره أن
أترك حقاً قد وقع، خوفاً لأمر لعله لا يقع.
دخل أبو حنيفة على الأعمش وهو عليلٌ فجلس وأطال، ثم قال:
لعلّي قد أثقلت عليك، فقال الأعمش: والله إنّي لأستثقلك وأنت في منزلك فكيف وأنت
في منزلي؟! قال عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري: لا أماري صديقي، إمّا أن أكذبه
وإمّا أن أغضبه.
قال أعرابيّ لسيّد قومه: أنت للأحرار غياثٌ ومفزع، ولأهل
النّعم محلٌّ وموضع، ولذوي الحاجات موادٌ ومنتجع.
قال فيلسوف: كما أنّ البدن الخالي من النفس تفوح منه
رائحة النّتن، كذلك النفس العديمة للأدب يظهر منها دليل النّقص.
وقال فيلسوف: ليس المؤمن من ينقص على النفقة ماله.
قال فيلسوف: لتكن عنايتك بحسن استماع ما تفهمه في وزن
عنايتك بحسن استعمال ما تكسبه.
قال الواقدي: أبو حنيفة النعمان بن ثابت مولى تيم الله
بن ثعلبة بن بكر بن وائل؛ قال له رجلٌ من خيار بني تيم الله: ألست مولاي؟ قال أبو
حنيفة: أنا والله لك أشرف منك لي.
ولد أبو حنيفة سنة ثمانين، ومات سنة خمسين ومائة، وعاش
أبو حنيفة سبعين سنة، ومات ببغداد، وصلّى عليه الحسن بن عمارة.
قال أحمد بن الطيّب، قال بعض أصحابنا: بتّ ليلة بالبصرة
مع جماعةٍ من المسجديين، فلما حان وقت السّحر حرّكهم واحدٌ فقال: كم هذا النوم عن
أعراض الناس؟ قيل لعبيد ابن أبي محجن: أليس أبوك الذي يقول: الطويل
إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ... تروي عظامي بعد موتي
عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا متّ أن لا أذوقها
فقال: بل قوله أجمل من هذا حين يقول: البسيط
لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... وسائلي القوم ما ديني
وما خلقي
هل يعلم القوم أنّي من سراتهم ... إذا تطيش يد الرعديدة
الفرق
أعطي السّنان غداة الرّوع حصّته ... وعامل الرّمح أرويه
من العلق
عفّ الإياسة عمّا لست نائله ... وإن ظلمت شديد الظّلم
والحنق
وأكشف الماقط المكروه غمّته ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق
قيل لعبّاد بن الحصين، وكان أشدّ أهل البصرة: في أي عددٍ
تحبّ أن تلقى عدوّك؟ قال: في أجلٍ مستأخر.
قصد قومٌ من الطّفيليين وليمةً فقال رئيسهم: اللهمّ لا
تجعل البوّاب لكّازاً في الصّدور، دفّاعاً في الظّهور، طرّاحاً للقلانس، هب لنا
رأفته ورحمته ويسره، وسهّل علينا إذنه؛ فلمّا دخلوا تلقّاهم فقال متكلّمهم: غرّةٌ مباركة،
موصولٌ بها الخصب، معدومٌ معها الجدب؛ فلمّا جلسوا الخوان قال: جعلك الله كعصا
موسى، وخوان إبراهيم، ومائدة عيسى في البركة؛ ثم قال لأصحابه: افتحوا أفواهكم،
وأقيموا أعناقكم، وأجيدوا اللّف، وأترعوا الأكفّ، ولا تمضغوا مضغ المتعلّلين
الشّباع المتخمين، واذكروا سوء المنقلب، وخيبة المضطرب، كلوا على اسم الله تعالى.
قال عبد الله بن المبارك: كتبت عن أفقه الناس أبي حنيفة،
وأعبد النّاس الحسن بن صالح، وأزهد النّاس الثّوري، وأورع الناس عبد العزيز بن أبي
رواد.
قال ابن المبارك: كان أبو حنيفة آيةً، قيل: في ماذا؟
قال: اذكروا فيه من الخير ما شئتم؛ قال بعض أهل العصبيّة: إنّما أراد الشرّ، قيل
له: فقال الله تعالى: " وجعلنا ابن مريم وأمّه آيةً " وما أراد الله
الشر، فقبله.
قال عمر بن سليمان العطّار: كنت بالكوفة أجالس أبا حنيفة، فتزوج
زفر فحضر أبو حنيفة فقال له: تكلّم، فقال في خطبته: هذا زفر بن الهذيل، وهو إمامٌ
من أئمة المسلمين، وعلمٌ من أعلامهم في حسبه وشرفه وعلمه، فقال بعض قومه: ما
يسوءنا أن غير أبي حنيفة يخطب حين ذكر خصاله ومدحه، وكره ذلك بعض قومه وقال: حضر
قومك وأشراف بني عمك، مثل أبي حنيفة يخطب؟! فقال: لو حضرني أبي لقدّمت أبا حنيفة.
اشترى محمود الورّاق جاريةً، وكانت بطنها واسعةً، فلما
ركب صاح: الغريق! فقالت له أخرى: أخرج المرديّ وأنت على الشطّ! تباعد ما بين يحيى
بن خالد وعليّ بن عيسى بن ماهان، فوجّه عليّ أبا نوحٍ ليعرف ما في نفس يحيى، فكتب
يحيى على يد أبي نوح: عافانا الله وإياك، كن على يقينٍ أنّي بك ضنين، وعلى التمسّك
بما بيني وبينك حريص، أريدك ما أردتني أريدك ما نبوت عنّي، ما كان ذلك بك جميلاً،
فإن جاءت المقادير بخلاف ما أحبّ نم ذلك لم أعد ما تحمد، ولم أتجاوز إلى شيءٍ مما
تكره، هاجتني على الكتابة إليك مسألة أبي نوحٍ إياي إعلامك رأيي وهواي، فما تبدّلت
ولا حلت، فجمعنا الله وإياك على طاعته.
ولد أبو بكر الأنباري سنة سبعين ومائتين، ومات سنة ثمانٍ
وعشرين وثلاثمائة.
قال وهب: صفة المؤمن إيمانٌ في تقىً، وحزمٌ في يقين،
وقصدٌ في لين، وقورٌ في الرّخاء، شكورٌ في البلاء صبور، إن أنعم عليه شكر، وإن
ابتلي صبر، لا يحقر من دونه، ولا يزري على من فوقه.
قال وهب: المؤمن من يخالط ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم
ليفهم، ويخلو لينعم.
قال وهب: كانت مريم عند زكريا، فلمّا نبا بطنها وحملت
قال لها زكريا: هل يكون الشّجر من غير مطر؟ وهل يكون الزرع من غير بذر؟ وهل يكون
الولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، الله خلق الجنّة بغير مطر، وخلق البذر قبل أن يخلق
الزّرع، وخلق آدم من غير ذكر.
قال الشّعبي: الجاهل حصر، والحكيم حاكم، ولم يعرف قدر
الجاهل من لم يجرّعه الحلم غصص الغيظ.
قال أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة: إثبات الحجّة على
الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب.
قيل لفيلسوف: ما الكلفة؟ قال: طلبك ما لا يواتيك، ونظرك
فيما لا يعينك.
وقال عيسى بن مريم: الأمور ثلاثة: أمرٌ يتبيّن فيه رشده
فاتّبعوه، وأمر تلبّس فيه غيّه فاجتنبوه، وأمرٌ اختلف فيه فردّوه إلى الله تعالى.
قال المعتمر بن سليمان: قال لي إيّاك أن تقتدي بزلاّت
أصحاب رسول الله فتقول: فلانٌ لبس المعصفر، وفلانٌ كانت له جمّة، وفلانٌ شرب
النبيذ، وفلانٌ لعب الشطرنج، وفلانٌ امتخط في الكتاب، وفلانٌ انتعل السّبت.
وصف رجلّ رجلاً فقال: كان والله سمحاً مرّاً سهلاً، بينه
وبين القلب نسب، وبين الحياة سبب، إنّما هو عيادة مريض، وتحفة قادم، وواسطة قلادة.
وقال حمّاد الراوية: شاهدنا في هذا المسجد قوماً كانوا
إذا خلعوا الحذاء، وعقدوا الحبا، وقاسوا أطراف الحديث، حيّروا السامع، وأخرسوا
النّاطق - يعني مسجد الكوفة.
قال رجلٌ لبعض العلويّة: أنت بستان الدّنيا، فقال
العلويّ وأنت النّهر الذي يشرب منه ذلك البستان.
قال رجلٌ لأبي عمر الزّاهد صاحب كتاب الياقوت في اللغة:
أنت والله عين الدّنيا، فقال: وأنت بؤبؤ تلك العين.
سألت أبا سعيد السّيرافي عن أبي عمر فقال: لم يكن زاهداً
إّلا في الدّارين، قلت: أكان يتّهم في اللغة؟ قال: كيف لا يتّهم من يكذب؟! وسمعت
غير أبي سعيد يقول ما هو قريبٌ من هذا، وطائفةٌ من الناس تأبى هذا فيه، وتزعم أنّه
كان ثقةً مأموناً.
أخذ عبّاسيّ طالبيّاً في العسس، فأراد أن يعاقبه فقال الطّالبيّ:
والله لولا أن أفسد ديني بفساد دنياك لملكت من لساني أكثر ما ملكت من سوطك؛ والله
إن كلامي لفوق الشّعر، ودون السّحر، وإنّ أيسره ليثقب الخردل، ويحطٌ الجندل،
فاستحيى منه وخلّى عنه.
قال سوّار بن أبي شراعة، أنشدنا الرّياشي لعمرو بن حلّزة
أخي الحارث بن حلّزة، قيل: وهي مصنوعة: الرمل
لم يكن إّلا الذي كان يكون ... وخطوب الدّهر بالنّاس
فنون
ربّما قرّت عيونٌ بشجىً ... مرمضٍ قد سخنت منه عيون
يلعب الناس على أقدارهم ... ورحى الأيّام للنّاس طحون
يأمن الأيام مغترٌ بها ... ما رأينا قطّ دهراً لا يخون
والملمّات فما أعجبها ... للملمّات ظهورٌ وبطون
إنّما الإنسان صفوٌ وقذىً ... وتواري نفسه بيضٌ وجون
لا تكن محتقراً شأن امرئٍ ... ربّما كانت من الشان شؤون
قال فيلسوف: كما أنّ أواني الفخّار تمتحن بأصواتها فيعرف
الصحيح منها من المنكسر، كذلك يمتحن الإنسان بمنطقه فتعرف حاله وطريقته.
قال فيلسوف: احتمال الفقر أحسن من احتمال الذلّ، على أن
الرضا بالفقر قناعة، والرّضا بالذلّ ضراعة.
شاعر: الرجز
سحابةٌ صادقة الأنواء ... تجرّ حضنيها على البطحاء
بدت بنارٍ وثنت بماءٍ ... تثني بها الأرض على السّماء
تجمع بين الضّحك والبكاء
للمأمون: البسيط
وصاحبٍ ونديمٍ ذي محافظةٍ ... سبط اليدين بشرب الراح
مفتون
نادمته ورواق الليل منخرقٌ ... تحت الصباح دفيناً في
الرّياحين
فقلت خذ قال كفّي لا تطاوعني ... فقلت قم قال رجلي لا
تواتيني
إنّي غفلت عن السّاقي فصيّرني ... كما تراني سليب العقل
والدّين
قال أعرابيٌّ في خطبته: الحذر الحذر، فوالله لقد ستر حتى
كأنّه غفر.
وقّع ابن الزيّات إلى عاملٍ له: توهمتك شهماً كافياً،
فوجدتك رسماً عافياً، لا محامياً ولا وافياً.
قال بعض السّلف: أفضل ما أعطيه الإنسان اللسان، وفي ترك
المراء راحةٌ للبدن.
قال المبرّد، قال بعض السّلف: ضوالّ الكلام أحبّ إليّ من
ضوال الإبل، قيل به: نحو ماذا؟ قال: كقول الشاعر: الطويل
وإنّي لأرجو الله حتى كأنّما ... أرى بجميل الظنّ ما
الله صانع
أنشد ثعلب لعليّ بن مالك العقيلي: الطويل
أتيت مع الحدّاث ليلى فلم أبن ... فأخليت فاستعجمت عند
خلائي
فقمت فلم أصبر فعدت ولم أحر ... جواباً كلا اليومين يوم
عياء
فيا عجباً ما أشبه اليأس بالغنى ... وإن لم يكونا عندنا
بسواء
قال بشّار: لقد عشت في زمانٍ وأدركت أقواماً لو احتفلت
الدّنيا ما تجمّلت إّلا بهم، وإنّي لفي زمانٍ ما أرى عاقلاً حصيفاً، ولا فاتكاً
ظريفاً، ولا ناسكاً عفيفاً، ولا جواداً شريفاً، ولا خادماً نظيفاً، ولا جليساً
طريفاً، ولا من يساوي على الخبرة رغيفاً.
سأل رجلٌ أبا الهذيل فقال له: أفعال العباد مخلوقة؟ قال:
لا، قال: فمن خلقها؟ قال أبو الهذيل: أنت مشجوج؟ قال: لا، قال: فمن شجّك؟ قال رجلٌ لابن
سيّار: أتعجب من رجلٍ يتهيّبك مع قبح صورتك؟ قال: ليس من حسنه يهاب الأسد.
قيل لصوفيّ: أين الحقّ؟ قال: لو كان له أينٌ لم تثبت له
عين.
قال رجلٌ لأبي الهذيل: ما الدليل على حدث العالم؟ قال:
الحركة والسكون، فقال السائل: الحركة والسكون من العالم، فكأنك قلت الدليل على حدث
العالم العالم دل على حدث العالم بغير العالم فقال أبو الهذيل: جئتني بسؤالٍ من
غير العالم جئتك بجوابٍ من غير العالم.
عثر رجلٌ على امرأته وهي على فاحشةٍ فطلّقها، فاجتمع
أهلها إليه وقالوا: عرّفنا ما رأيت من زوجتك، فما رأيت فيها؟ قال: سبحان الله،
امرأةٌ كان زمامها بيدي وكنت بعلاً لها لم أبح بما كان منها، فلمّا بانت منّي،
وصارت غريبةً أفضحها؟! لا يكون ذلك أبداً.
جاء رجلّ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: صف لي
الجنّة؟ فقال: " فيها فاكهةٌ ونخلٌ ورمّانٌ " ؛ وجاء آخر فقال بمثل
قوله، فقال: " سدرٌ مخضود، وطلحٌ منضود، وفرشٌ مرفوعة، ونمارق مصفوفة "
؛ وجاء آخر فسأله عن ذلك فقال:
" فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين " ؛ وجاء
آخر فسأله فقال: " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر
" . فقالت عائشة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: " إنّي أمرت أن أكلم الناس
على قدر عقولهم " .
حضّ منصور بن عمّار الناس على الغزو في فناء دار الرشيد
بالرّقة، وطرحت امرأةٌ من حاشيته صرّةً تصحبها رقعةٌ قرئ فيها: رأيتك يا ابن عمّار
تحضّ على الجهاد، وقد ألقيت إليك ذؤابتي فلست أملك والله غيرها، فبالله إّلا
جعلتها قيد فارس غازٍ في سبيل الله تعالى، فعسى الله جلّ جلاله يرحمني بذلك، فارتجّ
المجلس بالبكاء، وضجّ بالنّحيب، وتعجّب الناس من ذلك.
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: " ما تعدّون
الرّقوب فيكم؟ قالوا: التي لا يبقى لها ولد، قال عليه السلام: " بل الرّقوب
الذي لم يقدّم من ولده شيئاً
" .
ذبحت عائشة شاةً فتصدّقت بها، وتركت كتفاً منها، فقال
النبيّ صلّى الله عليه: " ما عندك منها " ؟ قالت: ما بقي إّلا كتفٌ، قال: "
كلّها بقي إّلا كتف " .
شاعر: الخفيف
لا أعدّ الإقتار عدماً ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
كان الفضيل يعظ ابنه كثيراً على الزّهد ويقول: يا بنيّ،
ارفق بنفسك؛ وكان يوماً خلف الإمام يصلّي فسمع سورة الرحمن، فظلّ يتلوّى وأبوه
ينادي: أما سمعت قوله: " حورٌ مقصوراتٌ في الخيام: فقال: يا أبت، لكني سمعت
قوله: " يعرف المجرمون بسيماهم
" .
قال ابن سيرين: سمع من النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله
في تلبيته يقول: " لبّيك حقاّ حقاّ تعبداً ورقّاً " .
رأى ابن عبّاس عروة بن الزّبير يوماً متنكراً فقال له:
ما شأنك؟ فقال: سلقني ابن عمّ لي بلسانه، فقال: خفّض عليك، فما من قومٍ فيهم غرّةٌ
إّلا وإلى جانبه عرّة، وما ذئبٌ أغبس جائع بألحّ على فريسته ولا أنهك لها من ابن
عمّ دنيٍّ على ابن عمّ سريّ.
سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية وقيل به: ما تقول
فيه؟ قال: ما أقول في رجلٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في صلاته: "
سمع الله لمن حمده " ، فقال من ورائه: ربّنا لك الحمد؟ سئل بعض العلماء عن
الآيات التّسع التي كانت لموسى: ما هنّ؟ قال: العصا، واليد، والجراد، والقمل،
والضفادع، والدّم، والبحر، ورفع الطور، وانفجار الحجر، وقيل بدل البحر الجبل
والبحر: الطوفان والطمس.
سمعت الشيخ الإسماعيلي ينشد: الطويل
ألا قاتل الله الهوى ما أشدّه ... وأصرعه للمرء وهو جليد
دعاني إلى ما يبتغي فأجبته ... فأصبح بي يذهب حيث يريد
نظر رجلٌ من المجّان إلى رجلٍ كثير شعر الوجه فقال: يا
هذا خندق على وجهك لا يتحول رأساً.
قيل لفيلسوف، وكان محبوساً: أّلا تكلّم الملك في إطلاقك؟
قال: لا، قيل: ولم؟ قال: لأن الفلك أحدّ أّلا يبقي على حدّ.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في دعائه: اللهمّ لا
تحوجني إلى أحدٍ من خلقك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " مهلاً
يا عليّ، إنّ الله جلّ ثناؤه خلق الخلق ولم يغن بعضهم عن بعض " .
قال ابن سلاّم، قال أبو حنيفة: رأيت في النوم كأنّي أنبش
عظام النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله، فسألت فقيل: هذا رجلٌ يحيي سنّته.
يقال في الأمثال: من يزرع خيراً يحصد غبطةً، ومن يزرع
شرّاً يحصد ندامةً.
شاعر: الطويل
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التقصير في
زمن البذر
سئل أحمد بن حنبل عن قول الناس: عليٌّ قاسم الجنّة
والنار، قال: هذا صحيح، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله قال لعليّ بن أبي
طالب: " لا يحبّك إّلا مؤمنٌ ولا يبغضك إّلا منافقٌ، فالمؤمن في الجنّة
والمنافق في النار " .
قال رجلٌ لبعض الزهّاد: كم آكل؟ قال: فوق الجوع ودون
الشّبع، قال: فكم أضحك؟ قال: حتى يسفر وجهك ولا يسمع صوتك، قال: فكم أبكي؟ قال: لا
تملّ البكاء من خشية الله، قال: فكم أخفي عملي؟ قال: حتى لا يرى الناس أنّك تعمل
حسنةً، قال: فكم أظهر من عملي؟ قال: حتى يأتمّ بك الحريص، وينقضي عنك قول الناس.
قال بعض النّسّاك: إنّ الشيطان يلعب بالقرّاء كما يلعب
الصبيان بالكرة.
قال بلال بن سعد: من سبقك بالودّ فقد استرقّك بالشّكر.
قال النبيّ صلّى الله عليه: " الرغبة في الدنيا
تطيل الهمّ والحزن، والزّهد فيها راحة القلب والبدن " .
قال بعض الصالحين: لو رأيت يسير ما بقي من أجلك، لزهدت
في طول ما ترجو من أملك، ولملت إلى الزيادة في عملك، ولقصّرت من حرصك وحيلك،
فإنّما تلقى غداً ندمك، وقد زلّت قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرّأ منك القريب،
وانصرف عنك الحبيب، فلا أنت إلى الدّنيا عائد، ولا في عملك زائد، فاعمل يا مغرور
ليوم القيامة، قبل حلول الحسرة والنّدامة.
وقال بعض السّلف: من هوان الدّنيا على الله جلّ جلاله أن
لا يعصى إّلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها.
وقال فيلسوف: إذا أدركت الدنيا الهارب منها جرحته، وإذا
أدركها الطالب لها قتلته.
سئل الزّهري عن الزّهد فقال: والله ما هو من خشونة
المطعم ولا من خشونة الملبس، ولا قشف الشّعر، ولا قحل الجلد، ولكنه ظلف النفس عن
محبوب الشّهوة.
دعا أعرابيٌّ في الكعبة فقال: اللهمّ إني أسألك الخوف
منك حين يأمنك من لا يعرفك، وأسألك الأمن منك حين يخافك من يغترّ بك.
نظر رجلٌ إلى فيلسوف فقال له: ما أشدّ فقرك، فقال له: لو
علمت ما الفقر لشغلك الهمّ لنفسك عن الغمّ لي.
سمع أبو الدّرداء وهو يقول لبعيرٍ له: ألم أعلفك وأسقك
وأحسن إليك.
قيل لشعبة: ما تقول في يونس عن الحسن؟ قال: سمن وعسل،
قيل: فعوف عن الحسن؟ قال: خلّ وبقل، قيل: فأبان عن الحسن: قال: دعني لا أتقيأ.
قيل للحسن: إنّ ابن سيرين ما احتلم قطّ، قال: لأنّ
الاحتلام عرس النّسّاك إذا علم الله تعالى منهم العفاف.
قال أبو ذرٍّ لغلامه: لم أرسلت الشّاة على العلف؟ قال:
أردت أن أغيظك، قال: لأجمعنّ مع الغيظ أجراً، أنت حرٌّ لوجه الله تعالى.
قال قتادة في قوله عزّ وجلّ: " إنّه عملٌ غير صالحٍ
" : أي سؤالك إيّاي ما ليس لك به علمٌ.
قال محمد بن شهاب الزّهري: كنت عند عبد الملك بن مروان
فدخل عليه رجلٌ حسن الفصاحة، فقال له عبد الملك: كم عطاؤك؟ قال: مائتا دينار، قال:
في كم ديونك؟ قال: في مائتي دينار، قال: أما علمت أنّي أمرت أن لا يتكلّم أحدٌ بإعراب؟
قال: ما علمت ذلك، قال: أمن العرب أنت أم من الموالي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن
تكن العربية أباً فلست منها، وإن تكن لساناً فإنّي منها، قال: صدقت، قال الله
تعالى: " بيلسان عربيٍّ ميبنٍ
" .
قال ابن عيينة: إذا كانت حياتي حياة سفيهٍ، وموتي موت
جاهل، فما يغني عنّي ما جمعت من طرائف الحكماء؟ قال عبد الله ابن إدريس: قال الله
تعالى في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه: ثاني اثنين إذ هما في الغار، وثاني اثنين
في المشورة يوم بدر، وثاني اثنين في القبر، وثاني اثنين في الخلافة، وثاني اثنين
في الجنّة.
قال الحسن البصري: إنّ في أحكام الدّنيا وما أنزل الله تعالى
ما يستدلّ به على غيب ما لا يرى من يقين الآخرة وعدل أحكامها، فما كان أشبه من
أقرّ بالنّشأة الأولى أن يستدلّ بذلك على النشأة الأخرى، وما أشبه من عرف النّشور
من النوم أن يستدلّ بذلك على النّشور من الموت، وما أشبه من عرف خلق أوّله أن
يستدلّ بذلك على خلق آخره، وما كان أشبه من عرف ربّه أن يعترف بما وعده من خيرٍ أو
شر، وما كان أشبه من عرف رضاه أن لا يخلّ بعملٍ يعمله، وما كان أشبه من توكّل له
برزقه أّلا يتهمّ برزقه، وما كان أشبه من عرف ما يضرّه أن لا يؤثره على ما ينفعه،
وكان أشبه من عرف ما ينفعه إّلا يدع ما ينفعه.
سأل رجلٌ ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الاستواء فقال:
ويلك مجهول، والاستواء غير معقول، والإيمان به واجب.
وقال النزّال بن سبرة: سمعنا حذيفة يحلف لعثمان على
أشياء ما قالها، وقد سمعناه قالها، فقيل له في ذلك فقال: أشتري ديني بعضه ببعضٍ
مخافة أن يذهب كلّه.
قال شبيل بن عوف: من سمع بفاحشةٍ فأفشاها فهو كالذي
أنشأها.
قال النّباجيّ: سمعت هاتفاً يقول: عجباً لمن وجد عند
المولى كلّ ما يريد كيف ينزل حاجته بالعبيد.
قال أبو سليمان الدّاريّ: من طلب الدّنيا على المحبّة
لها لم يعط منها شيئاً إّلا أكثر منه، ليس لهذه غاية، ولا لهذه نهاية.
دعا رجلٌ فيلسوفاً فأجابه، ثم دعاه مرةً أخرى فأبى عليه،
فقيل له: ما هذا؟ فقال: إنّه لم يشكرني على المرة الأولى.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان: إني لا أريد
من الدنيا أكثر ممّا أعطى، فقال لي: لكني أعطى منها أكثر مما أريد.
قال أبو سليمان: الزّهّاد في الدّنيا على طبقتين: منهم
من يزهد في الدّنيا ولا تفتح له روح الآخرة فهو يغتمّ في دنياه لأنّ نفسه قد يئست
من شهواتها، وليس شيءٌ أحبّ إليه من الموت لما يرجو من نعيم الآخرة، ومنهم من يزهد
وتفتح له روح الآخرة فليس شيءٌ أحبّ إليه من البقاء ليطيع.
قال أحمد بن أبي الحواريّ: سمعت أبا سليمان الدّاريّ
يقول في رجلين تعبّدا وهما يشتهيان شهوةً وكلاهما لها تاركٌ، فخرجت من قلب أحدهما
ولم تخرج من قلب الآخر، قال: الذي خرجت من قلبه أفضل، لأنه لم يخرجها فّلا شيءٌ من
الآخرة، قال أحمد: فاختلفنا في المسألة بعباّدان وخرجنا إلى البصرة ولقينا رباحاً
القيسيّ فوافقني عليها.
كان أبو سليمان يقول: إنّ الله تعالى أكرم من أن يعذّب
قلباً بشهوةٍ تركت من أجله، وذلك أنه قال: " من صدق في ترك شهوةٍ كفي مؤونتها " .
وقال أبو سليمان: أرجو أن أكون قد بلغت من الرّضا طرفاً
ولو أدخلني النار لكنت بذلك راضياً.
قال السّريّ السّقطيّ: إذا رأيت الله تعالى يوحشك من
الخلق، فاعلم أنّه يريد أن يؤنسك بنفسه.
قال إسماعيل بن زياد أبو يعقوب: قدم علينا ها هنا
بعبّادان راهبٌ من الشام ونزل دير أبي كبشة، فذكروا حكمة كلامه، فحملني ذلك على
لقائه، فأتيته وهو يقول: إنّ لله عباداً سمت بهم هممهم نحو عظيم الذّخائر،
قالتمسوا من فضل سيّدهم توفيقاً يبلغهم سموّ الهمم، فإن استطعتم أيّها المرتحلون
عن قريبٍ أن تأخذوا ببعض أمرهم فإنّهم قومٌ قد ملكت الآخرة قلوبهم فلم تجد الدّنيا
فيها ملبثاً، فالحزن بثّهم، والدّمع راحتهم، والدؤوب وسيلتهم، وحسن الظنّ قربانهم،
يحزنون بطول المكث في الدّنيا إذا فرح أهلها، فهم فيها مسجونون، وإلى الآخرة
منطلقون. فما سمعت موعظةً أنفع لي منها.
قال معاوية بن قرّة: كنّا لا نحمد ذا فضلٍ عند فضله،
فصرنا اليوم نحمد ذا شرٍّ لا يفضل عنه شرٌّ.
يقال إنّ يوسف عليه السلام كتب على باب السجن: هذه منازل
البلوى، وقبو الأحياء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء.
قال بعض السّلف: معادن البهاء لا يقطع بين متّصلها تفاوت
الأعمار، ولا يعفّي آثارها بلى الأبدان، وليس كلّ من يحكي الحكمة كان من أهلها،
أولئك أبناء الدّنيا وخول الجهل، المحجوجون باستعارة اسمها، المسلوبون منفعة
عواقبها، ولكنّ أبناء الحكمة الذين حبوا بموت الدّنيا في عقولهم، ونعموا بتخليتها
من قلوبهم، الذين أخلق عندهم جديد العبر، وغيّبها عنهم مشاهدتهم غيب المعاد، وانتقالهم
إلى دار اليقين.
غضب الإسكندر على شاعرٍ فأقصاه وفرّق ماله في الشعراء،
فقيل له: أيّها الملك بالغت في عقوبته، قال: نعم، أمّا إقصائي إياه فلجرمه، وأمّا
تفريقي ماله في أصحابه فلئلاّ يشفعوا فيه.
وقيل للإسكندر: إنّ فلاناً يجود في السّكر بما يسحّ به
في الصّحو، قال: لا يحمد، لأنّ الصّحو عقلٌ والسّكر مباينٌ للعقل.
بلغ الإسكندر موت صديقٍ له فقال: ما يحزنني موته كما
يحزنني أنني لم أبلغ من برّه ما كان أهله مني، فقال له فيلسوف: ما أشبه هذا القول
بقول ابني وهو يجود بنفسه: ما يحزنني موتي كما يحزنني ما فات من إظهار بأسي وبلائي
في العدوّ.
قال أحمد بن أبي الحواريّ، سمعت أبا سليمان يقول: أهل
قيام الليل على ثلاث طبقات: فمنهم من إذا قرأ بكى، ومنهم من إذا قرأ صاح، ومنهم من
إذا قرأ تفكّر ولم يبك، فبهتّ، فقلت له: ما تفسيره؟ فقال: ما أقوى على تفسيره؛ قال
أحمد: كان والله عارفاً له لكنّه كان لا يطيق أن يتكلم به.
كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي يدعوه إلى الأرض
المقدّسة، فكتب إليه سلمان: إن بعدت الدار من الدار فإنّ الرّوح من الرّوح قريب،
وطائر السماء على إلفه من الأرض يقع.
كان آخر من مات من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله:
بالمدينة جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر بمكّة، وأنس بن مالك بالبصرة، وعبد
الله ابن أبي أوفى بالكوفة، وأبو أمامة الباهليّ بالشام.
قال بعض السّلف: يقال: صفوة الله تعالى من خلقه أهل
التوحيد، وصفوته من أهل التوحيد أهل السّنّة، وصفوته من أهل السّنّة أهل الورع عن محارم
الله تعالى، وصفوته من أهل الورع أهل الزّهد، وصفوته من أهل الزّهد أهل البصيرة،
وصفوته من أهل البصيرة أهل الخضوع والتواضع.
قال محمد بن حبيب، حدّثني أبي قال: دعانا محمد بن
العبّاس العتبيّ، وكان من الصالحين، وعنده جماعةٌ، وكان فيهم أحمد بن عبد الرزّاق،
فقدّم إلينا خبيصٌ فأخذ أحمد لقمةً من القصعة فناولني إياها وقال: اجعلها أنت بيدك
في فمي. ففعلت، قال لي: أتدري بم فعلت هذا؟ إنّه يروى: من لقّم أخاه لقمةً حلوةً
وقاه الله تعالى مرارة يوم القيامة، فأحببت أن تلقمنيها حتى يوقيك الله تعالى
مرارة يوم القيامة.
لسعية بن غريض اليهوديّ: السريع
هاجك بالروض وقريانها ... دارٌ تعفّت بعد إخوانها
تسري عليها كلّ حنّانةٍ ... مولعةٍ منها بجولانها
مفصّوة الأجزاع مجهولةٍ ... كأنّما أعين خزّانها
جزع كعابٍ خانه سلكه ... بين تراقيها وأردانها
يهدي لها الأرواح من ريحها ... نفح خزاماها وحوذانها
وله أيضاً في رواية ابن حبيب: المتقارب
لقد هاج نفسك أشجانها ... وعاودك اليوم أديانها
بذكرّ ليلى وما ذكرها ... وقد قطعت منك أقرانها
ودويّةٍ سبسبٍ مرعشٍ ... من البيد تعزف جنّانها
وعيرانةٍ كأتان الثّمي ... يل تمرح في الآل أشطانها
وقفت عليها فساءلتها ... وقد ذهب الحيّ ما شانها
قال الصّولي: كنّا عند المبرّد يوماً فاجتاز به رجلٌ
فقال له أبو العبّاس: قد كلّمتك في فلان، فقال الرجل: قد سمعت وأطعت، وشغلت
بضاعته، فما كان من نقصٍ فعليّ، وما كان من زيادةٍ فله، فقال المبرّد: لله درّك،
أنت كما قال زهير بن أبي سلمى: الوافر
وسارٍ سار معتمداً إلينا ... أجاءته المخافة والرّجاء
ضمنّا ماله فغدا سليماً ... علينا نقصه وله النّماء
قال المبرّد، قال رجلٌ من الرّافضة: كان جرير والفرزذق
يقولان: الحمد لله الذي شغل السيّد الحميريّ عنّا بمذهبٍ وإّلا لم نكن معه في شيء،
قلت له: إنّهما لم يرياه، قال: فسمعا به، قلت: ولم يسمعا به، كان بعدهما، قال:
فقدّما قولاً فيه، قلت: ما كان الوحي ينزل عليها، قال: فرأياه في النّوم فقالا هذا،
فقلت: " أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " فقال: والله لقد
تلي هذا فيه، قلت: يمينٌ فاجرةٌ، قال: أنت والله تنصب منذ اليوم.
وقف أحمد بن الطّيّب السّرخسي على المبرّد يوماً مسلماً،
فقال المبرّد: أنت والله كما فقال البحتري: الوافر
خصال النّبل في أهل المعالي ... مفرقةٌ وأنت لها جماع
قال المبرّد: قصدني رجلٌ فاستشفع بي في حاجةٍ وأنشدني
لنفسه: البسيط
إنّي قصدتك لا أدلي بمعرفةٍ ... ولا بقربى ولكن قد فشت
نعمك
فبتّ حيران مكروباً يؤرقني ... ذلّ الغريب ويغشيني الكرى
كرمك
ما زلت أنكب حتى زلزلت قدمي ... فاحتل لتثبتها لا زلزلت
قدمك
فلو هممت بغير العرف ما علقت ... به يداك ولا انقادت له
شيمك
قال المبرّد: فبلّغته جميع ما قدرت عليه.
قال الإسكندر لمّا قتل دارا: إنّ قاتل دارا لا يعيش.
قيل لديوجانس: لم تأكل في السّوق؟ قال: لأنّي جعت في
السّوق.
ورأى رجلاً قد خصب شيبه فقال: يا هذا أخفيت شيبك فهل
تقدر أن تخفي هرمك؟ ورأى ديوجانس رجلاً يدعو ربّه أو يرزقه الحكمة فقال: لو قبلت
الأدب رزقتها.
ورأى غلاماً أسود يرمي بالحجارة فقال: لا ترم لعلّك تصيب
أباك ولا تعلم.
ورأى صبيّاً يشبه أباه فقال: نعم الشاهد أنت لأمّك.
قال الرّياشي: حدّثنا أبو حفص الغفاريّ عن رجلٍ من
الأنصار قال، أخبرني من سمع الأحوص بن مالك رافعاً عقيرته يقول: الطويل
لعمرك ما جاورت غمدان طائعاً ... وقصر شعوبٍ أن أكون بها
صبّا
ولكنّ حمّى أضرعتني ثلاثةً ... فجاوزتها ثمّ استمرّت بنا
غبّا
ومصرع إخوانٍ كأنّ أنينهم ... أنين المكاكي أنقرت بلداً
خصباً
قال المفجّع: المكاكيّ جمع مكّاءٍ، وأنقرت: أقامت،
والمنقر: المنزل، ومنه سمّي الرجل، ومنه قول الآخر:
ونقّري ما شئت أن تنقّري
قال: ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: الخفيف
قلت لا بدّ أن أنقّر عنك ... نّ فحاجرنني بعبد مناف
أي لا بدّ أن أعرف منزلكنّ.
قال: فيروى في شعر الأحوص: وقصر شعوب بالرفع، ويقال:
شعوب: المنيّة، قال المنانيّ: الكامل
ذهبت شعوب بماله وبأهله ... إنّ المنايا للرجال شعوب
والمرء من ريب النون كأنّه ... عودٌ تعاوره الرّعاء ركوب
نصباً لكلّ مصيبةٍ يرمى بها ... حتى يصاب سواده المنصوب
قال: ومن روى وقصر بالنصب قال: هو موضعٌ؛ قال ويروى:
ولكنّ حمّى أضرعتني ثلاثةً ... مجرمةً ثم استمرّت بنا
غبّا
يعني ثالثة أشهر تامّة.
قال المفجّع: حدّثنا أبو يعقوب النّحوي قال، حدّثنا
الرّياشي قال، سمعت القحذميّ يحدّث عن ابن دأبٍ قال: فقدت امرأةٌ من بجيلة أخاً
لها، فجعلت تنشده في قبائل العرب حتى انتهت إلى حيًّ من الأحياء فقالوا: قد وجدته
ولم تجديه، وجاءوا بها إلى قبرٍ مكتوبٍ عليه: الطويل
أليحا لليلى قبر من لو رأيته ... يجود وتأبى نفسه وهو
ضائع
سقيطٌ كجثمان الخلى لم يلطف به ... حميمٌ ولم تذرف عليه
المدامع
إذاً لرأيت الذّلّ والضّيم قد بدا ... لليلى ولم يدفع لك
الضّيم دافع
قال المفجّع: الخلى ها هنا هو العود المقطوع من النّبات؛
قال: وسمعت المبرّد يقول: الجثمان: الشخص، والجسمان - بالسين - : الجسم: والشّجى
ها هنا: الغصص، وأصله عويدٌ يعترض في الحلق.
وأنشد لابن دريد: الكامل
نهنه بوادر دمعك المهراق ... أيّ ائتلاف لم يرع بفراق
لا تغلبنك على العزاء خواطرٌ ... للشّوق هنّ رواشف
الآماق
كم ذا تحنّ إلى العراق وأهله ... كم تامت الدّنيا بغير
عراق
لقي رجلٌ داود الطّائي فقال: من أين يا داود وإلى أين؟
قال داود: استوحشت من الناس وأنست بالله تعالى، فقال: يا داود، هذا إن قبلك، فصاح
صيحةً وخرّ مغشياً عليه ثم أفاق فقال: نبّهك الله إذ نبّهتني.
قيل لرابعة: أيّ عملك أرجى إليك عندك؟ قالت: أرجى عملي
عندي خوفي أن لا يقبل.
وقال النبيّ صلّى الله عليه في دعائه: " اللهمّ
ارزقني حبّك وحبّ ما ينفعني حبّه عندك؛ اللهمّ ما رزقتني ممّا أحبّ فاجعله قوةً لي
فيما تحبّ، وما زويت عنّي ممّا أحبّ فاجعله فراغاً لما تحبّ " .
نظر بعض العارفين إلى آخر في محفلٍ يدعو إلى الله فقال
له: إنّي خفت عليك العجب من كثرة الناس، فقال: إنّما يعجب المؤمن أمرٌ هو منه، فأمّا
من أمره من غيره ففيم العجب؟ وأنشد:
الطويل
وصفت التّقى حتى كأنّك ذو تقىً ... وريح الخطايا من
ثيابك يسطع
ولم تعن بالأمر الذي هو واجبٌ ... وكلّ امرئٍ يعنى بما
يتوقّع
قال ثعلب: الأجهر: الذي لا يبصر بالنهار، والأعشى: الذي
لا يبصر بالليل، يقال: عشا يعشو إذا أصابه شيءٌ فضعف بصره، وعشي يعشى إذا كان الضعف
في البصر خلقةً؛ وقال الأصمعيّ: لا يعشى إّلا من بعد ما يعشو، أي لا يعمى إّلا من بعد
ما يضعف بصره.
تقدّم الأشعث بن قيس إلى شريحٍ قاضي الكوفة فقال: يا أبا
أميّة، لعهدي بك وإنّ شانك لشوين، فقال شريح: يا أبا محمد، أنت تعرف نعمة الله
تعالى على غيرك، وتجهلها من نفسك.
قيل لابن عيينة: إنّ فلاناً ينتقضك، فقال: نطيع الله فيه
مقدار ما عصى الله فينا.
وكان من سؤدد العبّاس في الجاهلية أن جفنته كانت تروح
على فقراء عبد مناف، ودرّته على سفهائهم.
قال ابن السّمّاك: ما المشتار الجنيّ، مع الرّازقيّ
الشهيّ، بأحبّ إلى الفاجر الشقيّ، من أن يغتاب المؤمن التقيّ.
هكذا قال: المشتار، وقد جاء في شعر عديّ بن زيد،
والمشهور: شرت العسل فهو مشور.
أهدي إلى عمر بن عبد العزيز تفاحٌ لبنانيّ، وكان قد
اشتهاه، فردّه، فقيل له: قد بلغك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأكل
الهديّة، فقال عمر: إنّ الهدية كانت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هديّة،
ولنا رشوة.
قال المبرّد: مات ابن عمٍّ لأبي محلّم السّعدي يقال له
الخليل بن أوس من أهل عسكر مكرم وخلّف عشرين ألف دينار فأوصى بها لأبي محلّم،
وقال: من يرثني غيره؟ فدفعوا المال إليه فأبى أن يأخذه وقال: من هذا العلج حتى
أرثه؟ والله ما وشجت بنا رحمٌ، فقال أبو هفّان: يا رقيع، خذ المال وارجع قرشيّاً
إن شئت أو تميمياً، فكلٌ أحدٍ يقبلك ويحلف عنك، فأبى، فقال أبو العيناء: رغبت يا
أبا محلّم في الدعوة حين زهد الناس فيها، وزهدت في المال حين رغب فيه الناس، قال
المبرّد: وعنّفته في ترك المال فما قبل فغاطني فقلت: الوافر المجزوء
يقول دعيّ سعدٍ حي ... ن لم يرني وقد أمنا
أنا السّعديّ إن سكتوا ... فقلت له وأين أنا
ذكر المعتضد بين يدي المبرّد فقال: هو كما قال الأخطل:
الكامل
تسمو العيون إلى إمام عادلٍ ... معطى المهابة نافعٍ
ضرّار
وترى عليه إذا العيون رمقنه ... سمة الحليم وهيبة
الجبّار
قال المبرّد: قال لي عمارة بن عقيل وكانت في يدي كأسٌ
مائلةٌ: إنّ كأسك لعلى عدواء.
قال: قال ابن الأنباري، قال المبرّد: حذفوا الهاء من طالق لأنّه
بمعنى شخص طالق، وكذلك رجلٌ ضحكة، وأبطل أصحاب الفرّاء هذا وقالوا: يلزمه أن يقول: زيدٌ قائمةٌ على
معنى: نسمة قائمة، وهذا محال.
قال عبد الصّمد بن المعذّل: الرجز
يا ربّ إن كنت ترى المبرّدا ... إن قاس في النّحو قياساً
أفسدا
ويكسر الشّعر إذا ما أنشدا ... وإن تحسّى الكأس يوماً
عربدا
فاقدر له حيّة قفٍّ أسودا ... أنيابه عوجٌ كأمثال المدى
لو نكز الفيل العظيم الأربدا ... بنابه جرّعه كأس الرّدى
رأى فيلسوف معلّماً يعلّم جاريةً ويعلّمها الخطّ فقال:
لا تزد الشرّ شرّاً.
ورأى جاريةً تحمل ناراً فقال: نارٌ على نار، والحاملة
شرٌّ من المحمولة.
ورأى مرةً امرأةً قد حملها السّيل فقال: زادت على كدرٍ
كدراً، والشرّ بالشرّ يهلك.
ورأى امرأةً في ملعبٍ فقال: ما خرجت لترى ولكن لترى.
وسمع رحلاً يذكره بسوءٍ فقال: ما علم الله منّا أكثر
ممّا تقول.
ورأى امرأةً تبكي على ميتٍ فقال لها: إن كان من رأيك
معاودة الأكل والشّرب فلا تبكي، وإن كان رأيك الصبر عنهما فعليك بالبكاء.
ورأى امرأةً عوراء تصنع نفسها فقال: نصف الشرّ شرّ.
قال الزّبير بن بكّار: اسم كلّ طعام يدعى عليه الجماعة:
العرس، والإعذار، والخرس، والوكيرة، والنقيعة، والعقيقة، والمأدبة؛ فالعرس: طعام
الوليمة، يقال: أولم على أهله؛ والإعذار: طعامٌ يتخذه الرجل لإعذار الصبيّ وهو ختانه؛
والوكيرة: طعام يتّخذه إذا بنى داراً؛ والنّقيعة: ما يتّخذ من جنب عرض المغنم قبل
أن يقسم؛ والعقيقة: طعامٌ يتّخذ إذا عقّ عن الصبي أي حلقت عقيقته، والعقيقة: شعر
رأس الصبيّ إذا ولد.
للزّبير بن بكّار: الرجز
إن مطايا الحين أشباهٌ ذلل ... وطال ما قد غرّ بالسّهو
الأمل
وإنّ حزب الله إخوانٌ وصل ... على الثأى لا خانةٌ ولا
خذل.
لأحمد بن المعذّل: الرجز
أيّتها النفس اسمعي لقيلي ... أنت من الحياة في أصيل
وأنت صبّ الأمل الطويل ... فلا يغرّنك مدى التأميل
وقد دنت شمسك من أفول
سألت السّيرافي عن الزّنباع ما هو، قال: السّيّء الخلق
والنون زائدةٌ.
لأبي الوليد الحارثي، وهو عبد الملك بن عبد الرحيم:
الطويل
لعمري لقد بلّغت قومي أناتهم ... وأمهلتهم لو يرعوون
لممهل
وأسمعتهم رفع النداء فأعرضوا ... بأسماعهم عن قول عانٍ
مكبّل
وما بهم أن لست من سرواتهم ... ولكنّ من يعثر به الدهر
يخذل
أساءوا فإن أشك الإساءة منهم ... أعبهم وإّلا أشكهم
أتململ
فما أنصفتني في الحكومة أسرتي ... ولا عدلوا عنّي هواهم
بمعدل
لقوا وجه إجمالي بوجه إساءتي ... وما اعتدلت حالاً مسيءٍ
ومجمل
قال عبد الكريم بن أبي العوجاء في وصف قوم: واله للحكمة
أزلّ عن قلوبهم من المداد عن الأديم الدّهين.
قال يحيى بن خالد: رأيت شرّيب خمرٍ نزع، ولصّاً أقلع،
وصاحب فواحش راجع، ولم أر كاذباً رجع.
وقال يحيى بن خالد: ما سقط غبار موكبي على لحية أحدٍ
إّلا أوجبت حقّه.
ليحيى بن خالد: الكامل
اللّيل شيّب والنهار كلاهما ... رأسي بكثرة ما تدور
رحاهما
يتناهبان نفوسنا ودماءنا ... ولحومنا جهراً ونحن نراهما
والشّيب إحدى الميتتين تقدّمت ... أولاهما وتأخّرت
أخراهما
وقّع يحيى بن خالد في رقعة رجلٍ مليح الخطّ، رديء
الكلام: الخطّ جسمٌ روحه الكلام، ولا ينتفع بجسمٍ لا روح فيه.
قيل لابن سيّابة: ما نظنّك تعرف الله، قال: وكيف لا أعرف
من أجاعني وأعراني وأدخلني في حر أمّي.
قال عتبة الأعور في سيّابة والد إبراهيم، وكان حجّاماً:
المنسرح
أبوك أوهى النّجاد عاتقه ... كم من كميٍّ أدمى ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثائرٍ على وجل
قال أبو حاتم، قال الأصمعي: أخذ يحيى بن خالدٍ بيدي
فأقدمني على قبرٍ بالحيرة فإذا عليه مكتوبٌ: السريع
إنّ بني المنذر عام ابتنوا ... بحيث شاد البيعة الراهب
تنفح بالكافور أردانهم ... وعنبرٍ يقطبه القاطب
والخبز واللحم لهم راهنٌ ... وقهوةٌ راووقها ساكب
والقطن والكتّان أثوابهم ... لم يجب الصّوف لهم جائب
فأصبحوا أكلاّ لدود الثّرى ... والدّهر لا يبقى له صاحب
كتب رجلٌ إلى يحيى بن خالد رقعةً فيها: الطويل
شفيعي إليك الله لا شيء غيره ... وليس إلى ردّ الشّفيع
سبيل
فأمره بلزوم الدّهليز، فكان يعطيه في كلّ صباحٍ ألف
درهم، فلمّا استوفى ثلاثين ألفاً مضى، فقال يحيى: والله لو أقام إلى آخر العمر ما
قطعتها عنه.
أنشد ثعلب: المتقارب
فلمّا بصرنا به طالعاً ... حللنا الحبى وابتدرنا القياما
فلا تنكرنّ قيامي له ... فإنّ الكريم يجلّ الكراما
قال الصّولي: كمّأ عند ثعلب فغضب على المدائني النّحوي
ثم سكن بعد إفراطٍ فقال: عوتب العتّابيّ في مخاصمة رجلٍ وقد زاد في القول فقال:
إذا تشاجرت الخصوم، طاشت الحلوم، ونسيت العلوم.
قال العنزي: أنشدني شيخٌ من أسارى بني نمير أيام الواثق
وهو مشورٌ على بعير مع جماعةٍ: الوافر
للبسي برنسي ونقاء عرضي ... أحبّ إليّ من جدد الثّياب
يروح المرء مختالاً بطيناً ... نقيّ الثّوب مطبوع الإهاب
فقلت له: ما مطبوع الإهاب؟ فقال: منطوٍ على بخور.
قال أبو العيناء: كلام ابن المقفّع صريح، ولسانه فصيح،
وطبعه صحيح، كأنّ كلامه لؤلؤٌ منثور، أو وشيٌ منشور، أو روضٌ ممطور.
وقال أيضاً: حدّثني رجلٌ من قريش قال: لقيت النسّابة
البكريّ بمنىً فقلت: أيّ الشعراء أغزل؟ فقال: أصدقهم وجداً الذي إن سمعت شعره أويت
لقائله، أما نفث في سمعك قول حجازيّكم عبد الله جدعان النهدي، واستخفّه مرةً الوجد
فقال وكان فارّاً في بلاد فزارة: الوافر
بكى وأقرّه الشمل الشّتيت ... وأسعدت الجبال به المروت
حجازيّ الهوى علقٌ بنجدٍ ... جويٌّ ما يعيش ولا يموت
تغاديه الهموم لها أجيجٌ ... ويسلمه إلى الوجد المبيت
كأن فؤاده كف غريق ... يمدها بشط البحر حوتُ
لهندٍ منك عينٌ ذات سجلٍ ... وقلبٌ سوف يألم أو يفوت
إذا اكتنفا بضرهما سقيماً ... فليس على شفائهما مقيت
دعا عيسى بن علي ابن المقفّع إلى الغداء فقال: أعزّ الله
الأمير لست يومي أكيلاً للكرام، قال: ولم؟ قال: لأنّي مزكومٌ، والزّكمة قبيحة
الجوار، مانعةٌ من معاشرة الأحرار.
وكان ابن المقفّع يقول: إذا نزل بك مكروهٌ فانظر، فإن
كان له حيلة فال تعجز، وإن كان مما لا حيلة له فلا تجزع.
قال الأصمعي: قال ابن المقفّع لبعض الكتّاب: إيّاك
والتّتبّع لوحشيّ الكلام طمعاً في نيل البلاغة، فإنّ ذلك العيّ الأكبر.
قال العتبيّ: قال ابن المقفّع: إنّ مما يسخّي بنفس
العاقل عن الدنيا علمه بأنّ الأرزاق لم تقسم فيها على قدر الأخطار.
قال أبو سنان الغسّاني: كنت جالساً مع وهب بن منبّه إذ
جاء عطاءٌ الخراساني فجلس معنا، فقال له وهب: ويحك يا عطاء، تأتي من يغلق عليك
بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه، ويظهر لك غناه
ويقول: ادعوني استجب لكم؟! ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك فإنّ أدنى ما فيها
يغنيك ما يكفيك فإنّ أدنى ما فيها يغنيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس فيها شيءٌ
يغنيك. ويحك يا عطاء، إنّما بطنك بحرٌ من البحور، ووادٍ من الأودية لا يملأه إّلا
التراب.
قال وهب: وجدت في بعض الكتب: من استغنى بأموال الفقراء
افتقر بها، وكلّ بيتٍ بني بقوت الضعفاء جعل آخره خراباً.
قال وهب: بينما ركبٌ يسيرون إذ هتف بهم هاتف: الطويل
ألا إنّما الدّنيا مقيلٌ لرائحٍ ... قضى وطراً من حاجةٍ
ثم هجّرا
ألا لا ولا يدري على ما قدومه ... ألا كلّ ما قدّمت تلقى
موفّرا
قال وهب: وجدت في بعض الكتب: الدّنيا غنيمة الأكياس،
وعطيّة الجهّال.
قال وهب: قرأت في بعض الكتب: كلّ حيٍّ ميتٌ، وكلّ جديدٍ
بالٍ.
قال عروة بن رويم اللخمي: إنّ يهوديّاً يقال به حنين نخس
بامرأةٍ مسلمةٍ حماراً فقمص فصرعها فوقعت فانكشفت، فكتب إلى عمر فكتب: ليس على هذا
صالحناهم، قد خلع ربقة الذّمة من رقبته فاصلبوه حياً. فلمّا نصب على خشبةٍ أتته
امرأته وعليه خفّان جديدان فقالت: الآن تموت فما تصنع بالخفّين؟ فاجترّتهما عنه
فجعل الناس يقولون: انقلبت بخفّي حنين.
ويعقوب بن السّكّيت قد قال غير هذا، ولكن قرأت هذا في
أخبار المفجّع.
وقال ثعلب: من قرأ " جمع مالاً " بالتخفيف
جمعه مرةً واحدةً، ومن قرأ: " جمّع مالاً " جمعه مرةً بعد مرةً، ومن
قرأ: " وعدّده " جعله عدّةً، ومن قرأ: " وعدده " أراد أهله وناصريه.
قيل لصوفيّ: ما مثال الدنيا؟ قال: هي أقلّ من أن يكون
لها مثل.
يقال: حفشت الأدوية إذا سالت كلّها، وحفشت المرأة على
زوجها إذا أقامت عليه ولزمته، والحفش أيضاً: البيت القريب السّمك من الأرض.
وقال: الأسلوب: السّطر من الشّجر. هذا كلّه قاله المفجّع.
وأنشد: الوافر
أتته وهي جانحةٌ يداها ... جنوح الهبرقيّ على الفعال
والفعال بكسر الفاء: نصاب الفأس، وأما الفعال بالفتح
فالكرم، هكذا قال الناس.
قيل لناسكٍ: ما الحيلة؟ ترك الحيلة.
وصف أعرابيٌّ قوماً فقال: كأنّ خدودهم ورق المصاحف،
وكأنّ أعناقهم أباريق الفضّة، وكأنّ حواجبهم الأهلّة.
قال أبو حازم الأعرج: الدّنيا غرّت أقواماً فعملوا فيها
بغير الحقّ، ففاجأهم الموت فخلّفوا مالهم لمن لا يحمدهم، صاروا إلى من لا يعذرهم،
وقد خلفنا بعدهم، فينبغي أن ننظر إلى الذي كرهناه فنجتنبه، والذي غبطناهم به فنستعمله.
كتب الجاحظ في الملح: المزح متفاوت الأشكال في السّخف،
كما أنّ الجدّ متفاوت الأقدار في الوزن، فلم نقصد إلى الباطل، ولا إلى ما لا يردّ
نفعاً في عاجل، ولا مرجوع له في آجل، بل إنّما أردنا أن يكون ذلك الضحك إجماماً
للقوّة، وتنشيطاً على العمل، وقد حكى الله تعالى عن اليهود قولهم " يد الله
مغلولةٌ " وإنّ الله فقيرٌ وهم أغنياء، فكانت الحكاية كفراً مسخوطاً، وكذباً
مرفوضاً، ولست تعرف فضل النعمة عليك في حسن البيان حتى تعرف شدّة البليّة في قبح
العيّ، ومتى سمعت التهكّم في القول، عرفت فضل النّعمة في الاقتصاد، ومن لم يعرف
السّوء لم يجتنبه، ومن لم يعرف الإضاعة لم يعرف الحزم. وقيل لعمر: فلانٌ لا يعرف
الشرّ قال: ذاك أجدر أن يقع فيه؛ قال النابغة: الطويل
ولا يحسبون الشرّ لا شرّ بعده ... ولا يحسبون الشرّ ضربة
لازب
ولآخر: الطويل
ولا يحسبون الشرّ حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الخير إّلا
تدبّرا
وكانت العرب تقول: نعوذ بالله من الرأي الدّبريّ؛ وقال
جثّامة بن قيس: البسيط
وقلّما يفجأ المكروه صاحبه ... حتى يرى لوجوه الشّرّ
أسبابا
كاتب:
فكيف لي في دهرٍ قد درست فيه أعلام الكرم، وعفت معالم
الخير، وانقطعت موادّ النّبل، وصار الشّرّ وسيلةً، والدناءة ذريعةً، واللؤم حزماً،
والجود ضعفاً.
قال أعرابيّ لصاحبٍ له: لست أقتضي الوفاء بكثرة الإلحاح
فأثقل عليك، ولا أقابل الجفاء بترك العتاب فأغتنم القطيعة منك.
قال أعرابيٌّ ليحيى بن خالد: لولا أنّك أمسكت من رمق
المكارم لقامت عليها المآتم.
قال أعرابي: من كان لأهله كهفاً انسدّ، وجبلاً انهدّ،
ونجماً انقضّ، وعزاً تقوّض.
كاتب:
الحمد لله الذي أعقب العبرة بالحبرة، وأبدل التّرحة
بالفرحة، ووصل المصيبة بالموهبة، وجبر الرزيّة بالعطيّة، وفي كتاب الله سلوةٌ من
فقدان كلّ حبيب وإن لم تطب النفس به، وأنسٌ من كلّ فقيدٍ وإن عظمت اللّوعة به.
كاتب: كتابي عن قلبٍ باخع، وطرفٍ دامع، وفؤادٍ لائع.
قيل: لم صار الأحدب أخبث الناس؟ قال: لأنه قرب فؤاده من
دماغه، وقربت كبده من دماغه، فلمّا تقارب الأعضاء كان أخبث الناس.
قال بعض الصّالحين: كنّا نستعين على حفظ العلم بحسن
العمل.
قال بعض الأطبّاء: اعلم أنك تأكل ما تستمري، وما لا
تستمريه فهو يأكلك.
نظر أعرابيٌّ إلى رجلاً يغسل يده فقال: أنقها فإنّها
ريحانة وجهك.
وقيل: أقلل طعامك، تحمد منامك.
وقال أعرابيّ: ممّا يزيد في طيب الطعام مؤاكلة الكريم
الودود.
وأنشد لإسماعيل بن صالح بن علي الهاشمي: السريع
يا من رماني الدّهر من فقده ... بفرقةٍ قد شتّتت شملي
ذكرت أيام اجتماع الهوى ... وقرّةً للعين بالوصل
ونحن في غرّة دهرٍ لنا ... نطالب الأيام بالذّجل
فكدت أقضي من قضاء الهوى ... عليّ بعد العزّ بالذّلّ
وليس ذكري لك عن خاطر ... بل هو موصولٌ بلا فصل
هذا البيت المعنى، وله كتبنا ما تقدّمه، فلا تضجرنّ من
الشّعر، فلم نحبّ أن ينوب عنه النّثر، وإن راع ظاهره وحسن.
سمع أعرابيٌّ في الطّواف يقول: يا أنيس المفردين، حططت
رحلي بفنائك، وأنفذت زادي في لقائك، واستسلمت لقضائك، فما الذي يكون من جزائك؟
اجعل حظّي من وفادتي عتق رقبتي من النّار.
قال الأوزاعي: دع لأهل البصرة خصلتين وهما: القول بالقدر،
والرّخصة بالخضخضة، واللتان لأهل الكوفة: تأخير السّحور، وشرب النبيذ، ولأهل مكة
خصلتين وهما: الظّرف والمتعة، لأهل المدينة: السماع وإتيان النساء في أدبارهن،
واللتان لأهل الشام: إيثار السلطان وبغض بني هاشم.
يقال: من أخذ باختلاف الفقهاء في الأحكام فسق، ومن أخذ
بغرائب المحدّثين كذّب، ومن أخذ بدقائق المتكلمين كفر.
قال الحسن البصري: أربعٌ قواصم للظهر: إمامٌ تطيعه
ويضلّك، وزوجةٌ تأمنها وتخونك، وجارٌ إن علم خيراً ستره أو شرّاً نشره، وفقرٌ
حاضرٌ لا يجد صاحبه عنه متلدّداً.
سأل أعرابيٌّ الحكم بن عبد المطّلب فأوسعه خيراً، فبكى
الأعرابي فقال: ما يبكيك؟ قال: إنّي والله أنفس بك على الأرض أن تأكلك.
قال أبو بكر الصدّيق: أشقى الناس في الدنيا الملوك،
فتغامز القوم فقال: أما علمتم أنّ الملك إذا ملك قصر أجله، ووكّلت به الروعة
والحزن، وكثر في عينه قليل ما في يد غيره، وقلّ في نفسه كثير ما عنده.
قال إسحاق: وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: كان والله مطلول
المحادثة، ينبذ الكلام إليك على أدراجه كأنّ في كلّ ركنٍ من أركانه قلباً.
مطلول: من الطّلّ.
قال الفرّاء في النّوادر: أنشدني أبو صدقة الزّهري
لفلان: الكامل
إنّي عجبت لكاعبٍ مردونةٍ ... أطرافها بالحلي والحنّاء
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم
القرّاء
قالت أزيدٌ أنت ما لك هكذا ... كالعبد مطليّاً بأيّ طلاء
كالقار لونك أو طليت برامكٍ ... أو مسّ جلدك هانئٌ بهناء
لا تعجبي منّي فدىً لك واسمعي ... أخبرك ما ينأى من
الأنباء
أخبرك أنّ وضاءتي في ميعتي ... وغرارتي في عدّةٍ ونماء
إنّ الجميل يكون وهو مقصّرٌ ... والقوم فيما تمّ غير
سواء
والمرء يلحقه بفتيان النّدى ... خلق الكريم وليس
بالوضّاء
الوضّاء والحسّان والكرّام والكبّار، من الوضيء والحسن
والكريم والكبير.
قال ثعلب: اشتكى الوليد عبد الملك وبلغه قوارص وتعريضٌ
من سليمان بن عبد الملك وتمنّ لموته لما له من لعهد بعده، فكتب إليه يعتب عليه وفي
آخر كتابه: الطويل
تمنّى رجالٌ أن أموت وإن أمت ... فتلك طريقٌ لست فيها
بأوحد
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم ... لئن متّ الدّاعي عليّ
بمخلد
منيّته تجري لوقتٍ وحتفه ... سيلحقه يوماً على غير موعد
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى ... تهيّأ لأخرى مثلها فكأن
قد
فكتب إليه سليمان: قد فهمت ما كتب به أمير المؤمنين،
فوالله لئن تمنّيت ذلك، تأميلاً لما يخطر في النفس، إنّي لأوّل لاحقٍ به، وأول
منعيّ إلى أهله، فعلام أتمنّى ما لا يلبث من تمنّاه إّلا ريثما يحلّ السّفر بمنزلٍ
ثمّ يظعنون عنه؟ وقد بلغ أمير المؤمنين ما لم يظهر على لساني، ولم ير في وجهي، ومتى
سمع من أهل النّميمة، ومن لا رويّة له، أسرع ذاك في فساد النيّات، والقطع بين ذوي
الأرحام، وكتب في آخر كتابه: الطويل
ومن يتتبّع جاهداً كلّ عثرةٍ ... يصبها ولا يسلم له
الدهر صاحب
فكتب إليه الوليد: قد فهم أمير المؤمنين كتابك فما أحسن
ما اعتذرت به، وحذوت عليه، وأنت الصّادق في المقال، الكامل في الفعال، وما شيءٌ
أشبه بك من اعتذارك، وما شيءٌ أبعد منك من الشيء الذي قيل فيك، والسلام.
227ب - روى هذا ثعلب في المجالسات، وكان أبو بكر ابن
مقسم يرويها، وسمعتها وهي تقرأ عليه اثنتين وخمسين، وعاش بعدها وكان شيخاً مكفوفاً
حين لحقته، ولم أر شيخاً أوطأ منه ولا أهدأ، وله قراءاتٌ اختارها وأنكر الناس عليه
ذلك، وله ملحمةٌ، وأكثر الناس يقولون: ظلم في هذه القصّة كما ظلم ابن شنبوذ حين
آذاه ابن مجاهد، وذلك أن ابن شنبوذ وابن مقسم لم يقرأا ما قرأا بالأثر والحجّة والرّواية،
ولم يخترعا ولم يختلقا، ولم ينزل الله تعالى اختيار ابن مجاهد من السماء، وإنّما
اجتهد كما اجتهد من تقدّم، فليت شعري ما الذي هاجه على محاربة ابن شنبوذ حين قرأ
" إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم "
مكان: العزيز الحكيم، وحين قرأ ابن مقسم في وصف فرعون " إنّه كان من الغالين "
بالغين معجمةً وقال: لا أصفه بالعلّو بل الغلّو، لأنّ الله تعالى قد نهى عن الغلّو
في قوله " لا تغلوا في دينكم " ، وهذا النّهي وإن توجّه إلى أهل الكتاب
فإنّ المعنى فيه يعمّ الخلق، لأنّ العلّة قائمةٌ والحجّ بينة. ولابن مقسم في
القرآن كتاب يسميه الأنوار يقدّم على كتب كثيرة.
227ج - أما أنا فلم أر في القرآن كتاباً أبعد مرمىً، ولا
أشرف معاني من كتابٍ لأبي زيد البلخي، وكان فاضلاً يذهب في رأي الفلاسفة، ولكنّه
تكلّم في القرآن بكلامٍ دقيق لطيف، وأخرج سرائر ودقائق وسمّاه نظم القرآن، ولم يأت
على جميع المعاني المطلوبة منه. وللكعبيّ أبي القاسم كتابٌ في التفسير يزيد حجمه
على كتاب أبي زيد، ومات أبو زيد في سنّي نيّف وثلاثين وثلاثمائة، ويقال له جاحظ
خراسان. لمّا ظهر أحمد بن سهلٍ أراده على الوزارة فأبى، فوزّر أبو القاسم، وكتب
أبو زيد، وهلك أحمد عن عمرٍ قصير.
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا كانت في رجلٍ
خلةٌ من خلال الخير غفر له ما سواها لها، ولا أعطي فقد دينٍ ولا عقل، لأنّ فقد
الدين خوفٌ،ولا عيش لخائفٍ، وفقد العقل موتٌ، ولا يعايش ميت.
هذا رواه لي بعض المجوس لبزرجمهر، ورواه لي بعض العلويّة
لجدّه، ورواه لي آخر مرسلاً، والله أعلم وأحكم بالصواب، فالحكمة نسبتها فيها،
وأبوها نفسها، وحجّتها معها، وإسنادها متنها، لا تفتقر إلى غيرها ويفتقر إليها،
ولا تستعين بشيءٍ ويستعان بها؛ نسأل الله البرّ الكريم الرؤوف بالعباد أن لا يجعل
حظّنا منها القول دون الفعل، والهداية دون الاهتداء.
سئل عليّ بن الحسين رضي الله عنهما: لم أوتم النبيّ صلّى
الله عليه وآله وسلّم من أبويه؟ قال: لئلاّ يوجب عليه حقٌّ لمخلوق. هذا معنىً
لطيف، وأظنّ أنّه يحتاج إلى تفسير.
وقال موسى بن جعفر رضوان الله عليهما: ظنّي بالله حسن،
وبالنبيّ المؤتمن، وبالوصيّ ذي المنن، وبالحسين والحسن.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله::أكّالون
للسّحت " : هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديّته.
وقيل عن عليٍّ رضي الله عنه في قوله جلّ ثناؤه: "
وفار التّنّور " ، هو: أسفر الصبح. وهذا غريبٌ جداً وما أحبّ أن أثق بكلّ غريبٍ،
لأنّ القصّة في التنّور أظهر من أن يحمل اللفظ على المجاز بغير حجةّ، ويعدل عن
المعنى الظاهر بغير بيان، ولو جاز لشنع القول وشاع الظنّ.
يقال: ما العثم، والعتم، والعجم، والعذم، والكظم،
والعلم، والكتم، والعظم، والقصم، والرّقم، والوقم، والوسم، والوشم، والهتم،
والطّعم، والرّشم، والغشم.
ويقال: ما الحقّ، والزّقّ، والدقّ، والرّقّ، والشّقّ،
والعقّ، والنّقّ.
ويقال: ما الشّطّ، والبطّ، والخطّ، والحطّ، والغطّ،
والقطّ، والعطّ، والمطّ، والأطّ.
نصل هذه الأحرف بالجواب قبل أن نتعرض فيها إلى ما يشغل
عنها، ويبعد منها: أما العثم ففساد الجرح؛ وأما العتم - بالتاء - فهو البطء،
ويقال: جاءنا عاتماً، ومنه اشتقّت العتمة؛ وأما العجم فهو العضّ - بسكون الجيم -
وأما العجم فالنّوى، والعجم: ضدّ العرب، وأعجمت الكتاب - بالألف - وعجمت الكتااب
إذا رزته، والعجمة: سوء الفهم؛ العذم: التّوسّع في الأكل؛ وأما الكظم فحبس النّفس
عند الغيظ؛ وأمّا العلم فمصدر علمت الشيء بالعلامة وعلمت، وأمّا المعلم - بكسر
اللام - فالفرس ذو العلامة، وأمّا العلم فهو سمة الشيء وعلامته، ولا يكون علماً
إّلا بالإضافة إلى النّفس العالمة، والعالم هو الذي قد علم أي صار ذا علامةٍ
بالحقّ، وأعلمت فلاناً خبراً كأنّك وسمته بالعلامة؛ والكلام في هذا النّمط يطول،
وعن غرض الكتاب يخرج؛ وأما الكتم فمصدر كتمه، والكتمان الاسم، والكتم - بحركة
التاء - ما يخصب به الشّعر، وذلك لأنّه يكتم البياض؛ وأما العظم فمعروف، وسمعت من
يقول: إنّ العظم في الشيء العظيم يشار به إلى هذا، والكالم بعضه دائرٌ إلى بعض؛
وأمّا الرقم فالعلامة، والرّقيم: المرقوم، والرّقوم جمع رقيم، وهي العلامات على
الثّياب وغيرها، وفي الأمثال: فلانٌ يرقم على الماء، يشار به إلى حذقه وتلطّفه وسحره
واحتياله؛ وأما الوقم فمصدر وقمت عدوّك إذا ذلّلته، والأمر منه: قم يا هذا، كقولك
في وجم إذا طرقته كآبةٌ: جم يا هذا، وبابه باب وعد يعد، ووصف يصف، لأنّ الواو
فاتحة هذه الألفاظ فهي تزول في الأمر لضعفها، والعدوّ موقومٌ كما ترى، وأنت
الواقم؛ وأمّا الوسم فالعلامة، تقول: سم يا هذا ناقتك، والسّمة: الاسم، والسّمة
والسّم أيضاً - بالتخفيف - علامة، لأنّ عين الشيء توجد عاريةً من الدائر عليه
المشار إليه؛ وأمّا الوشم فالغرز في الكف، وفي الخبر: لعن الله الواشمة
والمستوشمة؛ وأما الهتم فمصدر هتمت فاه أي كسرته، والأهتم: الرجل، والفاعل هتمٌ،
والمفعول مهتومٌ؛ وأمّا الطّعم فما يوجد في اللّهوات من المآكل، وبضم الطاء هو
المطعوم، وتقول: فلانٌ طيّب الطّعمة، وفلانٌ خبيث الطّعمة تريد الحلال والحرام،
وإن أردت غير ذلك جاز مجازاً؛ وأمّأ الرّشم فإنّك تقول: رشمت كذا وكذا إذا جعلت
عليه علامةً، وسمعت بدوياً يقول لآخر: والله لأرشمنّك بأنيابٍ، أي لأهجونّك، هكذا
دلّ كلامه لأن صاحبه طالبنا بخفارةٍ فنهاه هذا القائل فلم ينته فتوعّدنا؛ وأمّا الغشم
فالظّلم، والغاشم الفاعل.
ونقول في بابٍ آخر على اختصار، فإنّ الكلام مترادّ،
والملل معترضٌ، والشهوة في طلب العلم فريضةٌ، والعائق قائمٌ.
يقال:
ما الحقّ: هذا الاسم شهرته يغني عن الإفصاح، وسيمرّ في
نظائره أوضح ممّا يمرّ ها هنا إن شاء الله؛ وأما الزّقّ فمصدر زقّه يزقّه زقّاً،
والزّق لأنّه كان مزقوماً، وكذلك الزّقاق، وأما الزّقاق فجمعٌ؛ وأما الدّقّ فمشهورٌ؛
وأما الرّقّ فما يكتب فيه، والرّقّ أيضاً: ذكر السلاحف، والرّقّ - بالكسر - : خلاف
العتق؛ والشّقّ: مصدر شققت الثوب والطريق والعود، وأشققت أيضاً، وأما الشّقّ: فنصب
النّفس والبدن، ومنه قوله تعالى: " لم يكونوا بالغيه إّلا بشقّ الأنفس "
ويقال: المال بيني وبينك شقّ الأبلمة " ومن يشاقق الله " من هذا، ويقال:
في رجله شقوقٌ، ولا يقال: شقاق، والشّقائق والشّقاق معروفان، والشّقّة الطريق الذي
يشقّ على سالكه لبعده؛ وأمّا العقّ: فالشّقّ أيضاً وهو كا لقطع ولهذا يقال عق فلان
أمة أي شق رحمها.
والعقيقة: شعرات رأس الوليد؛ وأمّا النّقّ فمصدر نقّ
الضفدع إذا صاح، وفي الخبر: إن نقيقهنّ تسبيحٌ.
ونصل الكلام بما تلاه من هذه الحروف ثمّ نخرج إلأى ما
جرى الرّسم به من النّثر والنّظم، فيوشك أن يكون هذا التطويل جالياّ لضيق الصّدر
ومانعاً لاستعمال العلم: وأمّا الشّطّ فحرف الوادي، وهو أيضاً شقّ السّنام، ولكلّ
سنامٍ شطّان كأنهما ناحيتان، وكذلك حرف الوادي. وأمّا البطّ فالوزّ، وهو أيضاً شقّ
القرحة، والقرحة مبطوطةٌ؛ وإمّا الخطّ فما يخطّ الكاتب، والفرق بين الكتابة والخطّ
أنّ الخطّ قد يكون كتابةٍ، والكتابة لا تكون خطّاً. وأمّا الحطّ: فمصدر حطّ السّعر
وانحطّ: إذا نزل، خلاف قولك: غلا، والسّعر سمّي سعراً للحرارة، ألا ترى أن السّعر
- بفتح السين - مصدر سعرت النار إذا أضرمتها، قال الله تعالى: " وإذا الجحيم
سعّرت " وفلانٌ مسعر حربٍ أي تهيج به الحرب، والمستعار: ما تحرّك به النار،
كالمحراث؛ وأمّا الغطّ فمصدر غططته في الماء، وغتتّه أيضاً - بالطاء والتاء - وأنت
غاطّ وغات، وهو مغتوتٌ ومغطوطٌ؛ وأمّا القطّ فالضرب، ومنه قول ابن عائشة: كانت
ضربات عليٍّ أبكاراً، كان إذا اعتلى قدّ، وإذا اعترض قطّ، والقطّ - بالكسر -
الكتاب، هكذا قيل في قول الله تعالى: " عجّل لنا قطّنا " ؛ وأمّا العطّ
فالشّقّ، يقال: أديم معطوط، ورداءٌ معطوط، وأمّا المطّ فالمدّ؛ وأما الأطّ فمصدر
أطّ يئطّ: إذا تحرّك أو صاح، ومنه: أطّت بك الرّحم.
نظر رجلٌ دميمٌ في المرآة فولّى وجهه وقال: الحمد لله
الذي لا يحمد على المكروه غيره.
توفي ابنٌ لأعرابيّ فعزّاه بعض إخوانه فقال: لا يتهم
الله في قضائه، فقال: والله ما يتّهم غيره، ولا ذهب بابني سواه.
عري أعرابيٌّ فطلب خلقاناً فحرم، فتماوت، فجمعوا له ما
اشتروا به كفناً، ووضعوه عند رأسه، وذهبوا ليسخّنوا الماء، فوثب الأعرابيّ وأخذ
الثّياب ولم يلحق.
شكا مزبّدٌ ضيق حاله يوماً فقال له صاحبه: أحمد الله
الذي رفع السماء بالا عمد، فقال: ليته أصلح حالي وجعل على كلّ ذراعٍ عدّة أعمدة.
قال بعض الصّوفيّة: إذا كنت تحبّ الله وهو يبتليك فاعلم
أنّه سيعافيك.
يعرض من هذا المعنى عجبٌ عاجب، فلولا أنّ الله تعالى
يفعل ما يفعل من وراء عقل العاقل، وفوق معرفة العارف، لكان البال يتقسّم من هذا
وشبهه، ولكان من أنعم النظر علم أنّ الله تعالى أوضح ما أوضح تسويغاً إلى الاعتراف
به، وستر ما ستر استئثاراً بحقائقه، فالعقول بآثاره مشوقة، وعن حقائق الغايات
معوقة، فمن أهمل ما ظهر فقد جهل الممكن، ومن بحث عمّا بطن فقد حاول الممتنع، أخبرك
مكنون غيبه فيك، وخبرك في ظاهر إعلامه لك، فكان الإخبار لمكان الإلهيّة، وكان
الإعلام لمكان العبوديّة، فلا تدع عبوديّةً هي قائمةٌ بك ومنطويةٌ فيك، لإلاهيةٍ
غائبةٍ عنك عاليةٍ عليك، فاستقين أنّك مطلق الظاهر، مأسور الباطن، مخيّر العلانية،
مملوك السّرّ، ولو تمكّنت كلّ التّمكّن كنت غنيّاً بنفسك، مستقلاًّ بشأنك، ولو
حصرت كلّ الحصر كنت غير مخاطب ولا مطالب، وإن أفنيت حالك بين اختيارٍ ظهر لك،
واضطرارٍ بطن فيك. ثمّ قوّم اختيارك بالاحتجاج عليك، ورفع اضطرارك بالجهل عنك،
وصرت ترى إساءتك فتندم، وتشهد حسنتك فتفرح، ولو جبرنا بالجبر ما وجدت ندامةٍ ولا
فرحاً، ولو تمنّينا بالاختيار ما سألت التوفيق، فهو أمرٌ مسندٌ إلى الله تعالى
لعلمه الغائب عنك. وقوّم - أيّدك الله - توحيدك، وصحّح عقيدتك، وصفّ فؤادك، وزكّ
عملك، واثبت لربّك على قدم الصّدق، واستقص حسابك على نفسك، فإنّ من تعرضه عليه لصيرٌ
بك، ومتى رأى استقصاءك أغضى، ومتى رأى إغفالك ناقش.
لأشجع: الطويل
فإن تك قد صدّت فخيرٌ من النّوى ... على كلّ حالٍ هجرها
وصدودها
فكن حيث كانت من بلادٍ فإنّه ... عسى بعد يأسٍ أن ينالك
جودها
تقرّب ما تهوى بحسن عداتها ... ويأبى علينا ليّها
وجحودها
وأطيب ريقٍ ريقها بعد هجعةٍ ... وأحسن شيءٍ مقلتاها
وجيدها
قال ثعلب: العرب تقول: رأيت حدائق وجناناً كأنّها حدائق
نخل، ورأيت جمعاً كأنّه سدّ ليل، ورأيت بارق سيوفٍ في أيدي قومٍ كأنّه بارق غيم،
ورأيت بكرةً كأنّها فتاة، ورأيت فتاةً كأنّها جمّارة، ورأيت رجلاً تحته بكرٌ لا
قحٌ كالعقرب، ورأيت جراداً كأنّه أعصاب العجاج، ولفيفاً من الناس مثل السّيل والليل،
ومررنا على إبل فلانٍ وكأنّ أسنمتها الصّوامع والهوادج، ورأيت رجلاً كأنّه رمحٌ
ردينيٌّ، وكأنّه الشّطن تاماً طويلاً، ورأيت سيفاً كأنّه شهاب، وكأنّه مقباس؛
ويقال: سيفٌ كأنّه العقيقة أي البرق - وكلّ منشقٍّ منعقٌّ - ورأيت درعاً كالنّهي،
وكحباب الماء؛ هذا كلّه قاله ثعلب في المجالسات.
أنشد الزّبير: البسيط
اصبر فكلّ فتىً لا بدّ مخترم ... والموت أيسر ممّا أمّلت
جشم
والموت أيسر من إعطاء منقصةٍ ... من لم يمت عبطةً
فالغاية الهرم
أنشد ثعلب: الرمل
بينما النّاس على عليائها ... إذ هووا في هوّةٍ منها
فغاروا
إنّما نعمة قومٍ متعةٌ ... وحياة المرء ثوبٌ مستعار
وقال في قوله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم
الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ
" ،
قال: إذا قال الكذب ردّه على الألسنة، والكذب مفعول به، قال: وقرئ الكذب ردّه على
ما قال.
قال ابن الأعرابيّ: لمّا وجه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة
المرّيّ لاستباحة أهل المدينة ضمّ عليّ بن الحسن رضوان الله عليهما إلى نفسه
أربعمائة امرأة يعولهنّ إلى أن انقرض جيش مسلم بن عقبة، فقالت امرأةٌ من قريش: ما
عشت واله بين أبويّ بمثل ذلك التتريف.
قال: ويقال: شعرٌ حجنٌ، معقّفٌ بعضه على بعض.
قال ثعلب، قال عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قال: أخرجوا
نهدكم فإنّه أعظم للبركة، وأحسن لأخلاقكم. وقال: العرب تقول: هات نهدك بكسر النون.
وقال " طرائق قدداً " ، الطرائق: السادة،
والقدد: المتفرّقون.
وقال: العبدة: الجلد، يقال: ثوبٌ ذو عبدةٍ إذا كان قوياً
جلداً.
قال: ويقال: عنّي عن الأمر إذا منع منه.
قال: وقال الزّبير: أنشدني سليمان بن داود المجمعي لعمر بن مدبر
العجلاني يرثي عبد العزيز بن مروان وأبا زبّان الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان:
الطويل
أبعدك يا عبد العزيز بحاجةٍ ... وبعد أبي زبّان يستعتب
الدّهر
فلا صلحت مصرٌ لخلقٍ سواكما ... ولا سقيت بالنّيل بعدكما
مصر
وأصبح مجراه من الأرض يابساً ... يموت به العصفور وانجدب
القطر
فمن ذا الذي يبني المكارم والعلى ... ومن ذا الذي يهدى
له بعدك الشّعر
وبعدك لا يرجى وليدٌ لنفعه ... وبعدك لا ترجى عوانٌ ولا
بكر
وأصبحت الزوّار بعدك أمحلوا ... وأكدى بغاة الخير وانقطع
السّفر
وكنت حليف العرف والمجد والنّدى ... فمتن جميعاً حين
غيّبك القبر
قال ثعلب: أنشدني عبد الله بن شبيب قال، أنشدني محمد بن
الحسن العقيليّ: البسيط
ما استضحك الحسن إّلا من نواحيك ... ولا اغتدى الطّيب
إلا من تراقيك
عن مقلتيك رأينا الحسن مبتسماً ... دهراً كما ابتسم
المرجان من فيك
يا بهجة الشّمس ردّي غير صاغرةٍ ... عليّ قلباً ثوى
رهناً بحبيّك
ما استحسنت مقلتي شيئاً فأعجبها ... إّلا رأيت الذي
استحسنته فيك
إذ منك يبتسم الإقبال عن غصنٍ ... لدنٍ ويضحك عن دعصٍ
تولّيك
وقال: بيوت العرب ستةٌ: قبّةٌ من أدم، ومظلّةٌ من شعر،
وخباءٌ من صوف، وبجادٌ من وبر، وخيمةٌ من شجر، وأقنةٌ من حجر.
قيل لأعرابيّ: أيّ شيءٍ ألذّ في العين؟ قال: نظرةٌ على
خطرة، قيل: فأيّ شيء أحلى في القلب؟ قال: كسر الجفون، ومراسلة العيون.
قال سفيان بن عيينة: أكبر الكبائر الشّرك بالله تعالى،
والقنوط من رحمة الله عزّ وجلّ، واليأس ن روح الله عزّ ذكره، والأمان من مكر الله
جلّ ثناؤه، ثم قرأ: " فلا يأمن مكر الله إّلا القوم الخاسرون " "
ومن يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة " " ولا ييأس من روح الله
إّلا القوم الكافرون " " ومن يقنط من رحمة ربّه إّلا الضّالّون " .
وقال: ثنتان منجيتان، وثنتان مهلكتان؛ فالمنجيتان النّهي
والنّيّة، قال: والنّيّة أن تنوي أن تطيع الله فيما تستقبل، والنّهي أن تنهى نفسك
عمّا حرّم الله عليك؛ والمهلكتان: العجب والقنوط.
سئل سفيان بن عيينة: هل حرّمت الصّدقة على أحدٍ من
الأنبياء قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقبل عترته الطّاهرة؟ قال: ألم تسمع قول
إخوة يوسف: " وتصدق علينا إنّ الله يجزي المتصدّقين " وهم لا يعرفون يوسف،
يريدون أن يتصدّق عليهم وعلى يعقوب.
سئل سفيان بن عيينة عن الكراهية لرفع الصوت وكثرة الكلام
عند الميت وفي الجنازة قال: لأنه الحشر إلى الآخرة، ألم تسمع قوله: " يومئذ
يتّبعون الدّاعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إّلا همساً "
فلتعظيم الموت استحبّ قلّة الكلام.
وسئل عن قوله صلّى الله عليه: " لا يضرّ المدح من
عرف نفسه " ، قال: ألم تسمع قوله " اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظٌ
عليمٌ " ، وقول العبد الصالح:
" إنّي لكم رسولٌ أمينٌ " ، أي لكم ناصحٌ
أمين، فمن عرف أنّ ما به من نعمةٍ فمن الله تعالى فال بأس " وأمّا بنعمة ربّك
فحدّث " ، وإن أثنى عليه غيره عرفت أنّ ذلك ستر الله تعالى ونعمته، ألم تسمع
قول الله تعالى: " وجعلنا لهم لسان صدقٍ عليّاً " ، وكان محمدٌ صلّى
الله عليه لسانه الذي أنطقه الله تعالى عنه، فأكذب من قال فيه غير الحقّ: "
إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين " ، وقال:
" ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانياً " ، فهذا اللسان الصّدوق. وقال
ابن مسعود: إنّي لأعلمكم بكتاب الله تعالى وما أنا بخيركم؛ وقال عليّ بن أبي طالب
رضي الله عنه: إنّ بين جنبيّ علماً جماً فسلوني قبل أن تفقدوني. فمن عرف أنّ الأمر
من الله تعالى لم يضّره المدح، لأنّه قد عرف نفسه، ولا يضرّ ثناءٌ من أثنى عليه
كقول عمر: اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً ممّا يظنّون.
هذا الكلام لأبي بكرٍ وقد رواه لعمر، والله أعلم بحقيقة
الخبر.
سئل سفيان بن عيينة عن قول مطّرفٍ: فإذا بدء الأمر من
الله، وتمامه بالله، وملاكه الدعاء، قال: ألم تسمع قوله تعالى: " ألا له
الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين، ادعوا ربّكم تضّرعاً وخفيةً " .
يقال: ما الكبر، والجبر، والنّبر، والدّبر، والسّبر،
والشّبر، والغبر، والعبر، والسّدر، والهتر، والغمر، والزّبر.
قال عبد الله بن جعفر: عيسى بن دأبٍ يكنى أبا الوليد،
وكان من رواة الأخبار والأشعار، وكان معلّماً، وكان من علماء الحجاز.
قال أبو عبيدة: أنشد ابن دأب: الهزج
وهم من ولدوا أشبوا ... بسرّ الحسب المحض
فبلغ أبا عمر بن العلاء فقال: أخطأت استه الحفرة، إنما
هو أشبوا أي كفوا، أما سمع قول الشاعر: الهزج
وذو الرّمحين أشباك ... من القوّة والحزم
لأبي غانم: الطويل
أبا غانمٍ أمّا ذراك فواسعٌ ... وقبرك معمور الجوانب
محكم
وهل ينفع المقبور عمران قبره ... إذا كان فيه جسمه يتهدم
للعتبي: البسيط
أين الشباب الذي كنّا تلذّ به ... هيهات مات ومات الغصن
والورق
وله: الخفيف
أنا في عصبةٍ بهائم نوكى ... ما تساوي عقولهم شسع نعلي
وله: البسيط
وصاحب لي أبنيه ويهدمني ... لا يستوي هادمٌ يوماً وبنّاء
إذا رآني فعبدٌ خاف معتبةً ... وإن نأيت فثمّ الغمر
والدّاء
لا يقطع العين منه عن ملاحظةٍ ... كأنّها لاستراق الطّرف
حولاء
قال يعقوب: يقال: كيف سيماؤهم - محرّك ومخفّف - أي كيف
هيئتهم.
ويقال: ريح الغصن يراح فهو مروحٌ إذا صفقته الريح.
لمّا اضطرّ كسرى أبرويز إلى الهرب من بين يدي بهرام
شوبين اتبعه بالخيل، فجعل يقول بأعلى صوته: يا عجباً للدّهر الفاسد المنكر كيف
تشتمل فضائحه حتى يصير العاقل جاهلاً، والبصير أعمى، والمحسن مسيئاً، والسّليم
سقيماً، والبرّ فاجراً، والوفيّ غادراً، والشّكور كفوراً، والقاصد حائراً،
والمنصور مخذولاً، والمهتدي ضالاً، والمتماسك مهتوكاً.
269 - قد تعجّب كسرى من متعجّب منه، فإنّه لو اندفع
الخطباء البرعة، وأصحاب اللّسن دهرهم الأطول في القول والتّعجّب ما بلغوا شطر ما
عليه حال الدّهر، وإنّي لشريك كلّ متعجّبٍ منه. وأزيد شيئاً: وذلك أنّ تعجّبي من
الراكن إلى الدّنيا، والحالم بها، والنائم تحت أفيائها، والمنغمس في بحرها،
والطّالب لما منع منها أشدّ جداً، وما أخلق العاقل المتصفّح أن يهجر اللؤم
واللّئيم والدّنيا اللئيمة، فطلبها لؤمٌ، ولم يطلبها إّلا من هو ألأم منها، وإّلا
فحدّثني لمن وفت، ولمن صفت، وعلى من بقّت، وإلى من أحسنت؟ هيهات، من ذا الذي لبس
وشيها فلم يبطر، ومن ذا الذي ثمل من خمرها فلم يسكر، ومن ذا الذي حمي عنها فلم
يضجر، ومن ذا الذي نظر إلى زخرفها فلم يغترّ، ومن ذا الذي سمع غناءها ولم يرقص، ومن
ذا الذي تمّ عليها وبها فلم ينقص، ومن ذا الذي ربح فيها فلم يخسر؟ قال يعقوب: قد
ريّث فلانٌ نظره يريّثه ترييثاً؛ نظر العتّابيّ إلى رجلٍ من أصحاب الكسائي فقال:
إنّه ليريّث النّظر. وقد رنّق النّظر، وأصله من ترنيق الطّير إذا جعلت ترفرف ولا
تسقط.
قال يعقوب: انتضى سيفه، وانتضله، وامتشقه، وامتشله،
واخترطه، وامتلخه، وقربت السّيف: جعلته في القراب، وهو الجربّان، وتخفّف: الجربان.
ولأقيمن أودك ودرأك وجنفك. وفلانٌ يتبرّض ما عند فلانٍ أي يأخذ من القليل بعد
القليل، ويقال: برضت له أبرض برضاً، ونضضت له أنضَّ، أصله من البئر النّضوض
والبروض، وهي التي يأتي ماؤها قليلاً قليلاً. ويقال: ذلاذل الثّوب: أطرافه. ويقال:
عجمته العواجم. ويقال: رجلٌ منجّدٌ - بالذال منقوطةً - ومجرّسٌ، ومقلّسٌ، ومنقّحٌ؛
هكذا قال. وفهمت ذلك في عروض كلامه، وفي فحوى كلامه - بالمدّ والضمّ.
ويقال: إنّ عليّ منه أوقاً أي ثقلاً، وقد آقني يؤوقني،
قال الراجز: الرجز
إليك حتى قلّدوك طوقها ... وحمّلوك عبئها وأوقها
وقال بعض الأعراب لآخر: أنت ناخٍ وأنا راخٍ فهل من
تواخٍ؟ نهى رسول الله صلّى الله عليه ان يصلّي وهو زناءٌ - مفتوح الزاي ممدود
مخفّف - أي وهو حاقن.
قرع رجلٌ باب أحد الأولين فقال لجاريته:أبصري من القارع،
فأتت الباب فقالت: من ذا؟ قال: أنا صديقٌ لمولاك، قال الرجل: قولي له والله إنّك
لصديق، فنهض الرجل وبيده سيفٌ وكيسٌ، يسوق جاريته، وفتح الباب فقال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال:
لا يك ما ساءك، فإنّي قد قسمت أمرك بين نائبةْ فهذا المال، أو عدوٍّ فهذا السيف،
أو أيّمٍ فهذه الجارية.
قال فيلسوف: إنّ الشراب على طبائع الإنسان، وذلك أنّ
الطّافي كالزّبد هو الصّفراء، والرّاسب كالثّفل هو السّوداء، والقوام الدم، وما
رطب فهو الرّطوبة.
قال أعرابيٌّ لصاحبٍ له: أنت شرسٌ وأنا مرس، فكيف نلتبس؟
كان أفلاطون يعذل على تقديم أرسطاطاليس أيام اختلافه إليه واقتباسه منه مع
تلامذته، فقال يوماً: إنّي لست أقدّمه ولكن نفسه قدّمته، وإن أردتم تصديق ذلك
سألتكم الساعة عن مسألةٍ لتذاكروا فيها، فقالوا: سل، فقال: ما أعجب الأشياء؟ فقال
بعضهم: السماء والكواكب، وقال: بعضهم: الأرزاق، وقال بعضهم: الإنسان، وحضر
أرسطاطاليس فسأله فقال: أعجب الأشياء ما لم يعرف سببه.
اشترى عليّ بن الجعد جاريةً بثلاثمائة دينار، فقال له
ابن قادم النّحويّ: أيّ شيءٍ تصنع بهذه الجارية؟ فقال: لو كان هذا ممّا يجرّب على
الإخوان لجرّبناه عليك.
قال ثعلب، قال رجلٌ لابن قادم: أها هنا فرقٌ بين قام
زيدٌ وعمروٌ جميعاً، وقام زيدٌ وعمروٌ معاً، فضجّ، فقلت: لم تضجّ، معاً يقع القيام
في حالةٍ، وجميعاً يكون معاً في وقتين.
قدم محمد بن حسّان الضّبي على أبي المغيث الرّافقي فمدحه
فوعده بثواب، فتأخّر عنه فكتب إليه ابن حسّان: البسيط
عدّيت بالمطل وعداً راق مورقه ... حتّى لقد جفّ منه
الماء والعود
سقياً للفظك ما أحلى مخارجه ... لولا عقارب في أثنائه
سود
للعبّاس بن الأحنف: السريع
أسأت إذ أحسنت ظنّي بكم ... والحزم سوء الظنّ بالناس
يقلقني شوقي فآتيكم ... والقلب مملوءٌ من الياس
قال الصّولي: كان عمران المؤدّب يجالس أبا سمير الكاتب
مع ندمائه، فسقاهم يوماً نبيذاً جيّداً، فجعل أبو سمير يصف نبيذه ذلك، فقال له
عمران: قد سقيتنا ألف زقٍّ خلاًّ ما نطقت بحرفٍ حتى كأنّك باقلٌ عيّاً، فلمّا غلطت
يوماً بنبيذٍ جيّدٍ صرت ذا الرّمة مشبّباً بميّ، وجميلاً واصفاً بثنية، وكثيّراً
مخبراً عن عزّة.
لإسحاق: الطويل
سلامٌ على من ملّنا وتجافانا ... وأبدلنا بالودّ صرماً
وهجرانا
أليس مسيئاً من نسرّ بقربه ... ونذكره في كلّ حالٍ
وينسانا
فما حلّ في قلبي محلاًّ حللته ... سواك ولا أحببت حبّك
إنسانا
قال الزّبير بن بكّار: سعى إسحاق بن إبراهيم التّميميّ
مع بعض الرؤساء مشيّعاً فقال: المتقارب
فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم
عليك السلام فكم من وفاءٍ ... أفارق منك وكم من كرم
للزّبير بن بكّار في قثم بن جعفر: الكامل
لما رأيت أميرانا متجهّماً ... ودّعت عرصة داره بسلام
ورفضت صفحته التي لم أرضها ... وأزلت عن رتب الدّناة
مقامي
ووجدت آبائي الذين تقدّموا ... سنّوا الإباء على الملوك
أمامي
قال عليّ بن ميثم: غضب يحيى بن خالد على بعض كتّابه،
فكتب إليه الكاتب: إنّ لله تعالى قبلك تبعات، ولك قبله حاجات، فأسألك بالذي يهب لك
التّبعات، ويقضي لك الحاجات، إّلا وهبت تبعتك قبلي؛ فرضي عنه.
وقال يحيى بن خالد: ما رأينا العقل قطّ إّلا خادماً
للجهل.
ليته فسّر وذكر الوجه والعلّة، وما أكثر ما يرسلون
الكلام إرسال الآمن من التتبّع.
قال ابن شهاب الزّهري: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال
لي: من أين قدمت يا زهريّ؟ قلت: من مكة، قال: فمن خلّفت يسودها؟ قلت عطاء بن أبي
رباح، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بالديّانة، قال:
إنّ أهل الديّانة والرّواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت:
طاووس بن كيسان، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم
سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب،
قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت:
من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال:
أمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبدٌ نوبيٌّ أعتقته امرأةٌ من هذيل،
قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: أمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي،
قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضّحّاك بن مزاحم، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل
من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن البصري، قال: أفمن العرب هو؟
قلت: بل من الموالي، قال: ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النّخعيّ، قال:
أفمن العرب؟ قلت: من العرب، قال: ويلك فرّجت عنّي، والله ليسودنّ الموالي العرب
حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال، قلت: يا أمير المؤمنين، إنّما هو
دينٌ، من حفظه ساد، ومن ضيّعه سقط.
لابن غريضٍ اليهودي: الكامل
إبلٌ تبوأ في مبارك ذلّةٍ ... إذ لا ذليل أذل من وادي
القرى
أحياؤهم عارٌ على موتاهم ... والميّتون شرار من تحت
الثّرى
وإذا تصاحبهم تصاحب خانةً ... ومتى تفارقهم تفارق عن قلى
لا يفزعون إلى مخافة جارهم ... وإذا عوى ذئبٌ لصاحبه عوى
إخوان صدقٍ ما رأوك بغبطةٍ ... فإذا افتقرت فقد هوى بك
ما هوى
هل في السّماء لصاعدٍ من مرتقىً ... أم هل لحتفٍ راصدٍ
من متّقى
وإذا رأيت معمّراً فلتعلمن ... أن سوف تعركه الخطوب
فيبتلى
لله درّك من سبيلٍ واضحٍ ... سيّان فيه من تصعلك واقتنى
من يغلبوا يهلك ومن لا يغلبوا ... يلحق بأرض ثمود حتى لا
يرى
الفقر يزري بالفتى عن قومه ... والعين يغضبها الكريم على
القذى
والمال يبسط للّئيم لسانه ... حتّى يكون كأنّه شيءٌ يرى
فارفع ضعفيك لا تصغّر ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد
نمى
والمال جد بفضوله فلتعلمن ... أنّ الغنيّ يصير يوماً
للثّرى
وابسط يديك لسائليك ولا تكن ... كزّ الأنامل يقفعلّ عن
النّدى
إنّ الكريم إذا أردت وصاله ... لم تلف حبل إخائه رثّ
القوى
أرعى أمانته وأحفظ عهده ... جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتى
يجزيك أو يثني عليك وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد
جزى
قال أبو العيناء: سبّ إبراهيم بن رستم يوماً معاوية،
فقال له رجل: لم لا تقول هذا بالكرخ؟ قال: ولم لا تصلّي أنت على محمد صلّى الله
عليه وعلى آله بالقسطنطينية؟ أنشد أبو العالية لامرأةٍ من الخوارج: البسيط
نجلتهم كسيوف الهيد أربعةً ... بيضاً مصاليت في الهيجاء
كالأسد
حتى إذا كملوا في السّنّ واتّسقوا ... أخنى على القوم ما
أخنى على لبد
لهفي عليهم فإنّي من تذكّرهم ... طويلة الحزن والإعوال
والكمد
لا أفتأ الدّهر أبكيهم بأربعةٍ ... ما اجترّت النّيب أو
حنّت إلى ولد
قال أبو العيناء، سمعت الأصمعي يقول: قال أبو العبّاس بن
محمد: كنت بفلسطين فبنيت ظلّةً من قصبٍ فأورق، فأنشدني: الطويل
ألم تعلما أنّ المصلّى مكانه ... وأنّ العقيق ذا الظّلال
وذا البرد
وأنّ به لو تعلمان أصائلاً ... وليلاً رقيقاً مثل حاشية
البرد
قال أبو العيناء: حدّثني دعبل قال: لقيت عمرو بن سعيد
وأنا أريد الحجّ فقلت: هل من حاجةٍ؟ قال: نعم، لا تدع لي فإنّ دعاءك إغراء.
للأعشى: البسيط
وفتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يحفى
وينتعل
رفع هالكٌ حين خفّف النون، وكذلك: لكن الله، ولكن
الشياطين. وإن الخفيفة تكون في معنى ما قال الله تعالى: " إن الكافرون إّلا
في غرورٍ " أي الكافرون، وإنّ وهي مكسورةٌ لا تكون إّلا وفي خبرها اللام،
يقولون: إن زيد لمنطلقٌ، ولا يقولونه بغير لامٍ مخافة أن تلتبس بالتي معناها ما،
وقد زعموا أنّ بعضهم يقول: إن زيداً لمنطلقٌ يعملها على المعنى، وهي مثل قوله:
" إن كلّ نفسٍ لمّا عليها حافظٌ " وما زائدةٌ بالتوكيد، واللام زائدةٌ
بالتوكيد.
قال الشّعبيّ: تعايش الناس زماناً بالدّين حتى ذهب
الدّين، وتعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثمّ تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء،
ثمّ تعايشوا بالرّغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً.
قيل لحكيم: صف لنا الدّنيا وأوجز، فقال: ضحكة مستعبر.
قال عيسى بن مريم عليه السّلام: لو لم يعذّب الله تعالى على
معصيته لكان ينبغي أن لا يعصى شكراً على نعمته.
قال أحمد بن أبي الحواريّ: بلغني عن رباح القيسي أنّه
كان له غلامٌ أسود لا ينام الليل، فقال له: لم لا تنام يا غلام؟ قال: إنّي إذا
ذكرت الجنّة اشتدّ شوقي، وإذا ذكرت النار اشتدّ خوفي، وإذا ذكرت الموت طار النعاس
عنّي يا مولاي، فمن كانت هذه حالته كيف يهنيه العيش في الدّنيا؟ فبكى رباح وقال:
يا غلام، حقيقٌ على من كانت له هذه المعرفة أن لا يستعبد، اذهب فأنت حرٌّ، فبكى
الغلام فقال: ما يبكيك؟ قال: يا مولاي، هذا العتق الأصغر فمن لي بالعتق الأكبر؟!
دعا أعرابيٌّ فقال: اللهمّ إنّي أرى من فضلك ما لم أسألك، فعلمت أنّ لديك من
النّعم ما لا أعلمه، فصغرت قيمة مطلبي فيما عاينته، وقصّرت غاية أملي عمّا شاهدته.
ودعا آخر فقال: اللهمّ ما أعرف معتمداً من الزيادة
فأطلب، ولا أجد غنىً فأترك، فإن ألححت في سؤالك فلفاقتي إلى ما عندك، وإن قصّرت في
دعائك فلما تعودت من إسدائك.
دعا آخر فقال: اللهمّ حطني بأمانك، وأرخ عليّ سترك، ولا
تصرف عنّي وجهك، ولا تسلّط عليّ من لا يخافك، ولا تولّني غيرك يا من يتولّى
الصالحين.
دعا آخر: سبحان من علا فقهر، وقدر فغفر، وسبحان من يحيي
الموتى ويميت الأحياء، وهو على كلّ شيءٍ قدير.
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يدعو ويقول: اللهمّ إنّ
ذنوبي تخّوفني منك، وجودك يبشرني عنك، فأخرجني بالخوف من الخطايا، وأوصلني بجودك
إلى العطايا، حتى أكون غداّ في القيامة عتيق كرمك، كما أنا في الدّنيا ربيب نعمك.
كتب زاهدٌ إلى آخر: أمّا بعد فإنّك في دار تمهيد، وأمامك
منزلان لا بدّ لك من سكنى أحدهما، ولم يأتك أمانٌ فتطمئنّ إليه، ولا براءةٌ
فتقصّر، والسلام.
كان بمدينة السّلام رجلٌ ذو يسار، فبينما هو في منزله
وقد جلس يأكل مع امرأته وبين يديه سكباجة وقد فاحت رائحتها، إذ دنا سائلٌ من
الباب، وعساه كان ممّن امتحن بنكبةٍ بعد نعمةٍ فقال: أطعموني من فضل ما رزقكم الله
تعالى، فقامت المرأة وغرفت من القدر، وأخذت رغيفين لتناوله، فلمّا رأى الزّوج ذلك
حلف عليها أن لا تدفع له شيئاً، فمضى السائل خائباً حزيناً، واستوفى الرجل طعامه،
وصعد السطح لبعض حوائجه فعثر بشيءٍ فسقط إلى الأرض فوقص ومات، وحازت المرأة
ميراثه، وتصرّفت فيه، وضرب الدهر ضربانه. ثمّ إنّ السائل لما لقي من قبح الردّ
وشدّة الشّهوة إلى ذلك الطّعام الذي شمّ رائحته عاد إلى منزله وأخذ مضرّبةً كان قد
اشتراها، فأراد أن يفتقها ويغسلها ويبيعها فوجد فيها ألف دينار، فأخذها وغيّر حاله
بها، ثمّ طلب امرأةُ يتزوج بها، فقالت له بعض الدّلاّلات: ها هنا امرأةٌ صالحةٌ
وقد ورثت، فما تقول في مواصلتها؟ فأنعم، فسعت الدلاّلة بينهما حتى اتّفقا واجتمعا،
فلما دخل بها تحدّثا يوماً، فقالت المرأة: ما أشدّ ما مضى على رأسك؟ فحدّثها
بوقوفه على باب دار وامرأةٌ تأكل مع زوجها، فقالت المرأة: فاعلم أنّ هذه الدار هي
تلك، وأنا المرأة، وأنّ زوجي صعد في ذلك اليوم السطح فسقط ومات، وقد أورثك الله
تعالى داره وماله وزوجته، فسجد الرجل لله جلّ جلاله شكراً، وحدّث إخوانه فتعجّبوا.
قاتل الأحنف مرّةً واشتدّ فقيل له: أين الحلم يا أبا
بحر؟ فقال: ذاك عند عقد الحبى.
ومرّ عمر على رماة غرضٍ، فسمع أحدهم يقول لصاحبه: أخطيت
وأسئيت، فقال عمر: مه! فسوء اللحن أشدّ من سوء الرّماية.
وتضجّر عمر بن عبد العزيز من كلام رجلٍ حضره، فقال شرطيٌّ
على رأسه للرجل: قم فقد أضجرت أمير المؤمنين، فقال عمر: أنت والله بتكذيبك أشدّ
أذىً منه.
وصف ابن سيّابة رجلاً فقال: فيه كياد مخنّث، وحسد نائحة،
وشره قوّادة، ودلّ قابلة، وملق داية، وبخل كلب، وحرص نبّاش.
قال خالد بن صفوان: من لم بين له سبب دائه، كثرت ألوان
دوائه.
سمعت أبا النّفيس الرياضي يقول: من كانت همّته أكله،
كانت قيمته خراه.
قال رجل من ولد عيسى بن موسى لشريك بن عبد الله حين عزل
عن القضاء: يا أبا عبد الله، هل رأيت قاضياً عزل؟ قال: نعم، ووليّ عهدٍ خلع.
قال جالينوس: ما دخل الزّمّان جوفاّ فاسداً إلا أصلحه،
ولا دخل التّمر جوفاً صالحاً إلا أفسده.
قال الحسن بن سهل: كان جالينوس ألثغ وكان مولعاً بالعنب،
وكان بقراط أحدب وكان مولعاً بالتّين، وكان أفلاطون فقيراً وكان مولعاً باللّواط.
قيل لابن ماسويه: ما شرّ الطّعام؟ قال: طعامٌ بين
شرايين، وشرّ الشراب شرابٌ بين طعامين.
قدم أعرابيٌّ على ابنة عمّه يخطبها فتمنّعت عليه، فقال
لها: عندي سرٌّ أفأقوله؟ قالت: قل، قال لها: هل لك في ابن عمٍّ كاسٍ من الحسب،
عارٍ من النّشب، يتصلصل معك في إزارك، ويدخل الحمّام طرفي نهارك، يواصل بين ثلاثٍ في
واحدٍ، فمتى عجز فأمرك بيدك، قالت: يا ابن عمّي، لا يسمعنّ هذا أحدٌ، وأنا أمتك.
أراد ملكٌ سفراً فقال: لا يصحبني ضخمٌ جبان، ولا حسن
الوجه لئيم، ولا صغير رغيب.
رأى رجل الهلال فاستحسنه، فقال له رجل: وما يستحسن منه؟
فوالله إنّ فيه لخصالاً لو كانت إحداهنّ في الحمار لردّ بها، قال: وما هنّ؟ قال:
يدخل الرّوازن، ويمنع من الدّبيب، ويدلّ على اللصوص، ويسخّن الماء، ويحرق الكتّان،
ويورث الزّكام، ويحلّ الدّين، ويزهم اللحم.
قال معاوية: إنّ عليّاً طلب الدّنيا بالدّين فجمعت عليه،
وإنّي طلبت الدّنيا بالدنيا فنلتها.
قال ابن عبّاس: هل لك في المناظرة فيما زعمت أنّك خصمت
صاحبي فيه؟ قال: وما تصنع بمناظرتي؟ أشغب بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك،
وفي قلبي ما يضرّك؛ فسكت ابن عبّاس.
سأل العتبيّ أعرابيّاً: ما بال العرب سمّت أولادها أسداً
ونمراً وكلباً، وسمّت عبيدها مباركاً وسالماً؟ قال: لأنّها سمّت أولادها لأعدائها،
وسمّت عبيدها لأنفسها.
كاتب: بعثت بابني إليك مؤثراً لك به، فإنّي وإن كنت
ولدته فنعمتك ربّته، وحياطتك كنفته، وسواءٌ عند الأحرار ربيب النّعم، وسليل
الولادة.
قال فيلسوف: المتأنّي في علاج الدّاء بعد ما عرف وجه
علاجه كالمتأنّي في إطفاء النار وقد أخذت بحواشي ثيابه.
قال أعرابي: لا يقوم عزّ الغضب بذلّ الاعتذار.
لابن أبي الحقيق اليهودي: السريع
لباب يا أخت بني مالكٍ ... لا تشتري العاجل بالآجل
لباب هل لي عندكم نائلٌ ... وما يجدّ الوصل للواصل
لباب داويه ولا تقتلي ... قد فضّل الشّافي على القاتل
إن تسألي خابر أكفائنا ... والعلم قد يلفى لدى السّائل
ينبئك من كان بنا عالماً ... عنّا وما العالم كالجاهل
أنّا إذا جارت دواعي الهوى ... واستمع المنصت للقائل
واصطرع القوم بألبابهم ... بمنزل القاصد والمائل
لا نجعل الباطل حقّاً ولا ... نلطّ دون الحقّ بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنحمل الذّم مع الحامل
إنّا إذا نحكم في ديننا ... نرضى بحكم العادل الفاضل
تعذلك النفس على ما مضى ... وما تسلّي لومة العاذل
إنّ طلاب المرء ما قد مضى ... داءٌ كمثل السّقم الدّاخل
وإنّ لوّا ليس شيئاً سوى ... ........................
علّلتني منك بما لم أنل ... يا ربّما علّلت بالباطل
أناجز في العام موعودكم ... أم هو منظورٌ إلى قابل
قال الفضيل بن عياض لأصحابه: إذا قيل لأحدكم: أتخاف
الله؟ فليسكت، فإنّه إذا قال: لا، جاء بأمرٍ عظيم، وإن قال نعم،فالخائف على خلاف
ما هو عليه.
قال بعض الزهّاد: من اكتسب فوق قوته فهو خازنٌ لغيره.
يقال: من كانت له غلّةٌ يستغلها فإنّما يستغلّ عمره.
قال الرشيد لابن السّمّاك: عظني، قال: احذر يا أمير
المؤمنين أن تصير إلى جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض، ولا يكون لك موضع قدم.
لما احتضر المنصور قال: يا ربيع بعنا الآخرة بنومة.
واحتضر الرشيد فقال: واحيائي من رسول الله صلّى الله
عليه وعلى آله.
واحتضر المأمون فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال
ملكه.
قيل لزاهدٍ وقد احتضر: أوص بشيءٍ، قال: بما أوصي؟ ما لي
شيء، ولا لأحدٍ عندي شيء، ولا لنا عند أحدٍ شيء.
قيل لزاهد: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويحدث
الأحزان، ويباعد الأمنية، ويقرّب المنيّة.
قال الفضيل بن عياض: يا ربّ إنّي لأستحيي أن أقول:
توكّلت عليك، لو توكّلت عليك لما خفت ولا رجوت غيرك.
استوفد عبد الملك بن مروان عاملاً بلغه أنّه قبل هديّةً
فقال له: أقبلت هديّةً؟ قال: يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، ورعيّتك راضية، فقال:
أجب عمّا تسأل عنه، قال: نعم، فقال عبد الملك: أما والله لئن كنت قبلت هديةً كافأت
صاحبها بأن ولّيته من عملنا ما لم تكن لتولّيه لولا هديّته إنك للئيم، وإن كنت قبلتها
ولم تعوّضه منها إنّك لخائنٌ حسود، وإن كنت أعطيته مثل ما أخذت وأطعمت في نفسك
رعيّتك وعرّضتها لخليفتك إنّك لأحمق، ومن أتى شيئاً لا يخلو فيه من حمقٍ أو لؤمٍ
أو خيانةٍ حقيقٌ بأن لا يقرّ على عمل.
سئل جعفر بن محمد رضي الله عنهما عن النّحل، أمن الطّير
هو أم من الهوامّ، قال: بل من الطّير، لولا ذلك لم يفهم.
قال عنبسة القطّان: شهدت الحسن يوماً وقد قال له رجل:
بلغنا أنّك تقول: لو كان عليٌّ بالمدينة يأكل حشفها كان خيراً له ممّا صنع، فقال
الحسن: يا لكع، والله لقد فقدتموه سهماً من مرامي الله تعالى غير سؤومٍ عن أمر
الله، ولا سروقةٍ لمال الله تعالى، أعطى القرآن عزائمه فيما عليه وله، فأحلّ حلاله
وحرّم حرامه، حتى أورده ذلك رياضاً مونقةً وحدائق مغدقةً، ذاك ابن أبي طالب؛ روى
هذا ثعلب في المجالسات.
قيل لبعض التّابعين: كيف أصبحت؟ قال: في أجلٍ منقوص،
وعملٍ محفوظ، والموت في رقابنا، والنار من ورائنا، ولا ندري ما يفعل الله بنا.
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: كان مفزعاً للأمّة، رفيع
الجمّة.
لمّا هلك الحسن بن عليّ دفنه الحسين بن عليّ ومحمد بن
الحنفيّة رضي الله عنهم، فلمّا حصل في حفرته دمعت عينا محمدٍ واستعبر ثم قال: رحمك
الله يا أبا محمد، فلقد عزّت حياتك وهدّت وفاتك، ولنعم الرّوح روحٌ تضمّنه بدنك،
ولنعم البدن بدنٌ تضمّنه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت سليل الهدى، وحليف التّقوى،
خامس أصحاب الكساء، غذتك أكفّ الحقّ، وربّيت في حجر الإسلام، ورضعت ثدي الإيمان،
طبت حيّاً وطبت ميتاً، وإن كانت أنفسنا غير طيّبةٍ بفراقك، ولا شاكةٍ في الخيار لك.
قال يحيى بن زيد رضي الله عنهما: نحن من أمّتنا بين
أربعة أصناف: ظالمٌ لنا حقّنا، وبالغٌ بنا فوق قدرنا، ومعطٍ ما يجب لنا، وحاملٌ
علينا ذنب غيرنا.
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: ذاك والله ممّن ينفع سلمه،
ويتواصف حلمه، ولا يستمرأ ظلمه.
قالت أعرابيّةٌ لزوجها ورأته مهموماً: إن كان همّك للدّنيا
فقد فرغ الله منها، وإن كان همّك للآخرة فزادك الله تعالى همّاً بها.
يقال: الدّنيا حمقاء لا تميل إّلا إلى أشباهها.
مسلم بن الوليد: الطويل
أرادت رجوع القلب بعد انصرافه ... وما علمت ما أحدثته
المقادر
يغرّ الفتى مرّ اللّيالي سليمةً ... وهنّ به عمّا قليلٍ
عواثر
قال الحسن بن آدم: صاحب الدّنيا ببدنك وفارقها بقلبك،
فخذ ممّا في يديك لما بين يديك، فعند الموت يأتيك الخبر.
شاعر: الطويل
وأرعن ملموم الكتائب خيله ... مضرّجةٌ أعرافها ونحورها
عليها مذالات العيون كأنّها ... عيون الأفاعي سردها
وقتيرها
إذا استجرست أصواته أذني سامعٍ ... رماها بأجراس اللّيوث
زئيرها
قال أبو بكر بن عيّاش: رأيت على الأعمش فروةً مقلوبةً،
صوفها خارج، فأصابنا مطرٌ، فمررنا بكلبٍ فتنحّى الأعمش وقال: لا يحسبنا شاءً.
وقال: كان ببغداد مجنونٌ يلبس فروةً مقلوبةً، فإذا قيل
له في ذلك قال: لو علم الله تعالى أنّ الصّوف إلى داخل أجود عمله إلى داخل.
شاعر: الطويل
ويومٍ عبوريٍّ توقّد نجمه ... وعزّت به ماء الوجوه
الهواجر
بعثت به ليلاً من الشّمس داجياُ ... وقد ملكت قبض
النّفوس الخناجر
فنازعن فيه للسّوابغ حجّةً ... وسقف غبارٍ أنشأته
الحوافر
له فلكٌ حول الأسنّة دائرٌ ... ونقع المنايا مسبطرٌّ
وثائر
كأنّ نجوم الليل فوق رماحه ... طوالع ترعاها اللّيوث
الخوادر
أجزن قضايا الموت في مهج العدى ... به فاستباحتها
المنايا الغوادر
قال الحسن بن رجاء في خطّ كاتبٍ: متنزّه الألحاظ، ومجتنى
الألفاظ.
قال بشر بن المعتمر: القلب معدن، والعقل جوهر، واللسان
مستنبط، والقلم صانع، والخطّ صنعة.
وصف أحمد بن إسماعيل خطّاً فقال: لو كان نباتاً لكان
زهراً، ولو كان معدناً لكان تبراً، ولو كان شراباً لكان صفواً.
قال أبو العيناء: الخطوط رياض العلوم.
وقال جعفر بن يحيى: الخطّ سمط الحكمة، به تفصّل شذورها،
وينتظم منثورها.
تخابر غلامان في خطّيهما إلى سهل بن هارون فقال: هذا وشي
محبوك، وهذا ذهب مسبوك، تسابقتما إلى غاية، فوافيتما في نهاية.
قيل لرجلٍ على باب رئيس: كيف وجدت فلاناً؟ قال: أمّا من
الكرم في عراء، وأمّا من اللؤم في خراء.
شاعر: الكامل
وكنٌ تطالعها الكواكب والقنا ... أبراجها هاج الحمام
طرادها
جاءوا بتيهاء المنون طليعةً ... سلبت سيوف حماتها
أغمادها
ورثت كتائبها الجبال وسربلت ... حلق الحديد فأظهرته
عتادها
فتحال موج البحر يقفو بعضه ... بعضاً وميض قتيرها
وسرادها
قدحت عليها الشمس وقت طلوعها ... زنداً فأثقب قدحها إيقادها
حتى أطار على الدّروع شرارها ... زيماً كما زفت الجنوب
جرادها
قال الأعمش لشريك بن عبد الله النّخعيّ المحدّث القاضي:
يا شريك، لقد أدركت رجالاً عجنوا في الدّين عجناً، لو سألت رجلاً واحداً منهم عن
مسألةٍ أو فريضةٍ ما أحسنها، وما من مكرمةٍ إّلا وهي معقودة بمفارق رؤوسهم، ما
يسرني برجلٍ مهم عشرة مثلك، بل مائة ألف.
أنشد سعيد بن المسيّب بين القبر والمنبر: الوافر
ويذهب نخوة المختال عنّي ... رقيق الحدّ ضربته صموت
بكفّي ماجدٍ لا عيب فيه ... إذا لاقى الكريهة يستميت
ثم قال: ما شاء الله كان.
وأنشد أيضاً: الوافر
وصرف لو تبين لهم كلاماً ... لقالت إنّما لكم مبيت
تريك قذى بها إن كان فيها ... بعيد النّوم، نشوتها هبيت
بذلت بشربها نفسي ومالي ... وأبت بما هويت وما رزيت
كان أبو هشام الرّفاعي يقول: سمعت عمّي يقول: اجتمع
القرّاء في منزل إسحاق بن الحسين ليضعوا كتاباً في السنّة، فقال الأعمش: رحم الله
امرءاً كفّ يده، وأمسك لسانه، وعالج ما في قلبه.
قال الأعمش: إذا رأيتم الشّيخ لا يحسن شيئاً فاصفعوه.
وكان الأعمش يلبس قميصاً مقلوباً قد جعل دروزه خارجةً،
ويقول: الناس مجانين، يجعلون الخشن إلى ما داخل ممّا يلي جلودهم.
قال أحمد بن الطّيب: كان الكندي يقول لي كثيراً: انسخ
كلّ ما تجده مكتوباً إذا اتّسعت لك الجدة، وامتدّ بك الزمان، فإنّ مكان ما تكتبه
أسود من دفترٍ، خيرٌ منه أبيض.
وصف الحسن الأسواق فقال: موائد الله، فمن أتاها أصاب
منها.
كان أيّوب السّختيانيّ من الزّهّاد والعقلاء، وهو الذي
قال: من أحبّ أبا بكرٍ فقد أقام الدّين، ومن أحبّ عمر فقد أوضح السّبيل، ومن أحبّ
عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحبّ عليّاً فقد استمسك بالعروة الوثقى.
قال مالك بن أنس: من أبغض أصحاب رسول الله صلّى الله
عليه فليس له في فيء المسلمين حقٌّ، لأنّ القرآن نطق بذلك، قال الله عزّ وجلّ:
" ما أفاء الله على رسوله
" ،
وذكر المهاجرين فقال: " والذّين تبوءوا الدّار والإيمان " ، ثم قال: " والذّين
جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا " فمن كان في قلبه عليهم
وعلى أحدٍ منهم شيءٌ فلا حقّ له في الفيء.
سمع خالد بن صفوان رجلاً يتكلّم فيكثر فقال: يا هذا ليست
البلاغة بخفّة اللّسان، وال بكثرة الهذيان، ولكنّها إصابة المعنى، والقصد إلى
الحجّة.
وذكر خالد بن صفوان رجلاً فقال: كان والله منهرت الشّدق
بعذوبة المنطق، ذلق الحدّة، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان، رقيق الحواشي، خفيف
الشّفتين، بليل الرّيق، دائم النّظر، قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشّمائل،
حسن الطّلاوة، كثير الرّقّة، ذرب اللسان، حييّاً صموتاً قؤولاً، يهنأ الجرب،
ويداوي الدّبر، ويصيب المفاصل، لم يكن بالهذر في منطقه، ولا بالزّمر في مروءته،
ولا بالشّكس في خليقته، متبوعاً غير تابع، كأنه علمٌ في رأسه نار.
وذكر خالد آخر فقال: كان والله قرّاءً غير نزّال، معطاءً
غير سوّال، قوّالاً عند ذوي الأفهام، جلداً ألدّ الخصام.
شاعر: المتقارب
دعاني هواك فلبّيته ... ولم يدر أنّي له أعشق
فقمت وللشوق في مفرقي ... إلى قدمي ألسن تنطق
شاعر: الطويل
وأشرب قلبي حبّها ومشى به ... تمشّي حميّا الكأس في جسم
شارب
يدبّ هواها في عظامي ولحمها ... كما دبّ في الملسوع سمّ
العقارب
شاعر: السريع
نازعني من طرفه الوحيا ... وهمّ أن ينطق فاستحيا
جرّد لي سيفين من هجره ... أموت من ذا وبذا أحيا
شاعر: البسيط
أستودع الله من قلبي لفرقته ... كأنّه طائرٌ قد بات في
شبك
ومن كأنّ فؤادي من تذكّره ... معلّقٌ بين قرن الشّمس
والفلك
قال أعرابيّ: شحذت سيفي، وذلّقت لساني، وها أنا في طلبك.
وقال آخر: فلانٌ قليل الرّجوع، بطيء النّزوع.
قال أعرابيٌّ في وصف آخر: فلانٌ البحر الطّامي يوم الوغى
والغيث الهامي ليل القرى.
قال أعرابيّ: نم ذا الذي صفا فلم يكن فيه عيب، وخلص فلم
يكن فيه شوب.
وقال آخر: فلانٌ حتف الأقران غداة النّزال، وربيع
الضّيفان عشيّة النّزول.
وقال أعرابيّ: لكلّ كاسٍ حاسٍ، ولكلّ عارٍ كاسٍ.
قال أعرابيّ في آخر: لسانه حديد، وجوابه عتيد.
وقال أعرابيّ: فلانٌ أجور من الأسد الضّاري، وأقتل من
السّم السّاري.
قال أعرابيّ: لا أمس ليومه، ولا قديم لقومه.
قال أعرابيٌّ في وصف غوانٍ: حواجب مزجّجة، وثغورٌ
مفلّجة، وخدودٌ مضرّجة.
قال أعرابيّ: ما أفسح صدره، وأرحب بشره، وأبعد ذكره،
وأعظم قدره، وأعلى شرفه، وأكثر ضففه ممّن عرفه ولم يعرفه، مع حسن الاستيفاء، وسعة
الفناء، وعظم الإناء.
شاعر: الطويل
أيا منزلاً بالدّير أصبح خالياً ... تلاعب فيه شمألٌ
ودبور
كأنّك لم تقطنك بيضٌ نواهدٌ ... ولم تتبختر في فنائك حور
وأبناء أملاكٍ عباشم سادةٌ ... صغيرهم عند الأنام كبير
إذا لبسوا أدراعهم فضراغمٌ ... وإن لبسوا تيجانهم فبدور
على أنّهم يوم اللّقاء قساورٌ ... ولكنّهم يوم النّوال
بحور
إذ الملك غضٌّ والخلافة لدنةٌ ... وأنت خصيبٌ والزّمان
طرير
وروضك مرتاضٌ ونبتك يافعٌ ... وعيش بني مروان فيك قصير
رويدك إنّ اليوم يعقبه غدٌ ... وإنّ صروف النائبات تدور
قال أعرابيّ: نحنّ إلى المكارم كما تحنّ الإبل إلى
الحدا، والروض إلى النّدى.
آخر: كان والله مريع الجناب، درور السّحاب.
قال أعرابيّ: فلانٌ أفصح خلق الله تعالى إذا حدّث،
وأحسنهم استماعاً إذا حدّث، وأمسكهم عن الملاحاة إذا خولف، يعطي صديقه النّافلة، ولا
يسأله الفريضة، له نفسٌ عن العوراء محصورة، وعلى المعالي مقصورة، كالذّهب الإبريز
الذي يعزّ كلّ أوان، والشمس المنيرة التي لا تخفى بكلّ مكان، هو النّجم المضيء للحيران،
والبارد العذب للعطشان.
قال أعرابيٌّ في وصف آخر: ليثٌ إذا عدا، وغيثٌ إذا غدا،
وبدرٌ إذا بدا، ونجمٌ إذا هدى، وسمٌّ إذا أردى.
قال أفلاطون: من القبيح أن نكسح من كرومنا فصل الورق
والقضبان ولا نكسح من أنفسنا الشّهوات، ومن القبيح أن نمتنع من الطّعام اللذيذ
لتصحّ أبداننا ولا نمتنع من القبائح لتصفو أنفسنا.
قال فيلسوف: إني لأعجب من النّاس وقد مكّنهم الله تعالى
من الاقتداء به ويقبلون إلى الاهتداء بالبهائم.
قال فيلسوف: لا ينبغي لأحدٍ أن يطلب شيئاً من الحكمة
والفضائل قبل أن ينفي عن نفسه العيوب والرذائل.
قال أفلاطون: ينبغي لنا أن نفرّ من الأشياء الرّديئة،
والأشياء الرّديئة العالم، فينبغي أن نفرّ من العالم، والفرار من العالم هو
الاقتداء بالله تعالى.
قال أعرابيّ: إن الدهر حوّلٌ ذو انقلاب، ولا بدّ
للسّرّاء من الضّرّاء، والدهر يخلط صالحاً بفساد، وهو طعمان: معسول وممرور.
كاتب: يا مولاي تعبّداً، وأخي تودّداً.
قال أعرابيّ: أنت قرّة عيني ونورها، وأنس نفسي وسرورها.
كاتب: أنت من أفتخر بأنوائه، وأهتدي بضيائه، وأتزيّن
بإخائه، وأستظهر على الزمان بولائه.
كاتب: أنت بهجة الدّنيا وزهرتها، وروضة نفسي ومنيتها
وبستانها، وروح حياتي وريحانها.
قال أعرابيٌّ لآخر: أنت سمعي وبصري، وشمسي وقمري.
قال فيلسوف: كما أنه ليس بين الطّوف واللصّ صداقة، فكذلك
ليس بين الحكمة والجهل صداقة.
قيل لفيلسوف: بماذا تشبّه الحكماء؟ قال: إذا قيسوا إلى
الناس فهم كالآلهة، وإذا قيسوا إلى الآلهة فهم كالملائكة.
قيل لفيلسوف: ما الفضل بينك وبين الملك؟ قال: هو عبد
الشّهوات وأنا مولاها.
قيل لفيلسوف: إنّ الملك لا يحبّك، قال: الملك لا يحبّ من
هو أكبر منه.
قيل لفيلسوف: من الجواد؟ قال: من جاد بماله، وصان نفسه
من مال غيره.
وقيل لسقراط: لم تذكر في شرائعك عقوبة من قتل أباه، قال:
لم أعلم أن هذا يكون.
قال ثعلب في المجالسات: جاء رجلٌ من آل حكيم بن حزام إلى
أبي أويس فقال: إنّي رأيت كأنّي أنظر في لوحٍ من ذهب، فقال: إنّ العبارة حكمٌ،
وأكره أن أفسّره لك، قال: لا بدّ منه، قال: يذهب بصرك، قال: سبحان الله، قال: ما
هو إّلا ما أقول لك، فعمي بعد قليل.
جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيّب من قبل عبد الملك بن مروان
فقال: رأيت كأنّي بلت خلف المقام أربع مرّات، قال له: كذبت لست صاحبها، قال: فإنّه
عبد الملك، قال: يلي أربعةٌ من صلبه الخلافة.
رئي عليّ بن الحسين مكتوباً على صدره: " قل هو الله
" فاستعبر سعيد بن المسيّب فقال: بضعةٌ من رسول الله صلّى الله عليه وعلى
آله، نعى إليه نفسه.
لمروان بن أبي حفصة: الرجز
إن تحبسوني فالكريم يحبس ... إنّي لسامي النّاظرين أشوس
مصابرٌ حتى تجيش الأنفس ... لا ساقطٌ علجٌ وال مدنّس
عرضي نقيٌّ وأديمي أملس
قال الفضل بن عيسى الرّقاشي: إنّا والله ما نعلّمكم ما
تجهلون، ولكنّا نذكّركم ما تعلمون.
قال ابن عجلان: شكا رجلٌ إلى الحسن الفاقة فقال: لقد
أعطاك الله ديناً لو لم تشبع معه من خبز الشّعير كان قد أحسن إليك.
قال عمير بن الحباب: البسيط
أبلغ أميّة أنّ الأرض واسعةٌ ... وفي السيوف إذا ما جرتم
عبر
حتّى متى وعلام اليوم ناركم ... ما إن يزال لها في دورنا
شرر
إنّي أخاف عليكم أن تنوبكم ... منّا بوائق لا تبقي ولا
تذر
وإن تروا عارضاً منا يقودهم ... قرمٌ أغرّ أمام الحيّ
يقتفر
لا ينثني الدهر عن أمرٍ يهمّ به ... حتى يموت وفيه
الرّمح منكسر
يخاطب بهذه الأبيات عبد الملك بن مروان.
قال أعرابي: الكريم يرعى حقّ اللفظة وحرمة اللّحظة.
قال ابن عيينة: كانت لنا هرّةٌ ليس لها جراءٌ، فكانت لا
تكشف القدور ولا تعيث في الدّور، فصار لها جراءٌ فكشفت القدور وأفسدت الدّور.
لما قبض ابن عيينة صلة الخليفة قال أصحاب الحديث: قد
وجدتم مقالاً فقولوا، متى رأيتم أبا عيالٍ أفلح؟ قال هشام لخالد بن صفوان: أكنت
تعرف الحسن؟ قال: كان فيما بلغني في داره صغيراً، ومجلسه في حلقته كبيراً، قال:
فكيف كان؟ قال، كان أعمل الناس بما أمر به، وأترك النّاس لما نهي عنه، وكان إذا
قعد على أمرٍ قام به، وإذا قام على أمرٍ قعد به، وكان معلّماً بالنّهار وراهباً بالليل.
قال سلمة بن سعيد: أتي عمر بن الخطاب بمالٍ، فقام إليه
عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين، لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبةٍ
تكون أو أمر يحدث فقال:كلمة ما عرضها ولقنها إلا شيطان لقاني الله حجّتها، ووقاني
فتنتها، أعصي الله تعالى العام لخوف القابل؟ أعدّ لهم تقوى الله، قال الله تعالى:
" ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " وليكوننّ المال
فتنةً على من يكون بعدي.
جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيّب فقال: رأيت حديّاً جاءت
حتى وقعت على شرف المسجد، فقال: إن صدقت رؤياك تزوّج الحجّاج في أهل هذا البيت،
فتزوّج الحجّاج أمّ كلثوم ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأولدها بنتاً.
جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيّب فقال: رأيت رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم في المنام، فقال: يا هذا، بعثه الله بشيراً ونذيراً، فإن كنت على
خيرٍ فازدد، وإن كنت على شرٍّ فتب.
قال النحويّ: اعلم أن أسير بمعنى سرت إذا أردت بأسير
معنى سرت؛ قال أبو سعيد السّيرافيّ: إنّما يستعمل ذلك إذا كان الفاعل قد عرف منه
ذلك الفعل خلقاً وطبعاً، ولا ينتظر منه في المضيّ والاستقبال، ولا يكون لفعل فعله
مرةً من الدهر، من ذلك قول بعض بني سلول: الكامل
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
يريد: ولقد مررت، ولم يرد أنّ ذلك كان منه مرّةً، ولا
أنه لا يعود إليه، وإنّما أراد أنّ ذلك سجيّته أبداّ؛ قال جرير: الكامل
قالت جعادة ما لجسمك شاحباً ... ولقد يكون على الشّباب
نضيرا
قال خالد بن كلثوم الرّاوية: كان حنين صاحب خفيّ حنين من
أهل اليمامة، وكان يحمل العطر فيطوف به في بلاد العرب، فطبن له بعض الخرّاز، فألقى
في طريقه حين بدا من أهله فرد خفّ جديد، وألقى الفرد الآخر على قدر ميل، فأقبل
حنين فلمّا رأى الفرد الآخر قال: الآن ننتفع بذلك الفرد، ونزل فعقل ناقته شفقةً عليها،
ومضى فأخذ الفرد الآخر، وصاحب الخفّين قد كمن له، فلمّا تولّى حنين ركب البعير
فذهب بما عليه وبه، فرجع حنين إلى أهله بالخفّين من جميع ما حمل، فصار خفّاه مثلاً.
قال المدائني: كان في الزمان الأوّل ملكٌ نهى النّاس أن
ينتشروا بالنّهار في حوائجهم، ونادى بالتصرّف في الليل والنّوم بالنّهار، وأقام
الحرسيّ يدور بالنّهار، فأخذ الحرسيّ رجلاً على حمار فأتى به الملك، فأمر بعقوبته،
فقال له، أصلحك الله، هل نهيت عن الدّلجة؟ قال: لا، قال: فأنا رجلٌ مسافرٌ أدلجت
هذا الوقت كما كنّا نبكّر في نصف الليل، قال: صدق، خلّوا سبيله.
سأل رجلٌ أبا عمرو بن العلاء عن الخيل لم سميت خيلاً
فعيّ بذلك عمرو، وكان عنده أعرابيٌّ فقال: إنّما سميت خيلاً لاختيالها واختيال
راكبها.
وقال عمر بن عبد العزيز لجاريةٍ في صبائه - هكذا قال
العلماء بالفتح والمدّ إذا أردت أيام صغر سنّه، وقالوا: الصّبا في هذا المعنى خطأ، إنّما
الصّبا اللّهو والدّد والغزل - بحضرة مؤدبّه: أعضّك الله تعالى بكذا، فقال له
المؤدّب: قال: أعضّك عبد العزيز، فقال: إنّ الأمير أجلّ من ذاك، قال: فليكن الله
تعالى أجلّ في صدرك، فما عاود كلمة خنا، الخنا مقصورٌ، يقال: أخنى الرجل في منطقه.
يقال: شعّ دمه يشعّ أي تفرّق.
ويقال: طويت فلاناً على بللته أي بنيته على بقيّة ودّه؛
وأنشد: الكامل
ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعرفت ما فيكم من الأدغال
والعرب تزعم أنّ اللبن يطوي البطن، وأنّ نبات الأرض
ينفخه.
الدّحل: سربٌ في اعوجاجٍ من داخل الأرض؛ اندحل الطائر في
وكره، واندحل السّبع في وجاره.
يقال: خذه على هديتك وفديتك.
مرّ أعرابيٌّ في أطمار رثّةٍ برجلٍ فقال له الرجل: والله
ما يسرّني أن كنت ضيفك ليلتي هذه، فقال له الأعرابي: أما والله لو كنت ضيفي لغدوت
من عندي أبطن من أمّك قبل أن تضعك بساعة، إنا والله - إذا وجدنا - آكلكم للمأدوم، وأطعمكم
للمحروم، هكذا قال، وإن كان من الإطعام، وقد سمع من غير واحدٍ.
وفي الخبر: إذا أراد الرجل أن يتزوج امرأةً فلينظر إليها
فإنه أجدر أن يؤدم بينهما؛ أدم الرجل المرأة إذا خالطها أي إذا نكحها.
قال خالد بن صفوان: أنا لا أصادق إّلا من يغفر زللي،
يسدّ خللي، ويقبل عللي.
وقيل ليزيد بن معاوية: ما حقّ الجود؟ قال: أن تعطي لمن
لا تعرف، وإنّك لا تبلغه حتى تتخطّى به من لا تعرف.
وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله يوم حنين للعبّاس:
" اصرخ بالناس " ، ثم قال: " خلّل بالخزرج " ، أي خصّهم.
يقال للجاهل الكثير التّرداد: سوّاط.
يقال: ملست الغلام: أي خصيته - اللاّم مخفّفة.
قال الأصمعي: برح الخفاء يعني صار الأمر في براحٍ، أي
ظهر لشدّته ونكرائه، وقيل: معناه من التبريح أي اشتدّ. وقال يعقوب: برح الخفاء أي
استبان المكتوم.
قبع الرجل إذا تحيّر.
وقال عبد الملك بن مروان لأبي الحارث: بلغني أنكم من
كندة؟ قال: يا أمير المؤمنين، أيّ خيرٍ فيمن لا يدّعي رغبةً، أو ينفي حسداً.
طمر الرجل إذا انتفخ، وفرسٌ طمرٌّ، والمكان العالي:
طمار، معرفةٌ مبنيّة على الكسر كقولك: حذام وقطام.
شاعر: الطويل
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئٍ في
السّوق وابن عقيل
تري جسداً قد خدّد السيف لحمه ... وآخر يهوي من طمار
قتيل
قال المبرّد: وتميم تقول: من طمار، منزلة ما لا ينصرف.
قال المبرّد في قوله تعالى: " يسألونك كأنّك حفيٌّ
عنها " أي عن المسألة؛ وفي الخبر: أحفوا الشّوارب واعفوا اللّحى.
ما ملئت دارٌ حبرةً، إّلا وستمتلئ عبرةً.
" وأسرّوا النّدامة " أي أظهروا، من الأضداد،
أي بدا ذلك في أسرّتهم.
الضّيزن: الوزير، والوزير مأخوذٌ من الوزر.
رأى عمر بن الخطّاب رجلاً في الطّواف يقول: اللهمّ اغفر
لامّ أوفى، فقال له: من أمّ أوفى؟ فقال: امرأتي، والله على ذاك إنّها لورهاء
مرغامة، أكولٌ قمّامة، لا تترك لها حامّة، ولكنّها حسناء فلا تفرك، وأمّ بنين فلا
تترك.
قال التّوّزي: سألنا أبو عبيدة عن مسألةٍ ثم قال: لا
يستخرجها من الرّجال إّلا أسود الحيف، يريد من حنّكته السّنّ حتى اسودّت نواحي
أنثييه.
قال مصعب بن الزّبير لسكينة بنت الحسين رضي الله عنهما:
أنت مثل البغلة لا تلدين، قالت له: لا والله ولكن أبى كرمي أن يقبل لؤمك.
نظر الجمّاز إلى سوداء عليها معصفرات فقال: كأنّها بعرةٌ
عليها رعاف.
قالت الخنفساء لأمّها: ما أمرّ بأحدٍ إّلا بزق عليّ،
قالت: من حسنك تعوّذين.
شاعر: الكامل المجزوء
لما رأيت الدّهر يفني النّ ... اس من جيلٍ فجيل
وعلمت أنّي هالكٌ ... وسبيل من ولّى سبيلي
أوطأت نفسي عشوةً ... وعزفت عن قالٍ وقيل
وشربتها مشمولةً ... نشأت على الدّهر الطويل
رقّت فليس تحسّ كال ... شيء الخفيّ المستحيل
من كفّ ظبيٍ فاتر ال ... ألحاظ كالرشأ الكحيل
قال أعرابيّ: الفقير من الأهل مصروم، والغنيّ في الغربة
موصول.
قال أعرابيّ: أوحش قومك ما كان في إيحاشهم أنسك، واهجر
أوطانك ما نبت عنها نفسك.
قيل لأعرابيّ: أتشتاق إلى وطنك؟ قال: كيف لا أشتاق إلى
رملةٍ كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها.
قال أعرابيّ: الاغتراب يردّ الجدّة، ويكسب الجدة.
شاعر: الرمل المجزوء
إن يكن مات صغيراً ... فالأسى غير صغير
كان ريحاني فصار ال ... يوم ريحان القبور
قال العتبيّ، سمعت أبي يقول: سابّ كميت بن معروف الأسديّ
أمةً لقومٍ فقالت: الطويل
لعمري لقد راش ابن سعدة ريشه ... بريش الذّنابى لا بريش
القوادم
بنى لك معروفٌ بناءً هدمته ... وللشّرف العاديّ بانٍ
وهادم
قال أبو موسى الحامض: قرئ على ثعلب من كتاب بخطّ ابن
الأعرابي خطأٌ فردّه، فقيل له: إنّه بخطّه، قال: هو خطأ، قيل: أفنغيّره؟ قال: دعوه
ليكون عذراً لمن أخطأ.
لما سقطت ثنيّة معاوية أسف عليها لما فاته من البيان،
فتمثّل: الرجز
إنّ الليالي أسرعت في نقضي ... أخذن بعضي وتركن بعضي
تركن رنقي وشربن محضي
شاعر: الطويل
يقرّ بعيني أن من مكانه ... ذرى هضبات الأجرع المتقاود
وأن أرد الماء الذي وردت به ... سليمى وقد ملّ الكرى كلّ
واحد
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطاً بسمّ
الأساود
أنشد الرّياشيّ لنهار بن توسعة: البسيط
أضحى العراق سليباً لا ضياء له ... إّلا المهلّب بعد
الله والمطر
هذا يجود ويحمي عن ذماركم ... وذا يعيش به الأنعام
والشّجر
وأنشد أيضاً: الرجز
الناس إخوانٌ وشتّى في الشّيم
ويروى النّاس أسواءٌ، كذا أنشد البغداديون؛ قال
الرّياشي: سألت عنه أعرابيّاً فصيحاً فقال: معناه أنّهم من أديمٍ واحد، أي من تراب
يجمعهم كلّهم آدم، وإن اختلفت شيمهم، وفسّر البغداديون على خلاف هذا، قالوا: يجمعه
بيت الأدم، لأنّ بيت الأدم فيه كلّ ضربٍ من رقاع الأدم.
قال أبو حاتم، حدّثنا الأصمعي قال: كنت عند الرشيد في
شهر رمضان، فأتي بسكران فهمّ به ثم سأل عنه فقلت: كفاك عليّ بن أبي طالب ذلك
بالنّجاشي. قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين للسّكر، ومائةً لحرمة شهر رمضان،
وحمله على حملٍ وطاف به في الكوفة، فجعل الصبيان يصيحون به: سلح سلح، فيقول: كلاّ
إنّها يمانيةٌ، ووكاؤها شعرٌ؛ وهجا أهل الكوفة فقال: البسيط
إذا سقى الله قوماً صوب غاديةٍ ... فلا سقى الله أهل
الكوفة المطرا
وأرسل الريح تسفي في عيونهم ... حتى إذا لا ترى ماءً ولا
شجرا
ألقى العداوة والبغضاء بينهم ... حتى يكونوا لمن عاداهم
جزرا
السّارقين إذا ما جنّ ليلهم ... والدّارسين إذا ما
أصبحوا السّورا
والتّاركين على طهرٍ نساءهم ... والنّاكحين بشطّي دجلة
البقرا
ثم ذهب إلى معاوية وقال في عليّ، وكان قد قال معاوية:
البسيط
يا أيّها الملك المهدي عداوته ... انظر لنفسك أيّ الأمر
تأتمر
واعلم يقيناً بأنّ المجد في نفرٍ ... هم العرانين ما
ساواهم بشر
فإن نفست على الأقوام مجدهم ... فابسط يديك فإنّ الخير
مبتدر
نعم الفتى أنت إّلا أنّ بينكما ... كما تفاضل ضوء الشّمس
والقمر
إنّي امرؤٌ قلّ ما أثني على أحدٍ ... حتى أبيّن ما آتي
وما أذر
لا تحمدون امرءاً حتى تجرّبه ... ولا تذمّنّ حتى تبله
الخبر
قال أبو عليّ ابن مقلة، قال لي الهداوي، أنشدنا
الرّياشي: الكامل المجزوء
يا عين بكّي للولي ... د بن الوليد بن المغيره
إنّ الوليد بن الولي ... د أبا الوليد هو العشيره
من كان غيثاً في السّني ... ن وجعفراً غدقاً وميره
قال أعرابيّ: خلق القريب خيرٌ من جديد الغريب.
قال العتبي، قال أبو دواد: الكامل المجزوء
سقّى الرّباب مجلجل أل ... أكناف رعّادٌ بروقه
جونٌ تكفكفه الصّبا ... وهناً ويمريه خريقه
مري العسيف عشاره ... حتى إذا درّت عروقه
حتى إذا ما جلده ... بالماء ضاق فما يطيقه
هبّت له من خلفه ... ريحٌ يماينةٌ تسوقه
حلّت عزاليه السّما ... ء فسحّ واهيةً خروقه
قال أعرابيّ: العجز مقرونٌ به الشقاء، والحزم موكّلٌ به
النّجاء؛ ثمرة الحزم السلامة، وثمرة العجز الندامة.
قال أعرابيّ: آفة الحزم ترك الاستعداد، وآفة الرأي سوء
الاستبداد.
قال أعرابيّ: الحازم لا تدهش له عزيمة، ولا تكهم له
صريمة.
قال بعض تجّار البحر: حملنا مرةً متاعاً إلى الصّين من
الأبلّة، وكان قد اجتمع ركبٌ فيه عشر سفنٍ، قال: ومن رسمنا إذا تزجّهنا في مثل هذا
الوجه أن نأخذ قوماً ضعفاء، ونأخذ بضائع قوم، فبينا أنا قد أصلحت ما أريد إذ وقف
عليّ شيخٌ فسلّم فرددت فقال: لي حاجةٌ قد سألتها غيرك من التّجار فلم يقضها، قلت:
فما هي؟ قال: اضمن لي قضاءها حتى أذكرها، فضمنت، فأحضر لي رصاصةً من مائة منا،
وقال لي: تأمر بحمل هذه الرصاصة معك، فإذا صرتم في لجّة كذا فاطرحها في البحر.
فقلت: يا هذا، ليس هذا ممّا أفعله، قال: قد ضمنت لي، وما زال بي حتى قبلت وكتبت في
روزنامجي؛ فلمّا صرنا في ذلك المكان عصفت الريح وهاج البحر، فاشتغلنا بأنفسنا
ونسيت الرصاصة، ثم خرجنا من اللّجة وسرنا حتى بلغنا موضعاً، فبعت ما صحبني، وحضرني
رجلٌ فقال لي: يا هذا، أمعك رصاصٌ؟ قلت: لا، فقال غلامي: معنا رصاصٌ، فقلت: لم
أحمل رصاصاً قال بلى الشيخ فذكرت فقلت خالفناه؛ بلغنا إلى ها هنا وما يلحقني أن
أبيعه ففيه ما ينفعه، فقلت للغلام: أحضرها، وساومني الرجل بها فبعتها بمائةٍ
وثلاثين ديناراً وابتعت بها للشيخ طرائف الصّين، وخرجنا فوافينا المدينة، فبعت تلك
الطرائف فبلغت سبعمائة دينار، وصرت إلى البصرة إلى الموضع الذي وصفه الشيخ، ووقفت بباب
دار، وسألت عنه فقيل لي: قد توفي، قلت: فهل خلّف أحداً يرثه؟ قالوا: لا نعلم إّلا ابن
أخٍ له في بعض نواحي البحر؛ قال: فتخبّرت فقيل: إنّ داره موقوفةٌ في يد أمين
القاضي، فرجعت إلى الأبلّة والمال معي، فبينا أنا ذات يوم جالسٌ إذ وقف على رأسي
رجلٌ فقال: أنت فلان؟ قلت: نعم، قال: وخرجت إلى الصين؟ قلت: نعم، قال: وبعت رجلاً
هناك رصاصاً؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الرجل؟ فتأملته، فقلت: أنت هو، قال: أعلمك أنّي
قطعت تلك الرصاصة لأستعمل شيئاً منها فوجدتها مجوّفة، ووجدت فيها اثني عشر ألف
دينار، وقد جئت بالمال فخذ مالك عافاك الله، فقلت له: ويحك، ليس المال لي، ولكنّه
كان من خبره كذا وكذا، وحدّثته، قال: فتبسم الرجل ثم قال: أتعرف الشيخ؟ قلت: لا،
قال: هو
عمّي وأنا ابن أخيه، وليس له وارثٌ غيري، وأراد أن يزوي هذا المال عنّي، وهو
هرّبني من البصرة سبع عشرة سنةً، فأبى الله تعالى إّلا ما ترى على رغمه؛ قال:
فأعطيته الدنانير كلّها ومضى إلى البصرة فأقام بها. ج8.
===================
ج8. كتاب : البصائر والذخائر أبو حيان التوحيدي
حدّثنا القاضي أبو حامد قال: كان لي عمٌّ بمرورّوذ، وكان
وجيهاً في البلد، وكان شديد المقت لي فاحش الإعراض عنّي؛ واتفق أنّي حضرت بعض
العشيّات مجلس رئيس البلد، ودخل عمّي بعدي وكنت في كلامٍ، فسمع بقيّة ما كنت فيه،
فقال للرئيس: من هذا الفتى الكامل الفاضل؟ فوالله ما رأيت أحداً في سنّه أكثر عقلاً، ولا
أحسن كلاماً منه، وإنّما أنكرني الاختلاط ظلام الليل، فقال الرئيس: إنّه أبو حامد،
قال: ومن أبو حامد؟ قال: ابن أخيك، قال: لعنه الله وقبّحه، فما أعرف نسمةً أبغض
منه إليّ، وإنك لو عرفت باطنة لما استحسنت ظاهرة ونهض متلوياً من حسد نار به
ومناقضةٍ أتى بها، وحالٍ فجأته، وكامن ظهر عليه. وكان القاضي أبو حامد يحدّثني بهذا
العمّ، وكان شديد العداوة، قاطع الرّحم، قبيح الجفاء، وكان يقول: والله لا ورثتني،
ولأهبن مالي لبختيار - وكان أمير بغداد - ولساسته، ولا أتركه لك، ثمّ أبى الله ذلك.
قال: وحدّثني أبو حامدٍ بحديثه مع عمّه حين حدّثته أنّ
عمّي كان قاعداً في بعض العشيّات في قطيعة الرّبيع، فاجتزت به متوجّهاً إلى مجلس
أبي الحسن ابن القطّان الفقيه الشافعيّ، فقال له جلساؤه: إنّ ابن أخيك با أبا
العبّأس مجتهدٌ في طلب العلم، يغدو ويروح، ولقد سمعنا تلاوته للقرآن فاستجدناها،
ولقد سمعنا منطقه فاستأنسنا به، وقد كتب الحديث الكثير، وسافر وتصّوف، فقال
للجماعة: هذا كلّه كما تقولون، ولكن له عيبٌ واحد، قالوا: وما هو؟ قال: يأكل في كلّ
يوم أربعة أرغفةٍ، فورد على الجماعة ما حيّرها وأضحكها. وقد رأينا أعماماً قطعوا
أرحاماً، فقطع الله أعمارهم، وأقفر ديارهم، وأورثهم خسارهم. وإنّما سقت هذا ناهياً
عن قطيعة الرّحم، وحاثّاً على حفظ القرابة، مذكّراً عواقب القطيعة، ومحذّراً من
قبيح القالة، وإلى الله تعالى نفزع في كلّ ما دقّ وجلّ، فهو المنتهى وإليه الرجعى.
احتضر ابن أخٍ لأبي الأسود الدؤلي - هكذا الفصيح يفتح
الهمزة - فقال: يا عمّ، أموت والناس يحيون؟ قال: كما حييت والناس يموتون.
قال ابن السّمّاك: أهل القبور على الاختبار، وأهل الدّور
على الاضطرار والانتظار، فأمّا أهل القبور فندموا على ما قدّموا، وأمّا أهل الدّور
فيقتتلون على ما عليه أهل القبور ندموا، فلا هؤلاء إلى هؤلاء يوجعون، ولا هؤلاء
بهؤلاء يعتبرون.
شاعر: الوافر
أنا ابن محفّضٍ والسّكب خالي ... إذا أنا من بني رجل
الحمار
أسود إلى العلى بأبٍ وجدٍّ ... إذا عظمت مراهنة الخطار
شيوخاً طال ما سادوا وقادوا ... تميماً في الملمّات
الكبار
فلا تمدد يديك بلا قديمٍ ... إلى أهل القديم ولا نجار
فلا يستطيع إلهاب المذكّي ... لدى الغايات أفلاء المهار
يسطيع إسطاعاً لغة، فلا تنكر الضّمّ في الياء، فإنّه
يقال: أسطاع يسطيع إسطاعاً، واسطاع يسطيع اسطياعاً، واستطاع يستطيع استطاعةً،
والاستطاعة: طلب الطّاعة.
478 - والاستطاعة عند المعتزلة قبل الفعل، زعموا، كما أن
العين قبل الإدراك، واليد قبل الضّرب. وقال خصومهم: الاستطاعة مع الفعل، وبعض
مجّان المتكلّمين يقول: بعد الفعل، والحقّ من ذلك أنّ الاستعداد والتهيّؤ قائمان
بالإنسان التامّ المزاج العلة، فإذا أنشأ الفعل تقدّمته همّةٌ، وبعثته إرادةٌ،
وساعدته قوةٌ، وتمّمته استطاعةٌ، فبانتظام هذه القوى فيه، وانبعاثها منه،
والتصاقها به، سمّي قادراً، ومرّةً مستطيعاً، ومرّةً قوياً، والصّفات تعتوره من
بعد على قدر درجاته في هذه الأحوال، وهذه القوّة والاستطاعة هو عواريّ عند
الإنسان، تزداد مرةً بامتداد المعير، وتنقص على ذلك التّقدير، ولهذا لم يكن
الإنسان قادراً على الإطلاق، ولا عاجزاً على الإطلاق، بل كان وعاءً لهما، محمولاً
عليهما، ولو عري من القدرة رأساً لما كلّف، ولو ملك الاستطاعة رأساً لما لجأ إلى
الله ولا تضرّع، فهو بين قدرة من أجلها أمر، وبين عجزٍ من أجله اضطرّ وعذر، ولو
كان مستطيعاً على الحقيقة لبطر وأشر، ولو كان عاجزاً على الحقيقة لما كلّف ولا
أمر، فسبحان من خلق هذا الخلق، وصرّفهم على الكمال والنّقص، وضربهم بالسعادة
والنّحس، وألجاهم إلى النّفس والحدس، ليعرفوا بكمالهم كمال مكمّلهم، ويعرفوا
بنقصهم استئثار مدبّرهم، فيعتمدوا عليه، ولولا هذا التدبير المنطوي على الحكمة،
الجاري على نظام العقول السّليمة، لكانت قدرتهم تنسيهم عجزهم، وإذا نسوا مواضع
العجز فتنوا بمواضع القدرة، ألا ترى أنّ الخلق مع تعاور الآفات عليه، وتسارع النّكبات
إليه، وتحكّم البلاء فيه، وتفسّخ عزائمه وتداعي أواخيه، كيف يثبون ويأشرون،
ويبطشون وينتقمون، ويتظالمون، حتى كأنّهم لم يشهدوا من دهرهم فقد حميم، ولا اختطاف
عزيز، ولا ابتذال ذخر، ولا ارتجاع موهبة، ولا هدم بنيّة، ولا قطع أمنيّة، ولا حلول
قارعة، ولا زوال ملك، ولا عثار مستمرّ، ولا انتكاس متطاول، ولا خرس منطق. خالق
الخلق أعلم بما أودع طينتهم، ومزج به أرومتهم، وقصر عليه طباعهم، وبعث إليه
أبصارهم، وكتب عنده آثارهم، وأحصى عددهم، وتابع مددهم، ورتّب كلاً مرتبةً إن
تجاوزها هلك، وإن قصّر ليم، وإن ثبت عندها نجا؛ له الملك والعظمة، والقدرة
والسطوة، والحكمة واللّطف والنّعمة، والعفو والرحمة، فإيّاه نسأل خير ما عنده،
وإليه نفزع من شرّ ما عندنا، إنّه صارف الشرّ عنّا، وموصل الخير من لدنه إلينا،
وهو على ما يشاء قدير، وبجميع عباده خبيرٌ بصير، يجمع بين المحروم والمرزوق في شرك
الاختبار، ويؤلّفهم في نظام الأمر والنّهي، ويطالبهم بالصبر والشكر، ويمدّهم
باللّطف والرّفق، ويضمن لهم الربح والنجح، ويدّخر لهم الخلاص والثّواب.
فاعتبر أيّها السامع أفاعيله، وتصفّح حقائقه، واستجل
أسراره، واستنّ حكمه، وتزود الشّكر على أوائل إحسانه إليك، وفواتح إنعامه عليك، واجعل
المتجلّي منها مثالاً لما خفي، والخافي مسلّماً بما وضح، فإنّ هذا الاعتبار يثمر
لك عاقبة الحمد، وينزلك دار الصدق، وينقلك إلى عالم الحقّ، ولا يغرنّك ما أنت به
باقٍ ها هنا، فإنّ البقاء ها هنا فناء، إّلا أنّ فناءك هنا بقاءٌ هناك، ومتى لاح
لك الرّمز والحقّ الذي يتضمنه، صرفت سعيك وجدّك وتشميرك واستعدادك، وزادك إلى حظٍّ
أنت به باقٍ وثابتٌ معه، ولست تفهم هذه المعاني، ولا تطّلع على هذه المعالي ما دمت
أسير ما تراه عينك، وتلمسه يدك، وتتمنّاه شهوتك، لا والله حتى تتخلّى منك، أعني من
جلبابك وقشرك وغشائك، نعم وحتى تتعرّى من جسدك، أعني من جوانحه وزينته وكرامته، وتأخذ
ممّا لا بدّ لك منه، مكرّماً بذلك ذاتك، ومهيناً لما دنّسك وأهلكك.
واعلم أن بقاءك بصفاتك، وصفاءك بتفاني هذه الأشياء عنك،
واعلم أنّ فناءك بكدرك، وكدرك بتعاور هذه الأشياء عليك، فانج ما كنت على جوادك،
فيوشك أن يعثر بك فيلقيك في هوةٍ لا تنتعش منها أبداً، فإن باشرت الشكوك بقلبك،
وطرحت المواعظ عن سمعك، وثقلت النّائح على عقلك، فاعلم أنّك ميت وإن كنت في مسك حيّ،
وعليلٌ وإنّ كنت في ثياب صحيح، ومخذولٌ وإن تتابع لك النّصر، ومحرومٌ وإن اتسّع
عليك الرّزق، ومحبوسٌ وإن كنت في صورة مسيّب، ومرحومٌ وإن كنت في ظاهر مرضيٍّ عنه،
ومعذبٌ وإن طال بك الاستمتاع، فعليك السلام، فقد وقع اليأس منك، وانقطع الرجاء
عليك، وما أحوجك عند هذه العاقبة إلى نائحةٍ تبكي عليك، وتندب شبابك، وتعدّد
محاسنك، وما أخوفني أنّك إلى الشماتة بك أقرب، وبالانتقام بك أحقّ، لأنّ من عشي عن
الذّكر، وألف إهمال الفكر، وأغفل حقّ النّعمة بالشّكر، وسكن مساكن الظالمين، ووقف
مواقف العائدين، وتجاهل وهو يعلم، وتعامى وهو يبصر، وتغافل وهو يدري، وتشكّك وهو
يتيقنّ، وتمارض وهو صحيح، وتناكر وهو عارف، حقيقٌ بأن يشمت به العارف بحاله،
المطلع على أمره.
اللهمّ لا ترسلنا من يدك، ولا تلنا بكيدك، وكن بنا أرأف
منّا، إنّك أهل ذلك، واللاّطف به.
478ج -
افترّ هذا الحديث الطويل عن تفسيره قوله: يسطيع، ولو
نهلت على حسب إرادتي لأفردت هذا الكلام عن المكان وتثبّتّ فيه، ولما قنعت له
بخاطرٍ عابر، وهاجسٍ سانح، ولفظٍ لم يخدمه التّنقيح، ولم يشقّق عليه الرأي، ولم يستعن
عليه بالسّهر، ولم يجتلب إليه المعنى المبيّت المخمّر، وعلى هذا جرى الكتاب من
أوّله، والله تعالى أسأل بلوغ آخره، مشفّعاً بالقول والعمل، غير مغترٍّ بامتداد
أجل، واختيال أمل.
478د - لا تسرع إلى ذمّي حتى تقف على عذري، وتعرف حقيقة
أمري، فوالله لقد أصبحت وما لي صديقٌ أتنفّس معه، ولا عدوٌّ أنافسه، ولا غنىً
أستمتع به، ولا حالٌ أغبط بها، ولا مرتبةٌ أحسد عليها، ولمّا أفضى بي الزمان إلى
هذه الخلّة المشكوّة، وأفضيت بنفسي ما حوى هذا الكتاب معللاً نفساً قد باءت بسخظٍ
من الله إن لم تكن شاكرةً لله تعالى، مسلّمةً لأقدار الله عزّ ذكره، راضيةً بقضاء
الله، عارفةً باختيار الله جلّ اسمه، فلا تزدني بلومك حرقةً، وبمنازعتك أسفاً،
وبلجاجك ضجراً؛ واعلم أني بشريٌّ أزلّ إن قلت، وأضل إذا ارتأيت، وأخطئ إذا توخّيت،
وأصيب إذا وفّقت، وأحقّق إذا ألهمت، وأنال إذا قرّبت، وأسعد إذا لوطفت، وأتخلّص إذا
رحمت، فإذا لمت فليكن لوماً هوناً، فإنّك لو نصبت نفسك في موضعي لم تخل من لسانٍ
هو أعضب من لسانك، ومديةٍ هي أحزّ من مديتك.
478ه - وقوله:
إلهاب المذكّي، هو العدو، يقال: ألهب يلهب، أي أحمى
العادي نفسه فهو بمنزلة نارٍ تلهّب، ويقال: أهذب أيضاً في هذا المعنى، والمذكّي:
المسنّ، فيقال: ذكّى الرجل وغيره إذا أسنّ؛ والأفلاء: جمع فلوٌّ، ولا تقل:
فلواً، ويقال إنه قبل له فلوٌّ لأنّه افتلي عن أمّه أي أخذ وقطع، ومنه يقال: فليت
رأسه بالسيف، والفوالي: نساءٌ يفلين ثيابهن ويطلبن ثيابهنّ ويطلبن هوامّ أبدانهن،
يقال: تفلّى فلانٌ وتفلّت المرأة، وفلت الأمّ رأسها، وفلّت رأسها، والفلّ: القوم
المنهزمون، والفلول: آثارٌ في السّيوف من طول الضّراب، وإيّاه عنى الشاعر: الطويل
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلولٌ من قراع
الكتائب
أي لا عيب فيهم، لأنّ من هذا عيبهم فلا عيب فيهم. كما
تقول: لا عيب له إّلا في كماله. وأما الفلّ - بكسر الفاء - فأرض لا تمطر وجعه
أفلال، والفلال: المفالّة أي المقاطعة، واستفلّ فلانٌ فلاناً مجازه: أخذ منه
حديثاً، وفلان لا يستفلّ صبر صدره، ولا يستغلّ عزم صدره، والفليلة: قطعةٌ من
الشّعر جمعها فلائل، وفلّ فلانٌ غرب فلانٍ أي قطع حدّه، فأمّا فال يفيل في الرأي
إذا زلّ، وفلانٌ فيّل الرأي وفائل الرأي، وفلانٌ يستفيل رأي فلانٍ، قال الشاعر في
فال يفيل: الطويل
وسمّيته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى ردٌ أمر الله فيه
سبيل
تيمّمت فيه الفأل حتى رزقته ... ولم أدر أنّ الفال فيه
يفيل
والفائلان: عوقان مستنبطان الفخذين؛ وأمّا المهار فجمع
مهرٍ وهو الذي لم يرض بعد ولم يركب، ويقال أيضاً: أمهار، وفي الحماسة: الكامل
يقذفن بالمهرات والأمهار
ويقال في الجمع فعالٌ كثيرٌ، ومنه رماحٌ وأرماح، وشرارٌ
وأشرارٌ، وخيارٌ وأخيارٌ، وليس لباب الجمع قياس.
نظر رجلٌ زاهدٌ إلى آخر مغتمّاً بالرّزق فقال: أتوقن
أنّك تعيش إلى غدٍ؟ قال: لا، قال: أفتخاف أن تعيش وليس لك رزق؟ قال: لا، قال: فأيّ شيءٍ
تخاف؟ قال: أخاف أن يكون قليلاً، قال: أفخوفك هذا يذهب بقلّته ويأتيك بكثرته؟ قال:
لا، قال: فأراك قد اتخذت الحزن ضجيعاً، والتحفت عليه بلا منفعة.
قال فيلسوف: أصاب الدّنيا من حذرها، وأصابت الدّنيا من
أمنها.
قيل لزاهد: ما بال الشيخ أحرث على الدّنيا من الشّاب؟
قال: لأنه ذاق من طعم الدّنيا ما لم يذقه الشّاب.
عوتب سهيل بن عليّ في كثرة الصّدقة فقال: لو أراد رجلٌ
أن ينتقل من دارٍ إلى دار، أكان يترك في الأولى شيئاً؟ لا والله.
دخل لصٌّ على بعض الزّهّاد فلم ير في داره شيئاً فقال:
يا هذا أين متاعك؟ قال: حوّلته إلى الدار الآخرة.
ذكرت الدّنيا عند الحسن فقال: هو المحبوبة التي لا تحبّ
أبداً، المزومة التي لا تلزم أحداً، يوفى لها فتغدر، ويصدّق لها فتكذب.
قال فيلسوف: لا تلبسوا اللّئام ملابس الحكم، فإنّ
أجسادهم أخشن من أن تتزيّن ببرودها، ورقابهم أنذل من أن تتحلّى بعقودها.
للمأمون: السريع
أما ترى ذا الفلك السّائرا ... أبيت من همٍّ به ساهرا
مفكّراً فيه وفي أمره ... فما أرى خلقاً به خابرا
يخبر عن لطف تدابيره ... وكيف أضحى للورى حاضرا
يا ليت شعري هل أرى مرّةً ... أكون في أبراجه سائرا
أكون مع طالعه طالعاً ... طوراً ومع غائره غائرا
حتى أرى جملة تدبيره ... وأعرف المستور والظّاهرا
قال أعرابيّ: ما كلّ رقبةٍ تحسن فيها القلائد، ولا كلّ
نفسٍ تحتمل عليها الفوائد.
قال فيلسوف: لا تشمّ الأخشم ريحاناً، ولا تنل السّفية
برهاناً.
قال أبو عبد الله بن حرون: دعا الرشيد بعبد الملك بن
صالح وعنده ولاة أمره وقوّاد جنده، فجيء به يرسف في قيده، فلما مثل بين يدي الرشيد
أنشد الرشيد: الوافر
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها وقد همع، وإلى عارضها قد
لمع، وإلى الوعيد قد أروى ناراً، فأقلع عن رؤوسٍ بلا غلاصم، ومعاصم بلا راجم؛ مهلاً
مهلاً بني هاشم فبي سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، ونذار نذار من حلول داهيةٍ
إدٍّ، خيوطٍ باليد، لبوطٍ بالرّجل.
فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، أتكلّم فذّاً أم
تؤاماً؟ فقال:بل فذّاً، فقال: اتّق الله يا أمير المؤمنين فيما استرعاك، ولا تجعل
الشّكر بموضع الكفر لقول قائلٍ ينهس اللّحم، ويلغ الدّم، فوالله لقد حدوت القلوب
على طاعتك، وذلّلت الرجال بمحبّتك، وكنت في ذلك كما قال أخو بني كلاب: الرمل
ومقامٍ سيّءٍ فرّجته ... بلساني ومقامي وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل
فأمر به فردّ إلى محبسه ثم قال: لقد دعوت به وأنا أرى
مكان السيف من صليف رقبته ثمّ ها أنا قد رثيت له، وليس من الاحتياط أن يترك.
489ب -
تفسير حروفٍ في هذا الكلام للرشيد قد اشتمل على عربيّةٍ
علويّةٍ، وقد روي أوّل الكلام لعبد الحميد، والنسب إليه أكثر، وهو به أليق، وماأضع
بهذا من الرشيد، ولكن للصناعة موضعٌ لا تأتي عليه الخلافة: أما قوله يرسف فمعناه:
يمشي مشي المقيّد، وصورته شائعة لأنّ المقيّد يقصر خطوته، يقال منه: رسف - بالسّين
غير معجمة - ؛ والماشي كذلك راسفٌ.
وأما قوله مثل بين يديه فمعناه وقف وقام، وكأنّه صار
مثالاً، لأنّ المثال يقابل المماثل، وقيل في قوله: " مثلهم في التّوراة
ومثلهم في الإنجيل " أي صفتهم، وجمع المثال مثل؛ وفيما ترجم من كلام أفلاطون
أنّ الأشياء قبل الوجود كانت مثلاً في نفس الباري، فعلى ذلك اخترعها، وهذا رأيٌ
فاسدٌ خيالٌ مضمحلّ لأنّ قوله: الأشياء قبل الوجود باطلٌ عنده، لأنّ القبل من
الأشياء، ويستحيل أن تكون الأشياء تسبق شيئاً من جملة الأشياء، وهذا لا قوام له من
العقل، وقوله: قبل الوجود مغالطةٌ لأنّ الوجود أيضاً مغمورٌ بالاسم العامّ للأشياء،
وأما قوله: مثلاً في نفس الباري، فما أبعد هذا من الحقّ، هل كانت المثل - إن كانت
أيضاً - إلاّ أشياء، وكأنّه قال: الأشياء كانت أشياء في نفس الباري، ومتى جاز مع
هذا أن تكون نفس الباري ظرفاً للمثل، لأن قوله: في نفس الباري، وامئٌ بهذا، ومشيرٌ
إلى هذا، وعاطفٌ على هذا، فإن كان ضيق العبارة أفضى به إلى هذا، فليأت ببيان أتمّ
من هذا، وباعتذارٍ يقرّب هذا، وليس الفنّ غرضي هاهنا، ولكن عنّ هذا على عادة ما
تضمّن هذا الكتاب، فتكلمت حسب الطاقة، نافياً عن الله المستحيل، وناصراً للتوحيد.
وجمع المثال:
أمثال، وجمع الأمثال: أمثلة " وضرب الله مثلاً
" أي بيّن الله أمراً في معرضٍ ليس عندكم، وعلى هذا تقول لصاحبك: إنّما مثلك
مثل رجلٍ قال كذا وفعل كذا، ويقول كذا ويفعل كذا، فيعرض شأنك عليه في صورةٍ يسرع
إليها وهمه، ويقرب منها فهمه، فتسقط المنازعة ويتسهّل المراد.
فأما البيت فقديم، أعني الذي أنشد الرشيد، وسمعت بعض
الشّيعة يقول: البيت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاله لعبد الرحمن بن ملجم
لعنه الله، حين علم أنّه ضاربه على هامته، وسائلٌ دمه على شيبته، قال: والدليل على
ذلك قوله من مراد، وعبد الرحمن مراديّ، وأصحابنا يأبون هذا الكلام، ويقولون: البيت
لعمرو بن معدي كرب، وقد جاء في ديوانه، ولكنّ الشيعة إذا سمعوا هذا الكلام رموا
قائله ببغض عليٍّ، وقذفوه بكلّ قبيح، والفتنة منهم شديدة، والبلاء عظيم، ولو لم يكن
من عجائبهم إلاّ تشريف عليّ، ونشر فضائله، والاقتداء بأفعاله، لكان ذلك حقّاً
وصدقاً وطاعةً، ولكن يتّصل بهذا ما يهدم هذا، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وأمّا نصبه عذيرك فإجماعٌ من النّحويين، قالوا: معناه من
يعذرك، وإنّ الفعل أوجب النّصب لأنّك لو خفضت بغير خافضٍ ولو رفعت استحال خبراً،
وليس الغرض المرميّ ولا المراد المغزوّ أن يكون عذيرك من خليلك من مراد، فلما بطل
الوجهان صحّ الثالث أعني النّصب، كأنّه أريد به خيراً ويريد بي شرّاً، أي هات الآن
من يعذرك ومن عاذرك، وكأنّ العذير هاهنا فعيل بمعنى فاعل، ولهذا نظائر.
وأما قوله شؤبوبها فجمعه شآبيب وهي الدّفع، ويسمع أيضاً
في وصف الناس، يقال: خرجت في شؤبوبٍ من الناس أي دفعة، في قطعةٍ، في فوجٍ.
وأمّا قوله قد همع فمعناه سال، وأمّا العارض فهو الذي
يستطير من البرق كأنّه يعرض أو يطول لأنه يكون ذا طولٍ مرّةً وذا عرضٍ مرّةً. لمع
معناه لاح وأخذ العين، ويقال: التمع فلانٌ إذا أبصر شيئاً يحسر عينه، ومعناه يكلّ
أي يأخذ حدّتها ويذهب بضيائها ويفرق شعاعها، والشّعاع إذا تفرّق من منبثّ البصر
كلّ الناظر، وصار المغرب من الناس - أعني من اشقرّت أهداب عينه، وإن قيل: أشفار على الجوار
جاز - لا يجود إبصاره، لأنّ شفر عينه يفرّق الشّعاع المنبثّ المضاء، فأمّا السّواد
فجامعٌ لأقطار الضوء وناظمٌ ما تفرّق من النّور، ومسدّدٌ بالنظر نحو المقابل، وهذا
أيضاً تطويلٌ لا يدخل فيما نحن منه بسبيل، فما أصنع وحلاوة الحديث قد أخذت بسمعي
وبصري، وعرّضتني للائمة من يعزّ عليّ؟ وأمّا قوله أورى ناراً فمعناه استخرج، يقال:
ورت النار ووريت، يقال في كلام العرب: وريت بك زنادي، وزهرت بك ناري، فأمّا وراني ورياً،
ينصبون على مذهب الدّعاء، أي ألزمك الله تعالى هذا، وفي خلافه يقولون: عمراً
وشباباً.
فأما الغلاصم فجمع غلصمة، وهي العجر التي على ملتقى
اللّهاة والمريء، إذا ازداد الآكل اللقمة فزلّت عن الحلق ودخلت في الغلصمة،
والحنجرة رأس الغلصمة؛ هذا لفظ الأصمعي.
وأما المعاصم فجمع معصمٍ وهو موضع السّوارين وأسف ذلك
قليلاً.
وأما البراجم واحدتها برجمةٌ، وهي ملتقى رؤوس السّلاميات
من ظهر الكفّ، إذا قبض الإنسان كفّه نشزت وارتفعت، وبها سمّيت البراجم من بني
تميم؛ هذا أيضاً لفظ الأصمعي.
وأما قوله الوعر فالخشن، ولا يقال إلاّ في الطريق، ولا يقال
في الثوب الخشن وعرٌ لا مجازاً ولا تحقيقاً، يقال: طريقٌ وعرٌ. وقد سمع وعرٌ -
بحركة العين - ، وطرقٌ أوعارٌ، ورأيت شاعراً قال: طرقٌ وعرٌ، فعيب عليه وقيل له:
أنت لا تقول: قومٌ قائمٌ، لا تصف الواحد بصفة الجماعة، ولا تصف الجماعة بصفة
الواحد، فقال: أنتم لا تقولون قومّ نائمٌ وقد قال الله تعالى: " فوجٌ مقتحمٌ
" ، ودار الكلام وانتهى.
وأما قوله نذار فمعناه النّذير والإنذار، وكأنّ الإنذار
إعلامٌ إلا أنه مع تحذير، وليس كذلك التّبشير، فإنه مقصورٌ على إعلام الخبر، وسمعت
من يقول: فلم قال الله تعالى: " فبشّرهم بعذاب أليم " وهذا محذورٌ، فقلت:
أرجو أن أحكيهما لك وأعرضهما على عقلك، ليكونا عندك: إنّما قال الله لهم ذلك على
وجه التّهزّؤ بهم، ألا ترى أنه قال تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم "
وهو الذّليل اللئيم، كما تقول للرجل: يا عاقل، كانياً عن حمقه، لأنّك تكره اللفظ لبشاعته،
وتضمر المعنى للحاجة إليه، ولو أفصحت باللفظ الأخصّ عن المعنى الأخصّ عاد سفهاً
وصار خصومةً. والجواب الآخر أنه قال: إنّ هذا الإعلام قد تعلّق بخبرٍ لأنّه قد
حاشهم إلى الجنّة بهذا التحذير، ويقال: معنى بشّرته أي أظهرت على بشرته ذلك.
وأما كسر نذار فبناءٌ، نظيره: حذار ونزال وتراك، وقطام
وحذام وقيل: إنهم أشارو بهذا البناء إلى تكرير الفعل كأنّهم قنعوا به عن قولهم:
احذر، واترك، والله أعلم.
وأمّا قوله داهيةٍ إدّ فهي الشّديدة، من قولهم: آدني
الأمر أي أثقلني، يؤودني، وقد ردّ هذا جماعةٌ من العلماء وقالوا: لا يكون منه إدّ
إنما يكون آيدٌ، مثل قال يقول فهو قائلٌ، وأدري يأدو إذا قتل الصيد فهو آدٌّ، يا
هذا، وقد يلتبس الأمر على من لم يكن ذا مهارةٍ في هذه المواضع الخفيّة؛ وكان
القاضي أبو حامد يقول: من كان نصف طبيبٍ فإنّه يقتل العليل، ومن كان نصف فقيهٍ
فإنّه يحلّل المحرّم، ومن كان نصف نحويٍّ فإنّه يلحن أبداً، ومن كان نصف لغويٍّ
فإنه يصحّف أبداً؛ هذا قوله وليس الكمال مأمولاً للخلق، لكنّ الحكم للغالب الأكثر،
والشائع الأفشى.
وأما قوله خبوطٍ باليد فهو ضروبٌ باليد على جهلٍ بمواضع
الضّرب، وكذلك اللّبوط بالرّجل.
وأمّا قوله أتكلّم فذّاً فالفذّ الواحد، ولا يطلق في ذات
الله تعالى الواحد الفرد، ولا ندري لم ذاك، ويطلق الوتر وإن لم يكن واحداً
بالإطلاق، بل يكون واحداً وثلاثةً وخمسةً وسبعةً، وعلى هذا جرّاً؛ وأما الفرد في
أسماء الله تعالى فسائغٌ شائع. قال أبو حامد: ولا يقال في الله تعالى هو فريدٌ
وحيدٌ، وإن قيل فردٌ واحدٌ، ولم يوضح وجه المنع من ذلك، والنّفس تشهد بصحّة ما قال،
ولكنّ البرهان مفقود، وشهادة النّفس مع فقد الدليل كصدودها بعد ظهور الدّليل.
وأمّا قوله تؤاماً فإنّ أصحابنا يقولون هذا خطأ، لأنّ
الواحد لا يكون تؤاماً، إنّما يكون الاثنان توأمين، هكذا قال يعقوب: هذا توأم هذا،
أي هذا ولد مع هذا، واعتذر لعبد الملك بعض أصحابنا فقال: لعله أراد تؤاماً على
الجمع كما قال الشاعر: الرجز
قالت لنا ودمعها تؤامُ ... كالدّرّ إذ أسلمه النّظام
على الذين ارتحلوا السّلام
قال: كأنه أراد بالتّؤام التّوائم، والتّؤام في شعر
المرقّش الأصغر: ودرّاً توائماً، كأنّه جمع تائمةٍ وإن لم يسمع.
وأما قوله نهس اللحم فمعناه يأخذه بأسنانه ومقاديم فمه،
ومنه: تناهست الكلاب الجيفة، وجمعها جيفٌ.
وأمّا قوله يلغ الدم فهو من نعت الكلب إذا احتسى الدم
وجرع فيه، والميلغة: ما يلغ فيه الكلب، اللام مفتوحة، والمولغ: صاحب الكلب،
والوالغ والمولغ: الكلب، وفي الناس استعارةً إذا كثر سفكهم للدماء. والشافعي
يروي خبراً في نجاسة الكلب، ويوجب غسل الآنية من ولوغه سبع مرّات، أولاهنّ أو
أخراهنّ بالتراب، وأبو حنيفة يواطئه على النّجاسة ولا يغسل هكذا، ويرى له ثمناً، والشافعي
يرى له قيمةً لنجاسة عينه، ومالكٌ يرى أنّ الكلب طاهرٌ ولحمه مأكولٌ، ووجوه اختلاف
الفقهاء متقاربةٌ، وأدرّتهم مستوسقة، وإنّما البلاء كلّه من أصحاب الكلام الذي
يظنّون أنّ التوحيد لا يصحّ إلا بنظرهم، والدّين لا يثبت إلاّ بنصرتهم، والحقّ لا
يعرف إلاّ بمقاييسهم، وهم عن أسرار التوحيد في أبعد مطرحٍ وأنأى منزح، والله تعالى
أجلّ من أن يصحّح توحيده عقول خلقه، ومقاييس عباده، وظنون العاجزين عن الحقائق،
وآراء المضروبين بالنّقص.
وأنشد لأبي علي البصير: الهزج
أتينا بعدكم مكّ ... ة حجّاجاً وزوّارا
وحرّمنا لربّ النّا ... س أشعاراً وأبشارا
ولبّيناه لا نسأ ... م إقبالاً وإدبارا
لكي يغفر إنّ الل ... ه قدماً كان غفّارا
وقلّدنا وسقنا البد ... ن قد أشعرن إشعارا
ومن جمعٍ تزوّدنا ... إلى الجمرة أحجارا
ومسّحنا من الكعب ... ة أركاناً وأستاراً
وجئنا القبر قبر المص ... طفى أحمد زوّارا
وقال الناس هل أحد ... ث هذا لك إقصارا
وهل أحسنت للتّوب ... ة من قلبك إضمارا
فلمّا شارف الحير ... ة حادي إبلي حارا
وقد كاد يغور النّج ... م للإصباح أو غارا
فقلت أحطط به رحلي ... ولا تحفل بمن سارا
فجدّدنا عهوداً س ... لفت منّا وآثارا
وقضّينا لباناتٍ ... لنا كانت وأوطارا
وما ذقنا بها لهواً ... وبستاناً وخمّارا
إذا حكّمته جار ... وإن حاربته جارا
فما ظنّك بالحلفا ... ء أدنيت لها النّارا
كشفنا لك أخباراً ... ودامجناك أخبارا
قال أبو عمر الجرمي: الحلفاء: نبتٌ؛ والقبعثري: الجمل
الشّديد، والأنثى: قبعثراة؛ واليعملة من النّوق: السّريعة؛ واليرمع: الحجر وغيره،
وهو الحجر الليّن؛ والحديبة: الأرض الغليظة؛ والقرنوة: نبات، والعضرفوط: ذكر العظاء؛ والأفكل:
الرّعدة، وزيادة الهمزة والميم غير أول من الشّاذ القليل نحو: شمأل يريدون الشمال، وزرقم: يريدون
الأزرق؛ والعنسل: النّاقة السّريعة، وكذلك العسول؛ والجحنفل: الجبل العظيم، مأخوذٌ
من الجحفل، وهي الكتيبة؛ والرّعشن: مأخوذ من الارتعاش؛ والعرضنة: مشيةٌ فيها
اعتراضٌ من المرح؛ والعقربان: دخّال الأذن، وقيل: ذكر العقارب؛ والشّطب: شجر؛ قال
والمرمريس من المراسة، يقال: داهيةٌ مرمريس إذا كانت شديدة، زيدت في موضع الفاء فموضعها
فعفعيل.
قيل لأبي حاتم: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: الخفيف
ولها مبسمٌ كغرّ الأقاحي ... وحديثٌ كالوشي وشي البرود
نزلت في السّواد من حبّة القل ... ب ونالت زيادة
المستزيد
عندها الصّبر عن لقائي وعندي ... زفراتٌ يأكلن صبر الجليد
قال أعرابيّ: خرجت في ليلةٍ حندسٍ قد ألقت أكارعها على
الأرض فمحت صور الأبدان، فما كنّا نتعارف إلاّ بالآذان، فسرنا حتى أخذ الليل صبغه.
لأعرابيّ كان يتعشّق امرأةً: المتقارب
وأحلى من الشّهد موعودها ... وأكذب من بارقٍ خلّب
وأدنى إلى المرء من نفسه ... وأبعد وصلاً من الكوكب
قال ثعلب: النّدمان واحدٌ وجمعٌ: من نادمك؛ قال ابن
درستويه: لا يجوز جمع ندمان على ندمان، وإنما ندمان واحد، وجمع نديم: ندمان بكسر
النون، فأمّا ندمان فلا يكون جمعاً، وجمع النّدمان ندامى، ويقال: فلانٌ حسن
الندامة والرّدافة.
العرّ: الجرب، والعرّ: تسلّخ جلد البعير، وإنّما يكوى من
العرّ، ولا يكوى من العرّ؛ الثّماليل: العطبة التي تأخذ فيها النار.
لابن شماس السّعدي: الرجز
قد أغتدي والليل في جريمه ... معسكراً نشّم في أديمه
يدعّه بضفّتي حيزومه ... دعّ الصّبيّ لحيتي يتيمه
شاعر: الرجز
ألمّ بزينب بالرّكب لمم ... قد برحاها بالفؤاد وحلم
ولم يكن خيالها إذا ألم ... يلمّ إلاّ بعفافٍ وكرم
قال فيلسوف: قس شبرك بفترك، لعلّك تصيب مكان رشدك.
قرئ من قبر يعقوب بن اللّيث الصفّار: الطويل
سلامٌ على الدّنيا وطيب نعيمها ... كأن لم يكن يعقوب
فيها مملّكا
كأن لم يقد جيشاً من الدّهر ساعةً ... ولا رام ما رام
الرجال مصعلكا
وقرئ على قبر البصري العلويّ صاحب الزّنج: الطويل
عليك سلام الله يا خير منزلٍ ... رحلنا وخلّفناك غير
ذميم
فإن تكن الأيام أحدثن فرقةً ... فمن ذا الذي من رميها
بسليم
وأمر أبو العتاهية أن يكتب على قبره: الخفيف المجزوء
أذن حيٍّ تسمّعي ... ثم عي بعده وعي
أنا رهنٌ بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي
ليس زادٌ سوى التّقى ... فخذي منه أو دعي
ليس ميتٌ براجعٍ ... كيف ما شئت فاصنعي
شاعر: الكامل المجزوء
كنت السّواد لمقلتي ... فبكى عليك الناظر
ما شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
آخر: البسيط
تطاول الليل لا تسري كواكبه ... أم حار حتى حسبت النّجم
حيرانا
فأجابه آخر: البسيط
ما طال ليلي ولا حارت كواكبه ... ليل المحبّ طويلٌ حيث
ما كانا
قال أبو سعيد الخرّاز، قال أبو عبد الله ابن الجرّاح:
قصدني أحمد بن حنبل فسألني أن أخرج إليه شيئاً من العلم، فأخرجت إليه كتاب العقل
لداود بن المحبّر، فانتخب منه أحاديث وردّ الكتاب، فسألته عن ذلك فقال: لم أر فيه أحاديث
صحاحاً، قال ابن الجرّاح: كلّه صحيح، قال أحمد: ومن أين عرفت؟ قال لأني استعملته
فوجدته كلّه صحيحاً، فقال ردّ الكتاب إليّ حتى أنتفع به كما انتفعت.
قال أنس: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على
ناقته الجدعاء وليست بالعضباء فقال: " أيّها النّاس كأنّ الموت فيها على
غيرنا كتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب، وكأنّ الذي يشيّع من الأموات سفرٌ عمّا
قليل إلينا راجعون، نبّوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنّا مخلّدون بعدهم، قد نسينا
كلّ واعظة، وأمنّا كلّ جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق من مالٍ
كسبه من غير معصية، ورحم أهل الذّلّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن
أذلّ نفسه، وحسّن خليقته، وأصلح سريرته، وعزل عن الناس شرّه، طوبى لمن عمل بعلمه،
وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السّنّة، ولم يتعدّها إلى
البدعة " .
قال هبيرة بن خزيمة: أتيت الربيع بن خثيم بني الحسين بن علي
رضوان الله عليهما، وقلنا: اليوم يتكلّم، فقال: أقتلوه؟! - ومدّ بها وصوته -
اللهمّ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما
كانوا فيه يختلفون.
قال شعيب بن حرب: إن كنت تريد أن تكون عالماً فسلّس
للعمل قيادك، وسلّ عن الجهل فؤادك، واجعل هواك تبعاً للعلم.
قال يوسف بن أسباط: كأنّ القوم ألهموا العلم وأبكموا
الكلام، ونحن ألهمنا القول وأبكمنا العمل.
قال ابن أبي نجيح: لقي أبي طاووس فقال له أبي: إن لقمان
قال: إنّ الصّمت حكمٌ وقليلٌ فاعله، فقال طاووس: يا أبا نجيح، إنّ من تكلّم واتّقى
الله خيرٌ ممن صمت واتّقى الله.
قال الأحنف: الصّمت لا يعدو فضله صاحبه، والكلام ينتفع
به من يسمعه، ويرجع إليه فضله.
قال ابن الكوّاء للرّبيع بن خثيم: ما نراك تذمّ أحداً،
قال: ويلك يا ابن الكوّاء ما أنا عن نفسي براضٍ فأتحوّل عن ذمّي إلى ذمّ الناس؟!
إنّ الناس خافوا الله تعالى على ذنوب العباد وأمنوه على ذنوبهم.
وقال الرّبيع:
ذروا ما قد علمتم وكلوا ما قد جهلتم إلى عالم الخير، فما
كلّ الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم علمناه، ولا بالذي علمنا عملنا، وما
نتّبع الخير حقّ اتّباعه، وما نتّقي الشّر حقّ تقاته، وما خيارنا اليوم بخيار،
ولكنّهم خيرٌ ممّن هو شرٌّ منهم.
قال بشّار: من جيّد قولي: الرمل
أنفس الشّوق ولا ينفسني ... وإذا قارعني الهمّ رجع
أصرع القرن إذا نازلته ... وإذا صارعني الخبّ صرع
عمرك الله أما تعرفني ... أنا حرّاث المنايا في الفزع
أنا كالسيف إذا وادعته ... لم يروّعك وإن هزّ قطع
قال أبو عمرو بن العلاء، قال محمد بن عبد العزيز:
تعلّموا العلم فإنّه زينٌ للغنيّ، وعونٌ للفقير، إني لا أقول يطلب به ولكن يدعوه
إلى القناعة.
قالت عائشة: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن يوم
تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات، أين يكون الناس؟ فقال: " على الصّراط " .
قال أعرابيّ: أبناء دينك آنس بك من أبناء نسبك.
أصاب وجه سعيد بن جبير شيءٌ من سواد القدر، فقالت له
ابنته: ما هذا السّواد الذي أراه بوجهك؟ فصاح وسقط مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق سئل
عن ذلك فقال: خفت الله أن يكون قد سوّد وجهي في الدّنيا قبل الوصول إلى الآخرة.
قال أحمد بن أبي الحواري: سألت أبا سليمان الدّاري عن
قوله: إذا استكملت المعرفة في القلب سلب العارف العمل.
ما كان أحوج أبا سليمان أن يوضح علّة هذا فإنّه شنيع،
وقد رأيت من أبناء التصوّف من هجر العبادة بمثل هذا القول، وإذا أفردنا الكلام في
فنونهم أتينا على شبههم بظنونهم إن شاء الله.
قال فيلسوف: اعتقد لولدك كتب آدابٍ تنعم أرواحهم، لا عقد
مالٍ تنعم أشياحهم.
قيل لأعرابيّ: هل تحدّث نفسك بدخول الجنّة؟ قال: والله
ما شككت قطّ أنّي سوف أخطو في رياضها، وأشرب من حياضها، وأستظلّ بأشجارها، وآكل من
ثمارها، وأتفيّأ بظلالها، وأترشّف من قلالها، وأستمتع بحورها في غرفها وقصورها،
قيل له: أفبحسنةٍ قدّمتها أم بصالحةٍ أسلفتها؟ قال: وأيّ حسنةٍ أعلى شرفاً، وأعظم
خطراً من إيماني بالله تعالى، وجحودي لكلّ معبودٍ سوى الله تبارك وتعالى، قيل له:
أفلا تخشى الذّنوب؟ قال: خلق الله المغفرة للذنوب، والرحمة للخطأ، والعفو للجرم،
وهو أكرم من أن يعذّب محبّيه في نار جهنّم، فكان الناس في مسجد البصرة يقولون: لقد
حسن ظنّ الأعرابيّ بربّه، وكانوا لا يذكرون حديثه إلا ّانجلت غمامة اليأس عنهم،
وغلب سلطان الرّجاء عليهم.
يقال:
ما المعذول، وما المعدول، والمعلول، والمعبول، والمعتول،
والمعزول، والمفضول، والمقلول، والمسلول، والمشلول، والمطلول، والمهبول، والمهطول،
والمعقول، والمألول، والمقذول، والمفلول، والمغلول، والمكبول، والمضلول، والمغمول،
والمعسول، والمغسول، والمفسول، والمقصول، والمسمول، والمنصول، والمغزول، والمتلول،
والمبلول، والمثلول، والمجلول، والمحلول، والمخلول، والمدلول، والمرمول، والمزمول،
والمشمول، والملمول، والمملول، والموبول، والمهزول، والمأبول، والمرطول، والمتبول،
والمنسول، والمنحول، والمبتول، والمنبول، والمنجول، والممطول، والمقبول، والمنضول،
والمكفول، والمنزول، والمأمول، والمأزول، والمشكول، وسيمرّ لك شرح هذه الكلمات على
إيجازٍ، فإنّ الأطناب فيه يثقل عليك، ويوكل الضجر بك، وأكثره عتيدٌ عندك: أمّا
المعذول فالملوم، يقال: عذلته أعذله - الذّال مضمومة - عذلاً، والعواذل جمع عاذلة،
وأبو العواذل من أدباء الجبل، واعتذل فلانٌ إذا قبل العذل وأصغى إليه.
وأمّا المعدول - من العدل - فهو للمال، يقال: عدلته
فاعتدل وانعدل، ويقال: فلانٌ يعدل عندي ابني، أي يكون عدل ابني، أي مثل ابني،
والأعدال جمع عدلٍ، لأنّ الحمل عدلان، وكلّ واحدٍ من العدلين مثل صاحبه.
وأمّا المعلول فما عللته من الشّراب، وهو سقيك الماء
مرّةً بعد أخرى، وشربه ثانيةً بعد أولى، وقول المتكلّمين خطأ من العلّة.
وأمّا المعبول فهو من عبلك الشجرة، وهو هزّ ك أغصانها
وخبطك ورقها.
وأمّا المعتول فالمدفوع، من قوله: " فاعتلوه إلى
سواء الجحيم " ، والتاء تضمّ وتكسر، والعتلّ: الضخم، كأنّه الجافي الشديد،
والعتلة: فأسٌ عظيمة.
وأمّا المعزول فمعروف، يقال: عزل الوالي أي صرف عن عمله،
وانعزل فلانٌ خطأ، وكان السّيرافي يأباه ونظائر له، كقول العامة ينذبح وينقتل
وينحفظ وينضبط وينصرع، وقال غيره: جائزٌ مقبول.
وأمّا المفضول فمن قولك: فاضلته ففضلته، فأنا فاضلٌ وهو
مفضول، وقولهم: فلانٌ يقول بإمامة المفضول، هذا يراد به كأنّ أبا بكرٍ قد فضله
عليٌّ فهو مفضولٌ، لكنّه إمام، ولولا التباعد من حومة ما نحن عليه لسقنا الكلام في
الفضل ما هو، والفاضل من هو، والمفضول كيف هو، وإن أمكن ذلك أتينا به متوخّين
فائدتك إن شاء الله.
وأما المقول فالذي تضرب قلّته، لا أعرف غيرذلك، وسألت
السّيرافي فقال: قول العامة هذا على المقلول خطأٌ لا وجه له في العربية البتّة.
وأمّا المسلول فالمستخرج بالجذب، يقال: غلامٌ مسلول،
وسلّت بيضتاه، ويقال: رجلٌ مسلولٌ إذا ناله السّلّ، وهو داءٌ يدقّ به الجسم ويذوب
معه البدن.
وأمّا المشلول فمن قولك: شلّ العير أتنه إذا طردها
وكسعها وكذلك الشّجاع إذا هزم منازله، ويقال: شللت الثوب إذا لقطت بإبرتك غرزها
دفعةً واحدة ولم تفرد.
وأمّا المطلول فهو الذي أصابه طلٌّ، يقال: دمٌ مطلولٌ أي
باطلٌ لا طالب له.
وأمّا المهبول فالمفقود بالموت، يقال هبلته أمّه إذا
ثكلته، والولد مهبول.
وأمّا المهطول فهو مكانٌ أتى عليه مطرٌ هاطل.
وأمّا المعقول فالمشدود بالعقال، والمعقول: هو العقل
أيضاً، وقيل: سمّي العقل عقلاً لأنّه يحبس صاحبه عن التقحّم.
وأمّا المألول فهو من تضربه بالألّة وهي الحربة، فأنت
آلٌّ.
وأمّا المقذول فمن تضرب قذاله، وهو ما اكتنف قفاه.
وأمّا المفلول فهو المكسور.
وأمّا المغلول - بالغين - فمن علّق على عنقه الغلّ، أو
غلّت يده، قالت اليهود: " يد الله مغلولةٌ " كأنّها كفّت عن ضيق الرّزق.
وأمّا المكبول فالمقيّد، والكبل: القيد.
وأمّا المضلول فمن قولك: ضاللته فضللته أي كنت أضلّ منه.
وأمّا المغمول فالمغطّى المستتر.
وأمّا المعسول فما خلط به العسل.
وأمّا المغسول - بالغين - فمعروف.
وأمّا المفسول - بالفاء - فهو الرّذل الفسل، وهو الرّكيك
الرأي الذي لا خير عنده ولا غناء البتّة، وقولك: البتّة بالفتح، والتعريف لا وجه
له غير ذلك، هكذا قال الخليل.
وأمّا المقصول فالمقطوع، والقصيل هو الحشيش لأنّه مقطوع.
وأمّا المسمول فإنّه يقال: سمل السلطان عين فلانٍ إذا
أعماه، ولا يقال ذلك حتى يدخل ميلٌ قد أحمي في عينيه.
وأمّا المنصول فما أصلحت عليه نصلك، وهو في السّهم أشيع.
وأمّا المغزول فهو من غزلت المرأة قطنها، وكأنّ قولهم:
غازلت المرأة أي مايلتها في الغزل أي قاربتها في فعلها حتى ختلتها وخلبتها من هذا،
ومعنى خلبتها أصبت خلبها، والخلب: غشاء القلب.
وأمّا المتلول فمن قوله تعالى: " وتلّه للجبين
" أي صرعه، وأنت التّالّ يا هذا وهو متلول.
وأمّا المبلول فمن بللت الشيء بلاًّ، والبلّة حالةٌ،
والبلال منه.
وأمّا المثلول فمن قولك: ثلّ الله عرشهم إذا حطّه وهدمه.
وأمّا المجلول فمن قولك جلت الشاة طعمها: إذا أخذته
وأكلته.
وأمّا المحلول فمن حللت أحلّ إذا فتحت أو أنزلت أيضاً،
والحلال منه لأنه مفتوح مأخوذ، والحلال - بكسر الحاء - النازلون.
وأمّا المخلول فما شددته بالخلال.
وأمّ المدلول فمن دللته على شيءٍ فهو مدلولٌ وأنت دالٌّ.
وأمّا المرمول فما أصلحت من الخوص.
وأمّا المزمول فما زملته أي حملته، وكذلك ازدملته.
وأمّا المشمول فما أصابه الشمأل، وهو أيضاً من شمله
الشيء - بكسر الميم - وهو أفصح، وقد أجاز الفتح يعقوب.
وأمّا الملمول فمن قولك: ململته أي أقلقته.
وأمّا المملول فمن الملل، معروفٌ.
وأمّا الموبول: فمن الوبل، يقال: وبلت هذه الأرض إذا
مطرت وبلاً، وقولهم: استوبلت هذه الأرض: استكثرت وبلها فكرهتها، وطبرستان كذلك،
واجتويتها إذا كرهتها مع مدافعتها.
وأمّا المهزول فمن قلّ لحمه وذهب سمنه، وسمعت بدوياً
يقول: هذا كلامٌ مهزولٌ، وهو استعارة.
وأمّا المأبول فمن أبل يأبل، إذا قام بالإبل وأحسن
رعيها، يقال: فلانٌ من آبل الناس.
وأمّا المرطول فمن قولك: رطلته، أي أخذته بيدك وقدّرت
وزنه.
وأمّا المبتول فالمقطوع.
وأمّا المنسول فما نسلته الناقة وغيرها.
وأمّا المنحول فمن قولك: نحلت فلاناً كذا وكذا، إذا
وهبته له أو نسبت إليه كلاماً.
وأمّا المتبول فمن التّبل وهو الحقد.
وأمّا المنبول فالذي يرمى بالنبل، وأنت النّابل
والنّبّال.
وأمّا المنجول فمن قولك: نجله بالرّمح أي طعنه، ونجّله.
وأمّا الممطول فمن تدافعه بماله عليك، وتطيل زمان تردّده
إليك.
وأمّا المقبول فمن قولك قبلته قبولاً.
وأمّا المنضول فمن قولك: ناضله فنضله، والنّضال: الرّمي،
قال الشاعر: الطويل
ولكنّ عهدي بالنضال قديم
وأمّا المكفول فمن كفلته، قال الله تعالى: "
وكفّلها زكريّا " وكفلت به إذا صرت كفيلاً، والله تبارك وتعالى كفيلٌ أي
كافل، فهو فعيل بمعنى فاعل.
وأمّا المنزول فالمكان تنزله.
وأمّا المأمول فالمرجوّ.
وأمّا المأزول فالمحبوس، يقال: أزلوا مالهم أي حبسوه عن
المرعى.
وأمّا المشكول فما شددّته بشكالٍ كالدّابة، وكذلك شكلت
الكتاب وأعجمته.
وقد أتينا على هذه الحروف حسب الطاقة، فخذ ما حلا بعينك،
وراق قلبك، وقوّم أوداً إن مرّ بك، واجبر نقصاً يظهر لك، وكن للخير أهلاً،
وبالجميل خليقاً.
وقف رجلٌ على عبد الله بن عمر بن الخطّاب فقال: يا أبا
عبد الرحمن، هل كان عثمان ممّن شهد بدراً؟ فقال: لا، فرفع الرجل صوته وقال: الله
أكبر، قال: هل كان عثمان ممّن تولّى يوم التقى الجمعان؟ فقال عبد الله: اللهمّ
نعم، فقال الرجل: الله أكبر، ثم قال: هل كان عثمان ممّن شهد بيعة الرضوان؟ قال عبد
الله: اللهمّ لا، فرفع الرجل صوته وقال: الله أكبر، ثم ولّى الرجل فقال عبد الله:
ردّوه عليّ، فلمّا وقف قال له عبد الله: وأمّا قولك هل كان عثمان ممّن شهد بدراً
فإنّه لمّا أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخروج إلى بدر، استأذنه عثمان
في المقام على بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المرض الذي ماتت فيه، فأذن
له، فلما فتح الله تعالى عليه ضرب لعثمان بسهمٍ، ثم قال له عثمان: وأجري يا رسول
الله، قال " وأجرك " ، وكان ممن شهد بدراً.
وأمّا قولك: هل كان عثمان ممّن تولّى يوم التقى الجمعان
فإنّ الله تعالى يقول في كتابه: " إنّ الذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما
استنزلهم الشّيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " .
وكان عثمان ممّن شهد بيعة الرّضوان فإنّ رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم لمّا خرج معتمراً إلى مكّة ومنعته قريشٌ أن يدخل إلى مكّة قال
لأبي بكر: " اذهب إلى قريشٍ فقل لهم: دعونا حتى ندخل فنطوف سبعاً وننحر هدينا
ونخرج عنهم " ، فقال له أبو
بكرٍ: إنه ليس لي بها عشيرة، فلو أرسلت عمر بن الخطّاب، فقال لعمر: فقال عمر: إنّي
أخافهم على نفسي، فلو أرسلت عثمان فإنّ له بها عشيرة، فقال لعثمان، فذهب عثمان إلى
قريشٍ وواعده العصر، فلمّا صلّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله خشي أن يكون
عثمان قد احتبس، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه للبيعة فبايعوا، فقال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " هذه يدي عن عثمان " ، فكانت يد رسول
الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خيراً من يد عثمان.
ثم قال عبد الله: أخبرني هل أنت من المهاجرين؟ قال:
اللهمّ لا، فرفع صوته وقال: الله أكبر، ثم قال: أفمن الأنصار الذين تبوّءوا الدّار
وآووا ونصروا؟ قال: اللهمّ لا، فرفع عبد الله صوته وقال: الله أكبر، قال أفمن الذين تبوّءوا
الدّار والإيمان من قبلهم؟ قال الرجل:
اللهمّ لا، فرفع صوته وقال: الله أكبر، فقال: ولا من
الذين جاءوا من بعدهم يقولون: " ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان " ؟ اخرج لا أمّ لك.
قال ابن كناسة: لما صلب زيد بن عليٍّ رضي الله عنهما ما
أمسى حتى نسج العنكبوت على عورته.
وقال يوسف بن عمر: إنّ عاملي كتب إليّ يذكر أنّه زرع كلّ
خقٍّ ولقٍّ، فقال: إنّه عنى الأرض المطمئنّة والنّاشزة.
وأنشد: البسيط
شطّ المزار بخذوا وانتهى الأمل ... فلا مزارٌ ولا رسمٌ
ولا طلل
إلاّ رجاء فما ندري أندركه ... أم نستمرّ فيأتي دونه
الأجل
قلت لبعض الأدباء: كيف وجدت فلاناً، أعني رئيساً، فقال:
وجدته قليل الكرم، حادّ اللّؤم، دنس الجيب، مولعاً بالعيب، كأنّه خلق عبثاً، سفهه
ينفي حكمة خالقه، وغناه يدعو إلى الكفر برازقه.
قال المنتصر: لذّة العفو أطيب من لذّة التّشفّي وذلك لأن
لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذمّ النّدم.
للحكم بن قنبر المازني: البسيط
ويلي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي إلى
أوجاعه وجعا
كأنّما الشمس في أعطافه لمعت ... حسناً أو البدر من
أزراره طلعا
مستقبلٌ بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الذّنوب ومعذورٌ
بما صنعا
في وجهه شافعٌ يمحو إساءته ... من القلوب وجيهٌ حيث ما
شفعا
قال محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان: بعثني أبي إلى
المعتمد في شيءٍ فقال: اجلس، فاستعظمت ذلك، فأعاد فاعتذرت بأنّ ذلك لا يجوز، فقال: يا
محمد إنّ أدبك في القبول مني خيرٌ لك من أدبك في خلافي.
كتب القاضي الزّنجاني: وأنا في رياض نعم الله راتع، وفي سوابغ
مواهبه رابع، تتداولني أيدي أقداره بالتذليل، وتتناولني عيون عنايته بالتأميل،
فأنا في طريق الاستسلام لأقضيته كالرّضيع موقناً بأن لا كائن إلاّ ما يقضيه، ولا
حادث إلاّ ما يمضيه، ولله حقيقة الأمر المطلق، والشكر المحقّق.
شاعر: الكامل المجزوء
إنّ الغريب بحيث ما ... حطّت ركائبه ذليل
ويد الغريب قصيرةٌ ... ولسانه أبداً كليل
وتراه حيث رأيته ... أبداً وليس له خليل
والنّاس ينصر بعضهم ... بعضاً وناصره قليل
قال عبد الملك لرجلٍ حدّثني، قال: يا أمير المؤمنين
افتح، فإنّ الحديث يفتح بعضه بعضاً.
تكلّم رجلٌ عند النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال
النبيّ عليه السلام: " كم دون لسانك من حجاب " ؟ قال: شفتاي وأسناني،
فقال: " إنّ الله يكره الانبعاق في الكلام " .
قال رجلّ لآخر: إن قتل كلمةً سمعت عشراً، فقال: لو قلت
عشراً ما سمعت مني واحدةً.
قال أبو مسهر: مال الرجل نفسه، فمن جاد بماله فقد جاد
بنفسه.
يقال:
اضطرّ النّاس في قديم الدهر إلى ملكٍ فجاءوا بوغدٍ
ووضعوا التّاج على رأسه فقال: هذا ضيّق، فتطيّروا من ذلك، وجاءوا بتاجٍ وطمعوا أن
يقول: هذا واسع، فيكون ضدّ قوله الأول، فقال: أريد أضيق من هذا، فنفوه وقالوا: أنت
والله وغدٌ، وقد خفنا شؤمك.
قال ابن الأعرابيّ: قال الخسّ لابنته: إنّي أريد أن
أشتري فحلاً فصفيه لي، فقالت:اشتره أسجح الخدّين، غائر العينين، مؤلّل الأذنين،
أعكى أكوم أرقب أحزم، إن عصي غشم، وإن أطيع تجرثم.
قال ابن الأعرابي، قال لها: أمخضت ناقتك؟ قالت: لا، قال:
فصفيها، قالت: صلاها نفّاج، وعينها وهّاج، ومشيها تفاجّ، قال: قد مخضت فاعقليها،
قالت: قد عقلتها، قال: وكيف عقلتها؟ قالت عقلتها عقلاً استرخت له أزري، واضطربت له
عذري.
شاعر: الرجز
تأكل بقل الرّيف حتى تحبطا ... فبطنها كالوطب حين
اثرنمطا
أو جائش المرجل حين عطعطا
فقيل له: ما الحبط؟ قال: أن تأكل حتى تدغص، قيل: وكيف
تدغص؟ قال: لا تجد أمتاً، قيل: وما الأمت؟ قال: البقية تبقى في الجراب حين تملؤه،
قيل: فما الأثرنماط؟ قال: اطمحرار السّقاء، قيل: وما اطمحرار السّقاء؟ قال: شدّة انتفاخه
إذا راب ورغا وكرثأ، قيل: وكيف يكرثئ؟ قال: يصير بمنزلة اللّبن الخثر، قيل: وما
الخثر؟ قال: الذي مصل ماؤه، قيل: وكيف مصل ماؤه؟ قال: يسيل.
قال أبو عبيدة: شرب حتى اطمخرّ، ونقع ونصع حتى كأنّه ظرف.
قال فيلسوف: ما ورّثت الأسلاف الأخلاف كنزاً أفضل من
الكتب، ولا حلّت الآباء الأبناء حلياً أزين من الأدب.
قال عمرو بن معد يكرب لعمر بن الخطّاب: يا أمير
المؤمنين، أأبرّ بنو المغيرة أم بنو مخزوم؟ قال وكيف ذاك؟ قال: تضيّفت خالد بن
الوليد فأتاني بقوسٍ وكعبٍ وثور، قال: إنّ في ذلك لشبعاً، قال: لي أو لك؟ قال: لي
ولك، قال: حلاًّ يا أمير المؤمنين، إني لآكل الجذعة من الإبل أنتقيها عظماً عظماً، وأشرب
السّحيل من اللّبن رثيئةً أو صريفاً. والسّحيل: سقاء عظيم، والكعب: القطعة من السمن،
والقوس: أسفل الجلّة من التّمر.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: ريح الملائكة ريح
الورد، وريح الأنبياء ريح السّفرجل، وريح الحور ريح الآس.
امتحن يحيى بن أكثم رجلاً أراده للقضاء فقال: ما تقول في
رجلين زوّج كلّ واحدٍ منهما الآخر أمّه فولد لكلّ واحدٍ ولدٌ من امرأته، ما قرابة
ما بين الولدين؟ فقال: كلّ واحدٍ منهما عمّ الآخر.
قال طفيليّ: ليس شيءٌ أضرّ على الضّيف من أن يكون ربّ
البيت شبعان.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: تسريح اللّحية يذهب
الغمّ، والخلال يجلب الرّزق.
كانت تحيّة العرب: صبحتك الأنعمة، وطيّبتك الأطعمة،
وتقول: صبحتك الأفالح، وكلّ طيرٍ صالح.
قال بعض العلماء في قوله جلّ وعلا: " وقالوا قلوبنا
غلفٌ " أي أغطيةٌ، جمع غلاف، فإن سكّنت اللام فهو جمع أغلف، أي مغطاة.
وقيل في قوله: " ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام
" أي يبقى ربّك، ويدلّك على أن الوجه هو نفسه رفع ذو لأنّه نعت الوجه. وقال
في السّورة: " تبارك اسم ربّك " لأن الاسم غيره.
وقال الفرّاء في قوله: " الرّحمن على العرش استوى
له ما في السّماوات " على القطع والابتداء، واستواؤه إقبالٌ.
وقال بعض العلماء: الدلالة على أن علم الآخرة يقينٌ وعلم
الدّنيا مدخولٌ قوله تعالى: " لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك
فبصرك اليوم حديدٌ " ، وكذلك قوله
تعالى: " يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار " تنقلب عن الحال التي
كانت عليها من الارتياب والشّكوك إلى الحق واليقين لما يظهر من آيات الله.
قال أبو طاهر ابن حمزة العلويّ: حدّثني ثقةٌ أنه رأى
رجلاً من أصحاب الإماميّة يضع على حكم بزرجمهر أسانيد أهل البيت رضوان الله عليهم،
فقيل له: ما هذا؟ فقال: ألحق الحكمة بأهلها.
وقال ابن حمزة: قلت لبعض الإماميّة: أين صاحبكم؟ قال: قد
رفع عن إقليم آدم، قلت: فأين هو؟ قال:
إنّ الله جلّت عظمته خلق سبعين إقليماً، في كلّ إقليمٍ
من النّاس أكثر ممّا في إقليم آدم، ولم يعلموا أنّ الله خلق آدم وولده حجّةً عليهم
لله تعالى غير هؤلاء.
وقال المرّيسي: لو أنّ رجلاً حلف فقال: لا والرحمن لا فعلت
كذا، ثم فعل، إن كان أراد سورة الرحمن فلا كفّارة عليه، لأنّه حلف بغير الله، وإن
كان أراد الرحمن فعليه كفّارة.
قال بعض العلماء: إن قيل: خالق كلّ شيء، يدلّ اشتماله وعمومه على
أنّه خالقٌ لنفسه، قيل له: هذا باطلٌ لأنه بمنزلة قولك: خالفت النّاس كلّهم، وأنت
لا تريد أنّك خالفت نفسك.
قال أبو بكر محمد بن أحمد بن شيبة: وجدت في كتاب جدّي،
سمعت أحمد بن المعذّل يقول: دفع إلينا سليمان بن داود صحيفةً فيما كان صار إلى
أيّوب من كتب أبي قلابة، قال لنا سليمان: كان حمّاد بن زيد ربّما حدّثنا ببعض ما فيها،
وكتابٌ من عمر، وكتابٌ من عثمان إلى أهل البصرة في شأن المصاحف، وما جمع منها،
وكتبٌ كثيرة من عمر إلى عمّاله.
وكان كتاب عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم، من عثمان أمير
المؤمنين إلى من بالبصرة من المؤمنين والمسلمين، سلامٌ عليكم؛ أمّا بعد، فإنّ هذا
الأمر محفوظ، من يرد فيه الإصلاح يهده الله ويصلحه، ومن يسئ فإنّ سوءه على نفسه،
فاتقوا الله تعالى فإنّ الله " قد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين " وأطيعوا
فمن أطاع فليس عليه سبيلٌ " فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد
عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً " وإنّ الله قد أفضل عليكم أن هداكم من
الضّلالة، وبصّركم من العمى، وأوسع عليكم من الرّزق، واستخلفكم في الأرض، فانظروا
كيف تعملون، وإنّ الله قد أحضركم القتال في سبيله، فاشكروا لله نعمته فإنّه زائدكم
ما شكرتم، إنّ الله غفورٌ شكور.
أمّا بعد ذلك فأعينوا أميركم على أمر الله تعالى، وآزروه
مؤازرةً حسنةً جميلة، ومن رأيتم ينتهك حدود الله فانهكوه ولا تهاونوا، فإنّه من
يقم على أمر الله جلّ اسمه فإنّ الله تعالى ناصره، وليست منزلة المسيء كمنزلة
المصلح، وعد الله المصلح الجنّة ووعد المسيء النار، قال الله وقوله الحقّ: "
أم نجعل الذّين آمنوا وعملوا الصّالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين
كالفجّار " .
أمّا بعد ذلكم فإني كتبت إليكم في شأن المصاحف، ولم أفعل
فيها الذي فعلت حتى اختلف فيها كثيرٌ من النّاس فظلموا أنفسهم فيها، وحتى إن الرجل
ليحلف بالله ما يسرني أنّي كتبت من مصحف فلانٍ فإنّ لي مالاً عظيماً - يرضى ما
عنده، ويزكي نفسه، ويسخط ما عند صاحبه. وإنّ كتاب هذا المصحف من فضل الله جلّ اسمه
على عباده، وتمام نعمته عليهم يكون أمرهم جميعاً ولا يختلفون فيه كما اختلف أهل الكتاب
قبلهم، وإنّا قد حرصنا أن نستثبث فيه وإن عمر أمير المؤمنين كان من آنسنا بالقرآن،
وأحرصنا على تعليمه، وقد كان كتب عامّته من فم رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله،
فجمع به رهطاً من المسلمين ممّن نفع بقراءته، وظنّوا أنّ عنده علماً بالكتاب منهم،
فقام هو وهم فكتبوا جميعاً، وحرصوا أن يستثبتوا بقرب العهد. وإنّا حرصنا على أن
تكتب هذا المصحف من نسخة ذلك الكتاب الذي أكتبه منه عمر أمير المؤمنين من فم رسول
الله صلّى الله عليه وعلى آله، وحرصنا على حفظه، وألحقنا فيه قرآناً أنزل بعد ما
كتبت المصاحف بإقامة البيّنة، وإني والله ما ألوتكم ونفسي من خير، وما هدانا لهذا
إلاّ الله تعالى بعد ما أشفقت من اختلاف الناس في القرآن، وإنّ الله عزّ وجلّ أنزل
الكتاب على عبده بالحقّ فيما ليس فيه اختلاف، وإنّ لكم في القيام عليه حياةً
وخيراً كثيراً، فليقم على ذلك سراركم، ويلن قلوبكم، ويزكّ عملكم.
وأمّا بعد ذلك، فإنّي أحسب عامّة أمركم خيراً، وإنّ
عامّةً منكم يحرصون على السّمع والطّاعة ويجاهدون في سبيل الله، وينشطون للخير إذا
دعوا إليه ويحرصون على أن يكون أمر النّاس صالحاً، وإنّ خلال ذلك من الناس قوماً ظلمةً
لأنفسهم يتعمّقون ويتبعون السّمعة ليتبعهم جهلة الناس، ويحسبون أنّ عندهم شيئاً،
وإنّما يجني الظالم على نفسه " وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون
" . وقد بلغني أنّ أقواماً منكم يتكلّفون ويقولون ما ليس لهم به علمٌ، وإنّي
لم أكن سابقاً إليهم ببعض العقوبة حتى أعذر إلى الله تعلى ثم إليكم في شأنكم، أو
ينتهوا عن ظلمهم، فإني لا أحبّ أن يلجّوا في الشّرك.
وأما بعد ذلكم فقوموا على ما أمرتكم به في شأن المصحف،
ومن كان منكم سامعاً مطيعاً عنده مصحفٌ فليكتبه عليه في أقرب ذلك، وأمرت من حولي فكتبوا
على ذلك والسلام؛ وكتب أنس بن أبي فاطمة في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين.
قال الشعبيّ في الشّيعة: أخذوا بصدورٍ لا أعجاز لها،
وأعجازٍ لا صدور لها، لو كانوا من الطّير لكانوا رخماً، ولو كانوا من البهائم
لكانوا حمراً.
قال سليمان بن جرير: إنّ الرافضة احتالت لأنفسها بحيلتين
لا يطاقون معهما، إحداهما: القول بالبداء، والأخرى إذا وقع اختلافٌ قالوا بالتقيّة،
فهاتان خصلتان.
سمعت بعض الشّيعة يحكي قال، قال أبو حنيفة يوماً لجعفر
بن محمد رضي الله عنهما: بما فضلتم النّاس؟ قال: فضلناهم بأنّ الأمّة كلّها تمنّت
أنّها منّا، ولم نتمنّ أنّا منها.
وقال جعفر رضي الله عنه: يا أبا حنيفة، ما الأمر
بالمعروف؟ قال: أن تعظ بالجميل، وتأمر بالخير، وتنهى عن المنكر، قال: ليس كذا، إن
المعروف أمير المؤمنين، والمنكر الذي ظلمه وجحده ميراثه وحمل النّاس على بغضه.
يا أبا حنيفة، ما النّعيم الذي يسأل الناس عنه في قوله
تعالى: " لتسألنّ يومئذٍ عن النّعيم " ؟ قال: صحّة البدن والقوت من الطعام والشّراب، قال: لا، ولكنّ
النّعيم أهل البيت رضي الله عنهم.
يا أبا حنيفة، أخبرني عن سليمان بن داود كيف تفقّد
الهدهد من بين الطير كلّها؟ قال: لا أدري، قال: لأنّ الهدهد يرى الماء في الأرض
كما يرى الدهن في القارورة، فضحك أبو حنيفة قال: فلم لا يرى الفخّ حين يأخذ بعنقه؟
قال: إذا نزل القدر عمي البصر.
يا أبا حنيفة، ما الملوحة في عينك، والمرارة في أذنيك،
والعذوبة في ريقك، والماء والحرارة في الخياشيم؟ قال: لا أدري، قال: فبم ألقى الله
الحيض والدّم على المرأة، ولم حبس عن الحبلى؟ وأين مكان الكاتبين من ابن آدم؟
وأخبرني عن سورةٍ أولها تحميدٌ وأوسطها إخلاصٌ وآخرها دعاءٌ، وعن حرفْ أوّله كفرٌ
وآخره إيمان، وعن وضع الرجل يده على مقدّم رأسه عند الحزن، والمرأة على خدّها؟
قال: لا أأدري.
قال جعفر رضي الله عنه: أمّا الملوحة في العينين
فلأنّهما شحمتان، ولولا ذاك لذابات في حرّ الشمس؛ وأمّا المرارة في الأذنين فحجابٌ
للدّماغ، ولولا ذلك لسارعت الهوامّ إلى الأذن؛ وأمّا العذوبة في الرّيق فلمعرفة
الطّعوم؛ وأمّا الماء والحرارة في الخياشيم فراحةٌ للدّماغ، ولولا ذلك لأنتن
الدّماغ؛ وأمّا ما ألقى الله تعالى على المرأة من الحيض فمن أجل حوّاء حين
عقرتالشّجرة؛ وأمّا الدّم الذي حبسه الله تعالى عن الحبلى فرزقٌ للمولود؛ وأمّا
وضع الرجل يده على رأسه والمرأة على خدّها فمن أجل آدم وحوّاء عند ركوبهما
المعصية؛ وأمّا موصع الكاتبين فعلى النّاجذين؛ وأمّا السّورة التي أولها تحميدٌ
وأوسطها إخلاصٌ وآخرها دعاءٌ ففاتحة الكتاب؛ وأمّا الحرف الذي أوّله كفرٌ وآخره
إيمانٌ فكلمة الإخلاص.
يا أبا حنيفة، القتل عندك أشدّ أم الزّنا؟ قال: بل
القتل، قال: فكيف أمر الله تعالى في القتل بشاهدين، وفي الزّنا بأربعة؟ يا أبا
حنيفة، النساء أضعف عن المكاسب أم الرجال؟ قال: بل النّساء، قال: فكيف جعل الله
للمرأة سهماً واحداً وللرجل سهمين؟ يا أبا حنيفة، الغائط أقذر أم المنيّ؟ قال: بل
الغائط، قال: فلم يغتسل من المنيّ ولا يغتسل من الغائط؟ قال: ولم صارت الحمامة تفتدى بشاةٍ
وليست الشّاة مثلاً للحمامة؟ قال فيلسوف: العلم يلقى طالبه على ثلاثة أوجهٍ: على
نحو القوت، أو على نحو الكفاية، أو على نحو الغنى ليصحّ الترتيب.
وقال فيلسوف: الإنسان إمّا أن يكون ملك النّفس والحال،
أو يكون ملك النفس غير ملك الحال، أو يكون ملك الحال غير ملك النّفس.
خرج شبيب بن شيبة من دار المهدي فقيل له: كيف تركت
الناس؟ قال: تركت الداخل راجياً، والخارج راضياً.
خرج المسيبي من دار ابن عبّاد فقلت له: كيف رأيت الناس؟
قال: رأيت الداخل ساقطاً، والخارج شاخصاً.
قال ابن وهب: طرف الصّداقة أملح من طرف العلاقة، والنّفس
بالصديق آنس منها بالعشيق.
وقرئ بخطّه: إذا أقبلت الدول كثرت العدد وقلّ العدد،
وإذا أدبرت كثر العدد وقلّت العدد.
قال المدائني: ينبغي للملك أن يتفقّد أمر خاصّته في كلّ
يوم، وأمر عامّته في كلّ شهر، وأمر سلطانه في كلّ ساعة.
لقي رجلٌ بعض الأمراء في أطمارٍ رثّةٍ وقال: لا تنظر -
أصلحك الله - إلى هيئتي ولكن انظر إلى همّتي، وإن رأيت أن تسمني بعرفك، وتترع قلبي
من شكرك، وتجعله علماً يدلّ على مجدك، فإني كما قال الأوّل: الطويل
فإن أك قصداً في الرجال فإنّني ... إذا حلّ أمرٌ ساحتي
لجسيم
شاعر: الكامل المجزوء
المرء يهوى أن يعي ... ش وطول عمرٍ قد يضرّه
تبلى بشاشته ويأ ... تي بعد حلو العيش مرّه
وتسوءه الأيّام حتّ ... ى ما يرى شيئاً يسرّه
كم شامتٍ بي إن هلك ... ت وقائلٍ لله درّه
قال أبو عبيدة: خرج النّابغة الجعدي على النّاس وقد فني
وذهب به السّنّ، عاصباً رأسه بعصابةٍ، فأنشدهم:
المرء يهوى أن يعيش...
قال ابن مكرم: من زعم أنّ أبا العيناء دون عبد الحميد في
الكتابة إذا أحسّ بكرمٍ فقد كذب، وذلك أنه كتب إلى عبيد الله بن سليمان وقد نكبه
وأباه المعتمد وهما يطالبان بمالٍ يبيعان له ما يملكان من عقارٍ وأثاثٍ وعبدٍ وأمةٍ،
وكان لهما خادمٌ أسود عرضاه للبيع فطلب بخمسين ديناراً، فكتب إليه أبو العيناء:
وقد علمت - أطال الله بقاءك - أنّ الكريم المنكوب أجدى على الأحرار من اللئيم
الموفور، لأنّ اللئيم يزيد مع النّعمة لؤماً، ولا تزيد المحنة الكريم إلاّ كرماً،
هذا متّكلٌ على رازقه، وهذا يسيء الظّنّ بخالقه، وعبدك إلى ملك كافور الخادم فقير،
وثمنه على ما اتّصل به يسير، فإن سمحت به فتلك منك عادتي، وإن أمرت بأخذ ثمنه
فماله منك مادتي، أدام الله لنا دولتك، واستقبل بالنّعمة نكبتك، وأدام عزّك
وكرامتك. فوجّه إليه بالخادم.
قال عمر بن الخطّاب: إنّما الدّنيا أملٌ مخترم، وأجلٌ
منتقص، وبلاغٌ إلى دارٍ غيرها، وسيرٌ إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرءاً
فكّر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربّه، واستقال ذنبه.
كان ابن عبّاس إذا ذكر عليٌّ عليه السلام يقول: كان
والله الكنز الكبير، والبحر الغزير، والغيث المطير، والشّجاع الخطير، الذي لم يكن
له في الورى نظير، مؤدّب الأدباء، وسيّد الخطباء، وقائد النّجباء، ومن إذا عرضت
مشكلةٌ أجاب عنها والناس سكوت.
شاعر: الوافر
تبحبح في الكتابة كلّ وغدٍ ... فقبحاً للكتابة والعماله
ترى الآباء نسبتهم جميعاً ... إلى الأبناء من فرط
النّذاله
لأبي الشّيص: المتقارب
مزجت المدام بريق الغمام ... وقد زرّ جيب قميص الظّلام
فشابت نواصي الدّجى وانفرى ... عن الصّبح سربال ليل
التّمام
حبوتهما صحن قارورةٍ ... وأضحكتها عن لسان الضّرام
يطوف علينا بها أحورٌ ... فعولٌ بعينيه فعل المدام
غزالٌ نسجنا له حلّتين ... من الورد والآس في يوم رام
قال الحكيم: إذا أنا فعلت ما أمرت به وكان خطأً لم أذمم عليه،
وإذا فعلت ما لم أؤمر به وكان صواباً لم أحمد عليه، أي لا أتعدّى.
شاعر: الطويل
وليلٍ رقيق الطّرّتين كأنّما ... ترود به النفاس مسكاً
تضوّعا
ترى فيه آفاق السماء كأنّما ... كساها ظلام الليل برداً
موسّعا
كأنّ الثّريّا فيه درٌّ تقاربت ... مساقطه عن سلكه فتجمّعا
أخذت بقطريه وأحببت طوله ... أغازل مثل الرّيم ريع
فأتلعا
أقول له والصّبح يطرف ناظري ... فدىً لك نفسي ظاعناً
ومودّعا
نظر إبراهيم بن سيّار النّظّام إلى وجهٍ صبيحٍ وألحّ،
فقيل له في ذلك فقال: ولم لا أتأمل ما أستحسنه ممّا أحلّ الله، وفيه دليلٌ على صنعة
الله تعالى، وفيه اشتياقٌ إلى ما وعد الله تعالى؟ لأبي الحسن البصري: الطويل
أيا ضرّة الشمس المضرّة بالشّمس ... ويا سؤل نفسي ما
جنيت على نفسي
غرست الهوى حتى إذا تمّ واستوى ... قطعت مجاري الماء عن
ذلك الغرس
قال الجاحظ: لا زلت في عداد من يسأل ويبحث، ولا زلنا في
محلّ من يشرح ويوضح.
وقال: ليس مع العيان وحشة، ولا مع الضرورة وجمة، ولا دون
اليقين وقفة.
وقال أيضاً: النّاس بين معاندٍ يحتاج إلى التّقريع،
ومحاجٍّ يحتاج إلى الإرشاد، ووليٍّ يحتاج إلى المادّة.
وقلت لبعض الأدباء: كيف رأيت فلاناً؟ قال: طويل العنان
في اللّؤم، قصير الباع في الكرم، وثّاباً على الشّرّ، زمناً على الخير، كافراً
بالنّعم، متحكّكاً بالنّقم.
وقال عليّ بن عبيدة: كان عندي ثلاثة تلامذة فجرى كلامٌ
فقال أحدهم: هذا كلامٌ يجب أن يكتب بالغوالي في خدود الغواني، وقال الثاني: هذا كلامٌ
يجب أن يكتب بأنامل الحور في ورق النّور، وقال الثالث: هذا كلامٌ يجب أن يكتب
بأقلام النّعم على ورق الكرم.
وقال الجاحظ في فصلٍ من كتاب: وقد أسقط عنه مؤونة
الرّويّة، وأورثه إلف السّكون، وكفاه خلاج الشكّ، واضطراب النّفس، وجولان القلب.
سمع بعض الأدباء كلاماً فقال: هذا كلامٌ يجب أن يكتب
بدموع الهجران على خدود القيان.
شاعر: السريع
جاريةٌ أقلقني هجرها ... لمّا جفاني بالهوى أسرها
قد قال لي العاذل في حبّها ... ما أمرك اليوم وما أمرها
أقدّها أضناك أم دلّها ... أم وجهها المشرق أم نحرها
أم طرفها الفاتر أم ظرفها ... أم ريقها البارد أم ثغرها
أم حسن تفّاحٍ بدا مونقاً ... مدوّراً أنبته صدرها
قلت له أعشق ذا كلّه ... ونصف حرّان وثلثي رها
مرّ شبيب بن يزيد الخارجيّ على غلام قد استنقع في الفرات
فقال: يا غلام، اخرج أسائلك، فقال: إنّي أخاف، قال: ومن أيّ شيءٍ تخاف؟ قال فأنا
في أمنٍ حتى أخرج؟ قال: نعم، قال: فوالله لا أخرج اليوم، فقال شبيبٌ: أوّه، خدعني الغلام،
وأمر رجلاً يحفظه لئلا يصيبه أحدٌ بمكروهٍ، ومضى وخرج الغلام.
مرّ سليمان بن عبد الملك بميلٍ في بعض أسفاره فقال: من
هاهنا يخبرنا على كم هذا الميل من البريد؟ فلم يجد أحداً، فقال أعرابيٌّ يعدو بين
يديه: أنا أخبرك، قال: وكيف وأنت لا تقرأ، فعدا ثم عاد فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت محجناً،
وحلقةً وثلاثةً كأطباء الكلبة ومثل رأس القطاة بمنقارها، فقال: قد أخبرت وأبلغت،
هو خمسةٌ من البريد.
قيل لأعرابيّ: أيّ الزّاد أحبّ إليك؟ قال: الغريض
النّضيج.
قيل لأعرابيّ: ما بال مراثيكم أجود، قال: لأنّا نقولها
وأكبادنا تحترق.
شاعر: مخلع البسيط
واحسرتا من فراق قومٍ ... كانوا هم الكهف والحصون
والموت والأسد والرّواسي ... والأمن والخفض والسّكون
لم تتنكّر لنا الليالي ... حتى توفّتهم المنون
وكلّ نارٍ لنا قلوبٌ ... وكلّ ماءٍ لنا عيون
قال أعرابيٌّ لآخر: فيك ملق الإماء، ودخن الأعداء.
ذكر أعرابيٌّ قوماً فقال: أقبلوا كالفحول، يمشون مشي
الوعول، فلمّا تصافحوا بالسّيوف، فغرت المنايا أفواهها.
أنشدني شيخ من غنيّ لنافع بن خليفة الغنوي: الطويل
بني عمّنا لا تظلمونا فإنّنا ... نرى الظّلم أحياناً
يشلّ ويعرج
ويترك أعراض الرّجال كأنّها ... فريسة لحمٍ ليس عنها
مهجهج
وكربة جوعٍ لا يكاد فقيرها ... من الجهد يستحيي ولا
يتحرّج
تجلّت ولم يعلق بثوبي عارها ... إذا عدّ فيها الطّعم
والمتولّج
قال بعض السّلف: جعل الله البهاء والهوج في الطويل
الكبير، والدّمامة في القصير، وجمع الخير فيما بين ذلك وهو الرّبع.
قيل لجعفر بن محمد الصّادق رضي الله عنهما: كيف صار مولى
القوم منهم؟ قال: خلق الله تعالى المعتق من طينة المعتق، ثم أجراهم في أصلاب
الرّجال وأرحام النساء، فأخرجهم الله تعالى بالولاء، فلذلك صار مولى القوم منهم.
قال أعرابيّ: اتّقوا الدّنيا فإنها اسحر من هاروت وماروت.
قال بعض السّلف: كان يقال: استطرد لعدوّك واتّقه بإظهار
الرّضا عنه والمداراة، حتى تصيب الفرصة فتأخذه على غرّة.
قال أعرابيّ: أعظم بخطرك أن لا يرى عدوّك أنّه عدوّك.
قال أعرابيّ: الصّورة الظّاهرة ترجمان الصّورة الباطنة.
قال أعرابيّ: يحسب من منعه عدم المال من الجزاء أن يبسط
جدة الشكر بالثّناء.
قال أعرابيّ: من ظفر بالغنى أتبعه، ومن فاته أنصبه.
وقال أبو مرحوم الصّوفي: لولا أن الخلاف موكّلٌ بكلّ
شيءٍ لكانت منفعة الإهليلج في اللّوزينج.
قال أبو حازم الأعرج: إن عوفينا من شرّ ما أعطينا، لم
يضرّنا فقد ما زوي عنّا.
أضلّ أعرابيٌّ غلاماً له فنشده فقيل له: صفه، قال: في
رجله جنف، وفي أيره قلف، وفي أنفه ذلف، وفي مشيه دلف.
وقالت أعرابيةٌ لخصيّ: اسكت فما لك حزم الرجال ولا رقّة
النّساء.
باع أعرابيٌّ غلاماً له فجعل سقّاءً، فلقيه الأعرابيّ
فقال له: كيف حالك؟ قال: أنا في سفرٍ لا ينقضي، وغديرٍ لا ينزح، وقومٍ لا يروون.
ونظرت امرأةٌ إلى زوجها يخضخض، فلما حضر العشاء اعتزلت،
فقال: ما لك لا تتعشّين؟ قالت: أكره أن أزاحم ضرّتي على المائدة.
وقال المدائني لجعفر بن سليمان: لو قسم البلاء بين الناس
بالحصص لم يصبنا أكثر ممّا أصابنا، بعثنا بشاتنا إلى التيّاس مع الجارية، فعادت
الشاة حائلاً والجارية حاملاً.
كتب رجلٌ إلى هشام الواسطيّ أن اكتب إليّ بما أنت عليه،
فإنّا نلقى من القدريّة والرّافضة شدّةً، فكتب إليه: إن كنت تحبّ أن تكون على ما
كان عليه السّلف من أصحاب محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم فلا تكفّرنّ أحداً من هذه
الأمّة بذنبٍ يكون منه، ومن زعم أنّه يكون في قدرة المخلوق ما لا يريد الخالق فقد
عجّز الخالق، ومن تبرأ من أبي بكرٍ وعمر وعثمان فقد تبرّأ من عليٍّ، ومن تبرّأ من
عليٍّ فقد تبرّأ من هؤلاء كلّهم، والبراء بدعةٌ، والولاية بدعةٌ، وذلك أن يقول
الرجل: إنّي أتبرّأ من فلانٍ وأتولّى فلاناً، فإن حاجّك محاجٌّ ممّن حسن مذهبه
وذهب عقله، فاتل عليه: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشّجرة " هذا
موضع الرّضا عنهم فأين موضع السّخط؟ فإن كفر بهذا فقد كفر بالقرآن. وأخبرك بثلاثٍ
لا يضرّهنّ عدل عادلٍ، ولا جور جائرٍ: الصّلاة خلف كلّ برٍّ وفاجر، والحجّ مع كلّ برٍّ
وفاجر، والجهاد مع كلّ برٍّ وفاجر.
لو لم يؤخذ بهذا الحديث لعطّلت الأحكام.
لعمارة بن عقيل: الوافر
وما ينفكّ من سعدٍ إلينا ... قطوع الرحم فارية الأديم
ونغفرها كأن لم يفعلوها ... وبعض العفو أذرب للظّلوم
ورميك من رماك أخفّ ثقلاً ... عليك غداً وأمنع للحريم
قيل لأعرابيّ: كيف ابنك؟ قال: عذابٌ رعف به الدهر،
فليتني قد أودعته القبر، فإنه بقاءٌ لا يقاومه الصبر، وفائدةٌ لا يجب فيها الشّكر.
رقّص أعرابيٌّ ابنه فقال: الرجز
أحبّه حبّ الشّحيح ماله ... قد ذاق طعم الفقر ثم ناله
إذا أراد بذله بدا له
آخر: البسيط
إذا رأيت ازوراراً من أخي ثقةٍ ... ضاقت عليّ برحب الأرض
أوطاني
فإن صددت بوجهي كي أكافئه ... فالعين غضبى وقلبي غير
غضبان
يقال: سلقى بناءه يسلقيه أي جعله مستلقياً ولم يجعله
شكّاً، والشكّ: المستقيم.
جرى بين أي الصّقر بن بلبل وبين ابن ثوابة كلامٌ أربى
فيه ابن ثوابة عليه، وكان أبو العيناء منقطعاً إلى أبي الصّقر، فقال لابن ثوابة
منتصراً له: ما منع أبا الصّقر من كلامك إلاّ أنّه سهل عليه دمك أن يسفكه، وعاف
لحمك أن يأكله، ولم يجد لك شرفاً فيهدمه، ولا فضلاً فيثلمه، فقال له ابن ثوابة: ما
أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يا مكدّي؟ فقال أبو العيناء: يحقّ لمن ذهب بصره،
وضعفت قوّته، وجفاه سلطانه، ونقصت عمالته، أن يعود على إخوانه فيأخذ من أموالهم
فيستعين بها على دهره، ولكن أسوأ حالاً منّي من يستنزل الماء من أصلاب الرّجال في
بطنه فيعظّم إجرامهم، ويقطع أنسابهم، فقال ابن ثوابة: ما استبّ اثنان إلاّ غلب
ألأمهما، فقال أبو العيناء: فبذلك غلبت أبا الصّقر.
شاعر: المتقارب
ترحّل ما ليس بالقافل ... وأعقب ما ليس بالآفل
فلهفي على السّلف الراحل ... ولهفي من الخلف النازل
أبكي على ذا وأبكي لذا ... بكاء المولّهة الثّاكل
تبكّي من ابنٍ لها قاطعٍ ... وتبكي على ابنٍ لها واصل
قال صالح بن عبد القدّوس: ليس شيءٌ إلاّ وفيه منفعة،
فقال له رجل: وأيّ منفعةٍ في أن يعلّق رجلٌ من إحدى يديه، فقال: سبحان الله، لا
يعرق إبطه.
كان أبو خزيمة المديني يقول: اللهمّ ارزقني، فإن كنت لا
ترزقني لكرامتي عليك فقد رزقت من هو خيرٌ مني سليمان بن داود، وإن كنت لا ترزقني
لهواني عليك فقد رزقت من هو شرٌّ منّي وهو فرعون ذو الأوتاد.
وشكا أبو خزيمة يوماً نكبات الدهر فقال له رجل: هوّن
فإنّ الله يدّخر لك ثوابها، فقال له أبو خزيمة: الآخرة خيرٌ أم الدّنيا؟ قال: بل
الآخرة، قال: فإنّه ليس يعطيني من أبغضهما إليه، يعطيني من أكرمهما عليه؟! يقال في
قوله تعالى: " مسوّمين
" معلمين، من سيماء وسيمياء، ومن قال مسوّمين أراد
مرسلين، مأخوذٌ من الإبل السّائمة المرسلة في مراعيها، فأمّا الحجارة فمسوّمةٌ لا
غير أي معلّمةٌ.
دعا أعرابيٌّ على رجلٍ فقال: اللهمّ أبح ذماره، وعجّل
بواره، وباعد داره.
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: قد تقمّص الشّحناء، وادّرع
البغضاء، وتسربل العوراء.
وصف أعرابيٌّ آخر فقال: هو أفعوان البلاد، وعقربان
الصّلاد.
وصف أعرابيٌّ جيشاً فقال: تكتّب فرسانه، وتحرّب أقرانه،
واستعدّ شبّانه.
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: هو كالمخدر الأكّال، والذئب
العسّال.
قال أعرابيّ: بالله تعالى واثق، وبنفسي سابق، وإلى
المبادهة تائق.
قال بعض السّلف: العلم لا ينفد ولا يبيد، ولا يندم
حامله، ولا يعطب من تمسّك به، ولا يفتضح من استند إليه، ولا تسقط منفعته، ولا يخسر
جامعه.
تقول العرب في صفة الأعداء: زرق العيون، سود الأكباد،
صهب السّبال.
قيل لأبي المدوّر السّعدي: لم لا تجتمع مع النّاس؟ قال:
إنّه لا يزال منكم عبدٌ أحمق، محجوم القفا، معلم الكمّ، يكنى أبا إسماعيل وأبا
إبراهيم وأبا إسحاق، يدلظني بمنكبه، أي يدفعني.
يقال: عنا يعنو إذا صار أسيراً، وأعنيته: استأسرته.
يقال: هلممت القوم أي دعوتهم.
قال بعض اللغويين: الوفرة ما لم يجز الأذن، والجمّة: ما
جاوزت الأذن، واللّمّة: ما ألمّت بالمنكب، والذّوائب والغدائر: ما لحق الكتفين.
وقال العلماء: أيام الشهر ثلاثةٌ غرر، وثلاثةٌ نفل،
وثلاثةٌ تسع، وثلاثةٌ عشر، وثلاثةٌ بيضٌ، وثلاثةٌ دآدي، وثلاثةٌ حنادس، وثلاثةٌ
سرار، وثلاثةٌ محاق؛ وأيّام الشّهر كنايةٌ عن الليالي، وإذا قلت الليالي قلت:
ثلاثٌ غرر، وثلاث نفل، وقد يقال لها أيّام، ألا ترى أنّك تقول: صمت البيض، والصّوم
لا يكون ليلاً.
بثّ رجلٌ في وجه أبي عبيدة مكروهاً فأنشأ يقول: الطويل
لو أنّ لحمي إذ وهى لعبت به ... سباع حرامٍ أو ضباغٌ
وأذؤب
لهوّن وجدي أو لسلّى مصيبتي ... ولكنّما أودى بلحمي أكلب
قيل لبعض العلماء: كيف كانت بلاغة الأمين؟ قال: والله
لقد أتته الخلافة في يوم جمعة، فما كان إلاّ ساعة حتى نودي الصلاة قائمة، فخرج
ورقى المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيّها النّاس، وخصوصاً يا بني
العبّاس، إنّ المنون مراصد ذوي الأنفاس، حتمٌ من الله لا يدفع حلوله، ولا ينكر
نزوله، فارتجعوا قلوبكم الحزن على الماضي إلى السّرور بالباقي، تجزون ثواب الصّابرين،
وأجور الشّاكرين. فتعجّب النّاس من جرأته، وبلّة ريقه، وجودة عارضته.
يقال: من علامة الرّشد أن تكون النّفس إلى بلدها توّاقة،
وإلى مسقط رأسها مشتاقة.
وقال آخر: احفظ بلداً رشّحك غذاؤه، وأكنّك فناؤه.
وقال أعرابيّ: يحنّ الكريم إلى جنابه، كما يحنّ الأسد
إلى غابه.
خطب الناس هاشم بن عبد مناف فقال: أيّها النّاس، الحلم
شرف، والصبر خلف، والجود سؤدد، والمعروف كنز، والجهل سفه، والعجز ذلّة، والحرب
خدعة، والظفر دول، والأيّام عبر، والمرء منسوبٌ إلى فعله، ومأخوذٌ بعمله، فاصطنعوا
المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الحمد تفوزوا به، ودعوا الفضول تجانبكم السّفهاء،
وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا عن الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم
يرفق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة، وإيّاكم والأخلاق الدنيّة فإنها تضع
الشّرف وتهدم المحلّ.
شاعر: الكامل
عجباً لحفظي سرّها في غيبها ... ولمثل ذاك تعجّب
المتعجّب
بكرت مشرّقةً ورحت مغرّباً ... شتّان بين مشرّقٍ ومغرّب
إنّي لآمل من حبيبي نظرةً ... والقلب بين مصدّقٍ ومكذّب
آخر: الخفيف
خلق المال واليسار لقومٍ ... وأراني خلقت للإملاق
أنا فيما أرى بقيّة قومٍ ... خلقوا بعد قسمة الأرزاق
قال الرّقاشيّ في قصصه: يا أهل الدّيار الموحشة التي نطق
بالخراب فناؤها، وشيّد في التراب بناؤها، فمحلّها مقترب، وساكنها مغترب، أهل
محلّةٍ لا يتواصلون تواصل الإخوان، ولا يتزاورون تزاور الجيران، قد طحنهم الدّهر بكلكله،
وأكلهم الثّرى بجندله، فعليهم منّا التّرحّم والسلام، ومن ربّهم العفو والإكرام.
قال فيلسوف: انتقم من حرصك باليأس، كما تنتقم من عدوّك
بالقصاص.
وقال أعرابيّ: الجمال في الأنف، والملاحة في العينين،
والظرف في الفم.
شاعر: المتقارب
أتتني تؤنّبني بالبكاء ... فأهلاً بها وبتأنيبها
تقول وفي قولها حشمةٌ ... أتبكي بعينٍ تراني بها
فقلت متى استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها
جاء مجنون إلى باب رئيس فقال: البسيط
عليك إذنٌ فإنّا قد تغدّينا ... لسنا نعوذ لأنّا قد
تعدّينا
يا أكلةً سلفت أبقت حرارتها ... داءً بصدرك ما صمنا
وصلّينا
قال الماهاني: دخلت مارستان بلدٍ فرأيت مجنوناً ظريفاً
نظيفاً، فسألته أن ينشدني، فأنشدني في وردٍ يقطّع جسده: المنسرح
أما ترى الورد في أكفّهم ... يجتثّ للناظرين من ورقه
كالقلب نار الهوى تلذّعه ... والقلب يهوى الهوى على حرقه
قال بعض السّلف: لا ترض قول أحدٍ حتى ترضى فعله، ولا ترض
فعل أحدٍ حتّى ترضى قوله وعقله، ولا ترض عقل أحدٍ حتى ترضى حياءه.
قال: ابن آدم مطبوع على كرم ولؤم فإذا قوي الحياء قوي
الكرم وإذا ضغف الحياء قوي اللؤم شاعر: الوافر
له قلبٌ تقلّبه الليالي ... على فرشٍ من السّفر البعيد
ونفسٌ ما تقرّ على دنيٍّ ... من العيش المصرّد والزّهيد
وهمٌّ لا يطيف به التّمنّي ... وعزمٌ نيط بالبأس الشديد
فتى الدّنيا إذا ما سيل عنه ... ليوم كريهةٍ أو يوم جود
وكفٌّ ما تملّ من العطايا ... وقلبٌ ما يخاف من الوعيد
قال موسى بن عيسى أمير الكوفة لأبي شيبة قاضي الرّيّ: لم
لا تغشانا فيمن يغشانا؟ فقال: لأني إن جئتك فقرّبتني فتنتني، وإن أقصيتني حزنتني،
وليس عندي ما أخافك عليه، ولا عندك ما أرجوك له، فلأيّ شيء أغشاك؟ فسكت موسى.
شاعر: الوافر
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فافعل ما تشاء
فلا والله ما في العيش خيرٌ ... ولا الدّنيا إذا ذهب
الحياء
يعيش المرء ما استحيا كريماً ... ويبقى العود ما بقي
اللّحاء
عزّى صالح المرّي رجلاً عن ابنه فقال: يا هذا إن كان
مصيبتك بابنك لم تحدث لك موعظةً في نفسك، فمصيبتك جللٌ عند مصيبتك بنفسك، فإيّاها
فابك.
قال فيلسوف: حدّ الفضيلة اعتياد فعلٍ ممدوحٍ يقتفى به
أثر سلفٍ مرضيّ، وهي واسطة بين رذيلتين؛ قال: وإنّما قلت اعتياد فعلٍ لأنّه يمكن
فعلها وفعل ضدّها، قال: فقلت: عدلٌ لأنه واسطة بين رذيلتين لفساد كلتا حاشيتيهما،
أعني السّرف والتقصير.
وقال فيلسوف: كونوا من المسرّ المدغل أخوف منكم من
المكاشف المعلن، فإنّ مداواة العلل الظّاهرة أهون من مداواة ما خفي وبطن.
وقال أرسطاطاليس: أعجب العجب ترك العجب من العجب.
قال أعرابيّ: عليك بالأدب، فلأن يذمّ بيانك خيرٌ من أن
يعاب عيّك.
قال الباقر رضي الله عنه في قوله تعالى: " ومن يطع
الله ورسوله ويخش الله ويتّقه " قال: يطع الله: فيوحّده، ورسوله: فيصدّقه،
ويخشى الله: على ما سلف من ذنوبه، ويتّقه: فيما بقي من عمره، فأولئك هم الفائزون
غداً بالجنّة.
قال سفيان بن عيينة: صحبت النّاس خمسين سنةً ما ستر أحدٌ
لي عورةً، ولا ردّ عني غيبةً، ولا عفا لي عن مظلمةٍ، ولا قطعته فوصلني، وأخصّ
إخواني لو خالفته في رمّانةٍ فقلت: حامضة، وقال: حلوة، لسعى فيّ حتى يشيط دمي.
أصابت إسماعيل بن يسار خصاصةٌ فطيّن على نفسه حتى مات
هزلاً، ولم يسأل الناس.
قال أعرابيّ: إن أطعت الغضب أضعت الأدب.
قال بعض الحكماء: أوّل صناعة الكاتب كتمان السّرّ.
قال بعض المغفّلين في الطّواف: ربّ ارحم ترحم، واغفر ما
تعلم وما لا تعلم.
قال عمر بن الخطّاب: بئس الجار الغنيّ، يأخذك ما لا
يعطيك من نفسه، فإن أبيت لم يعذرك.
قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: بئس الجار الغنيّ
يبعث عليك ما لا يعينك عليه.
قال ابن مكرم لأبي العيناء: ألست عفيفاً؟ قال: أنت عفيف
النّفس زاني الحرم، قال: إنّما صار هذا مذ تزوّجت أمّك.
قال بعض السّلف: من أطلق من عمله بصّر في عمله، ومن مدّ
عينه إلى النّاس كثر غمّه وقلّ شكره، ومن أمن البلاء كان جزوعاً إذا نزل به، ومن
عوّد نفسه أكل الشهوات مات قلبه، ومن لم يعزم على الصّبر لم يظفر بما يحبّ.
قال أرسطاطاليس: إنّا جدراء أن نتّخذ مرآةً من الحكمة
مجلوّةً فنبدأ بالنّظر إلى الأمور فيها قبل اعتقاد شيءٍ منها واعتماله في همومنا،
وذلك أنّا قد رأينا ناساً يفرّون من العيوب والجهالة، وقد يحتويهم الخسران، وقد
يتعجّب، الحكماء من أمور هذا العالم ولا يدرون كيف يتأوّلون له، لأنّ أحاديثه ملتبسة،
والبغية فيه مكتومة.
قال فيلسوف: العلماء يشهدون حيث يقال: مات فلانٌ وإنّ
حكمته لم تمت.
قال أعرابيّ: من استضعف عدوّاً فقد اغترّ، ومن اغترّ فقد
أمكن من نفسه.
قال بعض السلف: أمورٌ أبداً تبعٌ لأمور، فالمروءة تبعٌ
للعقل، والعقل تبعٌ للمودّة، والعمل تبعٌ للعلم، والجدّ تبعٌ للتوفيق.
نظر أعرابيٌّ إلى خالد بن صفوان وهو يتكلّم فقال: كيف لم
يسد هذا مع بيانه، فقال خالد: منعتهم مالي، وكرهت السّيف.
لابن دريد: الطويل
وقالوا تيمّم أرض حجرٍ تسد بها ... وما أرض حجرٍ من
سمائي ولا أرضي
ولكنّما أرض العراق التي بها ... تملّيت عيشي الغضّ في
الزّمن الغضّ
وأول أرضٍ مسّ جلدي ترابها ... ورنّق في عيني بها طارف
الغمض
شاعر: المتقارب
لك الحمد إمّا على نعمةٍ ... وإمّا على نقمةٍ تصرف
تطاع لأنّك لا تستطاع ... وتعرف من حيث لا توصف
قال النّضر بن شميل في كتابٍ يسميه المنطق: تمضّ في
كتابك: أي امض فيه، واستجدّ الناس السلطان أكالاً: أي يأكل أموالهم. وقالوا: جاءوا
بأطعماتهم فتطاعموا، وبأعشياتهم فتعشّوا، وبأغدياتهم فتغدّوا، وقال: فلان طاعمٌ من
طعامكم، وقال: رجلٌ شبعان، وامرأةٌ شبعى للأمة، والحرّة لا يقال لها ذاك؛ وقال
النّضر: ما لك بهذا الأمر يدٌ: أي ما لك به ضباطةٌ ولا قوّةٌ؛ ويقال: رجلٌ ملوعٌ: أي
أصابه غيظٌ كأنّه من اللّوعة؛ وقال: الهائع: الجائع.
وقال أبو عبيدة: ما يمكن أن يكون في الدّنيا مثل
النّظّام، سألته وهو صبيٌّ عن عيب الزجاج، فقال: سريع الكسر، بطيء الجبر؛ ومدحوا
النّخلة عنده فقال: صعبة المرتقى، وبعيدة المهوى، خشنة المسّ، قليلة الظّلّ. وذكر
الخليل عنده فقال: توحّد به العجب فأهلكه، وصوّر له الاستبداد صواب رأيه فتعاطى ما
لا يحسنه ورام ما لا يناله، وفتنته دوائره التي لا يحتاج إليها غيره.
وقال المريسيّ لأبي الهذيل بحضرة المأمون بعد كلام جرى:
كيف ترى هذه السّهام؟ فقال: ليّنة كالزّبد، حلوة كالشّهد، فكيف ترى سهامنا؟ قال:
ما أحسست بها، قال: لأنّها صادفت جماداً.
شاعر: المنسرح
أيا أخاً كان لي وكنت له ... أشفق من والدٍ على ولد
حتّى إذا قارب الحوادث من ... خطوي وشدّ الزمان من عقدي
أحولّ عنّي وكان ينظر من ... عيني ويرمي بساعدي ويدي
قال رجل لمزبّد: من شجّك هاهنا - يعني استه - ؟ قال:
الذي شجّ أمّك في موضعين.
قالت امرأة الغاضري، وقد قطع لها قميصاً: ما أخشن هذا
القميص!! قال لها: أهذا أخشن أم الطّلاق؟ قالت: بل الطلاق.
قال رجلٌ لعمر: أيضحّى بالضّبي، فقال له عمر: قل: الظّبي
- بالظاء، قال: إنّها لغةٌ، قال: انقطع العتاب بيني وبينك.
قال رجلٌ للحسن البصري: يا أبا سعيد أنا أفسو في ثوبي
وأصلّي، يجوز؟ قال: نعم لا كثّر الله في المسلمين مثلك.
أبو العتاهية: الكامل المجزوء
الشّمس تنعى ساكن الدّ ... نيا ويسعدها القمر
أين الذين عليهم ... ركم الجنادل والمدر
أفناهم غلس العش ... يّ يهزّ أجنحة السّحر
ما للقلوب رقيقةً ... وكأنّ قلبك من حجر
ولقلّ ما تبقى وعو ... دك كلّ يومٍ يعتصر
قال ابن الزّبير في جوابٍ لمعاوية: ربّ آكل عبيطٍ سيقدّ
عليه، وشارب صفوٍ سيغصّ به. والقداد: داءٌ.
قال رجل لناجية المدائني لمّا مات أبوه: أجرك الله
تعالى، فقال: رزقنا الله مكافأتك.
شاعر: الوافر
وربّ مدامةٍ كفتيت مسكٍ ... تضوّع دنّها وسط الدّنان
كلون الجلّنار إذا أديرت ... وإن مزجت كلون الأرجوان
كخدّ حبيبةٍ همّت بأمرٍ ... ففاجأها الرّقيب على مكان
وبين الرّقّتين لنا ليالٍ ... سرقناهنّ من ريب الزّمان
جعلناهنّ تاريخ الليالي ... وعنوان التذكّر والأماني
لابن غريض اليهوديّ: الكامل
يا ليت شعري حين أندب هالكاً ... ماذا تؤبّنني به أنواحي
ولقد كففت عن العشيرة ريبتي ... ولقد أخذت الحقّ غير
ملاح
قد كنت شهماً في الحروب ومدرهاً ... وأكفّ من ذي الغرب
بعد طماح
ولليلةٍ قد بتّ فيها ناعماً ... يغدى عليّ بقينةٍ وبراح
في فتيةٍ بيض الوجوه مساعرْ ... ما بين نشوانٍ وآخر صاح
إنّ امرءاً خاف الحوادث جاهلاً ... ورجا الخلود كضاربٍ
بقداح
خرج رجلٌ مرةً إلى الصحراء فرأى في زرعه فساداً من بردٍ
فقال: يا ربّ أنت تنهى عن الفساد، فهذا حسن؟! قال بعض الأطباء: شرب النبيذ الحديث
الصافي أوفق للكبد، والعتيق أوفق للمعدة، ومن شرب العتيق فليقطع فيه التّفاح
والسفرجل.
يقال:
في الخصيّ ثمان خصال: تلين بشرته، ويخشن قلبه، وتتّسع
مقعدته، وتسترخي معدته، وتطول ساقاه، ويقصر أعلاه، ويسوء خلقه، وتذهب رحمته، وذلك
أنه لم يدرك أباه فيعرف رحمة الآباء للأبناء، ولم يولد له فيعرف رقّة الآباء على الأبناء،
وينتقل في عمره إلى ثلاث خصالٍ مذمومةٍ: في أوله ينكح، وفي أوسطه يزني، وفي آخره
يقود.
قال أبو عبيدة كان أبو هريرة يقول: اللهمّ ارزقني ضرساً
طحوناً، ومعدةً هضوماً، ودبراً نثوراً.
قيل لأبي مرّة: أيّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: ثريدةٌ دكناء
من الفلفل، رقطاء من الحمّص، ذات حفافين من اللحم، لها جناحان من العراق؛ قيل:
وكيف أكلك لها؟ قال: أصدع بهاتين - يعني السّبّابة والوسطى، وأشدّ بهذه - يعني
الإبهام، وأجمع ما شذّ منها بهذه - يعني الخنصر، وأضرب فيها ضرب والي السّوء في
مال اليتيم.
أخذ ملكٌ من العجم رجلاً وجد عليه فأمر بقتله، فقال
الرجل: أيّها الملك إن قتلتني وأنا صادقٌ كثر عتبك، وإن تركتني وأنا كاذب قلّ وزرك،
وأنت من وراء ما تريده، والعجلة يوكّل بها الزّلل، فعفا عنه.
أتي مصعب بن الزّبير برجلٍ من أصحاب المختار فأمر بضرب
عنقه فقال: أيّها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة،
ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطرافك وأقول: أي رّ سل مصعباً لماذا قتلني،
فقال: أطلقوه، فقال: أيّها الأمير، اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض عيشٍ، فقال: أعطوه مائة ألف
درهم، قال: أشهد الله تعالى أنّي جعلت لابن قيس الرّقيّات منها خمسين ألف درهم،
قال: ولم؟ قال: لقوله: الخفيف
إنّما مصعبٌ شهابٌ من الل ... ه تجلّت عن وجهه الظّلماء
فضحك مصعبٌ وقال: فيك موضعٌ للصّنيعة، وأمره بملازمته
ومؤانسته.
شاعر: الطويل
ومولىً لو أنّ السّمّ كان بكفّه ... سقاني من ذيفانه
فقضاني
معنّىً ببغضي والأواصر بيننا ... جزى الله عنه نفعه
وجزاني
أليس يرى أنّا إلى وقت غايةٍ ... وأنّ يدي من دونه
ولساني
وأنّي وإن أمسيت رمساً بقفرةٍ ... وأقبرت لم يسلم من
الحدثان
قال القطامي من قصيدة: الوافر
لقد علمت كهولهم القدامى ... إذا قعدوا كأنّهم النّسار
وشقّ البحر عن أصحاب موسى ... وغرّقت الفراعنة الكفار
وقول المرء ينفذ بعد حينٍ ... أماكن لا تجاوزها الإبار
تسمّع من نوازله صريفاً ... كما صاحت على الحدب الصّقار
قال: النّسار جمع نسر، والكفار جمع كافر، والإبار جمع
إبرة، والصّقار: جمع صقر، ولهذا رويناه.
شاعر: الطويل
سأشرب كاسيك اللّتي أنت شاربٌ ... وإن كانتا والله صاباً
وعلقما
وأدخل كفّي إثر كفّك في الذي ... عناك ولو أدخلتها جحر
أرقما
قال أعرابيٌّ لصاحبٍ له: أنت والله كالقمر الزّاهر عند
الشّرب، والسّحاب الماطر لدى اللّزب، والأسد الخادر عند الحرب.
قيل لأبي عمرة: كيف امرأتك؟ قال: مسقاط اللّيل، معثار
الذّيل.
يقال: الرّاحة للرجال غفلة وللنّساء غلمة.
ويقال:
الشّيب خطام المنيّة، ووافد الحمام، وتاريخ الكتاب في
عنوان العمر، وبريد الفناء، ورائد الموت، وتمهيد الهلاك، وأول مراحل الآخرة.
لهلال بن العلاء الرقّي: البسيط
لمّا عفوت ولم أحقد على أحدٍ ... أرحت نفسي من غمّ
العداوات
إنّي أحيّي عدوّي عند رؤيته ... لأدفع الشرّ عنّي
بالتّحيّات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنّه قد ملا قلبي محبّات
والنّاس داءٌ وداء النّاس قربهم ... وفي الجفاء لهم قطع
الأخوّات
فلست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودّات
لبعض المتكلّمين: الطويل
إذا أمر الله الورى ونهاهم ... بما لم يركّب فيهم علم
ذلك
فلا بدّ عندي من دليلٍ يدلّهم ... وإلاّ فلا عتبٌ على
كلّ هالك
قيل للإسكندر: إنّ فلاناً يثلبك فلو عاقتبه، قال: هو عند
العقاب أعذر.
لما فتح قتيبة سمرقند أفضى إلى أثاثٍ لم ير مثله وإلى
آلاتٍ لم يسمع بمثلها، فأحبّ أن يرى الناس ذلك، فأمر بالفرش ففرش، وأحضر قدوراً
يرتقى إليها بسلالم، ودخل عليه الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرّقاشيّ،
فلمّا رآه عبد الله بن مسلم سأل قتيبة أن يأذن له في كلامه فقال: لا ترده فإنّه خبيث،
فأبى عليه فأذن له، وكان عبد الله يضعّف، وكان قد تسوّر حائطاً إلى امرأةٍ قبل
ذلك، فقال للحضين: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، أسنّ عمّك عن تسوّر
الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى، قال: ما أحسب بكر بن
وائلٍ رأى مثلها، قال: لا ولا عيلان، ولو كان رآها سمّي شبعان ولم يسمّ عيلان، قال
عبد الله: أتعرف الذي يقول: الطويل
عزلنا وولّينا وبكر بن وائلٍ ... تجرّ خصاها تبتغي من
تحالف
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول: الوافر
وخيبة من يخيب على غنيٍّ ... وباهلة بن يعصر والرّكاب
قال له: أتعرف الذي يقول: الطويل
كأنّ فقاح الأزد حول ابن مسمعٍ ... وقد عرقت أفواه بكر
بن وائل
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول: الكامل
قومٌ قتيبة أمّهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
وحجز قتيبة بينهما.
قال قتادة بن مغرّب اليشكريّ: الرجز
رأيت عبد القيس لاقت ذلاّ ... إذا تعشّوا بصلاً وخلاًّ
وجوفياً ومالحاً قد صلاّ ... باتوا يسلّون الفساء سلاّ
سلّ النّبيط القصب المبتلاّ
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: " الخيل
بطونها كنز، وظهورها عزٌّ
" .
وقال عليه السلام في النّخل: " الراسخات في الوحل،
المطعمات في المحل " .
وقال عليه السلام: " يغرس في أرضٍ خوّارة، ويشرب من
عينٍ خرّارة " .
وقال عليه السلام: " إيّاكم والمشارّة فإنّها تيمت
الغرّة، وتحيي العرّة.
اختصم بلال بن جرير وبكر بن الأحنف الحمّاني في ماء،
فخشي بلالٌ أن يذكر أمّه وهي أمّ حكيم، وكانت أمةً للحجّاج فوهبها لجرير فولدت
بلالاً ونوحاً، فقال بلال: إني لأعلم والله أنّك ستذكر أمّ حكيم، إنها لسبيئة
زمام، وعطيّة ملك، وبنت دهقان، وزوج كريم، ليست كأمّك تغدو على أثر ضأنها بالمروت،
والله أعلم بما وجد عليها فحلف ليهبنّها لألأم العرب، فلم جد ألأم من أبيك فوهبها له.
وجد في صندوقٍ لعبد الله بن الزّبير صحيفةٌ فيها مكتوب:
إذا كان الحديث جلفاً، والميعاد خلفاً والمقيت إلفاً، والولد غيظاً، وغاص الكرام غيضاً،
وفاض اللئام فيضاً، فأعنزٌ جفر، في بلدٍ قفر، خيرٌ من ملك بني النّضر.
قال العبّاس حين استسقى به عمر: اللهمّ إنّه لا ينزل
بلاءٌ إلاّ بذنب، ولا يكشف إلاّ بتوبة، وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيّك، وهذه
أبداننا بالذّنوب، ونواصينا بالتّوبة، فاسقنا الغيث.
قال بعض قدماء العرب: أفضل النّساء أطولهنّ إذا قامت،
وأعظمهنّ إذا نامت، وأصدقهنّ إذا قالت، التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت ابتسمت،
وإذا صنعت جوّدت، التي تلزم بيتها، ولا تعصي بعلها العزيزة في قومها، الذّليلة في
نفسها.
قال بعض السّلف: لعليٍّ أربع خصالٍ ضوارس قواطع: سطةٌ في
العشيرة، وصهرٌ بالرسول، وعلمٌ بالتأويل، وصبرٌ إذا دعيت نزال؛ سطةٌ من وسطة،
كعدةٍ من وعدة، وصفةٍ من وصفة، وزنةٍ من وزنة.
شقيق بن السّليك الغاضري: المتقارب
إذا ما نكحت فلا بالرّفاء ... وإمّا ابتنيت فلا بالبنينا
تزوّجت أصلع في غربةٍ ... تجنّ الحليلة منه جنونا
إذا ما نقلت إلى بيته ... أعدّ لجنبيك سوطاً أمينا
يشمّك أخبث أضراسه ... إذا ما دنوت لتستنشقينا
كأنّ المساويك في شدقه ... إذا هنّ أكرهن حمّلن طينا
كأنّ توالي أضراسه ... وبين ثناياه غسلاً لجينا
قال بعض السّلف: ما استنبط الصّواب بمثل المشورة، ولا
حصّنت النّعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضة بمثل الكبر.
أتي الهادي برجلٍ مذنبٍ فجعل يقرّعه فقال الرجل: يا أمير
المؤمنين، اعتذاري ممّا تقرّعني به ردٌّ عليك، وإقراري بما تعتدّ به عليّ يلزمني
ذنباً، ولكني أقول: الطويل
فإن كنت ترجو في العقوبة راحةً ... فلا تزهدن عن
المعافاة بالأجر
قدم عبد الصمد بن المفضّل الرّقاشي الرّيّ وخالد بن ديسم
العربي على الديوان، فكتب إليه: الطويل
أخالد إنّ الرّيّ قد أجحفت بنا ... وضاق علينا كسبها
ومعاشها
وقد أطمعتنا منك يوماً سحابةٌ ... أضاءت لنا برقاً وكفّ
رشاشها
فلا غيمها يضحي فييأس طامعٌ ... ولا عيشها يأتي فتروي
عطاشها
وقد طال إتعابي إليك مطيّتي ... فلم يبق إلاّ عظمها
ومشاشها
ولو طاوعتني النّفس في بدو أمرها ... لألفيتها قد حدّ
عنك انكماشها
فأقلل بها غنماً ونفعاً ونائلاً ... مواعيد لا يبدو عليّ
رياشها
أيدفعني بالباب وهبٌ وعامرٌ ... وقد ولدتني ذهلها
ورقاشها
سأل أعرابيٌّ فقال: لقد جعت حتى أكلت النّوى المحرق،
ومشيت حتى انتعلت الدّم، وحتّى سقط من رجلي نحض لحم، وتمنّيت أنّ وجهي حذاءٌ
لقدمي، فهل من أخٍ يرحم؟ لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز بعث أهل بيت الحجّاج إلى
الحارث بن عمرو الطائي، وكان على البلقاء، وكتب إليه: أما بعد، فإنّي قد بعثت إليك
بآل أبي عقيل، وبئس والله أهل البيت في دين الله تعالى وهلاك المسلمين، فأنزلهم
بقدر هوانهم على الله تعالى وعلى أمير المؤمنين.
قدم معاوية المدينة فدخل دار عثمان فقالت ابنته عائشة:
واأبتاه! فقال لها معاوية: يا بنت أخي، إنّ النّاس أعطونا طاعةً وأعطيناهم أماناً،
وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعةً تحتها حقد، فإن نكثنا بهم نكثوا
بنا، فلا يدري أعلينا يكون أم لنا، فلأن تكوني بنت عمّ أمير المؤمنين خيرٌ من أن
تكوني امرأةً من المسلمين.
لما صافّ قتيبة بن مسلم التّرك وهاله أمرهم، سأل عن محمد
بن واسع فقيل: هو في أقصى الميمنة جانحاً على سية قوسه، ينضنض بإصبعه نحو السماء،
فقال قتيبة: لتلك الإصبع الفاردة خيرٌ من ألف سيفٍ شهيرٍ، وسهمٍ طرير.
قال بعض القدماء: إن كنت حافظاً للسّلطان في ولايتك،
حذراً منه عند تقريبه، أميناً له إذا ائتمنك، تشكر له ولا تكلّفه الشكر لك، تعلّمه
وكأنّك تتعلم منه، وتؤدّبه وكأنّه يؤدّبك، بصيراً بهواه، مؤثراً لمنفعته، ذليلاً
إن ضامك، قانعاً إن حرمك، وإلاّ فابعد منه كلّ البعد.
اجتاز أبو الأسود الدّؤليّ بقومٍ فقال بعضهم: كأنّ غضون
قفاه فقاحٌ، فقال: هل تعرف فقحة أمّك يا فتى؟ فأخجله.
سأل كيسان خلفاً وكان به صمم فقال له: يا أبا محرز،
علقمة بن عبدة جاهليٌّ أو من ضبّة؟ فقال له خلف: يا مجنون صحّح المسألة حتى يصحّ
الجواب.
قال أعرابيّ: أصابنا مطرٌ دغر الأرض.
وقال أعرابيّ: النساء فرشٌ، وخيرهنّ أوثرهنّ.
كان أعشى همدان منقطعاً إلى عتّاب بن ورقاء التّميميّ،
وكان ينادمه، فقال: يا أبا المصبّح، لئن أصبت إمرةً إنها لك خاصة، خاتمي في يدك
تقضي في أمور النّاس؛ فاستعمل على أصفهان، فجاءه الأعشى فجفاه فقال: الوافر
تمنّيني إمارتها تميمٌ ... وما أمّي بأمّ بني تميم
وكان أبو سليمانٍ خليلي ... ولكنّ الشّراك من الأديم
أتينا أصبهان فأهزلتنا ... وكنّا قبل ذلك في نعيم
أتذكر يا خويلد إذ غزونا ... وأنت على بغيلك ذي الوشوم
ويركب رأسه في كلّ وعثٍ ... ويعثر في الطريق المستقيم
وليس عليك إلا طيلسانٌ ... نصيبيٌّ وإلاّ سحق نيم
لما مات النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسمع بذلك نساءٌ
من كندة وحضرموت، خضبن أيديهنّ وضربن بالدّفوف، فقال رجلٌ منهم: الكامل
أبلغ أبا بكرٍ إذا ما جئته ... أنّ البغايا رمن كلّ مرام
أظهرن من موت النبيّ شماتةً ... وخضبن أيديهنّ بالعلاّم
فاقطع هديت أكفّهنّ بصارمٍ ... كالبرق أومض في جفون غمام
شاعر: البسيط
ما من صديقٍ وإن تمّت صداقته ... يوماً بأنجح في الحاجات
من طبق
إذا تلثّم بالمنديل منطلقاً ... لم يخش نبوة بوّابٍ ولا
غلق
لا تكذبنّ فإنّ النّاس مذ خلقوا ... لرغبةٍ يكرمون
النّاس أو فرق
مرّ خالد بن صفوان على أبي الجهم وتحته حمار فقال: ما
هذا يا ابن صفوان؟ فقال: عيرٌ من بنات الكداد، أصحر السّربال، محملج القوائم، يحمل
الرّجلة، ويبلّغ المنزل، ويمنعني من أن أكون جباراً عنيداً.
بعث النعمان إلى الحارث بن أبي شمر جيشاً وقال: من يعرف
عدوّنا الذي أنفذنا إليه جيشنا؟ فقال بعض بني عجل: أنا، فقال النّعمان: صفه، فقال:
قطفٌ نطف، صلفٌ قصف، فقام الرّديم وهو عمرو بن ضرار فقال: أبيت اللّعن، أوطأك
العشوة: هو والله حليم النّشوة، شديد السّطوة، قال: صدقت، كذا ينبغي أن يكون
عدوّنا.
لورد بن عاصم المبرسم في الحسن بن زيد العلوي: الوافر
له حقٌّ وليس عليه حقٌّ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لأهلها وهو الرّسول
فطلبه فهرب منه، ثم لم يشعر يوماً إلاّ وهو بين يديه
يقول: الوافر
ستأتي عذرتي الحسن بن زيدٍ ... وتشهد لي بصفّين القبور
قبورٌ لو بأحمد أو عليٍّ ... يكون مجيرها حفظ المجير
هما أبواك من وضعا فضعه ... وأنت برفع من رفعا جدير
فاستخفّ الحسن كرمه، فقام فبسط رداءه وأجلسه عليه وأمّنه.
قال بعض أهل اللغة: لببت الشيء ألبّه لبّاً إذا شددته
بحبلٍ أو خيط؛ ونادى أعرابيٌّ غلامه فقال: لبّيك، فقال: لبّ الحبل جنبيك؛ هكذا قال
أبو محمد الأندلسيّ، وكان كبيراً في اللغة، ورد بغداد وهو نحويٌّ، ولزم أبا سعيد السّيرافي،
وأنشد لبعض أهل المغرب: البسيط
الجود والغول والعنقاء ثالثةٌ ... أسماء أشياء لم تخلق
ولم تكن
وأنشد لآخر منهم: الخفيف
لو قضى الله للمنون بحتفٍ ... صيّر البين للمنون منونا
وكان أشحّ النّاس، وهذه شيمة أهل المغرب، وكان ربّما قرض
البيت، إلا أنّه كان ركيك الشّعر رديء النّثر سيّء العبارة، كثير الحفظ جيّد
الإتقان، ومات ببغداد سنة خمسٍ وسبعين وثلاثمائة.
للوليد بن عقبة: الطويل
وكنّا إذا ما حيّةٌ أعيت الرّقى ... وكان زعافاً يقطر
السّمّ نابها
دسسنا لها تحت الظلام ابن ملجمٍ ... جريّاً إذا ما جاء
نفساً حسابها
أبا حسنٍ ذقها على الرأس ضربةً ... بكفّ كريمٍ بعد وقتٍ
ثوابها
أمات ابن عفّانٍ فلم تبق دمنةٌ ... ونحن موالي غمرةٍ لا
نهابها
فألقى على المصريّ ثوب ظلامةٍ ... كما سلخت شاةٌ فطار
انكعابها
قال أعرابيّ: لا يكشف منسدل الهمّ إلاّ مشمّر الصّبر.
739ب - قد سألت السّيرافيّ عن الانسدال والانشمار فقال:
مسموعان.
قال بعض الفرس: الصّبر ربيع القلب.
وقال آخر: الصّبر يقلّم أظفار الخطوب.
كان أبو طالب نديماً لمسافر بن أبي عمرو، وهلك مسافرٌ
فرثاه أبو طالب فقال: الخفيف
ليت شعري مسافر بن أبي عم ... روٍ وليتٌ يقولها المحزون
رجع الرّكب سالمين جميعاً ... وخليلي في مرمسٍ مدفون
قال بعض أهل اللغة: في الفم اثنتان وثلاثون سنّاً،
ثنيّتان من فوق وثنيّتان من تحت، ورباعيّتان من فوق ورباعيّتان من تحت، ونابان من
فوق ونابان من تحت، وضاحكتان من فوق وضاحكتان من تحت، وثلاث أرحاءٍ من فوق وثلاث
أرحاءٍ من تحت، وثلاث أرحاءٍ من فوق وثلاث أرحاءٍ من تحت، وناجذان من فوق وناجذان
من تحت.
وقّع أبو صالح محمد بن يزداد إلى عاملٍ أخّر أمراً:
جعلنا إهمالنا لك وتعطّفنا ورفقنا بك مطيّةً لمطلك، وسبباً لدفعك ما لزمك ووجب
عليك، فامح ببدارك إساءتك، وبتعجيلك مدافعتك، وأحضر حسابك مفصّلاً في باقي أسبوعك،
ولا تحوج إلى عنفٍ بك، واستقصاءٍ عليك، إن شاء الله.
وكتب إلى جعفر بن محمود: ما زلت - أيّدك الله - أذمّ
الدهر بذمّه إياك، وأنتظر لنفسي لك عقباه، وأتمنّى زوال حال من لا ذنب له إلى رجاء
عاقبةٍ محمودةٍ تكون لك بزوال حاله، وتركت الإعذار في الطّلب على اختلالٍ شديدٍ
إليه، ضنّاً بالمعروف عندي إلاّ عن أهله، وحبساً لشكري إلاّ عن مستحقه.
فوقّع جعفر:
لم أؤخّر ذكرك تناسياً لحقّك، ولا إغفالاً لواجبك، ولا
إرجاءً لمهمّ أمرك، ولكني رجوت اتساع الحال بانفساح الأعمال، لأخصّك بأسناها
خطراً، وأجلّها قدراً وأعودها بنفعٍ عليك، وأوفرها رزقاً لك، وأقربها مسافةً منك،
وإذا كنت ممّن يحفزه الإعجال، ولا يتّسع له الإهمال، فسأختار لك خير ما يشير إليه،
وأقدّم النظر فيه، وأجعله أول ما أمضيه، إنّ شاء الله.
خطب يزيد بدمشق فقال: أيّهاالناس، سافروا بأبصاركم في
كرّ الجديدين، ثمّ ارجعوها كليلةً عن بلوغ الأمل، وإنّ الماضي عظةٌ للباقي، ولا
تجعلوا الغرور سبيل العجز عن الجدّ فتنقطع حجتكم في موقفٍ الله تعالى سائلكم فيه
ومحاسبكم على ما أسلفتم. أيّها النّاس، أمس شاهدٌ فاحذروه، واليوم مؤدّبٌ فاعرفوه،
وغدٌ رسولٌ فأكرموه، وكونوا على حذرٍ من هجوم القدر، فإن أعمالكم مطيّات أبدانكم،
والصّراط ميدان يكثر فيه العثار، والسالم ناجٍ والعاثر في النّار.
قال محمد بن العلاء السّجزي: لما ولي عبيد الله بن
سليمان الوزارة، أوصلت إليه كتاباً من عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وفيه يقول:
الطويل
أبى دهرنا إسعافنا في أمورنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ
ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا إنّ المهمّ
المقدّم
ذكر أعرابيٌّ امرأةً فقال: إن دعت القلوب لم تبطء عنها،
وإن قتلت لم يعد عليها.
قال الهيثم بن عديّ: قال جعفر بن معاوية لخالد بن صفوان:
ما منعك أن يكون عندك امرأةٌ شريفةٌ من أشراف أهل البصرة؟ قال: فابغني امرأةً،
قال: فأيّ النساء تريد؟ قال: ابغني امرأة بكراً كثيّبٍ وثيّباً كبكر، لا ضرعاً
صغيرةً ولا عجوزاً كبيرة، عاشت في نعمةٍ وأدركتها حاجة، فخلق النّعمة معها وذلّ
الحاجة فيها، وحسبي من حسبها أن تكون واسطةٌ في قومها، وحسبي من جمالها أن تكون فخمةً
من بعيد، مليحةً من قريب، ترضى منّي بالسّنّة، وترفع عنّي المنّة، إن عشت أكرمتها،
وإن متّ ورّثتها، لا ترفع رأسها إلى السماء رفعاً، ولا تضعه في الأرض وضعاً،
أديبةً عاقلةً فصيحة. فقال جعفر: يا أبا صفوان، الناس في طلب هذه منذ زمانٍ حتى
يبايعوها على الخلافة فلا يقدرون عليها، فاسل فإنّك حالم.
لمّا سيّر عليّ بن الجهم إلى خراسان كتب إلى بعض إخوانه
على لسان غلامٍ له: أمّا بعد، فإنّ الله إذا أراد أمراً جعل له من قضائه سبباً يجري
بعلمه، وينتهي إلى قدره، ولا إله إلاّه، أحصى كلّ شيءٍ عدداً، وأحاط بكلّ شيءٍ
علماً، وجعل لكلّ قدراً، ومن أسباب قدره أن سهّل لي بعدك من الشّعر ما أخاطب به
الشاهد وأكاتب الغائب، وأجتدي به وأستزيد، وأبلغ ما أريد، وهو يؤنسني إذا أوحشت،
ويطيعني إذا عصيت، ويصدع عنّي إذا شيت، بليغ الخطبة، جميل العشرة، كريم الصّحبة،
يرد الأندية، ويلج الأخبية، سائراً في البلاد، مسافراً من غير زاد، راضياً إن
رضيت، مؤذياً إن أوذيت، جازياً بما أوليت، باقياً إذا أفنيت، معترضاً في الأسمار،
عالماً بالأخبار، ومعزّياً عن الأوتار، يحضر إن غبت، ويجسر إن هبت، ولا يحظر
بالحظر، ولا يوزع بالزّجر، إذا قيّد رتك، وإذا أغمد بتك، وإذا جرّد فتك، يلقح به
الغزل ويعلل به الشمل ويأنس به الوجل وقد أتحفتك منه ببعض ما يجدّد عندك ذكرنا،
وتعرف به خبرنا، وهو شعرٌ قلته في مقامٍ واحدٍ لم أزل أعجب منه، وسأصف لك المقام لتحمد
الله تعالى عليه: لمّا كان اليوم الذي وردنا نيسابور، وقصدنا باب الأمير، وقد
احتشد لنا الناس وكان من قدّر ذلك يتوهّم مع الخبر الشائع الذي حملنا له أنّ
الداعي علينا سيكثر، وأنّ الشّامت بنا سيظهر، إذ كنّا في حالٍ لم يحمل على مثلها
بابك ولا المازيار، وما منهما إلاّ قد رأينا؛ فبينا الناس كذلك إذ اقبل به في
محملٍ قليل الوطاء، مسلوب الغطاء، فلمّا توسطنا الجماعة، ونظروا إليه، فلم يكن في
ظاهره ما يسمج، ولا في قديمه ما ينكر، ولا في مساعيه ما ينقم، ولا في قدر الذّنب
الذي ذكر أنه فعله ما يبلغ به ذلك عند الناس، وجد الوليّ إلى الدّعاء له بالخير
سبيلاً، وساعده من حضر، وارتجّ الجميع بالدعاء له، فصار ما نعي عليه معونةً له،
وأبى الله تعالى، المحسن إلينا، أن يسلبه السّتر الجميل، إذ سلبه الآدميّون
الغطاء، وألاّ يزيل نعمه إذ زال كلّ ما كان فيه، وألا يجعل لأعدائه إلى الشّماتة
به سبيلاً، والسلام.
قال عمر بن الخطّاب: ما رأيت صغير الهمّة إلاّ رأيته
مذموم الأحدوثة.
جلد صهيبٌ المدينيّ في الشّراب، وكان جسيماً، وكان
الجلاّد قصيراً قميئاً فقال له: تقاصر لينالك السّوط، فقال: ويلك، إلى أكل
الفالوذج تدعوني؟! والله لوددت أنّي أطول من عوج، وأنت أقصر من يأجوج.
ضرب طويسٌ في الشّراب فقيل له: كيف كان جلدك على وقع
السّياط؟ قال: بلغني أنّي كنت صبوراً.
شاعر: المتقارب
لكلّ أديبٍ ترى همّةً ... وهدياً يدلّ على همّته
ولم ار مثل فتىً ماجدٍ ... يداري الأمور على فطنته
يجازي الصّديق بإحسانه ... ويرجي العدوّ إلى غفلته
ويلبس الدهر تبّانه ويخضع للقرد في دولته.
بلوت الرجال وجرّبتهم ... فكلٌّ يدور على لذّته
قال تميم بن نصر بن سيّار لأعرابيّ: هل أصابتك تخمةٌ
قطّ؟ قال: أمّا من طعامك وطعام أبيك فلا.
شاعر: الكامل المجزوء
ودّعته فتناولت ... عيناه من عيني دموعا
؟أسف الزمان
عليّ أن نبقى كما كنا جميعا
وأحلّني في غربةٍ ... وأحلّه البلد الشّسيعا
وما كنت أحسب أن يكو ... ن كذا تفرّقنا سريعا
قال أعرابيّ: قبحاً لدهرٍ لا تصفوا أيامه، ولا تنصف
أحكامه، وأنشد: الطويل
فإن تك أحزانٌ وفائض عبرةٍ ... أثرن دماً من داخل الجوف
منقعا
تجرّعتها من عاصمٍ واحتسيتها ... وأعظم منها ما احتسى من
تجرّعا
فليت المنايا خلّفت لي عاصماً ... فعشنا جميعاً أو ذهبن
بنا معا
قال أعرابيٌّ لرجل: إنّ فلاناً وإن ضحك إليك، فإنّ قلبه
يضحك منك، ولئن أظهر شفقته عليك فإن عقاربه تسري إليك، فإن لم تتخذه عدوّا في
علانيتك فلا تجعله صديقاً في سريرتك.
شاعر: الكامل المجزوء
وكلت قلبي بالولو ... ع وجفن عيني بالدّموع
إذ لا سبيل إلى الوصا ... ل ولا طريق إلى الرّجوع
أما ولوعات الفرا ... ق يشبّها بين الضّلوع
لا مال قلبي ما حيي ... ت من النّزاع إلى النّزوع
كلاّ ولا ذاقت جفو ... ني بعده طيب الهجوع
قال أحمد بن الطّيب: نظر بعض الأفاضل إلى رجلين أحدهما
قد حمل ديكاً ليقاتل به والآخر قد حمل محبرةً وورقاً ليستفيد أدباً فقال: إنّ
سعيكما لشتّى.
لسلمان الفارسيّ: الوافر
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا ببكرٍ أو
تميم
بدعوى الجاهلية لم أجبهم ... ولا يدعوا بها غير الأثيم
دعي القوم ينصر مدّعيه ... ليلحقه بذي الحسب الصميم
قال سليمان التّميمي: دخلت على الأعمش وعنده نبيذٌ في
إناء فقلت: ألا تغطّيه لئلا يقع فيه الذّباب؟ فقال: هذا أكرم من أين يقع الذّباب.
قال أبو هاشم: سمعت عمّي يقول: كان بين الأعمش وبين رقبة
ابن مصقلة معارضةٌ، كتب إليه الأعمش كتاباً يتوعّده، فأجابه رقبة، أمّا بعد، يريبني
منك أباً محمدٍ أنّك تضرع في وعيدك، وتستعين بأمثال غيرك، لو شئت لأضربنّ قذالك
بتصريف المقال، ثم لأتبعنّها بنوافذ الأمثال؛ فوضع الأعمش يده على رأسه وقال: ما لنا
ولخطباء عبد القيس.
قال عيسى بن موسى وهو يلي الكوفة لابن أبي ليلى: اجمع الفقهاء
وأحضروني، فجاء الأعمش في جبّة فروٍ وقد ربط وسطه بشريط، فأبطأوا، فقام الأعمش
وقال: إن أردتم أن تعطونا شيئاً وإلا فخلّوا سبيلنا، فقال عيسى: أبا ليلى، قلت لك
تأتيني بالفقهاء فجئتني بهذا؟ فقال: هذا سيّدنا، هذا الأعمش.
قال أبو معاوية الضّرير: كتب هشام بن عبد الملك إلى الأعمش
أن اكتب إليّ بمناقب عثمان ومساوئ عليّ، فأخذ القرطاس فأدخله في فم الشّاة فأكلته
وقال: قل له: هذا جوابه، فرجع الرسول وعاد فأتى الأعمش فقال الرسول: إنه بدا لي أن
يقتلني، وتحمّل عليه بإخوانه، فقالوا: يا أبا محمد أنقذه من القتل، فلمّا ألحّوا
قال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فلو كانت لعثمان مناقب أهل الأرض
ما نفعتك، ولو كان لعليٍّ مساوئ أهل الأرض ما ضرّتك، فعليك بخويّصة نفسك والسلام.
قال أعرابيّ: سمعت خبراً استكّت منه مسامعي، واستهلّت له
مدامعي.
قال أبو عبد الرحمن المقرئ: كنّا عند المقام وفينا مالك
بن أنس، فطلع علينا أبو حنيفة فقال مالك: لقد جاءكم رجلٌ لو ناظر الشيطان قطعه.
قال عبد العزيز الدراورديّ: كان مالك ينظر في كتب أبي
حنيفة ليتفقّه بها.
قال الشافعيّ: قلت لمالك: أرأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم
رأيت رجلاً لو قال إنّ هذه السّاريةمن ذهبٍ لاحتجّ له.
قال مالك، إن أبا حنيفة قال في الإسلام ستّون مسألةً.
قال الأوزاعي: لا أنقم على أبي حنيفة أنه رأى كما أرى.
قال يحيى بن الزّبير بن عبادةبن حمزة بن عبد الله بن
الزّبير، وكان من العبّاد: شكوت إلى هشام بن عروة ما ألقى من بعض أهلي فقال: يا
ابن أخي اصبر عليهم فهكذا كنت مع إخوتي، ثم إني أصبحت لأبنائهم أباً، ولمنازلهم
ربّاً.
قال هارون بن صالح: كنّا نعطي الغسّال الدراهم الكثيرة
حتى يغسل ثيابنا في أثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطّيب فيها.
دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة وهي تبكي
فقال: " ما يبكيك " ؟ فقالت: لفلانة مسكتان من ذهبٍ ولي مسكتان من ورقٍ،
قال: " خلّقيهما بزعفران يأتيان كأنّهما ذهب " .
قال مالك بن أنس: كانت جلسة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم أن يحتبي بيديه وينصب ركبتيه.
دخل المسور على معاوية فقال له: كيف تركت قريشاً؟ قال:
أنت سيّدها يا أمير المؤمنين، أعلاها كعباً، وأسودها أباً، وأرفعها ذكراً، وأجلّها
قدراً.
/الجزء التاسع
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعناللهم أسألك خفايا لُطفك وفواتح توفيقك، ومألوف
برك، وعوائد إحسانك، وجاه المقدمين من ملائكتك، ومنزلة المصطفين من رُسلك، ومكانة
الأولياء من خلقك، وعاقبة المتقين من عبادن؛ أسألك القناعة برزقك، والرضا بحكمك، والنزاهة
عن محظورك، والورع في شبهاتك، والقيام بحججك، والاعتبار بما أبديت، والتسليم لما
أخفيت، والإقبال على ما أمرت، والوقوف عما زجرت، حتى أتخذ الحق جنة عند ما خف
وثقل، والصدق سنة فيما عسر وسهل، وحتى أرى أن شعار الزاهد أعز شعار، ومنظر الباطل
أشره منظر، فأتبختر في ملكوتك بالدعاء إليك، وأبلغ الغاية القصوى بين خلقك بالثناء
عليك، متيقناً أن الاقتصاد أوطأ سبيلاً وأعز حريماً.
هذا الجزء التاسع من البصائر، وكان عذري فيه - أعني
الكتاب - أنه يتم بما يسر الناظر، وأرى العجز قد قهر، والاستعفاء قد حسن، والعذر
قد وجب، لأن البقية من مذاكرة الأدب إذا اختصها هذا الجزء بقيت بقية في الصوفية،
وقد كان الوعد سلف إفرادها عن سائر الفنون، وبقيت بقية أخرى من فلسفة الفلاسفة.
وقال لي بعض إخواني: قدم من هذين الفنين ما إذا تخلص من الجملة كان لأثره وقع،
فاقتصرت على ذلك، ولعمري إن الوصف على ما يأتي عليه، ولكن ليس الرأي على ما أرشد
إليه، لأني فقير إلى ما يستغني هو ونظراؤه عنه، وضماني لا يزول برأي غيري، وحاجَتي
لا تسقط بكفاية من سواي، وأنا جار على المصلحة المنوية في هذا الكتاب لنفسي ولمن يجري
مجراي، ويعتذر إلى من خالفني في هذا الرأي. ولم يختر هذا التطويل، لأن الرغبة
الصادقة في العلم تخفف علي كل (ثقيل)، وتذلل كل صعب، وتزيل كل زهد، وترسل على
الجساء ناعماً، و(تجعل) منظر الشوهاء رائعاً، وبعيد المطلوب دانياً، ووعر المحتاج
إليه سهلاً، وأبي المتمني سمحاً، وعصي المراء طيعاً. واعلم أن المحظوظ من أنعم بالعلم عليه،
ووفق للإخلاص فيه، وحشي سره طمأنينة، وبوشر قلبه بالسكون، ورفع همه عن الإشناق إلى
ما لا يليق به واستشراف ما لا يصل إليه، ولن يحسن هذا المحظوظ عشرة هذه النعمة،
ولا يستمتع بنضرتها، ولا يحمد غبها، دون أن يكون رائضاً للسانه على الشكر، وعامراً
لصدره بالإخلاص، وهاجراً للهوينا في ما اجتلب الزيادة، مجانباً للتفريط في ما وكل
به المقت والتصق به العار أو وصمته القالة؛ ولن ينتفع بهذه المقدمات كلها دون أن
يعلم أن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، وأن من فاتته في العاجل صنع له، وأن ما
نال منها وبال، وأن القرار في دار الآخرة التي من سلك سبيلها نجا، ومن راغ عن
سنتها ضل وغوى.
فاعرف - حفظك الله - هذه الوصايا، وأدب سرك بهذه
المواعظ، واستيقن أن زائدها وإن اتصل ناقص، وظلها وإن امتد قالص، ومقيمها وإن تلوم
شاخص، وكن مقبوض الكف، مغضوض الطرف، إلا عما أباح الله ورخص فيه وأذن لك أن
تتناوله؛ واحذر الانهماك فإنه شوط عسير، وغاية ذات ندامة، وضرب (ليس) من حزب
الفضلاء، واعمر عمرك بالصالح من العمل، والصادق من القول، والصحيح من الاعتقاد،
ولا تبحث عما زوى الله سره عنك، ونزه حكمته عن تحصيلك، واستأثر بغيبه عن احتجاجك
بقلبك، ولا تعترض على خالقك لالتباس يرد عليك، أو لشبهة تغالب فطنتك، فإن النظام جار
على التمام، والخير واصل إلى الخاص والعام، فاحمد الله الذي أفردك بالصلاح في دهر
الفساد، وزينك بالكرم في زمان اللؤم، وحبب إليك الإحسان بين أهل الإساءة.
وسل الله مزيداً لك، ورفقاً بك، وأخذاً بيدك، وعافية في جسمك،
وحراسة للنعمة عندك، وصرفاً للصروف عن ساحتك، فإنه جواد واجد، ملك ماجد.
اللهم إني أشكو إليك سوانح نفسي، وفلتات ضجري، وقوارص
لساني، وسيئات عملي، وخوادع أملي، فكن لي نصيراً وبي رحيماً، فلا قوة لي إلا بك، ولا
توفيق إلا منك، ولا منال إلا على يدك، قلبني بين ما تحب وترضى، وقربني من حياضك
الممدودة، ورياضك الممطورة، واسقني بكاس الرضا سلوة عن الدنيا، وامح أثرها من
صدري، واجعل نازل قضاياك قريناً لصبري، وأحيني في طاعتك ناضر الوجه، صريح اللب،
مرجواً مأمون الغوائل، ثم اقبضني إلى مقام الصادقين، واحشرني في حزبك، ألا إن حزب
الله هم الغالبون؛ وصل على أمين خلقك، وحامل وحيك، الواسطة بينك وبين عبادك، ما
لمع بارق، وذر شارق، إنك على ذلك أقدر القادرين وأجود الجائدين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: خمس من أتى الله بهن أو
بواحدة منهن أو جب له الجنة: من سقى هامة صاديةً، أو أطعم كبد هافية، أو كسا جلدة
عارية، أو حمل قدماً حافية، أو أعتق رقبة عانية.
قوله سقى و أسقى، وقد فصل قوم بينهما، فقال: سقى أي جعل
له ما يسقي به نفسه، وأسقى أي حصل له ماء سقيا، والسقي - بكسر السين - فنصيبه
الباقي من المسقي، فأما السقي فمصدر على بابه المعتاد. والهامة الصادية: الإنسان
العطشان، وفي سقي الماء آثار مأثورة: والصدى مقصور، يقال: صدي يصدى صدىً وهو صادٍ. والكتاب
يقولون:أن صاد إلى لقاؤك، على الاستعارة، فهو كلام العرب، وأما الصدى فهو الذي
يجيبك إذا ناديت بين جبلين، وذلك تراجع الصوت على الحقيقة ليس إن حيواناً يرد عليك
وتقول في الأول أن صادٍ وصديان وهي صادية وصديا، ويقال: فلان صدى مالٍ إذا كان
سائساً له لا هم له سواه. وقوله: " كبداً هافية " من الجوع فإن الكبد
تهفو أي تخف، يقال: فلان قلبه هافٍ وأمره غافٍ وسره وافٍ، هكذا سمعت الحراني بمكة،
وكان فصيحاً. وأما الرقبة العانية فهي المماليك، لأنهم أسرة قبضة. وإنما قلت هذا
لأن بعض ما يضيق عطنه عن الاتساع في الاستعارة قال: فإن أعتق عانياً لا يجوز، وهذا
يعوزه تمييز تصحيح الكلام من سقيمه.
خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم وعليه حلة، فنظر
الناس إليه مستريبين، فلما رآهم كذلك أنشد:
لا شيء فيما ترى إلا بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال
والولد
والله ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. هكذا سمعت
ابن الجعابي يروي، قال: وقال بعض جفاة النساك: ما لبس عمر حلة قط. وهذا أيضاً جهل آخر،
قد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلة، وركب الجواد، وشرب الحلو والبارد،
وباشر النساء، ولم يله عن الله عز وجل في خلال ذلك، لقوة عزيمته في الإيمان، ولشدة
منته في التقوى، وكذلك الصالحون من هذه الأمة على درجاتهم، لا يصغر شيء من هذا،
ومتى كان التناول لله والترك لله لم يكن للباطل بين ما الله وما بالله موقع، ولا
للحق فيه منزع.
قيل لحاتم الأصم: لو قرأت لنا شيئاً من القرآن فقال:
نعم، فاندفع يقرأ: آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للشقيين الذين لا يؤمنون
بالغيب ولا يقيمون الصلاة ومما رزقناهم يكنزون. قالوا:ليس هكذا قال: صدقتم. ولكن كذا
أنتم قال يحيى بن وثاب في بغداد مدينة السلام وقبة الإسلام معدن الخلاف ومعقل
الأناقة جعلها الله لخليفته مثوى ولشيعته مهوى.
قال ثعلب:يقال فلان كالبدر ليلة تمامه وكدرة شق عنها الصدف،
وفلان أمضى من السيف، وأدفأ من النار، ولسان فلان كالمبرد ووجه فلان كالمسن،
وجبينه كاللجين قال الناشئ الكبير
العيش فانٍ فمن عد الغنى كدراً ... فعف ثم اكتفى بالعفو
منه صفا
أشدد يديك بمن تهوى فما أحد ... يمضي فيدرك حقاً بعده
خلفا
واستعتب الحر إن أنكرت شيمته ... والحر يستأنف العتبى
إذا أنفا
ولم تجد من له في قصده سبق ... إلا وجدت له عن حظه جنفا
من ذا الذي نال حظاً دون صاحبه ... يوماً وأنصفه في الود
أو نصفا
لا خير في رجل يعطيك مهجته ... حتى إذا أعجبته حاله
انحرفا
وله:
فإن تكن الأيام خانت فربما ... أرتنا زمام الحر في قبضة
العبد
وله:
ملكنا وكل المماليك ميسما ... ودنا وكنا للديانة موسما
قال جحا لأمه: اخبزي، قالت: ليس لنا دقيق، قال: فاخبزي
فطير لليثي في قتل محمد بن زيد وآله:
آل زيد رماكم الده ... ر واجتث أصلكم
بدد القتل بالصوا ... رم والسمر شملكم
لا أرى الذنب للذي ... أحدث الآن قتلكم
بل أراه لمعشر ... أسسوا ذاك قبلكم
لما صار امرؤ القيس بمدينة تدعى أنقرة مرض وأحس بالموت
فقال:
رب خطبة مسحنفره ... وطعنة مثعنجره
وجفنة مدعثرة ... متروكة بأنقره
ورأى قبراً لمرأة من بعض بنات ملوك الروم فقال:
أجارتنا إلى الخطوب تنوب ... وأني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب
وكان وسيماً جسيماً وكان مع ذلك مفركاً،قال لامرأة: ما
تكره النساء مني؟ قالت له: لأن ريحك إذا عرقت ريح كلب، قال: صدقت
قال ثعلب: الشبادع العقارب، وقال: الأزيب: الدعي، وهو في
بيت الأعشى: الذكي، والأزيب من الرياح.
قال شبيب بن شيبة: اشتريت جارية فأصبت منها ما يصيب
الشيخ من الشابة، ثم خرجت لحاجتي ورجعت وقد عصبت رأسها، فقلت: ما لك؟ قالت: لا
جزاك الله خيراً، ما زدت على أن هيجته وتركته يتقطع في أوصالي قال الأصمعي، قال
أبو عبيدة: رأيت بطريقي مكة أعرابية تبيع الخوص لم أر أجمل منها قط، فوقفت أنظر
إليها متعجباً من جمالها، إذا أقبل شيخ فقير فأخذ بأذنها فسار بها، فقلت من هذا؟ قالت:
زوجي، قلت: كيف يرضى مثلك بمثله؟ قالت: إن له قصة، ثم أنشدت:
أيا عجباً للخود يجري وشاحها ... تزف إلى شيخ من القوم
تنبال
دعاني إليه أنه ذو قرابة ... فويل الغواني من بني العم
والخال
قرأت في مجموع لابن المعتز من أخبار شارية المغنية:
جعلت طريقي على بابكم ... وما كان بابكم لي طريقا
صرمت الأقارب من أجلكم ... وصافيت من لم يكن لي صديقا
سمع عمر بن الخطاب راكباً بفلاة يتغنى فقال: إن الغناء
زاد الراكب.
قال أبو العيناء لرجل: والله ما فيك من العقل شيء إلا
بمقدار ما تجب به الحجة عليك، والنار لك.
كاتب: إن الشكر من الله بأحسن المواضع، فازدد منه تزدد
به، وحافظ عليه تحفظ به.
قال الناشئ الكبير، قال الحكماء: متى كانت الهمة فوق
النعمة كان الفقر أحسن من السؤال.
شاعر:
العبد عبدك فاحكم فيه واحتكم ... وأعدل وجر غير مأخوذ
بلا ولم
لا رد عندي لما تأتي به أبداً ... ولو حكمت لأعدائي بسفك
دمي
اصدد إذا شئت أن يعتادني سقم ... وصل إذا شئت أن أبرا من
السقم
ونور وجهك لولا ما أؤمله ... من نور طيفك لي في النوم لم
أنم
قال أحمد بن أبي طاهر، حدثني حبيب - يعني أبا تمام -
قال، حدثني كرامة قال: قدم علينا رجل من ولد معدان بن عبيد المغني بغداد، وكان شاعراً
قد ناله من البرامكة مال كثير، فقلت له: كيف تركت آل برمك؟ قال: تركتهم وقد أنست
بهم النعمة حتى كأنها منهم أو بعضهم. قال كرامة: فحدثت بهذا الحديث ثعلبة بن الضحاك
العامري فقال: قد سمعت من بعض أعرابكم نحواً من هذا، قلت: وما هو؟ قال: قدم علينا
فلان في عنفوان خلافة هشام، فرأى آل خالد بن عبد الله القسري فقال: إني أرى النعمة
قد لصقت بهؤلاء القوم حتى كأنها منهم، قلت: فإن صاحب هذا الكلام ابن عم صاحب ذلك
الحديث في ما أرى.
قال أحمد، حدثني حبيب قال، حدثني أبو محسن الأزدي، قال،
حدثني عمرو بن سراقة قال: قدم علينا شيخ من أزد البصرة وكان حدثاً قال: سأل رجل
عبيد الله بن أبي بكرة فأغناه، فجاء الرجل بعشيرته شاكرين له، فالتفت عبيد الله
إلى بعض ولده فقال: ما أخوفني أن يكون الحمد في الرياء!! فقال له: قد أمنك الله من
هذا أيها الشيخ، قال: صدقت ويلك، أما ترى قليل ما أعطيناه وكثير ما أخذناه؟ قال أذاراي:
الدهر زمان ساكن، والزمان دهر يفسد ما يحركه.
قال أفلاطون: من زعم أن الحركة يلزمها الخفة والثقل من
جهة الإبطاء والسرعة وهي متناهية ذات أشكال كثيرة، وليس متناه ذو أشكال كثيرة إلا
وأشكاله منفصلة، لم تنفصل إلا عن شيء لزم بعضها دون بعض.
قال أفلاطون: الإيضاح على نحوين: أحدهما من تلقائنا
والآخر من تلقاء الطبيعة، فالذي من تلقاء الطبيعة كلي، والذي من تلقائنا جزئي.
وقال: لولا أن العقل شكله شكل فلكي لكان منقطعاً، وهو مع
أنه يوصف بالحركة على نحو ما ساكن.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إلى كم أغضي الجفون
على القذى، وأسحب ذيلي على الأذى، وأقول لعل وعسى.
سمعت بدوياً ببطن نخل يقول في كلام له: رب مطرق على
شجىً، ومعنق على وجىً.
قال أعرابي في وصف سيده: هو نبعة أرومته، وأبلق كتيبته،
ومدره عشيرته، ونابهم الذي عنه يفترون، وبابهم الذي إليه يضطرون.
قال أعرابي في وصف رجل: إذا ناضل كشف القناع، وإذا فاضل
ترك الخداع، وإذا حارب حسر اللثام، وإذا سالم أصلح النظام.
سمعت بدوياً بفيدٍ يقول في وصف آخر: إن مد باعه إلى
الكرم قصر، وإن أطلق لسانه في الجدل حصر.
وقال دريد بن الصمة لهوازن يوم حنين: أين أنتم؟ قالوا:
بأوطاس، قال: لا حزم ضرس، ولا سهل دهس.
قال أعرابي: لا يشق غباره، ولا ينال طواره ولا يرتق
فتقه، ولا يبلغ عمقه.
قال بعض النساك: أمارة الاغترار بالله، الإصرار على سخط
الله.
قال أعرابي: سخيف لا يرعى، حقه لا يرعى.
سمعت أبا فرعون التميمي يقول: ما أسهل السرب على الماتح،
وأهون المصيبة على النائح.
أفلاطون: المتعلم يحتاج إلى لم، كما أن الفيلسوف يحتاج
إلى ما.
وقال أيضاً: تبيان المسالة حسن الوضع.
وقال صاحب المنطق: الإيضاح لا يكون من الممكنات ولكن من
المضطرات.
قال أرسطاطاليس في كتابه الذي بعد الطبيعة: فوق جوهر
السماء جوهر لا عظم له ولا قدر من الأقدار، يستحيل بنوع من الاستحالات، لا نهاية
لقوته، ومن أجل ذلك يفعل فعله بلا زمان، وهو فعال بذاته، فلذلك هو دائم الفعل،
وليس فعله بحركة، ولا فيه شيء بالقوة، لكن الأشياء فيه بالفعل، وقوته منبعة في
العالم دائماً.
كتب بعض الأدباء إلى ابن سعدان في وزارته رقعة دل بها
على أنه كان. على الخير لا الشر، لكني وجدتها مليحة التلطف: عبد مولانا - أطال
الله بقاءه - وإن كان منبوذاً بالعراء، مقصوداً بالجبه، لا يلحظ بعناية. ولا يضاف
إلى كفاية، فإنه لنصح جيبه، ونقاء ضميره، وتعصبه لهذه الدولة الميمونة، وعشقه لهذه
الأيام المأمونة، يستقري الجلي متعرفاً ويستنبط الخفي مستشفاً، ثم ينهيهما على رسم
الخدمة، ليكونا مادة لرفع ولي وتقديمه، وقمع عدو وتقويمه، وكان كذا وكذا، وأنهيت
ذلك على مذهب الخدم ليكون رأيه من ورائه، فإن رأى - لازالت كف السعادة له مصافحة،
ولسان الدولة ناصحة، ما تعاقب الجديدان وتصافح اللديدان - أن يعرف انتصابي للخدمة،
ونفيي والقذى عن المملكة، فعل إن شاء الله.
فلما قرأ أبو عبد الله قال: ما أحسن ما احتال في شكوى
حاله بين أضعاف مدحه، جئني برقاعه وحاجته، فقضى كل حاجة كانت له.
قال كاتب: القلم الدوائ كالولد العاق وقالوا القلم أحد
اللسانين، والعم أحد الأبوين، والتثبت أحد العفوين، والمطل أحد المنعين، وقلة
العيال أحد اليسارين، والقناعة أحد الرزقين، والوعد أحد الصرفين، والإصلاح أحد الكسبين،
والراوية أحد الهاجيين، والهجر أحد الفراقين، واليأس أحد النجحين، والمزاح أحد
السبابين.
سألت السيرافي عن قول من قال: المزاح سمي مزاحاً لأنه
أزيح عن الحق، فقال: هذا محكي عن ابن دريد، وهو باطل، الميم من سنخ الكلمة في
(مزحت أمزح) ومن (أزيح) تكون زائدة.
وقال أبو سعيد: كان أبو بكر ضعيفاً في التصريف والنحو
خاصة، وفي كتاب (الجمهرة) خلل كثير، قلنا له: فلو فصلت بالبيان عن هذا الخلل وفتحت
لنا باباً من العلم فقال: نحن إلى ستر زلات العلماء أحوج منا إلى كشفها، وانتهى
الكلام، فلما نهضنا من مجلسه قال بعض أصحابنا: قد كان ينبغي لنا أن نقول له: حراسة
العلم أولى من حراسة العالم، وفي السكوت عن أبي بكر إجلال ولكن خيانة للعلم.
فاخر صاحب سيف صاحب قلم، فقال صاحب السيف: القلم خادم
السيف إن بلغ مراده، وإلا فإلى السيف معاده.
شاعر:
تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا سطور الفضل والآداب
واتى بكتاب لو انطلقت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب
نعم من الأنعام إلا أنهم ... من بينهم خلقوا بلا أذناب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعظم النساء بركة
أحسنهن وجهاً وأرخصهن مهراً
" .
وقال عليه السلام: " أفضل ما أفاد المسلم بعد
الإسلام امرأة مؤمنة، إذا رآها سرته، وإذا أقسم عليها برته " .
يقال: التزويل هو أن يمتد الأير ولا يشتد، والإكسال أن
يجامع الرجل ولا ينزل.
قال الكسائي: أفدت المال أعطيته غيري، وأفدته استفدته،
قال الناس: يقال: فاد المال نفسه لفلان يفيد إذا ثبت له مال، والاسم الفائدة، وفاد
الرجل إذا مات.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما النساء لعب،
فليستحسن الرجل لعبته " .
وقال عليه السلام: خير نساء ركبن الإبل هن صوالح
قريش،أحناهن على والد، وأرعاهن على زوج في ذات يدٍ.
مات أعرابي عن أعرابية يقال لها طيبة، وخلف عليها بنياً،
وتزوجت المرأة سراً والغلام لا يعلم، وكانت تختضب وتكتحل ويرى الغلام ما لا يعجبه،
وكان الرجل يأتيها ليلاً وينصرف مع الصبح، فقال الغلام:
ياطيب ما هذا بفعل حانيه
أكل يوم حلة مدانية
وكحل عينين وكف قانيه
إما على بعل وإما زانيه
والله ما أرضى بهذا ثانيه
الحانية: المتعطفة، والمصدر الحنو، فأما قولهم: حنت
النعجة فيريدون اشتهت الذكر.
قال أعرابي: في وصف الجارية يقال: ناصعة اللون، جيدة
الشطب، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، ظريفة اللسان، واردة الشعر، يقال في اللغة:
التليعة:الطويلة العنق، ويقال:فيها تلع.
قيل لأعرابي: أتحسن وصف النساء؟ فقال: إذا عذب طرفاها،
وسهل خداها، ونهد ثدياها، ولطف كفاها، وبض ساعداها، وعرض وراكها، والتف فخذاها،
واخدلج ساقاها، فهي هم النفس ومناها.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: للمسلم على أخيه حقوق لا براء منها إلا بأداء أو عفو، ومنها: يغفر
زلته ويرجم عبرته، ويقدم نصيحته، ويديم صلته،ويعود مرضته ويجيب دعوته ويقبل هديته
ويكافئ صلته ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته،
ويشمت عطسته، وينشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر إنعامه، ويصدق أقسامه،
ويواليه ولا يعاديه. وينصره ظالماً ومظلوماً، وأما نصرته له ظالماً فيرده عن ظلمه،
وأما نصرته مظلوماً فمفهوم، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له
من الشر ما يكره لنفسه.
ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول:
" إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالب به يوم القيامة فيقضى له عليه " .
وقال أيضاً: " إن أحدكم ليدع تشميت أخيه إن عطس
فيطالب به يوم القيامة " قال الحكم الأعرابي. قال روح بن حاتم: بينا أنا واقف
على بعض ولاة البصرة إذ أقبل خالد بن صفوان، فنظر إلي وقال: يا ابن أخي، والله ما
بكرت ولا هجرت إلى باب أحد من الولاة إلا رأيتك واقفاً عليه، أكل هذا حب منك
للدنيا وحرص عليها؟ قال: فأجللته عن الجواب وقلت إنما هو عم، ولعله أراد أن ينفرني
ليعلم ما عندي في جوابه، فقلت: والله ياعم، حسبك برؤيتك إياي عليها طلباً منك
للدنيا، فضحك وقال: يا ابن أخي، إن قلت ذاك لقد ذهب ماء الوجه وسناء البصر، واقترب
العهد العلل،والله ما أتت علينا ساعة من أعمارنا إلا ونحن نؤثر الدنيا على ما
سواها، ثم ما نزداد لها إلا تحلياً، ولا تزداد عنا إلا تولياً.
قيل لأعرابي: ما خلفت لأهلك؟ قال: الحافظين، قيل:وما
هما؟ قال: أعريهن فلا يبرحن، وأجيعهن فلا يمرحن.
وقال كعب بن جعيل:
مدحت قريشاً واصطفيت ابن خالدٍ ... وللخير آيات بها
يتوسم
وكنت كمرتاد بمنقاره الثرى ... وصادف عين الماء إذا
يترسم
غياث الجياع والمراضيع إ ن ... بمكة يوم ذو أهابي أيتم
فإن يسأل الله الشهور شهادةً ... ينبأ جمادى عنكم
والمحرم
بأنكم من خير من وطئ بالحصى ... إذا طفق المعطي يضن
ويسأم
قال ابن أبي بردة: غزا قوم الديلم فأسروا، وأسر الديلم
شديد، قال: فاشتكى ابن ملك الديلم فقالت أمه: اذهبوا به إلى العرب لعل عندهم دواء،
فجاءت به امرأة فقال لها رجل: هاتيه، فقال له رفيقه: أنشدك الله لا تعرضنا للهلكة،
قال: هاتيه،
فجعل يعوذه ويقول:
أيا أم ذا المولود لا شب قرنه ... ولا زال فيه سقمه
يتردد
ويا أم ذا المولود جودي بكسرة ... لشيخين من همدان قيس
ومرثد
قال: فما أتت له ثالثة حتى برأ، فخلي عنهم كلهم.
قال الناشئ في كتاب (نقد الشعر): ومخاطبات النساء تحلو
في الشعر وتعذب في القريض، لا سيما لغانية قد أطر الفتاء شاربها، وزوى الإباء
حاجبها، وأشط الجمال قوامها، وأفرد الحسن تمامها، وأنجل الهوى عينيها، وأمرض الزهو
جفنيها، وأرابت الصبابة ألفاظها، وفتر الرنو ألحاظها، وأرهف الظرف أعطافها، وألانت
النعمة أطرافها، ولذ للراشف مبسمها، وأطرد ماء النعيم بين رياضها وجناتها، وترقرق
جريال الشباب على سحناتها، وجدل للضم قدها، ومالت للجاذب جمائرها، ودالت للقاضب
غدائرها، وشخصت للوفور مآكمها، وظمأت للذيول فضولها، وسهلت للعيون حجولها، وطابت
للمتنسم ملاغمها، وأرجت للمتنعم فواغمها، فكيف إذا هي برزت من حجابها وسفرت عن
نقابها، وتهادت بين أترابها، وقد هز الريح أردانها، استعز المراح أكنانها. بل كيف
إذا هي أملها سائلها، وأكلها مقاولها، وأعرضت عنه صدوغاً، وتأوهت منه عزوفاً، وقد
قطب التيه جبينها، واستغض الأنف عرنينها، واستخفها الطرب، واستهواها العجب، فافترت
مبتسمة عن شتيت أنيابها، ومعسول رضابها، وكيف تقر نفس عاشقها إذا هي لسنته
بعتابها، ولحنته بسبابها، وقد لاثت ذوابل أثوابها، وحسرت فواضل أسلابها، وطفقت تعد
ذنوبه بحناجرها، وتأبى معاذره بمكاسرها،وهل تطوع لها أمنية إذ أعتبته من صدها،
وبذلت له مصون ودها، ثم أسعفته بزورة وسنت لها عين راقبها، وغيلت بها نفس عاقبها،
قد التفعت إليه ملاء ليل، أو وطئت إليه أعقاب قيل، قد خزل الأين أياطلها، وبل
البهر غلائلها، وقصرت له أعاليها وأسافلها، وأوجل الوجل فرائصها، وأوجى العجل
أخامصها، ثم طفقت تستعتب نفسها وتستكفها، حتى إذا أسمحت بها قرونتها، وأسجحت له
سجيتها، وسكن إلى الإيناس قلقها، وأسرع إلى الإبساس علقها، ناسمته من حديثها بما
هو أقر لعينه، وأشهى إلى نفسه من طول بقائها، ودوام نعمائها. ولنا في هذا الباب ما
لم يخرج عن مذهب القوم، منه:
فديتك لو أنهم يعقلون ... لردوا النواظر عن ناظريك
ألم يقرءوا ويحهم ما يرون ... من وحي قلبك في مقلتيك
وقد جعلوك رقيباً علينا ... فمن ذا يكون رقيباً عليك
سأل سعيد بن فلان عبيد الله بن زياد أن يتغدى عنده،
فأجابه وأمر بحمل البسط والفرش، ووجه إليه الخبازين والطباخين، فلما دخل عبيد الله
قال: هات ما عملت، وبعث إلى منزله فحمل وأكل، فلما فرغ قال له سعيد: أصلح الله
الأمير، لا يخرج من منزلي شيء، قال: دعنا نخرج.
قال المدائني: قال سلم بن زياد لرجل يقال له طلحة
الخزاعي: إني أريد أن أصل رجلاً له حق وصحبة بألف ألف، فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل
هذه لعشرة. قال: فخمس مائة ألف، قال:كثير قال:رجل بمائة ألف؟ قال: نعم، قال: وبها
يقضى ذمام رجل له صحبة؟ قال: نعم.
قال: هي لك فما أردت غيرك، قال: أقلني، قال: لا فعلت أبداً.
قال الأصمعي: دهاة العرب أربعة كلهم ولدوا بالطائف:
معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، والسائب بن الأقرع.
قال: لما أتي سليمان بن عبد الملك برأس قتيبة كتب لوكيع بن أبي سود
عهده على خراسان، فقال يزيد بن المهلب لابراهيم بن الأهتم: إن رددت أمير المؤمنين
عن رأيه في وكيع فلك مائة ألف، فقام ابن الأهتم فتكلم بكلام تفرق الناس عن استحسانه
فقال: يا أمير المؤمنين، إن وكيعاً أدرك في الثأر، وبالغ في الطاعة، فجزاه الله
خيراً، غير أني لو خفت من إحدى يدي خلافاً على أمير المؤمنين لأحببت انبتاتها من
صاحبتها، وإن وكيعاً لم يملك مائتي عناق قط فحدث نفسه بالطاعة، فلا تأخذنا بحديث
إن كان منه، فقال سليمان: ويلك فمن لخرسان؟ قال: العبد في الطاعة، والأخ في
النصيحة، يزيد، فولاه.
قال بعض جلساء الأمراء: والله لقولة (يا غلام، هات
الطعام) أحب إلي من صوت ابن سريج.
قال: كان الحجاز يوضع له في كل يوم ألف خوان لأهل الشام، على كل
خوان قفيز من دقيق وسبعة أرطال قديد وجنب شواء وسمكة وجرة لبن وجرة ماء وعسل،
فشكوا يوماً قلة المرق، فدعا صاحب الطعام وضربه مائتي صوت وقال: يشكون قلة المرق وأنت
على دجلة؟ قال الأصمعي: قلت لأعرابي:هل لك في ثريدة؟ قال:
ثريدة محمومه ... في صحفة مكمومه
قد ألحفت رقاقا ... وجللت عراقا
أتى أبو دلامة ابا جعفر المنصور وهو سكران،فأمر بحبسه في
السجن، فلما أصبح وصح كتب إليه:
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أمن صهباء صافية المزاج ... كأن شعاعها لهب السراج
تسر به القلوب وتشتهيها ... إذا برزت تقرقر في الزجاج
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت على النطف النضاج
أقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حبست لطاب عيشي ... ولكني حبست مع الدجاج
وقد كانت تخبرني ذنوبي ... بأني من عذابك غير ناج
على أني وإن لاقيت شراً ... لخيرك بعد ذاك الشر راج
قال ابن المعتز: قلت لبعض أصحابنا: كم تكون تاركاً
للتوبة مماطلاً به؟! فقال: قد قال الله تعالى: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئا
" ً عسى الله أن يتوب عليهم " التوبة:102، وعسى إطماع، والكريم إذا أطمع
فعل، قلت: فأين قول الله تعالى: " ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره "
الزلزلة:8، فقال: يراه فيغفر له.
قال ابن المعتز: قال بعض أصحابنا: لا تنزل الهم إلى قلبك
إلا على أشخاص، فإن الهم يتعلق بعضه ببعض.
قال الصوفي: لا تباغض نفسك فلا بد من أن تغتر قليلاً
وإلا فسدت دنياك وأسأت معاشرة نفسك.
قال ابن المعتز: لما جاء جعفر بن يحيى من الرقة شيعه عبد
الملك بن صالح، فلما أراد الانصراف قال: حاجة، قال: وما هي؟ قال: أن تكون كما قال
الشاعر:
وكوني على الواشين لداء شغبة ... كما أنا للواشي ألد
شغوب
فقال جعفر: بل نكون كما قال الشاعر:
وإذا الواشي أتى يسعى بها ... نفع الواشي بما جاء يضر
قال ابن المعتز: وإنما أراد أن يؤنب جعفراً فأنبه جعفر.
لأبي نواس:
مقرطقة لم يشقها سحب ذيلها ... ولا نازعتها الريح فضل
البنائق
كأن مخط الصدغ في صحن وجهها ... بقية أنقاس بإصبع لائق
وقال ابن المعتز: قرأت بخط أبي المعسكر المسمعي، حدثني
أبو عبيد قال، حدثنا أبو سعيد البصري قال، حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثني عيسى بن
يونس عن الأوازي قال: وثب خالد بن عبد الله القسري على امرأة فقبلها، فشكته إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فاعترف وقال: إن شاءت فلتقتص مني، فتبسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أو لا تعود، قال: لا أعود يا رسول الله.
ولا أدري من هذا القسري وكيف هذه الرواية.
بشر بن يزيد الكاتب:
أيا دمن الدار لولا الخدود ... ولولا الجفون ولولا المقل
ولولا الأقاحي ولولا النحور ... ولولا السوالف من ذات دل
ولولا القدود ولولا الخصور ... ولولا ضفائر وحف رجل
ولولا التعانق عند اللقاء ... بعد الفراق ولولا القبل
لهانت على العاشقين الديار ... ورسم الربوع ومحو الطلل
آخر:
يا رب كأس قد سبقت بها ... عذل العذول وغرة الشمس
وكأنما اليوم الطويل بها ... قصراً وطيباً قبلة الخلس
آخر:
صبحتهم والصبح ينفض رأسه ... قد هم بالإسفار أو لم يسفر
والليل منهزم الظلام يشله ... صبح كناصية الحصان الأشقر
لعمارة بن طارق:
فصبحت قبل الصباح الفائق ... وقبل عصفور الأذان الناطق
والصبح كالسربال ذي البنائق ... والنجم كالزند أمام
السائق
وقيل لجمعة الإيادية: أي الغيث أحب إليك؟ قالت: ذو
الهيدب المنبعق، الأضخم المؤتلق، والصخب المنبثق.
شاعر:
جادك يا بغداد من بلاد ... صيب كل رائح وغاد
يا ليت شعري والحنين زادي ... هل لي إلى ظلك من معاد
لله ما هجت على البعاد ... لقلب حران إليك صاد
بدل من ربعك بالبوادي ... وقفرة موحشة الأطواد
مجهولة مجدبة حماد ... ورملة متعبة الإصعاد
تخال في كثبانها الجعاد ... خطوط أقلام بلا مداد
قال أرسطاطاليس في كتاب (الحيوان): إذا جاع الثعلب ولم
يقدر على صيد يأكله استلقى على ظهره ونفخ في بطنه، فتحسبته الطير قد مات فيقعن
عليه، فيثب ويأخذ بعضها.
وقال في الضبع أيضاً: تصير مرةً أنثى وتصير مرة ذكراً، وتبدل
في كل سنة، تلقح أحياناً كالذكر، وتقبل اللقاح كالأنثى، لاختلاط جوهرها وتلونه،
وزعم أنها إذا رأت الكلب في ليلة مقمرة يمشي على الإجار وطئت ظله فوقع، وأن من كان
معه لسان ضبعة فمر بين الكلاب لم تكلب عليه، وأن من مر في مكان كثير الضباع وأخذ
بيده أصلاً من أصول الحنظل هربت من بين يديه.
قال، وقال في الذئب: إن يرى إنساناً قد خافه اجترأ عليه،
وإن حمل عليه تأخر عنه، وذكر أنه خفي عليه مكان الغنم عوى حتى تسمع الكلاب صوته وتنبح
فيقصدها للغنم التي معها فإذا اقرب من الغنم عوى فتقصد الكلاب صوته وتجتمع إلى
ناحيته، ثم يخالفها فيقصد ناحية خالية منها فيختطف من الغنم، وزعم أن الذئب إن وطئ
على العنصل مات من ساعته، والثعلب يأتي بهذه البقلة فيضعها في جحره لئلا يأتيه
الذئب فيأكل جراءه.
وقال في الجراد: أنه إن ظعن ظعن كله مثل العسكر العظيم،
وإن حل حل جميعه، وإن وقع في المزارع لا يتحرك ساعة وقوعه حتى يأتيه وحي من
السماء، وليس من طبيعته، وقال لابن المعتز: فهذا يكذب بالوحي إلى الآدميين، ويصدق
به إلى الجراد.
وأنشد للراعي:
فبت وبات الحاطبان وراءها ... بجرداء محل يألسان الأفاعي
فما برحا حتى أجنا فروخها ... وضما من العيدان رطباً
وذاويا
إذا حمشاها بالوقود تغيظت ... على اللحم حتى تترك العظم
باديا
وله:
من الأثل أما ظلها فهو بارز ... أثيث وأما نبتها فأنيق
لها هدبات فوق ميثاء سهلة ... نواعم ما في ظلهن فتوق
جمع هدبة، وهي أغصان الأثل والأرض.
شاعر:
لعمرك إنني لأحب نجداً ... ولست أرى إلى نجد سبيلا
خليلي اقعدا لي عللاني ... وضما من وسادي أن تميلا
ألم تريا جنوحي واعتمادي ... على الأحشاء والصبر الجميلا
خرج المهدي يتصيد، فعاربه فرسه حتى دفع إلى خباء أعرابي،
فقال: يا أعرابي، هل من قرىً؟ قال: نعم، فأخرج له فضلة من ملة فأكلها، وفضلة من
كرش فيه لبن فسقاه، ثم أتاه بنبيذ في زكرة فسقاه قعباً، فلما شرب المهدي قال: يا أعرابي،
أتدري من أنا؟ قال: لا، قال: أنا من خدم الخاصة، فقال: بارك الله لك في موضعك، ثم
سقاه آخر فلما شربه قال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟ قال: نعم، زعمت أنك من خدم الخاصة: قال: لا
بل أنا من قواد أمير المؤمنين، فقال:
رحبت دارك، وطاب مزارك، ثم سقاه قدحاً ثالثاً، فلما فرغ
منه قال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟ قال: زعمت أنك من القواد، قال: لا ولكني أمير المؤمنين،
فاخذ الأعرابي الزكرة فأوكاها وقال: والله لئن شربت الرابع لتقولن إنك رسول الله،
فضحك المهدي، وأحاطت به الخيل وأبناء الملوك والأشراف، فطار لب الأعرابي، فقال له
المهدي: لا بأس عليك، وأمر له بصلة.
لعوف بن محلم:
أفي كل عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلح البين المشت ركائبي ... فهل أرين البين وهو طليح
وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذر عبرة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفراخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه
فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصا التطواف
وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الفتى للمقترين
طروح
قال أنس بن مالك لمصعب بن الزبير في رجل من الأنصار:
احفظ فينا وصية النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزل مصعب عن سريره وتمرغ في
التراب ووضع خده على الأرض وقضى حاجته.
مرداس السلمي:
وغيث خصيب ماؤه تحت بقله ... يروعني منه غراب وناهق
تبطنته والطير في وكناتها ... يدافع ركني سائم الطرف
ناتق
قويرح أعوام كأن سراته ... سراة طراف مددته الجوالق
قال محمد بن يزيد الأموي البشري - من ولد بشر بن مروان
يصف حماراً اصطاده:
يظل مفارقاً للعين يكبو ... ومن دفع الدماء له إزار
كأن النقع ممتداً عليه ... رواق في حواشيه احمرار
قال الحجاج: أيها الناس، اتقوا الغبار فإنه سريع الدخول
بطيء الخروج.
شاعر:
لا أستلذ حديث غانية ... وأرى حديثك كله حسناً
ووعدتني وعداً فخست به ... ومطلتني فكفى بذا حزنا
آخر:
بكيت الجياد وفرسانها ... فلم أبك كالفرس الأبلق
رمته المنايا فماذا رمت ... من الجري والحسب المعرق
طويل الذراع قصير الكراع ... إذا شاهد الجري لم يسبق
كميت تجول على متنه ... أساريع من لونه المشرق
وكانت به الريح مغلولة ... متى ما تخص بحره تغرق
وأدنى الشآبيب من جريه ... إذا انهل كالعارض المطلق
قال ابن المعتز: أخبرني اسماعيل بن يحيى قال، حدثنا مؤرج
قال: كان زكريا بن حسان من بني ربيعة بن مالك غرس فسائل له حتى إذا حسنت رمى عنهن
يعني سافر عنهن - فمكث زماناً طويلاً فظن أنهن قد هلكن، فأتاهن فرآهن يتسامين فقال:
كأنها وهي تناهى بالعبل ... غيد العذارى برزت من الحجل
يرسلن للورد إذا الساقي غفل ... أرشية لم يثنها متن
الحيل
تنفي حصى البيداء عن نجل غلل ... معتلج لا ثمد ولا وشل
فهي ترامى ثقلاً بعد ثقل ... فمرتقيها خائف على وجل
من يهو منها يهومن مهوى زلل ... ناء من الأرض بعيد
المنتقل
قال ابن المعتز: من فضائل الليل التهجد الذي مدح الله
أنبيائه به فقال: " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون " الذاريات:17، وفي
الليل تنقطع الأشغال، وتجم الأذهان، وتدر الخواطر، ويتسع مجال القلب، والليل أضوأ
في مذاهب الفكر، وأخفى لعمل البر، وأعون على السر، وأصح لتلاوة الذكر،قال الله تعالى:
" إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً " المزمل:6، وقال الشاعر:
ولم أر مثل الليل جنة فاتك ... إذا هم أمضى، أو غنيمة
ناسك
وفيه ينجو الهارب، ويدرك الطالب، ويفرق بين الشجاع
والجبان.
قال أبو دلف:
أنا ابن الليل والخيل ... فنزال ورحال
وللأبطال قتال ... وللأثقال حمال
بشار:
قد نام واش وغاب ذو حسد ... فاشرب هنيئاً خلا لك العطن
آخر:
ومنادم نبهته ... والليل ملتف الستور
فكأنه متعلق ... طرباً بأجنحة النسور
قال أبو هفان: رأى أبو نواس في سوق الكرخ غلماناً فقال:
أما ننظر إلى الظباء، طوبى لمن كان جليس هؤلاء، واحسرتي عليهم إذ لا سبيل إليهم.
قيل لعبد العزيز بن عمر: إن بنيك يشربون، فقال: صفوهم،
فقالوا: أما فلان فإن يتقيأ في ثيابه فقال وهذا يدعو النبيذ قالوا وأما فلان فإذا
شرب خرق ثيابه وثياب من معه وعربد، قال: هذا النبيذ، قالوا: وأما فلان فأسكن ما
يكون وأحلمه، ولا ينال أحداً بسوء، قال: هذا لا يدع النبيذ.
سلم رجل على إبراهيم القارئ فقال: كم تسلم علي؟! سلفني
سلام شهر وأرحني.
قال رجل للشعبي: ما زلت أطلبك، فقال: وما زلت فأراً منك.
قال آخر: الإخوان بمنزلة النار، قليلها متاع، وكثيرها
صداع.
قال الأحنف: كانت المودة قبل اليوم محضاً، فليتها اليوم
كانت مذقاً.
لابن همام السلولي:
حصر إن يسيل خيراً لم يجد ... وإذا ما سال الناس ألح
كحمار السوء إن أشبعته ... عض من نال وإن جاع رمح
أقرب الأشياء من أخلاقه ... كل لون لونت قوس قزح
وقال آخر: ما احتنك قط رجل إلا أحب الخلوة.
قال ابن المعتز: سمع الصوفي قول إبراهيم بن العباس
الصولي:
أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وخفض قليلا من مدى
غلوائكا
فإن يك هذا اليوم يوماً حويته ... فإن رجائي في غد
كرجائكا
فقال: هذا رجل موسر من الفطنة.
وسألت الصوفي عن ابن منارة فقال: ذاك في عقله خمسون
كلباً سوى السنانير، كذا قال ابن المعتز.
وقالوا: لا تجالس عدوك فإنه يحفظ عيوبك، ويماريك في صوابك.
وقالوا: من استضاف بخيلاً استغنى عن الكنيف.
وقال آخر: البغيض إذا بغض نفسه فإن أعوانه على ذلك كثير.
قال عبد الله بن أحمد بن يوسف: دخلت على ابن منارة وبين
يديه كتاب فقلت: ما هذا؟ فقال:هذا كتاب عملته مدخلاً إلى التوراة، فناظرته فيه
وقلت: الناس ينكرون هذا، فقال: الناس كلهم جهال، قلت: فأنت إذن ضدهم؟ قال: نعم،
قلت: فينبغي
أن يكون ضدهم جاهلاً عندهم؟ قال: صدقت، قلت: قد ثبت أنك جاهل بإجماع الناس والناس
جهال بقولك.
عثر بعض أصحابنا في مجلس ثم عثر بعده آخر، فقال الصوفي:
أرانا نعاشر قوماً تطرح قوائم.
منصور بن باذان:
وليس يخفى عليكم ... من المنازل طينه
ولو رأيتم دخاناً ... في البحر صرتم سفينه
قال الأصمعي: عوتب أعرابي على التطفيل فقال: إنما بنيت
المنازل لتدخل، ووضعت الموائد لتؤكل، وما لي لا أدخل وأقعد مستأنساً، وأبسط وجهي إذا
كان رب البيت عابساً.
تطفل قوم على مزبد وهو يطبخ قدراً له، فنشل أحدهم قطعة لحم
فأكلها وقال: تحتاج إلى خل، ونشل الآخر أخرى فأكلها وقال: تحتاج إلى أبزار، وفعل
آخر مثل ذلك وقال: تحتاج إلى ملح، فأخذ مزبد قطعة فأكلها وقال: تحتاج إلى لحم،
فضحكوا وقاموا عنه.
رأى رجل مزبداً بالرها وعليه جبة خز، وكان قد خرج إلى
الرها فحسنت حاله فقال له: يا مزبد تهب لي هذه الجبة؟ فقال: ما أملك غيرها، قال
الرجل: إن الله تعالى يقول: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة "
الحشر:9 فقال مزبد: إن الله تعالى أرحم بعباده من أن ينزل هذا بالرها في كانون
وكانون، وإنما نزلت بالحجاز في حزيران وتموز.
قال المدائني: مات رجل بالحيرة في بيت خمار، فأخذه أهله
وقالوا: أنت قتلته، فقال الخمار: والله ما قتلته إلا كلمة كان يرددها، قالوا: وما
هي؟ قال: وأخرى تداويت منها بها قيل لبعض أصحاب النبيذ: أي صلاة تصلي؟ قال: الغداة والظهر
والعصر، قالوا: فالمغرب؟ قالوا فالمغرب؟ قال: تعرف وتنكر، فالعتمة؟ قال: ما كانت
لنا في حساب قط.
وقيل: لم يداو السكر بشيء أفضل من نومة يطفأ بها ما
التهب من شر طبيعته.
قال ابن المعتز: حدثني بعض أصحابنا قال قلت لطباخ مرة:
ما أطيب طبيخك لولا أنك تصغر البرمة، فقال: إنما يكمل طيب البرمة بأن يأكل منها
القوم لقمة لقمة فيستطيبونها، وهؤلاء إذا طلبوا أخرى لم يجدوها.
قدم إلى بعضهم لوزينج غليظ القشور فقال: ما عمل هذا إلا
من عقب. العقب: العصب.
قال ابن أبي برذعة:
إذا عد عيش ناعم وتذوكرت ... غرائب أيام السرور الطرائف
فمن خير أيام الحياة التي خلت ... وأطيبها يوم من العيش
سالف
أصبنا به من غرة الدهر خلسة ... كما نال ورد الماء هيمان
خائف
خرجنا وستر الله يجمع شملنا ... وكل لكل مسعد ومساعف
وقد اخذت زهر الرياض حليها ... وألبست الأرض الفضاء
الزخارف
لجين وعقيان ودر وجوهر ... تؤلفه أيدي الربيع اللطائف
وأهدت إلينا الأرض عذراء لم يطف ... بها من سوانا قبل
ذلك طائف
يباكرها وجه من الشمس طالع ... ويعقبها دمع من المزن
واكف
فتمت جمالاً واعتدالاً ونضرة ... وداف لنا الكافور
والمسك دائف
ومالت بنا منها غصون نواعم ... كما هز قضبان المتون
الروادف
يدير علينا الكأس رطب بنانه ... وصيف جفت في الشكل عنه
الوصائف
تسير إلينا من يديه وطرفه ... كؤوس لأسرار القلوب كواشف
فرحنا وما فعل الزمان مذمم ... لدينا ولا وجه من العيش
كاسف
ومالت غصون البان بين رحالنا ... وجرت على وشي الرياض
المطارف
ولا مثل ذاك اليوم لولا انقضاؤه ... ولا مثلنا لو
أخطأتنا المتالف
وقال: سمعت مدينية تقول: ما في بيتي طحين ولا خبيز.
شاعر:
إلى الروض الذي قد أضحكته ... شآبيب السحائب بالبكاء
قال ابن الأعرابي عن المفضل: تقول العرب: يدك من اللحم
غمرة، ومن الشحم زهمة، ومن الزيت قنمة، ومن الدهن نمسة، ومن الخلوق ردعة، ومن
الحناء عصمة، ومن اللبن ضرة، ومن السمك صمرة، ومن الحديد سهكة.
أنشد التوزي:
يا إبلي روحي إلى الأضياف ... إن لم يكن فيك صبوح كاف
فأبشري بالقدر والأثافي ... وقادح ومغرف غراف
قال أرسطاطاليس في كتاب الحيوان: ليس للسمك نوم ولا صوت،
ومنه ما يعظم حتى يصير كالجزائر والجبال. وذكر أن من أجناس السمك وما لا قشور له
ولا أجنحة، لا زمة قعر الماء الدهر كله.
وزعم أن دابة بحرية تزمر أصواتاً طيبة تكاد بحلاوتها
ولذتها تسلب أفهام السامعين، من سرتها إلى فوق تشبه الإنسان، ومن السرة إلى أسفل تشبه
الفرس.
وزعم أن السرطان يلتذ أكل لحم الصدف الذي فيه اللؤلؤ،
وأنه لا يقدر عليه حتى يفتح صدفته، فإذا فعل جعل بينهما حجراً، وزعم أن السرطان
يسلخ جلده في السنة سبع مرات، ومن قبل ذلك يعمل لحجره بابين: أحدهما شارع إلى
الماء، والآخر إلى الشمس، فإذا سلخ جلده سد الشارع الذي إلى الماء لئلا يدخل السمك
إليه فيأكله.
قال ابن المعتز: سألت الصوفي عن بلدان طوف فيها فقلت: كم
رأيت من البلاد؟ لا تسأل فإني شيطاني كان من الفيوج.
وقال مرة عندي ونحن بسر من رأى: هذا النسيم يجندر الروح.
قال التمار يصف نصيبين في قصيدة:
أرض كأن رياضها ... أبداً بماء المسك تسقى
وكأن تربة أرضها اج ... تذبت من الكافور عرقا
يعقوب بن الربيع:
لما وردت الثعلب ... ية عند مجتمع الرفاق
وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أرواح العراق
أيقنت لي ولمن أح ... ب بجمع شمل واتفاق
وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق
قال: وقال الجاحظ في بعض كتبه وذكر العراق فقال: هي موضع التميمة،
وواسطة القلادة، بها تلاحقت الطبائع، وصرحت عن اللب الأصيل والخلق الجميل.
وصف أعرابي بلداً فقال: ارتحلت عنه ربات الخدور، وأقامت
به رواحل القدور.
قال الحجاج: الكوفة امرأة حسناء عاطل، والبصرة عجوز قد
أوتيت من كل شيء.
قال عبد الملك للحارث بن خالد بن العاص: أي البلاد أحب
إليك؟ قال: ما حسنت فيه حالي، وعرض فيه جاهي.
قال بعض الظرفاء: الكمأة بيض الأرض.
وصف أعرابي غيثاً فقال: بكرنا وسمي خلفه ولي، فالأرض
بساط أحكم نسجه وأبدع وشيه.
قال بعض من تعصب للنرجس على الورد: النرجس أشبه بالعيون
من الورد، فقال المتعصب عليه: يشبه عيون المرضى وأصحاب اليرقان ومن قد غلبت عليه
المرة.
وكان المأمون يشبه الأترج بالمقفع الزمن.
قال بعضهم:لعن الله المرزنجوش والزادرخت، كأن هذا آذان
الفار، وكأن هذا كف بق.
وكان بعضهم يبغض السرو ويقول: كأنه نساء عليهن حداد.
ومرة كان يقول: السرو ذنب ابن عرس.
وقال:
قلت للصوفي يوماً: لم تؤثر النرجس على غيره ولا تنتفع به
في حال سوى شمه طرياً؟ فقال: النرجس روح كله، فإذا مات لم يخلف عندنا جسماً.
قال أبو الحارث جمين، ورأى سرواً: كأنه دخان يخرج من كوة.
وصف أعرابي الماء فقال: إن قلت هو متصل فبذاك يشهد
انتظامه، وإن قلت متبايناً فعلى ذاك يدل انقسامه، أوائله جاذبة لأواخره، وأعجازه
طوع صدره، هو طبيب الأرض من سقامها، تقذف بما تضمنت بطونها على ظهورها.
وصف بعض الظرفاء الماء فقال: ما ظنكم بشيء إذا أجن وصار
ملحاً أخرج العنبر وأثمر الجوهر.
قال ابن الأعرابي في نوادره عن أعرابي:فأرسل الله سبحانه
سبحاناً مستكفاً نشره، ضخاماً قطره، جواداً صوبه.
شاعر:
جاءت تهادى في محل نائي ... يضحك فيها البرق بالضياء
وتارة تلمح باستحياء ... كلمحة من ذي هوىً مرائي
تلوح منها الأرض في قباء ... وأصبحت في حلة خضراء
يا حبرة في الصيف والشتاء العتابي:
قلت للفرقدين والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق
أبقيا ما استطعتما فسيرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق
غر من ظن أن يفوت المنايا ... وعراها قلائد الأعناق
قال: وقلت لبعض أصحابنا، وقد خرج القمر من الكسوف:شبهه
لي، فقال: درهم ندر عن سكة.
العرب تقول: قد هراق الليل أوله، إذا مضت منه ساعة.
قال ابن المعتز: أخبرني الأسدي عن الرياشي عن محمد بن
سلام عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء قال: دفعت إلى ناحية فيها نفر من
الأعراب، فرأيتها مجدبة فقلت لبعضهم: ليس لكم زرع ولا ضرع فكيف تعيشون؟ فقال:نحرش
الضباب ونصيد الدواب فنأكلها، قلت: فكيف صبركم عليه؟ فقال: يا هناه! نسأل الله خالق
الأرض هل سويت، فيقول: بل رضيت، هكذا بخط ابن المعتز.
وقال بلال ابن أبي بردة لابن السماك: أي الطعام أحب
إليك؟ فقال: إذا اشتد ضرس الجوع فليس شيء بأجود من ثريدة قد أكثر بلها وسطع ريحها،
ثم أطرق قليلاً وقال: فإن جاءت صغار القصاع بعد الكبرى زاد ذلك فيما نهوى. قال: فما
تقول في لوزينجة لان قشرها، وغرقت في سكرها ووهن لوزها فقلت ما أشد الوصف إذا عدم الموصوف
إلى ها هنا من كتاب ابن المعتز.
وهذه نتف ألفتها ها هنا، فبعضها مسموع من العامة، وبعضها
مروي عن الخاصة التي تروي عن العامة، وهي تجري مجرى الأمثال المبتذلة، فيها طيب
ومع الطيب عبرة، ومع العبرة فائدة، وقد خلت من الأصول الدالة على الفروع، ومن العلل
المقتضية للأحكام، وقد عرضتها على علية الناس أسأل عن أسرارها ومدارها، وكيف كان
قديمها وفاتحتها، وكيف انتشرت الآن بين العامة، وكيف أشكل على الجميع معانيها، فلم
ألحق الناس إلا رجلاً واحداً في الجهل بها وبأسبابها، وقد سردتها لتشركنا في
التعجب والطيب إن شاء الله: 1 - يقولون: إذا دخل الذباب في ثياب أحدهم مرض.
2 - وإذا حكته يده قال: آخذ دراهم.
3 - وإذا حكته رجله قال: أمشي إلى مكان بعيد.
4 - وإن حكه أنفه قال: آكل لحم، هكذا يقولون، فلا تؤاخذ
العامة باللحن، فإن الصواب في المعنى والإعراب في اللفظ عريان من قضاتك وعدولك
وشيوخك.
5 - وإن حكه وسطه قال: آكل السمك.
6 - وإن اختلجت عينه من فوق قال: أرى إنساناً لم أره منذ
حين، وإذا اختلجت من أسفل قال: سوف أبكي، أسأل الله السلامة.
7 - وإذا وجد ثقلاً في المنام من المرة السوداء قال: وقع
على بختي، وعض ابهام نفسه وقال: دلني على كنز.
8 - ولا يقول بالليل: حية ويقولون: طويلة وإذا غلط أحدهم
فقال: حية. قالها ثلاث مرات.
9 - وإذا أشار إلى صاحبه بالسكين غرزها في الأرض وقال:
الشيطان يعمل عمله.
10 - وإذا كسف القمر ضربوا بالطست وقالوا: يا رب خلصه.
11 - وإذا طنت أذن أحدهم قال: ترى من ذكرني؟ 12 - وإذا
أراد أحدهم أن يبول بالليل بصق أولاً ثم بال.
13 - وإذا صاح الغراب قالوا: خير خير، وأنت شر طير.
14 - وإذا أراد أحدهم أن يشد زره إذا انقطع أخذ في فيه
تبنة وقال: حتى لا يكذب علي أحد.
15 - ولا يقولون: عقرب، ويزعمون أنها تعرف اسمها فتهرب،
ويقولون: تمرة.
16 - وإذا ذكروا الجن بالليل أخذوا بأطراف آذانهم.
17 - ويكرهون البول في الميزاب ويقولون: هي منازل القمر.
18 - ويقولون: دية نملة تمرة.
19 - ويقولون: في كل رمانة حبتين من الجنة.
20 - وإذا مسح أحدهم يده بثوب صاحبه بصق وقال: حتى لا
أبغضه.
21 - وإذا رش أحدهم على وجه إنسان ماءً قبّل يده وقال:
حتى لا يصير نمش.
22 - وإذا صاحت البومة قالوا: منا السكين ومنك اللحم.
23 - وإذا رأوا الخنفساء في ليالي الشتاء قالوا: مباركة
ميمونة وإذا رأوها في ليالي الصيف قالوا: رسول العقرب.
24 - وإذا طار الخفاش بالليل فسمعوا صوته قالوا: هذه
الساحرة تطير، لا إله إلا الله، كأنما طيرانها ثوب يشق، ويكبون الطست ويقولون:
باطل " وبطل ما كانوا يعملون " الأعراف:117.
25 - وإذا غاب لأحدهم غائب صوتوا في البئر ونخلوا الرماد
بالليل، وزعموا أن الجن يثبتون حاله في الرماد.
26 - وإذا صدع أحدهم قالوا: انشرخ رأسه، وربطوه بتكة.
27 - ويطرحون في حب الدقيق جوزة لها ثلاثة خطوط يزعمون
فيها بركة.
28 - وإذا رأوا الشمس حارة قالوا: يجيء غداً مطر.
29 - وإذا طارت من السراج شرارة إلى فوق قالوا: ينقص من
أهل البيت واحد، وإذا وقعت إلى أسفل قالوا: يجيء غداً زائر.
30 - وإذا غسلت السنورة وجهها قالوا: هدية.
31 - ويزعمون أن عوج بن عنق كان يصيد السمك م قرار البحر
بيده ويشويه في عين الشمس.
32 - ويزعمون أنه لا يرتفع إلى السماء من الدخان إلا
قتار الكندر.
33 - ويقولون: إن للزنادقة كبش تنتثر الدراهم من صوفه،
فإذا اشتروا بها تحولت عند البائع ورق آس.
34 - وإن الشيطان يحسد على الزكام والدمل.
35 - وإن الأسد محموم بالنهار فإذا كان الليل أفاق.
36 - وإن الحمار لا يدفأ إلا يوماً من أيام تموز، وهو في
سائر أيام السنة مقرور.
37 - وإذا نكس أحدهم في مرضه أخذوا له دهناً من سبع دور
ودهنوا به رأسه.
38 - وإذا خرج بأحدهم دمل شد على تكته عفصة غير مثقوبة.
39 - وإذا بكى الصبي لطخوا أسفل رجليه بنيلج.
40 - وإذا أصابته العين أخذوا له من بول سبعة أنفس أحدهم
حبشي ماء وصبوه عليه.
41 - وإذا حم أحدهم الربع بخروه بقرن كبش، وإذا أخذه
الفواق عقد بيديه أربعاً وثلاثين وزعم أنه يسكن.
42 - وإذا خرج به قوباء خط حولها خاتم سليمان ومسحه
بالتراب وقال بالغداة: كيف أمسيت لا أصبحت، وبالعشي: كيف أصبحت لا أمسيت؟ 43 - وإذا
لسعته عقرب غسلوا الحصى وسقوه ماءه.
44 - وإذا خرج على لسانه بثرة قال: خبأ لي إنسان شيئاً
طيباً وأكله.
45 - وإذا اشتكى فم معدته ذهبوا به إلى اللواية.
46 - وإذا رأوا في الدار حية بخروها بقرن أيل وقشور
البيض.
47 - وزعموا أن من أكل لحم سنور أسود لم يعمل فيه السحر.
48 - وإذا رأوا في الأفق حمرة قالوا: في السماء نار
وصاحوا: الصلاة الصلاة.
49 - ويضربون بالشعير وينظرون في البخت، وأنت ترى أحدهم
إذا عثر بصاحبه أخذ يده وصافحه، وربما قالوا: لئلا نتخاصم.
50 - وزعموا أن عبد الله بن هلال صديق إبليس كان يغوص
بالكوفة في الطست ويخرج من ساعته بتاهرت.
وهذه أبواب خفية ليس يثبت معها روية، ولا يصح لمن
اعتقدها عزم، وربما غلط فيها من هو فوق الناقص الغبي، ودون النحرير الذكي فيحسبها
حقاً.
ومن أمثال العامة: 1. لا تري الصبي بياض أسنانك فيريك
سواد آسته.
2. - ليس من قال: النار، احترق فمه.
3. - الخنفساء في عين أمها مليحة.
4. - من يشتهي الداح لا يقول أواح.
5. - تمره وزنبوره كلما يكبر يدبر.
6. - أنا أجرّه إلى المحراب وهو يخرا في الجراب.
7. - نفس العجز في القبة.
8. - من يأكل ولا يحسب، يخرب بيته ولا يعلم.
9. - إن كان معلم وإلا فدحرج.
10. - من صير نفسه نخالة بحثتها الدجاج.
11. - أنذل من فار الحبس.
12. - أعتق من الحنطة.
13. - أحمق من الجمل.
14. - يضربون أسته ويصيح راسه.
15. - من لم ير اللحم أعجبته الرية.
16. - من يقفز على وتدين يدخل في أسته واحد.
17. - من يأكل بيدين يختنق.
18. - ما أطيب العرس لولا النفقة.
19. - من كان له دهن كثير يطلي أسته.
20. - من كان دليله البوم كان مأواه الخراب.
21. - كل التمر على أنه كان مرة رطب.
22. - إيش الذبابة وإيش مرقها.
23. - ليت كل أرملة مثل بنت الملك.
24. - إذا كان بولك صافي فاضرب به وجه الطبيب.
25. - البحر ملان ماء والكلب يلحس بلسانه.
26. - من شاء سلح على أصحابه وقال في بطنه وجع.
27. - خبز لم تخبزه أمك كله بأضراسك كلها.
28. - لو كان في البومة خير ما تركها الصايد.
29. - إن كان ذا وجه فليس في الدنيا است.
30. - أهلك الله بدنك، ولا يسر كفنك، ولا آجر من دفنك.
31. - كف إنما وجهك خف.
32. - راسك في است القس كلما عرق اندس.
33. - ليت اليسار استقبلني من باب الدار.
34. - سد البالوعة واسقني بالبير.
51 - وإذا كانت يد أحدهم غمرة قال: من يغسل يده من الخير.
52 - وإن عطس قالوا: تعست، وإن تجشأ قالوا:خرا، وإن سعل
قالوا: شوك، وإن ضحك قالوا: ضحك الأفعى في جراب النورة، وإن قرقر البطن قالوا: إن
صدق الوعد مطرنا خرا.
كان لرجل جاريتان فأرادت إحداهما أن تكيد الأخرى، وكان
قد واقعها مولاها، فصاحت: يا مولاي ليس لنا دقيق وقد فني الخبز، فنام أيره ونهض عن
الجارية.
قد ضربت من أمثال العامة أشياء تتصل بأغراض صحيحة على
سوء التأليف، وخبث اللفظ، وفيها فوائد عجيبة، فاعرف الخبيث والطيب، واختر أنفعهما
لك في موضعه وأجدهما عليك عند استعماله، فلم ينبث هذا كله هذا في العالم إلا ليعرف
ويميز، وليكون بعضه باعثاً على بعض وناهياً عن بعض، وباختلاف الأشياء تختلف الظنون
وتنقسم الآفكار في طلب الحق وترخي الصواب وليس الحق شخصاً في محل يطوي إليه. فلا
تصرف وجهك عن اللفظة السخيفة والكلمة الضعيفة، فإن المعنى الذي فيهما فوق كراهتك،
وليس العالم تابعاً رايك ومحمولاً على استحسانك واستقباحك، بل يجل عن مقاحم فكرك،
ويعلو على غايات فهمك، فإنك ترى لنفسك محلاً ليست به فتقول هذا حسن وهذا قبيح، دون
أن تقف على حقائق ذلك الحسن والقبح بعقل ما شانه الهوى، ولا تحيفه الإلف ولا ضيعته
العادة، ولا أفسده أقران السوء، ولا مني بالتخليط الرديء والمرة المسرفة، ومن لك
بالكمال؟ بل من لك ببعض هذه الأحوال؟ هيهات! وأنت متردد بين غالب عليك، وقادح فيك،
وآخذ منك، وهابط بك، إلا أن يأخذ الله بيدك، ويصرف كيد السوء عنك، ويحبس فعال
الشيطان دونك، ويكون لك قائماً بالصنع، هادياً إلى النجاة.
لأبي النجم الفضل بن قدامة في باز:
أزرق يغذى بطري اللحم ... قد جاء منقضاً كمثل النجم
بأحجن الكلوب أقنى الخطم ... به تضاح من دم المستدمي
ينتزع الأرواح قبل النظم وله في المنجنيق:
كأنها حين ثناها الناس ... جنية في رأسها أمراس
بها سكون وبها شماس ... يخرج منها الحجر الكباس
تمر لا يحبسها الحباس ... لا واضع الترس ولا تراس
ضخم الجبين مهزم مرداس ... يأخذ من وقعتها الوسواس
قال بعض العلماء: الإتاوة للملك، والخراج للسلطان،
والفيء للمسلمين، والجزية من أهل الذمة، والصدقة للنعم، والزكاة للمال، والفطرة
للصوم، والكفارة للإيمان، وجزاء الصيد للمحرم، والبر لبني القربى، والرزق لمن
تمون، والفقة لمن يعنيك، والصداق والصدقة للنساء، والمتاع والتحميم للمطلقة،
والعدة نفقة الإعتداد، والربح للتاجر، والمرباع للسيد وهو ربع الغنيمة.
قال أعرابي: قد كشرت الفتنة أضراسها، وحسرت راسها، وشمرت
أردانها، وهيجت فتيانها، وذمرت فرسانها، ونازلت أقرانها.
يقال:
ما الجرب، والجراب، والجريب، والحرب، والخرب، والذرب،
والسرب، والشرب، والصرب، والطرب، والضرب، والعرب، والعرب أيضاً، والغرب، والقرب،
والهرب، والكرب، والكرب أيضاً، والأرب، والدرب.
وسيأتي جواب كل حرف على حدة، وإن أملك بعض الإملال أفادك
كل الإفادة، ولا تبد هذا العجز الذي يدل على خور طباعك وسوء سليقتك، وانتهز فرصة
العلم فربما تحمد عاقبة العمل به.
قال بعض السلف: أنت في طلب الدنيا مع الحاجة معذور، وأنت
في طلبها مع الإستغناء عنها مغرور.
قال الحسن: أحسن الدنيا أقبحها عن مبصرها، وذلك أنها
تشغل عما هو أحسن منها.
سمع أعرابي رجلاً يقرأ: " فإن زللتم من بعدما
جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم " البقرة: 209، فقال: لا يكون هكذا،
هكذا يهدد، فقيل: إنما هو
" عزيز حكيم " قال: هذا نعم، هذا يكون مع
التهدد.
أما الجرب فالداء المعروف، يقال: رجل جرب وامرأة جربة
وجربى، وأجرب الرجل: إذا جربت أبله، والجراب: المزود - بكسر الجيم، وأبو حاتم
يقول: الفتح من لحن العامة، وجمعه جرب، والجريب: قطعة من الأرض وجمعه جربان. وقلت
لبعض العلماء: هل يقول فيمن يتحذ الجرب (جراب)؟ قال: ما سمع.
وأما الخرب فمن قولك:حرب فلان ماله فهو حريب ومحروب،
والفاعل حارب، وقال بعض النساك: سمي المحراب محراباً لان الشيطان يحارب فيه
بالطاعة لله تعالى، ويقال أن هذا التأويل مهزول، وإنما المحراب أشرف مكان في
البيت، ومحاريب اليمن هي أمكنة شريفة في القصور، وكأن المحراب في المسجد من ذلك
لموقف الإمام. وقال أبو حامد: المحراب عند بعض الفقهاء ليس من المسجد، ولهذا قيل: من بات في
المسجد وحفزته بطنه ولم يمكنه الخروج فأولى به أن تقع ذات بطنه في المحراب. قال أبو
حامد: ولم يقل ذلك لهذه العلة، إنما قيل ذلك لأنه مكان الإمام وحده، فإذا أصابه
ذلك أصاب واحداً وهو ينتبه عليه، ويستدرك الحال هكذا، ولو وضع في ناحية أخرى فإنه
يصير سبيلاً إلى نجاسة أكثر من واحد من حاضري الصلاة.
وأما الحرب فذكر الحبارى، وقد سمعت جمعه على خربان،
والخراب ضد العامر، والخرابات كلام مهزول، كذا قال الثقة. وقال بعض الجوالين:
الخرابات ببخارى كالمواخير بالعراق. والخارب: اللص وجمعه خراب، وكأنه استحق ذلك
الفساد حاله. يقال: فلان ما عرفت له خربة - بالباء - ، وخرمة منكر، هكذا قيل في هذا
المعنى، وإنما الخرمة من خرم إذا ثقب، والمخارم في الطرق، وهي المهاوي والمقاطع،
والأخرم: الذي إن خرم أنفه، والمسور بن مخرمة، وكأن هذين الاسمين أخذا من سار يسور
إذا علا، ومن خرم إذا أثر، والكتاب يقولون: فلان من خراب البلاد، وشذاذ المدن،
وأخابث الناس.
وأما الذرب ففساد في المدة، وقيل: وهو حدور الماء، ولذلك يقال: لسانه ذرب
إذا كان حديداً، والسنان المذرب: أي المحدد، والأسنة المذربة.
وأما السرب فالنفق، وهو كالسرداب - بكسر السين - هكذا
يختار العلماء وكذلك السرقين والدهليز، وكل ذلك خارج عن العربية في الأصل ومجرى
فيها بالاستعمال. والسرب: الماء المنصب، وكأن النفق لما كان شقاً أسرب في الأرض
كالماء، والسارب: الجاري، كذا قيل في قوله تعالى: " ومن هو مستخف بالليل
وسارب بالنهار " الرعد:10، كأنه لابس الخفاء، هو الكساء، وجمعه أخفية، وقيل
له خفاء لما يخفى فيه، وسارب بالنهار: أي ظاهر وقال بعض القرامطة حين دخلوا الكوفة
سنة خمس وتسعين ومائتين: نحن جباة المال، وحماة السروب، واحدها سرب، والسرب:
القطيع من الغنم والظباء وغير ذلك.
أما الشرب فجمع شربة، والشرب: جرعك الماء، وأنت شارب
والماء مشروب، والمشرب: ما يشرب به، والماء الشريب والمشروب: ما أمكن شربه على
كراهية، والشرب: الندماء كالصحب. وقد تعجب بعض العلماء من قول الناس ببغداد للذي يريد
أن يسقي الناس ويحمل الماء: شارب، وقالوا: هو ساقٍ، فلما قيل: شارب؟ ولم يظهر خفي
هذا إلى الساعة، ورجل شريب إذا كان كثير الشرب كسكير وخمير وفسيق، وباب هذا موقوف
على السماع ولا يقال بالقياس كقولك: هو إكيل من الأكل، ولا عليم من العلم، فاحفظ
السماع وافرد القياس، ولا تحمل أحدهما على الآخر.
واعلم أن القياس في اللغة من نحوين: نحو أيده السماع ودل
عليه الطباع، فالقول حسن والمصير إليه جائز. سمعت هذا من أبي سعيد السيرافي. وكان أبو حامد
المروروذي يقول: القياس باطل في اللغة، لأن اللغة في الأصل اصطلاح، وفي الفرع
اتباع، والقياس استحسان وانتزاع، ولو وضعت اللغة بالقياس لصرفت بالقياس، فلما وضعت
بالاصطلاح أخذت بالسماح، والكلام في اللغة طويل، لأن العلم بأحوالها واعتياد أهلها
وأخذ بعضها عن بعضها في أصل الخلق وأول النطق وحين فتح الفاتح فاه، وعزا بعقله
معنى وتوخاه، ثم صاغ له لفظاً وسماه، وأفرده بنفسه عما عداه، وقطع الصوت وأفرده من
غيره بالإشارة إليه، وكيف فهم عنه السامع وكيف قرع أذنه، وكيف وصل إلى صميم عقله،
وكيف عرف به مراد قلبه، وكيف وقع التمازج به والاتفاق عليه؟ علم إلهي، وسر خفي،
وأمر غيبي، لا يقف عليه ولا يحيط بكنهه إلا خالق الخلق، ومبدئ العالم، ومنشئ الكون،
ومالك الجملة.
وأما الصرب فالصمغ.
وأما الطرب فالخفة في الفرح، قال معاوية: الكريم طروب، أي
الماجد مرتاح إلى الخير هشاش، والأطراب جمع طرب، وتطرب الرجل إذا تكلف ذلك وأما
الضرب فالعسل، ويقال: هو الأبيض المحبب الذي كأن فيه حبوباً، ولا أحفظ فيه أكثر من
هذا.
وأما العرب فهذا الجيل في هذه الجزيرة، وهي ألف فرسخ،
والعرب أيضاً جمع عربة، وهي ناعورة، وسميت بذلك لأنها تنعر أي تصوت، ويقال: نعر
فلان، وفلان تعار في الفتن، ونعر العرق: إذا فار الدم منه.
والعرب أيضاً، يقال: هي النفس، واحدتها عربة، والخيل
العراب معروف. وفلان أعرابي إذا كان بدوياً، وهو عربي أيضاً. والنقطة:
الإفصاح،وهذا لم يفصح الكلام، ثم بحركاته وسكناته يقع البيان، ويقال:أعرب الفرس
إذا صهل فعرف بصهيله أنه من الخيل العراب. والعرب جمع عروب، وهي المحبة لبعلها،
هكذا فسر في التنزيل والحكمة والبيان القويم.
وأما الغرب فشجر معروف.
وأما القرب فليلة ورود الماء من صبيحتها.
وأما الهرب فمعروف.
وأما الكرب فأصول السعف، والكرب أيضاً: حبل يشد بحبل
الدلو.
وأما الأرب فالحاجة.
وأما الدرب فالمهارة، يقال: درب يدرب درباً.
كتبت من حظ ابن المعتز: قال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه لعاصم بن زياد الحارثي، وكان عاصم قد لبس الخشن وترك الملاء: يا عاصم. أترى أن
الله تعالى أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت والله أهون عليه، قال: يا أمير
المؤمنين، فأنت آثرت لبس الخشن، قال: ويحك يا عاصم، إن الله فرض على أئمة العدل أن
يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يتبيغ بالفقير فقره، قال: فألقى عاصم العباء ولبس
الملاء.
وقالوا: العفو زكاة العقل. ولو قيل: زكاة القدرة كان
أنبل، هذا عندي، ولا أثق بجل ما عندي وقال علي رضي الله عنه: الجزع والشره والبخل
والحسد فروع أصلها كلها واحد قيل لابن صوحان، وذكر يوماً من أيام علي: أين كنت؟
قال: كنت مع الخواص أضرب خيشوم الباطل.
قال عبد الله بن الزبير بن العوام لعمرو بن العاص: إنك
لكالعشواء تخبط في جلبوب ليل خداري، هكذا كان بخطه، ولعله جلباب.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لكل نعمة عاهة، وعاهة
هذه النعمة عيابون طعانون، طغام مثل النعام، أتباع كل ناعق، يعني بالنعمة الخلافة
فيما أظن.
قال أبو حمزة الشاري، وذكر بني أمية: ذبان طمع وفراش نار.
للناشئ الكبير:
لم تبن في الدنيا سماء مكارم ... إلا ونحن بدورها
ونجومها.
وإذا سمت يوماً للمس أديمها ... يوماً أبالسها فنحن
رجومها
وإذا سمعت بنعمة محروسة ... من كل حادثة فنحن حريمها
وإذا أليحت للأنام بوارق ... تندى فمنا تستهل غيومها
قال ابن المعتز: فيما تزندق فيه أبو العتاهية قوله:
إذا ما استجزت الشك في بعض ما ترى ... فما لا تراه العين
أمضى وأجوز
قال ابن المعتز: لما قال:
فاضرب بطرفك حيث شئ ... ت فلن ترى إلا بخيلا
قيل له: بخلت الناس، قال: فاكذبوني بواحد.
قال ابن المعتز: وحدثني أبو سعيد عن الأثرم قال: كانت أم
جعد، وهي امرأة من غدانة بن يربوع واقعت أوس بن حجر في الجاهلية فقالت:
أنعت عيراً هو أير كله ... حافره ورأسه وظله
كأن حمى خيبر تمله ... أنعظ حتى طار عنه جله
يدخل في فقحة أوس كله.
فهرب أوس منها فاتبعته وهي تقول:
أطلب أوساً لا أريد غيره ... نايكته فشق بظري أيره
شاعر:
مررت بأير بغل مسبطر ... فويق الأرض كالعنق المطوق
فما إن زلت أمرسه بكفي ... إلى أن صار كالسهم المفوق
فلما أن ربا ومذى وأمذى ... ضربت به حر أم أبي الشمقمق
قال ابن أذينة لعبد العزيز بن مروان في كلام جرى: لا،
ولكنك ملول، قال: لو كنت ملولاً ما صبرت على مواكلتك سنة وأنت أبرص.
لعبادة بن البر الجعدي:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... جميع الهوى قد راجع
النفس طيبها
قال بعض النحويين: بين قولك: ما زيد كعمرو ولا شبيهاً
به، وبين قولك: ما زيد كعمرو ولا شبيه به فرق، أن القول الأول في النصب نفي لزيد
عن مشابهته، وفي الجر نفي عن كونه شبيهاً به. وهذا فيه تحكم، وكثير من أصحابنا لا
يطمئنون إلى هذا الفرق.
قال بعض النحويين: معنى قولك: أنت لو لا أن أباك أبوك هو:
أنت الكامل لولا أبوك، كأنه إشارة إلى فضله التام إلا من جهة الوضع من أبيه.
شاعر:
ما ذاق طعم النوم أو ما غمضا ... إذا الكرى في عينه
تمضمضا
لأبي نخيلة:
ها أنا سيف من سيوف الهند ... ما شمت إلا نظرة في غمد
فإن تقلدني فعد لي حدي ... وكل ما سرك عندي عندي
دخل عبد الرحمن بن قديد العذري على معاوية يستعدي على
هدبة بن الخشرم فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء وطئوا حريمي، وروعوا حرمي، وقتلوا
أخي.
ذم أعرابي قوماً فقال: ما زلت فيهم خميرة سوء يبقيها
الماضي للباقي حتى أورثوها فلاناً فعجنها بيده وأكلها بفيه.
انظر إلى استعارة العرب وإلى اقتدارها في الكلام وركوبها
كل متن ووجيفها في كل واد.
قال الحسن: اللهم اجعل أهل العراق صخرة تجري عليها
دماؤنا، فما ينال بهم حق، ولا يرتق بهم فتق، وذلك لما تفرق عنه أصحابه.
وقف أعرابي بباب بعض الملوك فقال: أعينوا الجائع الضعيف،
فقال البواب، وكان سميناً: لعنكم الله فما اكثر جائعكم، فقال: والله لو فرق قوت
جسمك في أبدان عشرة منا لكفانا شهراً، وإنك لعظيم السرطة، جسيم الضرطة، ولو ذري
بجيفتك بيدر لكفته.
وروي عن عمر أنه قال: إذا تناجى القوم في دينهم دون
العامة فهم على تأسيس ضلالة.
طلق أعرابي امرأته فقالت: ولم تطلقني؟ قال: لقبح منظرك،
وسوء مخبرك، والله إنك ما علمت لدائمة الذرب، كثيرة الصخب، مبغضة في الأهل، مشنوءة
عند البعل، قصيرة الأنامل، متقاربة القصب، جبهتك نابية، وعورتك بادية، أكرم الناس
عليك من أهانك، وأهون الناس عليك من أكرمك، قالت: وأنت والله إن نطق القوم أفحمت،
وإن ذكر الجود انقمعت، ضيفك جائع، وجارك ضائع، القليل منك إلى غيرك كثير،والكثير
من غيرك إليك قليل.
قال أنس: قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني اسرائيل، قالوا: وما ذاك يا
رسول الله؟ قال: إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الملك إلى
صغاركم، والفقه في رذالكم.
قال الحسن البصري: لا يرد جوائز الأمراء إلا مراء أو
أحمق.
قال الأصمعي: لما قتل المختار أخذ رأسه وحمل بدنه على
بغل، فكان كلما مال مسك بأيره، فكان أيره سكانه. هذا لفظ الأصمعي.
لأبي الخطاب النحوي:
أما والله لولا خوف هجر ... يكون من التنازع والعتاب
وأمر لست أدري كيف آتي ... إذا فكرت فيه بالجواب
لقلت مقالة فيها شفاء ... لنفسي من هموم واكتئاب
ولكن سوف أصبر فاصطباري ... على المكروه أولى بالصواب
قال ابن السماك: عجباً للفتى المترف الذي تعود النعيم في
الدنيا، والطعام الطيب، والمركب الوطيء، والمنزل الواسع، كيف لا يعمل ها هنا مخافة
أن يفوته ذاك في الآخرة، وعجباً للفقير المجهود الذي لا يقدر من الدنيا على حاجته كيف
لا يعمل رجاء أن يذهب إلى نعيم وروح ويستريح مما هو فيه.
قال عبيد الله بن زياد: إياكم والطمع فإنه دناءة، والله
لقد رأيتني على باب الحجاج، وخرج الحجاج فأردت أن أعلوه بالسيف فقال: يا ابن
ظبيان، هل لقيت يزيد بن أبي مسلم؟ قلت: لا، قال: فألقه فإنا قد أمرناه أن يعطيك
عهدك على الري، قال فطمعت فكففت، وإنه عاد إلى يزيد بن أبي مسلم فلم يكن معه عهد
ولا شيء، وإنما قال الحجاج ما قال حذراً منه.
شعر:
ما يألف الدرهم المنقوش خرقتنا ... إلا لماماً قليلاً ثم
ينطلق
إنا إذا كثرت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى سبل الخيرات
تستبق
وجد عمرو بن العاص في الوهط - ضيعته - رجلاً يقطف عنباً
فقال: ويلك ما علمت ما أنزل الله على موسى؟ قال: ما هو؟ قال: من تسور وهطين وأخذ
قطفين فإنه يدخل نارين فقال لا والله على عيسى قال من سرق مصرين، وأنفق وهطين،
فإنه يدخل نارين، فقال عمرو: والله أنزل الله تعالى هذا ولا ذاك.
لما ولي سوار القضاء كتب إلى أخ له يسكن الثغور: إنه
إنما حملني على الدخول في القضاء مخافة أن أدخل فيما هو أعظم منه - وذكر كثرة
العيال، وشدة الزمان، وجفوة السلطان، وقلة المواساة، فرق له وكتب إليه: فإني أوصيك
بتقوى الله تعالى يا سوار، الذي جعل التقوى عوضاً من كل فائدة من الدنيا، ولم يجعل
شيئاً من الدنيا عوضاً من التقوى، فإن الدنيا عقدة كل عاقل، بها يستنير وإليها يستروح،
ولم يظفر أحد في عاجل الدنيا وآجل الآخرة بمثل ما ظفر به أولياء الله الذين شربوا
بكأس حبه، وكانت قرة أعينهم في ذلك، لأنهم أعملوا أنفسهم في حريم الأدب، وراضوها
رياضة الأصحاء الصادقين، وظلفوها عن الشهوات، وألزموها القوت المعلق، وجعلوا الجوع
والعطش شعاراً لها، حتى انقادت وأذعنت لهم عن فضول الشهوات، فلما ظعن حب فضول
الدنيا عن قلوبهم، وزايلته أهواؤهم، وكانت الآخرة نصب أعينهم، ومنتهى أملهم، ورث
الله تعالى قلوبهم الحكمة،وقلدت قلائد العصمة، وجعلت نوراً للعالم الذي يلمون منه
الشعث ويشبعون الصدع، فما لبثوا إلا يسيراً حتى جاءهم من الله موعود صادق اختص العالمين
به والعاملين له، فإذا سرك أن تسمع صفة الأبرار الأتقياء فصفة هؤلاء فاستمع،
وشمائلهم فاتبع، وإياك يا سوار وبنيات الطريق.
قال الأصمعي: لزياد الأعجم في قتيبة بن مسلم:
فما سبقت يمينك من يمين ... ولا سبقت شمالك من شمال
قال عبد الملك بن عمير: المرأة السوداء بنت السيد أحب
إلي من المرأة الحسناء بنت الرجل الدنيء.
قال عبد الملك بن صالح: قال رجل لابن السماك: أما بلغك
أن القصص بدعة، وكان عريفاً، قال: فبلغك أن العرافة سنة؟!.
كان لقيط راوية أهل الكوفة، قال: تقدم رجل من التجار إلى
العريان بن الهيثم، كان التاجر فصيحاً صاحب غريب، ومعه خصم، فقال التاجر: أصلحك
الله، إني ابتعت من هذا عنجداً واستنسأته شهراً أؤديه مياومة، ولم ينقض الأجل،
ولقد أديت بعض حقه فليس يلقاني في لقم إلا فثأني عن وجهي، وأنا مهيء ماله إلى انقضاء
الأجل، فقال له العريان: من أنت؟ قال: رجل من التجار، قال: أي عاض بظر أمه، تتكلم
بهذا الكلام؟ ضعوا ثيابه،فأهوت الشرط إلى ثيابه فقال: أصلحك الله إن إزاري مرعبل،
فضحك العريان وقال: لو ترك الغريب في موضع لتركه ها هنا، خلوا عنه.
أصابت أبا علقمة الحمى فأرسل إلى الطبيب فقال: أنظر إلي،
فأخذ بيده وحبس عروقه فقال: أصلحك الله، أي شيء يوجد لك؟ فقال: أجد رسيساً في
أسناخي، وأزاً فيما بين الوابلة إلى الأطرة من دأيات العنق قال: أصلحك الله هذا
وجع القريس، قال: أبو علقمة: وأين سعد من قريش؟! والناس بنو آدم،قال: إن شئت ولد
آدم وإن شئت ولد عيسى، ليس عندنا لهذا الكلام دواء.
دعا أبو علقمة حجاماً فقال له: أخرج منك دماً قليلاً أو
دماً كثيراً؟ فقال: اشدد قصب الملازم، وأرهف ظبى المبازع، وخفف الوقع، وعجل القطع،
ولا تستكرهن أبياً، ولا تدون ايتا واسفف ولا تسفف، فقام الحجام وقال: جعلني الله
فداك، ليس لي علم بالحرب. يقال: أسفف أي قارب بين الشرط، ولا تسفف، يقول: لا تفرق
بين الشرط.
قال الزبير بن بكار: لأمية أبيات نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن إنشادها وهي:
ماذا ببدر فالعقن ... قل من مرازبة جحاجح
شيب وشبان بها ... ليل مخاريق دحادح
فمدافع البرقين فال ... حنان من طرف الأواشح
هلا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولي المنادح
كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الطير الجوانح
يبكين حرى مستكي ... نات يرحن مع الروائح
من يبكهم يعول على ... حذر ويصرف كل مادح
أو لا يرون كما ارى ... ولقد يبين لكل لائح
أن قد تغير بطن مك ... كة فهي موحشة الأباطح
من كل بطريق لبط ... ريق نقي اللون واضح
القائلين الفاعلي ... ن الآمرين بكل صالح
المطعمين الشحم فو ... ق اللحم شحماً كالأنافح
خف الخميس إلى الخمي ... س إلى جفان كالمناضح
ليست بأصدار لمن ... يعفو ولا رح رحارح
قال أحمد بن أبي طاهر: حدثني حبيب قال، حدثني بعض
المشايخ قال: سمعت رجلاً يقول:لو صور الصدق لكان أسداً، ولو صور الكذب لكان
ثعلباً، وما صاحبهما منهما ببعيد.
قال أحمد: وحدثني حبيب قال، حدثني رجل من الحي قال: كان فينا
شيخ شريف، فأتلف ماله في الجود، فصار يعد ولا يفي، فقيل له: أصرت كذاباً؟ قال:
نصرة الحق أفضت بي إلى الكذب.
قال: وعد رجل رجلاً فلم يقدر على إنجاز ما وعد، فقال:
كذبتني، فقال: لا ولكن مالي كذبك.
قال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم، والمسألة مفتاح
التوثق، وفي المشورة مادة الرأي.
كتب معاوية إلى زياد: اعزل حريث بن جابر، فإني ما أذكر
فتنة صفين إلا كانت حزازة في قلبي، فكتب إليه زياد: خفض عليك يا أمير المؤمنين،
فقد بسق حريث بسوقاً لا يرفعه عمل، ولا يضعه عزل.
وذكر أعرابي قوماً فقال: كلام الناس أشجار وكلامهم ثمار.
وقيل لصعصعة بن صوحان: كيف كان طلحة - وسئل عن جماعة من
الصحابة - فقال: كان حلو الصداقة، مر المذاقة، ذا أبهة شاحطة.
قال عمرو بن عتبة: تألفوا النعمة بحسن مجاورتها،
والتمسوا المزيد فيها بالشكر عليها، واحملوا أنفسكم على مطية لا تبطئ إذا ركبت،
ولا تسبق وإن تقدمت، قالوا: ما هذه المطية؟ قال: التوبة.
قال الأحنف في صفين: أما إذا حكمتم أبا موسى فأدفئوا
ظهره بالرجال.
يقال: المواعيد رؤوس الحوائج والإنجاز أبدانها.
سمع أعرابي شعراً جيداً فقال: هذا رخيص المسمع، غالي
المطلب.
قال أبو العيناء: غنانا علويه في منزل إسحاق، وكان
اليزيدي معنا، فقال له اليزيدي، وكان علويه يضرب باليسار: أسأل الله الذي جعل
سرورنا بيسارك أن يعطيك كتابك بيمينك.
قيل لرجل: لم فضلت الغلام على الجارية؟ فقال: لأنه
الطريق صاحب، وع الإخوان نديم، وفي الخلوة أهل.
قال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز وهو صبي: كيف
نفقتك علة عيالك؟ فقال: حسنة بين سيئتين، فقال لمن حوله: أخذه من قول الله تعالى
" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً "
الفرقان: 67.
قال أبو الدرداء: التمسوا الخير دهركم، وتوسموا له ما
استطعتم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن الله تعالى نفحات يصيب بها من يشاء من
عباده، وأسأل الله تعالى أن يستر العورة، ويؤمن الروعة.
قيل لفيلسوف: ما أعم الأشياء نفعاً؟ فقد الأشرار.
قدم بعضهم عجوزاً دلالة إلى قاض فقال: أصلح الله القاضي،
زوجتني هذه امرأة عرجاء، فقالت: أعزك الله، زوجته امرأة يجامعها لم أزوجه حمارة
يحج عليها.
يقال: إذا كان لك فكرة، ففي كل شيء لك عبرة.
شاعر:
بان الأحبة والأرواح تتبعهم ... فالدمع ما بين موقوف
ومسفوح
قالوا نخاف عليك السقم قلت لهم ... ما يصنع السقم في جسم
بلا روح
قال العباس بن الحسن في كاتب: ما رأيت أوقر من علمه، ولا
أطيش من قلمه.
قال فيلسوف: الإنسان مستور ما أتبع قبيحه حسناً.
قال أعرابي: رب جواد عثر في استنانه، وكبا في عنانه،
وقصر في ميدانه.
قال رجل لأبي سعيد الحداد: أخطأت، قال: أخطأت أنت حين
تظن أني لا أخطئ.
قال رجل لرجل: غلامك ساحر، قال: قل له يسحر لنفسه قباءً
وسراويل.
قال رجل: أريد أن أعتقد لولدي ما يعيشون به بعدي، فقال
له زاهد: أنت ممن لا يعبد الله إلا بكفيل.
كان عامر بن عبد الله يقول: أربع آيات في كتاب الله إذا
قرأتهن ما أبالي على ما أصبح وأمسي: قوله: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا
ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " فاطر:2، وقوله عز وجل: " وإن
يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو " يونس:107، وقوله: " سيجعل الله بعد
عسر يسراً " الطلاق:7، وقوله: " وما من دابة في الأرض إلا على الله
رزقها " هود:6.
كتب بعض الكتاب إلى صديق له وقد تأخر عنه كتابه: إن كنت
لا تحسن أن تكتب فهذه زمانة، وإن كنت تكتب ولا تكاتب إخوانك فهذا كسل، وإن كان ليس
لك قرطاس ودواة فهذا سوء تدبير، وإن اعتذرت بعد ما كتبت إليك فهذه وقاحة.
شاعر:
وإذا تبسم سيفه ... بكت النساء من القبائل
وإذا تخضب بالدما ... ء نهضن في سود الغلائل
لا شيء أحسن عنده ... من نائل في كف سائل
نظر ابن سيابة إلى مبارك التركي وتحته دابة، فرفع رأسه
إلى السماء وقال: يا رب، هذا حمار وله دابة، وأنا إنسان وليس لي حمار!!.
تاب مخنث فلقيه مخنث آخر فقال: يا فلان أيش حالك؟ قال:
قد تبت، قال: فمن أين معاشك؟ قال: بقيت له فضلة من الكسب القديم، قال: إذا كانت
نفقتك من ذلك الكسب فلحم الخنزير طري خير منه قديد.
قال ابن أبي فنن: دخلت يوماً إلى الفتح بن خاقان أسأله
إيصالي إلى المتوكل لأنشد شعراً، وأنشدته:
إذا كنت أرجو نوال الإمام ... وفتح بن خاقان لي شافع
فقل للغريم أتاك الغياث ... وللضيف منزلنا واسع
قال: وكان الفتح يشرب، فأمرني بالجلوس وقدم إلي النبيذ وأمرني
بالشرب، فقلت: ما أكلت شيئاً أيها الأمير، فجاءني بعض الخدم فأخذ بيدي إلى خزانة
وقدم لي طعاماً، فأكلت وعدت إلى مكاني فجلست، فقال لي الفتح: خذ ما تحت مصلاك، فنظرت
فإذا بصرتين، فقال: أما إحداهما ففيها مائة دينار وهي لجائزتك، وأما الأخرى ففيها
مائة دينار لحسن أدبك وقولك: إني ما أكلت شيئاً.
جحظة:
غنت فهاجت حربي ... وضاع فيها طربي
فشعرها من فضة ... وثغرها من ذهب
قيل لمزيد وقد اشترى حماراً: ما في حمارك عيب إلا أنه
ناقص الجسم يحتاج إلى عصا، قال: إنما كنت أغتم لو كان يحتاج إلى بزماورد، فأما
العصا فأمرها هين.
خطب معاوية الناس فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه:
" وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما تنزله إلا بقدر معلوم " الحجر:21،
فعلام تلومونني إذا قصرت في اعتياتكم؟ فقام إليه الأحنف فقال: إنا والله ما نلومك
يا معاوية على ما في خزائن الله ولكن على مانزله ألينا من خزائنه فجعلته في خزائنك
وحلت بيننا وبينه، قال: فكأنما ألقمه حجراً.
قال بزر جمهر: من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحداً
استحقاقه، إما أن تزيده وإما أن تنقصه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: جعل عزي في ظل سيفي وفي
رأس رمحي.
قال مسلمة لنصيب: أمدحت فلاناً؟ قال: نعم، قال: فما فعل
معك؟ قال: حرمني، قال: فهلا هجوته؟ قال: لا أفعل، قال: ولم؟ قال: لأني أحق بالهجو منه
إذ رأيته أهلاً لمدحي، فأعجب به وقال له: سلني، قال: كفك بالعطية أبسط من لساني بالمسألة،
فأمر له بألف دينار.
صاح رجل براهب في صومعته فقال له: ما الذي علقك في هذه
الصومعة؟ قال: من مشى على الأرض عثر.
قيل لرجل: مات عدوك، قال: وددت لو أنكم قلتم: تزوج.
قال الحجاج يوماً لرجل: أنا أطول أم أنت؟ قال: الأمير
أطول عقلاً وأنا أبسط قامة.
وصف النظام الكواكب وحسنها، وكان الخاركي حاضراً، وكان
يتهم بالزندقة، فقال: وأي شيء حسنها؟ ما أشبهها إلا بجوز كان في كم صبي فتناثر فوقع
متفرقاً: ها هنا ثلاثة، وها هنا أربعة، وها هنا اثنتان.
أنا والله أرحم هذا القائل، وهو بالغيظ عليه أولى، بل
تنفيذ حكم الله فيه أحق، فقد الحد في الدين وأرصد للمؤمنين، وشبه على الضعفاء
المبتدئين، أما يعلم أن هذا الظاهر المنتشر موشح بالباطن المنتظم، وأن هذا البادي
المتباين مربوط بذلك الخافي المتصل، وأنه لو جرى الأمر على وصف هذا المقترح،
وترصيع هذا المعترض، لكان النقص يعتوره، والخلل يدخله، وحق لعقل قصير، واعتبار
ممزوج، وفكر مضطرب، أن يؤدي صاحبه إلى هذا الاختلاط.
هيهات جل خلقه عن إدراك خلقه، وعلا عن إحاطة شيء بكنهه،
فليس لعقل مجال في سره، ولا لوهم منال من غيبه، ولا لمعترض ثبات عند اختلاف أفانين
قدرته، وإنما عليك أن تعرف نقصك في كمالك، وعجزك في قدرتك، وسفهك في حكمتك،
ونسيانك في حفظك، وخبطك في توفيقك، وجهلك في علمك، ونيلك عند بأسك، وتهتكك في
احتراسك، وإخفاقك مع تحققك، ونكولك في تصميمك، فإذا عرفت هذه المعاني، وسكنت هذه
المغاني، وضح لك خفي الغيب ببادي الشهادة، وتداركت الأدلة بشفاء اليقين، ورحلت عن
صدرك غلبات الهم، وتشاهدت السواء في كثرتها بتوحيد الواحد، وأشارت إلى الفيض
الغامر، وأوصلتك إلى حقائق ما تراءى لعينك، وتخيل لوهمك، وهجس ببالك، وخنس عن
عقلك، ونفى عن طرفك فيما لحقك الشك، وتميز من وهمك ما استحال بتحصيلك، وطرد عن
قلبك ما طرقك بالشبه، هنالك تعلم أن العالم في إحدى جهتيه يشكل على العاقل الفحص عنه،
وفي الجهة الثانية يحرم على المنصف التشكك فيه، لأنه إن كان فيما يوجد من انتثاره
ما يفدح في حقائق التوحيد، ففيما يوجد من انتظامه ما يفتح أبواب التحقيق، وإن كان
فيما ترى من اختلافه ما يبعث الحيرة، ففيما يعقل من اتساقه ما يفضي إلى التمييز،
وإن كان فيما يجهل سره ما يتصل بالراحة، وإن كان بعض الحرمان غيظاً فإن بعض النبل
غبطة، وإن كان طرف العجز جاذباً إلى اليأس إن في طرف القوة ما يستحصف به أسباب
الأمل، فلا ترع، فليس ما جل عنك وجب أن يبطل عليك، ولا ما دق عن فهمك وجب أن
يبهرجه نقدك، حاكم نفسك إلى نفسك، وعقلك إلى عقلك، فإنهما إن نكلا عن الشهادة في
موضع استقصاء العلانية فإنهما يمران الشهادة في موضع ثقة بالحقيقة، ولا تكن إلباً
عليهما فتخسر وأنت حاكم، وتحشر وأنت واهم.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تكلم أحد بالفارسية
إلا خب، ولا خب إلا ذهبت مروءته.
شاعر:
أما ترى الورد في أكفهم ... يجتث للقاطفين من ورقه.
كالقلب نار الهوى تلذعه ... والقلب يهوى الهوى على حرقه
قال أفلاطون: لولا قولي إني لا أعلم شيئاً إني أعلم
لقلت: إني لا أعلم.
قال فيلسوف: ما كسبت فضيلة من العلم إلا علمي بأني لا
أعلم.
قال بعض أصحابنا: العالم قد يكون معانداً من حيث يخالف
ما يعلمه، فأما الجاهل فلا يكون منصفاً لجهله بالإنصاف وفقد علمه بشرفه.
قيل لعالم: ما السرور؟ قال: معنى صح بالقياس، ولفظ وضح
بعد التباس.
قيل لشجاع: ما السرور؟ قال: ضرب سريع، وقرن صريع.
قيل لملك: ما السرور؟ قال: إكرام ودود، وإرغام حسود.
قيل لعاقل: ما السرور؟ قال: عدو تداجيه، وصديق تناجيه.
قيل لأكار: ما السرور؟ قال: رفع غلة، وسد خلة.
قيل لمغن: ما السرور؟ قال: مجلس يقل هذره، وعود ينطق
وتره.
قيل لناسك: ما السرور؟ قال: عبادة خالصة من الرياء ورضى
النفس بالقضاء.
للعطوي:
يا نفس دومي على العبادة والص ... صبر فخير العلقين في
يدك
إني وإن كنت لابساً سملا ... فهمتي فوق كاهل الفلك
قال بعض الأدباء: الجالي عن مسقط رأسه ومحل رضاعته
كالعير الناشط عن بلده الذي هو لكل عير فريسة، ولكل رام دريئة.
قالت الفرس: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، وكما
تغرس الولادة رقة وجفاوة.
قال فيلسوف: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن.
وكان بقراط يقول: يجب أن يداوى كل عليل بعقاقير أرضه،
فإن الطبيعة تتطلع إلى هوائها، وتنزعو إلى غذائها.
قال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم كقناعتهم بأوطانهم
ما اشتكى عبد الرزق.
شاعر:
سكر الولاية طيب ... وخمارها صعب شديد
لازلت في درك الشقا ... حتى تعاين ما تريد
قال ابن جريج: قرأت في موضع:
عش موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الغم
فكلما زادك في نعمة ... زاد الذي زادك في الهم
إني رأيت الناس في عصرنا ... لايطلبون العمل للعلم
إلا مباهاة لأصحابه ... وعدة للغشم والظلم
قال أعرابي: ما السيف عن الظالم بصائم، ولا الليل عن
النهار بنائم.
؟قال فيلسوف:
إنك لن تجد الناس إلا أحد رجلين: إما مؤخراً في نفسه قدمه حظه، أو مقدماً في نفسه
أخره دهره، فأرض بما أنت فيه اختياراً، وإلا رضيت اضطراراً.
قال رجل لسقراط: ما أقبح وجهك، قال: ما تقبيح صورتي إلى
فأذم، ولا تحسين صورتك إليك فتحمد، قال: قد علمت، قال: فإذا عبت الصنعة مع علمك فقد
عبت الصانع.
قيل لفيلسوف: ألا تحدثنا؟ قال: لا، قيل: لم؟ قال: لأنكم
تجلون عن دقيقي وأدق عن جليلكم.
قيل لسقراط: ما تأمرنا أن نصنع بك إذا مت؟ قال: ليعن
بذلك من يحتاج إلى المكان.
قال أعرابي: من لم يؤدب في صغره لم يفلح في كبره.
قال بعض الرؤساء: دع الوعد يتربص ثلاثاً، فإن كثير
العطاء قبل الوعد صغير، وجليله حقير.
قال أعرابي: ما زلت أقوت عيني النوم حتى وقعت في لجته
وعرقت في بحره.
قال يحيى بن خالد: الوعد شبكة من شباك الكرام، يصطادون
بها محامد الإخوان.
قال الموبذ بمرو: الوعد سحابة والإنجاز مطرة.
وقال آخر: لقح المعروف بالموعد، وأنتجه بالفعال، وأرضعه
بالزيادة.
سئل ابن مسعود عن الوسوسة يجدها الرجل فقال: ذاك برازخ
الإيمان.
يقال: عين العقل أبصر من عين الجسد.
نظر أعرابي إلى بعض أولاد الملوك فرآه سميناً فقال: لحاك
الله ما ثناك الخبز.
قال قسطا بن لوقا: الخط هو مقدار ذو نعت واحد، وهو الطول
بلا عرض ولا عمق، وهو لا يدرك على الانفراد بالعقل والوهم لا بالحس، وأما وجوده
بالحس فإنه في البسيط إذ هو نهايته، فإن البسيط إذا ألقي منه عرضه بقي طوله فقط،
وذلك هو الخط؛ ونهاية الخط نقطتان: فالنقطة هي شيء لا بعد له، أعني لا طول ولا عرض
ولا عمق، وهي موجودة على الانفراد بالعقل والوهم لا بالحس، وأما وجودها بالحس فهو
في الخط.
قال ابن المعتز في رسالة يذكر فيها محاسن أبي تمام ومساوئه:
سهل الله لكم سبل الطلب، ووقاكم مكاره الزلل؛ ربما رأيت من تقديم بعضكم الطائي على
غيره من الشعراء إفراطاً ظاهراً، وهو أوكد أسباب تأخير بعضكم إياه عن منزلته في
الشعر لما يدعو إليه اللجاج، فأما قولي فيه فإنه بلغ غايات الإساءة والإحسان، فكأن
شعره قوله:
إن كان وجهك لي تترى محاسنه ... فإن فعلك بي تترى مساويه
وقد جمعنا محاسن شعره ومساوئه في رسالتنا هذه، ورجونا
بذلك ارتداع المسهب في امتداحه، ورد الراغب عنه إلى إنصافه، واختصرنا الكلام إشارة
لقصد ما نزعنا إليه، وتوقياً لإطالة ما يكتفى بالإيجاز فيه، ولئن قدمنا مساوئه على
محاسنة ففي ذلك الجور عليه، وإن قرب العهد بمحاسنه لأدعى للقلوب إليه.
قال أعرابي: إذا استشرت الشر شري.
كتب عبد الملك إلى الحجاج: أرهب أهل الخيانة وأرغب أهل
الأمانة، فإن البريء، إذا لم يأمن العقوبة وخاف مثل ما يؤتى إلى أهل الخيانة، طأطأ
ركضاً في السرقة.
قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: كلام ألحمه التقوى
ونسجه الإخلاص.
قال عامر بن عبد القيس: الدنيا والده الموت.
قال عياض بن عبد الله: الحب أعمى.
وقال بعض الزهاد: المساجد سوق الآخرة.
قال العتبي: سئل أعرابي عن أخوين له فقيل له: أخبرنا عن
زيد، فقال: أسكن الناس فوراً، وأبعدهم غوراً، وأثبتهم عند الحجة، قالوا: فأخبرنا
عن الآخر، قال: كان والله شديد العقدة، لين العطفة، يرضيه أقل ما يسخطه،
قالوا: فأخبرنا عن نفسك، قال: والله إن أفضل ما في معرفتي بهما.
قال رجل لعتبة بن أبي سفيان: قدمت إليك أخوض المتالف،
وأقطع لجج السراب مرة، وألتحف بالليل أخرى، مضمراً حسن الظن بك، هارباً من اليأس
إلى رجائك.
وصف قطري الدنيا فقال: ما نال أحد منها حبرة إلا أعقبته عبرة،
ولم يملأ من سرائها بطناً إلا منحته من ضرائها ظهراً، ولم يجد منها غنيمة رخاء إلا
هطلت عليه مزنة بلاء، ولم يمس منها أمرؤ في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف.
ذكر المدائني في كتاب نوادر القضاة أنه حضر وليمة على
مائدة وأعرابي يحاذيه على مائدة أخرى فقال: أتحول إليك يا أبا العباس؟ قال: ما بنا
إليك من وحشة فلا تجعلنا سلماً للشهوة.
تقدم رجل إلى شريح ليشهد فقال: إنك لتنشط للشهادة، قال:
إنها لم تحقد علي، قال: لله درك، وقبل شهادته.
سئل رجل عن اليمن فقال: سيف اليمن قضاعة، وهامتها همدان،
وسنامها مذحج، وريحانتها كندة، ولكل قوم قريش، وقريش اليمن الأنصار.
كتب بعض الحكماء إلى أخ له: إنك قد أوتيت علماً فلا
تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنورهم.
قال النضر بن معبد: لا يتكلم أحد بكلمة حتى يزمها
ويخطمها، فعسى أن يكون في القوم من هو أعلم منه، فإن سكت سكت وهو قادر عليه، وإن
بكته وجد للتبكيت موضعاً.
قال داود بن علي: احمدوا الله تعالى على النعمة التي
أصبحتم ترتضعون درتها، وتتفيئون ظلها، وتفترشون وسادها ومهادها.
وقال آخر: الدنيا سوق الشر.
وقال آخر: الدنيا عين تبصر بها الآخرة.
ويقال: الصدق يدل على اعتدال وزن العقل.
وقال آخر: الإسناد كسوة الحديث.
وقال ابن مسعود: كونوا جدو القلوب خلقان الثياب، تجفون
في الأرض وتعرفون في السماء.
قال شداد بن أوس: إني أخاف عليكم شهوة خفية ونعمة ملهية،
وذاك حين تشبعون من الطعام وتجوعون من العلم.
لما ماج أهل مكة لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم استبشر
أبو سفيان بن حرب، فقام سهيل بن عمرو فقال: والله إني لأعلم أن هذا الدين سيمتد
امتداداً كالشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم، وأشار إلى أبي سفيان،
فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكن حسد بني هاشم جاثم على صدره.
لما دنا خالد من أصحاب مسيلمة انتضوا سيوفهم قبل أن
يلتقوا، فقال خالد، فشل قومك يا مجاعة، قال: كلا ولكنها اليمانية لا تلين حتى تشرق
متونها، قال: ما أشد ما تحب قومك، قال: لأنهم حظي من ولد آدم، فقال خالد يوم ذلك:
إن السهام بالردى مفوقه ... والحرب ورهاء العقال مطلقه
وخالد من دينه على ثقه قال أبو قلابة: لا تجالسوا أصاب
الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
وقال: إن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما صفا ورق
وصلب، فأما صفاؤها فلله، وأما رقتها فللإخوان، وأما صلابتها فعلى الكفار.
من خط ابن المعتز:
إذا رأين علماً ممتداً ... معمماً بالآل أو مردى
يحسبه الرائي حصاناً وردا ... مجللاً كتابة أو بردا
صددن عن عرنينه أو صدا آخر:
قلق لأفنان الرما ... ح للاقح منها وحائل
حتى إذا صغت المط ... ي بعيد هرولة العساقل
ومعطل أشب يخر ... ق ذي الأعالي والأسافل
قد بت أدأبه إلي ... ك بغيهب هدب العياطل
آخر:
تم لوعة للندى وكم قلق ... للجود والمكرمات في قلقك
ألبسك الله منه عافية ... في نومك المعتري وفي أرقك
ينزع من جسمك السقام كما ... نزعت حبل اللئام من عنقك
ابتلع ثعلب عظماً فبقي في حلقه، فطلب من يعالجه ويخرجه،
فجاء إلى كركي فجعل له أجراً على أن يخرج العظم من حلقه، فأدخل رأسه في فم الثعلب
وأخرج العظم بمنقاره ثم قال للثعلب: هات الأجرة، فقال الثعلب: أنت أدخلت رأسك في
فمي وأخرجته صحيحاً، لا ترضى حتى تطلب أجراً زيادة؟! قيل لثعلب: أتحمل كتاباً إلى
الكلب وتأخذ مائة؟ قال: أما الكراء فواف تام، ولكن الخطر عظيم.
ووقع في شرك صياد ثعلبان فقال أحدهما: يا أخي، أين
نلتقي؟ فقال: في دكان الفراء بعد ثلاث.
قالت قحبة لصاحبتها: متى يكون الرجل أطيب للمرأة؟ قالت:
إذا حلق هو مثل أمس، وانتفت هي مثل اليوم، فدخلت أصول شعرته في أصول شعرتها، فقالت
لها الأخرى: قتلتيني، الساعة أصب!! وكانتا في غرفة تحتها خياط وقد سمع ما قالتا فصاح: يا قحاب، ثياب
الناس في الدكان، لا يكف علينا!! قال الجماز: رأيت عجوزاً تسأل وتقول: من تصدق علي
أطعمه الله من طيبات باب الطاق.
شاعر:
أقاموا الديدبان على يفاع ... وقالوا لا تنم للديدبان
إذا أبصرت شخصاً من بعيد ... فصفق بالبنان على البنان
تراهم خشية الأضياف عجلى ... يقيمون الصلاة بلا أذان
قيل للحسن بن شهريار، وكان كاتباً لوصيف: لا تنصرف إلى
منزلك إلى نصف النهار، فقال: ما أعجب هذا!! فإن لم يجيء نصف النهار إلى بعد العصر
أقعد؟! رفع وكيل لبعض بني هاشم في حساب ثلاثمائة درهم في جلاء مرآة، فقال جمين:
والله لو صدئ القمر لجلي بأقل من هذا.
قال بعضهم: قلت لمديني وهو محرم يتغنى على حماره: أما
تتقي الله تتغنى وأنت محرم؟ فقال: إني أخاف النعاس وأن أقع عن حماري، قلت: فأين
أنت عن القرآن؟ قال: جربناه فوجدناه يزيد في النوم.
قال عبد الله بن دينار: خرجت مع ابن عمر إلى السوق فرأى
جارية صغيرة تغني فقال: لو ترك الشيطان شيئاً لترك هذه.
قال أعرابي لخمار: أعندك شيء يشبه قول الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقا
يتمطق
قال: نعم، وناوله قدحاً، فشرب وقال: ليس هذا أريد، أعندك
ما قال الأخطل:
صهباء قد عنست من طول ما حبست ... في مخدع بين جنات
وأنهار
قال: نعم.
قال عبد الله بن المعتز، قال عبد العزيز بن مسلم: رأيت
قبر أبي محجن بأرمينية عليه شجرات كرم.
قال الجماز: كنت في منظره وإذا على غلوى شيخ معه صبي في
يوم بارد، فكنت أسمع الشيخ يقول للصبي: أعطني فروتي، فيناوله شيئاً لا أثبته،
فنظرت عند الشيخ قنينة كلما طلب من الصبي فروته سقاه قدحاً منها، قال الشاعر:
إذا شربنا خمسة خمسة ... فقد لبسنا الفرو من داخل
قال أعرابي: من كلام العرب: نعم لباس المرء التقوى، ونعم
حشو الدرع السخاء، وأنبل بالحياء خلقاً، وبالوقار مهابة، وبالبيان ارتفاعاً،
وبالتواضع عزاً، وبالوفاء جمالاً، وبصدق الحديث مروءة.
قال بعض السلف: العجب ممن يشتري المماليك بالدراهم كيف
لا يشتري الأحرار بالمكارم.
سرق رجل من مجلس أنوشروان جام ذهب، وأنوشروان يراه،
فتفقده صاحب الشراب فقال: لا يخرجن أحد حتى يفتش، فقال أنوشروان: لا تعرضوا لأحد فقد
أخذه من لا يرده، ورآه من لا ينم عليه.
زور رجل كتاباً عن المأمون إلى محمد بن الجهم في دفع مال
إليه، فارتاب به محمد فأدخله على المأمون، فقال المأمون: لم أذكر هذا، فقال الرجل: يا أمير
المؤمنين، أكل معروفك تذكر؟ قال: لا، قال: فلعل هذا مما نسيت، قال: لعله، ادفع
إليه يا محمد ما في الكتاب.
مر عبد العزيز بن مروان بمصر فسمع امرأة تصيح بابنها: يا
عبد العزيز، فوقف وقال: من المسمى باسمنا؟ ادفعوا إليه خمسمائة دينار؛ فما ولد في
تلك الأيام ولد بمصر إلا سمي به.
مدح رجل رجلاً عند خالد بن عبد الله فقال: والله لقد
دخلت إليه فرأيته أسرى الناس داراً وفرشاً وآلة وخدماً، فقال خالد: لقد ذممته، هذه
حال من لم تدع فيه شهوته للمعروف فضلاً، ولا للكرم موضعاً.
قال أبو العيناء: قيل للحسن بن سهل: بالباب رجل راغب
فقال: سلوه ما وسيلته؟ قال: وسيلتي أني أتيتك عام أول فبررتني، فقال: مرحباً بمن
توسل إلينا بنا، ووصله.
صار عطاء بن أبي رباح إلى رجل من أشرف قريش فقال إني
أتيتك بهدية فتفضل بقبولها، فقال: هاتها، قال: فلان كانت عليه نعمة فزالت فلو نظرت
له، فقال: جزاك الله على هديتك خيراً، فما أحسبنا ننهض بمجازاتها، فقال عطاء: بل جزاك الله على
قبولك إياها أفضل الجزاء.
وقل ما ترى في عصرنا من يقبل هدية مثل هذه، والله إني
لأستحيي من رواية هذه المكارم في عصر يتباهى فيه باللؤم، ويتبجح بالسخف، ويحتج
بالحزم في البخل، وقد تواصي الناس بكلام الكندي لعنة الله - حيث يوصي ابنه: يا
بني، أما بعد فكن مع الناس كلاعب الشطرنج، تحفظ شاهك وتأخذ شاههم، فإن مالك إذا
خرج عن يدك لم يعد إليك، وأعلم أن الدينار محموم فإذا صرفته مات، وأعلم أنه ليس
شيء أسرع فناء من الدينار إذا كسر، والقرطاس إذا نشر، والجلد إذا قشر، والثوب إذا
قصر. ومثل الدرهم مثل الطير الذي هو لك ما دام في يدك، فإذا طار صار لغيرك قال المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
لحفظ المال أيسر من بغاة ... وسير في البلاد بغير زاد
وأعرف بيتاً قد بيت أكثر من مائة ألف في المساجد، وهو
قول القائل:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت
فتعذرا
فاحذر يا بني أن تلحق بهم فتكون منهم.
لحا الله هذا الموصي وقبح هذه الوصية وأبعد قائلها
والعامل بها.
قال علي كرم الله وجهه: إنما أمهل فرعون مع دعواه لسهولة
إذنه وبذل طعامه.
قال بعض السلف: إذا استشرت فانصح، وإذا قدرت فاصفح قال
ماجن لآخر: كم صمت من هذا الشهر؟ قال: وتدعني امرأتك أصوم منه شيئاً؟!
لعبد الصمد بن المعذل:
صرفت الود فانصرفا ... ولم ترع الذي سلفا
وبنت فلم أمت أسفا ... عليك ولم تمت أسفا
لابن أبي فنن:
وعرصة مجد يكسب الحمد ربها ... ممهدة للمجتدين قبابها
إذا صدرت عنها وفود تتابعت ... وفود تلاها بالنجاح
إيابها
أرتها وجوه الصادرين بشارة ... وتصدقها أفراسها وعيابها
جعلتك حصناً دون كل ملمة ... تخاوص عيناها ويصرف نابها
ولبيت لما أن دعوت مشمراً ... ولا خير في ذي دعوة لا
يجابها
وله:
أقصرت شرتي وولى العرام ... وارتجاع الشباب ما لا يرام
أخلقت مرة الليالي جديداً ... والليالي يخلقن والأيام
فعلى ما عهدته من شبابي ... وعلى الغانيات مني السلام
يحرم الماجد المجد وقد ير ... زق قوم وإنهم لنيام
فدع الحرص والحريص ولا تم ... تهن النفس إنها أقسام
سر من عاش ماله فإذا حا ... سبة الله سره الإعدام
أرق المأمون ذات ليلة فوجه إلى محمد بن حازم الباهلي،
فلما دخل عليه قال: قل بيتين الساعة، فقال:
أنت سماء ويدي أرضها ... والأرض قد تأمل غيث السما
فازرع يداً عندي محمودة ... تحصد بها عندي حسن الثنا
فقال المأمون: عشرة آلاف درهم، فقد أبى إلا أخذ مالنا
وخديعتنا، فقال محمد:
وإذا الكريم أتيته بخديعة ... فرأيته فيما تحب يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلاً ... إن الكريم بفضله يتخادع
فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى وقال: أخرجوه لا يفني بيت
المال.
قال المبرد: أنشد أبو العالية الشام لنفسه:
ترحل فما بغداد دار إقامة ... ولا عند من يرجى ببغداد
طائل
بلاد ملوك سمنهم في أديمهم ... وكلهم من حلية المجد عاطل
ولا غرو أن شلت يد الجود والندى ... وقل سماح من أناس
ونائل
إذا غضغض البحر الغطامط ماءه ... فليس عجيباً أن تغيض
الجداول
أهدى عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن ظاهر لما دخل
مصر مائة مملوك، مع كل مملوك ألف دينار، وأرسلها ليلاً، فردها عبد الله وقال: لو
كنت أقبل هديتك ليلاً قبلتها نهاراً، " بل أنتم بهديتكم تفرحون " النمل
36.
لما خطب للمأمون على منابر خراسان، كتب إليه الحارث بن
سبيع السمرقندي: قد أظلنا الله بخلافة أمير أمير المؤمنين تحت جناح الطمأنينة،
وبلغنا بها مدى الأمنية، فأدام الله من كرامته ما يتظلل به أقاصي وأداني رعيته،
وجعله أعز خليفة، وجعلنا أسمع وأطوع رعية، فقال المأمون للفضل بن سهل: أتعرف قيمة
هذا الكلام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، يلقيك إياه بالسرور، فأعجبه قوله واستحسنه.
لأبي العالية الشامي:
من ذا الذي رد هتم الموت إذا وقعا ... أو استطاع من
الأقدار ممتنعا
هيهات ما دون ورد الموت من عصر ... كل سيشرب من أنفاسه
جرعا
يا عظم رزء يزيد إذ فجعت به ... لا در در الردى ماذا به
فجعا
لله در أخ من زائر جدثا ... ماذا نعى منه ناعيه غداة نعى
قد كنت أمنح لومي قبل مهلكه ... من استكان لريب الدهر أو
خشعا
حتى رمتني المنايا من مصيبته ... بنكبة رمت فيها الصبر
فامتنعا
أخي ظعنت وخلفت المقيم على ... كر الليالي لما لاقيته
تبعا
ماذا أضفت إلى الإحشاء من حرق ... لما استجبت لداعي
الموت حين دعا
وما منحت قلوباً فيك موجعة ... كادت تقطع من غمر الأسى
قطعا
أغريت بالعين إذ هيجت عبرتها ... دمعاً إذا هيجته حرقة
دفعا
يا غيبة منه ما أرجو الإياب لها ... قرعت قلبي بها إذ
بنت فانصدعا
كادت توافق بي حتفاً بلا أجل ... لما طوى يأسها من أوبك
الطمعا
يا حبل عز أذود الحادثات به ... دبت عليه صروف الدهر
فانقطعا
أصحى صدى الترب في لحد ثويت به ... من ماء وجهك بعد
الصوب قد نقعا
آليت بعدك لا أبكي على بشر ... ولا أقول له عند العثار
لعا
كتب صاحب أرمينية إلى المنصور: إن الجند قد شغبوا علي،
وطلبوه أرزاقهم وكسروا أقفال بيت المال وانتبهوه، فعزله ووقع في جوابه: لو عدلت لم
يشغبوا، ولو قويت لم يتوثبوا.
ووقع المنصور في رقعة رجل سأله شيئاً: آتاك الله سعة
تصون عرضك وتقي دينك.
كتب صاحب جيش عبد الملك بن مروان يخبره بكثرة من لقي من
جيش الروم، فوقع إليه: " إن ينصركم الله فلا غالب لكم " آل عمران.
ووقع المنصور في قصة رجل ذكر أن أمير المؤمنين أمر
بأرزاق وأن الفضل أبطأ بها:
" ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها "
فاطر:2 أهدى رجل إلى عمرو بن سعيد في يوم نيروز وهو والي كسكر وكور دجلة عصافير
على طبق تحت مكبة ورقعة فيها:
عصافير بعثت بها ملاحاً ... ليضحك لا ليأكلها الأمير
وما أهدى سواي إلى أمير ... عصافيراً على طبق تطير
فلما وضع بين يديه ورفع المكبة طارت العصافير، فأخذ
الرقعة فقرأ الشعر وضحك وأمر له بجائزة.
نظر ثعلب إلى جمل يعدو فقال: ما وراءك؟ قال: جعلت فداك،
سخرت الحمير والبغال، فقال: وما أنت والحمير والبغال؟ فقال: أخاف جور السلطان.
دخل كلب مسجداً خراباً فبال في محرابه، وفي المسجد قرد
نائم، فقال للكلب: أما تستحي أن تبول في المحراب؟ فقال الكلب: ما أحسن ما صورك حتى
تتعصب له! رأى كلب رغيفاً يتدحرج فتبعه فقال له: إلى أين؟ قال: إلى النهروان، قال
الكلب: قل إلى عمان إن تركتك.
قيل للكلب: لماذا رأيت السبع تنبح؟قال: أفزعه، قيل: فلم
تضرط؟ قال: من فزعه.
قيل لرجل: ما بال الكلب إذا بال رفع رجله؟ قال: يخاف أن
تتلوث دراعته، فهو يتوهم أنه بدراعه.
أنشد عبد الصمد:
يا غزالا لحظ عيني ... ه لنا سم ذباح
ما ترد الطرف إلا ... وبنا منك جراح
أنت للحسن مصون ... ولك الحسن مباح
أنشد ثعلب:
كيف السلو ولا أزال أرى لها ... رسما كحاشية اليماني المخلق
ربعا لواضحة الجبين غريرة ... كالشمس طالعة رخيم المنطق
قد كنت أعهدها به في غرة ... والعيش صاف العدى لم تنطق
حتى إذا نطقوا وأذن فيهم ... داعي الشتات برحلة وتفرق
خلت الديار فزرتها وكأنني ... ذو حية من سمها لم يفرق
قال ثعلب: العرب تقول: خذ على رسلك، أي على هينتك.
قال ابن أبي الرعد: لقي أبو علي البصير علي بن الجهم،
فتجهمه علي في بعض ما جرى بينهما، فقال له أبو علي: لا تزد يا أبا الحسن في أعدائك
فلعله أن يقع عليك مطبوع من الشعراء يسهل عليه من حوك القريض ما يعسر على غيره،
واعلم أن مع الملوك ملالة فلا تأتهم من حيث لا يحبون فينبو بك منهم المطمئن، فقال ابن
الجهم: نصيحة، وإن كان مخرج الكلام مخرج تهدد.
قال ابن المعتز: قال لي ابن أبي فنن: لما قال علي بن
الجهم وهو محبوس في تشبيه نفسه بالسيف:
قالت حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أذعن له شعراء زمانه.
قال محمد بن موسى البربري: سمعت علي بن الجهم يصف أبا
تمام ويمدحه، فقال له رجل: لو كان أخاك ما زاد على هذا، فقال علي: إلا يكن أخا
بالنسب فإنه أخ بالأدب، أما سمعت ما خاطبني به:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
قيل للأعمش أيام زيد بن علي: ألا تخرج؟ فقال: أما والله
ما أعرف أحداً أجعل عرضي دونه، فكيف دمي؟! أهدى ملك هدية إلى فيلسوف فردها إليه
فقال: لم رددت هديتي؟ قال: لأن بذل الموجود وترك طلب المفقود يكونان عن غنى النفس
وعزها، وأخذ الموجود وطلب المفقود يكونان عن فقر النفس وشحها، فما أحب أن تسخو وأشح،
وتغنى وأفتقر.
أهدى ملك آخر إلى فيلسوف هدية فردها ولم يقبلها، فتنكد
الملك من ذك وقال: لم فعلت هذا؟ قال: لم أفعله لحال رفعت نفسي عن الملك، ولا لجهل
عرض بمعرفة الحظ وحسن موضعه، ولكنني قفوت في الفضل فضلك، وحثني على المكارم كرمك،
فآثرتك بما آثرتني به، وسخت نفسي لك بما سخت نفسك به، ولم أحب أن أكون مظنة فضل،
ورهين إحسان.
أنشد المأمون:
والله لا تختلف النجوم ... وتغرب الشمس فلا تقوم
وقمر في فلك يعوم ... إلا لأمر شأنه عظيم
تقصر دون علمه العلوم طرد أعرابي الطير عن زرعه في جدب
وقال:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن
أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عرقاها
والموت في عنقي وفي أعناقها قال ابن درستويه، قيل
للمبرد: أكنت أنت وأحمد بن يحيى جميعاً مع محمد بن عبد الله بن طاهر؟ قال: نعم،
كنت معه جليساً ونديماً، وكان معه معلماً ومؤدباً.
قال رجل للمبرد: أسمعني فلان في نفسي مكروهاً فاحتملته
ثم أسمعني فيك فجعلتك أسوتي فاحتملته، فقال له: لسنا بسواء، احتمالك في نفسك حلم
وفي صديقك غدر.
كتب المبرد إلى بشر بن سعد المرثدي: اقتضائي إياك - جعلني الله فداك -
اقتضاء من تجب مطالبته لضروب: أحدها لاعتمادي عليك في الحاجة، وقصدي إياك بها مع
كثرة الصديق وإمكان الشفيع، وقد قلت:
وقاك الله من إخلاف وعد ... وهضم أخوة أو نقض عهد
فأنت المرتضى أدباً وعلماً ... وبيتك في الذؤابة من معد
وتجمعنا أواصر لازمات ... شداد الأسر من سبب وود
إذا لم تأت حاجاتي سراعاً ... وقد ضمنتها بشر بن سعد
فأي الناس آمله لنفع ... وأرجوه لحل أو لعقد
وما كنت أخاف خلفاً ممن كرم أدبه، وشرف مركبه، وطاب
حسبه، وإن كان قد أحوج إلى أن يعاتب بقول الشاعر:
أتناسيت أم نسيت إخائي ... والتناسي شر من النسيان
ولقد كان ظني فيك علمي بك أنه لو توسل بي إليك لأضعاف ما
سألتك لما احتيج فيه إلا إلى الخطاب اليسير، فلا تنكر هذا الإطناب في العتاب،
فإنما يهز الصارم ويذكر المؤمن، وقد قال الشاعر:
أعاتب ليلى إنما الهجر أن ترى ... صديقك يأتي ما أتى لا
تعاتبه
وأعاذني الله فيك أن تعتقد في قول الشاعر:
إذا مطلت امرءاً لحاجته ... فامض على مطله ولا تجد
قد أكثرت هازلاً في التوبيخ، واستحييت عائباً من
التأنيب، والذي عندي في الحقيقة قول أبي العتاهية:
لا تكربنك حاجاتي أبا عمر ... فأنت منهن بين النجح
والعذر
ما يقض منها فإن الله يسره ... وما تعذر فاحمله على
القدر
احتيج أن يكتب على المعتضد كتاب ويشهد فيه عليه العدول،
فكتب ابن ثوابة: في صحة من عقله، وجواز أم له وعليه؛ فلما عرضت النسخة على عبيد
الله بن سليمان قال: هذا لا يجب أن يقال للخليفة، فضرب عليه وكتب: في سلامة من
جسمه وأصالة من رأيه.
وقع علي بن أبي طالب إلى الحسن ابنه: رأي الشيخ خير من
مشهد الغلام.
كتب عمرو بن العاصي إلى معاوية يسأله أن يعطي عبد الله
بن كريب نهر معقل فإنه قد سأله، فوقع: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها
كافرين " المائدة:102 قرئ للمأمون توقيع بنقطة، وذلك أن رجلاً كان سابق
الحاج فورد مرة بعدما ورد غيره وكتب قصة يطلب رزقه، فلما قرأ المأمون وقع بنقطة
ثانية تحت الباء فصار: سايق الحاج.
اشتكى الأسد علة شديدة، فعاده جميع السباع إلا الثعلب،
فدخل عليه الذئب فقال: أصلح الله الملك، إن السباع قد زارتك وعادتك ما خلا الثعلب
فإنه مستخف بك، فبلغ ذلك الثعلب فاغتم به، فلما جاءه قال له الأسد: ما لي لم أرك
يا أبا الحصين؟ فقال: أصلح الله الأمير، بلغني وجعك فلم أزل أطوف في البلدان أطلب
دواء لك حتى وجدته، فقال له: وأي شيء هو؟ قال: مرارة الذئب، قال الأسد: وكيف لي
بذاك؟ قال: أرسل الساعة إليه والثعلب عنده، فأتى الذئب فوثب الأسد عليه، وكان
ضعيفاً من وجعه فلم يتمكن منه وسلخ جلد إسته وأفلت الذئب، وخرج الثعلب يصيح به: يا
صاحب السراويل الأحمر، إذا جلست عند الملوك فاعقل كيف تتكلم؛ فعلم الذئب الثعلب دل
عليه.
لقي ثعلب عراقي ثعلباً شامياً فقال: عرفني ما عندك من
حيل ثعالب الشام، فقال: عندي مائة حيلة ودستان، فقال العراقي: والله لأصحبنه حتى
أستفيد منه، فلزمه؛ فبينما هما كذلك وقد اصطحبا في سفر حتى قال له العراقي: يا
أخي، إن لقينا الأسد كيف الحيلة في التخلص منه؟ قال: لا يهمنك أمره فإن عندي
حيلاً، فما انقضى كلامه حتى طلع الأسد، فقال العراقي للشامي: خذ في الحيلة، قال: والله ما عندي
حيلة في هذا الوقت، قال إنا لله، ولم أخطرت نفسك وغررت أخاك؟ الآن لا تنطق بحرف،
فلما دن الأسد قال لهما: من أين أقبلتما؟ قال العراقي: إياك أردنا وإليك قصدنا، قال: في ماذا؟
قال: إن أخي هذا يكون بالشام وأنا بالعراق في مالي، وإن أبانا مات وورثنا شويهات،
فجاء أخي هذا يريد أن يذهب بها فقلت له: هلم إلى سيد السباع ليحكم بيننا، فمهما
قال التزمناه، وكان الأسد جائعاً فقال في نفسه: لا أعجل في أكل هذين لكن أصبر
عليهما ساعة حتى أقف على أمر الغنم وهما في قبضتي، قال: أين الشاء؟ قالا: في هذا
البستان، وأشارا إلى بستان حصين له مجرى ماء ضيق، وقال أحدهما: أرسل أخي حتى يخرج الغنم
فيقسمها الملك، قال: نعم، فقال للشامي: ادخل وأخرج الغنم وعجل، فدخل الشامي واقبل
يأكل من الثمار، فلما أبطأ قال العراقي: قد قلت للملك إنه ظالم، فتأذن لي حتى أدخل
خلفه وأخرجه إليك مع الشاء قميئاً ذليلاً؟ قال: ادخل وعجل، فدخل الثعلب البستان وأقبل
يأكل من الثمار حتى شبع، ثم أشرف من الحائط على الأسد فقال له: يا أبا الحارث،
اعلم أنا قد اصطلحنا فامض في دعة الله، فجعل الأسد يضرب بذنبه الأرض ويستشيط، فقال
له الثعلب: إنما أنت قاض وما رأيت قاضياً يغضب من الصلح غيرك.
قالت ماجنة لجارة لها: اعلمي أن صديقي يوافي غداً، قالت:
ومن أين علمت؟ قالت: حري يختلج، قالت: ومتى صار حرك يعبر الرؤيا؟ قال رجل لامرأة:
غطي صدرك، قالت: سبحان الله، تجمش بالتقوى؟! قال الجماز: سمعت ماجنة تقول: إذا
دخلت جهنم فقال لي مالك: كلي من هذا الزقوم واشربي من هذا المهل، قلت: لا وحياتك
يا أبا نصر ما أشتهيه وأخاف يغثي نفسي، فيقول: الشأن في معرفتها بكنيتي.
دخل عمارة بن حمزة على المنصور فجلس مجلسه، فقام رجل
فصاح فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: ومن ظلمك؟ قال: عمارة بن حمزة ظلمني
وغصب ضيعتي، فقال المنصور: قم يا عمارة فاقعد مع خصمك، فقال عمارة: ما هو لي بخصم،
قال: وكيف؟ قال: إن كانت الضيعة له فلست أنازعه، وإن كانت لي فقد جعلتها له، ولا
أقوم من مكان شرفني به أمير المؤمنين لأجل ضيعة.
هجم قوم على زنجي ينيك شيخاً، فهرب الزنجي وعلقوا الشيخ،
فقال: ما لكم؟ قالوا يا عدو الله، تتكلم؟! قال: ما لي لا أتكلم؟ ما لنا لا نناك؟
من أجل أنّا فقراء؟ احتسبوا على الفضل بن الربيع وعلى الحارث ابن زيادة وعلى غطريف
بن أحمد - وعد قوماً من العسكر - إنما يحتسبون علينا لأنّا فقراء.
دخل رجل على محمد بن سليمان فقال له محمد: أين كنت فإني لم
أرك منذ أيام، فأراد أن يقول التواني فقال: التهاون، فقال محمد: أنت علينا أهون.
قيل لأعرابي: صف نفسك، قال: إن كان أكل فقرب، وإن كان
نبيذ فجرب، وإن كان قتال فغرب.
قال المبرد: كنت أغشى مجلس جعفر بن القاسم، وكان يتقلد
إمارة البصرة للواثق، وأنا حدث السن، ليس في المجلس أصغر مني سناً، وكان يخلطني
بحداثتي ويخاطبني، ثم تأخرت عنه لأسباب، فلما عدت قال لي: ما أخرك عنا؟ قلت: عله مرة
وغيبة مرة، قال: وتوان مرة وتقصير مرة، فقلت: والله ما أغيب عن الأمير إلا بود
حاضر، ولا أعصيه إلا بنية طائع فضحك ثم أنشد بيتين لإبراهيم بن المهدي، أحدهما:
ما إن عصيتك والغواة تمدني ... أسبابها إلا بنية طائع
فقلت: أعز الله الأمير، إذا كان سارق لفظ لا يفوتك فكيف
يفوتك سارق مال؟ فضحك وقال أنا احب حضورك.
قال المبرد: وقال لي يوماً وقد استحسن كلامي: أنت اليوم
عالم، ثم قال: لا تظن أن قولي لك: أنت اليوم عالم أنك لم تكن عندي قبل كذلك، إن
الله تعالى يقول: " والأمر يومئذ لله " الانفطار:19، وقد كان له الأمر قبل
ذلك.
دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقال: إني قد تزوجت
امرأة وزوجت ابني أمها، ولا غنى لي عن رفد أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: إن
أخبرتني ما قرابة ما بين أولادكما إذا ولدتا فعلت ذلك، فغلب ذلك الرجل فقال: يا
أمير المؤمنين، هذا حميد قد قلدته سيفك، ووليته ما وراء بابك، فسله عنها فإن أجاب
لزمني الحرمان، فسأل حميداً فقال حميد: يا أمير المؤمنين، إنك ما قدمتني على العلم
ولا نصبتني له، بل قدمتني على العمل بالسيف والطعن بالرمح، إلا أني أجيبه، ثم أقبل
على الرجل وقال له: يا ابن المعروكة، يكون أحدهما عما للآخر والآخر خالاً له،
فانخزل الرجل، فقال عبد الملك: أجاب وأصاب، وسكت وجهلت، ولكنك تستحق ما طلبت منا
بامتحاننا إياك وصبرك علينا.
جاء رجل إلى سيفويه القاص فقال: إني أريد أن أتوب فأيش
تشير علي؟ أحلق رأسي ولحيتي أو أشتري سلماً أو أنحدر إلى واسط؟! فر مزبد من والي
المدينة وتوارى، وطلبه الوالي، فبينما هو في الطلب إذ سمع من المقابر صوت طنبور،
فأقبل حتى وقف على قبر محفور وفيه سراج، وفوق القبر بواري، فكشف فإذا مزبد قائم
وبيده طنبور في جوف القبر وعنده نبيذ، فقال له: اخرج يا عدو الله، قال مزبد: لا والله
لا أخرج إليك ولا هذا من عملك، إنما عملك في العمارة، وليس لك علي سلطان.
كتب يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة: أما بعد يا أهل
المدينة، فوالله لقد رفقت بكم حتى أخرقتكم، ولبستكم حتى أخلقتكم، والله لأبو سفيان
أحلم من حرب، ولمعاوية أحلم من أبي سفيان، وليزيد أحلم من معاوية، ثم أنشد:
إذا ما حلمنا كان آخر حلمنا ... زيادة باع عن يد
المتطاول
وقد كتب إليكم أمير المؤمنين كتاباً فاسمعوه: بسم الله
الرحمن الرحيم، من عبد الله يزيد أمير المؤمنين: سلام عليكم، أما بعد يا أهل
المدينة، فوالله لقد حملتكم على رأسي ثم على عيني ثم على أنفي ثم على نحري، ووالله
لئن جعلتكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة المتثاقل، ولأشردنكم عن أوطانكم، ولأتركنكم
أحاديث وأيادي سبا، تنسخ فيها كتبكم ككتب عاد وثمود، ثم أنشد:
أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني ... فمعوج علي ومستقيم
كتب مويس بن عمران إلى الجاحظ يدعوه: عندي قدران طبختهما
بيدي يحكيان المسك الأذفر، فإن رأيت أن تصير إلي متفضلاً فعلت. فكتب إليه الجاحظ:
مجلسك المجلس الذي يمنع المصر من التوبة، وينقض عزمه الأواه الحليم، وأنا علة من قرني
إلى قدمي من حملي على نفسي ما ليس من عادتها، فهب لي نفسي هذا الأسبوع ثم أنا بين
يديك تقتادني حيث شئت، فعلت إن شاء الله.
قام رجل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين،
أنا فلان بن فلان، شهد أبي بدراً وأحداً والخندق وحنيناً - وجعل يعدد المشاهد -
ولم ألبس الخز ولم أركب ولم أتزوج، فقال عمر: مشاهد والله ما تشبه مرج راهط ولا
دير الجماجم، والله لأكسونك ولأزوجنك ولأحملنك، فكساه وزوجه وحمله وأثبت اسمه في
شرف العطاء، وقال: بمثل هذا فليمت إلينا المتوسلون.
قال مالك بن عمارة: كنت ربما جالست عبد الملك بن مروان
وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير في ظل الكعبة أيام الموسم، فنخوض مرة في الفقه
ومرة في المذاكرة ومرة في أخبار الناس وأشعار العرب، فكنت لا أجد عند أحد ما أجد
عند عبد الملك، من اتساعه في المعرفة، وتصرفه في فنون العلم، وحسن استماعه إذا
حدث، وحلاوته إذا حدث؛ قال: فتفرق أصحابنا ذات ليلة وبقيت أنا وهو، فقلت: والله
إني بك لمسرور لما أرى من كثرة تصرفك، وحسن حديثك، وإقبالك على جليسك، فقال لي:
إنك إن تعش قليلاً فسوف ترى العيون إلي طامحة، والأعناق إلي قاصره، فإذا كان ذلك
فلا عليك أن تعمل إلى فلا ملآن يديك فلما أفضت الخلافة إليه اتيته فكان أول ما وقعت
عينه علي وهو على المنبر، كشر في وجهي وبسر، فقلت: لم يثبتني معرفة، أو عرفني
فأظهر لي نكره، لكني لم أبرح من مكاني حتى قضى الصلاة ودخل المقصورة، فلم يلبث إلا
ريثما دخل إذ خرج آذانه فقال: أين مالك بن عمارة قلت ها أنا ذا فأخذا بيدي فادخلني
إليه فلما رأني مد يده إلي ثم قال:
تراءيت في موضع لم يجز فيه إلا ما رأيت من الإعراض
والانقباض، فأما الآن فحي هلا بك، كيف كنت بعدي وكيف كان مسيرك؟ قلت: خير، وعلى ما
يحب أمير المؤمنين، فقال: أتذكر ما كنت قلت لك؟ قلت: أجل، هو أعملني إليك يا أمير المؤمنين،
قال: والله ما هو ميراث ادعيناه، ولكني أخبرك عن نفسي بشيء سميت بي إلى موضعي هذا:
ما داهنت ذا ود ولا قرابة قط، ولا شمت بمصيبة عدو، ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي،
ولا قصدت لكبيرة من محارم الله تلذذاً بها ولا واثباً عليها، وكنت من عبد مناف في
بيتها، ومن بيتها في واسطة قلادتها، وكنت أرجو بهذه أن يرفع الله تعالى مني وقد
فعل، ثم قال: يا غلام بوئه منزلاً في منزلي، فأخذ الغلام بيدي وقال: انطلق، فكنت
في أخفض حال وألين بال، حيث يسمع كلامي وأسمع كلامه، فإذا حضر طعامه أو قعد
لأصحابه أتاني الغلام فقال: إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه قاعد لبطانته،
فأمشي بلا حذاء ولا رداء، فيرفع من مجلسي، ويقبل علي ويحادثني ويسألني عن الحجاز
مرة وعن العراق مرة، حتى إذا مضت عشرون ليلة، تعشيت في آخرها معه وقام من حضر، ونهضت
لأقوم فقال: على رسلك أيها الرجل، فقعدت، فقال: أي الأمرين أحب إليك؟ المقام
قبلنا، فلك النصفة في المحافظة والمخالطةت والمعشرة، أم الشخوص فلك الحباء
والكرامة؟ فقلت: خرجت من أهلي على أني زائر لأمير المؤمنين - أكرمه الله - وعائد
إليهم، فإن أمرني بالمقام اخترت فناءه على المال والأهل والولد، قال: بل أرى لك
الرجوع إلى أهلك فإنهم متطلعون إلى قدومك، فتحدث بهم عهداً ويحدثون بك مثله،
والخيار في زيارتنا والمقام فيهم إليك، وقد أمرت لك بعشرين ألف دينار وحملتك
وكسوتك، أتراني ملأت يديك؟ فقلت: أراك يا أمير المؤمنين ذاكراً ما قلت؟ قال: أجل،
ولا خير فيمن لا يذكر إذاً وعد، ولا ينسى إذا أوعد، ودع إذا شئت صحبتك السلامة؛
قال: فودعته وقبضت المال وانصرفت، فكان آخر العهد به.
خرج إسماعيل بن إبراهيم إلى أخيه إسحاق بن إبراهيم،
عليهم السلام، يطالبه بميراثه عن أبيه إبراهيم عليه السلام فقال: أما ترضى وأنت
ابن أمتنا أن لا نستعبدك حتى تأتي وتطلب ميراثاً؟! فأوحى الله إلى إسماعيل: وعزتي
وجلالي لأخرجن من صلبك من يستعبد أولاد إسحاق إلى يوم القيامة.
قيل لجمعة الإيادية: أي الرجال أحب إليك؟ قالت: أحب الحر
النجيب، السهل القريب، السخي الأريب، المصقع الخطيب، الشجاع المهيب.
شاعر:
أريب يغض الطرف لا من غضاضة ... ولكن كبرا أن يقال به
كبر
قيل للكلب: أنت تأكل عظاماً وتخرا عظاما، فأيش ربحك؟
قال: أدولب! قال فضيل بن عياض: من لم يصلح على تدبير الله لم يصلح على تدبير نفسه.
قبل لمالك بن دينار. لو تزوجت، قال: لو استطعت لطلقت
نفسي.
قال عبد الملك بن مروان: الهدية السحر الحلال.
دعا أعرابي على آخر فقال: صرد الله عليك المشرب، وأفقدك
الأقرب.
ودعا أعرابي فقال: إن كنت كاذباً فلا سقيت هاطل الدر،
ولا وقيت حادثة الدهر.
قال أعرابي لآخر: لا جادتك السماء بقطرة، ولا باتت
بفنائك ذات بعرة، ولا حلبت ذات خف درة، فأماتك الله بهم وحسرة، باذلاً خيار
الأسرة، ولا دراً عنك من ذي شر شره: إن كنت ظلمتني مد شعير أو صاع بر.
قيل في قوله تعالى: " إنه من سليمان وإنه بسم الله
الرحمن الرحيم " النمل: 30، أي أنه من تعلمون؛ وقيل في قوله تعالى: "
وترى الناس سكارى وما هم بسكارى " الحج:2، فلما عرف المعنى حمل على أن قوله:
" تراهم سكارى " من الهول وليسوا بسكارى من الشرب؛ وقوله: " لا
يموت فيها ولا يحيا " طه:74، لا يموت موت الراحة، ولا يحيا حياة المنفعة.
وقال بعض العلماء: يقوم الشيء مقام الشيء، منه قولهم:
إسحاق ذبيح الله ولم يذبح قال: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " التوبة:62،
ولم يقل يرضوهما إذ كان رضاه رضى رسوله.
سئل عمرو بن عبيد عن النبيذ فقال: إن الأشياء المألوفة
والمعروفة والمأكولة والمشروبة وجميع الأغذية حلال حتى يجيء ما يحرمها، وليست
بحرام حتى يجيء ما يحللها، وكانت الخمر حلالاً حتى جاء ما حرمها، فإن وجدنا في
غيرها مثل ما وجدنا فيها فسبيله سبيلها، وإلا فالحرام حرام والحلال حلال؛ إن الله
تعالى حرم الخمر لعلل معروفة وعللك مجهولة، فلذلك صار تحريمها تعبداً، وقد جدنا
مسكرة في وقت هي فيه حلال ومسكرة في الوقت الذي يليه وهي فيه حرام، ولم يحسوا من طبائعهم
تغيراً، ولو كانت العلة الإسكار وما يصنع السكر في الأموال وما يحدث من الشغل عن
الصلاة والذكر لكان هذا موجوداً في طبعها وطبائع شاربيها قبل تجريمها، فدل ذلك على
أنها حرمت لعلل مجهولة كما حرمت لعلل معلومة، ولا يقيس على المجهول إلا جاهل.
وقال: الحرام حرامان: حرام في حجة العقل وحرام في حجة
السمع، فالذي في حجة العقل على ضربين: أحدهما حرام بعينه وفي عينه فقط، والآخر
حرام لعلة مركبة فيه؛ فالحرام في عينه كالكذب والظلم وما لا يجوز أن ننتقل عنه
أبداً، والحرام الآخر كذبح البهائم وذبح إبراهيم لإسحاق، لأن الذي حرمه على
الإنسان عجزه عن تعويض المذبوح وأنه ليس له امتحان غيره بشيء يحدثه، ولا نعرف
مقادير الامتحان ومصالحه، فلما أمر به مالك التعويض والذي له أن يمتحن ويعرف ظاهر
المصلحة وباطنها حسن ذلك وجاز.
قال: والحرام في السمع على ضربين: منصوص ومستخرج، فالمنصوص على
ضربين: منه حرام لغير علة ومنه حرام لعلة، فما كان منهما لغير علة لم يكن لأحد أن
يقيس عليه، وليس فيه متعلق، وما كان ذا علة فالقياس أن كل شيء فيه تلك العلة أنه حرام
مثله.
قيل لهند: أي الرجال أحب إليك؟ قالت: أحب الرحب الذراع،
الطويل الباع، السخي النفاع، الممتنع الدفاع، الدهثم المطاع، البطل الشجاع.
قال الهيثم بن عدي: زار رجل عمر بن عبيد الله بن معمر
القرشي وهو على فارس فلم يحل منه بطائل، فأنشد يقول:
رأيت أبا حفص تجهم مقدمي ... ولط بقولي عذرة أو مواربا
فلا تحسبني إن تجهم مقدمي ... أرى ذاك عاراً أو أرى
الخير ذاهبا
ومثلي إذا ما بلدة لم تواته ... ترحل عنها واستدام
المعاتبا
ثم مضى، فبلغت الأبيات ابن معمر، فرده، وقال له: ما حملك
على هذه الأبيات؟ أبيني وبينك قرابة؟ قال: لا، قال: فصهر؟ قال: لا، قال: فجوار؟
قال: لا، قال: فذمام؟ قال: نعم، قال، قال: ما هو؟ قال: كنت أدخل المسجد كل جمعة فأتخلل
الصفوف حتى آتي صفك فأجلس إلى جانبك، قال: لقد متت بما يحفظ، كم أقمت ببابي؟ قال:
أربعين ليلة، فأمر له بأربعين ألف درهم وكساه وحمله، فقال:
جزى الله خيراً والجزاء يكفه ... عن الزور يأتيه الجواد
ابن معمر
تذمم إذ عاتبته ثم نالني ... بما شئت من مال وبرد محبر
قيل لجمعة: أي السحاب أحسن؟ قالت: زجل ركام ملتف، أسحم
وحاف مسف، يكاد يمسه من قام بالكف.
شاعر:
أما ترى الأرض قد أعطتك عذرتها ... مخضرة واكتسى بالنور
عاريها
فللسماء بكاء في جوانبها ... وللربيع ابتسام في نواحيها
مضرس بن ربعي:
وفتيان بنيت لهم خباء ... على قوسين طماحاً نزوحا
كأنا رابطون به فلو ... شديد النزو قماصاً رموحا
تبوئه وتهتكه علينا ... سموم تسفع الوجه الوضوحا
فلما أن تمشى النوم فيهم ... وكان النوم عندهم ربيحا
هتكت سماءه والظل آز ... وما أنظرته حتى يسيحا
آز: أي مرتفع
قال ابن المعتز في مخاطبه بعض أصحابه: لو كنت أعلم أنك
تحب معرفة خبري لم أبخل به عليك، ولو طمعت في جوابك لسألت عن خبرك، ولو رجوت
العتبى منك لأكثرت عتابك، ولو ملكت الخواطر لم آذن لنفسي في ذكرك، ولولا أن يضيع
وصف الشوق لأطلت به كتابي، ولولا أن عز السلطان يشغلك عني لشغلك سروري به، والسلام.
أنشد المرزباني:
فلو أني أستزدتك فوق ما بي ... من البلوى لأعوزك المزيد
ولو عرضت على الموتى حياتي ... بعيش مثل عيشي لم يريدوا
قيل لهند: أي السحاب أحب إليك؟ قالت: أحب كل صبيب دلاح،
مثعنجر نضاج، متجاوب نواح، كأن برقه مصباح.
قال المفجع: تفاخر رجلان من بني هلال فقال أحدهما: والله
الذي لا إله إلا هو ما اتخذت في إبلي قط عصا غير هذه مذ كنت فيها، فقال الآخر:
تعست، والذي لا إله إلا هو ما اتخذت في إبلي عصا قط. وإما قول الشاعر:
صلب العصا بالنخس قد دماها ... إذا أرادت رشداً أغواها
تحسبه من إلفه أخاها
فإنه يعني بالعصا ها هنا نفسه، يقال: فلان صلب العصا إذا
كانت فيه بقية من قوة، وقال: الرشيد والغوي ضربان من النبت، فيقول: إذا رعت هذا
عطفها إلى هذا مخافة أن تبشم.
قال المفجع: يقال: بعير جذع - بالجيم والذال - الذي ركب
صغيراً فقطعه ذلك عن النماء وأوهنه، ولا يكاد جسمه ينمي.
ويقال: محوى وحواء، مثل حوى وأحويه للموضع الذي يجتمعون
فيه.
وكان يقال: اثنان لا يجتمعان: القنوع والحسد، واثنان لا
يفترقان أبداً: الحرص والفجور.
قيل لجمعة: أي الخيل أحب إليك؟ قالت: أبغض كل بليد، وارم
الوريد، لا ينجيك هارباً، ولا يظفرك طالباً، ولا يسرك شاهداً ولا غائباً.
وقيل لها: أي النوق أحب إليك؟ وقالت: كل ناقة علكوم،
علنداة كتوم، مثل البازل المحجوم، القطم العيهوم.
كاتب:
الوعد نافلة والإنجاز فريضة، فلا تفرضن على نفسك وعداً
لا تنوي إنجازه، فيعود ما طلبت من المحمدة ذماً، ومن المصافاة معاداة، فإن الأول
يقول: وفور العرض خلف من اكتساب المال والذم، وقد تعرض للذم من تبرع بالمواعيد.
قال رجل لأعرابي من بني عذرة: ما بال قلوبكم كأنها قلوب
طير تنماث في الهوى كما يذوب الملح في الماء؟ قال: لأنا والله نرى محاجر أعين لا
ترونها.
وقيل لبخيل: من أشجع الناس؟ قال: من يسمع وقع أضراس
الناس على طعامه ولا تنشق مرارته.
كاتب:
عز نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه
من مثلك، وتناول حظك إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك، واعلم أن أمض المصائب
فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ كاتب: الصبر ينجز لك
الموعود، والجزع لا يرد عليك المفقود، فليسبق صبرك جزعك، تسلم من المصيبة بالأجر، وإلا
رجعت إليه بعد الفوت حسيراً.
قال بعض الحكماء: العلوم ثلاثة: علم يرفع، وعلم ينفع،
وعلم يزين، الرافع الفقه، والنافع الطب، والمزين الأدب.
كان بمرو قاص جيد الكلام، فكان إذا طال مجلسه بالبكاء
يخرج من كمه طنبوراً صغيراً وينقره ويقول: مع هذا الغم الطويل يحتاج إلى فرح ساعة.
سمعت بعض المشايخ يقول: فعيل يكون بمعنى فاعل، وربما
اشتركا فيه وربما غلب فعيل؛ فمما يشتركان فيه: ضمن فهو ضامن وضمين، ورشد فهو راشد
ورشيد، وعلم فهو عالم وعليم؛ وربما غلب عليه فقيل: كثر فهو كثير، وقل فهو قليل،
وصح فهو صحيح، ومرض فهو مريض، وعتق فهو عتيق.
ويكون فعيل بمعنى مفعول: فهو خضيب ودهين وكحيل وقتيل
ولديغ، فأما السليم فليس من هذا. وهذا الجنس إذا كان فيه نعت المؤنث لم تلحقه
الهاء، وإنما لم يلحقوها به لأنهم عدلوه عن مكحولة ومدهونة. وقد كانت الهاء سبقت
إلى فعيل الذي يشارك فاعلا، في مثل مريضة وضمنية، فحذفوها، وهذا ليفرقوا بينهما،
فإن لم يذكر المؤنث قيل: هذه قبيلة بني فلان، فلحقتها الهاء وقد جاء بغير هاء.
ويكون اسماً غير مشتق مثل: شعير وقفير وبعير وجريب ونصيب، ويقع فيه ما أصله مشتق
فيجري مجرى الاسم المحض مثل: قليب، كأنها سميت لأنه قلب ما أخرج منها، ثم صار
اسماً لازماً. ويكون مصدراً في الأصوات وغيرها مثل: نهيق وشحيج وصهيل وصريف وخبير
ورجيب. ويكون بمعنى الجمع وهو قليل مثل: حمير ونفير ومعير. ويكون بمعنى مفاعل، وهو
من المعارضة في مثل: شبيه ونظير وعديل وقرين، ومنه: شريك وأكيل وشريب وقسيم.
ويكون بمعنى مفعل نحو قوله: " بديع السماوات "
البقرة:117 يعني: مبدع، وكقوله عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع قال
أهل اللغة: أراد المسمع، وقال أبو عبيدة في " عذاب أليم " البقرة: 104:
أي مؤلم.
ويكون بمعنى مفعل مثل: عقيد، فإنهم يقولون: أعقدت العسل
فهو معقد، وحبل بريم أي مبرم، وعتيد أي معتد.
ويكون بمعنى مفعل مثل: وكلته فهو وكيل وموكل، ومن هذا
قيل: موسى كليم الله، وكذلك جريء في معنى وكيل، لأنك جرأته على خصمه.
ويكون بمعنى مستفعل، مثل: استوزر فهو وزير، واستشهد فهو
شهيد، واستأجرت أجيراً فهو أجير.
ويكون بمعنى مفتعل مثل: صفي من مصطفى، وعميد من معتمد.
ويكون بمعنى مفعول اسما لازماً مثل: فريسة السبع، وأكيلة
الذئب، والذبيحة: الشاة تعد للذبح، والبكلية: تمر يخلط بلبن، والربيكة، دقيق يخلط
مع لبن وتمر، والسبيخة: القطعة الملفوفة من القطن المندوفة، ومثلها من الشعر
القليلة. ويجوز أن تكون فريسة بمعنى مفترس ومفترسة كالذخيرة بمعنى مدخرة.
ويكون بمعنى فعال مثل: عقيم وعقام، وبخيل وبخال، وكهيم
وكهام.
ويكون مشاركاً لفعل مثل: لسان ذلق وذليق، وبهج وبهيج،
ولبق ولبيق، وشنع وشنيع.
ويقع موقع المصدر: كالحريق والوعيد.
ويكون واحداً وجمعاً في الصفات مثل: صديق ورفيق، وقد
يجمع، قال الله تعالى: " وحسن أولئك رفيقاً " النساء:68.
ويكون نعتاً، فإذا أخبرت أنك قد دخلت تحته ولحقت بأهله
ضممت عين الفعل، تقول: فقهت وعلمت، وإذا أخبرت أنك علمت شيئاً بعينه أو أشياء قلت: قد
علمت ذلك.
ويكون بمعنى جمع مشتق من اسمه مثل: عدي وذكي وعري ونجي
قال الله تعالى: " خلصوا نجيا " يوسف:80.
مر الفرزدق بخالد بن صفوان فقال: يا خالد، لو رأتك بنت
شعيب ما قالت: " يا أبة استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين "
القصص:26، قال: وأنت يا أبا فراس، لو رأينك صويحبات يوسف لما أكبرنك ولا قطعن
أيديهن.
لجميل بن معمر:
هواك بقلبي يا بثينة كالذي ... أناخ فأحيا العرق وهو
دفين
الذي أناخ المطر، والعرق: عرق النخلة والشجر والزرع وغير
ذلك.
قيل لحماد الراوية: أما تشبع من هذه العلوم؟ فقال: استفرغنا
المجهود، فلما بلغنا المحدود، كنا كما قال الشاعر: إذا قطعنا علما بدا علم ابن
الأعرابي قال: قيل لبعض أعراب بلحارث بن كعب: ما البلاغة؟ قال: السلاطة والإصابة والجزالة؛
أراد بالسلاطة: الجرأة على الكلام.
وأنشد:
ولما عصيت العاذلين ولم أبل ... مقالتهم ألقوا على غاربي
حبلي
وهازئة مني تود لو ابنها ... على شيمتي أو أن قيمها مثلي
ويقال: شيئان لا يتفقان أبداً: الحرص والقحة. ولست أعرف
معنى هذا الكلام لأني لا أرى حريصاً إلا وقحاً.
ويقال: المقدم في الحذق متأخر في الرزق.
قيل لحكيم: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار
الكلام.
كان أبو حية النميري كذاباً، قال مرة: رميت ظبية فلما
نفذ السهم ذكرت حبيبة لي شبهتها بها فتبعت السهم فأخذته.
وقال مرة أخرى: عن لي ظبي فرميته فراغ عن سهمي فعارضه،
فراغ ثانية فلم يزل السهم يراوغه حتى صرعه ببعض الخبارات.
شاعر:
بان الشباب وكل شيء بائن ... والمرء مرتهن بما هو كائن
ظعنت به أيامه وشهوره ... إن المقيم على الحوادث ظاعن
ذهب الشباب وغاض ماء فرنده ... فاليوم منه كل صاف آجن
درست محاسنه وطار عرابه ... ولقد تكون له عليك محاسن
خان الزمان أخاك في لذاته ... إن الزمان لكل حر خائن
قال يونس: لو أمرنا بالجزع لصبرنا، واعلم أن هذه الأمور
لا تملك ولا تدرك إلا برحب الذراع.
ويقال: لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا
هلكوا.
يقال: إن مع الثروة التحاسد والتخاذل، ومع القلة التحاشد
والتناصر.
قال طريح:
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا ... شرا أذيع وإن لم
يعلموا كذبوا
قال أعرابي: من عاب سفله فقد رفعه، ومن عاب شريفاً فقد
وضع من نفسه.
شاعر:
يؤمل حسن الثناء البخيل ... ولم يرزق الله ذاك البخيلا
وكيف يسود أخو بطنه ... يمن كثيراً ويعطي قليلا
شاعر:
نعماك في عنق الزمان قلادة ... وعلى يمين الجود منك سوار
رسخ امتداحك في ثرى أكبادنا ... وكأن مدحك بيننا استغفار
أصاب رجل رغيفين وعراقين فأكل رغيفاً وعراقاً، وأدركه
بنوه وكانوا ثلاثة، وكلهم طلب ما بقي وذكر حاجته، فقال: ليصف كل واحد منكم كيف
يأكله، فأيكم كان أعرف بأكله فهو أحق به، فقال الأول: أنا آكله حتى لا أدع فيه
للذرة مقيلا، وقال الثاني: أنا آكله حتى يمر به المار فلا يدري أعظم العام هو أم
عظم العام الأول، وقال الثالث، أما أنا فأجعل عظمه إداماً للحمه، فقال له: أنت صاحبه.
قال أعرابي: الجلل الذاهب عن المقدار صغراً أو كبرا.
شاعر يمدح الفضل بن يحيى:
مضى الفضل والإسلام واليأس والندى ... غداة غدا الفضل بن
يحيى إلى الحفره
فصرن له في قبره مؤنساته ... كما كن أيام الحياة له حبره
وألبست الدنيا قتاماً لفقده ... وكانت بوجه الفضل ظاهرة
النضره
فقل للذي يسعى ليدرك شأوه ... لقد رمت أمراً دونه تحسر
القدره
يقال: خوت النجوم تخوية إذا انصبت لتغور.
لعتبة بن أبي لهب:
إنا أناس من سجيتنا ... صدق الكلام ورأينا حتم
شاعر:
حسب الكذوب من البلي ... ة بعض ما يحكى عليه
فمتى سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه
وقال الرشيد للفضل بن الربيع في بعض ما كلمه به: كذبت،
فقال: يا أمير المؤمنين، وجه الكذاب لا يقابلك، ولسانه لا يقاولك.
قال ابن الأعرابي: يقال: قد سوم فلان غلامه تسويماً، إذا
تركه يصنع ما يشاء، وسوم نفسه، وأسام الرجل ماشيته، وفلان يأبى أن يسام خطة الضيم.
ويقال: آرتثا على الرجل رأيه إذا اختلط، أصله من رثيئة
اللبن؛ وفي المثل: إن الرثيئة مما يفثأ الغضب.
قال كسرى: الرأي الحزم، فإذا وضح الحزم فاعزم.
قيل للشام شام لأنه شام الكعبة، وبكة، قيل إن الأصل هو
الباء لأن الناس يبك بعضهم بعضاً، يقال: ابتك القوم: إذا ازدحموا، ومنى لما يمنى
فيه من الدم، والجمرات: لما يجمع فيها من الحصى، والتجمير: الاجتماع، ومنه: لا
تجمروا المسلمين فتفتنوهم وتفتنوا نساءهم، أي لا تجمعوهم في المغازي، ولكن ليخلف قوم
قوماً.
قال أبو عبيدة في قوله: " إنك لن تخرق الارض "
الإسراء: 37: أي لن تقطع الأرض، والخرق: القطع.
وأنشد:
لله قومي معشراً ... أفنوا عدوهم اصطلاما
لا يتركون لوارث ... إلا سناناً أو حساما
أو مقربات بالقنا ... تمريهم عاماً فعاما
ما ذاك من عدم بهم ... لكنهم خلقوا كراما
ولى الحجاج بن يوسف وهرام بن يزداد أصفهان، وكان ابن عم
كاتبه زاذان فروخ المجوسي، فكتب من أصفهان إلى الحجاج كتاباً وصف له فيه اختلال
حال أصفهان، وسأله النظر إليهم بنقص خراجهم، فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني
استعملتك يا وهرام على أصفهان، أوسع المملكة رقعة وعملا، وأكثرها خراجاً بعد فارس والأهواز،
وأزكاها أرضاً، حشيشها الزعفران والورد، وجبلها الفضة والإثمد، وأشجارها الجوز
واللوز والكروم الكريمة والفواكه العذبة، ذبابها عوامل العسل، وماؤها فرات، وخيلها
الماذيات الجياد، أنظف بلاد الله طعاماً، وألطفها شراباً، وأصحها تراباً، وأوفقها
هواء، وأرخصها لحماً، وأطوعها أهلاً، وأكثرها صيداً، فأنخت يا وهرام عليها بكلكلك
حتى اضطر أهلها إلى مسألتك ما سألت لهم، لتفوز بما يوضع عنهم، فإن كان ذلك باطلاً
- ولا أبعدك عن ظن السوء - فزد وتعلم، وإن صدقت في بعضه فقد أخرجت البلاد؛ أتظن يا
وهرام أنا ننفذ لك ما موهت وسخرت من القول وقعدت تشير علنا به؟ فعض يا وهرام على
هن أبيك وحرامك، وايم الله لتبعثن إلي خراج أصفهان كله وإلا جعلتك طوابيق على
أبواب مدينتها، فاختر لنفسك أوفق الأمرين أو رد، والسلام.
قال بن أبي فنن، قال لي المتوكل: ثيابك يا أحمد في رزمة
أو تخت؟ قلت: في رزمة، قال: لا تفعل فهي في التخت أبقى وأنقى.
وقال المتوكل: ابن أبي فنن فأرة مسك.
قال الحسين بن الضحاك: عتب علي المعتصم فقال: والله
لأؤدبنه، فحجبني، فكتبت إليه:
غضب الإمام أشد من أدبه ... وبه استعذت وعذت من غضبه
أصبحت معتصماً بمعتصم ... أثنى الإله عليه في كتبه
لا والذي لم يبق لي سبباً ... أرجو النجاة به سوى سببه
ما لي شفيع غير رحمته ... ولكل من أشفى على عطبه
فالتفت إلى هارون الواثق فقال: بمثل هذا الكلام يستعطف الكرام.
قال محمد بن محمد بن عباد البصري، قال لي المأمون: بلغني
أن فيك سرفاً، فقلت: منع الموجود سوء ظن بالمعبود.
لأشجع:
تريد الملوك مدى جعفر ... ولا يصنعون كما يصنع
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفة أوسع
وكيف ينالون غاياته ... وهم يجمعون ولا يجمع
آخر:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت دعيني على غصتي ... فإن الهموم بقدر الهمم
رأيت هذين البيتين في دفتر في جلود كتب أيام بني مروان،
ورأيت بعض الرؤساء يدعيهما ويعجب بهما ويعجب له من ذلك، فقلت لبعض الشيوخ من
ندمائه: إن الحال فيما أنشد كيت وكيت، فقال لي: لا تتكلم، فإن ما وقفنا موقفنا هذا
قط إلا أسعطنا المكروه، وحملنا على الكذب، وكلفنا تحسين القبيح وتحقيق الباطل، وما
عيب الرئاسة إلا ما يشوبها من هذه الخلال الحائفة عليها الناقصة منها، ولو عرفت يا
بني ما نعرف لما خففت إلى ما نخف إليه؛ احمد الله على ما انطوى عنك، وسله السلامة
فيما بدا لك، واعلم أن من أراد فناء الرؤساء صبر على الخشناء والعوصاء.
كاتب: أظلني من مولاي عارض غيث أخلف ودقه، وشاقني لائح
غوث كذب برقه، فقل في حران ممحل أخطأه النوء، وحيران مظلم خذله الضوء.
هذا نمط متكلف.
قال أعرابي للحسن بن سهل: لا تدع إحسانك عندي خداجاً،
ولا تخلج معروفك إلي خلاجاً، ولا تسمني أن التمس ما قبلك علاجاً.
قال بعض السلف: أربعة أشياء من الدناءة: إقبالك على
السفلة من أجل غناه، وإعراضك عن الشريف من أجل فقره.
قال بعض العلماء: الدلالة على أن الله تعالى أمر إبراهيم
بما لا يريده أنه فداه بذبح عظيم.
قال أبو زيد البلخي في كتاب السياسة: إن السياسة صناعة،
ثم هي من أجل الصناعات قدراً وأعلاها خطراً، إذ كانت صناعة بها تتهيأ عمارة
البلاد، وحماية من فيها من العباد، وكل صانع من الناس فليس يستغني في إظهار مصنوعه
عن خمسة أشياء تكون عللا لها: أحدها مادة له آلة ومادة يعمل بها؛ والثاني صورة
ينحو بفعله نحوها؛ والثالث حركة يستعين بها في توحيد تلك الصورة بالمادة؛ والرابع
غرض ينصبه في وهمه من أجله يفعل ما يفعل؛ والخامس آلة يستعملها في تحريك المادة.
ومثال ذلك من صناعة البناء أن المادة التي يعمل منها البناء هي التراب والطين
والحجارة والخشب، والصورة التي ينحوها بوهمه صورة البيت، والفاعل هو البناء،
والغرض الذي من أجله يفعل سكنى البيت وإحراز ما يحرز فيه، والآلة التي بها يعمل هي
آلات البناء. ومثال ذلك من صناعة الطب أن المادة التي يفعل به الطبيب إنما هي
أجساد الناس المحتملة الصحة والسقم، والصورة التي ينحوها الطبيب بوهمه إنما هي
الصحة، والفاعل هو الطبيب المعالج، والغرض الذي بسببه يفعل الطبيب إنما هو بقاء
جسم المعالج المدة التي تتهيأ له أن يبقاها، والشيء الذي يتخذه الطبيب آلة في
المعالجة وإفادة الصحة هو كالفصد وسقي الأدوية. فإذا نقل هذا المثال إلى صناعة
السياسة قلنا: إن المادة فيها أمور الرعية التي يتولى الملك القيام بها، والصورة فيها
إنما هي المصلحة التي ينجو نحوها وهي نظير الصحة، لأن المصلحة هي صحة ما، والصحة
مصلحة ما، وكذلك المفسدة سقم ما، والسقم مفسدة، والفاعل هو عناية الملك بما يباشره
من أمور الرعية، وغرضه فيما يفعله هو بقاء المصلحة ودوامها، والشيء الذي يقوم له
مقام الآلة في صناعته إنما هو الترغيب والترهيب: وفعل السائس الذي نظير المعالجة
من الطبيب ينقسم بكليته إلى قسمين: أحدهما التعهد والآخر والاستصلاح؛ أما التعهد
فحفظ المستقيم وأمور الرعية على استقامة وانتظام من الهدوء والسكون حتى لا يزول عن
الصورة الفاضلة؛ وأما الاستصلاح فرد ما عارضه منها الفساد والاختلال إلى الصلاح والالتئام.
ونظير هذا التعهد والاستصلاح في صناعة السياسة من صناعة الطب - التي هي سياسة الأجساد - حفظ الصحة
وإعادة الصحة، وكما أن الطب كله مدرج في هذين البابين، كذلك السياسة كلها مدرجة في
نظيريهما، يعني التعهد والاستصلاح.
وصف أعرابي نفسه بالحفظ فقال: كنت كالرملة لا يقطر عليها
شيء إلا شربته.
قال بعض العلماء: المجادل يعرف بأحد الوجوه السبعة: بأن
لا يذكر العلة، ومنها أن ينقض العلة، ومنها أن ينهي الكلام إلى محال، ومنها أن
ينتقل في الكلام، ومنها أن يقول شيئاً يلزمه القول بمثله فيمتنع، وأن يجيب عن غير
ما يسأل عنه، وأن يسكت للعجز.
العتابي: أما بعد، فقد دلف إليك أملي مستجيراً بك من
الإعدام، على راحلة من الرجاء، يحدى بيمن الطائر، حتى أناخ بفناء جودك، فتعجل شكر
ما أملته منك، تجن حلو ما استغرست لك.
قال الفرزدق لزياد الأعجم: يا أقلف، فقال زياد: يا ابن
النمامة، أمك أخبرتك بهذا!! قال رجل للفرزدق: متى عهدك بالزنا؟ قال: مذ ماتت
عجوزك، لا رضي الله عنها.
يقال: غشم الليل وأغشم، وعتم وأعتم، ودجا وأجى، وغسق
وأغسق، وجنح وأجنح، وغطش وأغطش، وغبش وأغبش، كل هذا إذا أظلم.
قال أبو الحسن العامري: التعاون على البر داعية لاتفاق
الآراء، واتفاق الآراء لإيجاد مجلبة المراد، مكسبة للوداد، وكما أن شر الناس من من
أبغض الناس، كذلك خير الناس من نفع الناس، ولا نفع مع السباب والتباغي، وأرفع
الناس نية أقدرهم على استصلاح البرية، ومن عجز عن تقويم نفسه الخاصة فهو عن تقويم غيره
أعجز، والتسرع إلى تكذيب الأقول آفة من آفات النفس، والطمأنينة بها قبل الاختبار
مضادة لطريق الحزم، والإصرار على التوقف مذلة لسلطان العقل، ومن لم يخلص لسانه
لضميره لم يخلص ضمير غيره له، ومن صبر على استبراء حقائق الأحوال فقد أيد نفسه
بالسلامة من الضلال، ومن خفي موقع الطلبة قبله لم ينفعه قرب المطلوب منه، ومن اهتم
لغير ما خلق له فقد بدل جوهره بجوهر سواه، وكما أن نور الحق أشرق وأجلى، فهو
للعقول الرمدة أضر وأعشى، والمفلوج شخصه لا تستقيم حركاته، وهيهات من نيل السعادة
مع الهوينا والبطالة.
يقال:
ثلاثة أشياء تستجيب من الصغير وتكره من الكبير: البخل
والجبن والحسد، يدل الحسد من الصغير على همة وهو قبيح من الكبير، والبخل يدل منه
على حزم لأنه فيه حفظ وهو عيب من فوقه والجبن يدل على عقل لأن فيه حراسة نفسه.
قيل لبزر جمهر: ما بال تعظيمك لمؤدبك أشد من تعظيمك
لأبيك؟ قال: لأن أبي كان سبب حياتي الفانية، ومؤبي سبب حياتي الباقية.
شاعر:
وما المرء إلا اثنان عقل ومنطق ... فمن فاته هذا وذاك
فقد كفر
ولا سيما إن كان ممن نصيبه ... من الدين والدنيا قليلا
إذا حضر
كتب علي بن عيسى الوزير في توقيع له: قد بلغت لك أقصى
مرادك، وأنلتك غاية بغتك، وسامحتك مسامحة محاب لك معني بك، وأنت مع ذلك تستقل
كثيري لك، وتستقبح حسني فيك، فكيف وأنت كما قال رؤية:
كالحوث لا يكفيه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه
وإذا تأملت حقيقة أمرك علمت أني ... عاملتك بما لا أجيب
إليه غيرك
ولا أعامل بمثله سواك.
شاعر:
العالم العاقل إبن نفسه ... أغناه جنس علمه عن جنسه
من إنما حياته لنفسه ... فيومه أولى به من أمسه
كم بين من تكرمه لغيره ... وبين من تكرمه لنفسه
هذه الأبيات يرويها أصحابنا لابن معروف القاضي، وما
سمعناها منه.
قال الزبير بن بكار، حدثنا العتبي قال، حدثني الحسن بن
وصيف قال: أصابتنا ريح ببغداد جاءت بما لم تأت به ريح قط حتى ظننا أنها تؤدي بنا
إلى القيامة؛ قال: فجعلت أطلب المهدي خوفاً من أن يسقط عليه شيء، فألفيته ساجداً
وهو يقول: اللهم احفظ فينا نبيك عليه السلام، ولا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، وإن
كنت يا رب أخذت العوام بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك يا ارحم الراحمين مع الدعاء
كثير حفظت هذا منه فلما أصبح تصدق بألف ألف درهم وأعتق مائة رقبة وأحج مائة رجل؛
قال: ففعل جلة قواده وبطانته والخيزران ومن أشبه هؤلاء في خاص مالهم كنحو ما فعل،
فكان الناس بعد ذلك إذا ذكروا الخصب قالوا في أمثالهم: لأخصب من صبيحة ليلة الظلمة.
شاعر:
وما شيء أردت به اكتسابا ... بأجمع للمعيشة من بيان
ما خمسة في سبعة ... مع سبع ذلك في مايه
وكمثل ذلك إذا أضف ... ت إليه جزء ثمانيه
ما نصف ألف في القيا ... س وربع ألف لا ميه
ألقيت ربع ثلاثة ... منه فصح حسابيه
وضربت ما حصلته ... في نصف ثلث ثمانيه
فاتته صورة طبعه ... بكماله متواليه
إن غير الذي سواك كريم ... وسوى من سوى سواك لئيم
يقال: برك الجمل، وربضت الشاة، وجثمت الأرنب، وجثمتها
أنا إذا صبرتها. أي حبستها على الموت.
قال الزهري: يحكى أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب
فاتخذ أنفاً من روق فأنتن، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب؛
قال الأصمعي: اتخذ أنفاً من الورق أي ورق الشجر، فأما الورق فإنه لا ينتن؛ قيل:إن الأصمعي
عني بالورق الرق الذي يكتب عليه، قال ابن قتيبة: كنت أحسب قول الأصمعي صحيحاً أنه
لا ينتن حتى خبرني خبير أن الذهب لا يبليه الثرى ولا يصدئه الندى ولا تغلبه الأرض
ولا يأكله التراب ولا يتغير ريحه علىالدول، وأنه ألطف شيء شخصاً وأثقل شيء وزنا،
وقليلة يلقى في الزنبق فيرسب، وكثير غيره يلقى فيه فيطفو؛ وقال: الفضة تصدأ وتنتن
وتبلى في الحرارة؛ وكتب عمر بن عبد العزيز في اليد إذا قطعت أن تختم بالذهب فإنه
لا يقيح.
سئل الحسن البصري عن السلف في الزعفران فقال: إذا نقي.
قال دغفل: يفضل العرب على العجم بثلاث: بحفظ الأنساب
وضياع أنسابهم، وعفتنا عن حرمنا إذا نكحوا حرمهم من الأمهات والأخوات، والفصاحة
طبيعتنا والبيان سجيتنا.
شاعر:
لعل له عذراً وأنت تلوم ... وكم لائم قد لام وهو مليم
قال ابن الأعرابي: النغف: دود يكون في أنوف الإبل
والغنم، ولا يكون في البقر، الواحد منها نغفة.
قال: والعرب تقول للشيء المختلف فيه: محلف ومحنث.
شاعر:==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق