الأحد، 26 فبراير 2023

ج5وج6.كتاب البصائر والذخائر أبو حيان التوحيدي

 

ج5وج6.كتاب البصائر والذخائر أبو حيان التوحيدي
--
وأما الرز فمصدر رزت الجرادة وغرزت وهو الولادة، هكذا قال أبو حنيفة صاحب النبات.
وأما الشز فالتقبض، وما أعرف منه أكثر مما قلته.
وأما العز فالغلب - محركة اللام - ، ومنه قوله تعالى " وعزني في الخطاب " ص: 23 أي غلبني.
وأما الفز فولد البقرة.
وأما القز فضرب من الإبريسم، وأما الفز أيضاً بالفاء: القعود على غير طمأنينة.
وأما الكز فالقليل الخير، يقال: هو كز بين الكزازة أي ضيق العطن.
وأما اللز فلزوم الشيء، وكذلك الإلزاز، وقال الشاعر: البسيط
وابن اللبون إذا ما لز في قرن
وأما النز فرشح الماء من الأرض، والنز أيضاً السخي من الرجال، ويقال: ظليم نز لا يكاد يستقر.
وأما الهز فمصدر هز الدابة وغيرها والسيف وغيره هزاً، واهتز هو في نفسه، والهز أيضاً هو النكاح كأنه كناية.
وأما الوز فطائر.
وأما الأز فمن قوله تعالى " تؤزهم أزاً " مريم: 83.
وأما الجهر فهو خلاف السر، قال الله تعالى " ولا تجهر بصلاتك " الإسراء: 110، وفعل كذا مجاهرة أي مكاشفة، ويقال إن الأجهر والجهراء هما اللذان لا يبصران بالنهار إبصاراً محموداً، ويقال: فلان جهير الصوت، ويقال: جهوري الصوت.
وأما البهر يقال: بهرته إذا غلبته، وهو أيضاً ربو الرئة عند العدو والإعياء، ويقال له: بهراً أي عجباً وانبهر هو، كلام صحيح، فأما أبهرته فمردود ولم يجوزه العلماء.
وأما الدهر فمعروف، وفيه جواب ليس من قبيل حديث اللغة، وإنما هو شيء يمر في كلام الفلاسفة، وسيمر فيما تتصفحه في جملة نظائره في حدود الأسماء والمعاني كلها إن شاء الله.
يقال: دهره إذا غلبه، ويقال: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الدهر فإنه الله جل جلاله، وجوابه مضموم إلى ما يكون وفقاً له مما يليق بالحكاية معه من كلام العلماء، والله المعين.
وأما الصهر فالإذابة، يقال: صهرته الشمس، في القرآن " يصهر به ما في بطونهم " الحج: 20.
وأما الطهر - بالطاء - فإنه جانب الوادي، وما أنا على حقيقة.
وأما الظهر فمعروف من الإنسان، وفلان ظهر فلان إذا استظهر به أو تظاهر به، والظهارة من الظهور والظاهر، والبطانة من البطون والباطن، ورجل مظهر إذا كان قوي الظهر، وظهر إذا كان ظهره يوجعه، ومظهور إذا أصيب ظهره، ومبطون إذا أصيب بطنه، ويقال إن الله تعالى ظاهر بالقدرة وباطن بالحكمة، أي يظهر قدرته ويبطن حكمته، والظهر أيضاً: ما غلظ من الأرض.
والعهر الفجور، يعني به الزنا.
وأما الفهر فيقال إنه مجامعة الرجل امرأته على عرك.
وأما الكهر فالانتهار.
وأما النهر فمعروف، ويقال أيضا: النهر، والسكون والحركة يتعاقبان الهاء، وليس أحدهما أولى من الآخر، لا في المعنى ولا في السماع، وكذلك البعر والشمع والزهر.
وأما المهر: فهو للمرأة إذا تزوجت، وهو الصداق، وهو ما يستحل به بضعها، وهو مصدر مهرتها مهرا، وقد يقال: أمهرتها، كذا روى أبو يعقوب في " فعلت وأفعلت " والمثل يدل على أن الكلمة من " خدمت " وهو قولهم كالممهورة إحدى خدمتيها، والخدمة: الخلخال. قال خالد بن الوليد: الحمد لله الذي فض خدمتكم، وفرق كلمتكم.
وأما الشهر: فمعروف، وجمعه شهور، وقولهم: فلان يعمل مشاهرة كلام صحيح، كما يقولون: معاومة من العام، ومياومة من اليوم، وملايلة من الليل، ومساوعة من الساعة، ولا تقل مساعاً فإن المعنى ينقلب، وقد رأيت من قالها فسخر منه؛ والشهر أيضاً مصدر شهرت الأمر شهراً، والشهير: المشهور، وأشهرت خطأ، إنما يقال: أشهرنا أي دخلنا في الشهر، كما قالوا: أحرمنا أي دخلنا في الحرم، وكأن الشهر سمي به لشهرته.
وأما القهر فمصدر قهرته قهراً، والمقهور: الخلوف، وفي أسماء الله تعالى: القهار، وهو الغلاب.
فهذا آخر الحروف التي تقدم الوعد بذكرها، ولعل الجزء الثامن يتضمن نظائرها مع أشياء غيرها، إن شاء الله.
قال أبو سعيد السيرافي " هو " عبارة عن كل اسم منكور كما أن قولنا " فلان " عبارة عن كل اسم علم ما يعقل.
وأنشد: الطويل
وكم موطن لولاي كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي
وأنشد الخليل ويونس وقالا: هو لعمران بن خطان: الوافر
ولي نفس أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني
قال أبو سعيد: في عساك وعساني ثلاثة أقوال:

أحدها قول سيبويه، وهو أن عسى حرف بمنزلة لعل ينصب ما بعدها وهو الاسم، والخبر مرفوع، والكاف اسمها وهي منصوبة، واستدل على النصب في عساك بقول: عساني، والنون والياء فيما آخره الألف لا تكون إلا للنصب.
والقول الثاني قول الأخفش: إن الكاف والياء والنون في موضع رفع، وحجته أن لفظ النصب استعير للرفع في هذا الموضع كما استعير له لفظ الجر في لولاي ولولاك.
والقول الثالث قول المبرد: إن الكاف والياء والنون في عساك وعساني في موضع نصب بعسى، فإن اسمها فيها مرفوع، وجعله كقولهم: عسى الغوير أبؤساً، وحكي انه قدم فيها الخبر لأنها فعل، وحذف الفاعل لعلم المخاطب به فعل صحيح لا يدخله الاختلاف فيه.
طلب عبيد الله بن زياد غلاماً عاقلاً، فقال سعيد بن فلان: عندي ذاك أيها الأمير، قال: هاته، فوجه إليه ابنه وباعه بعشرة آلاف رهم، وحصل المال، فلما خرج سعيد بكى الغلام فقال عبيد الله: ما شأنك؟ قال: أنا ابنه، قال: انطلق لعنة الله عليه؛ رواه المدائني.
يقال: لم يوجد ثلاثة مكافيف على نسق غير عبد الله بن العباس، فإنه كف، والعباس بن عبد المطلب، وعبد المطلب بن هاشم. قال: ومن ها هنا قال معاوية لابن عباس: يا بني هاشم، ما لكم تصابون بأبصاركم؟ قال ابن عباس: بدلاً مما تصابون في بصائركم.
قال الواثق لابن أبي دواد: والله إني حنثت في يمين سبقت مني فما كفارتها؟ قال: مائة ألف درهم، فقال الزيات: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، ما هذه الكفارة له ولا لآبائه، إن الكفارة على قدر المعرفة بالله تعالى، ولا نعلم أحداً أعلم بالله من أمير المؤمنين، فضحك الواثق وأخرج مائة ألف درهم.
أخبرنا أبو سعيد السيرافي قال: أنا ابن مجاهد قال، ثنا ثعلب قال، حدثني محمد بن سلام قال، ثنا زائدة بن أبي الرقاد عن ثابت البناني عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأم عطية: إذا خفضت فلا تنهكي فإنه أضوأ للوجه، وأحظى عند الزوج. هكذا قرأت عليه تنهكي - بفتح التاء والهاء - ، وقال: هو من نهكه ينهكه وأنهك من هذا الطعام أي أكل منه على المبالغة.
قال الجاحظ في كتاب الحيوان في الجزء الأول: الكتب توجد في كل أوان، وتقرأ بكل مكان، على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار.
قال رجل لمحمد بن واسع: الحمد لله على إحسانه، خرجت أبغي جليساً صالحاً، فقال محمد: إن كان أجابك فإني بدعائك أسعد منك.
قال الأصمعي: من ملح أحاديث الأعراب أنهم قالوا: كانت امرأة تحاجي الرجال، فلا يكاد أحد يغلبها، فأتاها جني في صورة إنسان فقال لها: حاجيتك، فقالت له: قل، فقال: كاد، فقالت: كاد العروس أن يكون ملكاً، فقال: كاد، فقالت: كاد البيان أن يكون سحراً، فقال: كاد، فقالت: كاد المنتعل أن يكون راكباً، فقال: كاد، فقالت: كاد المسافر أن يكون أسيراً، ثم ولى ليذهب فقالت: حاجيتك، فرجع فقالت: عجبت، فقال: عجبت من الحجارة لا يعظم صغيرها، ولا يصغر كبيرها، فقالت: عجبت، فقال: عجبت من السبخة لا يجف ثراها، ولا ينبت مرعاها، فقالت: عجبت، فقال: عجبت من حفيرة بين رجليك لا يدرك قعرها، ولا يمل حفرها، فاستحيت وتركت المحاجاة.
يقال: كانت ملوك الروم لا ترسم أحداً للطب حتى تلسعه حية وتقول له: آشف نفسك فإن نجوت عرفنا حذقك وإلا كانت التجربة واقعة بك.
ويقال إن الحيات إذا عشيت أبصارهن صرن إلى أصول الرازيانج فحككن بها أعينهن فأبصرن من ساعتهن.
قال بعض الأوائل: لكل شيء علاج ولكن ربما جهل، كالحقنة، زعموا انه لم يكن لها أصل حتى رأوا طائراً يحقن نفسه من ماء البحر، ويقال إن هذا حكاه أفلاطون. وزعم الأطباء أن القدح في العين لم يعرف حتى رأوا كبشاً أعمى، وكان يرعى، فقدحت عينه شوكة فأبصر.
وكان بعض الملوك إذا أتاه طبيب يقدم إليه مائدة ويقول: ركب من هذه الأطعمة ما يكون تقوية للمجاهدين، وإذاء للمترفين، وتدبيراً للناقهين، ودواء للمرضى، وسما للعدى، فإذا فعل ذلك حباه وأعطاه، وإذا عجز أقصاه ونحاه.

قال العتبي: كتب معاوية إلى عاملة بالكوفة، وهو النعمان بن بشير الأنصاري، بزيادة عشرات في أرزاق أهل الكوفة، فلم ينفذها لهم، وكان النعمان إذا صعد المنبر بكى فقال: لا أحسبكم ترون بعدي على هذا المبنر من يحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وكان يكثر تلاوة القرآن، فقال ابن همام السلولي: الطويل
زيادتنا نعمان لا تحبسنها ... تق الله فينا والكتاب الذي تتلو
فإنك قد حملت فينا أمانة ... بما عجزت عنها الصلادمة البزل
فلا تك باب الشر تحسن فتحه ... علينا وباب الخير أنت له قفل
وقد نلت سلطاناً عظيما فلا يكن ... نداك لقوم غيرنا ولنا البخل
وأنت امرؤ حلو اللسان بليغه ... فما باله عند الزيادة لا يحلو
وقبلك ما قد كان فينا أئمة ... يهمهم تقويمنا وهم عصل
إذا انتصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعل
يذمون دنيانا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
فيا معشر الأنصار إني أخوكم ... وإني لمعروف أتى منكم أهل
ومن أجل إيواء النبي ونصره ... يحبكم قلبي وعندكم الأصل
يقال: كان من دعاء مكحول: يا رازق النعاب في عشه. وذلك أن الغراب إذا فقص عن فراخه فقص عنها بيضاً، فإذا رآها كذلك نفر عنها، فتفتح أفواهها فيرسل الله عليها ذباباً فيدخل أفواهها فيكون إذاءها حتى تسود، ثم ينقطع الذباب ويعود الغراب.
قال الأصمعي: كتب المنصور إلى سوار القاضي في شيء كان عنده بخلاف الحق، فلم ينفذ سوار كتابه وأمضى الحكم عليه، فاغتاظ أبو جعفر عليه وتوعده، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنما عدل سوار مضاف إليك وزين لخلافتك، فأمسك عنه.
تمنى قوم عند يزيد الرقاشي أماني، فقال يزيد: أتمنى كما تمنيتم؟: قالوا: تمن قال: ليتنا لم نخلق، وليتنا إذ خلقنا لم نمت، وليتنا إذا متنا لم نحاسب، وليتنا إن حوسبنا لا نعذب، وليتنا إن عذبنا لم نخلد.
قال الأصمعي، قال الخليل، قال طلحة الطلحات: ما بات لي رجل على موعد مذ عقلت إلا القليل، وذلك أنه يتململ على فراشه ليغدو فيظفر بحاجته، فلأنا أشد تململاً من الخروج إليه من وعدي خوفاً لعارض من خلف، إن الخلف ليس من أخلاق الكرام.
وقال أعرابي في دعائه: يا معدن الوائد والنعم، ويا محل المحامد والكرم، أملي متعلق بفضلك، ولساني طلق بشكرك، فلا على رجائي أخاف التخييب، ولا على أملي أخشى التكذيب، صنتني عن المطالب بجودك، وألبستني الكفاية برفدك.
كاتب في رأيك عوض من كل حظ، ودرك لكل أمل.
كاتب جعل الله يدك بالخيرات مبسوطة، كما جعل الرغبات بك منوطة.
كاتب إن الآمال في غيرك خواطئ وظنون، وهي فيك حقائق ويقين، لأن سؤددك مضمون بشرف درجتك، ومكارمك مر تهنة بعلو رتبتك، ومن لم يرق به العز طأطأ به التواضعن ومن طالت به النعمة خفض به الشكر، فليس كتف تحمل أعباء غير كتفك، ولا ظل يستر مؤملاً غير ظلك.
كاتب آخر: مؤملك يعتمدك واثقاً، وينقلب عنك إن عضدته إليك، فإن انفرد برجائك اكتفى بك، وكانت شفاعته فيك أقوى من شفاعة مستعطفك عليك.
قال أعرابي في رجل: هو أحفظ الورى للذمم، وأعرفهم بالجود والكرم، وأجمعهم لحميد السجايا والشيم.
اعتراض رجل المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل من العرب، قال: ما ذاك بعجب، قال: وإني أريد الحج، قال: الطريق أمامك نهج، قال: ليست لي نفقة، قال: قد سقط عنك الفرض، قال: إني جئتك مستجدياً لا مستفتياً، فضحك وأمر له بصلة.
كان بالبصرة رجل يلقب بقبة الإسلام من موالي سليمان بن علي، وكان له ابن خليع، وكان أبوه ينهاه عن المجون فلا ينتهي، فجاءه يوما وقال له: يا أبه، إني أريد الحج، فسر بذلك أبوه، قال: ولا أحج إلا مع خواص إخواني، قال: سمهم لن قال: منهم أبو سرقينة، وعثمان خراها، أبو السلاح، وعمر خرية، فقال له وأبوه: ويلك تريد أن تسمد الكعبة بهؤلاء؟! والله لا أذنت لك بالخروج إلى مكة صحبة هؤلاء، ولكن إن شئت أن تخرجهم إلى ضيعتي فإنها أحوج إلى السماد، فافعل.

كاتب: أما بعد، فإني استجبت لإخائك ثقة مني بكرمك ووفائك. فلما أن عرفت فضلك، وسرت مسيرك، واستفرعتني بمودتك، واستغرقتني مقتك، فاجأتني بتغيير لونك، وانزواء ركنك، وفاحش لفظك، وشانئ لحظك.
شاعر: الوافر
ستنكت نادماً في الأرض مني ... وتعلم أن رأيك كان عجزا
كاتب: عقدوا ألوية الفتنة، وأطلقوا أعنة البدعة.
قال بعض السلف: الحمد لله الذي جعل الدنيا دار قلعة ومجاز، ومحل شتات وأوفاز، ومضمار أهبة وجهاز، والآخرة دار القرار، وقرة عين الأبرار.
وصف أعرابي رجلاً فقال: فيه جور مع الأكفاء، وعجز عن الأعداء، وإسراع إلى الضعفاء، وكلب على الفقراء، وإقدام على البرية، واهتضام للرعية.
قال أعرابي لقومه: كسروا أجنحة الضغائن في قلوبكم، واغرسوا أشجار الإحن في صدوركم، وأوقدوا نيران الأحقاد بينكم.
قال أعرابي: أنت تنظر بعين قد منعها الهوى من العدل، وتقول بلسان قد حالت المحاباة بينه وبين تحري الحق.
مدح رجل رجلا عند الفضل بن الربيع، فقال له الفضل: يا عدو الله، ألم تذكره عندي بكل قبيح؟ فقال: ذاك في السر، جعلت فداك.
وقع في بعض الثغور نفير، فخرج رجل من أهلها ومعه قوس بلا نشاب، فقيل له: أين النشاب؟ فقال: يجيء إلينا الساعة من عند العدو، قالوا: فإن لم يجئ، قال: فلا يكون بيننا وبينهم حرب.
نظر الجماز الشاعر إلى رجل يخفف الصلاة فقال: لو رآك العجاج لهزج بك، قال: كيف؟ قال: لأن صلاتك أرجوزة.
قال أعرابي لرجل أناله خيراً أبقاك الله للجميل حتى تعمر طريقه، وللفضل حتى يغمر به صديقه.
قال بعض السلف: في القلم حكمتان: بلاغة المنطق وجلالة الصمت، وفي دمغة الأقلام امتحان عقول الأنام والفرق بين النقض والإبرام، وسمة أسنان الأقلام في صحون المكاتب أحسن من حمرة الخجل في خدود الكواعب، وفي مشق القلم مجة الأفعى وبلوغ غاية المنى، وسن القلم عند الغضب نار وعند الرضا جار، والخط نتاج اليد وسراج الذكر والبيان، واللسان شافع ووجيه وافد نبيه، ورب إشارة أبلغ من عبارة، ونعم المرتبتان: الرواء الأنيق واللسان الذليق، وطعن اللسان انكى من طعن السنان، وللخط وسيلة هي أهدى من الحيلة.
كاتب: ولئن كان الشكر مني غير بادي الشخص لضؤولته في جنب أياديك وعوارفك، إنه لحقيق بخلوصه وترقيه درجة الوفاء، واستيفاء حكم الأداء.
قيل لملاح: كم بيننا وبين العصر؟ قال: مقدار مردي السفية.
قيل لبنان: كم كان عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر رغيفاً.
قال أعرابي في دعائه: اللهم إني أدعوك دعاء ملح لا يمل دعاء مولاه، وأتضرع إليك تضرع من قد أقر بالحجة على نفسه لمولاه في دعواه؛ إليه، لو عرفت اعتذاراً من الذنب أبلغ من الاعتراف لأتيته، فهب لي ذنبي بالاعتراف، ولا تردني عن طلبتي عند الانصراف.
قال عبد الصمد بن أبي شبيب عن أبيه: الأديب العاقل هو الفطن المتغافل.
قال الأحنف: رأس مال الأدب المنطق وفصاحته، ولا خير في قول إلا بفعل، ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في ثقة، ولا في ثقة إلا بورع، ولا في صدقة إلا بنية، ولا في حياة إلى بصحة وأمن.
قال الأصمعي: قال أعرابي: استطرد لعدوك، وبلج له بحسن المداراة وإعلان الرضا عنه، حتى تبصر فرصتك، ثم واثبه وهو على حال غرة، غير معتد لك.
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: الصبر المحمود أن تكون للنفس اللجوج غلوباً وللأمور المعضلة متحملاً، وللهوى عند الرأي رافضاً، وللحزم عند الهوى مؤثراً، وللهوى عند نازلة الأمور مبارحاً.
قال شبيب بن شيبة: إخوان الصدق خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء.
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة.
وقال أيضا: سمعت يحيى بن خالد البرمكي يقول: الدنيا دول، والدار عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، ولمن بعدنا فينا عبرة.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: الشر مخوف من كل وجه، والنفع مرجو من كل ناحية، وما أكثر ما يأتي الخير من وجه الخوف، ويأتي الشر من ناحية الرجاء.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: المعتذر من غير ذنب يوجب الذنب على نفسه.
وقال آخر: إرشاد المستشير قضاء بحق النعمة في الرأي.
قال الشعبي: الكلام مصائد العقول.

قال أعرابي لرجل: لا تكن مضحاكاً من غير عجب، ولا مشاء إلى غير أرب، وأعلم انه من نأى عن الحق ضاق مذهبه.
قال الأصمعي، قال أعرابي: إذا كنت فطناً فعد نفسك زمناً.
قال الأحنف: لا ينبغي للوالي أن يدع تفقد لطيف أمور الرعية اتكالاً على نظره في جسيمها، لأن للّطيف موضعاً ينتفع به، وللجسيم مكاناً لا يستغنى عنه.
قال خالد بن صفوان: إن جعلك الوالي أخاً فاجعله سيداً، ولا يحدثن لك الاستئناس به غفلة وتهاوناً.
وقال أيضاً: من صحب السلطان بالصحة والنصيحة كان أكثر عدواً ممن صحبه بالغش والخيانة، لأنه يجتمع على الناصح عدو الوالي وصديقه بالعداوة والحسد، فصديق الوالي ينافسه في منزلته، وعدوه يعاديه لنصحيته.
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: البلاغة لهجة صوالة، وهي سرعة الحز وإصابة المفصل.
قال رجل لأبي جعفر لما عفا عن أهل الشام: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضل قد جاوز حد المنصف، فنحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه باوكس النصيبين، وأن لا يرتفع إلى أعلى الدرجتين.
قال الأصمعي: جمع الرشيد أربعة من الأطباء: عراقياً ورومياً وهندياً وسوادياً، فقال: ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه، فقال العراقي: الدواء الذي لا داء فيه حب الرشاد الأبيض، وقال الرومي: الدواء الذي لا داء فيه الهليج الأسود، وقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه الماء الحار، فقال السوادي: حب الرشاد يولد الرطوبة، والماء الحار يرخي المعدة، والهليلج الأسود يرقق المعدة، قالوا: فأنت فما تقول؟ قال: الدواء الذي لا داء معه أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه، وتتركه وأنت تشتهيه.
قال شبيب بن شيبة: تكلم رجل من الحكماء عند عبد الملك بن مروان في معنى رجل فقال: ذاك رجل آثر الله على خلقه، وآثر الآخرة على الدنيا، فلم تكترثه المطالب، ولم تعنه المطامع، نظر قلبه إلى إرادته فسما نحوها ملتمساً لها، فهو دهره محزون، ببيت إذا نام الناس ذا شجون، ويصبح مغموماً كالمسجون، انقطعت من همته الراحة دون منيته، فشفاؤه القرآن، ودواؤه الكلمة من الحكمة، والموعظة الحسنة، لا يرى الدنيا منها عوضاً، ولا يستريح إلى ما لديه شوقاً. فقال عبد الملك: أشهد أن هذا أرخى بالاً مني وأنعم عيشاً.
قال الأصمعي: الطلحات المعروفون بالكرم: طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي، وهو الفياض، وطلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وهو طلحة الجواد، وطلحة بن عبد الله بن عوف ابن أخي عبد الرحمن بن عوف الزهري، وهو طلحة الندي، وطلحة بن الحسن بن علي، وهو طلحة الخير، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو طلحة الطلحات، وسمي بذلك لأنه كان أجودهم.
قال بعض السلف: فضل نساء السند على سائر النساء طول الشعور، ورخص المهور، ودقة الخصور، واستواء النهود، وعظم الأكفال، والصبر عند الجماع، وحرارة الأرحام.
أنشد لابن أبي خسثمة: البسيط
بيضاء لو برزت من خدر قيمها ... ما ضل من حسنها في ظلمة سار
لو أن وجدي بها والنار في قرن ... لكان وجدي بها أذكى من النار
وأنشد للهجيمي: الرجز
إذا رأيت بازلاً صار جذع ... فاحذر إذا لم تر سوءاً أن تقع
لا تأمن الأيام فالدهر خدع ... خذ من صفاء العيش من قبل الجزع
أنشد ابن الأعرابي وقد مر من قبل تفسير هذه الأبيات، ولا أعلم كيف موقع الغلط فيها: الكامل المجزوء
المرء يكدح للحياة وحسبه خبلاً حياته
يرفت ماضغه ويهدا بعدما انصاتت قناته
وبكل ناظره ويكمه سمعه وتهي حصاته
وتقف جلدته وتعرى من ملابسها شواته
ويغيب شاهده ويشهد غيبه وتموت ذاته
ويمل من برم بنوه به وتسأمه بناته
وهب الحياة له تدوم وليس يتبعها وفاته
لا شمل إلا سوف يعقب بعد ألفته شتاته
ما خير عيش المرء منفرداً وقد فرطت لداته
كالفحل عيب شوله عنه وأسلمه رعاته
استشار عمر ابن عباس رضي الله عنهما في تولية حمص رجلا فقال: لا يصلح إلا أن يكون رجلا منك، قال: فكنه، قال: لا تنتفع بي لسوء ظنك بي.

قال محمد بن أبي قتيبة: كتبت إلى ابن عمر أسأله عن العلم فقال: إنك كتبت إلي تسألني عن العلم، والعلم أكثر من أن أكتب به إليك، ولكن إن استطعت أن تلقي الله كاف اللسان عن أعراض المسلمين، خفيف الظهر من دمائهم، فافعل.
لبعض أهل المشرق: المنسرح
يا راكبي البحر آملين غنى ... أما تخافون ويحكم خطره
عدوا عن البحر واقصدوا ملكا ... سؤاله عنده ذوو الأثره
فأبحر الأرض سبعة ولنا ... أنامل الفضل أبحر عشره
أنا الذي مذ لبست نائله ... لبست للفقر جلدة النمره
قدم هرم بن حيان من الشام فقالوا له: كيف تركت المعيشة بها؟ فقال: أف لهذا الكلام، ما ظننت أن أحداً يتهم الله جل جلاله في رزقه، أدلكم على طريق الجنة وتسألونني عن طريق النار؟! قال أبو الدرداء: إياك ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام.
وقال ابن عباس رحمه الله: كل ما شئت والبس ما شئت، وما أخطأك اثنان: سرف ومخيلة.
قال ابن عيينة: ليس من حبابك الدنيا طلبك ما لا بد منه.
وقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه على قبر مرثد بن حوشب فقال: يرحمك الله يا مرثد، لقد شيعت عمرك بالتوحيد، وعفرت وجهك بالسجود، وإن قال الناس مذنب فمه، فأينا لم يذنب؟! قال الربيع بن خثيم: لو كانت الذنوب تفوح لما جلس أحد إلى أحد.
قال بعض النحويين: الكلام يدور على ثمانية عشر بناء سمي فاعله، ثلاثة منها ثلاثية، وأربعة رباعية، وستة خماسية، وخمسة سداسية.
فأما الثلاثي ففعل نحو: جلس، وضرب، وحدث؛ وفعل نحو: عمل؛ وفعل نحو: ظرف وكرم.
وأما الرباعي فأن يكون على فعلل نحو: دحرج، ويلحق به حوقل، وجلب؛ وفاعل نحو: قاتل وعالج؛ وفعل نحو: كرّم ويسّر؛ وأفعل نحو: أكرم وأقفل.
والخماسي نحو: انفعل كقولك: انطلق واندفع؛ وافتعل كقولك: استمع وارتبط؛ وافعل نحو: احمّر واشهّب؛ وتفعلل كقولك: تدحرج وتجلبب؛ وتفاعل كقولك: تعالج؛ وتفعل كقول: تحرك وتكسر.
والسداسي نحو: استفعل كقولك: استغفر واستخرج؛ وافعال نحو: احمارّ وابياضّ؛ وافعّول نحو: اعلّوط، واجلوط؛ وافعوعل نحو: اخلولق واغدودق؛ وافعنلل نحو: احرنجم واخرنطم.
كتب بشر بن عياث إلى رجاء بن أبي الضحاك كتاباً: أما بعد، فإني قد وجهت إليك بفلان أنا، وأنا أنت، فكن أنا أنت لفلان والسلام.
قال أحمد بن يزيد: سمعت المنتصر يقول - وأنا صبي - في مناظرة مع قوم: لا عز ذو باطل ولو طلع من جبينه القمر، ولا ذل ذو حق ولو أصفق العالم عليه.
شاعر: الطويل
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
وقال الراجز: الرجز
إن الرفيق لاصق بقلبي ... إذا أضاف جنبه لجنبي
أبذل نصحي وأكف شعبي ... ليس كمن يفحش أو يحظنبي
الحظنباء: الغضب؛ هكذا سمعت الثقة.
قال الخياط المتكلم شيخ أبي القاسم الكعبي: ما قطعني إلا غلام قال لي: ما تقول في معاوية؟ قلت: إني أقف فيه، قال: فما تقول في ابنه يزيد؟ فقلت: ألعنه، قال: فما تقول فيمن يحبه؟ قلت: ألعنه، قال: أفترى معاوية كان لا يحب ابنه يزيد؟ فقطعني.
شاعر: البسيط
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور
وأنني حيث ما يثني الهوى بصري ... من حيث ما سلكوا أدنوا فأنظور
أعرابي: الكامل
إن الكريم أخو الكريم وإنما ... يصل اللئيم حباله بلئام
هشام بن أبيض أحد بني عبد شمس: الرجز
إني وإن أفنى الزمان نحضي ... وأسرعت أيامه في نقضي
وابتزني بعضي وأبقى بعضي ... موف لمن قارضني بالقرض
ينفع حبي ويضر بغضي
آخر: الرجز
أصبحت لا يحمل بعضي بعضي ... منقها أروح مثل النقض
إن الليالي أسرعت في نقضي ... طوين طولي وطوين عرضي
ثم انتحين عن عظامي نحضي
قيل للمفضل: لم لا تقول الشعر وأنت من العلماء به؟ قال: علمي به يمنعني منه.
لأبي الأسد: الطويل
وإني على عدمي لصاحب خمة ... لها مذهب بين المجرة والنسر

قال العتابي: من أعظم مكايد الشيطان ازدراؤك من علماء دهرك من عنده المخرج مما أشكل عليك، وتهمتك من يلزمك الاقتباس منه.
وصف أعرابي خيلا فقال: سامية العيون، لاحقة البطون، مصغية الآذان، أفتاء الأسنان، ضخام الركبات، مشرفات الحجبات، رحاب المناخر، صلاب الحوافر، وقعها تحليل، ورفعها تعليل، إن طلبت نالت، وإن طلبت فاتت.
شاعر: الطويل
كأنك لم تشهد إذا كنت غائباً ... ولم تك يوما غائباً حين تشهد
وصف أعرابي قوما فقال: كأن خدودهم ورق المصاحف، وكأن أعناقهم أباريق الفضة، وكأن حواجبهم الأهلة.
يقال: أطراف الحديد خياره، مثل الطرف من الرجال، ومن الخيل الطروف.
قال أبو الدرداء: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه.
قال ابن الأعرابي: مر عقال الناسك بمرداس بن حذالم الكندي فاستسقاه لبناً فصب له خمراً وعلاه باللبن، فشربه وسكر فلم يتحرك ثلاثة أيام، فأنشأ مرداس يقول: الطويل
سقينا عقالاً بالثوية شربة ... فمالت بلب الكاهلي عقال
فقلت تجرعها عقال فإنما ... هي الخمر خيلنا لها بخيال
قرعت بأم الخل حبة قلبه ... فلم يستفق منها ثلاث ليال
آخر: الهزج
أما تنظر في عين ... ي عنوان الذي أبدي
أما تفهم ما أضم ... ر في إسعاف ما أبدي
وفي دون الذي أظه ... ر ما دل على وجدي
عيوناً تسرق اللحظ ... من المولى إلى العبد
قيل لجمين: ما تشتهي؟ قال: نشيش مقلى، بين غليان قدر، على رائحة شواء.
قال أبو مسحل: خرج قيس بن زهير العبسي - وكانوا قد أجدبوا - ممتاراً، فبصر بنار فأمها، ثم أبت نفسه السؤال فصار إلى شجر ذات ورق لها سم فأكل منها ثم مال إلى الوادي فنام في الشمس فمات، فقال الربيع بن زياد العبسي يرثيه: المديد
إن قيساً كان ميتته ... أنفاً والمرء منطلق
راء ناراً بالعراء بدت ... وشجاع البطن يحتفق
جاء حتى كاد ثمأبى ... ولدت الوادي له ورق
فحشاه جوف جفرته ... ثم أغفى وهو مطرق
في دريس لا يغيبه ... رب حر ثوبه خلق
اختصم إلى أسد بن عبد الله اثنان في كبة غزل، فقال أحدهما: هذه كبتي وجاء ببينة، وقال الآخر: هذه كبتي وجاء ببينة، فقال لأحدهما: على ماذا كببت؟ قال: على لوزة، وقال للآخر: على ماذا كببت؟ فقال شيئاً آخر، فنقضت الكبة فوجدت على لوزة، فأعطاها صاحب اللوزة.
جاء طفيلي إلى باب عرس فمنع من الدخول، فأخذ إحدى نعله في كمه وعلق الآخر في يده وأخذ خلالاً وجعل يتخلل، ودنا من الباب فمنع من الدخول، فقال للبواب: يا هذا قد أكلت، فقال البواب: إنما منعتك من الغداء فإذا تغذيت فادخل، فدخل وأكل.
وجاء طفيلي آخر إلى باب عرس فمنع من الدخول، فرهن نعليه على سكرجات عند البقال وعاد إلى الباب فدخل، وجعل السكرجات في كمه، ثم قعد وأكل، فلما فرغ ردها على البقال وقال: ليس يرضونها، يريدون شامية جيدة.
أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعيراً من ذهب، فأرسل به إلى المشركين يكف به أذى رؤسائهم، وأبى كل رئيس أن يقبله، وكان نصيب بني عبد مناف إلى أبي سفيان فقبله، وخرج إلى البطحاء، واجتمعت قريش وغيرها فأقبل يدعوهم، فإذا جاء الرجل قال له أبو سفيان: خذ ما بدا لك وانظر إلى ما خلفك، واعلم انهم كثير، فانصرفوا حامدين له.
مر زياد بأبي العريان وهو مكفوف، فقال: من هذا؟ قالوا: الأمير زياد، فقال: رب أمر قد نقضه الله، وعبد قد رفعه الله، فسمعها زياد فكره الإقدام عليه، وكتب بها إلى معاوية، فأمره معاوية أن يبعث إليه بألف دينار ويمر به فيسمع ما يقول، ففعل، ثم مر به، فقال: من هذا؟ فقالوا: زياد، فقال: رحم الله أبا سفيان فكأنها تسليمته ونعمته، فكتب بها زياد إلى معاوية، فكتب معاوية إلى أبي العريان: البسيط
ما ألبثتك الدنانير التي حملت ... ان غيرتك أبا العريان ألوانا
فدعا أبو العريان ابنه فأملى عليه إلى معاوية:
من يسد خيراً يجده حيث يطلبه ... ويسد شرا يجده حيث ما كانا

نام جحا مع أمه فضرطت، فأحبت أن تعلم ما عنده فقالت: يا أبا الغصن هل صاح الديك؟ فقال: أما ديكك فقد صاح، وأما ديوك الناس لا.
دخل جحا البيت فإذا جارية أبيه نائمة، فاتكأ عليها فانتبهت وقالت: من ذا؟ قال: اسكتي أنا أبي.
خطب عبد الملك بن مروان فقال: أيها الناس اعملوا لله تعالى رهبة أو رغبة، فإنكم نبات نعمته وحصيد نقمته، ولا تغرس لكم الآمال إلا ما تجنيه الآجال، أقلوا الرغبة فيما يورث العطب، فكل ما تزرعه لكم العاجلة تجنيه دونكم الآجلة، واحذروا الجديدين فهما يكران عليكم باقتسام النفوس، وهدم المأسوس، كفانا الله وإياكم سطوة القدر، وأعاننا على الحذر، من شر الزمن، ومضلات الفتن.
قال أحمد بن عبد الله بن العباس الصولي: القرطاس أمره ما لم تكحله ميل الدواة.
ورأى جرير رجلا أسود وعليه ثياب جدد فقال: الرجز
كأنه لما بدا للناس ... أير حمار لف في قرطاس
قدم أشعب بغداد أيام المهدي فقال: سمعت ظلمة القوادة تقول: إذا أنا مت فاحرقوني واجعلوا رمادي في صرة وتربوا به الكتب بين المتحابين فإنهم يجتمعون، أعطوا منه الختانات ليذروا به على الصبيات المطهرات، فإنهن يلهجن بالزب ولا يفارقنه.
قالت علية بنت المهدي: الوافر
تكاتبنا برمز في الحضور ... وإيحاء يلوح على سطور
سوى مقل تخبر ما عناها ... بكف الوهم في ورق الصدور
قال روح بن عبادة القيسي: كنا عند شعبة، فذكر حديثاً فسمع صرير الميل في الألواح فغضب وقال: أما تحفظون حديثاً واحداً؟! والله لا حدثت اليوم إلا ضريراً، فقام رجل فقال: يا أبا بسطام، قد سمعنا اليمين فهل يجوز بأعور؟ فضحك وحدث وكفر عن يمينه.
خطب سليمان بن عبد الملك بالجابية وقال: أيها الناس، عظوا أنفسكم، ولا تستسلموا إلى الغفلة فتؤديكم إلى الحسرة، ولا تركنوا إلى الآمال في استسعاف التفريط فتبيدكم الآجال بسيف المنون، أصارنا الله وإياكم ممن حسن في الخير أثره، دعاء مسموعاً، وعملاً مرفوعاً.
قال الشعبي لأصحابه: لا تقدموا على أمر تخافون أن تقصروا دونه، فإن العاقل يحجزه عن مراتب المتقدمين ما يرى من فضائح الأولين المقصرين، ولا تعدوا أحداً عدة لا تستطيعون، إنجازها، فإن العاقل يحجزه عن الكذب ما يرى من المذمة في الحلف، ولا تحدثوا بين الناس من تخافون تكذيبه، فإن العاقل يلزمه الصمت ما يرى من مذمة التكذيب، ولا تسألوا أحداً من الناس تخافون منعه، فإن العاقل يحجزه عما ناله السائلون ما يرى من الدناءة في الطمع.
خطب يوسف بن عمر فقال: اتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمل أملاً لا يبلغه، وجامع مالاً لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه، ولعدو خلفه، قد احتمل إصره، وباء بوزره، وورد على ربه أسفاً لاهفاً، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
قال داود بن علي في خطبة له: لا تنطق بطرا، ولا تسكت حصراً.
قال أعرابي لصاحبه: أما إنك لست صدوق اللهجة، ولا صحيح الحجة.
قال بعض السلف: إذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان ظنه به حسناً، وإن أذنب غيره سبقت الظنة إليه، وليست كلمة هي للغني مديح إلا وهي للفقير ذم، إن كان حليما سمي ضعيفا، وإن كان وقوراً سمي بليداً، إن كان صموتاً سمي عيياً، وإن كان لسناً سمي مهذاراً، وإن كان شجاعاً سمي أهوج.
قال بعض الأدباء: الفقر سالب للعقل والمروءة، مذهبة للعلم والأدب، معدن للتهم، جامع للمكاره، لأن صاحبه لا يجد بداً من اطراح الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن ذهب عقله، واستنكر حفظه وفهمه، وكان الأمر عليه لا له.
قال عتبة لأهل مصر: قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح، وظبات السيوف، حتى صرنا شجىً في لهاتكم ما تسيغه حلوقكم، وقذى في عيونكم ما تطرف عليه جفونكم، فحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدا، وانحلت عرى الباطل حلاً، أرجفتم بموت الخليفة، وأردتم توهين الخلافة، وخضتم الحق إلى الباطل، وأبعد عهدكم حديث به، فأريحوا أنفسكم إذ خبرتم دنياكم وآخرتكم، واعلموا أن لنا سلطاناً على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر نكفكم ما بطن، وأبدوا خيراً وإن أسررتم شراً، وبالله نستعين.

وقال أيضاً عتبة: يا أهل مصر، لا مبرأ من الذنب، ولا عتق من الرب، وقد تقدمت مني إليكم عقوبات قد كنت أرجو الأجر يومئذ فيها، وأنا أخاف اليوم الوزر علي منها، فليتني لا أكون أصلحت دنياي بفساد معادي، وأنا أستغفر الله منكم، وأتوب إليه فيكم، وقد أصبحت أخاف ما كنت أرجو ندماً عليه، وأرجو ما كنت أخاف اعتباطاً به، وقد شقي من هلك بين عفو الله ورحمته، والسلام عليكم سلام من لا أراه عائداً إليكم.
وقال ابن الأعرابي: جاء خالد بن صفوان إلى باب بعض ولاة البصرة فإذا هو بروح بن حاتم فقال: يا ابن أخي، والله ما غدوت قط ولا رحت على أبواب هؤلاء إلا وأنت هناك، أكل هذا طلباً للدنيا وحرصاً عليها؟ قال: فأجللته عن الجواب، ثم قلت: كفى بك حرصاً أن تراني في هذه الأوقات، قال: إن قلت ذاك يا ابن أخي، لقد ذهب ذمار القلب، وحسام الصلب، ورونق الوجه، وماء الشباب، وقربت عهاد العلل، ووالله ما مرت بنا ساعة من أعمارنا إلا ونحن نؤثر الدنيا على ما سواها، فما تزداد عندنا إلا تحلياً، ولا عنا إلا تولياً.
قال بعض السلف: الأسرار ثلاثة: سر لا طريق إلى إعلانه لأن فيه اجتياح النفس، وسر تفشيه إلى وكيلك لسقوط الحشمة ليفرح به، وسر عند العدو ليتغيظ منه.
قال عبد الرحمن بن عوف، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين، ثم شددت عليهم حتى خشيت الله في الشدة، فأين المخرج؟ فقام عبد الرحمن يجر رداءه ويقول: أف لهم بعدك، وقال عمر: اللهم تعلم أني منك فيهم أشد فرقاً منهم مني.
سمعت القاضي أبا حامد يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا كثر عليه الخصوم صرفهم إلى زيد، فلقي رجلاً ممن صرفهم إلى زيد فقال له: ما صنعت؟ قال: قضى عليّ يا أمير المؤمنين، قال: لو كنت أنا لقضيت لك، قال: فما يمنعك وأنت ولي الأمر؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله وسنة نبيه فعلت، ولكني أردك إلى الرأي، والرأي مشترك.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اجتمع رأيي ورأي عمر رضي الله عنه في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد أن يبعن.
قال أبو عبيدة: رأي رجلين في الجماعة أحب إلي من رأي رجل واحد في الفتنة، هكذا حدثنا به أبو حامد، وقد جفا أبو عبيدة في قوله، والله يرحمه.
قيل للحسن: ما لتوكل؟ قال: أن لا يكون شيء في قلب العبد أوثق من ربه.
قال رجل للوليد بن عبد الملك: إن فلاناً نال منك، قال: أتريد أن تقتص أوتارك من الناس بي قال المدلئني: تزوج الوليد بن عبد الملك بن مروان امرأة من العرب، فلما صار إليها قالت: رفغ رفغ، قبح الله أما عودتك ما أرى.
نام جحا مع أمه فضرطت، وأحبت أن تعلم ما عنده فقالت له: بكم اشترى أبوك هذه القطيفة؟ قال: بأربعين درهم، وإن بقي ضراطك فيها أصبحت لا تساوي أربعة دراهم.
نظر بهارة المخنث إلى جارية سوداء في رجلها خلخال من الفضة فقال: انظر بالله إلى ساقها كأنه أير مضبب.
قيل لرجل من دارم، وكانت به قرحة: إنك لعلى خير، قال لهم: وما ذاك؟ قالوا: قد نرى نفثك أخضر، قال: والله لو نفثت كل زمردة في الأرض لمت.
قال الأصمعي: قدم رسول على الحجاج، فلما قرأ كتابه قال: ما بطأ بك؟ قال: البرد، قال: ما بلغ من شدته؟ قال: صحو الليل، وغيم النهار، وقطر مطر تتبعه شمال؛ قال الحجاج: هذا وأبيك البرد حقاً.
قال الصمعي: أتى رجل جبلة بن عبد الرحمن فقال: كلم الحجاج في كذا وكذا، فقال: ليست من الحوائج التي يقضيها، قال: كلمه فربما يوافق قدرٌ فيقضيها وهو كاره، فدخل فكلمه فقال: أعلمه أنا قضيناها ونحن كارهون.
قال المفجع، حدثنا بعض أصحابنا قال: مر بي رجل من بني تميم، قال: وكنت أشد على رجل بحضرتي، فسألته الصراع فقال: أنت تصارعني؟ فخذ بحلقي واجهد جهدك، فأخذت بحلقه، فجعل يأكل وكأن حلقه ليست تطبق يدي فيه.
قال ابن الأعرابي، قالت قريبة الأعرابية: إذا كنت في غير قومك فلا تنس نصيبك من الذل.
وقال ابن الأعرابي أيضاً: حدثني رجل من عبد القيس عن عبد الصمد بن المفضل الراقشي انه هنا فتى أراد البناء على أهله فقال: بالبركة وشدة الحركة، والظفر عند المعركة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الحاجة مسألة، والدعاء زيادة، والحمد شكر، والندم توبة.

قال عطاء الخراساني: الحوائج عند الشبان أسهل منها عند الشيوخ، ألم تسمع قول الله تعالى عن يوسف في إخوته " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم " يوسف: 92، وقال يعقوب " سوف أسغفر لكم ريي " يوسف: 98.
قال مصعب بن الزبير: يقال: لا يصدق القتال إلا ثلاثة: مستبصر في دينه، أو غيران على النساء، أو ممتعض من ذل.
قال إبراهيم بن العباس: الناس ثلاثة: رجل فوقك، ورجل دونك، ورجل مثلك، فتكبرك على من هو فوقك جنون، وعلى من هو دونك لؤم، وعلى من هو مثلك ظلم.
قال ابن عائشة، حدثني أبي قال: كنت يوما جالساً في المسجد الجامع بالبصرة فإذا أنا بخالد بن صفوان الأهتمي قد أقبل إلينا، فلما رأيته زحفت عن صدر المجلس ووسعت له، فجاء وجلس ثم أقبل إلي وقال لي: ابن من أنت؟ فقلت: أنا محمد بن حفص، قال: ابن عم موسى؟ قلت: نعم، قال: والله إن كان أبوك لمثابة، قال: فأخبرني عدة من شيوخ المسجد انهم لم يسمعوا مدحاً يحرف واحد أحسن من هذا.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: اللهم إنك للذي أنت أهل من عفوك أحق مني بالذي أنا له أهل من عقوبتك.
قال بعض السلف: نعمة لا تشكر، كسيئة لا تغفر.
قال عروة بن الزبير: كان الرجل فيما مضى إذا أراد أن يشين جاره أو صاحبه طلب حاجة إلى غيره.
قال بعض السلف: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، ولعدوك عدلك وإنصافك.
قال يزيد بن كثير العنبري: طرحنا الحشمة فيما بيننا وبين حفظتنا طرح من لا يؤمن أنهم معه يعلمون ما يقول ويفعل.
وصف أعرابي رجلاً فقال: كان قصير الشبر، صغير القدر، ضيق النفس والصدر، لئيم النجر، عظيم الكبر، كثير الفخر.
قال ابن عباس: ما رأيت رجلاً أوليته خيراً إلا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت رجلا فرط مني إليه سوء إلا أظلم ما بيني وبينه.
قال المدائني: أتي الوليد بن عبد الملك برجل من عبس، فسأل عن حاله وذهاب عينه فقال: ما كان في الأرض يا أمير المؤمنين عبسي أكثر مالاً مني وولداً، فأتى السيل ليلاً فلم يبق لي مالاً ولا أهلاً ولا ولدا إلا بنيا صغيراً وبعيراً، فحملت الصبي، وند البعير فوضعت الصبي وتبعته فنفحني برجله ففقأ عيني، فجرعت إلى ابني فإذا الذئب يلغ في دمه، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة بن الزبير ليعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه.
قيل لأبي ذر: تحب أن تحشر في مسلاخ أبي بكر؟ قال: لا، قيل: ولم؟ قال: لأني من أمري على ثقة، ومن أمري غيري على شك. هذا جواب مستجفى.
قال سفيان بن عيينة، قيل لبعض السلف: أترجو الأجر فيما أحل الله لك؟ قال: نعم، قيل: أرأيت لو فعلت شيئاً هو حرام أكنت تخاف الإثم فيما حرم الله عليك؟ قال: نعم، قال: فارج الأجر فيما أحل الله، كما تخاف الإثم فيما حرم الله عليك.
قال عبد الرحمن: سمعت شيخاً يعظ ويقول: يا ابن آدم، كم من مدخل لو دخلت فيه افتضحت، صرفه عنك ربك.
وكان زيد بن أسلم يقو: لا تدعوا العلم رغبة عنه، ولا رضى بالجهل منه، ولا استحياء من التعلم له.
وقال بعض السلف إنما يحمل العبد على الزهد في العلم قلة انتفاعه بما علم.
نظر سالم بن عبد الله إلى رجل فقال: من أنت؟ قال: رجل مظلوم بطال، فقال سالم: ويل لك من يوم يخسر فيه المبطلون.
حج سليمان بن عبد الملك فدخل البيت فرأى سالم بن عبد الله فقال: ارفع حوائجك، فقال: والله لا أسأل في بيت الله غير الله.
قال وهب كونوا في الدنيا كقوم أيسوا منها رغبة عنها، وإيثاراً لغيرها، علموا فيها بما يبصرون، وبادروا فيها بما يحذرون، تتقلب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة.
قال سعيد بن جبير: حضر بشر بن المنصور الموت، فرأيناه يسر بالموت، فقيل له: إنا نراك تسر بالموت، فقال: أتجلعون قدومي على خالق مرجو كمقامي مع مخلوق مخوف؟!

قال عتاب بن أسيد: أراد أهل البصرة أبا قلابة على القضاء فأبى وهرب إلى اليمامة، فأراده أهلها على القضاء فهرب إلى الشام، فقال والي الشام: لعلك تراني مثل والي البصرة ووالي اليمانة، فبكى الشيخ وقال: إن للقضاء مثلاً فاسمعه مني ثم اعمل ا بدا لك، قال: وما مثله؟ قال: مثل قوم ألقوا في بحر، فمنهم السابح الماهر، ومنهم من لا يحسن السباحة، فأما من لا يحسن السباحة فهلك في أول وهلة، وأما السابح الماهر فيسبح يوماً أو يومين في البحر ولم يصب مخلصاً فغرق في الثالث؛ فرحمه الوالي وخلى سبيله.
سمع القاسم بن محمد رجلا يقول: ما أجرأ فلاناً على الله، فقال: ابن آدم أذل وأحقر من أن يكون جريئاً على الله، ولكن قل: ما أغر فلاناً بالله تعالى.
سمع ابن عباس رحمه الله أعرابياً يقرأ " وكنت على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " آل عمران: 103 فقال الأعرابي: والله ما أنقذهم منها وهو يعيدهم فيها، قال ابن عباس: خذوها من غير فقيه.
قال الشعث بن قيس لقومه: إنما أنا رجل منكم، ليس لي فضل عليكم، ولكني أبسط لكم وجهي، وأبذل لكم مالي، وأحفظ حريمكم، وأعود مريضكم، فمن فعل مثل هذا فهو مثلي، ومن زاد عليه فهو خير مني، ومن قصر عنه فأنا خير منه، فقيل له: ما يدعوك إلى هذا؟ قال: أحضهم على السؤدد ومكارم الأخلاق.
قال الهيثم، قال أسد بن عبد الله لرجل من بني شيبان: بلغني أن السؤدد فيكم رخيص، فقال: أما نحن أيها الأمير فلا نسود إلا من يوطئنا رحله، ويفرشنا عرضه، ويعطينا ماله، فقال: والله إن السؤدد فيكم لغال.
قال ابن عمر: إنا معاشر قريش نعد الحلم والجود سؤدداً، ونعد العفاف وإصلاح المال مروءة.
قال عوانة: كانت العرب تسود على أشياء مختلفة، فأما مضر فتسود أسنها، وأما ربيعة فتسود من أطعم منها، وأما اليمن فتسود على النسب.
قال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: بلغني انك تسرف في إنفاقك، فقال: يا أمير المؤمنين حبس الموجود سوء ظن بالمعبود.
قال العتبي: دخل دعفل بن حنظلة النسابة على معاوية، فقال معاوية: حدثني ببعض أحاديثك، فقال: سمعت زياد بن عبيد القيسي يحدث قال: كنت عشيقاً لعقيلة من عقائل الحي، أركب لها الصعب والذلول، لا أليق مطرحاً فيه متجر وربح إلا أتيته، يلفظني السهل إلى الجبل والجبل إلى السهل، فانحدرت مرة إلى الشام بخرثي وأثاث كثير أريد لبة العرب ودهماء الموسم، وإذا بقباب شامية مع شعف الجبل، مجللة بالأنطاع، وإذا جزر تنحر وأخرى تساق، وإذا وكلة وحثثة على الطهاة يقولون: العجل العجل، وإذا برجل جهوري الصوت على نشز من الأرض ينادي: يا وافد الله الغداء، وإذا يآخر على مدرجة ينادي: ألا من طعم فليخرج للعشاء، فأعجبني ما رأيت، فمضيت أريد عميد الحي، فوجدته جالساً على عرش ساج، قد ائتزر بيمنة وتردى بحبرة، وعلى رأسه عمامة سوداء تظهر من تحتها جمة فينانة، وكأن الشعرى تطلع من جبينه، وإذا بمشيخة جلة خفوق ماسكي الذقان ما يفيض أحدهم بكلمة، وإذا خوادم حواسر عن أنصاف سوقهن، فأكبرت ما رأيت، وقد كان نمي إلى حبر من أحبار اليهود أن النبي التهامي هذا أوان مبعثه ووقت توكفه فخلته إياه، وقلت: عله أو عساه، ودنوت مه فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: لست به وليتني به، فسألت رجلاً: من هذا؟ فقال: هذا هاشم بن عبد المناف، فقلت: هذا والله السناء والمجد؛ فقال معاوية: لاها الله! ما رأيت كلاماً أفصح من هذا، وأشهد أن قيساً قد أخذت لباب الفصاحة.
قال الأصمعي، أنشد أعرابي خالد بن عبد الله: " الطويل "
تبرعت لي بالجود حتى نعشتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب
فأجزل جائزته.
العرب تقول: العصا من العصية، هل تلد الحية إلا حية.
يقال: طارت عصا فلان شققاً.
ةينشد في العصا: البسيط
ومن يدب على المنساة من دبر ... فقد تقادم منه اللهو والغزل
وأنشد: الكامل المجزوء
طبع الكريم على وفائه ... وعلى التفضل في إخائه
تغني عنايته الصدي ... ق عن التعرض لاقتضائه
وفتى كماء المزن أو ... ل ما تهلل من سمائه
لم يقذ في صوب الغما ... م ولا تغير في إنائه

قابلته بوسائل ال ... حرم البعيدة من فنائه
فأجابني بوداده ... وبحفظه وبحسن رائه
كثرت محاسنه فن ... بهت الكرام على رجائه
حسب الكريم حياؤه ... فكل الكريم إلى حيائه
قال الحسن البصري: كان يقال: من رمى أخاه بذنب قد تاب منه ابتلاه الله عز وجل به.
لما مات ذر بن أبي ذر الهمذاني، وكان موته فجاءة، جاءه أبوه فدخل منزله وهو مسجى فقال: اكشفوا الثوب عن وجهه، فكشفوه، فلما نظر إليه قال: رحمك الله يا بني فلقد سررتني مولوداً وناشئاً، وما رأيتك قط في منظر أحب إلي من ساعتك هذه.
ونظر إلى أهله يبكون فقال: مه، إنا والله ما ظلمنا ولا قهرنا، ولا ذهب بحق لنا، ولا أخطئ بنا، ولا أريد غيرنا، ولا لنا معول إلا على الله تعالى.
فلما وضعه في قبره قام عليه فقام: اللهم هذا ابني وفيته رزقه، وأكملت له أجله، اللهم مهما آتيتني له على مصيبتي من أجر وثواب فهو له صلة مني، فلا تعذبه، ولا تعرفه قبيحاً إنك غفور رحيم.
فلما دفن قال: يا ذر ما بنا إليك فاقة، ولا لنا إلى أحد سوى الله من حاجة، يا ذر والله ما ذهبت لنا برزق، ولا أورثتنا كلا، شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر لولا هول المطلع ومختبره لتمنيت ما صرت إليه، يا ذر ليت شعري ما فعلت وما فعل بك؟ وما قلت وما قيل لك؟ ثم قال: اللهم إنك وعدتني بالصبر على ذر صلواتك ورحمتك، اللهم فقد وهبت ما جعلته لي من أجري على ذر لذر فتجاوز عنه، فإنك أرحم بي وبه؛ اللهم هب لذر إساءته إلى نفسه وذنوبه إليك، فإنك أكرم مني وأجود.
فلما هم أن ينصرف قال: يا ذر انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك؛ إنما حسبك مولاك.
قيل لزهراء الأعرابية: أين منزلك؟ قالت: ما لي منزل، إنما أشتمل الليل إذا عسعس، وأظهر في الصبح إذا تنفس، ثم اتخذت منزلاً فقيل لها: كم بيننا وبين منزلك؟ فقالت: الطويل
فأما على كسلان وان فساعة ... وأما على ذي حاجة فقريب
قال السعيدي، قلت لأبي أويس: هل تروي على وزن هذا البيت شيئاً وهو: المقتضب
أعرضت فلاح لنا ... عارضان كالبرد
فقال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على سيرين أخت مارية وهي تصفق وتقول: المقتضب
هل علي ويحكما ... إن لهوت من حرج
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال سعيد: فصار سرورنا بالحديث أكثر من سرورنا بالبيت.
قال ابن الأعرابي: تزوج رجل فقيل له: كيف وجدتها؟ قال: رصوفاً أنوفاً رشوفاً؛ الرصوف: التي في فرحها ضيق، والأنوف: التي تأنف مما لا خير فيه، والرشوف: الطيبة المقبل.
قيل لعبد اله بن جعفر عليهما السلام: قد غلب عليك الغناء، قال: تعتريني عنده أريحية إن لقيت عندها أبليت، وإن سئلت أعطيت.
قال المدائني: يقال: العلم يرشدك، وترك ادعائه ينفي الحسد عنك، والمنطق يبلغك الحاجة، والصمت يلبسك المحبة.
قال إسحاق، قال جالينوس: الولع بالجماع مقتبس من نور الحياة، فليكثر منه أو فليقل.
قال إسحاق: لا تصادق مخنثاً فإنه يعد من الجفاء مؤانسة بلا نيك.
وكتب ابن السماك إلى عمرو بن بانة: إن الدهر قد كلح فجرح، وطمح فطفح، فأفسد ما أصلح، فإن لم تعن عليه فضح.
قال محمد بن القاسم: كان يحيى بن سعيد خفيف الحال، فاستقضاه أبو جعفر المنصور وارتفع شأنه فلم يغير من حاله، فقيل له في ذلك فقال: من كانت نفسه واحدة لم يغيره المال والإكثار.
قال يزيد بن المهلب: ما رأيت عاقلاً ينوء به أمر إلا كان معوله على لحيته.
ويقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا اهتم أكثر من مس لحيته.
قال يونس: اليمن تقولك منا الملوك في الجاهلية، والأنصار في الإسلام، ومضر تقول منا النبي والخلفاء، فما تقول ربيعة؟ قال رجل لعمرو بن عبيد إني أصبت مالاً من غير وجهه فاستملكته، فانا نادم تائب إلى الله تعالى، ولست أقدر على رده، قال: إنه علم الله عز وجل منك أنك لو قدرت على رده ما رددته، قال: نعم، قال: فإن خفت أن يسألك الله عنه فخوفك أشد من أخذك المال.
قال بعض السلف: الغرة بالله أن يصر العبد على المعصية، ويتمنى على الله المغفرة.

قال زيد لرجل من الخوارج: زعموا أنك تقول: عثمان أشجع من علي، قال: صدقوا، كأنك لا تعلم ذلك، إنما كانت شجاعة علي حين كان صحيح البصيرة، فلما ذهبت بصيرته وركن إلى الدنيا ذهب ذلك؛ وقيل لعثمان: اخلعها واذهب حيث شئت، فأبى وقال: لا أخلع قميصاً قمصنيه الله، حتى قتل؛ وقيل لعلي: حكم أبا موسى وعمرو بن العاص وإلا قتلناك، ففعل.
قال ابن سلام: سمعت الربيع بن عبد الرحمن يقول: قد خيرت فلا تأخذن خديعة وتدع شريعة، ولا تأخذن ما يرديك وتدع ما ينجيك، ولا تأخذن الأرذل وتدع الأفضل.
وقال ابن سلام: سمعت أبان بن عثمان يقول، قال الحجاج: والله لطاعتي أوجب عليكم من طاعة الله تعالى، إن الله تعالى يقول " فاتقوا الله ما استطعتم " التغابن: 16 فجعل فيها مثنوية، وقال: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " النساء: 59 فلم يجعل فيها مثنوية، ولو قلت لرجل منكم: ادخل من هذا الباب فلم يدخل لحل لي دمه وقتله.
العرب تقول: الغنى كالمنعة، أي من كان له مال فهو كمن له قوم ينصرونه؛ المنعة جمع مانع كقولهم لطلاب العلم طلبة والواحد طالب، وجهلة جمع جاهل، والمنعة - بالسكون - جائزة وهي فعلة من المنع، فأما المنعة - بكسر الميم - فمردود، هكذا قال أبو حاتم.
قال بهز بن حكيم: صلى بنا زرارة بن أوفى الصبح فقرأ المدثر فلما بلغ " فذلك يومئذ يوم عسير " المدثر: 9 خر ميتاً فواريناه.
مات لبعض السلف ابن فعزاه رجل فقال: ما ترك لي حزني يوم القيامة أسى على فائت، ولا فرحا بآت.
قال بعض السلف: العز والغنى يجولان، فإذا لقيا القناعة استقراً.
قال سعيد بن حجر: كان يقال: إذا كنت من قيس ففاخر بغطفان وحارب بسليم وكاثر بهوازن، وإذا كنت من تميم ففاخر بدارم وحارب بيربوع وكاثر بسعد، وإذا كنت من بكر ففاخر بشيبان وكاثر بشيبان وحارب بشيبان.
قال عوانة: باع عبد الله بن عتبة بن مسعود أرضاً بثمانين ألفاً، فقيل له: لو اتخذت لولدك من هذا المال ذهراً، فقال: بل أجعل هذا المال ذخراً لي عند الله وأجعل الله ذخراً لولدي، وقسم ذلك المال.
قال محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: إن الله عز وجل رضي الآباء للأبناء فحذروهم فتنتهم، ولم يرض الأبناء للآباء فأوصهم بهم وإن شر الأبماء من دعاه التقصير إلى العقوق وشر الأباء من دعاه البر إلى الإفراط.
قال العتبي: أذن معاوية للأحنف، وجرير بن عبد الله بالباب، ثم أذن لجرير فدخل فقال: يا أمير المؤمنين إنك أذنت للأحنف قبلي ووالله إنه لوافر النصيب من عداوتك، عظيم الشعلة في حربك، فقال معاوية: أحبكم غلينا أشدكم علينا إذا هو صار معنا بعد عداوته لنا وعرف لنا حقنا وفضلنا بعد جهل مه به، فأما من تربص بنا الأمور فلا حاجة لنا فيه، كما لم يكن له حاجة فينا ولا رأي لنا فيه كما لم يكن له رأي فينا، فسكت جرير.
قال ابن عباس رحمه الله وقد سمع قوماً يتكلمون في القدر فقال: إن الله عباداً خشيتهم من غير خرس، وإنهم الألباء البلغاء العلماء ولكنهم إذا نظروا في عظمة الله طاشت عقولهم فرقاً، فإذا سري عنهم سارعوا إلى الله تعالى بالأعمال الزكية، فأين أنتم عنهم؟ فتفرقوا.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: القدر سر من سر الله تعالى، وحرز من حرز الله، مكنون في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، سابق في علم الله، قد وضع الله عن عباده علمه، ورفعه فوق منتهى رأيهم، ومبلع عقولهم، فلم ينالوه بحقيقة الربانية، ولا عظمة الوحدانية وعزة الفردانية، فهو بحر زاخر غامض، عمقه ما بين الأرض والسماء، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس، يعلو أوله ويسفل آخره، قعره شمس تضيء، ولا ينبغي أن يراها إلا الفرد القديم، فمن طالعها فقد حاد الله في ملكه، ونازعه في سلطانه، وكشف عن سر ستره، وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
وقف رجل على قبر معاوية فقال: يا أبا عبد الرحمن، لو لفظتك الأرض إلينا لرايت ما يصنع بنا يزيد، ورأينا ما صنع الله بك.
قال معاذ: مثل الشيطان كمثل الذئب يأخذ الشاة الشاذة القاصية، فعليكم بالجماعة.
وقال قطري بن الفجاءة لرجل من الخوارج أسره الحجاج ثم من عليه: راجع قتلا عدو الله، قال: هيهات غل يداً مطلقها، واسترق رقبة معتقها، وأنشد الكامل
أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته

إني إذاً لأخو الدناءة والذي ... عفت على حسناته جهلاته
هذا وما ظني بجبن إنني ... فيكم لمطرق مشهد وعلاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته
أأقول جار علي لا، إني إذاً ... لأحق من جارت عليه ولاته
وتحدث الأقوام أن صنائعاً ... غرست لدي فحنظلت نخلاته
قال يوسف بن أسباط: رد أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وآله أربعمائة حديث أو أكثر، قيل له: مثل ماذا؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه: للفارس سهمان وللراجل سهم، فقال أبو حنيفة: لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن؛ وأشعر رسول الله صلى الله عليه البدن، وقال أبو حنيفة: الإشعار مثلة؛ وقال رسول الله صلى الله عليه: البائعان بالخيار ما لم يتفقا، وقال أبو حنيفة: إذا وجب البيع فلا خيار؛ وكان رسول الله صلى الله عليه يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً، وأقرع أصحابه، قال أبو حنيفة: القرعة قمار.
وقال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لأخذ كثيراً من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ قال أبو عقيل العمي: إن الأمور لا تدرك بالرأي المفرد، فليستعن مكدود بوادع، ومشغول بفارغ.
خطب الحجاج فقال: أيها الناس، إنكم أغراض حمام، وفرضة هلكة، وقد أنذركم القرآن وصفر برحيلكم الجديدان، وإن لكم موعداً لا تؤخر ساعته، ولا تدفع هجمته، وكأن قد دلفت إليكم نازلته، فنعق بكم، وحثكم حث مستقص، فماذا هيأتم للرحيل، وما أعددتم للتحويل؟ ومن لم يأخذ أهبة الحذر، نزل به مرهوب القدر.
أنشد الصولي للعلوي في تشبيه ثلاثة بثلاثة: الخفيف
خطرت خطرة فهاجت مراحي ... وأراحت إلى التصابي رياحي
لا، ووجه ومقلتين وثغر ... مثل ورد ونرجس وأقاح
لا تسليت عن هواها ولا أص ... غيت فيها إلى مقالة لاح
قال علي بن عبيدة: ما رأيت بيتاً يجمع الشراب والشرب والساقي إلا قول الشاعر: الكامل
فكأنها وكأنهم وكأنه ... قمر يدور على النجوم بشمس
لابن دريد: الخفيف
كل يوم يروعني بالتجني ... من أراه مكان روحي مني
مشبه للهلال والظبي والغص ... ن بوجه ومقلة وتثني
جمع الله شهوة الناس فيه ... فهو في الحسن غاية المتمني
أمن العدل أن أرق ويجفو ... ني وأشتاقه ويصبر عني
قال المدائني: أتي وال برجل قد جنى فأمر بضربه فمد، فلما أخذه الضرب قال للوالي: بحق رأس أمك عليك لما عفوت عني، قال: اضرب، قال: بحق عينيها، قال: اضرب، قال: بحق خديها، قال: اضرب، قال: بحق نحرها، كل ذلك يقول اضرب، فقال الوالي: ويحكم خلوه لئلا ينحدر.
قال أبو بكر الصيرفي لبعض الفضلاء من الحشوية بلغني أنك لا تحضر الجمعة، قال، فقال: ما فاتني ولا شهدتها؛ قال: يعني أنه لا يراها فيقول لم تفتني، وما شهدتها للقائي الأئمة.
وقال بعض السلف لرجل: كيف أقبل شهادتك وقد سمعتك تقول لمغينة: أحسنت؟ قال: أليس لم أقل ذلك إلا بعد سكوتها؟ فأجاز شهادته.
خرج شريح من عند زياد في علته فسئل عنه فقال: تركته يأمر وينهى، فقام الواعية فقيل له: ألم تقل كذا وكذا؟ قال: تركته يأمر بالوصية وينهى عن النوح.
ولي أعرابي البحرين، فجمع اليهود فقال لهم: ما تقولون في عيسى؟ قالوا: قتلناه وصلبناه، قال: لا تخرجوا من السجن حتى تؤدوا ديته.
دخلت أم أفعى العبدية على عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أم المؤمنين ما تقولين في امراة قتلت ابناً لها صغيراً؟ قالت: وجبت عليها النار، قالت: فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفاً؟ قالت: خذوا بيد عدوة الله.
شاعر: الكامل المجزوء
الصبر من كرم الطبيعة ... والمن مفسدة الصنيعه
والخير أمنع انباً ... من قلة الجبل المنيعه
والشر أسرع جرية ... من جرية الماء السريعه
ترك لتعهد للصدي ... ق يكون داعية القطيعه
قال إسحاق: أخذ مزبد المديني وهو سكران، فقال الوالي: استنكهوا الخبيث، ففعلوا، فلم يجدوا له رائحة، قال: قيئوه، قال مزبد: فمن يضمن لي عشاي؟

ذكر الله عز وجل المثرين في كتابه فقال: " في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم " المعارج: 24 - 25، وجعلتم انتم في أموالكم حقاً للقيان - كذا كان يقول الحسن.
قال المدائني: كان عندنا بالمدائن دهقان يقال له دينارويه، وكان خبيثاً، فقال له والي المدائن: إن كذبت كذبة لم أعرافها فلك عندي زق شراب ومسلوخ ودراهم، فقال دينارويه: هرب لي غلام فغاب عني دهراً لا أعرف له خبراً، فاشتريت يوماً بطيخاً فشققت واحدة فإذا الغلام فيها يعمل قفافاً فإذا هو إسكاف، قال العامل: قد سمعت بهذا. قال: كان عندي برذون فدبر، فوصف لي قشور الرمان فألقيته على دبره فخرجت على ظهره شجرة رمان عظيمة، قال العامل: وقد سمعت بهذا. قال: كان لي غلام وله فروة فوقع فيها القمل فطرحها فحملها القمل ميلين، قال: سمعت بهذا. فلما رأى أنه يبطل عليه كل ما جاء به قال: إني وجدت في كتب أبي صكاً فه أربعة آلاف درهم والصك عليك، قال: ما سمعت بهذا، قال: فهات الزق والمسلوخ والدراهم.
استعمل معاوية أبا الأعور السلمي على مصر بدل عمرو بن العاص، وكتب إليه كتاباً بالعزل، فلما قدم على عمرو احتال عمرو حتى وضع الكتاب من يده وشغله بالأكل ودس من سرق كتابه، فلما فرغ ادعى العمل فقال له عمرو: إنما جئت زائراً ونحن نصلك، فبلغ ذلك معاوية، فضحك من دهاء عمرو.
كاتب: وصل كتابك فرأيتك قد حليته زخارف أوصافك، وأخليته من حقائق إنصافك.
قال أعرابي: هذه نعم تفني الأحقاب، وتسم الأعقاب.
كتب معاوية إلى زياد لما ولاه العراق: ليكن حبك وبغضك قصداً، فإن الغرة كامنة، واجعل للرجوع والنزوع بقية في قلبك، واحذر صولة الانهماك فإنها تؤدي إلى الهلاك.
قال أشعب: جاءتني جارية بدينار وقالت: هذه وديعة، فجعلته بين ثني الفراش، فجاءت بعد أيام وقالت: ناولني الدينار، فقلت: ارفعي الفراش وخذي ولده، وتركت إلى جنبه درهماً، فتركت الدينار وأخذت الدرهم، وعادت بعد أيام فوجدت معه درهماً آخر فأخذته وعادت الثالثة كذلك، فلما رأيتها في الرابعة بكيت فقالت: ما يبكيك؟ فقلت: مات دينارك في نفاسه، قالت: سبحان الله، أيموت الدينار في النفاس؟ قلت: يا فاسقة، تصدقين بالولادة ولا تصدقين بالنفاس؟ قال المدائني: سمع أعرابي قوماً يقولون: النساء لا يقمن مع الرجال على غير نكاح، فأحب تجربته فقال لامرأته: إن أيري قد اصطلم، فسكتت، واعتزل فراشها فقالت له: يا هذا خل سبيلي فليس لي فيك حاجة، فداراها فأبت إلا الفراق وطالبته بثمن خاتم كان لها عليه، فوثب عليها وأخذ برجلها ودفع فيها وهو يرتجز: الرجز
فلست بالجلد ولا بالحازم ... إن لم أجأ هناك بالعجارم
وجأ ينسيك طلاب الخاتم
فلما فرغ قال لها: ما رأيك؟ قالت: ما أقبح بمثلي التردد إلى البعول، قال: فما قولك في ثمن الخاتم؟ قالت: كيف تقضيني وأنت مضيق، ولكن إذا اتسعت، وأقول واحدة: قد وهبت لك ثمن الخاتم.
قال النضر بن شميل: كان يمرو قاض فأتاه رجل من وجوه أهلها يدعي على رجل مالاً، وأتاه بشاهد واحد وحلف له فأبى أن يقبل منه، فقال: أيها القاضي، أترى مثلي في قدري وحالي في العامة أدعي على هذا الرجل هذا القدر اليسير باطلاً؟ فزاده إباء فقال: الحمد لله الذي ولى أحكامنا مثلك، فوالله ما لي على هذا شيء، ولكنني أحببت أن أمتحنك وأعرف صلابتك في الحق، وكذلك شاهدي هذا.
قيل للمنصور: إن سواراً يحابي في الحكم، فتكلف عطسة وحمد الله تعالى في نفسه، ثم عطس أخرى فحمد الله وأسمع، فشمته سوار في الثانية، فقال المنصور: يزعمون أنك تحابي وما تحابيني في عطسة.
ما أعجب أحاديثنا إذا أضفتها إلى هؤلاء.
كان أبو الأدباء الكوفي إذا أتى شرباً تسمع فإن سمع أحدهم يقول: هذا قدحي، علم أن نبيذهم قليل، وإن سمع: ما هذا قدحي، علم أن نبيذهم كثير، فدخل.
لوالبة بن الحباب: السريع
ثالبني عمرو وثالبته ... قد أثم المثلوب والثالب
قلت له خيراً وقال الخنى ... كل على صاحبه كاذب
كان على خاتم الحسن بن الحسين بن زيد: توليت الله وحذه، ومحمداً عبده، وعلياً بعده وقال: أخذتها من قول الله عز وجل " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " المائدة: 56.

سمع جعفر بن سليمان امرأة تتكلم بالرفث فقال: إنكن صويحبات يوسف، فقالت: واعجبا، نحن دعوناه إلى اللذة، وأنتم أردتم قتله، فكم بيننا؟! قال ابن القاص: نيك الخادم أوله بكاء وآخره ضحك، قيل: وكيف ذاك؟ قال: إذا ناك المرأة عضها فتبكي، وإذا صب ضرط فتضحك.
تزوج أعمى امرأة قبيحة فقالت له: رزقت أحس الناس وأنت لا تدري، فقال لها: يا نظراء وأين كان عنك البصراء؟ قيل للجماز: ما بقي من شهوتك للنساء؟ قال: القيادة عليهن.
لأبي عثمان الناجم: المتقارب
وكم فيشة ما لها حقة ... وكم من حر مال له من طبق
يعلل هذا يسحاقة ... وذا بعميرة عند الشبق
قال عبد الله بن جعفر، وكان نبيلاً: الجود حارس الأعراض.
قال أبو العيناء لبعض الولاة: إذا سألنا الولاة كف الأذى سألناك بث الندى، وإذا سألناهم الإنصاف سألناك التفضل.
قال فيلسوف: كم من مهروب منه أصلح من مستغاث به.
كان أهل الجاهلية إذا رأوا الهلال قالوا: مرحباً بمن يحل ديناً. ويقرب حيناً.
شكا رجل امرأته إلى أبي العيناء، فقال له أبو العيناء: أتحب أن تموت هي؟ قال: لا والله الذي لا غله إلا هو، قال: لم ويحك وأنت معذب بها؟ قال: أخشى والله أن أموت من الفرح.
قيل لغلام: أتحب أن يموت أبوك؟ قال: لا، ولكني أحب أن يقتل، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأرث ديته فإنه فقير.
قال فتى من العرب لشيخ منهم: قد آن لك أن تجزز، أي تموت، قال الشيخ: وتحتضرون، أي تموتون على خضرة الشباب.
قيل: لما فرغ علي بن أبي طالب رضي الله عنه من دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل عن أمر السقيفة فقيل له: إن الأنصار قالت: منا أمير ومنكم أمير، قال: ضل القوم والله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، فكيف تقع الوصاة بهم والأمر فيهم؟ قيل لبلال: من سبق؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: سألناك عن الخيل، قال: وأنا أجبتكم عن الخير.
قال رجل لهشام بن الحكم: أليس احتكم العباس وعلي إلى عمر؟ قال: بلى، قال: فأيهما الظالم؟ قال: ما فيهما ظالم، فقال: سبحان الله، كيف يتخاصم اثنان وليس فيهما ظالم؟ قال: كما تخاصم الملكان وليس فيها ظالم.
قال الأصمعي: العرب تسمي السنة شهرين شهرين، فتشربين وتشرين: الوسمي، وكانون وكانون: الشتاء، وشباط وآذار: الربيع، ونيسان وأيار: الصيف، وحزيران وتموز: الحميم، وآب وأيلول: الخريف.
لعبد الصمد بن المعذل: المتقارب
ترجي قفولي لها بالغنى ... لعل المنية دون القفول
رأت عدمي فاستراثت رحيلي ... سبيلك إن سواها سبيلي
لعمر التي وعدتك الثراء ... بجدوى النسيب ورفد الخليل
لقد قذفت بك صعب المرام ... واستجملت لك غير الجميل
سأقني الكفاف وأرضى العفاف ... فليس غنى المرء حوز الخيول
ولا أتصدى لمدح الجواد ... ولا أستعد لذم البخيل
وأعلم أن بنات الرجاء ... تحل العزيز محل الذليل
وأن ليس مستغنياً بالكثير ... من ليس مستغنياً بالقليل
قال أبو سعيد السيراقي: " حاشا " عند سيبويه حرف جر ولي باسم ولا فعل، وأما الجر بها فلا خلاف فيه بين النحويين؛ قال الشاعر: الكامل
حاشا أبي ثوبان إن به ... ضنا عن الملحاة الشتم
قال: وأكثر الناس يخالف سيبويه فيها، وهم مع خلافهم سيبويه مختلفون فيها؛ فأما الفراء فزعم أن حاشا فعل، وزعم انه لا فاعل له، وهذا طريف وهو كالمحال، لأن الفعل لا يكون بغير فاعل، وزعم أن الأصل: حاشا لزيد، فكثروا الكلام بها حتى أسقطوا اللام وخفضوا بها؛ وقال المبرد: هي حرف جر كما قال سيبويه وتكون فعلاً ينصب مثل خلا وعدا، واستدل على ذلك بتصرف الفعل، وقولهم: حاشيت زيداً أحاشيه كقول النابغة: البسيط
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من القوام من أحد

ومما احتج به في قوله: حاشا لزيد، لو كان حاشا حرف جر لم يجز دخولها على اللام. قال أبو سعيد: أما احتجاجه بحاشيت فلقائل أن يقول: حاشيت إنما هو تصريف فعل من لفظ حاشا الذي هو حرف يستثنى به، وليس بحاشيت يقع الاستثناء ولا بحاشا، ومنزلة حاشيت من حاشا كمنزلة هلل، وحوقل، وبسمل، وقد صرق الفعل بما ليس بفعل، قال: ومما يقوي قول أبي العباس أن أبا عمرو الشيباني وغيره حكى أن العرب تخفض بها وتنصب. وقال الزجاج: حاشا لله في معنى برأه الله، وهي مشتقة من قولك: كنت في حشا فلان أي في ناحيته، كما قال الشاعر: الطويل
بأي الحشا أمسى الخليط المباين
وإذا قال: حاشا لزيد فمعناه تنحى زيد من هذا وتباعد عنه، وكما أنك إذا قلت: قد تنحى من هذا صار في ناحية منه، فكذلك تحاشا من هذا، أي قد صار في حشا منه، أي في ناحية، وعلى طريقة. الزجاج: قال بعض أصحابنا: حاشا في معنى المصدر؛ قال: ويقال: حاشا الله، وحاشا لله، كما يقال: لاه الله، ولاه لله، ويدخله النقص فيقال: حشا الله وحشا لله، كما يقال في النقص في غدو: غد، وفي مهلاً: مه، ولا يقال ذلك في الحروف. وتستعمل حاشا لتبرئة الاسم الذي بعدها عند ذكر سوء في غير أو فيه، وربما تبرئة الإنسان من سوء، ثم يبرئون من أرادوا تبرئته، وتكون تبرئتهم لله تعالى على جهة التعجب والإنكار على من ذكر السوء فيمن برأوه، قال الله تعالى " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء " يوسف 51، ومذهب حاشا لله كمذهب معاذ الله وسبحان الله في الإنكار والتعجب، وإذا استثنوا بحاشا فاستثناؤهم أيضاً بها على طريق التبرئة للأسم السمتثنى بها من سوء أدخلوا فيه غيره.
هذا آخر كلام أبي سعيد، سقته لأنه تمام المعنى في لفظ مختلف فيه.
قال الشعبي: سمعت النعمان بن بشير يقول على المنبر: أيها الناس خذوا على أيدي سفهائكم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: إن قوماً ركبوا البحر في سفينة فاقتسموها وأخذ كل رجل مكاناً، فأخذ بعضهم الفأس فنقر مكانه، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: مكاني أصنع به ما شئت، فإن أخذوا على يده نجوا، وإن تركوه هلكوا.
قال رجل من أهل الشام لابن سيرين: بلغني أنك نلت مني، فقال: نفسي أعز علي من ذلك.
عاب رجل رجلاً عند بعض الأشراف فقال: استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيوب الناس، لأن طالب العيوب يطلبها بقدر ما فيه منها.
كان الرشيد يجمع العلماء ويسمع كلامهم، فحضروا ذات يوم وفيهم أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، والكسائي يذكر النحو، فقال له: أحذق الناس به يكون معلماً، فقال له الكسائي: أسالك عن مسألة في الفقه، قال: سل، قال: ما تقول في غلام لك قتل فاتهمت به رجلين فسألتهما عن أمره فقال أحدهما: أنا قاتل غلامك، وقال الآخر: أنا قاتل غلامك، أيهما القاتل عندك؟ قال أبو يوسف: جميعاً، قال الكسائي: أخطأت، قال: فأيهما القاتل عندك؟ قال: والذي قال: أنا قاتلٌ غلامك، لأن قوله: أنا قاتل غلامك يريد أنا قتلته، والذي قال: أنا قاتل - بالتنوين - غير قاتل، أراد: سأقتل غلامك، فهو تهدد، قال الله تعالى " فالق الإصباح وجعل الليل سكناً " الأنعام: 96 المعنى فلق الإصباح، فندم أبو يوسف على كلامه.
قال عبد الملك بن مروان: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.
وأنشد: الطويل
لعمرك ما الدنيا بدار لأهلها ... ولو عقلوا كانوا جميعاً على رحل
فما تبحث الساعات إلا عن البلى ... ولا تنطوي الأيام إلا على ثكل
دعا أعرابي فقال: اللهم ذلل صعوبة هذا الأمر، وسهل لي حزونته، وارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف.
كاتب: ومن حدود فضائل الرؤساء مقابلة سوء من أساء بالإحسان، ولا نعمة أجزل من الظفر بالمجرم، ولا عقوبة لمجرم أبلغ من الندم، وقد ظفرت وندمت، والسلام.
قيل لعلي بن الحسين رضي الله عنهما: أنت أبر الناس ولا نراك تواكل أمك، قال: أخاف أن أمد يدي إلى ما سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها.
قيل لأعرابي: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وأرى غروب الشمس وطلوعها يأخذان مني كل يوم جزءاً، وكم عسى أن يدوم عدد ليس له مدد حتى يبيد وينفد.

قال يحيى بن معاذ الرازي: أشهد أن السماوات آيات بينات، وشواهد قائمات، كل يؤدي عنك بالحجة، ويقر لك بالربوبية، وهي موسومة بآثار قدرتك، ومعالم تدبيرك التي تجليت بها لخلقك، وأوصلت إلى القلوب من معرفتك ما آنسها من وحشة الفكر، ورجم الظنون، فهي على اعترافها بك، وولهها إليك شاهدة بأنك لا تحيط بك الصفات، ولا تحدك الأوهام.
قال أبو عبيد الله الكاتب: ما رأيت مثل خالد بن برمك: بلاغته أعرابية، وطاعته أعجمية، وآدابه عراقية، وفصالحته شامية، وكتابته سوادية.
كان يزيد الرقاشي يقول: إنه ليخيل لي أن كلامي لو أنجح في قلب قائله أنجح في قلوبكم، خذوا الذهب من الحجر، خذوا اللؤلؤ من البحر، خذوا الكلمة الطيبة ممن قالها فإن الله تعالى يقول " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر: 18. أراك رفيقاً للمنعمين عليك، أفما لله عندك مكافأة مطعمك ومشربك في ليلك ونهارك، إن سرك أن تنظر إلى الدنيا بما فيها من ذهبها وفضتها وزخرفها، فاذهب إلى القبر فاحتمل ما فيه، لست آمرك أن تحمل تربته، ولكن تحمل فكرته، وأنشد: الطويل
فإن لم تكن أنت المسيء بعينه ... فإنك ندمان المسيء وصاحبه
آخر: السريع
يا معمل الوجناء بالفجر ... وقاطعاً للسبسب القفر
وهارباً من زمن جائر ... يجني الملمات على الحر
يأوي به الليل إلى منزل ... ممتنع أو جبل وعر
أبشر فإن اليسر يأتي الفتى ... أحوج ما كان إلى اليسر
واصبر فما استشفعت في مطلب ... بشافع خير من الصبر
قال منصور بن عمار: أتيت الليث بن سعد فأعطاني أربعة آلاف دينار وقال: صن بها الحكمة التي آتاك الله تعالى؛ وكان دخل الليث بن سعد في كل شهر خمسة آلاف دينار، وكان يفرقها في الصدقة وصلة الأرحام.
قال أبو حامد: خلف عبد الله بن مسعود تسعين ألف درهم.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما دون أربعة آلاف درهم نفقة، وما فوقها كنز.
قال معاوية: ما رأيت سرفاً إلا وإلى جانبه حق مضاع.
يقال: الحلال يقطر، والحرام يسيل.
قيل للزبير: كيف نلت هذا البسار؟ قال: لم أرد ربحاً، ولم أستر عيباً.
كان سعيد بن العاص إذا سأله رجل حاجة من ماله ولم يجد قال له: اكتب علي بحاجتك سجلاً إلى أن أجد فأعطيك.
اشترى عبيد الله بن أبي بكرة جارية بستين ألف درهم فطلبت دأبة تحمل عليها فلم توجد في الوقت، فجاء رجل بدابته فحملت عليها، فقال عبيد الله: قد وجب حقك علي اذهب إلى منزلك.
قال فيلسوف: الندامة على الفائت تضيع وقت ثان.
استحمل رجل معن بن زائدة فأمر له بفرس عتيق وجمل وبغل وحمار وجارية وقال: لو وجدنا مركوباً غير هذه لأعطيناكه.
كان تميم الداري يشتري مصلى بألف درهم، وكان ابن عباس يرتدي برداً قيمته ألف درهم.
وقال يحيى بن خالد: ما رأيت رجلاً قط إلا هبته حتى يتكلم، فإن كان فصيحاً عظم في صدري، وإن كان مقصراً سقط من عيني.
قال الزبير بن بكار: بدت لي إلى المتوكل على الله حاجة، فلذت بالفتح بن خاقان وكلفته إياها وأنشدته: الكامل
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... يرجى النجاح بقوة الأسباب
إني دعوتك للخطوب وإنما ... يدعى الطبيب لشدة الأوصاب
لمحمد بن عبد العزيز بن سهل - من أمراء الجبل من آل دلف - : الكامل
وظللت من ماء الكروم كأنني ... غصن أمالته الصبا فتأودا
أرمي بعيني الرياض فأجتني ... من حليهن لآلئا وزبرجدا
حمراء ناصعة وأصفر فاقعاً ... ومزعفراً في لونه وموردا
يفتر مبتسماً كأن ومبضه ... شرر أصابته الصبا فتوقدا
وهو الذي يقول: البسيط
ما لي وللنأي يرميني بأسهمه ... وما له ترة عندي ولا ثار
إذا اصطفيت خليلاً أو أخا ثقة ... لا ينثني عنه أو تنأى به الدار

ويقال في مسائل اللغة: ما الحرد، وما البرد، وما السرد، وما السرد أيضاً، وما الصرد، والصرد أيضاً، وما العرد، وما الغرد، وما الفرد، وما القرد، وما الكرد، وما الرد، وما النرد، وما الشرد، وما الجرد، وما الهرد، وما الطرد، وتفسيرها يتبعها بعد أوراق على العادة في ذلك إن شاء الله، وإنما باعدنا بين الفصول لتنفى السآمة ويثبت النشاط.
قال السيرافي: لو قلت: زيد أفضل إخوته لم يجز، فإذا قلت: زيد أفضل الإخوة جاز، والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج عن جملتهم، والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل وقال: من إخوة زيد؟ لم يجز أن تقول: زيد وبكر وعمرو وخالد، وإنما تقول: عمرو وبكر وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم، فإذا كان خارجاً عن إخوته كان غيرهم فلم يجز أن تقول: أفضل إخوته، كما لم يجز أن يقال: حمارك أفره البغال لأن الحمار غير البغال، كما أن زيداً غير إخوته، وإذا قلت: زيد خير الإخوة جاز لأنه أحد الإخوة والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة، ألا ترى لو أنه قيل لك: من الإخوة؟ عددته فيهم فقلت: زيد وعمرو وبكر وخالد، فيكون بمنزلة قولك: حمارك أفره الحمير لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير، فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس فتقول: زيد أفضل رجل، وحمارك أفره حمار، فيدل رجل على الجنس، كما دل حمار على الجنس.
وأنشد: الطويل
فيا رب حي الزائري كليهما ... وحي دليلاً بالفلاة هداهما
فليتهما ضيفان لي كل ليلة ... مدى الدهر محتوم علي قراهما
وليتهما لا ينزلان ببلدة ... ولا منزل إلا وعيني تراهما
قال الناشئ أبو العباس الكبير: أول الشعر إنما يكون بكاء على دمن، أو تأسفاً على زمن، أو نزوعاً لفراق، أو تلوعاً لاشتياق، آو تطلعاً لتلاق، آو إعذاراً إلى سفيه، أو تغمداً لهفوة، أو تنصلاً من زلة، أو تحضيضاً على أخذ بثأر، أو تحريضاً على طلب أوتار، أو تعديداً للمكارم، أو تعظيماً لشريف مقاوم، أو عتاباً على طوية قلب، أو إعتاباً من مقارفة ذنب، أو تعهدا لمعاهد أحباب، أو تحسراً على مشاهدة أطراب، أو ضرباً لأمثال سائرة، أو قرعا لقوارع غائرة، أو نظماً لحكم بالغة، أو تزهيداً في حقير عاجل، أو ترغيباً في جليل آجل، أو حفظاً لقديم نسب، أو تدويناً لبارع أدب.
للناشئ: الطويل
لأقتحمن الدهر مني بعزمة ... تخوف أعدائي وتمنع جاري
وأفضي إلى هذا الكريم بنائلي ... وآخذ من هذا اللئيم بثاري
وإلا فلا أهوت أنامل خلتي ... للوث خمار أو لوضع إزار
وحاشيت أبصار العداة ترقباً ... لشرب عقار أو لخلع عذار
ألية بر إن عشت عين باخل ... إلى ضوء ناري فاستضاء بناري
وإني لأوصي الأهل إن رام زورتي ... وإن ضافني ألا يحل بداري
وكيف يزور القوم أو يستضيفهم ... فتى لا يرى للزور حق مزار
قيل لصوفي: ما غاية المراد في الطلب؟ قال: نيل ما يعرض من أجله العطب.
وقيل لآخر: هل سبيل إلى سكون النفس؟ قال: لا، ما دامت في سلطان الحس.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إن الله جل جلاله أمر بما لم يرد، ونهى عما أراد، أمر إبليس بالسجود ولم يرد أن يسجد، ولو أراد أن يسجد، ولو أراد أن يسجد لما غلبت إرادة إبليس إرادة الله جل سلطانه، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأحب أن يأكل منها، ولو لم يحب أن يأكل منها لما غلبت محبة آدم محبة الله تعالى.

هكذا أصبت هذا الجزء وهو حق، فإذا سرك الاتساع فيه فتصفح الكتاب حتى ترى شواهده وتجد دلائله، وتعلم أن الله سبحانه أنشأ العبد ثم تولاه ولم يخله من يده، وأن العبد يتصرف بين علمه وإرادته وأمره ونهيه في ظاهر تكليفه، وطرفاهما بين الحالتين يلتقيان، وكلتاهما مستويتان، واعلم أن الخلق ظهر منه وثبت به، وانقلب إليه، أعني أنه أبدأه وأنشأه في الأول، وهو إذاه وأنماه في الثاني، وهو قبضة ورقاه في الثالث باستطاعته، واستبد بقدرته، وانفرد بحوله وقوته، واستغنى عن موجده وحاظفه، وإنما ركدت الشبهة على قوم من جهة أنهم تخطوا الأمر والنهي وهما أس التكليف، وأوجبوا التمكين والتخيير، وظنوا أن هذا القدر يفصل الحال بيننا وبين الله عز وجل فلا نؤتى إلا من قبلنا، ولا نلام إلا على فعلنا. واعلم أن الإنسان مطلق في صورة مقيد، ومختار في هيئة مضطر، ومرسل في حلية ممنوع، يبين لك ذلك أنه ينقض حاله نقضاً، ويقيس متوسطة على طرفيه، فإنه يدلك بالعبرة الواضحة والعبارة المفصحة، انه ما فعل فعلاً باختيار حمداً أو ذماً الإوقع إليه ما سبق اختيارة من خزاطره ودواعيه ما استحق به استحق به عذراً وتسليماً، لكنه عن طرق العلم والإرادة محجوب، وبلسان الأمر والنهي محجوج، ومتى حاول ذلك الخروج عما أريد به حاول عسيراً، ومتى احتج عن نفسه بما علم منه احتج جاهلاً، فليس له إلا أن يقف حيث وقف، ويعترف بما عرف، ويسكت عما خفي ولا يستكشف.
الناشئ: الوافر
عدمت من الحبيبة رجع كف ... إلى حل المؤزر والنطاق
وهنت فلم أصل وقت اصطباح ... لندماني بأوقات اغتباقي
لئن آخيت في الدنيا بخيلاً ... ولو بلغ النهاية في وفاقي
أصافي المرء يألفني فنجري ... جميعاً باختلاف واتفاق
وعهد الود محفوظ إذا ما ... أمنا في الوداد من النفاق
وأقطع كل ذي بر وصول ... إذا مزج الخليفة باختلاق
وكم من معقب حسن اجتماع ... يسر به بسوء الافتراق
قال رجل لشريك: أخبرني عن قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحسن: ليت أباك كان مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة، أقاله إلا وهو شاك في أمره؟ فقال له شريك: أخبرني عن قول مريم " ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً " " مريم: 23 أقالته شاكة في عفتها؟ فسكت الرجل.
وأنشد: الخفيف المجزوء
قل لماش على العصا ... كيف أمسى وأصبحا
ما حوتها يد امرئ ... بعد موسى فأفلحا
عرضت جارية على المتوكل فقال لأبي العيناء: هذه عرضت على أنها شاعرة، فقل شيئاً لتجيز، فقال أبو العيناء: الرمل المجزوء
أحمد الله كثيراً
فقالت:
حين أنشاك ضريرا
قال: يا أمير المؤمنين قد أحسنت في إساءتها.
لدعبل: الكامل
قالت وقد ذكرتها عهد الصبا ... باليأس تقطع عادة المعتاد
إلا الإمام فإن عادة جوده ... موصولة بزياة المزداد
لأبي الغمر الرازي: الخفيف
مكفهر ترتج أعطافه رجا ... كما جاوب المطي المطي
وتولى كأنما في حشاه ... جبل حان وضعه حولي
ظل يحكي بجوده جود كفي ... ملك سيبه هني مري
قال جعفر بن محمد الأنماطي: رأيت رواشن الأشنان والمحلب في دار المأمون مقدمة بقطن، وسمعت المأمون يقول لصاحب الشراب: أحسنت يا بني، إنما يباهي بالذهب والفضة من قلا عنده، فأما نحن فإنما ينبغي أن نباهي بالأفعال الجميلة، والأخلاق المرضية، والشيم الكريمة، فذلك بالملوك أبهى أجمل.
قال بعض السلف: لا تسبوا الغوغاء فإنهم يطفئون الحريق، ويخرجون الغريق، ويسدون البثوق.
قالت أخت عمرو ذي الكلب: المتقارب
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء خرق تشكى الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل منه الهلالا
فأقسمت يا عمرو لو نبهاك ... إذاً نبها منك داء عضالا
إذاً نبها ليث عريسة ... مفيداً مفيتاً نفوساً ومالا
استأذن أبو سفيان على عثمان فحجبه فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني.
وأنشد: الخفيف

قد أطلنا بالباب امس القعودا ... وجفينا به جفاء شديدا
وذممنا العبيد حتى إذا نح ... ن بلونا المولى عذرنا العبيدا
كتب عبد الملك إلى الحجاج: جنبني دماء آل أبي طالب فإني رأيت آل حرب لما قتلوا حسيناً نزع الله منهم الملك.
شاعر: الخفيف
عش بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود
رب ذي إربة مقل من الما ... ل وذي عنجهية مجدود
شاعر: البسيط
الحذر ينفع ما لم ينزل القدر ... فإن أتى قدر لم ينفع الحذر
وليس من قدر إلا له سبب ... وليس من سبب إلا له قدر
ليس الكريم الذي يؤذي مجاوره ... بل الكريم الذي يؤذي فيصطبر
إن الشباب لهم عذر وإن جهلوا ... وليس يقبل من ذي شيبة عذر
قال ابن عباس رحمه الله: أتيتم بأبي موسى مبرنساً فقلتم: لا نرضى إلا بهذا، وأيم الله ما استفدنا منه علما ولا انتظرنا منه غائباً، ولا أمنا ضعفه ولا رجونا توبة صاحبه، وما أفسد بما صنعا العراق ولا أصحا الشام، ولا أماتا حق علي ولا أحييا باطل معاوية، ولا يذهب الحق فلتة رأي ولا نغمة شيطان.
الناشئ الكبير: السريع
القصد شيء كل ما دونه ... نقص وما جاوزه فضل
وكل هذين رأيناهما ... جوراً وما بينهما عدل
كتب الوليد إلى الحجاج: اكتب إلي سيرتك، فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، وأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الجلد الحازم في أمره، وقلدت الخراج المؤثر لأمانته، وجعلت لكل خصم من نفسي خصماً يعطيه حظاً من نظري ولطف عنايتي، وصرفت السيف إلى المسيء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
شاعر: الرجز
ما قد مضى قد انقضى ... وما بقي كما مضى
وإنما أعمارنا ... مثل ديون تقتضي
جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت زياد بن علاقة راكباً فيلاً يهوي به في البحر، فقال: الفيل شيطان والبحر جهنم.
قال بشر الحافي: لو كنت لا أعلم لكان أروح لقلبي؛ وأنشد: الكامل
الصعود يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم
لو كنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم
روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا سأل العبد الله الشهادة وعلم أنه من خلوص نيته كتبها له وإن توفاه على فراشه.
قيل لابن عباس: لم لا تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ولا أمان فيها.
من دعاء بعض السلف: اللهم إنك أنت أنت، انقطع الرجاء إلا منك.
وقال بعض السلف في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من نظرة غيظ نفذت من عين حاسد، غائبها الحرب، وشاهدها سلم.
وأنشد: الوافر
إذا امتنع المقال عليك فامدح ... أمير المؤمنين تجد مقالاً
فتى ما إن تزال له ركاب ... وضعن مدائحاً وحملن مالا
لدعبل: المتقارب
وميثاء خضراء زريبة ... بها النور يزهر من كل فن
ضحوكاً إذا لاعبته الرياح ... تأود كالشارب المرجحن
فشبه صحبي نواره ... بديباج كسرى وعصب اليمن
فقلت بعدتم ولكنني ... أشبه بجناب الحسن
أنشد بعض من وفد على عثمان في خلافته وقد سأله عن حصن بناحية هراة: الطويل
محلقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زل عنها سحابها
ولا يبلغ الأروى شماريخها العلى ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها
وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها
شاعر: الخفيف المجزوء
ريما خير الفتى ... وهو للأمر كاره
وأتاه السرور من ... حيث تأتي المكاره
آخر: الكامل المجزوء
يا صاح قلبي غير صاح ... لج الهوى بي في جماح
جسد كسي ثوب الضنى ... فالروح منه على رواح
قالت مزحت بهجره ... والقتل ليس من المزاح

قال أبو سعيد: " زيتون " يجوز أن يكون فيعولاً وفعلوتاً وهو أولي لأنه من الزيت وقد لزم الواو.
وقال الناشئ أبو العباس في نقد الشعر: الشعر قيد الكلام، وعقال الأدب، وسور البلاغة، ومحل البراعة، ومجال الجنان، ومسرح البيان، وذريعة المتوسل، ووسيلة المتوصل، وذمام الغريب، وحرمة الأديب، وعصمة الهارب، وعذر الراهب، وفرحة المتمثل، وحاكم الإعراب، وشاهد الصواب.
شاعر: الوافر
أما والراقصات بذات عرق ... ومن قد طاف بالبيت العتيق
لقد دب الهوى لك في فؤادي ... دبيب دم الحياة إلى العروق
قال أعرابي لآخر في حديث له: والله لو نظرت إلى أجفانه وقد تجافت عن سحابة عينه تهطل رذاذاً كأنها تغازل معشوقاً، تعاتب تارة وتصالح أخرى، وكأن إنسان مقلته ناثر دراً على عروس وجنتيه لأهميت حسرة على حسرة، وأطلقت زفرة على زفرة، ولشققت مرارة على مرارة، وبكيت أهل العشق رحمة.
لما ماتت أخت بشر بن الحارث الحافي حزن بشر، فقيل له في ذلك فقال: والله ما حزني عليها ولكن يقال: إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله ما كان يأنس به في دار الدنيا.
قيل لبشار: أي شيء تتمنى له البصر؟ قال: السماء، لقول الله تعالى " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " فصلت: 12 وما زينة الله ووصفه يجب أن يكون حسناً.
لأحد بني طاهر بن الحسين: السريع
يا سائلي عن موقع الحظ وال ... عقل انصرف بالحجج القاهره
الحظ للدنيا التي تنقضي ... والعقل للدنيا وللآخرة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإذا لم يستقيموا لكم فضعوا السيوف على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم.
وروي عنه صلى الله عليه: لا تهزمن قريش ما استرحموا فرحموا، وقسموا فعدلوا، فإن لم يفعلوا فعليهم لعنة الله.
شاعر: الطويل
ولما علاها الماء قنع رأسها ... بدرع حباب صيغ من لؤلؤ رطب
أرق من الشكوى وأحلى من المنى ... وأعذب من حب يزيد هوى حب
يقال هما للراضي.
لإبراهيم بن سيار النظام المتكلم: المتقارب
ذكرتك والراح في راحتي ... وشبت المدام بدمع غزير
فإذا ينفد الدمع فرط الأسى ... بكاك الفؤاد بدمع الضمير
لابن طباطبا العلوي: الكامل
لم يكف ما قد سامني بغيابه ... حتى تلقاني بسيف عتابه
نفسي الفداء لغائب عن ناظري ... ومحله في القلب دون حجابه
لولا تمتع مقلتي بجماله ... لوهبتها لمبشري بإيابه

قال أبو عثمان: إن الله تعالى قد قسم الصنع بين جميع أفعاله: محبوبها ومكروهها، فأضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وعافى وابتلى، وعاقب وعفا، ولم يعطل البلاء من تكليف الصبر، كما لم يعطل النعمة من تكليف الشكر، وجعل الشكر لا ينال إلا بالصبر، كما جعل الصبر لا ينال إلا بالعزم وجعل العزم لا ينال إلا بالعلم، كما جعل العلم لا ينال إلا بالعقل، وجعل الخيرة مقرونة بالمكروه، كما جعل الشكر موصولاً بالمزيد، وجعل طول النصب استنفاداً للقوة، فجعلنا نعالج الجمام بالكد، كما نعالج بالجمام، وكل ذلك ليردنا إلى الاقتصاد، ويعرفنا أن الفضيلة في تعديل الأمور، وجعل النسيان حظاً من الخيرة، ولذلك قال الحسن: إن الله تعالى " ......... " ولولا ذلك لما انتفع النبيون والصديقون بالعيش وهو الأمل والأجل والنسيان، فجعل النسيان ركناً من أركان المصالح، ولو اجتمع في حفظ الإنسان وذكره توقع مكروه يجوز وقوعه، وفوت كل مرجو يجوز فوته، وذكر كل جناية جناها على من لا تؤمن مكافأته، وجناها جان ثم عجز عن مجازاته، ثم ذكر ذلة المعجزة وخمول ذي القلة، وذكر مع ذلك كل قاذورة كانت منه في شبيبته، وكل فسولة كانت منه في كهولته، لشغلة ذلك عن كسب ما لا بد منه من مرمة دنياه، وإصلاح أمر آخرته، وكذلك صنيع الله في الجد والمزاح في إمتاعه بالمنى والضحك وهما وإن كانا في ظاهر الأمر لا يعجلان عليك نفعاً معروف المكان، فإنهما يحدثان خيراً في باطن النفس، ويثمران نفعاً عند تعقب الأمور، لأن المنى استراحة وتفرغ، والضحك سرور وتنشيط، وفرق بين الأماني والآمال أن الآمال مقيدة بالأسباب، والأماني منطلقة لا يجوزها حد، ولا يحلبها سبب، وإصلاح موقع الأماني بتوقع الأماني من النفوس صارت النفوس كلها لا تمنع منها، ولا تخلو من الذهاب معها.
والنفس الحية الحاسة لا يجوز أن تبقى فارغة ممسكة عن جميع الأفعال، فتكون هي والموتى سواء، ومتى لم يحضر للقلب عزم على أمر معروف أو منكر في حاجة قائمة، عاجلة وآجلة، فلا بد للقلب من أن ينصرف إلى عمل من الأعمال، وليس بعد الاعتزال إلا المنى، فقد صارت الأمنية من أكبر الآفات، وأثبت الأركان، وليس في طاقة القلب أن يكون أبداً محتملاً لوحشة الفكر وثقل الاعتبار، وللنظر في ملكوت السموات والأرض، ولكل يوم أجل، ولكل استطاعة غاية فأطلق المباح، وألزم الفرض، وخير في النفل وأرغب فيه ولم يفرضه، وأعطى عليه الثواب ولم يوجبه، وركب الدنيا على الصميمين والفصلين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أمزح ولا أقول إلا الحق، وقال: قد جئتكم بالحنيفية السمحة غير القاسية ولا الغالية، وأمرت بالإفطار والصوم والصلاة والنوم، ولو حمل الناس أنفسهم على حد الجد في كل حال ومر الحق في كل مذهب، لا نحلت القوى، وانتقضت المنن، ولذلك قالوا: دين الله بين الغالي والمقصر، وقالوا: خير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة، وقالوا: بينهما يرمي الرامي، وقالوا في المثل: لا تكن حلوا فتبلع، ولا مراً فتلفظ، ولولا أن النفس مكدودة متعبة ومعناة نصبة من حين لا يعرف، ومن ضربان عرق لا يفتر، واختلاج عصب لا يسكن، ومعالجة القلب الهموم، ومدافعة الطباع الأغذية، وطلب الاستمرار من تنفس الرئة واسترواح النفس من حد المنخرين، واستراحتها إلى التثاؤب والتمطي، ومضادة الطبائع للنفس، ومنازعة الشهوات إلى ما تدعو إليه، ومعالجة الأمراض وألم الجسد.
وقال: المؤمن بين أربع: بين كافر يجاهره، ومنافق يبغضه، وشيطان يفتنه، ومؤمن يحسده، مع غير هؤلاء من الأمور التي تساره تارة، وتعالنه أخرى.
أنا ألهج - أيدك الله - بكلام أي عثمان ولي فيه شركاء من أفاضل الناس، فلا تنكر روايتي لكلامه فإن لي فيه شفاء، وبه تأدباً ومعرفة، قد يسلم على أكثر الناس، ولم يبر إلا على متخلف ساقط دونه.
قال أبو بكر بن دريد: أوضح الدلالة على ضعف الرجل في صناعته أن يكون محظوظاً منها، لأنه لا تكاد تجد متناهياً في حذاقته إلا وجدته متناهياً في حرفته.
قال أعرابي: إياك والعجلة فإن العرب كانت تكنيها أم الندامات لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكر، ويقطع قبل أن يقدر، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد الحمد، ومن كان كذلك صحب الندامة، واعتزل السلامة.
شاعر: الوافر

خلا من دهره خمسون عاماً ... وأدبه التجارب والزمان
فلا أحد يدوم على وفاء ... ولا للدهر من حدث أمان
إذا ما كان عندي قوت يوم ... ألا فعلي بالدنيا هوان
كأن القوم قد مسخوا كلاباً ... لهم عن كل مكرمة حران
فدعني لا تعرضني لقوم ... فقد بينت لو نفع البيان
ولي شأن طويت عليه همي ... وكل فتى له هم وشان
قال الجاحظ: قلت مرة للحرامي: قد رضيت بقول الناس إنك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم، قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأنه لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فإذا سلم لي مالي فادعني بأي اسم شئت، قلت: ولا يقال سخي إلا وهو ذو مال، فقد جمع هذا الاسم المال والحمد، وجمع ذلك الاسم المال والذم، قال: بينهما فرق، قلت: هاته، قال: في قولهم بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه، واسم البخيل اسم فيه حزم وذم، واسم الصخاء فيه تضييع وحمد، والمال نافع ومكرم لأهله معز، والحمد ريح وسخرية، واستماعه ضعف وفسولة، وما أقل والله غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعري جلده، وضاع عياله وشمت عدوه.
قيل لجعفر بن يحيى: ما البلاغة؟ قال: أن يكون للكلام حد لا يدخل فيه غيره، قيل: مثل ماذا؟ قال: مثل قول علي رضي الله عنه: أين من سعى واجتهد، وجمع عدد، وزخرف ونجد، وبنى وشيد؛ فأتبع كل حرف من جنسه، ولم يقل سعى ونجد، وزخرف وعدد، وول قال زخرف وعدد لكان كلاماً، ولكن بينهما ما بين السماء والأرض.
قيل لعلي رضي الله عنه: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مستجابة، قيل: فكم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس، قيل: فكيف يحاسب الله يوم القيامة الخلق على كثرة عددهم؟ قال: كما يرزقهم في الدنيا على كثرة عددهم.
قيل لأفلاطون: أي الأمور أعجب؟ قال: أن يكون العمل على خلاف العلم.
قيل لأعرابي: أما تتأذى برائحة الودك؟ قال: فقدي له أشد أذى.
قيل لفيلسوف: لم لا يشتد فرحك بأخيك في حياته كشدة حزنك عليه بعد وفاته؟ قال: لأني كنت أعلم في حياته أنه يموت، والآن أعلم بعد وفاته أنه لا يعيش.
قال أعرابي: أتيت فلاناً قبل أن ينطق الديك فخرس عن جوابي، ورجعت إلى أهلي خفيف الظهر وافر العرض.
قال ابن السماك في دعائه: اللهم أصلحني قبل الموت، وارحمني عند الموت، واغفر لي بعد الموت.
قيل لمحمد بن واسع: كسف أصبحت؟ قال: أصبحت والله طويلاً أملي، قصيراً أجلي، سيئاً عملي.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عون بن عبد الله يعزيه بابنه: أما بعد، فإنا ناس من أهل الآخرة أسكنا الدنيا أموات أبناء أموات، فالعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت والسلام.
قيل لفيلسوف: من الحكيم؟ قال: م تظهر أفعاله وأقواله متساوية متشابهة.
كتب إبراهيم بن يحيى إلى بعض الخلفاء: أما بعد، فإن من عرف حق الله فيما أخذ منه عظم حق الله تعالى عليه فيما أبقى له؛ واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي بعدك، والباقي بعدك هو الماضي قبلك، وأن أجر الصابرين فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعاقبون عليه.
قال أبو تميم الهجيمي: إن أقواماً غرهم ستر الله تعالى، وفتنهم ثناء الناس، فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك، أعاذنا الله تعالى وإياك أن نكون مغرورين بالستر، مفتونين بالثناء.
وقال فيلسوف: ينبغي للعاقل أن يفعل الواجب من غير أن يجب عليه، ويمتنع مما لا يجب من غير أن يمنع منه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودارغنى لمن تزود منها، مهبط وحي الله تعالى، ومصلى أنبيائه، ومسجد أوليائه، واكتسبوا فيها الحسنة، ونالوا الرحمة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ودعت إلى خرابها، ترغيباً وتخويفاً، فيا أيها الذام للدنيا متى استذمت إليك؟ متى غرتك؟ أبمنازل آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك في الثرى؟ ثم أشرف على أهل المقابر فقال: يا أهل الغربة، ويا أهل التربة، أما المنازل فقد سكنت، وأما الأزواج فقد هديت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه وقال: والذي نفسي بيده لو أذن لهم في الكلام لأجابوا: ألا إن خبر الزاد التقوى.

قال الحسن البصري: لا تجاهد في الطلب جهاد المغلب، ولا تتكل على القدر اتكال المستسلم، فإن ابتغاء الفضل من السنة، والإجمال في الطلب من العفة، وليست العفة بدافعة رزقاً، ولا الحرص بجالب فضلاً؛ الرزق مقسوم، والأجل محتوم، وفي الحرص اكتساب المآتم.
قال جابر بن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتم بعد حلم، ولا رضاع بعد فطام، ولا صمت يوما إلى الليل، ولا وصال في الصيام، ولا نذر في معصية، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يمين لزوجة مع زوح، ولا يمين لولد مع والد، ولا يمين لمملوك مع سيده والسلام.
هذا آخر الجزء الخامس من كتاب البصائر، والله أسأل الانتفاع به والعمل ببعض ما فيه فإنه قد تحمل أدباً جماً، وعلما غزيراً وفضلاً بارعاً، وأساله عز وجل أن ينفعك به ويتم نعمه عليك إن شاء الله تعالى، والله الموفق.
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن برحمتك
الجزء السادساللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بابك، وأسالك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمتك شعاري ودثاري، والنظر في ملكوتك دأبي وديدني، والانقياد لك شأني وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري.
اللهم تتابع برك،، واتصل خيرك، وعظم رفدك، وتناهي إحسانك، وصدق وعدك، وبر قسمك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، ولم تبق حاجة إلا قد قضيتها وتكلفت بقضائها، فاختم ذلك كله بالرضا والمغفرة، إنك أهل ذلك والقادر عليه والملي به.
هذا الجزء - أبقاك الله - الجزء السادس من كتاب البصائر والذهائر، وإليه وقع الانتهاء، وعليه وقف العزم، وعنده بلغ النشاط، لأن المراد تم به، وما في النفس سكن معه، فقد كان يجول في النفس ما يعسر تدوينه، ويصعب تضمينه، مع تحول الحال، ونحول البال، وذلك لأن الكتاب طال طولاً يمل الناسخ، ويضجر القارئ، ويقبض المنبسط، ويكل النشيط، ويفتر الشهوات، ويفل غرب الحريص، ويتعب الطالب والراغب، ويصير ما أردنا أن يكون سبباً لاجتبائه سبباً لاجتنابه، وما أحببنا أن يكون باعثاً على طلابه مؤيساً من وجدانه، وهكذا كل ما طال وكثر، وازدحم وانتشر، وليس يصير هذا عيباً إلا عند فسولتنا في طلب العلم، وسوء رغبتنا في إفشاء الحكمة، وقلة طاعتنا للحق، أعراضنا عن الحظ، واستبدالنا للخير، واعتيادنا للهو، وجهلنا بعواقب الدنيا، ولو صدقت النية، وانبعثت الهمة، وأذعنت الشهوة، وذلت النقيبة، وساعد التوفيق، كان ما استبعد في هذا الباب قريباً، وما استوعر سهلاً، وما استغلي رخيصاً، وما استثقل خفيفاً، وما استكثر قليلاً، ولكن من يصبر على هذا السوم، ويصير إلى هذا الحكم، ويأنف من هذا الطعن، وينفر من هذه اللائمة، مع ضميره المدخول، وعادته الفاسدة، ومنشئه الردي، وقرينه الفاضح، وحبه للراحة، واختطافه للذة، وتعجله للممكن، وتسويفه في الخير، وتوصله إلى الشر، وهذا قطرة من البحر، وحصاة من الجبل، مع تنكر الزمان، وفساد الدهر، واختلاف المقالات، وتشابه الآراء، وتكافؤ الجدال، وتزاحم الشبه، وتراكم الحجج، وسوء بيان العلماء، وقلة إنصاف الحكماء، وقبح أخلاق الأدباء.
أنا رأيت شيخاً قد انتهى في السن، وبلغ الغاية في الحكمة، وأشرف على نهاية التجربة، قد قسم حاله بين إرجاف بالسلطان، أو وقيعة في الإخوان، أو شكوى من الزمان، هذا عين ما قد وجده واستفاده، وهو بزعمه وزعم ناصره - فرد أوحدي، ونقاب لوذعي؛ وهكذا مشايخ دينك، وأنصار شريعتك، وأعلام ملتك، والمتكلمون في بلادك، فماذا أتوقع لنفسي إذا كنت آخذاً عنهم، ومقتدياً بهم، ونازعاً إليهم؟

قلت يوماً لابن الخليل: كيف صرت في الشكوى أخطب من قس، وأبلغ من سحبان، وأنطق من شبيب، وأفصح من صفوان؟ قال: وكيف لا أكون كذلك وأنا في زمان إن ذكرت أهله بما يستسرونه ويتباهون به، ويشتملون عليه ويتهالكون فيه، هتم فمي، وسفك دمي، وشهد علي بالكفر، ولم يرض لي إلا بالصلب؛ قلت: فبح بما في نفسك، على اختصار لفظك، وإيجاز قولك، قال: اعلم أني قد أصبحت بين إمام لا يعدل، ووزير لا يفضل، وعالم لا يتأله، وناسك لا يتنزه، وغني لا يواسي، وفقير لا يصبر، وجليس لا يحلم، وواعظ لا يعف، وحاسد لا يكف، وصديق لا يعين، وجار لا يستر، وجاهل لا يتعلم، ومتعلم لا يتحرج، وقاض لا ينصف، واشهد لا يصدق، وتاجر لا يتورع، وعدو لا يتقي، ومؤذ لا يفتر، فهل ترى لمثلي بعد ما عددته قراراً، أو تجد لأحد عليه اصطباراً؟ والله لو عن لي رأي في الصبر عليه لملكته، ولو بدا لي طريق في السكوت عنه لسلكته، ولكني ذو صدر جياش، وعقل مفتون.
وأقطع حديث هذا الرجل، فإنه كان يكثر من هذا الفن، ويأتي فيه بكل ما توهم وظن، وكان ذا عارضة عريضة، ولسان بليل، وقلب مكوي، وركية غزيرة، وله مذاهب استأثر بها، وتوحد فيها، وأشياء طريفة كان يكتمها، ولا يعرب عنها، وكان من كبار المعتزلة، ولكنه خالفهم، وأفرط في التشنيع عليهم، وتناهى في تتبع قبائحهم. ولقد قال هذا لرجل قولاً، ووجد عيباً، فركب جواداً، وسلك جدداً، وأصاب بدداً، وعرف داء، وطلب دواء، ولو استوى لك أن تكذبه، وتزيف قوله، وترد عليه دعواه لفعلت، ولكن كما قد علمت أن ما طوى أكثر مما نشر، وما دفن أخبث مما أنشر، وما أشار إليه أقبح مما نص عليه، وما روي عنه أفحش مما أفصح به.
فانتفع - حفظك الله - بسماع ما روي لك، وعرض على عقلك، ونيط بفهمك، وقرب من سمعك، ولاح لعينك، وعالج نفسك بمقت الهوى، وأودع قلبك برد اليقين، وحدث سرك بالإقلاع، وخف عاقبة الإصرار، وراقب إلهك في السر والجهر، والتفت إلى حظك بالاختيار والقهر، وجانب كل ما جنبك الخير، واهجر كل ما أعلقك الذم، وأورثك الندم، وثبت على طاعة الله قدميك، واستحفظ نعم الله تعالى قبلك، واشهد آلاءه عندك، واعترف له بالربوبية، وتذلل بين يديه بشمائل العبودية، واعلم أنك منه بمرأى مسمع ومطلع، واجعل أساس أمرك، وخميرة حالك، وزبدة تدبيرك، وعمدة شأنك، الزهد في الدنيا، وإزجاءها بما طف منها، والرضا بالبلغة فيها، فإنك إذا فعلت ذلك هان عليك ما عداه، وقرب منك ما تهواه.
الزهد في الدنيا باب السعادة، ودرجة السلامة، ووعاء النجاة، وظرف الراحة؛ بالزهد تملك هواك عن الجماح، وطرفك عن الطماح، ونفسك عن اللجاج، وطباعك عن الغي، وظاهرك عن الهجنة، وباطنك عن الفتنة، فبه يذل لك كل ما نشأ عنه، وصار فرعاً عليه. هناك تتفرغ لحسابك، وتتصفح ما يخصك، اعتبار ما يكون صلاحه منوطاً بك، وفساده منفياً عنك، وآثاره راجعة إليك، وريعه واقفاً عليك، فلا تعتقد إلا حقاً يصحبه البرهان، ولا تقول إلا صواباً يشهد له الدليل، ولا تعمل إلا صالحاً يؤيده القول والحق، ومتى خلصت إلى هذه الرتبة حفت بك السعادة، وتواصلت إليك الزيادة، وكان جليسك منك بين ملحوظ يقتدي بك فيه، وملفوظ يمتثل أمرك به، ولن تحوز هذه الحال، ولن تفوز بهذا الكمال، حتى تبرأ من الجدال في الدين، وتهجر هذيان المتكلمين، وتبعد عن مجالس المشككين، وتألف عادة الصالحين، وتأخذ بهدي المسلمين، وتحسم طبعك عن معرفة أسرار رب العالمين، في هذا الخلق أجمعين.

نعم، وحتى تترك الخوض في الجزء والطفرة، والجوهر والعرض، والكمون والظهور، والمداخلة والمجاورة، وما مراد الله في كذا، وما علته في كذا، وما سببه في كذا، وواجب عليه أن يفعل كذا، ويستحيل عليه فعل كذا، ولو فعل كذا لكان كذا، وهذا تحكك بالإله، وتمرس بالرب، وليس لك من ذلك إلا ما ألقاه إليك، وعرضه عليك، وسهله لك، ورفع الشبهة عنك؛ فأما ما غمض واستتر، وخفي واستسر، فإياك أن تتعرض له، وتحوم حوله، وتطلب قياسه ونظيره، فإنك إما أن تكل دون بلوغه، أو تضل قبل مناله، لأن الله تعالى لم يبن هذه الدار، ولم يرتب هذا العالم، ولم ينظم هذا الفلك، على قدر عقلك الضعيف، ولم يستشر استحسانك واستقباحك، ولم يجعل لك إلى شيء من ذلك سبيلاً إلا على حسب ما أعارك من القوة، وأعلمك بالتكليف، وألهمك بالتوفيق، فإن تعديت طورك، وتعليت قدرك، نكسك وردك على عقبيك، وأسرك بعجزك، وعراك من لبوس عزك، وجعلك عبرة للناظر إليك، وآية للمعتبرين بك، وأحدوثة للغابرين بعدك.
فاحذر التخطي إلى سياج ربك ومعالم إلهك، والزم حدودك في عبوديتك، فبهذا أمرت، واستقم كما أمرت، لعل الله تعالى يرى فقرك فيغنيك، وضعفك فيقويك، وانحطاطك فيعليك، وذر الذين يخوضون فيما ليس إليهم، يتكلفون ما ليس عليهم، فسيعلمون أي منقلب ينقلبون.
حرس الله علينا وعليك الدين، ووفر حظنا وحظك من اليقين، وجعلنا وإياك من عباده المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
هذا الكتاب - حفظك الله - وإن كان قد تأبط هزلاً، واستبطن سخفاً، وتحمل مزاحاً، فإنه قد تضمن أدباً وعلماً، وتوشح حكمة وفصاحة، ودعا إلى الله أمراً وزجراً، ودل على الخير إيجازاً وإطناباً، ونشر حكم الله رواية واستخراجاً، وأمتع النفس سراراً وجهاراً، فلا تجعل نصيبك منه الخطأ والخطل، وقد اعترض لك منه العلم والفائدة، ولا تحكم على مصنفه وجامعه إلا بعد أن تستظهر بالحجة، وتعتقد الإنصاف، وتعتمد على الحق. وإنما أوصيك بهذا خوفاً من أن يقول ما يقول من لا يشفق على عرضه، ولا يتعقب فرطات حكمه، ولا يفلي مواقع رأيه، ولا يملك خطام لسانه، ولا يبالي بما ووجه به.
واستيقن أن الكتاب قد حوى من الذهن لواقحه، ومن العقل قرائحه، ومن العلم غنائمه، ومن الفهم نتائجه، ومن الصدر ذخائره، ومن الدهر سرائره، ومن الأدب أرواحه، ومن البال خواطره، ومن الروية جواهرها، ومن الحكمة حقائقها، ومن التجربة أعيانها، ومن الأمم ودائعها، ومن الحنكة فرائدها، ومن الأخلاق محاسنها، ومن العرب بيانها، ومن الفرس سياستها، ومن اليونان دقائقها ومن الشريعة رقائقها، فهو إذن للكليل شحذ، وللوسنان يقظة، وللعقل سمة، وللعي بلاغة، وللأخرس ترجمان، وللناسي تذكرة، وللغزير تجربة، وللأديب عدة، وللعالم عمدة، وللخامل نباهة، وللمجهول علامة، وللجاد محجة، وللهازل مفكهة، وللناسك بصيرة، وللعائل نصيحة، جمعت فيه كل عرة لائحة، وحجة واضحة، وبرهان مبين، وقول متين، ونادرة ملهية، وموعظة مبكية، وللرفيع فيه مرتع، وللمتوسط إليه مفزع، وللدني به مقمع، وأفنيت في ذلك وأطنبت، وصعدت فيه وصوبت.
فلا تحرمني عفوك عند زلة أفتضح بها عندك، ولا تبخل علي بمدحك في صواب عليك، وأجهزه إليك، وكن من إخوان الصدق، وأعوان الحق، ولعمري لك علي مقال فيه، ومتعلق به، ومدخل منه، لأني قد شعثت أعراض قوم، وأعلنت أسرار ناس، وزدت في بعض ذلك مستثيباً، ونقصت مجانباً، وألممت معرضاً، وكاشفت مصرحاً، وطويت محسناً، ونشرت مقبحاً، ولكن ذاك مع توخي الحق مقبول، وفي خلال الصواب مستحسن، وفي جمهور الصدق نافع.
ومن هذا الذي تصدى لمثل هذا الكتاب، مع طوله وكثرة عدد أوراقه، وتصرف راويه، واختلاف أساليبه ومعانيه، مع ضيق الصدر، وغروب الصبر، وخفة ذات اليد، وسوء الظن باليوم أو غد، فلم يهرف، ولمخرف، ولم يظلم ولم يجزف؟ هذا ضمان لا يصح الوفاء به، ووعد لا يبعد من الخلف فيه، وحكم لا يبرأ الشطط منه، وإذا مزج حقه بباطله، وقرن خيره وشره، وأضيف سقيمه إلى صحيحه، كان قوام الجميع للحق، وكنت إذ ذاك في طبقة من يسامح بما كره له لبلوغه الغاية فيما أصاب فيه. على أنا نلجأ إلى الله في كل عسر ويسر، وعليه نتوكل في كل صغير وكبير، وإياه نستعين في جميع الأمور، فبيده الخير وهو على كل شيء قدير.

لما ولى عمر بن الخطاب عبد الله بن مسعود قال له: يا ابن مسعود، اجلس للناس طرفي النهار، وأقرئ القرآن وحدث عن السنة وصالح ما سمعت عن نبيك صلى الله عليه وسلم، وإياك والقصص والكلف وصلة الحديث، فإذا انقطعت بك الأمور فاقطعها، ولا تستنكف إذا سئلت عما لا تعلم أن تقول لا أعلم، وقل إذا علمت، واصمت إذا جهلت، وأقلل الفتيا، فإنك لم تحط بالأمور علماً، وأجب الدعوة، ولا تقبل الهدية، وليست بحرام، ولكني أخاف عليك القالة، والسلام.
قال إبراهيم الإمام: إن البصرة أفواه البحار ومواضع التجار، فأنزلوها سليمان بن علي، وإن الكوفة فم الحجاز وطريق الحاج، فأنزلوها عيسى بن علي، وإن الشام عش بني أمية وباب المغرب ومادة العراق، فأنزلوها أبا جعفر المهدي؛ وأنزل كل رجل ممن ذكره في الموضع الذي ذكر له.
قال علي بن عبد الله: السواد معصفر الرجال.
قال عبد الله بن عباس: البياض جمال لأحيائكم، وتكفن فيه موتاكم، ولو كان البياض صبغاً لتنافس فيه الرجال.
دعي ابن عون إلى وليمة فجيء بماء يصب على يده قبل الطعام فقال: ما أحسب غسل اليد قبل الطعام إلا من توقير النعمة.
قال المكي، قال أبو العبناء: أعطاني فلان بره تفاريق وعقوبته جملة.
ذم أبو العيناء رجلاً فقال: له ضحك كالبكاء، وتودد كالسباب والافتراء، ونوادر كندب الموتى.
عزى أبو العيناء رجلاً بامرأته فقال: تقديم الحرمة من جزيل النعمة، فأنت إلى التهنئة بالنعمة في هذه المصيبة أولى منك بالتعزية، فالحمد لله الذي جعل لك أجرها، ولم يجعلك لها ثواباً، وإن عظم الفقد لطول الأنس والصحبة، فثواب الله أعظم وأجزل.
عزى أبو العيناء بعض الرؤساء فقال: كان العزاء لك لا بك، والفناء لنا لا لك.
قال الأصمعي: ضل لأعرابي شيء فقال: اللهم ضوئ عنه، أي أظهره.
قال يعقوب: الأكمة الصغيرة والرويبية يقال لها: فرط.
ماع يميع إذا سال، واماع السمن إذا ذاب وأماث.
مر يدأل: إذا قرمط في مشيته، ويقال: مر يذأل إذا مر مرا خفيفاً، ومنه سمي الذئب ذؤالة.
التثفين أن تمس الثفن الأرض؛ السامد الشاخص من الخيل، والمذمر الموضع الذي يلمس.
يقال: صاد ثوراً وحماراً وظبياً وأرنباً وذئباً وثعلباً وضبعاً وضباً وورلاً ويربوعاً وجراداً وطائراً وكمأة، والكمأة صيد، وجنى نعامة وبيض نعامة.
السرب: القطيع من البقر والظباء؛ ويقال: إجل من بقر، وربرب، وصوار، وعانة من حمير، ورعلة من قطا، ورجل من جراد، وخرقة من جراد، وفيء من طير، وفيء من غربان ومن نسور.
قال الأصمعي: قيل لبني عبس: كيف صبرتم وكيف كانت حالكم؟ قالوا: طاحت والله الغرائب من النساء فما بقي إلا بنات العم، وما بقي معنا من الإبل إلا الحمر الكلف، وما بقي من الخيل إلا الكميت الوقاح، وطاح ما سوى ذلك من الأهلين والمال.
ذم أعرابي قوما فقال: لهم بيوت تدخل حبوا إلى غير نمارق ولا شبارق، فصح الألسنة برد السائل، جذم الأكف عن النائل.
سئل أعرابي عن ابن أخيه فقال: سكير لا يفيق، يتهم الصديق ويعصي الشفيق.
قيل لأعرابي: في خلافة من ولدت؟ قال: في خلافة يوسف بن عمر، أو كسرى بن هرمز، وأعوذ بالله أن أقول على الله إلا حقاً.
قال أعرابي: الدراهم مواسم، تسم جميلاً أو دميماً، فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له.
وصف أعرابي مملوكاً له فقال: الرجز
يزعزع الدلو ... وما يزعزعه
يكفيه من جم ... ع البنان إصبعه
تكاد آذان ... الدلاء تتبعه
كاتب: كرم الوزير ورغبته في المعروف يطلقان الألسن بالمسألة، ويقربان الطالب من البغية، وعوائد إحسانه وترادف امتنانه يضمنان النجح ويؤكدان الثقة.
كان الشعبي يجلس إلى خياط، فقال له يوماً: إذا حدثت فلا تكذب، فقال له الشعبي: ما أحوجك إلى محدرج شديد الفتل، لين المهزة، أصلع الرأس، عظيم الثمرة، ياخذ من عجب الذنب إلى مغرز العنق، فيوضع منك على مثل ذلك، فيكثر له رقصك من غير جذل، فقال: وما يا هو أبا عمرو؟ قال: شيء لنا فيه أرب، ولك فيه أدب.
قال أعرابي: العبوس بوس، والبشر بشرى، والحاجة تفتق الحيلة، والحيلة تشحذ الطبيعة.
قال بعض أهل العلم: العرب تتبرك بالجنوب لأنها تجمع السحاب وتؤلفه، وتتشاءم بالشمال لأنها تفرقه وتذهبه.
لحميد بن ثور: الطويل

ليالي أبصار الغواني ولحظها ... إلي وإذا ريحي لهن جنوب
قال الحسين بن سعيد: أفئدة العلماء ينابيع الحكم، ومعادن، جواهر الفطن، إذا جرت مياه فكرها في جداول الاستنباط، ثم مشت في عروق مغارس الإحساس، نضرت أصول بدائع الروية، وأورقت غرائب الأفهام، وأثمرت أفنان حكم الآراء، فاجتنبها أنامل كرم الطباع، وتفكه بها أهل التجربة والانتفاع.
كلام نبيل وقمر رؤيته تعجب، وقد رأيت من يؤثره ويستحسنه.
كاتب: أنا صب إلى قربك، صاد إلى لقائك، ومن ظمئي إلى غرتك أستحق الري من رؤيتك، فقصر يومنا الطويل بأنسك الذي يشفي الغليل.
كاتب: قد أهديت إليك مودتي رغبة، ورضيت منك بقبولها مثوبة، وأنت بالقبول قاض لحق، ومالك لرق.
وأنشد أبو الفضل ابن العميد لأعرابي: الوافر
وما ذو شقة نفض يمان ... بنجد ظل مغترباً نزيعاً
يمارس راعياً لا لين فيه ... وقيداً قد أضر به وجيعاً
إذا ما البرق لاح له سناه ... حجازياً سمعت له سجيعاً
بأكثر لوعة مني ووجداً ... لو أن الشعب كان بنا جميعاً
قال رجل لأبي المجيب: إني لأودك، فقال: إني لأجد رائد ذلك.
وأنشد: الطويل
أهن عامراً تكرم عليه فإنما ... أخو عامر من مسه بهوان
قال أعرابي: مجالسة الأحمق خطر، والقيام عنه ظفر.
العرب تقول: أشد العرب بأساً العماليق، وأعظمهم أجساماً وأحلاماً عاد، وأكثرهم نجداً ونفيراً حمير.
قال بعض السلف: لا شيء أضيع من مودة عند من لا وفاء له، وبلاء عند من لا شكر له، وأدب عند من لا ينتفع به، وشعر عند من لا حصافة معه.
وقال أعرابي لآخر: إيت فلاناً فإنه لم ينظر في قفا محروم قط.
قال ثمامة: الخمول كل الخمول ألا يعرف الرجل بخير فيؤمل، ولا بشر فيحذر، قاتل الله الهاجي حيث يقول: الهزج
أرى العلباء كالعلبا ... ء لا حلو ولا مر
حمار من بني الجار ... د لا خير ولا شر
قال المبرد، قال بعض السلف: أعجب ما في هذا الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذلة الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته العزة، وإن أقاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عارضته فاقة فضحه الجزع، وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد.
شاعر: الطويل
لعمري لئن أصبحت في دار غربة ... خميص إلى إني بها لشريف
أمر بأكناف القصور كأنني ... أخو بطنه والثوب فيه نحيف
وما أنا ممن تعتريه شراهة ... لمدخل باب يعتري ويطيف
أخو كرم يكفيه خمسين ليلة ... من الماء نزر بارد ورغيف
ومن شق فاه الله قدر رزقه ... وربي بمن يلجا إليه لطيف
وأنشد: الوافر
ألا حييت عنا يا لميس ... علانية فقد بلغ الرسيس
رغبت إليك كيما تنكحيني ... فقلت: فإنه رجل سريس
ولو جربتني في ذاك يوماً ... رضيت وقلت: أنت الدردبيس
سلي عني ابنة الطماح سعدي ... غداة أتيت قبتها أريس
ألم تصرم ثلاثاً من وقاعي ... إذا نهضت ترنح أو تكوس
أغرك أنني رجل دميم ... دحيدحة وأنك عيطموس

قال ثعلب في المجالسات: حدثني عمر بن شبة، حدثني معمر بن عمر قال: حدثنا أبو يوسف القاضي عن محمد بن عبد الرحمن بن سلمة عن مروان بن الحكم قال: اشتكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه شكوى أدنف منه، فأتاه عثمان عائداً وأنا معه، فقال: كيف أنتن كيف تجدك؟ حتى إذا فرغ من مسألة العيادة قال: والله ما أدري أنا بموتك أسر أم ببقائك، ولئن مت لا أجد لك خلفاً، ولئن بقيت لا أعدم طاعناً عائباً يتخذك عضداً أو يعدك كهفاً، لا يمنعني إلا مكانه منك ومكانه منه، فأنا منك كأبي العاق، إن مات فجعه وإن عاش عقه، فإنا سلم فتسالم، وإما حرب فتباين، ولا تجعلنا بين السماء والماء، إنك والله إن قتلتني لا تجد مني خلفاً، ولئن قتلتك لا أجد منك خلفاً، ولن يلي هذا الأمر بادي فتنة وإن أتم الناس بها المرابض مع العنز؛ قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فيما تكلمت فيه لجواباً، ولكني عن جوابك مشغول، ولكني أقول كما قال العبد الصالح " فصبر جميل والله المستعا " يوسف: 18؛ قال: فقلت: إنا إذن والله لنكسرت رماحنا، ولنقطعن سيوفنا، ولا تكون في هذا حياة لما ولا خير لمن بعدنا.
شاعر: الكامل المجزوء
إنا إذا صيغ الكلا ... م فللكلام الجزل صاغه
طبن بأنحاء البلا ... غة شاغل فيها فراغه
مستجمع شرف البدي ... هة والإصابة في البلاغة
قال ثعلب: الإسب: شعر الفرج، والجميع: الآساب.
أنشد ثعلب لسلمي بن عويه: الكامل
لا يبعدن عهد الشباب ولا ... لذاته ونباته النضر
والمرشقات من الخدود كإي ... ماض الغمام صواحب القطر
وطراد خيل مثلها التقتا ... لحفيظة ومقاعد الخمر
لولا أولئك ما حفلت متى ... عوليت في حرج إلى قبر
هزئت زنيبة أن رأت ثرمي ... وأن انحنى لتقادم ظهري
من بعد ما عهدت فأدلفني ... يوم يجيء وليلة تسري
حتى كأني خاتل قنصاً ... والمرء بعد تمامه يحري
لا تهزني مني زنيب فما ... في ذاك من عجب ومن سخر
أو لم تري لقمان أهلكه ... ما اقتات من سنة ومن شهر
وبقاء نسر كلما انقرضت ... أيامه عادت إلى نسر
ما طال من أبد على لبد ... رجعت محورته إلى قصر
ولقد حلبت الدهر أشطره ... وعلمت ما آتي من الأمر
قال أبو العيناء: كتب بعض الحمقى إلى آخر: بسم الله الرحمن الرحيم، وأمتع بك، حفظك الله، وأبقى لك من النار سوء الحساب؛ كتبت إليك والدجلة تطفح، وسفن الموصل هيا هيا، والخبز رطلين، فعليك بتقوى الله، وإياك والموتفإنه طعام سوء، وكتب لإحدى وعشرين بقيت من عاشوراء سنة افتصد عجيف مولى أمير المؤمنين.
قال أبو العيناء: قال أبو توبة القاص: احمدوا ربكم، تشترون شاة سوداء، وتعلفونها حشيشاً أخضر، وتحلبونها لبناً أبيض، وتتبخرون في ثيابكم فيعبق البخور، وتفسون في ثيابكم فلا يعبق.
قال أبو العيناء: رأيت رجلاً وقد حمل كرة بنصف درهم، فلما أراد الرجوع اكترى إلى ذلك الموضع حماراً بأربعة دوانيق.
قال أبو العيناء: كتب بعض الهاشميين إلى السندي بن شاهك: بسم الله وأمتع بك؛ إن أخانا أحد خادمي أخذ رجلاً من الشرط بسبب كلب يقال له موسى، وموسى عندنا ليس بذاعر، فإن رأيت أن تأمر بسبيل تخليته فعلت إن شاء الله.
قال أبو العيناء: كتب أبو جعفر ابن المتوكل إلى أبي أحمد ابن الموفق: أطال الله بقاءك يا عمي، وأدام عزك وأبقاك، أنا وحق النبي صلى الله عليه وسلم أحبك أشد من المتوكل، وأشد من والدي، ولا أحتشمك أيضاً، وقد جابوا لك مطبوخ من عكبرا، فأحب أن تبعث إلي منه خمس دنان، وإلا ثلاث خماسيات، ولا تردني فأحرد، بحياتي.
قال علي بن عبيدة الريحاني: في جوهر من خلا أنت، وفي محل من مات مقيم.

قال الأصمعي: كان بالبصرة أعرابي من بني تميم يطفل على الناس، فعاتبته في ذلك فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا وضع الطعام إلا ليؤكل، وما قدمت هدية فأتوقع رسولاً، وما أكره أن أكون كلا ثقيلاً على من أراه بخيلاً وأقتحم عليه مستأنساً، وأضحك إن رأيته عابساً، فآكل برغمه وأدعه لغمه، وما احترق في اللهوات طعام أطيب من طعام لا تنفق فيه درهماً، ولا تعني إليهخادماً، ثم أنشد: الخفيف
كل يوم أدور في عرصة الحي ... ي أشم القتار شم الذئاب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو ختان أو مجمع الأصحاب
لم أروع دون التقحم لا أر ... هب دفعاً أو لكزة البواب
مستهيناً بما هجمت عليه ... غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منه ... كل ما قدموه لف العقاب
ذاك أدنى من التكلف والغر ... م وغيظ الخباز والقصاب
قال الأصمعي: رأيت أعرابية بالنباج فقلت لها: أتنشدينني؟ فقالت: إيها والله، إني لأنشد وأقول، فقلت: فأنشديني، فقالت: البسيط
لا بارك الله فيمن كان يخبرني ... أن المحب إذا ما شاء ينصرف
وجد المحب إذا ما بان صاحبه ... وجد الصبي بثديي أمه الكلف
فقلت: فأنشديني من قولك، فقالت: الوافر
بنفسي من هواه على التنائي ... وطول الدهر مؤتنف جديد
ومن هو في الصلاة حديث نفسي ... وعدل الروح عندي بل يزيد
قال أبو العيناء: سمعت الأصمعي يقول: رأيت أعرابياً يرفع صوته على وال صرفه عند جعفر بن سليمان فقال: والله إنه ليقبل الرشوة، ويقضي بالعشوة، ويطيل النشوة، ولقد بنى حماماً زندقة وكفراً.
قال الأصمعي: جلس إلي رجل تقتحمه العين، والله ما ظننته يجمع بين كلمتين، فاستنطقته فإذا نار تأجج، فقلت: أتحسن شيئاً من الحكمة تفيدنيه؟ فقال: الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، والعطية بعد المنع أحمد من المنع بعد العطية، والإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه؛ قال: فعظم والله في عيني حتى ملأ قلبي هيبة.
قال الأصمعي: حججت، فبينا أنا بالأبطح إذا شيخ في سحق عباء، صعل الرأس أثط أخزر أزرق، كأنما ينظر من فص زجاج أخضر، فسلمت فرد علي التحية، فقلت: ممن الشيخ؟ قال: من بني ضمرة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، قلت: فما الاسم؟ قال: خميصة بن قارب. ثم قال: أعرابي أنت؟ قلت: نعم، قال: من أية؟ قلت: من أهل البصرة، قال: فإلى من تعتزي؟ قلت: إلى قيس عيلان، قال: لأيهم؟ قلت: أحد بني بغيض، وأنا أقلب ألواحاً معي، قال: ما هذه الخشبات المقرونات؟ قلت: أكتب فيهن ما اسمع من كلامكم، قال: وإنكم مخلون إلى ذلك؟ قلت: نعم وأي خلة، فصمت ملياً ثم قال في وصف قومه: كانوا كالصخرة الصلدة تنبو عن صفحتها المعاول، ثم زحمها الدهر بمنكبه فصدعها صدع الزجاجة ما لها من جابر، فأصبحوا شذر مذر، أيادي سبا، ورب قوم - والله - عارم قد أحسنوا تأديبه، ودهر غاشم قد قوموا صعره، ومال صامت قد شتتوا تألفه، وخطة بوس قد حسمها أسوهم، وحرب عبوس ضاحكتها أسنتهم، أما والله يا أخا قيس لقد كانت كهولهم جحاجح، وشبانهم مراجح، ونائلهم مسفوح، وسائلهم ممنوح، وجنابهم ربيع، وجارهم منيع. فنهضت لأنصرف فأخذ بمجامع ذيلي فقال:اجلس لقد أخبرتك عن قومي حتى أخبرك عن قومك، فقلت في نفسي: إنا لله، سينشد في قيس والله وصمة تبقى على الدهر، فقلت: حسبك، لا حاجة بي إلى ذكرك قومي، قال لي: بلى والله، هم هضبة ململمة، العز أركانها، والمجد أغصانها، تمكنت في الحسب العد، تمكن الأصابع في اليد؛ فقمت مسرعا مخافة أن يفسد علي ما سمعت.

قال أبو عطاء مولى عتبة: قدم علينا ابن عباس سنة إحدى وأربعين وهو كالقرحة المنبجسة، وكان عتبة قليل الكلام، فنظر ابن عباس إلى عتبة يحد النظر إليه ويقل الكلام معه، فقال: يا أبا الوليد، ما بالك تحد النظر إلي وتقل الكلام معي؟ ألعقلة طالت أم لموجدة دامت؟ فقال عتبة: أما قلة كلامي معك فلقلته مع غيرك، وأما كثرة نظري إليك فلما أرى من أثر سبوغ النعمة عليك، ولئن سلطت الحق على نفسك لتعلمن أنه لا يعرض عنك إلا مبغض، ولا ينظر إليك إلا محب، ولئن كان هذا الكلام شفى منك داء، وأظهر منك مكتوماً، فما أحب غيره؛ فقال ابن عباس: أمهيت يا أبا الوليد، - يقال أمهيت الحديدة إذا حددتها - أي بلغت الغاية في الغدر، ولو كنت على يقين مما ظننت بك لكفاني، أو لأرضاني دون ما سمعت منك، فتبسم معاوية ثم قال: الرجز
دعوت عركاً ودعاً عراكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا
من ينك العير ينك نياكا
لا تدخلوا بين بني عبد مناف، فإن الحلم لهم حاجز، والداخل بينهم عاجز، وإن فطنة ابن عباس مقرونة بعلمه، ثم تمثل: الطويل
سمين قريش مانع منك شحمه ... وغث قريش حيث كان سمين
قال ابن عائشة، قال عمرو بن عبيد: تعريف الجاهل أيسر من تغيير المنكر.
قال بعض الموالي لعمرو بن عتبة: يا مولاي، أعتقني أعتقك الله من النار، فقال له: يا بني، إنك لم تخرف، أي لم تدرك - يقال: أخرفت النخلة إذا بلغت أن تخرف - فقال: يا مولاي، إن التمرة تجتني زهراً قبل أن تكون مغراً، فقال: قاتلك الله ما أحسن ما استعتقت، قد وهبتك لواهبك لي.
قال محمد بن سلام، قال نحوي لرجل: أتشتعر حمارك؟ أي تعلفه الشعير. سألت الثقة عن هذا فأبى وقال: هو منكر، ولعله مقيس على كلام العرب، وهو مجهول الأصل.
قال العتبي: سأل أبي رجل عن السرور فقال: هو أن تنال ما تحب وإن قل، فإن من فارق ما يحب صار إلى ما يكره، والمحبة لا تختار الكثير رغبة عن القليل، ولا تغرب عن القليل اختياراً للكثير، ولكنه أطباع مختلفة، وأهواء مؤتلفة، توصف بجملتها، ويضيق القول في تفسيرها، وتوصف إذا كان، ولا تعرف بصفة قبل أن تكون.
قال العتبي لابنه: يا بني، اجعل دنياك وصلة إلى دينك، ولا ترض بها عوضاً منها، فإن الله تعالى لم يرضها ثواباً لمن رضي عنه من أهلها، ولا عقاباً لمن سخط عليه فيها.
قال العتبي: كان عمي ينفق ماله كأنه مال أعدائه، فكلمته زوجته في ذلك فقال: البسيط
هبت تلوم وتلحاني على خلق ... عودته عادة والخير تعويد
قلت اتركيني أبع مالي بمكرمة ... يبقى ثنائي بها ما أورق العود
إنا إذا ما أتينا أمر مكرمة ... قالت لنا أنفس عتبية عودوا
يقال: من الشعر القديم قول القائل: الخفيف
عين جودي على عبيل وهل ير ... جع ما فات فيضها بانسجام
عمروا يثرباً وليس بها شف ... ر ولا صارخ ولا ذو سنام
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام
ولي عبد الملك بن عمير القضاء بعد الشعبي فقال هذيل الأشجعي: الطويل
أتاه وليد بالشهود يسوقهم ... على ما ادعى من صامت المال والخول
يقود إليه كلثما وكلامها ... شفاء من الداء المخامر والخبل
فأدلى وليد عند ذاك بحجة ... وكان وليد ذا مراء وذا جدل
وكان لها دل وعين كحيلة ... فأدلت بحسن الدل منها وبالكحل
وما برحت تومي إليه بناظر ... وتومض أحيانا إذا خصمها غفل
فأفتنت القبطي حتى قضى لها ... بغير قضاء الله في محكم الطول
فلو كان من في القصر يعلم علمه ... لما استعمل القبطي فينا على عمل
له حين يقضي للنساء تخاوص ... وكان وما فيه التخاوص والحول
إذا ذات دل كلمته بحاجة ... فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
وبرق عينيه ولاك لسانه ... يرى كل شيء ما خلا شخصها جلل
قال أبو العتاهية: الهزج
فصغ ما كنت حليت ... به سيفك خلخالا
فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتالا

كان شريح إذا جلس للقضاء يلهج بهولاء الكلمات: سيعلم الظالمون حظ من نقصوا، إن الظالم ينتظر العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر.
كان الشعبي يقول في القاذف: يقبل اله تعالى توبته وتردون شهادته؟ وكان يقول: تقبل شهادته إذا تاب.
قال عبد الرحمن الأعرج: لا تجوز شهادة الظنة والحنة والجنة.
كان العشبي يجيز شهادة الرجل على شهادة الرجل إذا كان قد مات، ولا يجيز شهادته إذا كان حياً ولو كان بالصين.
قال الأعمش: أخبرني تميم بن سلمة أن رجلاً شهد عند شريح وعليه جبة ضيقة الكمين، فقال شريح: أتتوضأ وعليك جبتك؟ قال: نعم، قال: احسر عن ذراعيك، فحسر فلم يبلغ كم جبته إلى نصف الساعدين، فرد شهادته.
وكان شريح يقول إذا ما أتاه الشاهدان: ما دعوتكما ولا أنها كما أن ترجعا إن شئتما، وما أنا أقضي على هذا المسلم، إن يقض عليه إلا خيركما، وإني متق بكما فاتقيا.
كان الشعبي يقول: إذا ارتهن الرجل الجارية فقبضها فليس للراهن أن يقربها حتى يفتكها.
قال ابن سيرين: كان لرجل قبل رجل حق إلى أجل، فغاب، فأتى أهله فتقاضاهم حقه على صاحبه، فقضوه إياه قبل محله؛ ثم إن الرجل قدم فأخبروه، فخاصمه إلى شريح، فقال شريح: رد على الرجل ماله، ولحبسه بقدر ما تعجلته قبل محله.
قال زياد بن سليمان: أمر ابن عمر رجلاً أن يشتري له متاعاً، فاشتراه له، ثم أتاه فرضيه ابن عمر ودفع إليه الثمن، فانطلق إلى صاحبه فدفع إليه الثمن واستوضعه دينارين ثم أتى بهما ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر: قد رضينا المتاع، فبأي شيء تأخذ هذين الدينارين؟ ردهما على الرجل.
قال: وأمر رجلاً أن يشتري متاعاً فاشتراه، فدفع إليه الثمن فقال: انطلق فادفعه إلى صاحبه، فلم يفعل، واحتبس الدراهم عنده، فلما طال على صاحب المتاع جاء إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، أريد أن أذكر لك شيئاً وأنا منه مستحي، قال: ما هو؟ قال: ثمن ذلك المتاع، قال: أو ما دفعه إليك فلان؟ قال: لا، فأرسل إليه فقال: ما منعك أن تدفع إلى الرجل ماله؟ أعطه مثله فليحبسه بقدر ما احتبست عندك من حقه.
قال: ومات مولى له فأتى بميراثه فاشترى به رقاباً فأعتقهم.
ساوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعرابياً بفرس له، فلما قامت على ثمن أخذها عمر على أنه فيها بالخيار، إن شاء أمسك وإن كره رد، فحمل عمر عليها رجلاً فسورها، قال: فوقع في بئر فهلكت الفرس، فقال الأعرابي: ضمنت فرسي يا أمير المؤمنين قال: كلا إني لم أضمنها قال الأعرابي. فاجعل بيني وبينك رجلاً من المسلمين، فجعلا بينهما شريحاً، فقص عليه القصة فقال: ضمنت يا أمير المؤمنين فرس الرجل لأنك أخذتها على شيء معلوم فأنت لها ضامن حتى تردها عليه؛ قال: فقبل ذلك عمر رضي الله عنه وبعث شريحاً على قضاء الكوفة.
قال الشعبي: لما بعث عمر رضي الله عنه شريحاً على قضاء الكوفة قال له: ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيه لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله، وما يتبين لك في السنة فاجتهد برأيك.
قال شريح: الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق من الجار، والجار أحق ممن سواه.
قال أبو العيناء: كتب زنقاح الهاشمي إلى علي بن يحيى المنجم: بسم الله الرحمن الرحيم، أستوهب الله تعالى المكاره كلها يا سيدي فيك برحمته: أحب سيدي أنت أن تسقيني زبيب وعسل، فإن عندي رجل يشرب المطبوخ إن شاء الله.
قال أبو العيناء: وكتب أيضاً صديق له: فدتك نفسي برحمته، أنا وحدي والجواري عندي، وأنا وإسحاق وأبي العباس في البستان، موفقاً إن شاء الله.
قال أبو العيناء: وكتب أيضاً إلى صديق له يستعير دابة: أردت الركوب في حاجة إن شاء الله، فكتب إليه الرجل: في حفظ الله.
قال أبو العيناء: شكا بعض جيران محمد بن عبد الله بن المهدي أذى غلمانه للجيران وسأله أن ينهاهم، فكتب إليه محمد: صبحك الله، أنا في الخبر عن شكوى الغلمان بسبب الجيران وهو مملوكين، وكم ثمن دارك، ولو مثل قصر الخليفة حتى لم أكن أمتنع من هبتها لغلامك، ولو خرجت عن دخول بغداد، أي والله؛ ولو كنت حارسي الكلب إذا كنت غاسياً عنها، وأعوذ بالله لو كلمتك عشر سنين، فانظر الآن أنت إلي، علي المشي إلى بيت الله، أعني به الطلاق وثلاثين حجة أحرار لوجه الله، وسبيلي في دواب الله فعلت، موقناً إن شاء الله.

قال العتابي: ابتلي بعض ملوك الأعاجم بصمم فقال لهم: إن كنت أصبت بسمعي، فلقد متعت ببصري، ثم نادى مناديه: من ظلم فليلبس ثوباً مصبوغاً، وليقم حتى أراه فأدعوه به، وأنظر في أمره.
قال بعض أهل اللغة في شيات الدواب: إذا لم يكن بالدابة شية فهو بهيم، ومن الشيات: القرحة، وهو بياض كالدرهم بجبهة الفرس، يقال فرس أقرح، فإذا سال البياض على وجهه ولم ينتشر فهو أغر شمراخ، فإذا انتشر في الوجه وذهب عرضاً فهو أغر شادخ، فإذا كان في وجهه بياض كثير أوسع وأكبر من القرحة فهي الغرة؛ فإذا كان البياض في العينين فهو مغرب، وإذا كان البياض بمقدار الدرهم على الجحفلة فهو أرثم، وإذا كان البياض في حد واحد فهو ملطوم، وإذا كان البياض في البطن فهو أنبط، وإذا كان أبيض القوائم فهو محجل، وإذا كان بإحدى رجليه بياض فهو أرجل، وإذا كانت رجلاه بيضاوين قيل: به شكال، وإذا كانت رجل واحدة بيضاء فهو اليمنى أو اليسرى، وإذا كان أبيض اليدين فهو مقيد، وإذا كان البياض وإذا كان البياض في اليدين وفي رجل قيل محجل بثلاث ومطلق واحدة بيد واحدة فهو اعصم وإذا كان في اليد اليمنى والرجل اليسرى قبل: به شكال مخالف.
قال: ومن الألوان: الأدهم وهو الأسود، والأدغم وهو الديزج إلى الحمرة يضرب، والأحمر وهو أدنى شيء إلى الدهمة، وكميت أشقر يعلوه سواد أو أصفر أشقر، وفرس ورد وهو بين الكميت والأشقر، والأشهب: الأبيض، والملمع: الذي في جسده لمع متفرقة، والغيهب: أشدها سواداً، والأدهم: الأدغم وهو الذي لون وجهه ومناخره ديزج، وأدهم أورق وهو الذي يشبه الرماد، وأحوى أحم وهو الذي بين الدهمة والخضرة، وأحوى أكهب وهو قلة الماء وكدورة اللون، وكيمت أحم وهو قريب من الحوى، وكميت عندمي وهو كأنه خضب بالحناء يضرب إلى الصفرة، والورد الأغبس وهو السمند، وأبرش ألمع وهو الذي يجتمع فيه من كل لون نكتة، وأشهب أحمر وهو الذي يعلوه سواد، وأبلق مطرف وهو الذي اسود رأسه وذنبه أو احمر أو ابيض، وأبلق مولع وهو الذي بلقه يتشحط في استطالة، والأصدأ الذي قد اشتدت حمرته حتى قاربت السواد، والمبرقع: الذي قد ابيض وجهه، والأشعل: الذي في ذنبه وهج، والصنابي على لون الخردل.
ويقال: أزرق العين اليمنى واليسرى، أو بخده الأيمن أو الأيسر، أو بكلفه سمة أو دارة، فإذا لم يكن من ذلك شيء فهو غفل؛ والذي يشبه الجلجون وسمند بالسواد وأشهب الحمرة وسمند ببياض، والمغرب الذي تبيض أشفار عينيه.
قال القاضي أبو حامد: حضرت مجلس ابن المغلس وعلي إذ ذاك مئزران، فرأيت شيخاً بهياً قد وشحته الطرز، وذاك انه كانت عليه عمامة مطرزة، وإزار مطرز، وقميص مطرز وهو على مساور مطرزة، وكان يتكلم في التيمم ويقول: التيمم إلى الكوع، وإن إطلاق اليد في الآية إلى الكوع ينتهي، فقلت: أنا أكلمك، إن ظاهر الآية ينتهي إلى المرافق، فقال لي: أنا لا أكلم من ليس طبقته طبقتي، فقلت: ولا تكلم أيضاً إلا من ثيابه ثيابك، وشيبته شيبتك، فقام إليه إنسان ووصفني له فقال: هات كلامك.
سمعت أبا حامد يقول: كلمت ابن المغلس في القياس فقال: لا يخلو إيجاب الربا في البر من معان، إما أن يحرم بالمعنى وحده، أو بالاسم والمعنى، أو بالاسم دون المعنى، قال: فإن قلتم بالاسم، أو بالاسم والمعنى، فالاسم غير موجود في الأرز، وإن قلتم بالمعنى فما الفائدة في النص على اسم البر، وقد كان يمكن أن ينص على العلة؟ قال أبو حامد: فقلت له: إن الله وصف القرآن فقال: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " آل عمران: 7 فبين أن منها ما يجل ومنها ما يدق، ثم فضل العلماء بعضهم على بعض، ولم يكن هذا الفضل إلا لاجتهادهم في إدراك المتشابه، فنص على البر ليتفاضل في إدراك المعنى ويكثر صواب من أصاب الحق، ولو لم يكن ذلك كذلك لسقط العلم؛ قال أبو حامد: قال ابن المغلس: كيف يصح القول بالمعاني وقد كانت موجودة قبل الشرع ولا حكم، فسكت.

قال أبو حامد: سأل رجل جعفر بن محمد فقال له: ما الدليل على الله تعالى ولا تذكر لي العالم والعرض والجسم؛ فقال له: هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: فهل عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق؟ قال: نعم، قال: فهل انقطع رجاؤك من المركب ومن الملاحين؟ قال: نعم، قال: فهل تتبعت نفسك أن ثم من ينجيك؟ قال: نعم، قال: فإن ذلك هو الله تعالى. قال الله عز وجل: " ضل من تدعون إلا إياه " الإسراء: 67، وقال: " ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " النحل 53.
تكلم الداركي الفقيه يوماً في مجلس ابن معروف، وكان على قضاء القضاة - أعني ابن معروف - وكان ابن الدقاق يكلمه، فلحن الداركي، فقال له ابن الدقاق: لحنت، فقال الداركي: رايت أبا الفرج المالكي يناظر أبا إسحاق المروزي فقال له في النظر: إنك تلحن، فلو أصلحت من لسانك، فقال له أبو إسحاق: هذا أول انقطاعك، لأنك تعلم أني قد لحنت قبل هذا مراراً فلم تنكر علي، لما لزمك المعنى الآن صرت تعيب علي اللفظ، ثم قال الداركي: أنا ألحن وألحن، ولكن كلموني على المعاني إن كان لكم إليها سبيلاً.
كذا قال، وقد مضغ الداركي ذات بطنه بهذا الكلام، لأن المعاني ليست في وجهة والألفاظ في جهة، بل هي متمازجة متناسبة، والصحة عليها وقف، فمن ظن أن المعاني تخلص له مع سوء اللفظ وقبح التأليف والإخلال بالإعراب فقد دل على نقصه وعجزه.
سمعت أبا حامد يقول: قدمت امرأة بعلها إلى أبي عمر القاضي فادعت عليه مالاً فاعترف به فقالت: أيها القاضي، خذ بحقي ولو بحبسه، فتلطف بها لئلا تحبسه فأبت إلا ذلك، فأمر به، فلما مشى خطوات صاح أبو عمر بالرجل وقال له: ألست ممن لا يصبر على النساء؟ ففطن الرجل فقال: بلى، أصلح الله القاضي، فقال: خذها معك إلى الحبس، فلما عرفت الحقيقة ندمت على لجاجها وقالت: ما هذا أيها القاضي؟ فقال لها: لك عليه حق وله عليك حق، وما لك عليه لا يبطل ما له عليك، فعادت إلى السلاسة والرضا.
نظر عمر بن الخطاب إلى رجل يظهر النسك، متماوت، فخفقه بالدرة وقال: لا تمت علينا ديننا أماتك الله.
اعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة من أمر بلغه عنه، فعذره ثم قال: يا هذا لا يحملنك الخروج من أمر تخلصت منه على الدخول في أمر لعلك لا تتخلص منه.
وكان الرشيد يأتزر في الطواف، فيدير إزاره ويباعد بين خطاه، فإذا رجع بيده كاد يفتن من رآه، فعند ذلك مدح وقيل فيه: المتقارب
جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النغم
ويخطو على ألأين خطو الظليم ... ويعلو الرجال بخلق عمم
قال يعقوب: يقال للرجل: صعد في الجبل وأسهل في الحضيض، وقال: يقال: صعد فيه البصر وصوب؛ وقال: الإيماض خطرات البرق.
لما قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك قام يزيد بن الوليد بن عبد الملك فخطب وقال: والله ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولا حرصاً على الدنيا ولا رغبة في المال، وما بي إطراء نفسي، وإني لظلوم لها إن لم يرحمني الله، ولكني خرجت غضباً لله ولدينه، وداعياً إلى كتاب الله جل وعز وسنة نبيه صلى الله عليه، إذ انهدمت معالم الهدى، وطفئ نور التقوى، وظهر الجبار العنيد مستحلاً كل حرمة وراكباً كل بدعة، لا يصدق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفيي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله عز وجل في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك بقوة الله وحوله، لا بقوتي وحولي. أيها الناس: إن لكم علي ألا أضع حجراً على حجر، ولا أستأثر بذهر، ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد، حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل شيء نقلته إلى البلد الذي يليه لأهل الحاجة إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل عل أهل جزيتكم ما يجليهم ويقطع نسلهم، وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن وفيت لكم بذلك فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أف لكم فلكم أن تخلعوني، إلا أن تستتيبوني فأتوب، فإن علمتم أن أحداً يوثق من صلاحه، ويعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم وأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من بايعة ودخل في طاعته.

أيها الناس، إنه لا طاعة لخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء بنقض عهد الله تعالى، فمن أطاع الله فأطيعوه، فإذا عصى الله فهو أهل أن يعصى ويقتل؛ أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم، إنه واسع كريم.
قال فيلسوف: من نظر بعين الهوى حار، ومن حكم على الهوى جار.
قال أعرابي: ربما أبصر الأعمى رشده، وأضل البصير قصده.
قال يحيى بن خالد: من بر العامة مدح، ومن توقاها حمد، ومن حماها رأس، ومن نصب لها افتضح، ومن تتبع عيوب الناس سقطت مروءته.
قال عمر بن شبة، قال أعرابي سئل عن حاله: إن لي قلب نزوعاً، وطرفاً دموعاً، فما يصنع كل واحد منهما بصاحبه، على أن داءهما دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما.
قال رجل لذي النون: دلني على عمل واختصره، فقال له: قف طرفك في آلاء الله وعظمته حتى كأنك مشاهد لمسألته، فإنك إذا فعلت ذلك حسمت عينيك عن النظر، وقلبك عن المطالبات للمعاصي بالفكر.
قال بعض النساك لجارية: ما أحسن ساعدك؟ قالت: أجل لكنه لمن يخص به، فغض بصر جسمك عما ليس لك حتى ينفتح لك بصر عقلك، فترى ما لك وما ليس لك.
وقال بعض الصوفية: عشق العين سريع الانحلال بطيء العودة، فاحذر أن يؤول بك إلى عشق القلب فيصعب المرام.
رأى سقراط رجلاً من تلامذته يتفرس في وجه أورجيا، وكانت فائقة الجمال، فقال له: ما هذا الشعل الذي قد منعك الروية والفكر؟ فقال: أتعجب من آثار حكمة الطبيعة في صورة أورجيا، فقال له: لا يصيرن نظرك مركباً لشهوتك، فيجمح بك في الوحول اللازبة، ولتكن نفسك منك على بال، فإن آثار الطبيعة في أورجيا الظاهرة تمحق بصرك، وإن فكرك في صورتها الباطنة يحد نظرك.
قال مسلم الخواص، قلت لمحمد بن علي الصوفي أوصني، فقال: إياك وإعمال النظر إلى كل ما دعاك إليه طرفك، وشوقك إليه قلبك، فإنهما إن ملكاك لم تملك شيئاً من جوارحك حتى تبلغ كرهاً ما يطالبانك به، وإن ملكتهما كنت الداعي لهما إلى ما أردت، فلم يعصيا لك قولاً، ولم يرداً لك أمراً.
نظر محمد بن سيار الصوفي إلى أبي المثنى الشيباني وقد كرر النظر فيوجه غلام أمرد فقال له: إياك وإدمان النظر، فإنه يكشف الخبر، ويفضح الستر، ويطول به المكث في سقر.
قال فيلسوف: العيون طلائع القلوب أرتج على عبد الله بن عامر بن كريز وهو على منير البصرة في يوم أضحى، فسكت ملياً ثم قال: والله لا أجمع عليكم عياً ولؤماً، من أخذ شاة من السوق فهي له، وثمنها علي.
قال أبو العنبس الصيمري: أنا وأخي توأمان، وخرجت أنا وهو من البصرة في يوم واحد وساعة واحدة، ودخلنا سر من رأى في يوم واحد، فولي هو القضاء، وصيرت أنا صفعان، فمتى يصح أمر النجوم؟ كان عبد الملك بن مروان إذا أراد أن يولي رجلاً عمل البريد سأل عن صدقه ونزاهته وأناته، ويقول: كذبه يشكك في صدقه، وشرهه يدعوه في الحق إلى كتمانه، وعجلته تهجم بمن فوقه على ما يؤثمه ويندمه.
كان حاتم إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا سوبق سبق، وإذا أسر أطلق.
لما قدم طلحة والزبير البصرة قام مطرف بن عبد الله بن الشخير خطيباً في مسجدها فقال: أيها الناس، إن هذين الرجلين - يعني طلحة والزبير - لما أضلا دينهما ببلدهما جاءا يطلبانه في بلدكم، ولو أصاباه عندكم ما زاداكم في صلاتكم ولا صومكم ولا زكاتكم ولا في حجكم ولا في غزوكم، وما جاءا إلا لينالا دنياهما بدينكم، فلا يكونن دنيا قوم آثر عندكم من دينكم، والسلام.
اشترى معاوية جارية وعنده صعصعة بن صوحان فقال له: كيف تراها؟ فقال: أراها فاترة الطرف، ذات شعر وحف، وفم ألمى كأقاحي تندى في رجراج الثرى، رضا العين مقبلة، وشفاء النفس مدبرة، إن تم منها شيء واحد، قال: ما هو؟ قال: المنطق إن عذب، فاستنطقت فلما نطقت قال: شهي كمجاج نحل جني، فهل عنها يا أمير المؤمنين مزحل؟ فقال: أما دون أن نبلو الخبر ونقضي الوطر فلن تدركها.
سمعت بعض العلماء يقول: لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام، وإلا فهي خوان، ولا يكون الرمح رمحاً حتى يكون عليه سنان إلا فهي قناة، ولا تكون الكأس كأساً حتى يكون فيها شراب وإلا فهو قدح، ولا تكون الأريكة أريكة حتى تكون عليها حجلة وإلا فهو سرير، ولا تكون الذنوب ذنوباً حتى يكون فيها ماء وإلا فهي دلو، وكذلك السجل، ولا تكون الشعيلة شعيلة حتى يكون فيها نار وإلا فهي فتيلة.

قال يحيى بن خالد: احرس عقلك من شهوتك، وشيبك من عادتك، ونفسك من الآثام، وبدنك من الهموم، وصمتك من التيه، وكلامك من الزلل، ولا حراسة إلا بأناة.
قال أعرابي: اللهم اغفر لي، فإن عدت إلى الذنب فعد بالغفران قبل أن يفنى الأمل، وينقطع الأجل.
كاتب: كتب فلان محشوة من فصها إلى مقاطعها بذكرك وشكرك.
وأنشد: الطويل
هي الخمر في حسن وكالخمر ريقها ... ورقة ذاك اللون في رقة الخمر
فقد جمعت فيها خمور ثلاثة ... وفي واحد سكر يزيد على السكر
قال أبو العيناء: سمعت إبراهيم بن المهدي يقول: وذكر عفو المأمون عنه فقال: والله ما عفا عني تقرباً إلى الله، ولا صلة للرحم، ولكن قامت له سوق في العفو فكره أن تكسد بقتلي؛ قال: فذكرت هذا الحديث ليعقوب بن سليمان بن جعفر فقال: " قتل الإنسان ما أكفره " عبس: 17، أما المأمون فقد والله فاز بحفظها، كفر من كفر، وشكر من شكر.
قال الأصمعي: افتقر أعرابي وساءت حاله، فكان يسأل ويقول: الرجز
ألا فتى أروع ذو جمال ... من عرب الناس أو الموالي
يعينني اليوم على عيالي ... وصبية قد ضاق عنهم مالي
وساقهم جدب وسوء حال ... إليكم يا سادة الرجال
فقد مللت كثرة السؤال ... والله يجزيكم على الإفضال
قال أبو العيناء، حدثنا الأصمعي قال: لما أفضى الأمر إلى معاوية تكافت الشعراء عن مدحه حتى بدر الأخطل ذات يوم وعليه ثوب خز ومطرف خز وعمامة خز، فركدبين الصفين ثم قال: الكامل
تسمو الوفود إلى إمام عادل ... معطى المهابة نافع ضرار
وترى عليه إذا العيون شزرنه ... سيما الحليم وهيبة الجبار
فتهافت الناس بعده في مدحه.
قال الأصمعي: استأذن الشعبي على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل فأذن له، فلما مثل بين يديه قال: أنا الشعبي يا أمير المؤمنين، قال عن علم بك أذن لك، قال الشعبي: فعقدت أولة إلى أن قال: من أشعر الناس؟ فقال الأخطل: أنا ولم أعرفه فقلت: كذبت يا شيخ، امرؤ القيس أشعر منك، قال: صدقت، ولكن أمير المؤمنين سألني عن أهل زمانه فخبرته، فإذا كذبت امرءاً فاعرف ما خطب قولك، فعقدت في يدي ثانية أخطأت فيها، فنهض الشيخ فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين، فوجم، وعلمت أني قد أخطأت ثالثة، إذ صيرت أمير المؤمنين ولي مسألتي، فالتفت إلي عبد الملك فقال لي: هذا الأخطل؛ يا شعبي، لا يهولنك ما كان منك، فإن مع خطائك صواباً كثيراً.

قال الزبيري: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن الهيثم عن أبيه قال: كان المنصور ضم الشرقي بن القطامي إلى المهدي حين وضعه بالري، وأمره أن يأخذه بالحفظ لأيام العرب ومكارم أخلاقها ودراسة أخبارها وقراءة أشعارها، فقال له المهدي ذات ليلة: يا شرقي، ارح قلبي الليلة بشيء يلهيه، قلت: نعم أصلح الله الأمير، ذكروا أنه كان في ملوك الحيرة ملك له نديمان قد نزلا من قلبه منزلة نفسه عند نفسه، فكانا لا يفارقانه في لهوه وبأسه ومنامه ويقظته، وكان لا يقطع أمراً دونهما ولا يصدر إلا عن رأيهما، فغبر كذلك دهراً طويلاً؛ قال: فبينما هو ذات ليلة في شغله ولهوه إذ غلب عليه الشراب فأثر فيه تأثيراً أزال عقله، فدعا بسيفه فانتضاه وشد عليهما فقتلهما، وغلبته عيناه فنام، فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بما كان، فأكب على الأرض حزناً لهما وأسفاً عليهما وجزعاً لفراقهما، امتنع من الطعام والشراب، وتسلب عليهما، ثم حلف ألا يشرب شراباً يخرج عقله ما عاش، وواراهما وبنى على قبريهما قبتين، وسن ألا يمر بهما أحد من الملك فمن دونه إلا سجد لهما، وكان إذا سن الملك سنة توارثوها وأحيوا ذكرها وأوصى بها الآباء أعقابهم؛ قال: فغبر الناس بذلك دهراً لا يمر بالقبر أحد صغير ولا كبير إلا سجد لهما، فصار ذلك سنة لازمة، وأثراً كالشريعة والفريضة، وحكم في من أبى أن يسجد لهما بالقتل بعد أن يحكم له في خصلتين يجاب إليهما، كائناً ما كان؛ فمر بهما يوماً قصار ومعه كارة ثيابه، وفيها مدقته، فقال الموكلون بالقبرين للقصار: اسجد، فأبى أن يفعل، فقالوا: إنك مقتول، فأبى، فرفع إلى الملك وأخبر بقصته فقال: ما منعك أن تسجد؟ قال: قد سجدت ولكن كذبوا علي، قال: الباطل قلت، فاحكم في خصلتين فإنك تجاب إليهما وإني قاتلك، قال: ولا بد من قتلي بقول هؤلاء؟ قال: لا بد من ذلك، قال: فإني أحكم أن أضرب رقبة الملك بمدقتي هذه ضربتين، قال له الملك: يا جاهل، لو حكمت علي بما يجدي على من تخلف كان أصلح، قال: ما أحكم إلا بضربة لرقبة الملك، فقال الملك لوزرائه: ما ترون فيما حكم هذا الجاهل؟ قالوا: نرى أن هذه سنة أنت سننتها، وأنت تعلم ما في نقض السنن من العار والبوار وعظيم الإثم، وأيضاً فإنك متى نقضت سنة نقضت أخرى، ثم يكون ذلك لمن بعدك، فتبطل السنن، قال: فاطلبوا إلى القصار أن يحكم بما شاء ويعفيني من هذه فإني أجيبه إلى ذلك ولو بلغ شطر ملكي، فطلبوا إليه فأبى فقال: ما أحكم إلا بضربة في رقبته، فلما رأى الملك ما عزم عليه القصار قعد له مجلساً عاماً، وأحضر القصار فأبدى مدقته فضرب بها عنق الملك ضربة وخر الملك مغشياً عليه، فأقام وقيذاً ستة أشهر، وبلغت به العلة حداً كان يجرع فيها الماء بالقطن؛ فلما أفاق وتكلم وطعم وشرب سأل عن القصار، فقيل له إنه محبوس، فأمر بإحضاره وقال: قد بقيت لك خصلة فاحكم فإني قاتلك لا محالة، فقال القصار: فإذا كان لا بد من قتلي فإني أحكم أن أضرب الجانب الآخر من رقبة الملك ضربة أخرى، فلما سمع بذلك الملك خر على وجهه من الجزع فقال: ذهبت والله إذن نفسي، ثم قال للقصار: ويلك دع عنك ما لا ينفعك فإنه لا ينفعك ما مضى، فاحكم بغيره أنفذه لك كائناً ما كان، قال: ما أحكم إلا في ضربة أخرى، فقال الملك لوزرائه: ما ترون؟ قالوا: هذه السنة، قال: ويلكم، إنه والله إن ضرب الجانب الآخر لم أشرب البارد أبداً، لأني أعلم ما قد مر بي، قالوا: فما عندنا حيلة، فلما رأى ذلك قال القصار: أخبرني، ألم أكن سمعتك تقول يوم جاء بك الشرط إنك سجدت وإنهم كذبوا عليك؟ قال: قد كنت قلت ذلك فلم أصدق، قال: فكنت قد سجدت؟ قال: نعم، فوثب من مجلسه وقبل رأسه وقال: أشهد أنك أصدق من أولئك وأنهم كذبوا عليك، فانصرف راشداً، فحمل كارته ومضى.
فضحك المهدي حتى فحص برجليه وقال: أحسنت والله، ووصله وبره

قال يونس بن عبد الأعلى: قدم على الليث بن سعد منصور بن عمار يسمع الحديث منه، فقال له: إني قد أتيت شيئاً أريد أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني أن أذيعه، وإن كان مما تكرهه انزجرت، قال: ما هو؟ قال: كلام الفقه ومواعظ القصاص، قال: ليس شيء غير القرآن والسنة، وما خالف ذلك فليس بشيء، قال: فتستمع وتتفضل، وكان عنده جماعة فأشاروا عليه بان يسمع منه، فابتدأ بمجلس القيامة، فلم يزل الليث يبكي ومن معه، وأمره يذيعه ولا يضمره، ولا يأخذ عليه أجراً، ووهب له ألف دينار.
يقال إن منصور بن عمار كان كاتباً لأبي عبيد الله كاتب المهدي.
قال الزبير بن بكار: كانت الخيزران كثيراً ما تكلم موسى في الحوائج، وكان يجيبها إلى كل شيء تسأل عنه، حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته فانثال الناس عليها وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها؛ قال: فكلمته يوماً في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلاً، فاعتل فيه بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، قال: فغضب موسى وقال: ويلي على ابن الزانية، وقد علمت أنه صاحبها، والله لقضيتها لك، قالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبداً، قال: إذن والله لا أبالي، وغضب، وقامت مغضبة فقال: مكانك تستوعبي كلامي، والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني انه وقف أحد من قوادي وخاصتي وخدمي على بابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله، فمن شاء فليرم ذلك من هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم؛ أما لك مغزل فيشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك، إياك ثم إياك ما فتحت فاك في حاجة لملي أو ذمي والسلام. قال: فانصرفت وما تعقل ما تطأ، ولم تنطق عنده بحلو ولا مر بعدها.
قال أبو العيناء: كتب زنقاح الهاشمي - وهو محمد بن أحمد بن علي بن المهدي - إلى طبيبه: والك يا يوحنا، وأتم نعمته عليك، قد شربت الدواء خمسين مقعداً، والمغص والتقطع يقتل بطني، والرأس فلا تسل عنه، مصدعاً بعصابة منذ بعد أمس، فلا تؤخر احتباسك عني، فسوف أعلم أني سأموت وتبقى أنت فلا أنا، فعلت موفقاً إن شاء الله.
قال أبو العيناء: وكتب زنقاح إلى صديق له يسأله بخوراً: شممت اليوم منك، وحق الله، أعزك الله، رائحة طيبة، وذلك، وحياتك، باطراح الحشمة، موفقاً إن شاء الله.
قال رجل لأبي العيناء: كان أبوك أكمل منك، قال أبو العيناء: إن أبي كنت به ولم يك بي، وهو أولى بالكمال مني.
قال أبو العيناء: وقف علي أعرابي ما أحسبه بلغ ولا قارب، وخرج لي غلام أسود من الماء وقد اغتسل وهو يرعد، وكان غلاماً خبيثاً، فقلت وأومأت إلى الأسود: الرجز
كأنه ذئب غضى أزل
أجزيا يا غلام أهب لك، فقال:
بات الندى يضربه والطل
فعجبت من بديهته ووهبت له دراهم.
قال أبو العيناء: أقبل جحظة ذات يوم يعظ عبادة المخنث، فقال له عبادة: مخنث مسلم مقر، خير من زنديق فاجر مصر.
قال أبو العيناء: قلت لمديني شكا سوء الحال إلي: أبشر فإن الله قد رزقك الإسلام والعافية، قال: أجل، ولكن بينهما جوع يقلقل الكبد.
قال المبرد: كان في أخلاق الحسن بن رجاء شراسة وفي كفه ضيق، فكتبت إليه: الناس أعز الله الأمير رجلان: حر وعبد، فثمن الحر الإكرام، وثمن العبد الإنعام. فأصلحه الله بهذا القول لي ولغيري مدة، ثم رجع إلى طبعه.
قال المبرد: إذا قال الرجل شعراً أو وضع كتاباً استهدف، فإن أحسن استشرف، وإن أساء استقذف.
وذكر أبو العباس يوماً النحو فقال: هو عيار الأشياء، وحلي الألسن، وجلاء الأسماع.
وقال المبرد: أحسن المراثي ما خلط مدحاً يتفجع، واشتكاء بفضيلة، لأنه يجمع إلى التشكي الموجع مدحاً، والمدح الباذخ اعتباراً، فإذا وقع نظم ذلك بكلام صحيح ولهجة معربة ونظم غير متفاوت، فهو الغاية من كلام المخلوقين.
قال اللحياني: العرب تقول: فلان نادم سادم، وندمان سدمان، والمرأة ندمى سدمى، وقوم ندامى سدامى، والسادم: المهموم.
وقال بعضهم: الحزين وحيد محيد؛ وسليخ مليخ: الذي لا طعم له وأنشد: المتقارب
سليخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر
وفيه سلاخة وملاخة؛ ويقال مليه سليه.

قال: ويقال: بخ بخ وبه به إذا عظمت إنساناً، وعابس كابس؛ وحكي عن أعرابي: ما تصنع في ما كنك وسواك وغطاك وأرغمك وأدغمك؛ ويقال: رغماً دغماً شنغماً؛ ويقال: فعلت ذلك عن رغمه وشنغمه، ومعناه كله واحد؛ ويقال: إنه لفظ بظ؛ ويقال: له من فرقه أصيص وكصيص، أي انقباض وذعر؛ ويقال: يوم عك أك إذا كان شديد الحر، وليلة عكة أكة، وقد عكت تعك عكة، والعكة شدة الحر مع لثق واحتباس ريح؛ وهو لك أبداً سرمداً؛ وأنه لشكس لكس، أي عسر، ويقال للخب الخبيث: إنه لسملع هملع، وهو من نعت الذئب. هكذا قاله اللحياني.
وأنشد في كتاب الشدة: الطويل
ونوم كحسو الطير نازعت صحبتي ... على شعب الأكوار بين الحوارك
وشعث يشجون الفلا في رؤوسه ... إذا حولت أم النجوم الشوابك
إذا رجعوا وهناً كست حيث موتت ... من الجهد أنفاس الرياح الحواشك
طعنت بهم أثباج ليل تخدرت ... به القور يثني زمل القوم حالك
قال إبراهيم الخواص: العارف لا يكدره شيء، ويصفو به كدر كل شيء.
قال أبو حمزة: رأيت أبا جعفر الحداد في البادية، وقد انكسر ساقه وهو يتثنى ويجره فقلت له: جر البلاء جر، فإن البلاء ممدود، فالتفت إلي وقال: إنما تحمل بلاياه مطاياه.
وقال عيسى بن مريم عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة ليوم لم يره.
هلال بن العلاء: الطويل
تحمل إذا ما الدهر أولاك غلظة ... فإن الغنى في النفس لا في التمول
يزين لئيم القوم كثرة ماله ... وما زين الأخيار مثل التجمل
آخر: الرجز
تطاول الليل على من لم ينم ... واحتمت العين احتمام ذي السقم
لبشار: الرمل
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم
الجهار: التراب الدقيق، والمسحول أيضاً. والعشار: جمع عشراء، وهي الناقة التي قد مضى لها عشرة أشهر من لقاحها، والعشر: ضرب من الشجر، والعشر: الإبل تبقى تسعة أيام لا تسقى ثم ترد اليوم العاشر.
وأنشد أيضاً فيه: الكامل
أجنوب لو أبصرتني وفوارسي ... بالشعب حين تبادر الأشرار
سعة الطريق مخافة أن يهلكوا ... والخيل تتبعهم وهم فرار
حاشا الغلام المازني فإنه ... يوم الكريهة خلفهم كرار
حوس الفؤاد إذا الكماة تقارعوا ... لا طائش رعش ولا خوار
وكذاك كان أبوه في أعصاره ... يحمي إذا ما ضيع الإدبار
ويكر خلف الموجفين إذا دعوا ... كر المنيح أعاده الأيسار
أخاذ ألوية الحفاظ بحقها ... وبه يكون الورد والإصدار
في كل غمرة مأزق يصلى بها ال ... فرسان لا كشف ولا أغمار
يدعون سواراً إذا احمر القنا ... ولكل يوم عظيمة سوار
فيجيب أروع في اللقاء بخيله ... يحمى المضاف وتدرك الأوتار
حامي الحقيقة بالتراث مطلب ... للموت تحت لوائه صبار
إذ لا يزال مقلص عبل الشوى ... بجبينه ولبانه آثار
يدمين من وقع الأسنة والقنا ... وعلى فوارسها الكرام وقار
في فيلق لجب يشب ضرامه ... زرق الأسنة والقنا الخطار
والمعلمون على شوازب ضمر ... قد لاحها التعداء والتكرار
شبه السيوف تسل من أغمادها ... لا يجبنون ولا هم غدار
ورثوا المكارم كابراً عن كابر ... وإليهم بالصالحات يشار
قوم بهم منع الإله حماءه ... وبهم على الملك الغشوم يجار

هذه أبيات قرئت على السيرافي وأنا أسمع، من كتاب الشدة، ومد الحمى، وهو عند أصحابنا مقصور، والشعر عربي عليه فجاجة المحرمين وسيما العنجهيين، ولا يطرد على مثله اعتراض، بل الواجب أن يقتدي به ويرجع إليه؛ وفي الأبيات كلمات غريبة تقتضي التفسير، ولكن أكره التثقيل والتطويل، فإن الكتاب قد أسأم القارئ وأمل الناظر وخيب الطالب ومنع جانبه المستنسخ، والرأي فيما هذا حاله التخفيف والاسترسال، والأخذ بما أمكن في الحال، وعلى ذلك قد جرينا، وإليه انتهينا، والله المعين.
قال أبو العيناء في رجلين فسد ما بينهما: تنازعا ثوب العقوق حتى صدعاه صدع الزجاجة ما لها من جابر.
قال: وقيل لأعرابي وهو على ركية ماء ملح: كيف هذا الماء؟ فقال: يخطئ الفؤاد ويصيب الأست.
قيل لأعرابي: ما تقول في الجري؟ قال: تمرة وسنانة غراء الطرف، صفراء السائر، عليها مثلها من الزبد أحب إلي منه، وما أحرمه.
قال أعرابي: بأبي وأمي رسول رب العالمين، ختمت به الدنيا وفتحت الآخرة.
قال يوسف بن أسباط لعلي النسائي: يا أبا الحسن، أتدري لم اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال: لا، قال: قال الله تعالى: يا إبراهيم تدري لم اتخذتك خليلاً قال: لا، قال: لأنك تأخذ وتعطي.
قيل لأعرابي: لا أقل من الرجاء، قال: بلى والله، اليأس الصريح.
قال بعض أهل اللغة: المنسر: ما بين الأربعين إلى السبعين، والرعلة: ما بين السبعين إلى المائة، والمقنب: من المائة إلى المائتين، والخميس: الخمسمائة، والفيلق: الألف، والجحفل: أربعة آلاف.
شاعر: الهزج
إذا ما كنت ذا مال ... ولم تبن به مجدا
ولم تحي به ذكراً ... ولم تور به زندا
ولم تحرز به أجراً ... ولم تكسب به حمدا
فإن شئت فكن كلباً ... وإن شئت فكن قردا
وإن شئت فخنزيراً ... ترى أسنانه دردا
وإن شئت فكن هزلاً ... وإن شئت فكن جداً
وإن شئت فكن سلحاً ... إلى مخرأة يهدي
قال ابن عمار: تذاكرنا ضيق المنازل، فقال الجماز: كنا على نبيذ لنا، فكان أحدنا إذا دخل الكنيف وجاءه القدح مد يده إلى الساقي فناوله إياه.
قال الفزاري: رأيت مجنوناً يسوي رأس سكران ويقول: توبوا، والله لا أفلحت أبداً.
دخل لص دار قوم فلم يجد فيها شيئاً إلا دواة، فكتب على الحائط: عز علي فقركم وغناي.
لبعض الأشراف يصف كتاباً ورد عليه: الخفيف
صدف شق عن لآل ودر ... أم كتاب قد فض عن نظم شعر
وقواف مقومات لدى الأل ... باب موزونة بقسطاس فكر
أنشد لابن النقاش: الرجز
قلت لها لا تكثري ... خذي فؤادي أو ذري
حبك ما فارقني ... في سفري أو حضري
فليت شعري ما الذي ... عندك لي قالت حري
قلت: فهاتيه إذاً ... قالت: نعم في السحر
فلم أزل في ليلتي ... مغتبطاً بالنظر
حر كبير أملس ... في حسن وجه الخزر
مشاكل منظره ... لما أتى في الخبر
كأنه الأرنب في ... مجثمه للكبر
لم تر عيني مثله ... إلا حر أم البحتري
قال أعرابي لرجل: كن حلو الصبر عند مر النازلة.
سمعت أبا حامد يقول: قرأ عبد الله بن أحمد بن حنبل في الصلاة: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقيل له: أنت وأبوك على طرفي نقيض، زعم أبوك أن القرآن ليس بمخلوق، وأنت تزعم أن الرب مخلوق.
وحكى أيضاً أن المحاملي المحدث قرأ: وفاكهة وإباً، فقيل له: الألف مفتوحة، فقال: هو في كتابي مضبوط.
حكي أن ابن أبي حاتم الرازي قرأ: فصيام ثلاثة أيام في الحج وتسعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة، فقيل: ما أقل بصرك بالحساب.
قال أعرابي: اجتناب أفعاله العامة من المروءة التامة.
نظر مزبد إلى امرأته تصعد في درجة، فقال لها: أنت طالق إن صعدت أو وقفت أو نزلت، فرمت بنفسها من حيث بلغت فقال: فداك أبي وأمي، إن مات مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم.
وأنشد في سعد صاحب عبيد الله: الكامل
يا سعد إنك قد خدمت ثلاثة ... كل عليه منك وسم لائح

وبدأت تخدم رابعاً لتبيره ... رفقاً به فالشيخ شيخ صالح
يا حاجب الوزراء إنك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح
قال ابن أبي حية: كان عندنا شيخ من الشيعة يتأله، فرأى ابنه يوماً وقد أدخل غلاماً ليعبث به فقال: ما هذا يا فاسق؟ قال: إنه ناصي، قال: فادخل عليه ابن الفاجرة.
دعا محمد المخلوع عبد الله بن أبي عفان ليصطبح فأبطأ عنه، فلما جاء قال: أظنك أكلت؟ قال: لا والله، قال: أتصدق؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فدعا بحكاك فحك أضراسه السفلى، فلما ذهب ليحك العليا قال: يا أمير المؤمنين دعها لغضبة أخرى.
قال أبو مسعود الكسائي: دخلت طاقات العلز فوطئت في شيء حار، فمسسته فإذا هو لين، فشممته فإذا هو منتن، فذقته فإذا هو مر، فنظرت إليه في السراج فإذا هو أصفر، فأريته أبا الشيص فإذا هو خرا، وأنا لا أعرفه.
قال أهل اللغة: التمتمة: الترديد في التاء، والفأفاة: في الفاء، والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة: تعذر الكلام، واللفف: إدخال حرف على حرف، والرتة: كالرتج يمنع منه، واللكنة: اللغة الأعجمية، واللثغة: عدل حرف إلى حرف.
قال أعرابي: العذر الجميل أحسن من المطل الطويل، فإن أردت الإنعام فأنجح، وإن تعذرت الحاجة فأفصح.
لجعيفران الموسوس: المجتث
يا سيدس وأليفي ... ومؤنسي وحليفي
أيست من كل خير ... عند ابن سعد الوصيفي
خرجت لا بطفيف ... ولا بغير طفيف
إلا طعاماً يسيراً ... خلفته في الكنيف
أبو العنبس: الهزج
أنا أفديك من بطن ... وثلثاك حر تحتي
وشفران غليظان ... قويان على النحت
أنا أدفع من فوق ... وهي تدفع من تحت
أعرابي:
جارية إحدى بنات الفرس ... تحمل معشوقاً وطيء الجس
يطلى بمسك أذفر وورس ... أولجت فيه أعجراً كالقلس
يشبه في العين بني عرس
أعرابي: الرجز
جارية من شعب ذي رعين ... قد خرجت من أهلها بعيني
يا قوم خلوا بينها وبيني ... أشد ما خلي بين اثنين
آخر: الرجز
جارية من مالك بن مالك ... عزت عن الحسن ولم تشارك
ويحك يا أختي لم بدا لك ... إن تفعلي الخير فقد أنى لك
والله ما أمدح من نوالك ... ولا عطاء من جزيل مالك
بيدك اليمنة ولا شمالك ... إلا امتلاء العين من جمالك
ويلي عليك وعلى أمثالك
أعرابي: الرجز
جارية إحدى بنات الحيره ... ترفل بالعجيزة الكبيره
تأتي الذي تأتيه بالبصيره ... بالركب الوافر ذي الوثيره
تربو لدى النائك كالخميره ... طيبة الخلوة والسريره
تنبأ رجل أيام المأمون فقال: أنا أحمد النبي، فحمل إليه فقال له: أمظلوم أنت فتنصف؟ فقال له: ظلمت في ضيعتي، فتقدم بإنصافه، ثم قال: ما تقول؟ قال: أنا أحمد النبي، فهل تذمه أنت؟ سئل إبراهيم النخعي عن رجل يحيل صاحبه في حقه على رجل آخر، فقال، قال شريح: هو كابن الظئرين يرضع من أيهما شاء.
أتى رجل إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: إن هذا زعم أنه احتلم على أمي، قال: أقمه في الشمس واضرب ظله.
وسئل الشعبي عن رجل مر بغنم فعقره كلبها فقال: إن كان هو الداخل على الغنم فلا ضمان على صاحب الغنم، وإن لم يكن داخلاً عليها فعقره الكلب فصاحب الكلب ضامن.
أسماء مكة: مكة وبكة والنساسة وأم رحم وأم القرى ومعاد والحاطمة؛ ومن أسماء المدينة: طيبة ويثرب.
قيل: العلم يمنح ممتهن نفسه في طلبه صبابة لا إذالة معها، ويصفيه نعمة لا إحالة لها.
قال اللحياني: ويقال إنه أحمق بلغ ملغ - بالكسر فيهما جميعاً، والملغ النذل؛ وإنه لمعفت ملفت إذا كان يعفت كل شيء ويلفته أي يدقه؛ وإنه لسغل وغل، وساغل واغل بين السغولة والوغولة؛ ويقال: ما عنده تعريج على أصحابه ولا تعريج أي إقامة؛ وإنه حقير نقير، وحقر نقر؛ وإنه لعفريت نفريت، وعفرية نفرية.

ويقال: تركتهم في حيص بيص وكصيصة الظبي، وفي حيص بيص أي تركتهم في ضيق، وحكي: تركتهم في حيص بيص؛ وكصيصة الظبي وكصيصه: موضعه الذي يكون فيه.
قال ملك من ملوك الأعاجم: قد خفت أن يكون المظلوم يحجب عني، فجعل لبعض بيوته باباً إلى الطريق، ثم نادى مناديه: من ظلم فليقف حيال هذا الباب إلى الطريق مرة في كل يوم، فمن رآه واقفاً بحياله دعاه فنظر في أمره؛ وكان ذلك الباب يسمى: درسيو ميدان.
قال أنوشروان: قد خفت أن يحجب عني المظلوم، فعلق على أقرب البيوت إلى بيته ستراً، وعلق عليه الأجراس، ونادى مناديه: من ظلم فليحرك هذا الستر حتى أسمع صوت الأجراس فأدعو به.
قال يعقوب: أغرت على العدو إغارة وغارة، ومثلها: أجبته إجابة وجابة، وأجرته أجيره إجاره وجاره، وأعرته عارة وإعارة، وأطفته إطافة وطافة، وأطعته إطاعة وطاعة.
شاعر: الوافر
أحن إليكم إن غبت عنكم ... وما أنا إن دنوت بمستريح
وآتيكم على علم بأني ... أؤوب بحسرة القلب القريح
قال عبد الصمد بن المعذل: هذه القصيدة مما ظلم صاحبها وأخمل ذكره، وصيرها شاذة لا يعرف قائلها، ولولا كراهتي ظلم الأدب لادعيتها، وهي: الكامل
ولقد قضيت من المدامة والصبا ... وطراً ولاعبت الغزال الأكحلا
ومججت في فيه العقار ومجه ... في في ثم غمزته فتدللا
وأتيت أخرى فانثني متمايلاً ... فلثمت خداً وارتشفت مقبلاً
وأباحني من ريقه بلسانه ... عذباً يراح له الفؤاد معسلا
ولويت معصمه فصد بوجهه ... خجلاً ومال وساءني أن يخجلا
كمطوقين تدانيا فتقابلا ... حتى إذا خافا الأنيس تزيلا
فعففت عنه وقد قدرت ولم أزل ... آتى الأعف من الأمور الأجملا
ولقد أروح إلى الندامى لاحفاً ... للأرض هداب الإزار مرجلا
ولقد أنازعها على علاتها ... متراخياً سبط البنان مرفلا
مستهلكاً للمال في لذاته ... يمضي للذته ويعصي العذلا
وإذا لحاه العاذلون وأكثروا ... ولى وقال رؤوسكم والجندلا
عاطيته مما تعتق بابل ... صهباء أرخت عظمه والمفصلا
جريالة تحذي اللسان كأنما ... ذرت مرارتها عليها الفلفلا
طبخت بنار الشعريين ومسها ... برد الشمال فباخ منها ما علا
ومضت لها حجج فمدت دونها ... ستراً بنته العنكبوت مهلهلا
حتى إذا فضت تضوع ريحها ... وكأن تفاحاً بها وسفرجلا
وكأن نكهتها إذا هي صفقت ... مسك يخالط عنبراً وقرنفلا
طابت وأدمنها فأرخت طرفه ... فيخال أحول وهو ليس بأحولا
وأقول: ها خذها إليك وعاطني ... فيقول: هات وكان قبل يقول: لا
ما زلت أعدل بالزجاجة ميله ... حتى تقوم ميله فتعدلا
وإذا الزجاجة عقدت من صعبه ... ناولته أخرى بها فتحللا
داويته منها بها فشفيته ... وشحذت منه بالأخير الأولا
وجرت مجاريها الشمول فسهلت ... من طبعه ما خفت أن لا يسهلا
فكأنه والتاج فوق جبينه ... قمر تراءته العيون مكللا
ولقد شربت بكاسها وبطاسها ... وعدلت بالقاقوزنين القنقلا
وشفيت منها واشتفيت ولم أدع ... في لذة لي بعدها متعللا
يا صاحبي قفا نحي المنزلا ... وتلبثا لي ساعة لا تعجلا
إني تذكرني المنازل أهلها ... فيشوقني ألا أعوج فأسألا
قال القاسم بن عبد الرحمن: اشترى رجل من رجل شاة فوجدها تأكل الذبان، فخاصمه إلى شريح فقال شريح: لبن طيب وعلف مجان.
وقال الحسن البصري: ما أحرزت أم الولد في حياة سيدها فهو لها.
قال الشعبي: من ربط دابة على طريق من طرق المسلمين فهو ضامن.
قال قتادة في الطبيب إذا بط فقتل: هو ضامن إذا أخذ أجراً.

قال حمزة الزيات عن حمران بن أعين: إن رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليه يا نبيء الله، وهمز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لست بنبيء الله ولكن نبي الله.
قال بعض العلماء: أفما ترى إلى إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم الهمز، لأنه لم يجعله من أنبأتك بالأمر، ولا يجوز أن يكون ذهب إلى ترك الحجازيين للهمز، لأنه لو ذهب إلى ذلك كان نبي الله إذا أعطى الحرف حقه، ونبييء الله إذا خفف، فكيف يقول: لست بنبيء الله، وقوله الحق.
قال الأصمعي: سمعت مولى لآل عمر بن الخطاب يقول: أخذ عبد الملك رجلاً كان يرى رأي الخوارج فقال: ألست القائل: الطويل
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال الرجل: إنما قلت: ومنا - أمير المؤمنين - شبيب - بالنصب - أي يا أمير المؤمنين، فخلى سبيله؛ قال ابن قتيبة: أما ترى تيقظه ونقله الكلام بالإعراب عن سبيل هلكته إلى سبيل تجاته؟ وهل يجوز لذي تمييز ولب أن يقول إن هذا لا يعرف المعنى الذي فرق بين الإعرابين؟ وبلغني أن أعرابياً سمع مؤذناً يقول: أشهد أن محمداً رسول الله - بالنصب - ، فقال: ويحك! يفعل ماذا؟ لأنه إذا رفع كان خبراً، وإذا نصب كان وصفاً فاحتاج الكلام إلى خبر، قال: ومثل هذا في الكلام الذي يتم وينقص بالإعراب قولك: كان عبد الله أخانا، هذا كلام تام، فإنك رفعت الأخ نقص الكلام فاحتاج إلى الخبر.
وأم الحجاج قوماً فقرأ: " والعاديات ضبحاً " العاديات: 1، فقال في آخرها " أنَّ ربَّهم " - بالنصب - ثم تنبه على اللام في لخبير، وأن إن قبلها لا تكون إلا مكسورة فحذف اللام فقال: خبير، فكان نقص الكلام أسهل عليه من اللحن.
قال رجل لأعرابي: كيف أهلك؟ فقال الأعرابي: صلباً، ظن أنه سأل عن هلكته كيف تكون، وإنما سأله عن أهله.
قال: وهذا وأشباهه يدلك على معرفة العرب بالمعاني التي اختلف لها الإعراب، وتلك المعاني هي العلل.
وقالت بنت لأبي الأسود لأبيها: ما أطيب الرطب؟ فقال: جنس كذا، أرادت التعجب وذهب هو إلى الاستفهام.
فأما الرفع والنصب والخفض والهمز والإدغام والإمالة وأشباه ذلك فألقاب وضعها النحويون للمتعلمين من العجم والمنطيقيين ليقربوا بها عليهم البعيد ويجمعوا الشتيت، فإذا قال المعلم للمتعلم: حركة كذا رفع، وكل فاعل رفع، وحركة كذا نصب، وكل مفعول به نصب، وحركة كذا جر، وكل مضاف مجرور، وكذا ظرف، والظرف منصوب، وكذا حال، والحال منصوب، كفاه بهذه الجمل على كثرته واعتبار بعضه ببعض؛ وأما العرب فإنها لا تعرف مواضع هذه الألقاب: قيل لأعرابي: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذن لرجل سوء.
وقيل لآخر: أتجر فلسطين؟ قال: إني إذن لقوي.
وقيل لآخر: أتهمز الفارة؟ قال: الهرة تهمزها.
فكلاهما عرف موضع الهمز، إلا أنه لم يعلم الموضع الذي وضعه النحويون.
ولم يؤت المبطلون للعلل في غلطهم على العرب إلا من جهة الألقاب، لأنهم رأوا التحويين يقولون: رفعت العرب كذا بكذا، ورأوا العرب لا تعرف الرفع ولا النصب ولا الجر، فقضوا عليهم بالكذب وعلى عللهم بالبطلان، ولو أنعموا النظر لميزوا بين المعنيين، ومثل هذا كمن يحيل على العرب بالاستدلال من غير سماع منها لاشتقاق في الجوارح أنها اليدان والرجلان، لأن الاجتراح الاكتساب، وهي الكواسب، وكذلك الجراح في البدن هي الجنايات؛ وتقول في جلده الحد إنه إصابة الجلد بالضرب، لما سمعنا العرب تقول: رأسه وبطنه، قلنا كذا جلده، أي أصاب جلده.
قال بعض السلف: إذا عشت عيش السفهاء ومت موت الجهال، فماذا ينفعني ما جمعت من غرائب العلم؟ مدح أعرابي قوماً فقال: أدبتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تغرهم السلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع به الناس مسافة آجالهم، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال.
دخل أبو حفص الكرماني على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في المداعبة؟ فقال: وهل العيش إلا فيها، قال: يا أمير المؤمنين، ظلمتني وظلمت غسان بن عباد، قال: ويلك، وكيف ذلك؟ قال: رفعت غسان فوق قدره، ووضعتني دون قدري، إلا أنك لغسان أشد ظلماً، قال: وكيف؟ قال: لأنك أقمته مقام هزؤ وأقمتني مقام رحمة، فقال المأمون: قاتلك الله ما أهجاك.

قيل لأعرابي: ما وقفك ها هنا؟ قال: وقفت مع أخ لي يقول بلا علم، ويأخذ بلا شكر، ويرد حشمة.
قال الأصمعي: وصف رجل طعاماً علمه، فقال له أعرابي: هل دعوت عليه أحداً من جيرانك؟ قال: لا، قال: فهل أطعمت يتيماً؟ قال: لا، قال: فجعله الله في بطنك حشاً وقذاذاً.
قال عدي بن حاتم لابن أقيصر: كيف ترى فرسي هذا؟ قال: ما أرى به بأساً إلا انه يعثر، قال: وما يدريك؟ قال: شعرته ميتة لم ينضجها الرحم، فكان كما قال.
قال أبو حاتم: قيل لميمون بن مهران: إن رقية امرأة هشام ماتت فأعتقت كل مملوك لها، قال ميمون: يعصون الله مرتين، يتجملون به وهو في أيديهم بغير حق، فإذا صار لغيرهم أسرفوا فيه.
وأنشد: البسيط
عندي لراجي من ثنتين واحدة ... رد جميل وإرفاق بما أجد
معجل ذاك أو هذا فلا تعب ... ولا عناء ولا من ولا نكد
قال العتبي: خطب زياد الناس فقال: الأمور جارية بأقدار الله، والناس متصرفون بمشيئة الله، وهم بين متسخط وراض، وكل يجري إلى اجل وكتاب، ويصير إلى ثواب وعقاب، ألا رب مسرور لا نسره، وخائف من ضرنا لا نضره.
قال الرياشي: مدح أعرابي رجلاً فقال: كان يفتح ببياته مغلق الحجة، ويسد على خصمه سواء المحجة، ويقبل من العار وجوهاً مسودة، ويفتح للبر أبواباً منسدة.
أنشد أبو عمرو بن العلاء لنهار بن توسعة: الطويل
أمية يعطيك اللها ما سألته ... وإن أنت لم تسأل أمية أضعفا
ويعطيك ما أعطاك جذلان ضاحكاً ... إذا عبس الكز اليدين وقفقفا
هنيئاً مريئاً جود كف ابن خالد ... إذا الممسك الرعديد أعطى تكلفا
قيل لعلي بن أبي طالب: ما بين الخلج وبين قريش؟ فقال: ما بين جحفلة الحمار وخرطوم الخنزير.
قال أبو عثمان النهدي: كان عمر ميزاناً لا يقول هكذا ولا هكذا.
قال الشعبي: دعا عمر حجاماً ليأخذ من شعره، فتنحنح عمر فضرط الحجام، فأعطاه أربعين درهماً.
قال أبو عمران الجوني: جاء يهودي إلى عمر بالشام فقال: يا أمير المؤمنين، أهذا في العدل؟ أخذتم كسبي وأنا قوي، حتى إذا ما كبرت سني، وضعف ركني، تركتموني أهلك ضيعة؟! فقال عمر: ما أنصفناك، ففرض له فريضة وأمر عامله أن شهراً بشهر.
قال ابن عباس: خطب عمر فقال: إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة مفسدة للجسم مؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد من السرف وأصح للبدن وأقوى على العبادة، وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
ابن المعتز: الوافر
إذا ما المرء خلف أطيبيه ... وأخلق بعد ملبوس جديد
تعذرت الحياة عليه إلا ... حشاشات تردد في الوريد
ويمشي حين يمشي من قريب ... وينظر حين ينظر من بعيد
قال ابن المعتز: ذكرت العراق لمخنث من أهل حمص فقال: لعن الله العراق، لا يشرب ماؤها أو يصلب، ولا يشرب نبيذها أو يضرب.
وقال الصوفي: هي الشميطاء الخرفة، والعجوز المتدللة، والعمياء المكتحلة، والشلاء المختضبة، هواؤها دخان، ونسيمها ضرام، تنقبض فيها أنفس المستغنين، وتصغر فيها أنفس المفضلين، تجارها أسد مفترسون، وصناعها لصوص مختلسون، وهمجها أعفار متسرعون، وجارها حاسد، وهواؤها فاسد.
وقال الصوفي: في عرق أهل بغداد زيت.
لما بنى محمد بن عمران اليزيدي قصره حيال قصر المأمون قيل له: يا أمير المؤمنين باراك وباهاك، فدعاه وقال له: لم بنبت هذا القصر حذائي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أحببت أن ترى أثر نعمتك علي غدوة وعشية فجعلتها نصب عينيك، فاستحسن قوله وأجزل عطيته.
لما بنى الحجاج قصره قال له رستم الدهقان: اكسه وحله، قال: بماذا؟ قال: اكسه بالجص وحله بالنقش، ففعل.
وقال الحجاج لإسماعيل بن الأشعث، وكان يحمق: كيف ترى قصري؟ قال: أرى قصراً أستعظم المؤونة على من أراد هدمه، قال: قبحك الله، ويلك، ما خالف بك إلى ذكر الهدم؟! قال أعرابي: أعطت الدنيا ثم استرجعت، والدنيا لئيمة الاقتضاء.

قال عبد الله ابن المعتز: قال الجاحظ عن بعض أصدقائه، قال: رأيت لبعض الملوك تختين من جلدتي حنش، قال: ورأيت في زمان أبي حباباً يمنعني صباي في ذلك الوقت من أن أحكم لطولها بعشرين ذراعاً، وقد قاربتها في ظني، وكنت أراها في صحن الكامل ملقاة قد أمنوا انسيابها وضياعها من كبرها، ورأيت عناقاً لها شهر ولها ضرع تحتلب، ورأيت شظية من ضرس يكون فيها خمسة أرطال.
قال ابن المعتز: كتب إلي القاسم بن أحمد الكاتب رقعة يسألني فيها أن أبعث له بسنور: تعمد أن تكون من الإناث العفيفات عن الأقذار، مساورة فراخ الأطيار، وكشف القدور، وسوء الآثار فيما يحضر من الطعام، وبلاحظ من الالتقام، بمداومة الصفاء والاضطرام، وحرصاً على الظفر بما يظهر، والاحتواء على ما يدخر.
قال عبد الله بن المعتز: أخبرني بعض الكتاب أن أبا العباس ابن الفرات أعلمه أن قيم الفيلة بسر من رأى أخبره أن الفيل يأكل أربعمائة وخمسين رطلاً ويشرب ألفاً وخمسمائة رطلاً من الماء والنبيذ.
قال، وقال الصوفي: ما في الرؤيا أصح من الجنابة.
قال عبد الله: كتب ابن المهدي لأبي يعقوب الخريمي في الشطرنج: الوافر
وخيل قد رأيت إزاء خيل ... تساقي بينها كأس الذباح
بميمنة وميسرة وقلب ... كتعبئة الكتائب للنطاح
إذا ما قتلوا نشروا وعادوا ... صحاحاً لم يصابوا بالجراح
بغير عداوة كانت قديماً ... ولكن لتلذذ والمزاح
وقال عبد الله بخطه، قال رجل لعلي بن أبي طالب عليه السلام: متى أضرب حماري؟ قال: إذا لم يذهب في حاجتك كما ينصرف إلى البيت.
قال بعض ولاة الحجاج: إن رأى الأمير أن يستهديني ما شاء فليفعل، قال أستهديك بغلة على شرطي، قال: وما شرطك؟ قال: بغلة قصير ثفرها، طويل عنانها، همها أمامها، وسوطها لجامها، ما تستبين منها الغفلة، ولا تهز لها الركبة.
العتابي: البسيط
طاف الخيال بنا ليلاً فحيانا ... أهلاً به من ملم زار عجلانا
ما ضر زائرنا المهدي تحيته ... في النوم إذ زارنا لو زار يقظانا
أنى اهتدى وسواد الليل معتكر ... على تباعد مسراه ومسرانا
إن الأماني قد خيلن لي سكناً ... ردت تحيته قلبي كما كانا
حتى إذا هو ولى وانتبهت له ... هاجت زيارته شوقاً وأحزانا
قال رقبة بن مصقلة: ما رأيت مثل هؤلاء الذين يتكئون في المسجد، فإذا حضرت الصلاة قال أحدهم: ما نمت، وقد خري.
قال عبد الله بخطه، قال علي بن محمد بن نصر: الوافر
وكان خيالها يشفي سقاما ... فضنت بالخيال على الخيال
وقال التمار: الوافر
قطعت بها تنائف كل سهب ... وقد قبض الكرى مهج النيام
وقال، قال بعض الظرفاء: للنبيذ حدان: حد لا هم فيه، وحد لا عقل معه، فعليك بالأول واتق الثاني.
وقال ابن المعتز، قال الصوفي وفي يده قدح دو شاب: هذا الليل إذا عسعس؛ وأومأ بيده إلى قدح مطبوخ، وقال: وذاك الصبح إذا تنفس.
قال: وسألته عن أبي جهل وأبي لهب أيهما خير؟ فقال: كلاهما يواري سوءة أخيه.
قال حماد، قلت لإبراهيم: رجل شرب عشرة أقداح فلم يسكر، فشرب أحد عشر سكر، ما الذي حرم عليه؟ قال: القدح الذي أسكره.
قال عبد الله، أنشد علوي عمرياً: الكامل المجزوء
وإذا طرقت فما حضر ... وإذا دعوت فلا تذر
قال: وذاك مأخوذ من قول علي بن أبي طالب عليه السلام: إذا طرقك إخوانك فلا تدخر عنهم ما في المنزل، ولا تكلف ما وراء الباب.
قال جحظة: دعاني فلان فقدم إلي قلية من سنجاب وقطائف ممقورة، أي قدمت حتى حمضت.
كان بعضهم ينفخ زبد القدح ويقول: إذا شرب هذا اجتمعت منه ضرطه.
وقال بعضهم: ليكن النقل كافياً وإلا أبغض بعضنا بعضاً.
قال، وقال بعض الظرفاء: لا أحب المتبختر إلى المستراح والداعي بالرطل بعد خروجه مه بقليل، فإن ذلك من فعله يخبر بالراحة مما لقي.
قال، وقال بعضهم: إذا جمشت فلا تنهب مثل المجنون، ولكن لسع وطر.
وقال آخر: أحب المتبختر في السمط.
قال، وقيل لبعضهم: ألا تصلي؟ قال: ألا يكفيني أن أدوس الأرض حتى أنطحها؟! شاعر: الطويل

إذا ما بحثت الناس عن سر أمرهم ... وفتشت عن مكتومهم جاءك الهم
فعاشر على الإجمال كل مصاحب ... بإظهاره خيراً يكون له سلم
ولا تكشفن الدهر عن سر صاحب ... فترجع حرباً أو عدواً له رغم
قال، وكان على فص أبي العتاهية: أبا زند تق، فكان الناس يتأولونه: أنا زنديق؛ واسم أبي العتاهية زند.
قال، وقال بعضهم: يجتمع في الفرش الطبري فضيلتان في الصيف: برد جسمه، ومجانسة لونه لون الحبة الخضراء، فالنفس تسكن إليه من جهتين.
قال، وقال الصوفي: في النبيذ الدوشاب في الشمس بستندود.
قال، وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي لسعيد بن وهب: انزل حتى أطعمك طعاماً صرفاً، وأسقيك نبيذاً صرفاً، وأغنيك غناء صرفاً، فأطعمه الكباب، وسقاه نبيذاً صرفاً بغير مزاج، وغناه مرتجلاً.
وقال بعضهم: باب السلامة الاقتصاد.
وقال بعض الموسومين بالبخل: فرحة السكر قلة الاحتشام، وفرحة الخمار قلة الإنفاق.
وقال آخر: من كثرت نفقته كثر ندمه، ومن كثر ندمه قلت دعواته.
قال، وقال الصوفي: من جلس على المائدة فأكثر كلامه غش بطنه.
قال علي بن محمد بن نصر: الخفيف
اطرد الهم بالمدامة واعلم ... أن في الراح راحة للنفوس
رب هم أشد من غصص المو ... ت وجدنا دواءه في الكؤوس
وقال أعرابي يحذر قومه وقد صافوا بعض أصحاب السلطان: يا قوم، أحذركم من نشاب معهم في جعاب كأنها نيوب الفيلة، وقسي كأنها العتل، ينزع أحدهم فيها حتى يتفرق شعر إبطه، ثم يرسل نشابة كأنها رشاء متقطع، فما بين أحدكم وبين أن تصدع قلبه منزلة، أو تغلغل في امته حاجز؛ قال: فطاروا والله رعباً قبل اللقاء.
قال العباس بن عبد المطلب يوم حنين: الطويل
وكيف رددت الخيل وهي مغيرة ... بزوراء تعطي في اليدين وتمنع
كأن السهام المرسلات كواكب ... إذا أدبرت عن عجسها وهي تلمع
قال، والعرب تقولك البازي أعجمي، والصقر عربي، والكلاب للصعاليك والفتيان.
قال، وقال أبو حاتم: حدثني فتى من موالي الأنصار قال: بلغني أن عصفوراً كان واقعاً على شجرة، فجاءت حية فصعدت تريده، فلما دنت منه طار وطلب حسكة وجاء بها في منقاره، وأرتقت الحية حتى دنت منه، فلما فتحت فاها ألقى فيها الحسكة، فما زالت تعالجها حتى ماتت.
قال الأصمعي: اتخذ أعرابي كلباً فقيل له: أما علمت أن الملائكة لا تدخل داراً فيها كلب؟ قال: وما أصنع بالملائكة؟ يرون أسراري ويحصون علي.
قال عبد الله، قال بعض الملاح: إن الناس قد مسخوا خنازير، فإذا وجدت كلباً فتمسك به.
وقال: سألت العقيلي كيف تصيدون القطا فقال: ننصب الشباك على الحسي أو الحوض ونطويه ليناً بغير لف حتى يطيع الجاذب، ونجعل تحته عصاً ترفعه، فإذا أخذن الماء جذبنا العصا بحبل في آخرها فوقعت وامتدت أثناء الشباك، فإذا هن يتبحبحن حوله.
قال أبو حاتم: تسمى الرخمة حفصة، وتكنى بأم عجيبة.
قال: وسكن بعض الظرفاء طرفاً من أطراف بلدة كثيرة الخراب، فسمع بعض أهله صوت رخمة، فصاح بها وطردها فقال: لا تنكروا هذا منها، فإنا نحن النازلون عليها، وإنما ينكر صوتها في العمران، فأما الخراب فإن أصواتنا فيه أنكر من صوتها.
قال: وكان بالمدينة رجل من موالي قيس أعرج، وكان مليحاً، فرأى طائراً لبعض موالي هشام بن عروة في القفص فقال: يا أبا المنذر، برئت إلى الله إن كنت رأيت طائراً أملح منه، كأن جناحيه جناحا شاهين، وكأن ذنبه ذنب خطاف، وكأن عينيه عينا غرنوق، وكأن منقاره منقار باز، وإذا هدر تدلى عن حمام، فقال هشام: يسرك أنه لك؟ قال: وددت أنه لي وأن قلفتي مثل المنارة أختن منها كل يوم أنملة.
؟وصف بعضهم طائراً فقال: كأنما ينظر من جمرتين، ويتنفس من تحت درتين، ترويه الغبة، وتكفيه الحبة، إذا أرسل سموه، وإذا أقبل فدوه.

؟قال، وحدثني ابن حمدون قال: كنت قدام المتوكل يوماً، فرأى في البستان طواويس قد نشرت، فأراد أن يقول: قد تشوشت هذه الطواويس، فقال: قد تطوست، فقلت أنا: هذه التشاويش، فنظر إلي وسكت، فلما شرب وعمل فيه النبيذ سمعني وأنا أقول سراً وأتبسم: قد تطوست هذه التشاويش فقال: هيه يا ابن حمدون، قد تطوست هذه التشاويش!! ولم يزل يرددها وأكاد أن أموت خوفاً، والفتح يدخل بيني وبينه ويسكنه حتى نسيها وشغل عنها.
انتهى ما حكيناه عن ابن المعتز.
يقال: كان على خاتم أبي نواس: إخوان هذا الزمان دود وورد وزوان.
قال نطاحة: ليس للمضطر اختيار ولا عليه اعتذار.
وقال نطاحة: سلطان العقل على باطن العاقل أشد من سلطان السيف على ظاهر الأحمق.
قال أسد بن عمرو: دخل قتادة الكوفة فنزل دار أبي بردة، فخرج عليهم وقال: لا يسألني أحد عن مسألة من الحلال والحرام إلا أجبته، فقام أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب، ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواماً فظنت امرأته أنه قد مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول وقد ولدت ولداً، فنفاه الأول وادعاه الثاني، فكل واحد منهما قذفها أو قذفها الذي أنكرها، ما جوابها؟ ونظر أبو حنيفة إلى أصحاب قتادة وقال: إن قال فيها برأيه ليخطئن، وإن روى فيها حديثاً ليكذبن، فقال قتادة: ويحك، أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: ولم تسأل عنها؟ قال أبو حنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه، فقال قتادة: والله لا حدثتكم بشيء من الحلال والحرام، فسلوني عن التفسير؛ فقام أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب، ما تقول في قول الله تعالى: " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " النمل: 40 قال: نعم هذا آصف بن برخيا كاتب سليمان، وكان يعلم اسم الله الأعظم، قال: وهل كان يعرف الاسم سليمان؟ قال: لا، قال: أفيجوز أن يكون في زمان نبي من هو أعلم من النبي؟ قال قتادة: والله لا حدثتكم بشيء من التفسير، سلوني عما اختلف فيه العلماء؛ فقام أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب، أمؤمن أنت؟ قال: أرجو، قال: ولم؟ قال: لقول الله تعالى: " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " الشعراء: 82 قال أبو حنيفة: فهلا قلت كما قال إبراهيم حين قال الله تعالى: " أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " البقرة: 260 فقام قتادة مغضباً، وحلف أن لا يحدثهم بشيء البتة.
وأنشد: الطويل
وبيت خلا من كل خير فناؤه ... فضاق علينا وهو رحب الأماكن
كأنا مع الجدران في جنباته ... دمى في انقطاع الرزق لا في المحاسن
سمعت أبا الجياب يقول: أنا لا اشتهي أنيك غلاماً ...... يقول.... نعمة؛ وكان يقول: ما عرفنا الإدخال ببغداد حتى جاءنا الديلم.
قال أبو الغادي: سمعت غلاماً ظريفاً بخراسان يقول: لا تؤاجروا إلا مع الشيخ والغريب: الشيخ يموت، والغريب يغيب.
لمنصور:الطويل
بإصغاء من يهوي إليك بخده ... لتلثمه عند الفراق على رعب
تجاوز لنا عن سالف الذنب منعاً ... وزرنا فقد تبنا من الذنب
وأنشد لأبي علي ابن مقلة: الخفيف
لست ذا ذلة إذا عضني الده ... ر ولا شامخاً إذا واتاني
أنا نار في مرتقى نفس الحا ... سد ماء جار مع الإخوان
وأنشد أبو الفضل ابن العميد: الطويل
فما مغزل ترعى وهاداً خصيبة ... تهامية أجنى بشامها
بأحسن لا والركن من أم هاشم ... إذا التثمت أو زل عنها لثامها
لقد خفت نفسي أن تكون شقية ... بحبيك هذا أو يلم حمامها
فيا لك عيناً بالدموع شقية ... ويا لك نفساً مستباناً سقامها
قالت قوادة: عندي والله حر أضيق من قلب البخيل، يعلوه وجه أحسن من العافية، بحلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة، وتخنيث طويس، أجمع هذا كله في بدن واحد بأصفر سليم، قيل لها: وما أصفر سليم؟ قالت: دينار يومك وليلتك.
قال رجل لجارية: أيري يقرأ على حرك السلام، قالت: حري لا يرد السلام إلا مشافهة.
قال رجل لطبيب: أجد قرقرة وبربرة وجرجرة في بطني، فقال الطبيب: لا بأس عليك، هذا ضراط لم ينضج بعد.

سمعت مخنثاً يشتم آخر ويقول: يا سفل السفل، انظروا يا قوم إلى فمه كأنه فقحة، انظروا إلى عينيه كأنهما خصيتين في است ملاح، يا طاعون يا ملمع، يا أوحش من هول المطلع، يا زحير الحاج، يا خرا الأعلاج، يا مصاص الأوداج، رأين في بطنك ألف خراج.
لا تنكر لحناً في خلاله فذاك هو المنقول.
قال عبد الله بن عمرو بن العاصي: من عجائب الدنيا مرآه كانت معلقة بمنارة الإسكندرية، فكان الإنسان يجلس تحتها فيرى من بقسطنطينية وبينهما عرض البحر؛ وفرس من نحاس بأرض الأندلس عليه راكب من نحاس يشير بكفه أن ليس خلفي مسلك، ولم يسلك أحد وراءه إلا هلك؛ ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد، فإذا كانت الأشهر الحرم هطل منها الماء فيشرب الناس ويسقون نعمهم ويملأون حياضهم، فإذا انقضت الأشهر الحرم انقطع ذلك الماء؛ وشجرة من نحاس عليها سودانية من نحاس بأرض رومية، فإذا كان أوان الزيتون صفر السودانية التي من النحاس فتجيء كل سودانية في اقطار الأرض ومعها ثلاث زيتونات، زيتونة بمنقارها وزيتونتان بين رجليها، وتلقي ذلك على تلك السودانية من النحاس فيأخذه أهل رومية، ويكفيهم سنتهم لأكلهم وسرجهم.
قال المدائني: نزل رجل من الخوارج على أخ له من الخوارج في استتاره من الحجاج، وأراد المنزول عليه شخوصاً إلى بلد لبعض الحاجة فقال لامرأته: يا زرقاء، أوصيك بضيفي هذا خيراً، نفذ لوجهه، فلما عاد بعد شهر قال لها: يا زرقاء كيف رأيت ضيفنا؟ قالت: ما أشغله بالعمى عن كل شيء، وكان الضيف أطبق عينيه فلم ينظر إلى المراة والمنزل إلى أن عاد زوجها.
حلف أبو عباد الكاتب بالطلاق أن يقلع عين كل غلام يحجب من يحبه وقال: حملين على هذه اليمين ما لقيت من شدة حجاب الناس لي بعد موت أبي.
قال بعض السلف: ما لقينا كتيبة فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا أوصى بعضنا إلى بعض.
قال أبو حامد: جلي رجل إلى قوم، فصاح به إنسان من خلفه فقال له: كيف أنت؟ فالتفت فمات، فقيل لابنه: كيف مات أبوك؟ فحكى لهم كيف مات أبوه، فمات هو.
وأنشد: الكامل
حب الأديب على الأديب فريضة ... كمحبة الآباء للولدان
وإذا الأديب مع الأديب تجالساً ... كانا من الآداب في بستان
لا شيء أحسن منهما في مجلس ... يتناثران جواهراً بلسان
لعوف بن محلم في عبد الله بن طاهر، وكان شيخاً كبيراً سلم عليه عبد الله فلم يسمع، فلما أخبر أنشأ يقول: السريع
يا ابن الذي دان له المشرقان ... طراً وقد له المغربان
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدلتني بالشطاط انحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وقاربت مني خطاً لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان
وبدلتني من زماع الفتى ... وهمه هم الجبان الهدان
ولم تدع في لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله أثني به ... على الأمير المصعبي الهجان
فقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة ... أوطانها حران والرقتان
دخل أبو الهذيل على الواثق، فقال له الواثق: يا أبا الهذيل من الذي يقول: المنسرح
ما مر في صحن قصر أوس ... إلا تسجى له قتيل
فإن يقف فالعيون نصب ... وإن تولى فهن حول
فقال أبو الهذيل: رجل يقال له أبو حيان الدرامي، وهو بصري يقول بإمامة المفضول، وله من كلمة: الطويل
أفضله والله قدمه على ... صحابته بعد النبي المكرم
بلا بغضة والله مني لغيه ... ولكنه أولاهم بالتقدم
لأبي الأسد: المنسرح
ليتك أدرتني بواحدة ... تقنعني منك آخر الأبد
تحلف ألا تبرني أبداً ... فإن فيها برداً على كبدي
اشف فؤادي مني فإن به ... علي قرحاً نكأته بيدي
إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حية على رصد
قد عشت دهراً وليس يقنعني ... هذا الذي قد كفيت من أحد

وكيف أخطأت لا أصبت ولا ... نهضت من عثرة إلى سدد
لو كنت حراً كما زعمت وقد ... كددتني بالمطال لم أعد
لكنني عدت ثم عدت فإن ... عدت إلى مثل هذه فعد
الآن أيقنت بعد فعلك بي ... أني عبد لأعبد قفد
فصرت من سوء ما رميت به ... أدعي أبا الكلب لا أبا الأسد
آخر: الراجز
يا ناعش الجد إذا الجد عثر ... وجابر العظم إذا العظم انكسر
أنت ربيعي والربيع ينتظر ... وخير أنواء الربيع ما ابتكر
قال أبو العيناء، حدثني القحذمي قال، قال خالد بن صفوان: حبس يزيد بن المهلب ابن أخ لي، فصرت إلى بابه أنظم له كلاماً كما تنظم الفتاة عقدها لعيدها، ثم أذن لي، وبين يديه جارية كأنها مهاة وفي يدها مجمرة ذهب، فلما رأيتها سلبت الكلام الذي كنت أعددته، وحضرتني كلمتان فقلت: والله ما رأيت صدأ المغفر ولا عبق العنبر بأحد أليق به منكم، قال: حاجتك؟ قلت: ابن أخي محبوس، قال: يسبقك إلى المنزل، فجئت إلى المنزل وقد سبقني إليه.
قال أبو العيناء، قال محمد بن عباد: دخلت إلى أمير المؤمنين المأمون فجعل يعممني بيده، وجارية على رأسه تبسم، فقال: مم تضحكين؟ فقلت: أنا أخبركم يا أمير المؤمنين، تتعجب من قبحي ومن إكرامك لي، قال: فلا تعجبي، فإن تحت هذه العمة مجداً وكرماً.
قال أبو العيناء، أنشدني السندي: الطويل
وإني لأهوى ثم لا أتبع الهوى ... وأكرم خلاني وفي صدود
وي النفس عن بعض التضرع غلظة ... وفي العين عن بعض البكاء جمود
وأنشد أبو محلم: الرجز
قد أغتدي والليل في جريمه
معسكراً في الغر من نجومه
والصبح قد نشم عن أديمه
يدعه بدفتي حيزومه
دع الوصي لحيي يتيمه
فقال: أراد لحيي فحرك، ونشك فلان في الشيء إذا بدأ فيه ولم يتممه، ودفنا الشيء: جانباه، والدعن: الدفع.
سمع أعرابي المغيرة بن شعبة يقولك من زنى تسع زنيات وعمل حسنة واحدة محيت عنه التسع وكتبت له الحسنة، فقال الأعرابي: هلموا إذاً نتجر في الزنا.
قال ابن دريد: يقال: عال الرجل يعيل إذا تبختر في مشيته، قال الشاعر:
عيال بأوصال
وقيل بآصال؛ وعال يعول إذا جار، وأعال يعيل إذا كثر عياله، عال الأمر إذا أثقل، والعالة: شجرة يقطعها الراعي فيطرحها على شجرتين متقاربتين ليكثف ظلها لغنمه، ولفاعل معول، والعويل: تردد البكاء في الجوف، والمعول: الفأس الذي تكسر به الحجارة، وهو مفعل من العول كأنه من الثقل، والمعاول: بطن من العرب ينسب إليهم معول، ومن قال: معولي فقد أخطأ، ويقال: عال يعيل عيلة إذا افتقر.
قال فيلسوف: قل من حاولت استيفاء الحق منه إلا أنكرته، وقل من أنكرته إلا أغضبته، وقل من أغضبته إلا عاداك أو عاديته.
قال الكسائي: أصابت الأعراب مجاعة، فتحولت طائفة منهم من البدو إلى الحضر، فصرت إليهم لأسأل عن أهل بيوتات كنت أعرفهم بالفصاحة، إذ سمعت شيخاً منهم وفي حجره صبي ابن أربع سنين، يزيد أو ينقص، يبكي، فنادى الشيخ: يا كلب، فأجابه صبي خماسي عليه مدرعة شعر قد أخذت من صدره إلى حجزته، وسائر جسده مكشوف، فقال: ها أنا ذا يا أبة، فقال: ما لك أبكيت أخاك؟ فقال: والله ما فعلت ، غير أني كنت ماشياً وهو يفوقني إذ بصرت بتميرات مطروحات، فأهويت نحوهن لآهذهن فعازني عليهن فدفعته عنهن، فأقبل إليك باكياً، وقد والله يا أبة أعطيته شطر ما أخذت، ما وترته من ذلك شيئاً، فقال الصبي: كلا والله يا أبة، إنه لباطل ما قال، لكني بصرت بهن قبله، فأهويت لآخذهن، فلطمني لطنة أغطشت منها عيناي حتى، فابتزهن من يدي وحال دون أخذهن، فلطمني لطمة أغطشت منها عيناي حتى اغرورقتا بالدموع، فابتزهن من يدي وحال دون أخذهن، ولا والله يا أبة، وإلا فجعلن لي آخر زاد، إن كنت رزأته أو أرزأني منهن شيئاً؛ فكتبت قول الصبيين وانصرفت.
قال يحيى بن زياد: المتقارب
أقول لذي طرب فاتك ... إذا مل ذو النسك من نسكه
دع النسك ويحك لا تبغه ... وعاون أخاك على فتكه
ولا تقع الدهر في صاحب ... وإن أكثروا فيه بل زكه

ولا تبكين على ناسك ... وإن مات ذو طرب فابكه
ونك من وجدت من العالمين ... فإن الندامة في تركه
قال يعقوب: يقال: كلم فلان فلاناً فما أرجعه بشيء: أي سأله فلم يعطه.
فافتخرت جاريتان من العرب بقوسي أبويهما، فقالت الواحدن: قوس أبي طروح مروح تعجل الظبي أن يروح، وقالت الأخرى: قوس أبي كزة لزة تعجل الظبي النقزة؛ هكذا رواه يعقوب وقال: النقزة: القفزة.
كاتب: قل من يضبط في وجهه صفرة الفرق، حمرة الخجل، وإشراق السرور، وكمد الحزن، وسكون البراءة، واضطراب الريبة.
كاتب: قل من أجمع أمراً جليلاً إلا كاد القلق به يبدو في حركاته إلى أن يمضيه؛ فكذلك قلقه في وقت إمضائه كاد يكشف مستوره.
قال يعقوب: خزن لسان الرجل، وخزن الرجل لسانه؛ وقال: العاثي: المفسد، يقال: عاث يعيث، وعثا يعثو، وعثى يعثي.
يقال: إن أزدشير ومن تقدمه من ملوك الفرس كانوا لا يثبتون في ديوانهم الطبيب إلا بعد أن يلسعوه أفعى ثم يقال له: إن شفيت نفسك فأنت الطبيب حقاً، وإن مت كانت التجربة عليك لا علينا؛ وكان ملوك الروم إذا اعتل طبيب أسقطوه من يدوانهم وقالوا له: أنت مثلنا؛ فهذا كله من الظلم المبرح والتحكم الفاحش.
وكان بعض ملوك العرب إذا جاءه طبيب قدم إليه مائدة وأمره أ، يركب فيها إذاء لتقويه أبدان المجاهدين، وعلاجاً للمرضى، وتدبيراً للناقهين، وتفكهاً للمترفين، وسبباً ممرضاً وسماً قاتلاً للأعداء، فإذا فعل ذلك كله أثابه وإلا صرفه.
وهذا الملك كان إذا أراد قتل إنسان خبز رغيفاً، فإذا أكله آكل اعتل بعد ثلاثين يوماً، ومات في اليوم العشرين والمائة، سواء، وهذا لا يقدر عليه إلا الماهر بالطب.
حدثني بهذا كله فيروز الطبيب، وكان ظريفاً وكان طويل اللسان كثير الكلام. وسمعت ابن المرزبان الفقيه في علته يقول: ما طالت علي العلة إلا من هذيات فيروز؛ وكان مع ذلك مولعاً بالكيمياء، وزعم انه وقف منه على سر الأسرار، وعلى غنيمة الغنائم، وعلى حقيقة الأمر، وكان يعرف بالتزيد، وقل من طال لسانه وبذؤ لفظه إلا كان مرمياً بالكذب، معروفاً بالخنا، ملوماً على الفحش.
وكنت أحب أن أشفي قرمك بالكلام في الكيمياء، وأحكي لك مدار القول على صحته، وغاية ما يمكن في إبطاله أو تحقيقه، ولكن الكتاب قد تهنق في آخره جداً لبقية أنا عاجز عن تتميمها والتلوم عليها، وجمع أطرافها وضم نشرها، وإذا رأيت لذلك وجهاً، ووجدت عليه معونة، وإليه داعياً، فعلت مفيداً ومستفيداً، فحظي فيما أبينه عند الدرس المذاكرة ضعفاً حظ الواقف عليه من المقتدين منه.
نعود الآن إلى حال بالنا في وآية البقية من الكتاب لعل شمله ينتظم، وأمري به يلتئم، فقد غمرني غامره، وأعياني مختلفه، وسد متنفسي شتيته، وعرضني لسهام الطاعنين جملته وتفصيله، والله يأخذ باليد، ويصل كفاية اليوم بالغد، فالرجاء فه قوي، وهو لكل خير أهل، وبكل فضل ملي.
يقال إن بعض الأطباء قال: كان القدح مجهولاً على قديم الدهر إلى أن رأوا كبشاً كان عمي بنزول الماء في عينيه، فقدحته شوكة وهو يرعى فأبصر؛ وكان العلاج بالحقنة مجهولاً إلى أن رأوا طائراً يحقن نفسه بماء البحر فتعلم منه؛ وقال جالينوس: الأفاعي والحيات إذا عشيت أبصارها تطلب أصول الرازيانج وتحك أعينها بها فتبصر؛ ويقال: إن الطبيب الحاذق يشبه الملاح الحاذق في البحر، وحذق الملاح قبل هيجان الريح ما يرى من مخايله، فإن وجد مرسى بادر إليه، وإن منعه عظم اللجة احترز بالرفق.

قال الحسن بن علي قاضي مرو: كان أبو حنيفة من أفطن الناس، وذلك أن رجلاً كان يتجمل بالستر الظاهر والسمت البين، وكان يلبس على ذلك، فقدم رجل فأودعه مالاً خطيراً وخرج حاجاً، فلما قضى نسكه عاد إلى صاحبه وطلب وديعته فجحده، فألح عليه فتمادى، وكاد يهيم الرجل، واستشار ثقة له: كف عنه وصر إلى أبي حنيفة فدواؤك عنده، فانطلق الرجل إليه وخلا به وأعمله شأنه وشرح له قصته، فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بها أحداً، وامض راشداً وعد إلي غداً، فلما أمسى أبو حميفة جلس كعادته واختلف الناس إليه، فجعل يتنفس الصعداء كلما سئل عن شيء، فقيل له في ذلك قال: إن هؤلاء - يعني السلطان - قد احتاجوا إلى رجل يعثوبه قاضياً إلى مكان، فقال الناس: اختر من أحببت فما يحضرك إلا نجم، ثم أسبل كمه وخلا بصاحب الوديعة وقال له: أترغب حتى أسميك؟ فذهب يتمنع عليه، فقال له أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تريد، فانصرف الرجل مسروراً يظن الظنون بالجاه العريض والحال الحسنة، وصار رب المال إلي أب حنيفة فقال له: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا ولوح بذكري، وكفاك، فمضى صاحب الوديعة إلى الرجل لك وفاه ماله، فصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه رجوع المال إليه، فقال: استر عليه، ولما غدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعاً في القضاء، نظر إليه أبو حنيفة وقال: إنه قد نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
قال بقراط: لا ينبغي أن يقدم أحد بسقي الدواء للتجربة، فإنه ربما ضر قوماً، مثال ذلك ماء الحندقوق فإنه إذا صب على موضع نهش الأفاعي والرتيلا سكن الوجع من ساعته، وإذا صب على موضع لم تنهشه الأفاعي عرض له مثل ما يعرض من نهش الأفاعي، وقد يحتال قوم من الأطباء في سقي ذلك للمفلوج الذي قد يئس من برئه.
وقالوا: الطبيب الحاذق يصير بحذقه السم دواء نافعاً، والجاهل يصير الدواء سماً قاتلاً، مثال ذلك أن الجاهل بالطب إذا أخذ الصندل فسحقه كالكحل ثم طلاه على بدن رجل كثير الحرارة طلياً ثهيناً دخلت تلك الأجزاء الدقيقة في منافس الجسد ومسامه، فتهيج حرارة البدن بما أدخل عليها من برد الصندل. والطبيب الحاذق يأخذ العود الهندي فيسحقه سحقاً جريشاً ثم يطليه على البدن طلياً فيقاً، فيصل ا فيه من الرطوبة إلى حرارة البدن فيبردها، ويجد الحر سبيلاً إلى الخروج، فتصير حرارة العودة مبردة للبدن بتدبير الطبيب الحاذق؛ قال: ولذلك قيل: لا ينبغي للإنسان أن يسكن بلداً ليس فيه أربعة أشياء: ملك عادل، وماء جار، وطبيب عالم، وواد عظيم.
وقال معبد بن مسلم: الوافر
جزى الله الموالي عن أخيهم ... فكل صحابة لهم جزاء
بما فعلوه إن خيراً فخير ... وإن شراً كما امتثل الحذاء
فما أنصفتم والنصف يرضى ... به الإسلام والرحمن البواء
أردتهم النصيحة من لدني ... فمجوا النصح ثم ثنوا فقاءوا
وقلت فدى لكم عمي وخالي ... فما قبل التودد والإخاء
وةكيف بهم وإن أحسنت قالوا ... اسأت ولو غفرت لهم أساءوا
لجاهلي: الكامل المجزوء
أأمام إن الدهر أه ... لك صرفه إرماً وعادا
وابتز داوداً وأخ ... رج من مساكنه إيادا
وسما فأدرك أسعد ال ... خيرات قد جمع العتادا
البيض والحلق المضا ... عف نسجه وحوى التلادا
وله كتائب يجنبو ... ن الخيل شقرا أو ورادا
فسعى لهم والدهر يح ... دث بعد صالحه فسادا
وكأن ذلك لم يكن ... إلا التذكر حين بادا
أبني إن القدر لم ... تفضح أباك ولا الرمادا
أبني كن كأبيك يط ... رق في الملمة أو يغادى
قال أبو الفضل ابن العميد: لكل صباح صبوح، ومع المخض يبدو الزبد، ومن الحبة تنشأ الشجرة؛ ونسبخا إلى العرب.
قال أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو كان لأحدكم عسل وله إناءان، أين كان يجعله عسله؟ قالوا: في أنظفهما أو أطهرهما، قال: فكذلك الله تبارك وتعالى، لا يجعل العلم إلا في أنظف القلوب وأحبها إليه.

قال إسماعيل بن أبي أويس: سمعت مالك بن أنس يقول: لم يزل الناس على أن الإيمان قول وعمل حتى نشأ بالعراق مشؤوم يقال له أبو حميفة فابتلي وابتلي الناس به، وأكثر ما ابتلى به أهل خراسان.
قال ابن عمر: إذا جعلت المشرق على يسارك، والمغرب على يمينك، ففيهما بينهما القبلة.
قال أبو هريرة: " فإن له معيشة ضنكاً " طه: 124: عذاب القبر.
قال أنس، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني.
قالت عائشة: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد.
قال أنس بن مالك: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبيان في المكتب فسلم عليهم.
قال أبو الدرداء، قال النبي عليه السلام: مثل الذي يعتق عند الموت مثل الذي يهدي إذا شبع.
قال أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين.
أنشد الآمدي لأعرابي: الرجز
بيضاء في وجنتيها احمرار ... يعيبها جاراتها القصار
هن الليالي وهي النهار
قال فيلسوف: محل الملك من رعيته محل الروح من البدن، فالروح تأمل لألم كل عضو من أعضاء البدن، وسائره لا يألم لألم غيره، وفي فساد الروح فساد جميع البدن، وقد يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن ليس بفاسد.
قال فيلسوف: أفضل الناس من كان سخياً شحيحاً، خفيفاً ثقيلاً، جريئاً جباناً، أصم سميعاً، قائلاً عيياً، ضريراً بصيراً؛ يقال: أراد بذلك من كان سخياً بدنياه شحيحاً بدينه، خفيفتً إلى طاعة الله ثقيلاً في معصيته، جريئاً في الحق جباناً عن الباطل، أصم عن الجهل سميعاً للعلم، قائلاً للصواب عيياً بالخطأ، ضريراً في المنكر بصيراً في المعروف.
قال أبو محمد القرشي النحوي، وهو من القدماء، يقال: هي السلاح وهو السلاح، وهي الذراع وهو الذراع، وهي الكراع وهو الكراع، وهي الطباع وهو الطباع، وهي اللسان وهو اللسان، وهي السبيل وهو السبيل، وهو الكلأ وهو الكلأ، وهو السوق وهو السوق، وهو الروح وهو الروح، وهي النخل وهو النخل، وهي النحل، وهو النحل، وهي الأنعام وهو الأنعام، وهي القفا وهو القفا؛ قال الشاعر: الوافر
فما المولى وإن عرضت قفاه ... بأحمل للمحامل من حمار
ويقال: هي الشعير وهو الشعير، وهو البر وهو البر، وهي السلم وهوالسلم، وهي الفرس وهو الفرس، وهو الخمر وهو الخمر، ومضى له سن ومضت له سن، وهي الحال وهو الحال، وهي الإزار وهو الإزار، وهو الرداء وهي الرداء، وهو السراويل وهو السروايل، وهو العراق وهي العراق، وهو الشام وهو الشام، وهي العقب وهو العقب، وهو العنق وهي العنق، وهي الدرع وهو الدرع، ودرع المرأة يذكر، وهو السلطان وهي السلطان، وهي السكين وهو السكين، وهي الدلو وهو الدلو، وهي الإبط وهو الإبط، وهي السلم وهو السلم ومعناه الصلح، وهي الوراء وهو الوراء، ويقال فلان وربه فلان، ووريئة تصغير؛ وهي القدام وهو القدام، وهو القمطر وفي القمطر، وهي الطست وهو الطست، وهو الفلك وهل الفلك، وهو الآجر وهي الآجر، وهي البسر وهو البسر، وهو المتن وهي المتن، وفي الصاع والصواع، قال الله تعالى: " قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " يوسف: 72، وقال تعالى: " ثم استخرجها من وعاء أخيه " يوسف: 76، وسقط النار يذكر ويؤنث، وهي العنكبوت هو العنكبوت، وهي العاتق وهو العاتق، وهي العجز وهو العجز؛ قال الأصمعي: يقال: عجز المرأة وعجز وعجز وعجز؛ قال: ومثله عضد وعضد وعضد وعضد؛ ويقال هو نمير وهو نمر.
العتبي: الكامل
الصبر بحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
من كان أغلفه الزمان فقد سطت ... كف علي من الزمان غشوم
حتى بكى لي من رآني رحمة ... إن المصاب بشيبه مرحوم
فدع الزمان فليس يعتب عاتباً ... إن الذي لام الزمان ملوم
كان طلحة بن عبد الله بن طاهر ينادم أحمد بن أبي خالد الأحول، فأطال منادمته، وبلغه أن عليه عيلة وديناً فوجه إليه أحمد بن أبي خالد ألف ألف درهم، فحلف الطاهري أن لا يقبلها، فبلغ إبراهيم بن العباس فقال: لله در أحمد متبرعاً، ودر الطاهري متنزهاً.

جرى بين الرشيد وزبيدة حديث نزاهة نفس عمارة بن حمزة فقالت له: ادع به وهب له سبحتي هذه، فإن شراءها خمسون ألف دينار، فإن ردها عرفنا نزاهة نفسه؛ فوجه وراءه فحضر، فحادثه ساعة ورمى بالسبحة إليه فقال: هي ظريفة تصلح لك، فجعلها عمارة بين يديه، فلما قام تركها، فقالت: نسيها، فأتبعوه خادماً بالسبحة فقال للخادم: هي لك، فرجع فقال: وهبها لي عمارة، فما أخذتها من الخادم إلا بألف دينار.
قال جحظة: فقدت مشربة من فضة في دار بعض الرؤساء الجلة، فوجه إلى ابن خامان المنجم فحسب فقال: المشربة سرقت نفسها، فضحك منه فغاظه ذلك فقال: هل في الدار جارية يقال لها فضة؟ فأحضرناها فقال: هذه أخذتها، فسألناها فأقرت، فقال: الفضة أخذت الفضة، وخرج غضبان، فوصل بمال، فحلف بالطلاق أنه لا يقبل شيئاً.
وافتقدت امرأة بعض التجار خاتماً من ياقوت كان يدها، فوجهت إلى أبي معشر، فحسب فقال: الخاتم الله عز وجل أخذه، فتعجب منه، ثم عادت تطلبه فوجدته في أثناء ورق المصحف.
- لهذه - حفظك الله - أخوات قد طال السمر بها، وفي عرض الكتاب ما يستوفي التعجب منك، ويوكل العجب بك، وفيه المختلق وفيه المحقق، وعلم النجوم حق، أعني أن آثار الأسباب العلوية واصلة إلى المواد السفلية لأن بعضها مرتبط ببعض، ولكل واحد منها مفعول فيها، ولكل مؤثر متأثر، والجميع جار على نظامر لا خلل فيه لا دخل عليه، ولكن إدراك خفاياها صعب عسير بل ممتع مستحيل، وذلك أن الأدلة كثية، ويه مع كثرتها مختلفة، ومع اختلافها ملتبسة، مع التباسها خفية، ومع خفائها بعسدة نائية، وطالب حقائقها ذو قوة قصيرة، ينفلت منه في حال تحصيله أضعاف ما يظفر به، فلهذا ما يقل صوابه ويكثر خطاؤه، ولكن الناس لهجون في باب النجوم خاصة برواية ما أصيب فيه وإخفاء ما أخطى به، وبسط العذر فيما عرض له تقصير وإطالة القول فيما صحبه أدنى بيان، لو جمع صواب البارع من أهل الصناعة لما كان إلا مثل صواب الزراق وصاحب الإكران، والمولع بالحدس ومرسل الخاطر نحو الشيء. على أن أصحاب التحصيل منهم يعترفون بأن الغيب لا دليل عليه ولا سبيل بوجه إليه.
وقد كان غلام زحل، وكان شيخ هذا الشأن، وله صواب مدون وخطأ مدفون، وحسن ظاهر، وقبح مستور، وصدق مروي وكذب متأول، قال: إن عضد الدولة سيدخل بخيله ورجله مصر ويطمئن بها مدة ويكون له بها شأن شهير، حدثني بهذا شيخ موثوق به؛ قال، فقلت له: أنا أنا بغير النجوم فأزعم انه لا يكون من هذا قليل ولا كثير. فما مرت الليالي حتى صح حدس هذا الشيخ، وبطل حكم ذلك الشيخ؛ وقد قال أرسطاطا ليس: الناس كلهم يعلمون الغيب، ولكن بعد أن يتم الأمر.
وكان بعض أصحابنا يقول أيضاً في لفظ أحكام النجوم كلاماً طرياً - زعم أنه لو صح علم النجوم وأمكن إدراكه لكان الخلاف في أمر الدين والدنيا يسقط، وذلك أنا مثلاً إذا أردنا أن نعلم أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، أو الباري يرى بالأبصار أو لا يرى، أو الشفاعة حق أو لا، أو عذاب القبر صحيح أم لا، وأبو بكر أفضل أم علي، أو الحجاج يدخل النار أو لا، وهل سفشو مذهب فلان أو لا، يرجع إلى الصناعة، ويستنبط منها الحق من الباطل، واليقين من الشك، وتنفى المكاره بالواجب، ولا يباشر ما يلام فيه ولا يأتي ما يندم عليه، وهكذا إذا أردنا أمر الدنيا في عقد دولة لا تزول، وإقامة دعوة لا تدرس، وبث حال لا تمحى، وتغليب من لنا فيه هوى، وتقديم من له عندنا يد، وتمليك من ننتعش بسلطانه، ونهيش في كنفه، وهذا أمر معجوز عنه، ما يؤمن منه، وقد ضرب دونه الأسداد.

وكان يقول أيضاً: هذا العلم من شرف منصبه، ودقة مذهبه، وبعد مأخذه، عار من الفائدة، خال من العائدة، يبين لك ذلك بمثال أنصبه، ومثل أضربه: اعلم أنك لو قلت لنحوي: ما فائدة علمك بالنحو، وما غاية غرضك فيه؟ لقال: معرفة المعاني، وتجلية ملتبسها، والتوغل في دقائق معاني كلام الله رب العالمين، وكلام المبعوث بالحق إلى الخلق أجميعن، ولولا علمي بالنحو لبطل مراد كثير، وجهل باب كبير، فتقول له: ما أحسن ما توخيت، إنك لسعيد؛ ولو قلت لفقيه: ما منتهى أمرك في الفقه؟ لقال: إن الدين محيط بحلال أو حرام، وواجب ومستحجب، وعلة وحكم، وقضاء وفصل، وكل ذلك مقرون بعلم وعمل، ومتى جهلت العلم أفسدت العلم، وعند ذلك ترى اختياره أشد اختيار، ورأيه أثقب رأي؛ وكذلك جواب الطبيب والمهندي، ومن شئت من أصحاب الصنائع المهيأة بالعلم، والعلم الموصول بالعمل؛ وما هكذا المنجم، فإنه إذا وجب عنده باقتران كوكبين، ومناظرة شكلين، واجتماع نحسين أمر، فلا سبيل له إلى اتقائه والهرب منه، إنما عجز عن ذلك لأنه تابع للفلك، وليس الفلك تابعاً له؛ وإذا كان كونه في العالم ضرورياً فصورة كونه تابعة لأصل كونه.
وقد كان بعض المتحذلقين تعسف في هذا المعنى قولاً، وذلك أنه قال: النفس فوق الفلك، وقد أرى الشيء بالحساب على نحو ما، فأعدل عنه بقوة النفس إلى نحو آخر، فأكون منتفعاً بما علمت؛ وهذا كلام لا نور عليه ولا حقيقة له، لأنه إن عدل من جهة إلى جهة فذلك العدول بأثر ظاهر أو علة خافية، وليس له منه أكثر من انقياده من جهة إلى جهة بقائد علوي ظاهر أو خفي، وإن عسر عليه العدول فقد جاء ما أقول من الاضطرار القائم والواجب اللازم.
وكان يقول: الأمور كلها جارية بالقضاء والقدر، فسألته عن معنى القضاء والقدر، فأملى علي ما أنا حاكيه الآن، وإن كنت قد أمللت بما أطلت، وثقلت بما نقلت: زعم أن المرجع من هذين الاسمين في المعنى على التحصيل إنما هو إلى اتساق الأمور واطادها وتتابعها على وجوهها، فإن تعلق بعضها بالاختيار فليس الاختيار أنشاه، ولكن بالاختيار كان منشأه، وقال: ليس العجر أن بالاختيار كان اتساقه، ولكن العجب أنه كان على الاضطرار مساقه.
وقال أيضاً: ومن علم أن العقل قد قسم فاعلاً على الإطلاق، ومنفعلا " ً على الإطلاق، ووسيلة تتشبه بالفاعل فوقه فيفعل، وتتشبه بالمنفعل فينفعل، فكأنها تأخذ من الأول، ويأخذ منها الثاني، وكأنها تقبل من فوقها ويقبل مها ما تحتها، علم أن اطراد هذا الباب لم يدع للاختيار شعبة إلا ما ترك الاضطرار.
وقال أيضاً: ومن الاضطرار أن يكون الامتيار، وليس من الاختيار أن يكون اضطرار، فكأن الاضطرار يوجب الاختيار في كونه اختياراً، وليس الاختيار موجباً للأضرار في كونه اضطرار من سنخ العالم وسوسه، والاختيار من حشو العالم وغروسه.
قال: وإنما أشكل المعنى في هذه الدعوى من وجه طريف، وذلك أنه وضع الواضع أن الأمور ثلاثة: واجب وممتنع - وهما الطرفان - وممكن بينهما، وهذا الموضع صحيح لكنه راجع إلى الضرورة، أعني انه من الضرورة أن يكون الممتنع ممتنعاً والممكن ممكناً والواجب واجباً، وكأن الضرورة قد عمت الثلاثة، وقصرتها على ما انقسمت عليه حتى لا ينقلب الواجب عن حد الوجوب إلى حد الإمكان، ولا الممكن إلى الممتنع؛ قال: والذي يؤنسك بهذه القضية، ويجعلك منها على جلية، أنك متى فرضت الواجب واجباً لم تقسمه إلى واجب دون واجب، وكذلك إذا فرضت الممتنع ممتنعاً لن تقسمه ممتنعاً فوق ممتنع، ولا تجدك تفعل ذلك في الممكن، فإنك تقول: الممكن على ثلاثة أنحاء: ممكن قريب من الواجب، وممكن قريب من اممتنع، وممكن متوسط على حسب القرب والبعد من الطرفين، فقد وضح لك أن الممكن موقوف على توهمك وحرصك، وأنه لم يستقل بنفسه، ولم يتحيز بطبعه، ولم ينفرد بقوامه، ولسنا نريد بالممتنع عيناً شأنها الامتناع، فإنه لو كان كذلك كان لا يبعد أن ينقلب ما من شأنه الامتناع مرة إلى ما شأنه الوجوب.

قال: بل أشير بالممتنع إلى نفي صورة الواجب، وإلى رفع فواته، وإلى خلع ما يميل منه؛ قال: قد حال الواجب في كل شيء عدواً، وهو الاضطرار، حتى كأن الممكن واجب أن يكون ممكناً، والممتنع واجب أن يكون ممتنعاً، والواجب واجب أن يكون واجباً، ومتى كان كل شيء من ذلك واجباً كان العالم كله واجباً أي الاضطرار، ومتى كان كله واجباً فحكم كل جزء يشار إليه حكم كله إذا نص عليه. وقال: ألا ترى أن العالم كله موجود، فحكم كل جزء منه أنه موجود، قال: فقد تناول الرزق والحياة والموت والإصابة والحرمان والسعادة والشقاء والقبول والاطراح، وليس لشيء من جميع ذلك في هذا الحكم اختصاص يخرجه عن نظام العالم وتأسيسه في كونه ووجوبه، وفرض الأرض ووضع الواضع لا يخرج من عوارض العالم، ولكنه لا يدخل في جوهر العالم، وإنما ذلك لعلو أفق العلوية، وقوة سلطان العلم، وبه يرى الشيء متلوناً مختلفاً وهو في حقيقته منتظم مؤتلف.
هذا بعض كلام هذا الرجل، ولو استقصيته لاحتجت إلى استئناف كتاب، واحتجت أنت إلى تفريغ بال، وفيا نقشته لك، ونمقته فيعينك، ما يبعث بصيرتك، ويشحذ خاطرك، ويعرض الحق عليك، ويجمع فنون الدليل إليك، فتناول ما تتناول عن كثب بلا دأب ولا تعب، وتتحكم تحكم الآمر المتمكن، فاذكر عند هذه الأحوال حق من سعى لك، وسهر بسببك، وبحث من أجلك، ثم نظمه بين يديك حتى استشففته متخيراً، وأخذت ما أخذت منه مقتدراً، فوفر عليه قسطه من تعظيمك، ونصيبه من حسن ذكرك وطيب تنائك، ولا تفته صيانة العرض من بعد كما أفته منية النفس من قرب، ولا تقبحه بما استاقه إلا أن تجمله بما هو أحسن منه، والسلام.
تداعى - أديك الله - هذا الحديث واضطراب حتى ليس يبين مكان جنابتي من اعتذاري، ولا استسلامي من انتصاري، وذلك كله لعلل وأسرار لو شرتها أو بحت بها لم ترض لي في النار داراً، ولا الدرك الأسفل قراراً، والحمد لله على كل حال، فرضيها متصل بالأمل، ومسخوطها مقرون بالحسرة، وظاهرها متلقى بالتسليم، وباطنها مردود إلى الحي القيوم، وسهلها متناول بالشكر، وعسيرها محتمل بالصبر، ولذيذها مستزاد بالافتقار، ومريرها متجرع بالاضطرار، وقريبها مأخوذ بالحاجة، وبعيدها متمنى بالاضطرار، فهو أهل الحمد ومستحقه، ونحن عبيده وخلقه، يؤتي الملك من يشار وينزع الملك عمن يشار، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
قال أحمد بن الطيب المنطقي في مراح الروح: حكي عن بعض الأطباء أنه وصف لإنسان شكا إليه علته فقال: خذ من المقفس المربى قدر روثة، وصب عليها ماء حاراً قدر محجمة، ثم دقه حتى يصير كأنه مخاط ثم اشربه، فقال المريض: أما دون أن أضرب بالسياط فلا أفعل.
قال احمد: وقد أحسن المريض فإن هذا وصف يستعجل مه سقوط القوة، لأن المريض إذا سمع مكروهاً غمه، وإذا غمه غارت غريزته، وإذا غارت غريزته انحلت قوته، وإذا انحلت قوته ركبه المرض بأضعف أسبابه، والطبيب الرفيق الماهر بخدمة المرضى يقول لن يريد أن ينهاه عن أكل اللحم لحدة مرضه، واحتام حرارته: إياك والزهومة، فإذا عزم على إطعامه اللحم عند البرء لرد قوته وحفظ صحته قال له: كل الدسم، والذي نهاه عنه أولاً هو الذي أمره به آخراً، إلا أنه سماه أولاً زهومة لتكريهه عند النفس، وسماه ثانياً دسماً لتقريبه من النفس.
قال أحمد: ومثل هذا من سوء الاختيار في اللفظ ما يحوى عن حمزة بن نصر، مع جلالته عند سلطانه وموضعه من ولايته، أنه دخل على امرأته، وعند ثوب وشي، فقالت له: كيف هذا الثوب؟ قال: بكم اشتريتيه؟ قالت: بألف درهم، قال: قد والله وضعوا في آستك مثل ذا، وأشار بكفه مقبوضة مع ساعده، فقال: لم أدفع الثمن بعد، قال: فخصاهم بعد في يدك، قالت: فأختك قد اشترت شراً منه، قال: إن أختي نضرط من آست واسعة، قالت: ولكن أمك عرض عليها فلم ترده، قال: لأن تلك في آستها شعر، قال أحمد: وهذا كلام الخرس أحسن منه.
وأنشد للمرعق: البسيط
أثني عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس
قد قلت إن أبا حفص لأكرم من ... يمشي فخاصمني في ذاك إفلاسي
أبو عطاء السندي: الوافر
ثلاث حكتهن لرهط قيس ... ظلمت بها الأخوة والثناء
رجعن على حواجبهن صوف ... وعند الله نحتسب الجزاء

قال أعرابي نظر إلى خط: كواكب الحكم في ظلم المداد.
وقال أديب: خط الأقلام صورة هي في الأبصار سود، وفي البصائر بيض.
قال أعرابي: الخط مركب البيان.
قيل لوراق:خطك مغرس الألحاظ ومجتنى الألفاظ.
أنشد أبو قلابة الرقاشي لأبي حيان البصري: الكامل
يا صاحبي دعا الملام وأقصرا ... ترك الهوى يا صاحبي خساره
كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي ... لجت يمين ما لها كفاره
ألا أفيق ولا أتر لحظة ... إن أنت لم تعشق فأنت حجاره
الحب أول ما يكون نظرة ... وكذا الحريق بدوه بشراره
يا من أحب ولا أسمي باسمه ... إياك أعني واسمعي يا جاره
لمنصور الفقيه: المحتث
لا يوحشنك مني ... ما كان منك إليا
فأنت مع كل جرم ... أعز خلق عليا
وقال أبو سعيد السيرافي: في السماء المصرفة ما إذا صغر منع الصرف، وفي السماء ما لاينصرف، وإذا صغر صرف، وفيها ما لا ينصرف في مصغر ولا مكبر: فأما ما ينصرف وإذا صغر لم ينصرف فهو الاسم المعرفة الذي في أوائله من زوائد الفعل، وفيه حرف زائد يخرجه عن بناء الفعل، فينصرف لخروجه عن بناء الفعل كرجل سميناه يضارب أو نضارب فهو منصرف، فإذا صغرناه قلنا يضيرب ونضيرب كأنا صغرنا يضرب ونضرب ونضرب، وأما ما لا ينصرف فإذا صغرناه انصرف فنحو عمر وبكر، فإذا صغر تصغير كتصغير عمرو وبكر، فينصرف لزوال الفظ العدل، وكذلك رجل سمي بمساجد فلا ينصرف لأن هذا البناء يمنع من الصرف، فإذا صغرناه أسقطنا الألف فقلنا: مسيجد كتصغير مسجد فينصرف. وأما ما لا سنصرف في مصغر ولا مكبر فما كان في أوله زيادة الفعل نحو رجل اسمه تغلب ويزيد وما اشبه ذلك، تقول: هذا تغيلب، قال الشاعر:
قد عجبت مني ومن تغيلبا
وأما ما ينصرف في المصعر والمكبر كمحو زيد وبكر وما أشبه ذلك تقول: هذا زيدز زييد، ومررت بزييد.
لمنصور الفقيه: الهزج
إذا الفوت تأثى ل ... ك والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
قال عبد الرحمن بن كثير: خرج بعض ملوك الأعاجم إلى نزهة فانفرد عن أصحابه وانتهى إلى بستان، فرأى فيه امرأة ذات هيئة فقال لها: أيتها المرأة، إن مثلك لا ينبغي أن يكون في هذا الموضع، فما أخرجك من منزلك؟ قالت: كذلك يكون الناس إذا لم يكن لهم من ينظر في أمورهم، قال: وما ذاك؟ قالت: إن زوجي مات وترك علي عيالاً وترك ضيعة كنا نعيش بها، فعدا علينا وزير الملك فأخذها، فأتيت إلى القاضي أستعديه عليه فلم ينصفني، فأتيت الحاجب ليدخلني على الملك فلم يفعل، ثم أتيت صاحب الشرطة فلم يفعل، فقال لها: خذي هذا الكتاب وامضي به إلى احب الشطرة فأعطيه إياه فإنه سينصفك، قالت: ما أرجو الإنصاف، قال: ليس يضرك هذا الكتاب إن لم ينفعك، وكتب لها كتاباً وأعطاها إياه، فمضت به إلى صاحب الشرطة فناولته الكتبا، فقبله ثم دعا بالجلادين فقال: إن هذا كتاب الملك أمرني أن أقوم لتجلدوني بالسياط حتى يستنقع عقبي في دمي، ثم قام فضربوه حتى استنقع عقباه في الدم، ثم قال: إن الملك أمرني في هذا الكتاب أن أسود وجهي وأركب الجمل وأحول وجهي إلى ذنب الجمل، ويقاد الجمل وأنا عليه حتى أنتهي إلى باب الملك؛ قال: فلما انتهى إلى باب الملك قال له الملك: ما حملك على أن أتتك امرأة متظلمة فلم تنصفها؟ قال: خفت وزيرك، فأمر به فضرب عنقه ثم دعا بحاجبه فقال: إنما اتخذتك حاجباً لتحجب عني المظلوم! ثم أمر به فضرب عنقه، ثم دعا بالوزير فضرب عنقه، ثم رد الضيعة على المرأة وولدها وقال: إن الملك لا يدوم إلا بالعدل، فإذا كان بالظلم فذلك غلة وليس بملك.

قال المأمون: لله نعم لا تحصى في أثناء المكروه: لقد شري بدني مرة زائداً على ما كنت أعهده في كل حول، حتى نبا جنبي عن المهاد، وفقدت معه القرار وتمنيت الموت، فبينا أنا على ذلك ليلة، والحشم نوم والدنيا مقمرة، وأنا ساقط القوة لطول الحمية وخوف الزيادة في العلة، قد تنغصت بالحياة وبرمت بالعيش، حتى ثارت من أسفل قائمة السرير عقرب شائلة الذنب تطير، فقلت في نفسي: إنا لله، هذا الموت، ولم يكن في طوق فأتحرك أو أنادي، فاستسلمت، فما زالت تعدو على سننها حتى بلغت أوائل جسمي، ثم دبت على أطرافي، وبلغت ناحية أضلاعي، ثم ضربتيني بقوتها كلها، وغمست حمتها، فغشي علي من هول المنظر ومن ألم الضرب، واتصلت عشيتي بالنوم، فلم أنتبه إلا مع قرن الشمس، فلما أفقت لم أجد مما أمسيت عليه قليلاً ولا كثيراً، ونهضت من وقتي، واستعديت عادتي وراجعت صحتي وكأني لم أكن صاحب القصة.
منصور المصري: السريع
ما اجتمع المال وحسن الثنا ... مذ كانت الدنيا لإنسان
فأي هذين تخيرته ... ضنا به فاله عن الثاني
وله مصراع: الرجز
علي أن أزوركم ... ولا علي أن أصل
كان الشعبي يضمن الأجير المشترك كالصباع والقصار والخياط سئل إبراهيم النخعي عن حائك مشى بليل بشعلة نار فاحترق الغزل فقال: هو ضامن.
قال الشعبي: كل أجير ضامن إلا أجير يده مع يدك.
قال ابن أبي المر قال أوب الخيثم العطار: استأجرت حمالاً فحمل لي ستوقة فيها دهن، فوقعت منه فانكسرت، فأردته على الصلح فأبى، فاختصمنا إلى شريح فضمنه قيمة الدهن.
قال الشعبي في المستعير والمستودع: إذا خالفا ضمنا قال الحكم: شهد رجلان عند شريح على رجل، فشهد أحدهما بالف وخمسمائة دينار وشهد الآخر بألف، فقضى شريح بأقل المالي، فقال الرجل: أتقضي علي وقد اختلفا؟ فقال شريح: إنهما قد اجتمعا على ألف.
وقال مجاهد: اختصم إلى شريح في ولد هرة فقال: ضعوها، فإن هي قرت ودرت فهي له، وإن هي فرت واسبطرت فليست له.
قال ابن سيرين: اشترى رجل بغلة فوجدها حمارة، فخاصم فيها إلى شريح فقال: أدخلوها داراً لها بابان ثم أخرجوا البغال من باب والحمير من باب، فإن اتبعت الحمير فهي حمارة، وإن اتبعت البغال فليست بحمارة.
قال هشام بن محمد: تزوج رجل ابنة عبد خياط، فولدت غلاماً فانتفى منه، فارتفعت إلى شريح فقال لها: اكشفي عن وجه الصبي فكشفت، فقال شريح: لو كنت حالفاً لحلفت أنه ابنك، ولكن الذي حملك على أن تتزوج ابنة عبد خياط، وأنت رجل من العرب في شرف من العطاء هو الذي حملك على أن تنتفي منه؛ اذهبي فداعبيه.
قال عبد الرحمن بن عوف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا الشجرة وفاطمة فرعها وعلي أغصانها الحسن والحسين ثمرتها وشيعتنا ورقها.
قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ.
قال ابن عباس: كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب في ريطتين بيضاوين سحوليين وفي برد حبرة.
قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخمرة من المسجد، فقلت: إني حائض، قال: إنها ليست بيدك.
قال سماك: سمعت جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكل العينين منهوس العقب.
قال أبو هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع الخبز بالسكين.
قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشكنب درد؟ قم فصل فإن في الصلاة شفاء.
حدثنا ابن بشران بأبلة البصرة عن ابن الأنباري عن عبد الله بن خلف عن عبد الله بن بشير الطوسي قال، حدثنا عثمان بن عمر عن أبيه قال، سمعت يزيد بن هارون يقول: كان أبو شيبة القاضي من ألحن الناس، كان يقول: حدثنا أبي إسحاق الأسود عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعه رقبة بن مصقلة فقال: يا أبا شيبة، لو كان لحنك من الذنوب لكان من الكبائر التي لا يغفرها الله.

وأنا سمعت ابن شاهين المحدث في جامع المنصور يقول في الحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تشقيق الحطب، فقال قوم من بعض الملاحين كيف نعمل والحاجة ماسة إلى الحطب؟ وقال ابن شاهين مرة أخرى في وجوه قوله تعالى: " وثيابك فطهر " المدثر: 4، قيل: لا تلبسها على عذرة. ولي شهود بهذين الخبرين منهم عبد العزيز بن الخضر الكاتب التستري. وإنما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تشقيق الخطب كأنه كره للخطيب أن يتكلف، والتكلف مكروه لأنه زائد عما يحتاج إليه، والمنقوص عما يحتاج إليه أخف على النفوس من الزائد، وذلك أن الزيادة على المقدار نقص مكرر، والتقصير عن المقدار نقص غير مكرر.
وأما التصحيف الثاني وإنما هو فثيابك فطر أي لا تلبسها على عذرة، وذلك أن العرب تعد العذرة نجاسة - وتسمي العذار نجساً - ويقال رجل نجس ونجس، فكأنه إذا لوحظ المسمى أنبأ عليه بالكسر، وإذا أريد الصفة أنبأ بالفتح.
قال أبو هريرة: رأيت هنداً بمكة جالسة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعاوية صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاماً إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله.
أنشد في رجل ولي الحكم: الكامل
أبكي وأندب مهجة الإسلام ... إذ صرت تقعد مقعد الحكام
إن الحوادث ما علمت كثيرة ... وأراك بعض حوادث الأيام
وأنشد أيضاً: الطويل
تمنيت من أهوى فلما رأيته ... بهت فلم أعمل لساناً ولا طرفا
وأطرت إجلالاً له ومهابة ... وحاولت أن يخفي الذي بي فلم يخفى
وأنشد لأعرابي: الطويل
وكم قد رأينا من فتى متجمل ... يظل ويمسي ليس يملك درهما
يبيت يراعي النجم من جوع بطنه ... ويصبح يلقي قومه متبسماً
وما يسأل الأقوام ما في رحالهم ... ولو مات جوعاً عفة وتكرما
قال حمزة الزيات، قال رجل للحسن البصري: ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه، فقال: ترك رجل أباه وأخاه، قال: فما لأباه وأخاه، فقال الحسن: فمما لأبيه وما لأخيه، فقال الرجل: إني أراك كلما طاوعتك تخالفني.
قال أبو حامد: كان المزني إذا فاتته الجماعة صلى خمساً وعشرين صلاة، فقال له محمد بن إسحاق بن خزيمة: أيها الشيخ، لجلوسك مع أصحابك أفضل من صلاتك هذه، يعني التطوع، فقال له المزني: لم؟ فقال: لأن صلاتك هذه لا تعدوك، وتعليمك إياهم يعدوك إليهم، فتعم بركاته وتتم عاقبته، فقال: صدقت، ولكني أجمع بين الأمرين: ألقي عليهم المسألة ويعملون فكرتهم فيها، وآخذ في تطوعي، فإلى أن يفرغوا أفرغ، فقال ابن خزيمة: ها هنا زيادة وهي أنك إذا ألقيت المسألة عليهم ثم أقبلت بوجهك إليهم كنت معيناً لهم على استخراج المسألة، قال: كذلك هو.
قال بعض الفلاسفة: جوامع شرف الإنسان وكماله في أربعة أشياء: في عرق صريح، وعقل صحيح، ولسان فصيح، وأخ نصيح.
قال مزدك: العاقل يلتمس علم ما أصابه بالطيرة والفال، كما يلتمس علم ما مضى بالإشارة والأمثال.
قال الشافعي: رأيت علي بن أبي طالب في المنام فقال: ناولني كتبك، فناولته فأخذها فبددها هكذا وهكذا، فأصبحت أخا كآبة، فأتيت الجعد فأخبرته فقال: سيرفع الله شأنك وينشر علمك. حكى لنا هذه الحكاية ابن القطان الفقيه شيخ أصحاب الشافعي.
لمنصور الفقيه: الطويل
إذا نحن زرنا أحمد بن محمد ... وأحمد للأمر المبرح فارج
نطقنا لديه بالذي في صدورنا ... ولم تتكسر في الصدور الحوائج
قال يعقوب: امرأة متعاونة وهي التي لا تستشب من صغر، ولا يرغب عنها من كب، قال: ومعنى تستشب أي تقول هي صغيرة انتظر بها أن تشب.

قال أبو يوسف: بقيت على باب الرشيد حولاً لا أصل إليه حتى حدثت مسألة، وذلك أن بعض أهله كانت له جارية فحلف أن لا يبيعة إياها ولا يهبها له، وأراد الرشيد شراءها فلم يجد أحداً يفتيه، فقلت للفضل: أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من الفقهاء عنده الشفاء من هذه الحادثة، فدخل فأخبره فأذن لي، فلما وصلت مثلت فقال: ما تقول فيما قال الفضل بن الربيع؟ قلت: يا أمير المؤمنين أأقوله لك وحدك أو بحضرة الفقهاء؟ فقال: بحضرة الفقهاء ليكون الشك أبعد واليقين أقعد؛ فأمر باحضار الفقهاء وأعيد عليهم السؤال فكل قال: لا حيلة عندنا، فأقبل أبو يوسف فقال: المخرج أن يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فإنه لا يقع الحنث، فقال القوم: صدق، فعظم أمري عند الرشيد، وعلم أني أتيت بما عجزوا عنه، فقال: أريد أن أطأها اليوم، قلت: يا أمير المؤمنين أعتقها ثم تزوجها، فسري عنه.
وإنما قال ذلك لأن مذهب أبي يوسف أن العتق إذا طرأ على الأمة سقط عنها الاستبراء.
قال المزني: سئل الشافعي عمن رؤي في الحمام مكشوفاً هل تقبل شهادته؟ قال: لا.
قال الربيع، سمعته يقول: العلم ما استودعته نفسك فحفظته عليك، ثم أردت ذكره في وقته فأدته إليك.
قال جابر بن عبد الله: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بال صاحبكم هذا؟ قالوا: صائم، قال: إنه ليس من البر الصوم في السفر، فعليكم برخصة الله فاقبلوها.
قال يعقوب: المؤثل: المثمر، يقال: تأثل فلان أي نبت له نبت كثير الأثلة، ويقال: تأثل: اكتسى، أثل أهله أي كساهم، بيت أثيل.
أنشد دعبل لحطان بن المعلى أبياتاً وقال: وددت أنها حظي من الشعر وهي: الطويل
يذكرنيك الخير والشر والحجا ... وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل
فألقاك عن مذمومها متنزها ... وألقاك في محمودها ولك الفضل
وأحمد من أخلاقك البخل إنه ... بعرضك لا بالمال حاشا لك البخل
كتب عمرو بن مسعدة: وأنا أحب أن يتقرر عندك أن أملي فيك أقعد من أن أختلس الأمور منك اختلاس ن يرى أن في عاجلك عوضاً من آجلك، وفي الذاهب من يومك بدلاً من المأمول في غدك.
كان الرشيد جالساً ذات يوم وعنده سليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر وعبد الملك بن صالح، فقال الرشيد لعبد الملك: كيف أرض كذا؟ قال: خضاب حمر، وبراث عبر، قال: فأرض كذا؟ قال: فيافي فاسحة، وجبال متناوحة، قال: فأرض كذا؟ قال: تربة حمراء، وشجرة خضراء وسبيكة صفراء، قال: فأرض كذا؟ قال: مسافي ريح، ومنابت شيح، فقال عيسى لسليمان: ما ينبغي أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام.
قال سفيان بن عيينة، قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: أنتم جلاء قلبي، ثم أقبل سفيان على أصحابه وقال: ولكنكم غطاء قلبي.
قال بعض السلف: سالم الزمان بحسن المعاشرة يتأت بك قليلاً، ولا تحمله شططاً فتعصف عليك ريحه، وأخر معاتبتك لا يكاشفك بالمكروه، ووادعه بالرضا عنه تقل همومك، فإنه إن عسفك لم تنتصر منه ولم تدفع ضيمه.
قال يعقوب: الجزارة حق الجازر؛ وحقه الرأس والفراسين بأوظفها والفرع والعجب في برمة من لحمها وشحمها؛ وثنيا الجزور أن بيبع الرجل ناقة من إبله تريد أن تموت ويستثني رأسها وضرعها وذنبها ومعه فقرة العجب، وهي فقرة القحقح، بنظير أن يذهب ضرعها ورأسها.
شاعر يمدح عبد الله بن طاهر: الوافر
أظن الشام يشمت بالعراق ... إذا عزم الأمير على انطلاق
يقول محمد تفديك نفسي ... أما تبقي علي من الفراق
فإن تدع العراق وساكنيها ... فقد تبلي المليحة بالطلاق
قال ابن عباس: تبكي على الرجل البقاع التي كان يصلي فيها، ويصعد عمله منها، فذلك قوله: " فما بكت عليهم السماء والأرض " الدخان: 29.
كان القاضي ابنقريعة في مجلس المهلبي فوردت عليه رقعة فيها: ما يقول القاضي - أعوه الله - في رجل دخل الحمام وجلس في الأبزن لعلة كانت به، فخرجت منه ريح تحول الماء بها زيتاً، فتخاصم الحمامي والضارط فادعى كل واحد منهما أنه يستحق جميع الزيت لحقه فيه؟

فكتب القاضي في الجواب: قرأت هذه الفتيا الطريفة في هذه القصة السخيفة، وأخلق بها أن تكون عبثاً باطلاً، وكذبا ماحلاً، وإن كان ذلك كذلك، فهو من أعاجيب الزمان، وبدائع الحدثان؛ والجواب وبالله التوفيق أن للضارط نصف الزيت بحق وجعئه، وللحمامي نصف الزيت بقسط مائه، وعليهما أن يصدقا المبتاع له عن خبث أصله وقبح فصله، حتى يستعمله في مسرجته، ولايدخله في أغذيته.
كان المهلبي قد تقدم إلى ابن قريعة أن يشرف على البناء في داره، وأن لا يطلق شيء إلا بتوقيعه، فحضر يوماً بعض السوقة فقال: أصلح الله القاضي، إن لي ثمن ثلاثين بيضة استعملها المزوقون في البناء، فقال: بين عافاك الله، قال: قد بينت أيها القاضي، قال: إنما سمعنا بيضاً، وأجناس البيض كثيرة، قال: أيها القاضي أعني بيض الدنيا، قال: فكأنا ادعينا أن في الآخرة بيضاً! ويحك، إن البيض منه الهندي والنبطي والبطي والحمامي والعصافيري والدجاجي، فأي بيض بيضك؟ قال: بيض الدجاج النبطي، قال: فأعد دعواك، قال: لي أعز الله القاضي ثمن ثلاثين بيضة ن بي الدجاج النبطي، فقال لكاتبه: اكتب: ذكر أبو جعفر البياض خبط ونبط أن له ثمن ثلاثين بيضة دجاجياً، لا نبطياً ولا هندياً؛ ارجع - أعزك الله - إلى دفتر حسابك وميزان عملك، فإن وجدته صادقاً فقد وجب له ما يجب للصادقين من البر والإكرام وإعطاء الثمن على الوفاء والتمام، وإن كان كاذباً فعليه ما على الكاذبين من اللعن والرجم، ثم الحرمان والامتهان، وقل له: باعدك الله من حريمه ما اقل وفاءك لشيبك.
سمعت أبا حامد العلوي يقول، قيل على مائدة بخيل: ما أحسن كثرة الأيدي على المائدة، فقال: نعم إذا كانت مقطعة.
وقال بعض الغوغاء في كلامه: فلان يأخذ من الحافي نعله. وسمعت آخر يقول: لعن الله فلاناً يطر والله من العريان كمه.
يقال: إن العرب كانت إذا أرادت أن يعين رجل رجلاً، أي يصيبه بالعين، يجوع ثلاثاً ثم ينصفه فيصرعه.
قال أعرابي: إن أحق من خفف عنه، واكتفي باليسير مه، رئيس مكثور عليه، وسيد منظور إليه.
كان إسماعيل القاضي لا يجلس في العشر، فجاء خصمان إلى رجل كان على بابه يعرف بالرضيع، وضمنا له عشرين درهماً وقالا: علمنا ما نرتفع به إليه وتفصيلي ما شجر بيننا بين يديه، فقال لهما: إذا امتنع من النظر بينكما في هذه الأيام فقولا: أيها القاضي هل تأخذ من السلطان رزق هذه الأيام؟ فتقدما وقالا ذلك، فلما سمع إسماعيل جلس للحكم، فأول من تقدم الرضيع مع الرجلين، فقال القاضي: يا رضيع هذا من فعلاتك؟ قال: نعم أصلح الله القاضي، امتنعت من الحكم فاضطررت إلى القوت، وضمنا لي عشرين درهماً، فقال إسماعيل: يا غلام أخرج إليه عشرين ديناراً.
سمعت أبا حامد يقول: رأيت بعض الصحابة في النوم فقلت له: ما الدلالة على التوحيد؟ فقال: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " آل عمران: 190.
قال أبو مسمع البصري: كنا نجالس أبا الهذيل في مجلسه فجاءنا شاب له رواء ومنظر وسمت، فقعد فأجللناه لظاهره، فقال أبو الهذيل: ليس للعجم كتاب أجل من الكتاب المترجم بجاويدان خرد وقد استفصح مؤلفه بثلاث كلمات ليس لهن نظير، منها أنه قال: من أخبرك ا، عاقلاً لم يصبر على مضض المصيبة فلا تصدقه، ومن أخبرك أن عاقلاً أساء إلى من أحسن إليه فلا تصدقه، ومن أخبرك أن حماة أحبت كنة فلا تصدقه؛ فانبرى الغلام وجثا وقال: حدثني أبي عن جدي بثلاث أحسن منهن، فقال أبو الهذيل: من علينا بهن، فقال، قال جدي رحمه الله، من أخبرك أن الجائع كالشبعان فلا تصدقه، ومن أخبرك أن النائم كاليقظان فلا تصدقه، ومن أخبرك أن الراضي كالغضبان فلا تصدقه؛ فقلنا له: أمن العرب أنت أم من العجم؟ قال: من بينهما، قلت: من أي بلد؟ قال: من دوين السماء وفويق الأرض، فقال له الجاحظ: ما أسمك؟ قال: لجام، قلنا: فالكنية؟ قال: أبو السرج، فقال له: فما لك لا تنهق وأنت حمار؟ فقام مغضباً يجر إزاره ويقول: ليس الذنب لكم، الذنب لي كيف جالست أمثالكم وأنتم لا تدرون ما طحاها.
قال ابن أبي بشر: إنما بايع الناس أبا بكر رضي الله عنه لأنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الحق مع عمر بعدي، فلما رأوا عمر مد يمينه لبيعة أبي بكر رضوا بذلك لما سبق إليهم.

قال أبو الجهم السامي الصوفي: الشرف شرفان: شرف بواسطة وشرف بلا واسطة، وإنما أعز الله تعالى الإسلام بخلافة أبي بكر رضي الله عنه لأنه شابه شرفه شرف النبي عليه السلام في عدم الوسائط، وما هكذا علي، فإن شرفه كان بوسائط كثيرة، فسبق لذلك.
ذكر أعرابي امرأة فقال: رحم الله فلانة إن كانت لقريبة بقولها بعيدة بفعلها، يكفها عن الخنا إسلامها، ويدعونا إلى الهوى كلامها؛ كانت والله تقصر عليها العين، ولا يخاف من أفعالها الشين.
كاتبك أنت - جعلت فداك - فتى العسكر، ومعدن الحرمة، ووطن الأدب، ومن كانت هذه صفاته فالخروج عن مودته خمور فضلاً عن الدخول في عداوته، وأنا وأنت أخوا مودة، ورحم المودة أمس من رحم القرابة، فكيف رميت بسهامك؟ أم كيف امتحنت بعداوتك؟ ولكنه كما قال الشاعر: الطويل
بلى قد تهب الريح من غير وجهها ... ويقدح في العود الصحيح القوادح
قال الحراني الصوفي: التقى متعاشقان فقال أحدهما لصاحبه: أين تريد؟ قال: شغلاً، قال الآخر: أو لك شغل غيري؟ اذهب فأنت حري بالهجر.
قال جعفر بن محمد لأبي ولاد الكاهلي: أرأيت عمي زيداً؟ قال: نعم رأيته مصلوباً، ورأيت الناس فيه بين شامت حنق ومحزون ومحترق، فقال جعفر: أما الباكي فمعه في الجنة، وأما الشامت فشريك في دمه.
قال عيسى بن مريم عليه السلام: لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وترك ذكري يقسي القلوب.
قال زيد بن علي عليه السلام: لا يسأل العبد عن ثلاث يوم الحساب: عما أنفق في مرضه، وعما أنفق في إفطاره، وعما أنفق في قرى ضيفه.
قال عمر لعثمان رضي الله عنهما: توأدت، يعني تأخرت وشغلت القلوب، هذا حين أبطأ عن صلاة الجمعة.
أنشد سعيد بن حميد لخزامى جارية ابن المعتز: الطويل
ذكرتكم ليلاً فنور ذكركم ... دجى الليل حتى انجاب عني دياجره
فوالله ما أري أضوء مسجر ... لذكركم أم يسجر الليل ساجره
وبت أسقى الشوق حتى كأنني ... صريع مدام لم ينهنهه دائره
وظلت أكف الشوق لما ذكرتكم ... تمثل لي منكم خيالاً أسايره
ولو كنتم أقصى البلاد لزرتكم ... إلى حيث يفنى ورده ومصادره
أرى قصراً بالليل حتى كأنما ... أوائله مما تدانى أواخره
سمعت بعض العلماء يقول: الفناء سعة أمام الدار، وقال: أفانين الشباب: أوله.
وسمعت الأنصاري يقول: الأشياء كلها: نام وصامت وناطق، فالناس كالنبات، والصامت كالجبل، والناطق مثل الإنسان، فقيل له: فما تقول في البهائم والطير؟ فسكت انقطاعاً؛ فحكيت لأبي حامد فقال: قصر في القسمة فافتضح بالوصمة، وإنما النامي كالنبات والشجر، والجامد كالجبال والحجر، والصامت كالبهائم والطير، وأما الحكل فلا صوت لها.
سأل أعرابي ابن الزبير فحرمه، فقال الأعرابي: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال عبد الله: إن وراكبها، أي أجل.
وقال بعض العلماء: " إن هذان لساحران " طه: 63 إن بمعنى ما، واللام في موضع إلا، كأنه قال: ما هذان إلا ساحران.
ورجل أننة والجمع أنن، وقولك: أنى بمعنى كيف ومن أي شيء، قال الكميت: المنسرح
أنى ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
وقوله تعالى " أنى لك هذا " آل عمران: 37 أي من أين لك هذا؛ وقوله تعالى " أنى يكون له الملك علينا " البقرة: 247 أي كيف يكون.
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " البقرة 223 على معنى كيف شئتم في الحال والهيئة، وأنى شئتم، على معنى في أي مكان شئتم في القبل والدبر.
سمعت الأندلسي يقول، سمعت العماني يقول، سمعت الزجاج يقول في قول الشاعر: الكامل
تالله قد سفهت أمية رأيها ... فاستجهلت حلماؤها سفهاؤها
معناه: تالله قد سفهت أمية رأيها سفهاؤها فأبدل سفهاؤها من أمية ثم قال: واستجهلت حلماؤها أي صارت في جملة الجهال.
قال: وسئل الزجاج عن قابوس فقال: إذا جعلته أعجمياً لم تصرفه، وإن اشتققته من قولك: فبستك ناراً فهو فاعول صرفته، قيل: فجاموس؟ قال: اصرفه لأنه جنس، قال: ولم صرفته؟ قال: لأن العرب أخرجته من العجمة بالألف واللام فأجري مجرى أجناس العربية.

وقال الزجاج: لا نولك أن تفعل هو في موضع: لا ينبغي لك أن تفعل، تقول بغيت الشيء فانبغي لي، فعلى هذا ينبغي لي أن أفعل، أي يطاوعني هذا الفعل، ولا يحسن قولك: مني، وهو في موضع لا تناول أن تفعل ولا ينال لك أن تفعل، أي لا يصلح الفعل.
قال أبو إسحاق الكلابزي: تخرق كتاب سيبويه في كم المازني نيفاً وعشرين سنة.
قال إسماعيل بن إسحاق القاضي، سمعت نصراً يحكي عن أبيه قال: قال لي سيبويه حين أراد أن يضع كتابه: تعال حتى نتعاون على إحياء علم الخليل، يعني بنصر نصر بن علي الهضمي.
قال بعض الأوائل: إن المسك الخالص كلما سحق ازداد طيباً، والرجيع كلما سيط ازداد نتناً.
قال أعرابي لآخر: لا كل لسانك عن البيان، ولا أسكتك الزجر والهوان.
قال كسرى لمريم بنت قيصر حين زفت إليه: أنت من جوارحي قلبي، ومن عمادها روحي، وفي الهوى منتهى منية نفسي.
قال قيصر: مال الحيلة فيما أعيا إلا الكف عنه، ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه.
قال أعرابي: فلان أسود الكبد، أي أحرقت العداوة كبده.
قال بعض النحويين في قوله تعالى: " حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " الأنفال: 63 إذا توجهت كان الله كافيك ومن اتبعك، فمن منصوب بكافيك، وإذا توهمت أن الله يكفيك ويكفيك من اتبعك فمن مرفوع بالفعل.
قال: حمل بهرام فلما رآه أخوه كرك استقبله في الميمنة، فاضطربا ملياً فلم ير إلا وهما يتمارسان ويتغالان ولا أسدين غضبانين يتنازلان ويتصاولان، ولا فيلين سكرانين يتنايبان ويتراكلان، ولا فحلين حانقين يتكادمان ويتساوران، ولا أسودين بتلازمان ويتناهشان.
قال أبو عثمان: من لم يوثق بعقله ولم ترج فيئته ضاع القول في مكالمته، وضل الرأي في مخاطبته، لأن العاقل لا يبذر في أرض لا تنبت، ولا يغرس شجراً لا يثمر، ولا هو إن لم يثمر ينتفع بعوده وورقه، والحكماء عل محكم أقوالهم أشح منهم على مقدار الاستحقاق.
قال إبراهيم بن عبد الصمد: لما عمل كسرى القاطول أضر ذلك بأهل الأسافل وانقطع عنهم الماء حتى افتقرا وذهبت أموالهم، فخرج أهل ذلك البلد إلى كسرى يتظلمون، فوافقوه في مسيره، فعرضوا له وقالوا: أيها الملك، جئناك متظلمين، قال: وممن تتظلمون؟ قالوا: منك، فثنى رجله عن دابته وجلس على الأرض، فأتاه بعض من معه بشيء يقعد عليه فأبى أن يقعد عليه وقال: لا أجلس إلا على الأرض إذ أتاني قوم يتظلمون، ثم قال: ما مظلمتكم؟ قالوا: أحدثت القاطولن قطع عنا شربنا فذهبت رواتبنا، قال: فإني آمر بسده حتى يرجع إليكم الماء وتعود أحوالكم، قالوا: أيها الملك لا نجشمك هذا، ولكن مر من يعمل مجرى الماء من فوق هذا القاطول، فعمل لهم مجرى مائهم من فوق القاطول شبه القروج فجرى فيه الماء فعمرت بلادهم ورجعت أحوالهم، وهو أول ما عرف القورج.
وكانت ملوك الفرس إذا بلغهم أن كلباً مات بقرية لا يعرف لموته سبب، كتب الملك أن خذوا أهل هذه القرية بالبينة أن الكلب مات حتف أنفه ولم يمت جوعاً، وكانوا يأخذون أهل الحروث بحرث نصف أرضهم في العام وتبويرها في القابل، فيحرثون ما بوروه، ويبورون ما حرثوا.
أنشد أحمد بن الطيب لشاعر: البسيط
لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن ... لكنني أعشق السمر المهلازيلا
فقيل لي أنت خوان فقلت لهم ... لا تكثرن علي القال والقيلا
شرطي الشريطي لا أبغي به بدلاً ... تخاله من نحول الجسم مسلولا
إني امرؤ أركب المهر المضمر في ... يوم البراز فدع أن أركب الفيلا
قال أحمد بن الطيب: المسيخ من الألوان المغسول من حوادث الأبصار.
لأبي حفص الشطرنجي: السريع
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده
مصراع لمنصور الفقيه: مجزوء الخفيف
ذم من شئت منهم ... فهو للذم موضع

قال المفجع، قال المبرد: كان الأعشى كثير التطواف، فأصبح من ليلة كان يطوفها بأبيات علقمة بن علاثة، فلما نظر قائده إلى قباب الأدم قال: واسوء صباحاه! هذه والله أبيات علقمة، وخرج فتيان الحي فقبضوا على الأعشى فأتوا به علقمة، فلما مثل بين يديه قال علقمة: الحمد لله الذي أظفرني بك بغير عقد ولا ذمة، قال الأعشى: أو تدري لم ذاك جعلت فداك؟ قال: لتقواك علي الباطل من غير جرم، قال: لا ولكن ليبلو الله قدر حلمك في، فأطرق علقمة فانبعث الأعشى يقول: المتقارب
أعلقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما كان بي منكص
كساكم علاثة أثوابه ... وقلدكم حلمه الأحوص
فهب لي ذنوبي فدتك النفوس ... ولا زلت تنمي ولا تنقص
فقال: قد فعلت، ووالله لو قلت في ما قلت في ما قلت في عامر ابن عمي لأغنيتك حياتك، ولو قلت فيه ما قلته في ما أذاقك برد الحياة.
كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن ناساً قبلنا لا يؤدون ما قبلهم من الخراج إلا أن يمسهم شيء من العذاب، فكتب إليه عمر: أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني جنة لك من عذاب الله، أو كأن رضاي ينجيك من سخط الله، إذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك ما قبله عفواً فاقبله، وإلا فاستحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بخيانتهم أحب إلي من أن ألقى الله بعذابهم.
العتابي: الطويل
ألفنا دياراً لم تكن من ديارنا ... ومن يتألف بالكرامة يألف
شاعر: البسيط
جاء الشتاء ولم أعدد له فنكاً ... إلا ارتعاداً وتصفيقاً بأسنان
وقد لبست قميصي في أوائله ... منكم على دمن أقوت بقضبان
قال ابن عباس: ثلاثة من عازهم عادت معازته إلى ذل: السلطان والوالد والغريم.
قال فيلسوف: الخوف على ثلاثة أناء: دين يخاف معاداً، وحر يخاف عاراً، وسفلة يخاف ردعاً.
قال فيلسوف: النيران أربع: نار تأكل وتشرب وهي نار المعدة، ونار تأكل ولا تشرب وهي نار الوقود، ونار تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر، ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار الحجر.
قال فوثاغورس: الصورة ذكر، والهيولي أنثى، والطبيعة رباط بينهما.
كتب المعتصم لما فتح عمورية إلى المأمون: كتبت في الوقت الذي فتح الله المصر على أعدائه والكفرة به، ودخلت عمورية وقتلت أكثر مقاتليها إلا القل اليسير، وسبيت جميع ذراريها، وجاءني هذا كتاب منه للخبر لا يعتد بالأثر.
وكتب ابن الفرات وعلي بن عيسى ومحمد بن داود ومحمد بن عبدون رقعة إلى العباس بن الحسن الوزير يستزيدونه فيها، فوقع بخطه عل ظهرها: ما حالكم حال مستزيد، ولا فوق ما أنا عليه لكم مزيد، فإن تكن الاستزادة من مال فهو موور عليكم، وإن تكن من رأي فالأعمال لكم، ولي اسمها وعلي عبئها وثقل تدبيرها؛ وأقول لعلي بن محمد من بينكم الذي ما يطيق نفسه تذللاً واعتدالاً: أمن بؤس كانت هذه الاستزادة أم من بطر النعمة ودلال الترفه؟ ولي في أمر جماعتكم نظر ينكشف عن قريب، وحسبي وحسبكم الله ونعم الحسيب.
وكتب النعمان بن عبد الله إلى ولي الدولة كتاباً يستزيده فيه في رزقه، فوعق على ظهره: قد أعجبت بنفسك تعرفها، فإن أحببت أن أعرفكها عرفتك.

فكتب إليه النعمان: كنت كتبت إلى الوزير - أعزه الله - كتاباً أستزيده في رزقي، فوقع على ظهره تويع ضجر، لم يخرج فيه مع ضجره شيء من حياطته ونظره وقال - أيده الله - إنه قد حدث لعبده عجب بنفسه، وقد صدق - صدق الله قوله وأعلى طوله - لقد شرفني الله بخدمته، وأعلى ذكري بجميل ذكره، ونبه على كفايتي باستكفائه، ورفعني وكثرني عند نفسي، فإن أعجبت فبنعمة الله عندي، وجميل تطوله علي، ولا عجب؛ وهل خلا الوزير من قوم يصطفيهم بعد قلة، ويرفعهم بعد خمول، ويحدث لهم همماً رفيعة وأنفساً عليه، وفيهم شاكر وكفور، وأرجو أن أكون أشكرهم للنعمة أقومهم بحقها؛ وقال - أعزه الله - إن عرف نفسه وإلا عرفناه إياها، فما أنكرها، وهي نفس أنشأتها نعمة الوزير - أيده الله - وأحدثت فيها ما لم تزل تحدثه في نظرائها من سائر عبيده وخدمه؛ وأنكر - أيده الله - إخباري عما لم أشاهده، وهو - أيده الله - يعلم أن الخبر المجتمع عليه يقوم مقام العيان فيحققه من لميشاهده ولا ينكر عليه ذلك، وليس في المملكة أحد يذكر ارتفاعاً إلا حائن مغرور يصرعه حينه، واله يعلم ما يأخذ به نفسه من خدمة الوزير عنده، إما عادة ووراثة، وإما تأدباً وهيبة، وإما شكراً واستدامة للنعمة.
قال عبيد الله بن سليمان: كنت أكتب بين يدي أبي سليمان فقال لي يوماً: أصلح قلمك واكتب: أطال الله بقاءك، وأدام عزك وأكرمك، وأتم نعمته عليك، وزاد في إحسانه إليك، كتب الوكيل - أعزك الله - متصلة بشكرك، والضيعة ضيعتك، وكل ما تأيته في أمرها فموقعه يحسن مني، وشكري عليه يتضاعف - وخطاباً في هذا المعنى، وكانت هذه المخاطبة لا يخاطب بها إلا صاحب مصر أو فارس، فقلت: قد ابتاع ضيعة بأحد الموضعين، ثم أصلح الكتاب وقال: عنونه إلى الرخجي، وكان يتقلد النهروان الأوسط.
ثم رمى إلي كتاباً آخر لصاحب بريد فقال: وقع عليه: أنت - أعزك الله - تقف على ما تضمنه هذا الكتاب، ولئن كان ما تضمنه هذا الكتاب حقاً لأفعلن ولأضعن؛ وخطاباً غلظ فيه، ثم أصلح الكتاب وقال: عنونه إلى الرخجي، فعجبت من الكتابين، وكأنه علم ما في نفسي فقال لي: إني أظنك قد أنكرت الخطابين، هذه تناءتين خدمتها، وهذا حق سلطاني استوفيته.
قال ابن أبي الأصبغ: كنت بحضرة عبيد الله بن سليمان وهو يكتب للمعتضد أيام إمارته حين وردت عليه رقعة من أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأنا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صروفها إلى فضلك، واستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك وحسن ملكتك، فإنها تؤخرني إذا قدمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت يسيراً، وإن ارتجعت كثيراً، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا اعتمدت للانتصاف منها إلا فضلك، ولي مع ذمام المسألة لك، وحق الظلامة إليك، ذمام تأميلك، وقدم صدق في طاعتك، والذي يملأ من النصفة يدي، ويفرغ الحق علي، حتى تكون إلي محسناً، وأكون بك إلى الأيام مقرباً، أن تخلطني بخواص خدمك الذين نقلتهم من حد الفراغ إلى الشغل، ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تعديني فقد استعديت إليك، وتنصرني فقد عذت بك، وتوسع لي كنفك فقد أويت إليه، وتسمني بإحسانك فقد عولت عليه، وتستعمل يدي ولساني فيما يصلحان له من خدمتك، فقد درست كتب أشلافك، وهم القدوة في البيان، واستضأت بآرائهم، واقتفرت آثارهم اقتفاراً جعلني بين وحشي الكلام وإنسيه، ووقفني منه على جاة متوسطة يرجع إليها الغالي، ويلحق بها المقصر التالي، فعلت إن شاء الله.
قال: فجعل عبيد الله يرددها، ويستحسنها ثم قال: هذا أحق بديوان الرسائل.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلاك العرب أبناء بنات فارس.
دخل عمرو بن معدي كرب على عمر بن الخطاب وهو يحد الصمصامة، فقال له الأشعث بن قيس: يا عمرو، إلى متى تحد سيفك وقد فشا الإسلام، وأظهر الله الدين؟ قال عمرو: وماذا يريبك منه، فوالله إنه لسيف مازني بامرأة أبيه قط، ولا ارتد عن الإسلام، فقال له رجل زبيدي يا عمرو أللسيد تقول هذا؟ قال: اسكت فوالله ما أنت إلا بمنزلة النعرة التي تقع في أنف الحمار، فقال له الزبيدي: يا عمرو أما عملت أنها ربما أضرطته؟ فخجل عمرو.
المعلهج: الأحمق؛ انكفت: انقبض.

قال نور بن يزيد: كان عمر بن الخطاب يعس بالمدينة في الليل، فارتاب بالحال فتسور، فوجد رجلاً عنده امرأة وعنده خمر، فقال له: يا عدو الله، أكنت ترى أن الله يسرك وأنت على معصيته؟ فقال الرجل: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، إن كنت عصيت اللهفي واحد فقد عصيته أنت في ثلاث: قال الله تعالى: " ولا تجسسوا " الحجرات: 12 وقد تجسست، وقال: " وأتوا البيوت من أبوابها " البقرة: 189 وقد تسورت، وقال: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " النور: 27 وأنت دخلت بغير سلام؛ فقال له عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، والله لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبداً، فعفا عنه.
كتب عمر إلى معاوية: الزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق، يوم لا يقضي إلا بالحق.
قال ابن عباس: لما أسلم عمر رضي الله عنه قال المشركون: انتصف القوم منا.
قال المدائني: نظر عمر إلى أعرابي يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوجني العين، فقال عمر: أسأت النقد وأعظمت الخطبة.
قال أبو زياد الفقيمي: أهدى رجل إلى عمر جزوراً ثم خاصم إليه بعد ذلك في خصومة، فجعل يقول: افصلها يا أمير المؤمنين كفصل رجل الجزور، فاغتاظ عليه عمر فقال: يا معشر المسلمين، إياكم والهدايا، فإن هذا منذ أيام أهدى إلي رجل جزور، فوالله ما زال يرددها حتى خفت أن أحكم بخلاف الحكم.
قال إبراهيم بن ميسرة، قال لي طاووس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي الزوائد: ما يمنعك من التزويج إلا عجز أو فجور.
جلس رجل إلى عمر رضي الله عنه فأهذ من رأسه شيئاً فسكت عنه، ثم صنع به ذاك يوماً آخر، فأخذ بيده وقال: ما أراك أخذت شيئاً، فإذا هو كذلك، فقال: انظروا إلى هذا، صنع بي مراراً، إذا أخذ أحدكم من رأس أخيه شيئاً فليره، قال الحسن: نهاهم والله أمير المؤمنين عن الملق.
قال الحكم بن عتيبة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: القاضي لا يصانع ولا يصارع، ولا يتبع المطامع، يصارع: يميل إلى أحد الخصمين؛ كذا كان التفسير مع الحديث.
قال أبو هريرة: لما استخلف عمر صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني نظرت إلى الإيمان فوجدته يقوم على أربع خصال، فقام إليه عمار بن ياسر فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: تقوى الله في جمع المال من أبواب حله، فإذا جمعته عففت عنه، وإذا عففت عنه وضعته في مواضعه حتى لا يبقى عندي منه دينار ولا درهم ولا عند آل عمر خاصة؛ والثانية: أعرف للمهاجرين حقهم وأقرهم على منازلهم؛ والثالثة: الأنصار الذين آووا ونصروا، أحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فأقبل من محسنهم وأتجاوز عم مسيئهم وأكون أنا عيالهم حتى ينصرفوا إلى منازلهم؛ والرابعة: أهل الذمة، أفي لهم بعدهم وأقاتل من ورائهم ولا أكلفهم إلا طاقتهم؛ قال: إذا فعلت ذلك كنت معترفاً عند الله - جل اسمه - بالذنوب.
وقال أيضاً على المنبر: اقرأوا القرآن تعرفوا به، واعلموا به تكونوا من أهله، إنه لن يبلغ من حق ذي حق أن يطاع في معصيتة الله، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي ايتيم، إن استغنيت عففت، إن افتقرت أكلت بالمعروف تقرم البهمة الأعرابية: القضم لا الخضم.
مات أبو عبيد سنة تسع ومائتين وله أربع وتسعون سنة، وقيل له في علته: ما بك؟ فقال: هذا النوشجاني دخلت إليه مسلماً فجاء بموز كأنه أيور المساكين، فأكثرت منه فكان سبب علتي.
قال أبو عبيدة: اسم السلام هو السلام، كما تقول: هذا وجه الأمر، وهذا وجه الحق، وثم وجه الله عز وجل، أي الله.

ج6. كتاب : البصائر والذخائر أبو حيان التوحيدي


قال محمد بن يزيد الواسطي: كنت في مجلس المبرد فجرى ذكر قول أبي عبيدة في أن الاسم هو المسمى، فقال المبرد: غلط أبو عبيد القاسم وأخطأ أبو عبيد، والذي عندنا أنه أراد بقوله: اسم السلام، اسم الله، والسلام من الأسامي التي تسمى بها الله عز وجل في كتابه، ثم التفت إلي وقال: هذا الذي أختاره ويختاره أصحابنا، فأمسكت ولم ير في وجهي قبولاً؛ فلما رضيته وإن كان قد ذهب إليه أصحابنا، فقال لي: وأي شيء عقدك؟ قلت: أما أبو عبيد فمذهبه في هذا خطأ، وقد غلط على أبي عبيدة لأن الذي قاله أبو عبي فذهبه في هذا خطأ، وذد غلط على أبي عبيدة هو اللفظة الموضوعة علامة لتقضي الأشياء، فتختم بها الرسائل والخطب والكلام الذي يستوفي معناه وليس لها مسمى غيرها وهي مثل حسب وقط والموضوعة كالعلامات لتضي الأشياء، فتختم بها الرسائل والخطب والكلام الذي يستوفي معناه وليس لها مسمى غيرها وهي مثل حسب وقط والموضوعة كالعلامات لتقضي الأشياء وختم الكلام، فهي اسم لا مسمى له غيره، فأعجب أبا العباس ذلك وقال لي: لا عدمتك. ثم رجعت إلى المعنى الأول فقلت: وذاك الأول، وإن كان ذهب إليه بعض أصحابنا، فإنه قول من لا يفهم الشعر ومعاني الشعر، ولبيد أفصح من أن يقول عند توديعه وتناهي مكانه: اسم الله عليك، وإنما يسمى الله تعالى فيما يداوله النمو والبركة والزيادة أو يعوذ لحسنه وجماله، فقال لي: يا أبا عبد الله حسبك، فما سرني بهذه الفائدة حمر النعم.
أنشد الأصمعي لجارية من العرب: الطويل
تحمل عداك الله عني رسالة ... إليه جديداً كل يوم سماعها
وخبر عن الوعساء أن قد توجهت ... إليها مراعيها وطال نزاعها
لقد قطع البين المشت أكفة ... عزيز علينا أن يحم انقطاعها
قال ابن دريد: الفتلاء التي يتجافى كتفاها عن زورها - وهو مدح - ؛ والسرح: السهلة؛ واستناع: تمادى واستنعى.
قال الأصمعي: العميان أكثر الناس نكاحاً، والخصيان أصح الناس أبصاراً، لأنهما طرفان: إذا نقص من أحدهما زاد في الآخر.
قال إسحاق الموصلي: قبل الأصمعي يد الرشيد بعقب كلام قرظة به فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما شممت طيباً قط أطيب من نسيم يدك، فطيب الله نفسك كما طيبها، وأنعم بالك كما أنعمها، وألان زمانك كما ألانها ضد ما قال الأسدي لابن مطيع العدوي حين جلس ليأخذ البيعة لابن الزبير، قال: وما قال له؟ فأنشد: الطويل
دعا ابن نطيع للبياع فجئته ... إلى بيعة قلبي لها غير آلف
فأبرز لي حشناء لما لمستها ... بكفي ليست من أكف الخلائف
قال أبو حاتم: ما رأيت رجلاً قط أحسن ترجمة للكلام من الأصمعي، سألته: لأي شيء قدم جريراً من قدمه؟ قال: كان أغزرهم وأغزلهم، وأقلهم سرقة وألهجهم هجاء؛ أبو حاتم: ألهجهم: أثقبهم، يقال رجل لهجة إذا كان منكراً.
قال الأصمعي، قال لي الرشيد: أنشدني أشعر ما تعرف في المجون، فأنشدته: الوافر
ألم ترني وعمار بن بشر ... نشاوى ما نفيق من الخمور
وكنا نشرب الإسفنط صرفاً ... ونصقى بالصغير وبالكبير
إذا ما قبحة وقعت لنيك ... رفعناها هنالك بالأيور
بكل مدور صلب متين ... شديد الرهز ليس بذي فتور
قال: ثم قلت: قول بكر بن النطاح: السريع
وقحبة أعطيتها خمسة ... فنكتها نيكاً بألفين
تركته يطلع من فرجها ... طلع حمار بين وقريم
قال الأصمعي: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت؟ مخلع البسيط
هل كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
قلت: لابن أبي عيينة المهلبي، قال: كلام شريف كأنه قول الشاعر: الطويل
وإن بقوم سودوك لفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد
قال الأصمعي، قال أبو فرعون العدوي: الرمل المجزوء
ليتني في بيت ورد ... منقعاً في الآدب سرد
قاعداً أعمل فيه ... سنه ما يحرد كرد
فأجا حرها بأيري ... ولحا مقمور بدرد
قال الأصمعي: مر يتساوك: إذا انثنى؛ وقال: يعوج: يميل، ويعيج: يلتفت. وقال: الحرمة: الغلمة، ومنها يقال: استحرمت المعز.

قال الأصمعي: حدث رجل عند المنصور فأكثر من قوله: قال أبي رحمه الله، فقال له الفضل: كم تترحم على أبيك في مجلس أمير المؤمنين؟ فقال: لو ذقت حلاوة الآباء ما نسيتها.
قال الأصمعي، سمعت أبا فرعون الساسي يقول: الرجز
لقد غدوت خلق الثياب ... معلق الزنبيل والجراب
طبا بدق حلق الأبواب ... أسمع ذات الخدر والحجاب
قال، وله: الرجز
رب عجوز خبة زبون ... سريعة الرد على المسكين
تظن أن بوركا يكفيني ... إذا غدوت باسطاً يميني
عدمت كل علجة تؤذيني
البنك: ضرب من طيب، الكفت: القبض؛ جذا يجذو جذواً إذا انتصب.
قال بعض الأدباء: يقال للإنسان ما دام رضيعاً: صبي، فإذا فطم عن اللبن فهو وليد، فإذا راهق فهو غلام، فإذا خرج شعر وجهه فهو شاب، ثم يكون مجتمعاً، ثم يكون كهلاً، ثم شيخاً، فإذا خالطه البياض فهو أشمط، تقول: وخطه الشيب، وإذا كان لون وجهه إلى البياض قيل آدم، فإذا كان إلى السمرة فهو أسمر، وينسب المماليك إلى أجناسهم ثم يخلون، فإذا بدا الشعر على شاربه قيل طر شاربه، فإذا ظهر الشعر على وجهه قيل بقل وجهه، فإذا كان واسع الجبهة قيل رحب الجبهة، فإذا كان فوق جبهته خطوط قيل: بجبهته غضون، فإذا كان بين حاجبيه فرجة قيل: أبلج، فإذا اتصل الشعر بينهما فهو مقرون، فإذا كان على حاجبه شعر كثير فهو أزب، فإذا كان الحاجب سابغاً فهو أزج، فإذا لم يكن على حاجبيه شعر فهو أمرط وأنمص، فإذا كان واسع العينين فهو راعين، فإذا كان أحجر فهو غائر، فإذا خرجت مقلته وظهرت فهو جاحظ، وإذا صغرت عينه وضاقت فهو أحوص، فإذا نظر إلى جانب الأذن فهو أخزر، ويقال: رجل أحول ورجل أخوص ورجل أصم، فإذا كان غير مرتفع الأنف فهو أفطس، وإذا كان قصير الأنف ليس بعريض فهو أذلف، فإذا كان فيها خطط دم فهو أشكل، والأهتم: الذي انقلعت ثناياه، والأثرم: الذي قد انكسرت سنه، فإذا انكسرت سنه عرضاً قيل قد انقصت سنه، فإذا انشقت طولاً قيل: انقاصت؛ فإذا كان غليظ الشفتين فهو أثلم، فإذا اتصلت أسنانه فهو مرصف، وإذا كانت متفرقة فهو أفلج؛ فإذا ذهب الشعر عن مقدم رأسه فهو أجلح، فإذا كان أكثر من ذلك فهو أصلع، فإذا ذهب من قبل الصدغين كان أنزع؛ فإذا لم يبصر بالليل فهو أعشى، وإذا لم يبصر بالنهار فهو أخفش، فإذا فسدت عينه وسال منها الماء فهو أعمش، فإذا كثر سواد العين فهو أكحل، فإذا كثر سوادها وصفاء بياضها فهي حوراء، يقال رجل أحور، وامرأة حوراء؛ فإذا كان في الفم زيادة سن فهو أشغى؛ فإذا كان مسترخي اللثة فهو أهدل؛ فإذا كان صغير الأذن فهو أصمع؛ فإذا كان واسع الفم فهو أجدع، فإذا كان مقطوع طرف الأنف فهو أخرم؛ فإذا كان مقطوع الأذن فهو أصلم؛ فإذا كان واسع الفم رحب الشدقين فهو أشدق؛ فإذا كان مقطوع الشفة السفلى فهو أفلح، فإذا كان مقطوع الشفة العليا فهو أعلم، فإذا اجتمعت شفتاه فهو أفوه؛ فإذا كانت عيناه ممسوحتين فهو مطموس؛ فإذا يبس كفه أو ذراعه فهو أعسم، فإذا فسدت يده واسترخت فهو أشل؛ فإذا كان بوجهه خال أو شامة أو وشم أو أثر كي أو حرق كتب بذلك أو أثر جدري أو ضربة فكذلك؛ وإذا كان قصير العنق فهو أو قص، وإذا كان طويل العنق فهو أجيد، وإذا عمل بيمينه ويساره قيل: أعسر يسر، وإذا عمل بيساره وضعفت يمنيه قيل: أعسر، ورجل أخلف وامرأة خلفاء؛ ويقال لمن قطعت يده: رجل أجذم وأقطع وأكوع وأتك وأصرم؛ ويقال: تعلوه حمرة، تعلوه صفرة؛ ويقال: أبح الصوت وأجش الصوت وأغن وأخن.
هذه ألفاظ مهدت للكاتب إذا تولى العرض أو أعان صاحب العرض، وهي نافعة، ولولا أني توخيت حكاية ما قال الأديب لبسطت فيه، ولكني قد اشمأزيت من كل ما يؤدي إلى تثقيل، وإن جاوز الفائدة وجلب النفع وذخر الفضل.
أنشد الأصمعي لأبي فرعون الساسي: الرجز
يا رب جبس قد علا في شانه ... لا يسقط الخردل من بنانه
ولا يريم الدهر من مكانه ... أشجع من ليث على دكانه
لا يطمع السائل في رغفانه ... لم يعطني الفلس على هوانه
يا رب فالعنه بترجمانه

قال أبو العيناء: ما رأيت مثل الأصمعي قط، أنشد بيتاً من الشعر فاختلس الإعراب؛ وقال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كلام العرب الدرج؛ قال: وحدثني عبد الله بن سوار أن أباه قال: إن العرب تجتاز بالإعراب اجتيازاً؛ قال الأصمعي: وحدثني عيسى بن عمر أن ابن أبي إسحاق قال: العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق به؛ قال: وسمعت يونس يقول: العرب تشام الإعراب ولا ت تحققه؛ قال: وسمعت الحسحاس بن حباب يقول: العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترد؛ قال: وسمعت أبا الخطاب يقول: إعراب العرب الخطف والحذف؛ قال: فتعجب الناس منه.
قال الأصمعي: ما أحسن ما قال الأعشى: الطويل
وإني إذا ما قلت قولاً فعلته ... ولست بمخلاف لقولي مبدل
قال الزبير بن بكار: تقدم وكيل مؤنسة إلى شريك بن عبد الله، وكان الوكيل يدل عليه بمكانه من مؤنسة وخدمتها ويسطو على خصمه، فقال له شريكك كف لا أم لك، فقال: توقل لي هذا وأنا وكيل مؤنسة؟ فقال شريك: يا غلام اصفعه، فصفعه عشر صفعات، فانصرف إلى صاحبته فعرفها ما ناله، فكتبت إلى المهدي تشكو شريكاً وتذكر ما صنع بوكيلها، فعزله. وقد كان شريك قبل ذلك دخل على المهدي فأغلظ له، وكان فيما قال له: مثلك يولى أحكام المسلمين؟ قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لخلافك على الجماعة وقولك بالإمامة، قال، فقال شريك: ما أعرف ديناً إلا عن الجماعة فكيف أخالفها وعنها أخذت ديني؟ وأما الإمامة فما أعرف إماماً إلا كتاب الله وسنة نبيه، فهما إمامي وعليهما عقيدتي، وأما ما ذكره أمير المؤمينن أن مثلي لا يتولى أحكام المسلمين فذاك شيء أنتم فعلتموه، فإن كان خطأ لزمكم الاستغفار منه، وإن كان صواباً وجب عليكم الإمساك عنه؛ المهدي: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: أقول فيه الذي قال فيه جداك العباس وعبد الله، قال: وما قالا؟ قال: أما العباس فإنه مات وعلي عنده أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شاهد أكثر المهاجرين يحتاجون إليه في الحوادث، ولم يحتج إلى أحد منهم إلى أن خرج من الدنيا. وأما عبد الله فضارب عنه بسيفين وشهد حروبه كلها، وكان فيها رأساً متبعاً وقائداً مطاعاً، فلو كانت إمامته جوراً كان أول ما يقعد عنه أبوك، لعلم أبيك بدين الله وفقهه في أحكام الله؛ فسكت عنه المهدي، وخرج شريك؛ وكان العزل بعد هذا بجمعة.
قرأت هذا الحديث على أبي حامد فقال: ما أعجب الدنيا وأسبابها! وإنما تحرك أبو حامد عند هذا الحديث للقضاء، فإنه أن قيماً بهذه الصول والفروع، ثم قال: يا شريك بن عبد الله، من أين يصح لكأن العباس مات وعلي عنده أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا أن يشير إلى البقية بعد الصدر الأول؛ على ا، عليك فيه كلاماً، وكيف يسلم لك فضل رجل باعتقاد رجل؟ ألا تعلم أن العباس لو لم يفضل علياً لكان علي فاضلاً لأنه غرر به وحسده، ولو كان فهي خير لقعد موضع أبي بكر وموضع علي، ولكن سبق موضع سيادته في الجاهلية سؤدد من سوده الله في الإسلام، ومتى فزع إلى العباس في ترتيب الناس؟ يكفيه أنه لم يدخل في الشورى ولم يشهد بدراً، ولم يبادر الحظ بالاستبصار في الدين ولا بالرأي في الدنيا، وحقه موفور، ومكانه من الشيخوخة والتقدم مشهور، ولكن أين الفقه والورع والاجتهاد والتدبير والسبق؟ ذاك تراث حازه قوم. أما عبد الله فقد ضارب عنه بسيفين، لكنه قعد عنه أحوج ما كان إليه، وانفرد بإمارة البصرة واستأثر بأموالها وأعمالها، فلما استقدمة وطلب منه ما اجتمع من مال الله تعالى ومال المسلمين طوى الأرض إلى مكة وبلغ الطائف، واستكثر من السراري إلى أن عمي، وهذا بعد أن دخل إلى معاوية وسالم وطلب العطاء وقارب وأعطى من نفسه وتغافل؛ أهكذا تكون نصرة الأئمة في مصالح الأمة؟ ما أحوجه إلى العفو والرحمة.
ثم قال - أعني أبا حامد: دعونا نسكت عن مساوئ الناس بمحاسنهم، فلو قد أثرنا الدفائن ونثرنا الكنائن كان للعقل والعين ما يحير أحدهما ويسخن الآخر.

وقال كلاماً آخر لم يلتق طرفاه طولاً، لأنه أخذ في مبادئ الإسلام، فذكر أهل الدين وإخلاص الموقنين وجود المستبصر واستسلام المتوكل وروغان الضعيف وخب المنافق وتربص الحاسد وفرح الشامت، وصرف القول تصريفاً يخلص الزبد المحض من الممذوق، ويميز اليقين من الشك، وكان ذا عارضة عريضة ولسن بين وصدر جموع وقلب ذكي ولهجة بسيطة، مع لكنة خراسان وفجاجة العجم وقلة فصاحتهم، لأنه كان من مرو الروذ ورحل إلى العراق وهو باقل الوجه مجتمع القوة، وكان من العرب من بني عامر واسمه أحمد بن بشر، ومات بالبصرة سنة اثنتين وستين وثلايمائة.
وحكى لنا في هذا اليوم أن صالح بن عبد الجليل، وكان مفوهاً ناسكاً، دخل على المهدي وسأله أن يأذن له في الكلام، فقال: تكلم، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لما سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام المؤدي عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي لانقطاع عذر الكتمان في البينة، لا سيما حين اتسمت بميسم التواضع ووحدت الله، وحملت كتابه إيثاراً للحق على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التحميص ليتم مؤدينا على موعد الأداء عنهم، وقابلنا من موعود القبول، ما أوردنا تحميص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية؛ وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل، وأشد مه عذاباً من أقبل إليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدي إليه علم فلم يعمل به، فقد رغب عن هدية الله وقصر بها، فأقبل على ما أدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل لا قبول رياء وسمعة، فإنه لا يخلفك منا إعلام على ما نجهل أو مواطأة على فضل ما تعلم، فقد وطن الله جل اسمه نبيه عليه الصلاة والسلام على تزولها تعزية عما فات، وتحصيناً من التمادي، ودلالة على المخرج فقال: " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله " فصلت: 36 فأطلع على قلبك بما ينور به القلب من إيثار الحق ومباينة الهوى، فإنك إن لم تفعل لم تر لله أثرة على قلبك.
فبكى المهدي حتى هم من كان على رأسه بضرب صالح وظنوا أنه يسكت حين ذهب به البكاء فقال: يا صالح، لو وجدت رجالاً يعملون بما آمرهم وبما أنوي في رعيتي لظننت أني ألقى الله عز وجل وأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقل ذنوبي وأهون حسابي، ولكن دلني على وجه النجاة، فإن لم أعمل كنت أنا الجاني على طهري والمؤثر هواي على رضا ربي، قال له صالح: أنت يا أمير المؤمنين أعلم مني بمواضع النجاة، قال: لو كنت أعلم بموضع النجاة ما كنت أولى بعظتي، وما هو إلا أن أركب سيرة عمر بن الخطاب، ولا يصلح عليها أحد من أهل هذا العصر، وذاك أن الناس في الزمن الماضي كان يرضي أحدهم الطمر البالي، وتقنعه الكسرة اليابسة والماء القراح، وهم اليوم في مضاعف الخز والوشي، ومائدة أحدهم في اليوم بمثل غنى ذي العيال في زمن عمر؛ أو أسيح في الأرض ذات العرض، فإلى من أكلهم؟ إلى ولد أبي طالب؟ فوالله ما أعلم للمسلمين راحة فيهم ولا فرجاً عندهم. ولو أنني حملت الناس على سيرة العمرين في هذا العصر كنت أول مقتول، وذلك أن الفطام عن هذا الحطام شديد، ولا يصبر عليه إلا المبرز السابق، فأنى ذلك اليوم، يا صالح؟ والله لقد بلغني أن لسعيد بن سلم ألف سراويل، ولحازم ألف جبة، ولعمارة بن حمزة ألف دواج، وهي أقل ملكهم، فما ظنك بي وهم عددي وناسي وسهام كنانتس ومن أشبههم كمعن بن زائدة وعبد الله بن مالك، فلو أني حملتهم على التقشف والنسك وأخذت ما في أيديهم فوضعته حيث راه أنت وأنا، هل كانت نفس أبغض إليهم من نفسي، أو حياة أثقل عليهم من حياتي؟ فأطرق صالح مفكراً ثم رفع رأسه وقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليقع في خلدي أنك قبلت قولي قبول تحقيق لا قبول رياء وسمعة، فقال المهدي: شهيدي على ذلك الله، فقام صالح فدنا من المهدي فقيل رأسه وقال: أعانك الله يا أمير المؤمنين على صالح نيتك، وأعطاك أفضل ما تأمله في رعيتك، ووهب لك أعواناً بررة صالحين، يعلمون بما يجب عليهم فيك، ثم خرج. فقال له أصحابه: ما صنعت؟ قال: والله ما ترك شيئاً عليه إلا سبقني إليه، ولا شيئاً له إلا أوضح العذر فيه.
منصور الفقيه: الطويل
سألت رسوم القبر عمن ثوى به ... لأعلم ما لاقى فقالت جوانبه

أتسأل عمن عاش بعد وفاته ... بمعروفه إخوانه وأقاربه
وله: الوافر
منافسة الفتى فيما زول ... على نقصان همته دليل
ومختار القليل أقل منه ... وكل فوائد الدنيا قليل
وله: الطويل
فما هو إلا مثل سيف مفضض ... يروعك باديه ولا خير في النصل
فإن هز لم يهتز أو سل في الوغى ... لدفع ملم فالفضيحة في السل
وله: البسيط
أمر من طعم كل مر ... خضوع حر لغير حر
سأل أبو عمرو بن العلاء رؤبة بن العجاج: ما السانح؟ فقال ما ولاك ميامنة، قال: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسرة، والذي يأتيك من أمامك، النطيح، والذي يأتيك من خلفك: القعيد.
قال إبراهيم بن شهاب، قال أبو الحسن البرذعي، حدثني أبو يعقوب الشحام عن أبي الهذيل عن عثمان الطويل قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: هل تعرف في كلام العرب أن أحداً فرط فيما لا يقدر عليه؟ قال: لا، قال: فأخبرني عن قول الله تعالى: " يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " الزمر: 56 أفرط فيما فدر عليه أو فيما لم يقدر عليه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء لأصحابه: قد أبان لكم أبو عثمان لقدر بحرفين.
قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كنت امضي أنا وشعبة إلى أبي نوفل بن أبي عقرب فيسأله شعبة عن الحديث، وأسألهن أنا عن الشعر والغريب، فيقوم شعبة لم يحفظ شيئاً مما سألته عنه أنا، وأقوم أنا ولم أحفظ شيئاً مما سأله عنه شعبة.
رأيت امرأة قدمت زوجها إلى أبي جعفر الأبهري المالكي، وكان على قضاء المحول فقالت: أعز الله القاضي، هذا زوجي ليس يمسكني كما يجب، حسبك أنه ما أطعمني لحماً منذ أنا معه، فقال القاضي: ما تقول؟ قال: أعز الله القاضي، البارحة أكلنا مضيرة، قالت المرأة: ويلي، أليس كان طعامنا رائب؟ قال: وتنايكنا ستاً، احسبي أنا أكلنا مضيرة بعصبان.
شاعر: الطويل
سلوت عن اللذات لما تولت ... وأزلمت نفسي تركها فاستمرت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
وأنشد: البسيط
حيتك عنا شمال طاف طائفها ... بجنة فجنت روحاً وريحاناً
هبت سحيراً فهاج الغصن صاحبه ... موسوساً وتناجى الطير إعلانا
كأن طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزه عطفيه نشوانا
قال علي بن عبيدة: الأيام مستدعات الأعمال، ونعم الأرضون لمن بذر فيها الخيرات.
وقال الصولي: قال رجل لمحمد بن أبي أمية الكاتب: أين الشعير الذي وعدتني به، فقال: أين البرذون الذي ضمنت لي؟ أنت والله كما قال ابن هرمة: المتقارب
يحب المديح أبو خالد ... ويفرق من صلة المادح
كبكر تحب لذيذ النكاح ... وتفرق من صولة الناكح
قال عبد الله بن إبراهيم الجمحي، قيل لابن هرمة: أتمدح عبد الواحد بن سليمان بما لم يقل مثله في غيره: الوافر
أعبد الواحد الميمون إني ... أغص حذار سخطك بالقراح

فقال: إني أخبركم القصة: أصابني أزمة وقحمة بالمدينة، فاستنهدتني بنت عمي للخروج فقلت لها: ويحك ليس عندي ما يصل جناحي، فقالت لي: أنا أشيع صحابتك بما أمكنني، وكانت عندي ناب لي، فنهضت بها وهيتهجد النوام وتؤذي المساء وليس من منزل أنوله إلا قال الناس: ابن خرمة، حتى وقعت دمشق فأويت إلى مسجد عبد الواحد بن سليمان في جوف الليل، فجلست في المسجد إلى أن نظرت إلى بزوغ الفجر، فإذا الباب ينفلق عن رجل كأنه البدر، فدنا فأذن ثم أهذب ركعتيه فتبينته فإذا هو عبد الواحد، فقمت فدنوت منه وسلمت عليه، فقال: أبا إسحاق؟ قلت: لبيك بأبي وأمي، فقال: آن لك أن تزورنا، طالت الغربة واشتد الشوق فما وراءك؟ قلت: لا تسألني بأبي أنت، فإن الدهر قد أخنى علي فما وجدت مستغاثاً غيرك؛ فوالله إني لأخاطبه إذا بثلاثة فتية قد خرجوا كأنهم الأشجان فسلموا، فاستدنى الأكبر منهم فهمس إليه بشيء دوني، ودون أخويه، فمضى إلى منزله ولم يلبث أن خرج ومعه عبد ضابط يحمل حزمة من ثياب حتى ضرب بها بين يدي، فهمس إليه ثانية فعدا، فإذا به قد رجع ومعه مثل ذلك، فضرب به بين يدي، فقال لي عبد الواحد: ادن يا أبا إسحاق فإني أعلم أنك لم تصر إلينا حتى تفاقهم صدعك، فخذ هذا وارجع إلى عيالك، فوالله ما سللنا لك هذا إلا من أشداق عيالنا، ودفع إلي ألف دينار وقال لي: قم فارحل فأغق من وراءك، فقمت إلى الباب فلما نظرت إلى ناقتي ضقت، فلما نظر إليها قال: ما هذه؟ واسوأتاه، يا غلام قرب إليه جملي فلاناً، فوالله لأنا كنت بالجمل أشد سروراً مني بكل ما نلت، فهل تلومونني أن أغص حذار سخط هذا بالماء القراح؟! والله ما أنشدته ليلتئذ بيتاً واحداً.
أنشد الأصمعي لشاعر:السريع
رب غريب ناصح الجيب ... وابن أب متهم الغيب
ورب عياض له منظر ... مشتمل الثوب على العيب
والناس في الدنيا على نقلة ... على شباب وعلى شيب
أنشد المبرد لبشار: الطويل
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون
إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلى ... وفي كل معروف عليك يمين
وقع أبو صالح ابن يزداد في وزارته إلى عامل: ليس عليك بأس ما لم يكن منه يأس.
ووقع أيضاً إلى عامل: قد تحاوزت لك، وإن عدت أعدت إليك ما صرفته عنك.
ووقع أيضاً إلى عامل اعتد بكفاية وزاد: أدللت فأمللت، فاستصغر ما فعلت تبلغ ما أملت.
وأنشد: الرجز
يا عمر بن عمر بن الخطاب ... إن وقوفاً بفناء الأبواب
يدفعني الحاجب بعد البواب ... يعدل عند الحر قلع الأنياب

قال الماهاني: كانت في بعض الديارات راهبة قد انفردت بعبادتها، وكانت تقري الضيف وتجير المنقطع، وكانت النصارى تتمثل بعبادتها وعفافها، فمر بالدير رجل كان من شأنه أن يدخر الوفواكه، فيحمل في الضيف فواكه الشتاء، وفي الشتاء فواكه الصيف إلى الملوك، ومعه غلام له وحمار موقر من كل فاكهة حسنة، فقال للغلام: ويحك، أنا منذ زمان أشتهي هذه الراهبة، فقال العلام: كيف تصل إليها وهي في نهاية العفاف والعبادة؟ فقال: خذ معك من هذه الفاكهة وأنا أسبقك إلى سطح الدير فإذا سمعتني أتحدث معها بشيء فأرسل ما معك من الروزنة؛ فأصعد الغلام سطح الدير، وجاء الرجل فدق الباب فقالت: من هذا؟ قال: ابن سبيل وقد انقطع بي، وهذا الليل قد دهمني، ففتحت ودخل، وصار إلى البيت الذي الغلام على ظهره، وأقبلت هي على صلاتها، وقالت: لعله يحتاج إلى عام، فجاءته به وقالت: كل، فقال: أنا لا آكل، قالت: ولم؟ قال: لأني ملك بعثني الله تعالى إليك لأهب لك ولداً، فارتاعت لذلك وجزعت، وقالت: أليس كان طريقك على الجنة فهلا جئت معك بشيء منها؟ قال: فرفع الرجل رأسه وقال: اللهم بعثني إلى هذه المرأة، وهي بشر، وقد ارتابت فأرها يا رب برهاناً، وأنزل عليها من فاكهة الجنة فتزداد بصيرة ومعرفة، فرمى الغلام برمانة من فوق، وأتبعها بسفرجلة، ثم بكمثراة، ثم بخوخة، فقال: ما بعد هذا ريب فشأنك وما جئت له، فشال برجليها وجعل يدفع فيها وهي تمر يديها على جنبيه كأنها تطلب شيئاً، فقال لها: ما تلتمسين؟ قالت: نجد ف كتابنا أن للملائكة أجنحة وأراك بلا جناح، فقال: صدقت، ولكنا معشر الكروبيين بلا جناح.
لما ولى خالد بن عبد الله القسري بلال بن أبي بردة، وكان حمزة بن بيض صديقاً له صار إليه، وأقام على بابه أياماً لا يؤذن له، فكتب رقعة: البسيط
قل للأمير جزاك الله صالحة ... قرم إليه التقى والمجد والدين
فهل ترى حرجاً في شرب صافية ... صهباء ينقب عن خرطومها الطين
وهل ترى حرجاً في نيك أرملة ... مسكينة ناكها قوم مساكين
فلما قرأها بلال قال: ابن بيض والله، أدخلوه، فلما دخل ابن بيض قال: ما كنت والله لأصل إليك يا فاسق إلا بالشر.
كان المغيرة بن شعبة من كبار المدنين للشراب، لم ينهه الإسلام وصحبة الرسول عليه السلام حتى قال لصاحب له يوم خيبر: قدمت إلى الشراب ومعي درهمان زائفان، فأعطني زكرتين، فأعطاه، فصب في إحداهما ماء، وحتى بعض الخمارين فقال: كل بدرهمين، فكال في زكرته، فأعطاه الدرهمين فردهما وقال: هما زئفان، فقال: ارتجع ما أعطيتين فكاله وأخذه، وبقيت في الزكرة بقية فصبها في الفارغة، ثم فعل ذلك بكل خمار بخيبر حتى ملأ زكرته ورجع ومعه درهماه.
وهذا الفعل يجمع نذالة وإثماً وخبثاً وسقوطاً.
محمد بن عبد الله الحمصي: الخفيف المجزوء
عاشر الناس بالجمي ... ل وسدد وقارب
واحترس من أذى الكرا ... م وجد بالمواهب
لا يسود الجميع من ... لم يقم بالنوائب
ويحوط الأدنى وير ... عى ذمام الأقارب
فتفهم فإنني ... عالم ذو تجارب
لا تواصل إلا الشري ... ف الكريم الضرائب
من له خير شاهد ... وله خير غائب
واجتنب وصل كل وغد دنيء المكاسب
نيرب لا يزال يو ... قد نار الحباحب
لا تبع عرضك المصو ... ن بعرض المكالب
أنا للشر كاره ... وله غير هائب
سرق رجل من مجلس معاوية كيساً فيه دنانير، ومعاوية يراه، فقال الخازن: يا أمير المؤمنين قد نقص من الماس كيس دنانير، قال: صدقت وأنا صاحبه، وهو محسوب لك.
شاعر: الطويل
وهبت شمالاً ما اهتدى اللص هديها أن ... سلالأ متى تنظر إلى الماء يبرد
تكاد رقاق القمص وهي خفيفة ... على الشرب تندى م نسيم لها ندي
وما أدركت في مرها لم تطر به ... ولو كان من أطراف قطن مزبد

قال أبو ذر: نرعى الخطائط ونرد المطائط، وتأكلون خضماً ونأكل قضماً، والوعد الله، قال يعقوب: الخطيطة: أرض لم يصبها مطر بين أرضين قد مطرت؛ والمطيطة: ما تسأره الإبل في الحياض فيخثر بأنفاسها، والخضم: أكل الشيء الرطب، والقضم: أكل الشيء اليابس.
قال يعقوب: هذا معلقم أي فيه مرارة.
روى الرئيس ابن العميد في أمثال العرب إذا حثت على المواساة في الشيء القليل: أطعم أخاك عقنقل الضب.
وقال: ويقال: أطعم أخاك من كلية الأرنب ويقال: لا يقوم بهذا الأمر إلا ابن إحداهما، أي ابن الداهية التي هي إحدى الدواهي.
ويقال لمن يفسد ولا يصلح: يوهي الأديم ولا يرقعه.
ويقال: الصبي أعلم بمصغى خده، أي هو أعلم بمن ينفعه.
ويقال: سطي مجر، ترطب هجر، أيتوسطي المجرة، لأنها إذا توسطت السماء أرطب النخل بهجر.
يقال: لا يملك حائن دمه.
ويقال: رب حام لأنفه وهو جادعه.
ويقال: جاء فلان يضحك ظهراً لبطن، أي يلتفت يميناً وشمالاً.
ويقال للشيخ: أدبر غريره، وأقبل هريرة، والغرير: الخلق الحسن.
ويقال: خل بين أهل الخلاعة والمجانة، ويريد أهل الفحش والخنا.
ويقال: لأصحبنه صبوحاً حازراً، إذا توعد، والحازر: لبن قد حمض.
ويقال: ما أسن الرجل إلا تقبل أباه.
ويقال: لم يبق من شيخك إلا حبقه.
ويقال: أرض من العشب بالخوصة.
ويقال: لا تكن كالباحث عن الشفرة.
ويقال: يكسو الناس واسته عارية، يعني المغزل.
ويقال: جرى منه كلامي مجرى اللدود، يعني بلغ كل مبلغ، واللدود دواء يصب في إحدى شقي الإنسان.
ويقال: بينهم داء الضرائر.
ويقال: أنت كالخروف، أين مال اتقي الأرض بصوف.
ويقال: ما كانوا عندنا إلا كلفة الثوب.
والغزل والمحاضنة والمراودة والسمودة واحدة.
ويقال: ذهبت دماؤهم درح الرياح، أي طلت.
ويقال: إن في المرقعة لكل كريم مقنعة؛ والمقنعة: الغنى، وهو أيضاً من قنع، والقنع: الغنى.
ويقال في الدعاء السوء: زادك الله رعالة كلما ازددت مثاله؛ والرعالة: الحماقة، يقال: رجل أرعل، وامرأة رعلاء، وقوم رعل.
ويقال: إذا قل الأعوان كل اللسان.
ويقال: للجرادة: بقلة شهر وشوك دهر.
وقالت فارك لأمها بعدما نشزت على زوجها: إنه بارد الكمرة، فقال زوجها لبني عمه: يا بني عم سحنوا الكمر، فذهبت مثلاً.
ويقال: فلان بين العصا ولحائها، إذا كان جيد المنزلة ثابت المودة.
ويقال: تركته على مثل مشفر الأسد، في الشدة والخوف.
ويقال: كلمتته فميا وجم لي وجمة ولا أظهر رحمة ولا نأم نأمة ولا وشم لي وشمة ولا هم لي ببنت شفة ولا نغى لي نغية.
ويقال: قد قلينا صفيركم.
ويقال: قوم يمصون الثماد وآخرون حلوقهم في الماء.
ويقال: ليس الرقاد للفتى بمغنم.
ويقال: استر عورة أخيك ما يعلم فيك.
ويقال: رب مخيل مخلف.
ويقال: ربما صدقك المادح.
ويقال: حتى متى نكرع وأنت لا تنقع.
ويقال: يسقيه من كل يد بكاس، والقلب بين طمع ويأس.
مثل يمثلون به: الرجز
مالك لا يقصى ولا يسرح ... واليأس مما لا ينال أروح
هكذا كان فس مسودة ابن العميد يقصى بالصاد ولعله: يقضي ويسرح.
ويقال: اهتك ستور الشك بالسؤال.
ويقال: الرجز
النحب يكفيك النطى المحيلا
ويقال: شمر إذا جد بك لسير.
ويقال: كل مبذول مملول.
ويقال: ما هذا البر الطارق؟ ويقال: ما شهم حمار؟ أي ما ذعرك.
ويقال: الليل جنة كل هارب.
ويقال: اللهم قدر الأية، والأية مصدر أوى أي رحم.
ويقال: الصدق في بعض المواطن عجز.
ويقال: الأيام عوج رواجع.
ويقال: لا تنفع حيلة من غيلة.
ويقال: لا تطمع في كل ما تسمع.
ويقال: لا علة، لا علة، هذه أوتاد وأخلة.
ويقال: دع الوعيد يذهب بالبيد.
ويقال: حافظ على الصديق ولو في الحريق.
ويقال: هلا على إبل بالدهناء؛ الدهناء تمد وتقصر.
ويقال: أنف في السماء واست في الماء.
ويقال: أنت بين كبدي وخلبي.
إلى ها هنا هو ما نقلته من مسودة ابن العميد، وكان فيها أيضاً أبيات، وهي في تشبيه الذوائب بالكرم والعناقيد.
البسيط
تسبي الحليم ببراق عوارضه ... من الجوازئ بين الحل والحرم
وفاحم كقضيب الكرم عقده ... أيدي المواشط بالحناء والكتم
آخر: الكامل
ويضل مدارها المواشط في ... جعد أغم كأنه كرم

ولشاعر: البسيط
يسبين قلبي بأطراف مخضبة ... وبالعيون وما وارين بالخمر
وارين جعدا رواء في أكمته ... من كرم دومة بين السيح والجدر
ترى نواطيره في كل مرقبة ... يرمون عن وارد الأطراف منهمر
لبعض قريش: الرجز
جارية فوعها كروم ... صحيحة كأنها سقيم
كالشمس تنشق لها الغيوم
لابن مطير: الطويل
سبتني بعيني مغزل وبارد ... تعكف تعكيف الكروم ضفائره
كثير: الطويل
وتدرأ بالمدرى أثيثاً نباته ... كجنة غربيب تدلت كرومها
لمعن بن أوس: الطويل
ووحف تنثنى في العقاص كأنه ... عليها إذا دبت غدائره كرم
لابن مقروم: البسيط
قامت تريك غداة البين منسدلاً ... تخاله فوق متنيها العناقيدا
ابن مقبل: الطويل
عشية أبدت جيد أدماء مغزل ... وطرفاً يريك الإثمد الجون أخضرا
وأسحم مجاج الدهان كأنه ... عناقيد من كرم دنا فتهصرا
سئل بعض الأعراب عن معنى هذه الآية: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " الكهف: 103 قال: البخيل الذي يأكل ماله غيره.
كان خالد بن صفوان بن الأهتم من سمار أبي العباس، ففخر ناس من بلحارق بن كعب وأكثروا، فقال أبو العباس: لم لا تتكلم يا خالد؟ قال: أخوال أمير المؤمنين وأهله؛ قال: فأنتم أعمام المؤمنين وعصبته، قال: خالد: ما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد، وقائد قرد، ودابغ جلد، دل عليهم هدهد، وغرقتهم فأرة، وملكتهم امرأة.
قالت أعرابية: أصبحنا ما يرود لنا فرس، ولا ينام حرس.
اشترى بعض الأمراء أرضاً بالبادية فقال له صاحبها: إن ترسل إليها أيها الأمير فهي أوفر من الرمانة، وإن تدعها فهي أمنع من آست النمر.
قال الحسن: البلاغة ما فهمته العامة ورضيته الخاصة.
قال ابن المقفع: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعاً ف نيل البلاغة، فذلك العي الأكبر.
كاتب: تفيأ ظل الخفض والدعة، وتبوأ محل الخصب والسعة، فذا للغرض المقصود بك مخالف، وأنت بما فيه من العضيهة عارف.
السعيد من زادت مجاري القدر في استبصاره، ووقعت حوادث الغير موقعها من اعتباره.
لا عارض جنابك خورن ولا رد باعك قصر.
وانتقض من الأسباب ما هو منتظم، وامتد من الأطماع ما هو من حسم.
وضعت خدي للأيام أستعيد منها عهد الاجتماع، وأستعيذ بها من برح النزاع.
وهب كدر قوله لصفاء عقيدته، ونقصان إصابته لزيادة طاعته، فسفحت العيون دماً، واستبيح من العزاء حمى.
سقطة صريعها لا يستقل، وسليمها لا يبل.
يستولي في النصح على الأمد، ويستمر في الذب على الوعث والجدد.
حمداً يصعد في أطيب الكلم إلى الله، ويرجع بأدوم المزيد من الله.
نسأل الله توفيقك لكل أمر جامع في الحظ منك، بالحظ لك، وقضاء الحق عليك بالحق فيك.
نحن نستعذب مزيد الثناء عليك كما نستحسن جديد البلاء منك، ثم لا ترى كثير يكافئ صدق اجتهادك، كما أنك لا ترى كثير البلاء يبلغ كنه اعتقادك.
نيأل الله أن لا يخلينا من لسان طويل في الثناء عليك، ولا يخليك من باع طويل إلى كفاية ا أسندناه إليك، وكلما جربناه أحمدناه، وكلما أمضيناه ارتضيناه.
حتى إذا كان طول الاستعمال يؤثر في حده، لطف الله تعالى برده إلى غمده، فصان حده من أن ينفتل، وحمى متنه من أن يحتمل.
ومن خصائص ما رفع الله تعالى بين الأولياء قدرك أنه جعل الشكر لنا ممن في وزن البر منك، فلا النعماء نقصت، ولا حقوقها بخست، بل كرم منها ورد وصدر، وطاب غرس وثمر، وزكا أول وآخر، وصفا باطن وظاهر؛ تلك منزلتك التي تبوأتها ي الجماعة، وتوطأتها في صدث الطاعة.
أهنأ التهاني موقعاً، وأزكاها موضعاً، تهنئة كان مصدرها عن صدر بالولاء معمور، وعقد بالصفاء مخبور.
سيفك من دمائهم ينطف وأقدامهم من خوفك ترجف، بهم حرس الله أكنافها، وعليهم ادر أخلافها.
به يرجع كوكب الوحشة للأفول، ويزحزح موكب الأنس للقفول.
هذا الكاتب الذي رويت عنه هذه الفصول هو أبو القاسم الإسكافي كاتب خراسان، ولم يوجد في أهل المشرق أكتب منه في زمانه، وهذا مختار مما مر في طريقته، على أنه مردود الفن بالعراق، وذلك لتكلف يسير يعتري كلامه، وتباعد في التأليف عن العادة.

سرف رجل درة رائعة لجعفر بن سليمان الهاشمي، وباعها السارق ببغداد بمال جليل، فعرفها أصحاب الجوهر، وكان قد تقدم إليهم في البحث عنها، فحملوا الرجل إلى جعفر، فلا بصر به عرفه فاستحيا منه، فقال للسارق: ألم تك طلبت مني هذه الجوهرة فوهبتها لك؟ قال: بلى أصلح الله الأمير، فقال: لا تتعرضوا له؛ فباعها الرجل بمال عظيم.
كان سليمان بن عبد الملك خرج في أيام أبيه لنزهة، فقعد يتغدى مع جماعة، فلما حان انصرافه شغل حشمه بالترحال، فجاء أعرابي فوجد منهم غفلة، فأخذ دواج سليمان فألقاه على عاتقه، وسليمان ينظر إليه، فصاح به بعض الحشم: ألق ما معك ويلك، قال: لا، ولا كرامة لك، قد خلعه علي الأمير، فضحك سليمان وقال: صدق، أنا كسوته، ومر الأعرابي كالريح.
واستلب رجل رداء طلحة بن عبيد الله، فذهب ابن أخيه يتبعه، فقال له طلحة: دعه، فما فعل هذا إلا من حاجة.
قال عبي بن عبيدة: من أنس بالساعات، أباح نفسه للغوائل.
أخذ رجل مع زنجية قد أعطاها نصف درهم، فلما أتي به إلى الوالي أمر بتجريده وجعل يضربه ويقول: يا عدو اله، أتزني بزنجية؟ فلما أكثر قال: أصلحك الله فبنصف درهم أيش كنت أجد؟ فضحك وخلاه.
وجد قوم زنجية مع شيخ في مسجد ليلة الجمعة، وقد نومها على جنازة، فقيل له: قبحك الله من شيخ، فقال: إذا كنت أشتهي وأنا شيخ لا ينفعني شبابكم، قالوا: فزنجية؟ قال: من منكم يزوجني بعربية؟ قالوا: ففي المسجد؟ قال: من منكم يفرغ لي بيته ساعة؟ قالوا: فعلى جنازة؟ قال: من يعطيني سريره؟ قالوا: فليلة جمعة؟ قال: إن شئتم فعلت ليلة السبت، فضحكوا منه وخلوه.
قال يعقوب: يقال: تسدى فلان فلاناً إذا أخذه من فوقه وأنشد لابن مقبل: البسيط
أنى تسديت وهناً ذلك البينا
وتسدى في المشي إذا انبسط قال يعقوب: كلب فغم: مولع بالصيد حريص عليه. ويقول العرب للكلب: ما أشد فغمه؛ ويقال: فغمتني ريح إذا سدت خسا شيمك.
ويقال: لص كذا إلى كذا إذا ضم بعضه إلى بعض؛ وأنشب أظفاره أي أعلقها؛ الهبول: الثكول.
ويقال: رجل أنسى ونس إذا اشتكى نساه؛ كما يقال أرمد ورمد، وأحدب وحدب، وأحمق وحمق، وأخرق وخرق، وشيء أخشن وخسن، وأنكد ونكد، والحجم: المص، وبه سمي الحجام؛ سمعت غيطلة القوم أي أصواتهم، وكل شجر ملتف: غيظل.
أيام الصفرية: نحو من عشرين يوماً في آخر القيظ، وقيل البرد، ويقال: سميت الصفرية لأن المال يتصفر فهيا، أي تحسن ألوانه.
ويقال للرجل: قد عجر لقتال القوم إذا أجمع قتالهم، وقد عجر الفرس بذنبه إذا شال به أي رفع.
ويقال: جاء بثريد مصمعة إذا دققها وأحد رأسها، ومنه سميت الصومعة؛ وحرب صمعاء أي شديدة.
الجحاف: مزاحمة السيل، جحفة، يجحفه؛ يقال للرجل إذا كان غليظاً: إنه لذو كدنة، والجحاف: المزاحمة، والموادحة: الكسر، يقال: سيل جحاف وجراف وقعاف. قال الكلابي: فلان يقلف ما مر به: أي يذهب به؛ ويقال: ناس قد أجحف بهم الدهر.
كتب أبو شراعة الشاعر البصري إلى عيسى بن موسى بن موسى ابن صالح بن شيخ بن عميرة السدي: وصل كتابك بسلامة الله لك، وإجرائه إياك على جميل العافية، فسرني وآنسني، ألا وإن عهدك وودك كرها إلي الناس بعدك، فلا أجالس إلا مذموماً، ولا أعاشر إلا ملوما، ولا أبيت بعد فراقك إلا مهموماً.
وكتب أو شراعة إلى سعيد بن موسى بن سعيد بن مسلم بن قتيبة يستهديه نبيذاً: أما بعد، فإن في التمسك بحبلك دليلاً على حظ المائل إليك، وتمييز المختار لك، وإن المخصوص من ذلك بنعمة أجهدت الشكر، وأكلت الوصف، وما خسر قسم الزائر لك، ولا اعتاص المتخلف عنك. وللنبيذ خطلات يغتفرها لهوك، ويجل عنها صحوك، ولو كنت تشرب ما تجنبت قربك، ولا شربت إلا على رؤيتك، فاسقني رياً، فإن الملوك لا يستحيى من مسألتهم، وإن برك ليرفع الخسيسة، ويتمم النقيصة؛ أسترعي الله جنابك، وأستمتعه ميل العافية لك، وفيك أقول: الخفيف
يا سعيد الندى فداك الأخلا ... ء وأسقاك ذو العلى من سمائه
يا فتى ما اختبرته قط إلا ... زادني الخبر رغبة في إخائه
غلب الدين والوفاء عليه ... فهو صب بدينه ووفائه
مستهام بالحمد مصغ إلى المج ... د جواد لذاته في عطائه
فإذا سيل كاد أن يتجلى ... وجهه الحر من بشاشة مائه

تنازع أحمد بن أبي خالد والسندي بن شاهك بين يدي المأمون فقال أحمد: أمير المؤمنين أفضل من آبائه قدراً، وأرفع محلاً، فقال إبراهيم: بل أمير المؤمنين دون آبائه، وفوق غيره، وأرفع أهل دهره، فقال المأمون: يا أحمد، إن إبراهيم يبنين وأنت تهدمني، ويبرم حبل مريرتي وأنت تنقضني.
قال أحمد بن رشيد: أمر لي أحمد بن أبي خالد بمال فامتنعت من قبوله، فقال لي: إني والله أحب الدراهم، ولولا أنك أحب إلي منها ما بذلتها لك.
وقع أحمد بن أبي خالد: غررتنا بالله فحبسناك لله.
لأبي شراعة البصري: الرجز
قالت أبعد ثمد تخله
ومستراد جدب تمله
بان عليك من نعيم دله
حين عداك نهلة وعله
ومن جاوزر البحر كفاه قله
ويحك هذا خير موسى كله
من جبل يؤوي معدا ظله
قد أصبحت سادتها تحله
وكلهم أضحى عليه كله
لا نزر النيل ولا معتله
مستلين العطف يعم غله
أخوك عند النائبات كله
كاتب: أنا للعناية بك معتقد، وفي حاجتك مجتهد، وللجهد فيها مستنفد.
قال أعرابي لرجل: أنت عند الأمل موثل، وعند الأجل معقل.
كاتب: بنا إلى معروفك حاجة، وبك على صلتنا قوة، فانظر في ذلك بما أنت ونحن أهله.
كاتب: كان لي فيك أملان: أحدهما لك، والآخر بك، فأما الأمل لك فقد بلغته، وأما الأمل بك فأرجو أن يحققه الله ويوشكه.
كاتب: أعارني الله حياتك وأعاذني من ارتجاعها، وأمتعني بدوام نعمتك وأجارني من انقطاعها.
كاتب: أطال الله بقاءك لرجاء تصدقه، وأمل تحققه، وعان تعتقه، وأسير تطلقه، ولا أزال عن الدنيا ظلك، ولا أعدم أهلها فضلك.
كاتب: أطال الله بقاء الوزير لظلم يزيله، وعرف ينيله، وحلم يطيله، وعثار يقيله، وضر يحيله، وعدو يديله، وصديق يذيله.
كاتب: وكان موقع وعده المنتظر عائدته، موقع رفده المحتضر فائدته.
كاتب: والله تعالى أوسع منيل، والعقل أهدى دليل، والأدب آنس خليل، والقناعة أوطأ مقيل، والتوكل آمن سبيل، والإخلاص أمضى حويل، والبر أحفظ كفيل.
وكتب بعض العمال إلى المهدي: أما بعد، فإن أمير المؤمنين قد شغلني بولاية الفرات عن الكسب على عيالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بسعة من الرزق يغنيني بها، ولا يضطرني بالفاثة إلى الشيطان ونزغاته، فإن المضطر إلى الميتة يأكل ما يأكل منها حلالاً، وإن المعافى يزداد بالغنى عفافاً، فعل إن شاء الله.
لما قتل عبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل بالكوفة قال لكاتبه: اكتب إلى يزيد كتاباً، فكتب وطول، ثم أتى به عبيد الله فعرضه عليه فقال له: طولت، ثم دعا بكاتب فقال: اكتب: لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من عبيد الله بن زياد، سلام عليك؛ أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة مشاقا، فآواه أهل الشقاق فبغيته، فلما خشي أن أظفر به خرج في شرذمة قليلة، لا ناصرة ولا منصورة، فهزمه الله فانجحر مجحر اليربوع، فلما نخس في ذنبه أطلع رأسه فجدعه الله وقتله، وقتل هانئاً مع، والخبر مع رسولي فليسأله أمير المؤمنين عما أحب.
فكتب إليه يزيد: من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن زياد، سلام عليك؛ أما بعد، فإنك لم تعد أن تكون كما أحب، فعلت فعل الحازم الناصح، وصلت صولة الشجاع الباسل، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك، والسلام.
قال الحسين بن الصحاك: رأيت إبراهيم بن العباس وهو حدث يخط بين يدي أحمد بن أبي خالد، وهو إذ ذاك وزير، فرمى إليه أحمد بكتاب من قاضي الري إلى المأمون وقال له: ينبغي أن تنشيء الجواب عنه، وتنفذه إلي لأحرره. فأخذ إبراهيم الكتاب فقلبه وكتب على ظهره من غير تفكر: قد قرأ أمير المؤمنين كتابك، وفهم اقتصاصك، وأمر بإجابتك، فليكن عدلك في أقتضيتك، وحسن سيرتك في رعيتك، ما يقربك إلى الله تعالى ويدنيك من أمير المؤمنين وجميل رأيه، فاستشعر في سريرتك طاعة الله ورضاه، وفي علانيتك خشيته وتقواه: " فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " النحل: 128. قال المبرد، قال الحسين بن الضحاك، قال لي يحيى بن خاقان: يا أبا علين والله لستولين هذا الحديث على ديوان هذا الشاب.
قال المبرد: كان سيبويه كثيراً ما يتمثر بهذا البيت: الطويل
إذا بل من داء به خال أنه ... نجا وبه الداء الذي هو قاتله
مات سيبويه بشيراز وله ثمان وثلاثون سنة.

قال المبرد: كان الأخفش أعلم الناس بالكلام، واحذقهم فيه بالجدل، وكان غلام أبي شمر على مذهبه.
قال المبرد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال أحمد بن المعذل: لما جاءنا الأخفش ليؤدبنا قال: جنبوني ثلاثة أشياء: أن تقولوا بس، وأن تقولوا: هم كذا، وليس لفلان بخت.
قال المازني، حدثني الأخفش قال، قال لي أبو حية النميري: أتدري ما يقول القدريون؟ قلت: ما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله يكلف العباد ما لا يطيقون، وصدق والله القدريون، ولكن لا نقول كما يقولون.
قال أبو حاتم: كنت والأخفش عند سعيد بن مسعدة وعنده التوزي، فقال لي: يا أبا حاتم، ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث؟ قلت: قد عملت في ذلك شيئاً، قال: فما تقول في الفردوي؟ قلت: مذكر، قال: فإن الله تعالى يقول في الفردوس: " هم فيها خالدون " المؤمنون: 11 قلت: ذهب إلى الجنة فأنث، قال التوزي: يا غافل، أما تسمع الناس يقولون: الفردوس الأعلى؟ فقلت له: يا نائم، الأعلى ها هنا أفعل وليس بفعلي.
قال المبرد: مات الأخفش بعد الفراء، ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق، ومات النضر بن شميل سنة أربع ومائتين.
قال الأخفش: " فظلت أعناقهم لها خاضعين " الشعراء: 4 يزعمون أنها على الجماعات نحو: هذا امرؤ لا أحب الشر.
وذكر رجل لرقبة بن مصقلة فقال: كان أحد بنات مساجد الله، كأنه جعله حصاة.
قال النضر بن شميل: استنش ني المأمون فأنشدته: المنسرح
إني امرؤ أزل، وذاك من الل ... ه، أديب يعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الدا ... ر وإن كنت نازحاً طربا
والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إ ... لا الدين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنس رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذم المطية والر ... حل ومن لا يزال مغتربا
قال أبو زيد: يقال: أراد فلان ظلامي، أي ظلمي؛ أنشدني بعض بني أسد: الكامل
أكل المغالق صرمتي إذ أمحلوا ... جشعاً ولطوا دونها بظلام
قال أبو زيد: سمعت جراهة القوم وجراهيتهم، أي أصواتهم وجلبتهم، وسمعت وجأتهم. مات أبو زيد سنة خمس عشرة ومائتين وله خمس وتسعون سنة.
قال أبو زيد، قال أبو عبيدة، قال لي أبي: يا بني إذا كتبت كتاباً فالحن فيه فإن الصواب حرفة والخطأ أنجح.
أنشدنا السيرافي لخارجي في زيد بن علي بن حسين بن علي ابن أبي طالب عليه السلام لما قتل: الكامل
يابا حسين والحوادث جمة ... أولاد درزة أسلموك وطاروا
يابا حسين لو شراة عصابة ... علقتك كان لوردهم إصدار
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك ورب قتل عار
وقال لنا: أولاد درزة: الخياطون، وإنما يعني أرذال الناس وسفلتهم، وشراة عصابة: مزاح عن حقه، أراد: عصابة شراة، وإنما قالوا: نحن شراة أي نحن شرينا أنفسنا أي بعناها في ذات الله.
وأنشدنا أبو سعيد: الكامل
أولاد درزة أسلموه مبسلاً ... يوم الخميس لغير ورد الصادر
تركوا ابن فاطمة الكريم جدوده ... بمكان مسخنة لعين الناظر
وعزاها إلى بعض الخوارج أيضاً.
سمعت بعض العلماء يقول: الضب: الحقد، والضبة كذلك؛ ويروى لعلي بن أبي طالب عليه السلام: البسيط
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا ولا ظفروا
فإن قتلت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر
زعموا أن ذات ودقين هي الضبة، يقال لها حران، فكأنه كنى عن الحقد بصفة دالة وكناية مستترة.
قال ثعلب: الكلام مبني على الحركة والسكون، فالحركة يبتدأ بها، وبالسكون يوقف، ولو كان متحركاً كله لقلق اللسان وطاش، ولو كان ساكناً ما كان كلاماً، وباجتماع الحركة والسكون يكون كلام.
وأنشد السريع
شيخ لنا يعرف بالخلدي ... يريده في غلظ المردي
أدخلني يوماً إلى داره ... فناكني والأير من عندي

سمعت علي بن عيسى يقول: قسمة التقدير في الممكن على أربعة أوجه؛ فالأول: تقدير ممتنع، مثاله لو كان في هذا المحل حركة وسكون لكان متحركاً ساكناً في حال؛ والثاني: تقدير ممكن، مثاله لو سقط حجر من رأس جبل لوصل إلى الأرض؛ الثالث: تقدير ممكن بممتنع، مثاله لو آمن أبو لهب لم يكن العالم عالماً بأنه لا يؤمن، فهذا تقدير ممكن بممتنع؛ الرابع: تقدير ممتنع بممكن، مثاله لو كان الإنسان قديماً، وكل قديم جسم، لكان الإنسان جسماً، فهذا تقدير ممتنع بممكن.
أصحابنا لا يرون له طبقة في المنطق، وهو يتسع كما ترى.
قال المفجع، حدثنا الكديمي، حدثنا الأصمعي قال: وعظ أعرابي قومه فقال: يا قوم، إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فمن لم يرزق غنى فلا يحرمن تقوى الله، فرب شبعان كاس من النعيم كان غرثان عريان من الكرم، وإن المؤمن على خير حين ترحب به الأرض وتستبشر به السماء، وإن يسأ إليه في بطنها فقد أحسن إليه على ظهرها، ومن عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يجزع فيها عند بلوى.
قال الكسائي: رحت القوم، وأنت تريد: رحت إليهم، مثل قولك: ذهبت الشام؛ وسمعت من يقول: تعرضت معروفهم: أي التمسته.
ويقال: أخرطت خريطة وأشرجتها، بمعنى واحد.
ويقال: أعبدت العبد: أي عبدته، وأنشد: البسيط
حتام يعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان
ويقال: ضربته المجبة والجبوب وهي الأرض، تريد: ضربت به الأرض.
قال المفجع، قال أعرابي يهجو أمه: الرجز
شائلة أصداغها لا تختمر ... تعدو على الضيف بعود منكسر
حتى يفر أهلها كل مفر ... لو نحرت في بيتها عشر جزر
لأصبحت من لحمهن تعتذر ... بحلف ثج ودمع منهمر
وقال: يريد بالبيت الأول: قد قام شعرها من الخصومة والغضب، لا تلبس خمارها من مبادرتها إلى الشر. قال: ويريد بالبيت الثاني عصاً قد تكسرت من طول ما تضرب بها. يقال: اعتذر الشيء وتعذر إذا أعجز فلم يقدر عليه، وتتابع الأيمان كالماء الثجاج أنه ما عندها شيء.
قال، وقال العنبري: الرجز
ماذا يريني الليل من أهواله ... أنا ابن عم الليل وابن خاله
إذا دجا دخلت في سرباله ... لست كمن يفرق من خياله
وأنشد أيضاً: الرجز
رب خليل لك بالعراق ... يقرن طيب النفس بالعناق
لو تعلم الليلة ما ألاقي ... وما تلاقي قدمي وساقي
من الحفا وعدم السواق ... لم تطعم النوم من الإشفاق
قال: الكوبة: المزبلة، والكوبة: الطبل، والكوب: الإبريق وهو الذي لا خرطوم له واسع الرأس، وجمعه أكواب.
أريد أن أسوق ها هنا فصلاً في الطب تباعد عن بابه في الجزء التاسع واعترض النسيان دونه وبالله أستعين: قال بعض الأطباء: وأما العمل فينقسم قسمين: أحدهما حفظ الصحة، والآخر: اجتلاب الصحة.
وحفظ الصحة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: حفظ الصحة على الأبدان الصحيحة وذلك بتعديل الأسباب العامية المشتركة وهي: الهواء والأكل والشرب والنوم واليقظة والاستفراغ والاحتقان والحركة والسكون والأعراض النفسانية.
والثاني: التقدم بحفظ الأبدان التي تميل عن حال الصحة، ويكون ذلك إما باستفراغ الخلط الغالب على البدن، وإما بإيداع البدن مادة محمودة.
والثالث: تدبير الأبدان الضعيفة كأبدان المشايخ، وأبدان الصبيان، وأبدان الناقهين.
وأما اجتلاب الصحة فبثلاثة أشياء: أحدها التدبير، والآخر الأدوية، والثالث علاج البدن.
فهذه أقسام لجزأي الطب: العلم والعمل.
وأجناس المرض ثلاثة: أحدها تغير المزاج، والثاني تغير الاتصال، والثالث مرض مشترك، وسوء المزاج إما أن يكون حاراً أو بارداً أو رطباً أو يابساً، وهذه مفردات، وإما أن يكون حاراً يابساً، أو حاراً رطباً، أو بارداً رطباً، أو بارداً يابساً، وهذه مركبة.
قال أبو العيناء: قال لي المتوكل: امض إلى موسى بن عبد الملك، واعتذر إليه، ولا تعرفه أني وجهتك، فقلت له: تستكتمني بحضرة ألف؟ قال: إنما عليك أن تنفذ فيما تؤمر به، فقلت: وعلي أن أحترس مما أخاف منه.
قال الكندي: من ذل البذل أنك تقول نعم مطأطئاً رأسك، ومن عز المنع أنك تقول لا رافعاً رأسك.

قال أبو رواحة الباهلي، حدثنا سعيد بن سلم قال: دخلت على الرشيد فجهرني وملأ قلبي، فلما لحن خف علي أمره.
قالت فاطمة بنت علي بن الحسين رضي الله عنهم: ما تحنأت امرأة منا ولا امتشطت ولا اكتحلت بعد قتل الحسين حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد.
قال أبو مسهر: كتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن النفاق قد فرخ بيضه في العراق، وشب فيها وأشيب، ووكر فيها وقر، وأوطن عقر دارها، ونفث حمته عل أهلها، فلكل ناعق مجيب، ولكل داع ملب، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في اجتثاث هذه العروق الناجمة، استئصال هذه المقادح الناشبة فعل، فإن في ذلك صلاح جنده ودهمائه.
فكتب إليه عبد الملك: أما بعد يا حجاج، فمه، فلا أرب لأمير المؤمنين في تسليط عاديتك، وإعمال فورتك، وغرسال حيفك، لا يفعل ذلك أمير المؤمنين ما خمدت نارها، وقل شغب من فيها.
قال العباس بن محمد لمؤدب بنيه: إنك قد كفيت أعراضهم، فاكفني آدابهم، علمهم كتاب الله جل وعز، فإنه عليهم نزل، ومن عندهم فصل، فإنه كفى بالمرء جهلاً أن يجهل فضلاً عند أحد، وفقههم في الحلال والحرام فإنه حابس أن يظلموا، وغذهم بالحكمة فإنها ربيع القلوب، والتمسني عند آثارك فيهم تجدني.
قال الحباب بن الحسحاس عن أبيه، سمعت زياداً الأعجم ينشد: الوافر
ألم تر أنني وترث كوسي ... لأنكع من كلاب بني تميم
قال القحذمي عن بعض أشياخه، قال جرير لزياد الأعجم: يا أبا أمامة، إنه عسى أن تنكع فلا تعجل حتى يتبين لك، فقال زياد: كل ما شئت إذا كنت كلباً.
قال عدي بن الفضل: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب بخناصرة ويقول: أيها الناس، إن يكن لأحدكم رزق في رأس جبل أو حضيض أرض يأته، فأجملوا في الطلب.
وقال الزبيري: ما أحدث الناس مروءة أحب إلي من طلب النحو.
قال أبو الأسود الدؤلي: إني لأجد للنحو سهوكاً كسهك العمر.
قال أبو العيناء: كتب أحمق إلى أبيه من البصرة: كتابي هذا، ولم يحدث علينا بعدك إلا خيراً، والحمد لله، إلا أن حائطنا وقع فقتل أمي وأختي وجاريتنا، ونجوت أنا والسنور والحمار، فعلت إن شاء الله.
قال الصولي، قال أحمد بن محمد بن إسحاق: تذاكرنا فضل المبرد عند المعتضد فقال: ما رأى مثل نفسه، دخل إلى عيسى بن فرخانشاه وقد رضي عنه بعد أن غضب عليه فقال له: أعزك الله، لولا تجرع مرارة الغضب لم نلتذ بحلاوة الرضا، ولا يحسن مديح الصفو إلا عند ذم الكدر، ولقد أحسن البحتري حيث يقول: البسيط
ما كان إلا مكافاة وتكرمة ... هذا الرضا وامتحاناً ذلك الغضب
وربما كان مكروه الأمور إلى ... محبوبها سبباً ما مثله سبب
هذي مخايل برق خلفه مطر ... وذاك وري زناد خلفه لهب
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب
فقال له عيسى: أطال الله بقاءك، وأحسن عنا جزاءك، فأنت كما قال أبو نواس: الرجز
من لا يعد العلم إلا ما عرف
كالبحر ما نشاء منه نغترف
رواية لا تجتنى من الصحف
وأنا أصل البحتري لتمثلك بشعره، ووصله بنحو من صلته.
قال القطربلي في كتابه: كان أبو العباس من العلم وغزارة المعرفة، وكثرة الحفظ وحسن الإشارة، وصحة اللسان وبراعة البيان، مع ركانة المجالسة وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط وصحة القريحة، وتقريب الفهام وواضح الشرح، على ما ليس عليه أحد.
قال ابن كيسان، قلت للمبرد: ثعلب أعلم أهل زمانه فقال: السريع
أقسم بالمبتسم العذب ... ومشتكى الصب إلى الصب
لو كتب النحو عن الرب ... ما زاده إلا عمى القلب
فأعدت على ثعلب بعد إلحاح منه فأنشدني: السريع
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب إن عضا
قال شيخ من النحويين: من تكون زائدة، وتكون تجنيساً، وتكون ابتداء غاية، وتكون تبعيضاً.
فقول الله تعالى " وأنزلنا من السماء ماء " المؤمنون: 18 وقوله تعالى: " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " النور: 43 ابتداء غاية من حال تبعيض ومن برد تجنيس.

وقيل في قوله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " النور: 30 ولم يقل: يغضوا أبصارهم، لأنه لم يحظر عليهم غض الأبصار في ملك اليمين.
سألت ابن الخليل عن مثنيات مرت في الجزء التاسع وهي: قلت له: ما الأسودان؟ قال: الفحم والحمم، وهذا خلاف ما قاله الجمهور.
قلت: فما الأبيضان؟ قال: السرور والنعم.
قلت: فما الأسوءان؟ قال: الثكل واليتم.
قلت: فما الأعجمان؟ قال: العي والبكم.
قلت: فما الأفخران؟ قال: العرب والعجم.
قلت: فما الأنقصان؟ قال: الحب والعقم.
قلت: فما الأشهران؟ قال: الطبل والعلم.
قلت: فما الأبخلان؟ قال: الجدب والعدم.
قلت: فما الأكذبان؟ قال: الآل والحلم.
قلت: فما الأصدقان؟ قال: العهد والقسم.
قلت: فما الأوضران؟ قال: اللحم والوضم.
قلت: فما الأرفعان؟ قال: البشر والسلم.
قلت: فما الأوحشان؟ قال: المقت والسأم.
قلت: فما الأوفقان؟ قال: الملك والحشم.
قلت: فما الأعودان؟ قال: البيض والهمم.
قلت:فما الأنكدان؟ قال: اليأس والندم.
قلت: فما الأعدمان؟ قال: السيل والضرم.
قلت: فما الأقطعان؟ قال: السيف والقلم.
قلت: فما الأقومان؟ قال: الدين والحسب قلت: فما الأمنعان؟ قال: الحصن والحرم.
قلت: فما الأنفسان؟ قال: المجد والكرم.
قلت: فما الأعليان؟ قال: الهام والقمم.
قلت: فما الأشبهان؟ قال: الراح والنعم.
قلت: فما الأنفسان؟ قال: النفس والندم.
قلت: فما الأغزران؟ قال: البحر والديم.
قلت: فما الأشينان؟ قال: الدع والهتم.
وكان قد ألقى علينا هذه الحروف ثم سألناه عنها فأجاب، ولا أدري أهو أبو عذرتها أم لا، وكان حافظاً غزير الحفظ حديد الخاطر حاضر البديهة، وقد رويت عنه طرائف.
سئل أبو حامد، وأنا أسمع، عن رجل حلف أن لا يدخل هذه الدار، فهدمت ثم بنيت، فقال: قد سقطت اليمين، ومتى دخل لم يحنث، لأن هذه غير تلك؛ ألا ترى أنه لو دخلها مهدومة لم يحنث، وكأنه دخل داراً أخرى. قال: وهكذا إن حلف لا يلبس هذا القميص، ففتق ثم خيط، أو لا يستعمل هذه السكين فنزعت ثم عملت، ولا يلبس هذا الخاتم فكسر ثم صيغ.
فقال له بعض الحاضرين: إن أعيدت الدار على هيئتها الأولى فإن الداخل يحنث لأنها هي، وإن بنيت في الحال الثانية مخالفة لأشكالها المتقدمة لم يحنث؛ قال: وإنما لحق الدار ما يحلق الرجل من المرض؛ ألا ترى أن رجلاً لو حلف أن لا يكلم زيداً، ثم مرض زيد ثم برأ، أن الحالف على يمينه لم يحنث ومتى فاتحه الكلام حنث، كذلك الدار، فضحك منه. قيل له: لو ولدت على الحقيقة لقلت: هدم الدار كموت زيد، واستهدامها كمرضه، فقال: لا شك أن زيداً لو مات ثم عاش بقدرة الله أن الحالف على يمينه لا يحنث، ومرضه يقوم مقام موته؛ فقال له أبو حامد: فإن حلف لا يكلم عمراً فمات عمرو فكلمه زيد، هل يحنث؟ قال: لا، فإنه ليس على هيئته حين انعقدت اليمين، فسخف به ولم يكلم.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنه: معنى قوله: " لئن شكرتم لأزيدنكم " إبراهيم: 7 لئن شكرتم هدايتي لأزيدنكم ولايتي، ولئن شكرتم ولايتي لأزيدنكم قربي، ولئن شكرتم قربي لأزيدنكم رؤيتي.
قال الجنيد الصوفي في قوله " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " العنكبوت: 45: الفحشاء مشاهدة الدنيا بالنزاع إليها، والمنكر مطالعة الآخرة بالاقتصار عليها، والصلاة تنهى عنهما جميعاً، ويشير إلى توحيد الحق بمحو الخلق.
للصوفية إشارات سليمة وألفاظ صحيحة ومرامات بعيدة، وفيها حشو كثير وفوائد جمة، وكان ظبي أني سأتفرغ لإفراد جزء من الكتاب لوساوسهم وملحهم، ونوادرهم وحقائقهم، لكني عجزت عجزاً أوضح عذري، وكشف حجتي، ولو لقط من أثناء الكتاب ما يشاكل عبارتهم ويطابق إشارتهم لكان له موقع وأثر، وإذا أتاح الله لي فرجاً وقيض لي مخرجاً فرعت همتي لنظم جزء من نحو هذا الفن، نعم، وأتكلف أيضاً جزءاً ثانياً في غرائب كلام الفلاسفة، فإن التصوف والفلسفة يتجاوران ويتزاوران، وإن كان قد مر في الكتاب ما يعجز جمعه.
قال فيلسوف: كما أن الخنفساء تكره الرائحة الطيبة، كذلك من لا لطافة له يكره الموسيقى.
وقال سقراط: ما جاعت نفسي قط إلا صفا ذهني.
قال بوزون: النفس إذا فارقت الجسد صارت خالصة خالدة، لأنها إذا فارقته لا تألم.
قال أفلاطون: لست صورة ولكني متصور، قال: والدليل عليه أني جزء ولست بكل.

قال ابن دريد، أخبرني أبو حاتم، أنشدني أبو عبيدة لقطري بن الفجاءة: البسيط
يا رب ظل عقاب قد وقيت بها ... مهري من الشمس والأبطال تجتلد
ورب يوم حمى أرعيت عقوته ... خيلي اقتساراً وأطراف القنا قصد
ويوم لهو لأهل الخفص ظل به ... لهوي اصطلاء الوغى وناره تقد
مشهراً موقفي والحرب كاشفة ... عنها القناع وبحر الموت يطرد
ورب هاجرة تغلي مراجلها ... مخرتها بمطابا غارة تخد
تجتاب أودية الأفزاع آمنة ... كأنها أسد تقتادها أسد
فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمداً ... على الطعان وقصر العاجز الكمد
ولم أقل لم أساق اقتل شاربه ... في كأسه والمنايا شرع ورد
ثم قال لي: هذا هو الشعر، لا ما تعللون به أنفسكم من أشعار المخانيث.
قال يعقوب، قال أبو صاعد: رحبت الأرض إذا اتسع ربيعها واتصل، فتشبع النعم أينما دارت؛ قال: ويقال: أرض ملتفعة إذا كان بقلها بعضه إلى جنوب بعض ملتصقاً؛ قال، وقال أبو القاسم: يقال: أرض ملتفعة خضراء إذا وصفت بالخضرة وأرض مستطيلة بالخضرة؛ قال، وقال أبو حامد: يقال: ائتصر النبت إذا كانت عروقه مؤتصرة أي متقابلة قوية ثخينة، ويقال: أرض مؤتصرة الكلأ؛ أبو عمرو: يقال: ائتصر النبت إذا طال، وهو من الأصير، يقال: هدب أصير إذا كان ثخيناً، وأنشد: الوافر
لكل منامة هدب أصير
قرئ على السيرافي وأنا أسمع، قرأه عبد السلام البصري، أخبركم ابن دريد قال، أنشدني بندار بن إبراهيم الكرخي: الطويل
أي طويل مستدير وطوله ... كشبر أو أدنى أو يزيد أقله
وفي رأسه شق وثقب بطوله ... وليس بذي نفع إذا لم تبله
هكذا قال.
وقرئ عليه: سكر مزبد يوماً وجاء إلى امرأته فقالت: أسأل الله أن يبغض إليك النبيذ، فقال: وإليك القبيب.
قال، وقرئ عليه: قيل لمديني: أتحب رمضان؟ قال: ما أتهنأ بشهور سائر السنة من أجله فكيف أحبه؟ ومر ابن أبي علقمة على جماعة من عبد القيس، فضرط بعض فتيانهم فالتفت إليهم فقال: يا عبد القيس كنتم فسائين في الجاهلية فصرتم ضراطين في الإسلام، وإن جاء آخر خريتم.
وقال الرشيد لجمين: لم لا تدخل على محمد بن يحيى؟ قال: أدخل يا أمير المؤمنين وأنا أكسى من الكعبة وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود.
رأى رجل مزبداً وهو يستنجي ويطيل الغسل لآسته فقال: إلى كم تلبقها؟ قال: حتى تتنظف وأسقيك فيها سويقاً.
وسمعت أبا سعيد يقول، قال ابن السراج: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي توفي فأنشد لنفسه: الكامل المجزوء
ولقد سئمت مآربي ... فكأن أطيبها خبيث
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
وقرئ على أبي سعيد: رؤي مزبد مع امرأة، فقيل له: ما تريد منها؟ قال: أناظرها في شيء من النكاح.
وقرئ: وقيل له: ما تقول في القبلة؟ قال: الفطام قبل اللطام.
وسمعت أبا سعيد يقول: ذكروا أنه كان لرجل ولدان فقتل أحدهما أخاه، فعفا الأب عن الابن الثاني ووهب له جرمه، فذكر ذلك للملك فقال: لا يقبل قول الأب وليس إلا أن يقاد بأخيه، فقتل، فزعموا أن أباهما ذهل عقله، وكان يدور في الطرقات ويقول: كان لي ولدان قتل أحداهما أخاه، وقتل الآخر الملك.
وجرت في مجلسه مسألة وهي: هل يصح أن يقال: هذا هذا هذا هذا هذا هذا، فقال: تجعل الأول مبتدأ، والثاني توكيداً، والثالث فعلاً من قولك: هاذي يهاذي من المهاذاة، والرابع توكيداً للفعل، والخامس مفعولاً به، والسادس توكيداً للمفعول به.
سمع الجاحظ رجلاً ينشد: الرمل المجزوء
إنما الراح شقيقي ... وحليفي وأليفي
فهو فروي في شتائي ... وهو خيشي في مصيفي
فقال له: لو عرف النبيذ حسن رأيك فيه لحاباك وقت السكر.
كان الحارث بن هشام المخزومي في وقعة البرموك، ويها أصيب، فأثخنته الجراح، فاستسقى ماء فأتي به، فلما تناوله نظر إلى عكرمة بن أبي جهل صريعاً في مثل حاله، فرد الإناء على الساقي وقال: امض به إلى عكرمة ليشرب أولاً فإنه أشرف مني، فمضى به إليه فأبي أن يشرب قبله، فرجع إلى الحارث فوجده ميتاً، فرجع إلى عكرمة فوجده ميتاً.

قال غلام لأبيه: أسمع الأصمعي يردد بيتين لا أرى فيهما ما يرى، قال: وما هما يا بني؟ قال: قوله: الطويل
سقى الله أياماً مضت لسن رجعاً ... إلينا وعصر العامرية من عصر
ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمر الليالي والشهور ولا أدري
فقال: يا بني، لو كنت عاشقاً لرأيت فيهما أضعاف ما يرى.
أنشد أبو العيناء قول الشاعر: الطويل
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا أدري أيها هاج لي كربي
أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق سمعي أم الحب في قلبي
فقال لقد قسمها قسمة حسنة.
دخل ابن أبي علقمة على بلال بن أبي بردة وحمزة بن بيض ينشده: الطويل
ومن لا يرد مدحي فإن مدائحي ... نوافق عند الأكرمين نوامي
نوافق عند المشتري الحمد بالندى ... نفاق بنات الحارث بن هشام
فقال ابن أبي علقمة: يا ابن أخي، وما بلغ من نفاق بنات الحارث قال: كان يزوجهن ويسوقهن ومهورهن إلى بعولتهن، فقال له ابن أبي علقمة: يا ابن أخي، والله لو فعل هذا إبليس ببناته لتنافست فيهن الملائكة المقربون.
أنشد ثعلب: الطويل
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المطايا رحالنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
وأنشد: الكامل
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
وأنشد الطويل
ولأئمة لامتك يا فيض في الندى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
مواقع جود الفيض في كل بلدة ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
كأن وفود الفيض يم تحملوا ... إلى الفيض لاقوا عنده ليلة القدر
خاصم أحمد بن يوسف رجلاً بين يدي المأمون، فكان قلب المأمون على أحمد، فعرف أحمد ذلك فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يستملي من عينيك ما يلقاني به، ويستثير من حركتك ما تجنه له، وبلوغ إرادتك أحب إلي من بلوغ إرادتي، ولذة إجابتك آثر من لذة ظفري، وقد تركت له ما نازعني فيه، وسلمت إليه ما طلبني به؛ فشكر له المأمون ذلك.
قال أحمد بن يوسف: البغضاء تجلب الغموم وتثير الهموم، وتمر العذب وتؤلم القلب، وتقدح في النشاط وتطوي الانبساط.
أنشد لنهار بن توسعة: الكامل
قدمت صدر السيف ثم تبعته ... كالفجر مد عموده المنجابا
في مظلم الأرجاء يؤنسني به ... سيف وقلب لم يكن وجابا
كان أحمد بن يوسف يكتب بين يدي المأمون، فطلب المأمون منه السكين، فدفعها إليه والنصاب في يده، فنظر إليه المأمون نظر منكر فقال: على عند فعلت ذلك ليكون الحد لأمير المؤمنين على أعدائه؛ فعجب المأمون من سرعة جوابه وشدة فطنته.
وكتب أحمد بن يوسف إلى إبراهيم بن المهدي: قد أحلك الله من الشرف أعلى ذروته، وبلغك من الفضل أبعد غايته، فالآمال إليك مصروفه، والأعناق نحوك معطوفة، إليك تنتهي الهمم السامية، وعليك تقف الظنون الحسنة، وبك تثنى الخناصر بعد الأكالبر، ونحوك تساق الرغائب وتستفتح أغلاق المطالب، ولا يستبطئ النجح من رجال، ولا تعروه النوائب في ذراك.
قال عبد الله بن طاهر في علته: لم يبق علي من لباس الزمان إلا العلة والخلة، وأشدهما علي أهونهما على الناس، لأن ألم جسمي بالأوجاع أهون علي من ألم قلبي بالحق المضاع.
قال يعقوب: يقال: قد أزبأر شعره.
قال ابن الأعرابي، يقال: أصبحت الأرض غديراً واحداً إذا اعتم نبتها وخضل وندي، والتبس في غضاضة وري؛ ويقال: أرض مأبورة، إذا علاها الماء.
قال يعقوب: أثفت القدر وثفيتها وأثفيتها، ورماه بأثفية: أي بحجر يملأ الكف؛ ورجل مثفى: يموت عنه النساء، وامرأة مثفاة: تموت عنها الأزواج.
قال علي بن عبيدة: عين الدهر تطرف بالمكاره، والخلائق بين أجفانه.

قال إبراهيم بن العباس: والله لو وزنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاسن الناس لرجحت، وهي قوله: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم؛ هذا أبو عباد كان كريم العهد كثير البذل سريعاً إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه، فما يرى له حامد.
وقع ابن يزداد في وزارته إلى عامل اعتد بباطل: ما يبين لنا منك حسن أثر، ولا يأتينا عنك سار خبر، وأنت مع ذا تمدح نفسك، وتصف كفايتك، والتصفح لأفعالك يكذبك، والتتبع لآثارك يرد قولك، وهذا الفعل إن اتكلت عليه وأخلدت إليه، أعلقك الذم وألحقك العجز، فليكن رائد قولك مصدقاً لموجود فعلك، إن شاء الله.
شاعر أعرابي: الطويل
لا تعذلن النبع فالنبع إنما ... مكاسرة تبدو غداة التغالب
فليس بغاث الطير مثل صقورها ... وليس الأسود الغلب مثل الثعالب
وليس العصي الصم كالجوف خبرة ... وليس البحور في الندى كالمذانب
قال القاسم بن معن: من لم يرو أشعار المحدثني لم يظرف.
قال المبرد: ليس بقدم العهد يفضل القائل، ولا يحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق، ألا ترى كيف يفضل قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير على قرب عهده: الطويل
تبحثتم سخطي فغير بحثكم ... نخيلة نفس كان نصحاً ضميرها
ولن يلبث التخشين نفساً كريمة ... عريكتها أن يستمر مريرها
وما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدر كان صفواً غديرها
وأنشد لبشار: الكامل
والله ما جمر الغضا متوقدا ... بأحر من حرق الهوى المتضرم
والله ما رمت السلو عن الهوى ... إلا وقلبي يستشيط على دمي
والله ما لي عن هواك معرج ... إلا إليه فأخري أو قدمي
يا عبد لو أبصرتني وتقلبي ... ليلي الطويل عجبت أن لم ترحمي
أيقنت أني من من هواك مسابق ... أجلي علمت بذاك أو لم تعلمي
أنشدني الأندلسن: الرمل
لي صديق وهو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
قال أبو عمرو الشيباني في كتاب العار والساعد؟: وكان يقال للرجل: تذكر شيخاً وتتنحى عنه، أي هو فوق ذلك؛ ويقال: له جمة فينانة، هي جمة كثيرة الذوائب.
قلت للسيرافي: ما يقال للشاطر؟ قال، الملغ، قلت: فما الملط؟ قال: الخبيث.
وقال كعب بن زهير: الطويل
أنا ابن الذي لم يخزني في حياته ... ولم أخزه لما تغيب في الرجم
أقول شبيهات بما قال عالم ... بهن ومن يشبه أباه فما ظلم
وأشبهته من بين من وطئ الحصى ... ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم
وقال أعرابي: البسيط
أغلظ خزيرك واعلم حين تصنعه ... ما في استراط الرويثيين تفتير
طالت بلاعيمهم للقم وامتقعت ... وفي العلابي وألأوداح توتير
لو توقد النار دون الزاد جامعة ... طاح الرويثي فيه وهو محضير
ما بين لقمته الأولى إذا أخذت ... وبين أخرى تليها قيس أظفور
قال النضر بن شميل: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت عليه ذات ليلة، وعلي قميص مرقوع فقال: يا نضر، ما هذا التقشف؟ أتدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ ضعيف وحر مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان، قال: لا، ولكنك قشف. وأجرينا الحديث، فجرى ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان في ذلك سداد من عوز، قلت: صدق أمير المؤمنين، حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب الحديث كان فيها سداد من عوز، وكان متكئاً فاستوى جالساً فقال: يا نضر، كيف قلت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، السداد ها هنا لحن، قال: وكيف؟ قلت: إنما لحن هشيم، وكان لحانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه، قال: فما الفرق بينهما؟ قلت: السداد: القصد في الدين والسداد: البلغة، وكل ما سددت به شيئاً، قال: أو تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول: الوافر
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر

قال: قبح الله من لا أدب له، ثم وصلني بخمسين ألف درهم.
شاعر: الرمل المجزوء
دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب على الخد الأسيل
هطلت في ساعة الب ... ن من الطرف الكحيل
إنما يفتضح العش ... اق في وقت الرحيل
قال أبو مسلم بن أبي معمر، أنشدني أبو الحسين ابن أبي البغل وقد رد عن طريق أصفهان إلى بغداد: الرمل المجزوء
أمل كان مكان الشم ... س في بعد المكان
فدنا حتى إذا صا ... ر بلمس وعيان
استردته يد الده ... ر فعدنا في الأماني
أعرابية: الطويل
من النفر الشوس الذين طعامهم ... سمام وأيديهم ثمال ذوي الفقر
مغاوير مناعون للبيض والقنا ... وجوداً على المتناب في العسر واليسر
وإنا لنعلي بالعبيط لضيفنا ... ويرخص فينا في الجفان وفي القدر
وننتاب حتى ما تهر كلابنا ... غريباً وما نعضي عيوناً على قهر
وتطعم حتى يترك الضيف فضلنا ... إذا بل في أطرافنا سبل القطر
يبصبصن لأضياف كلبي تألفا ... وإن رام نبحاً لم يعش في بني نصر
قيل ليحيى بن معين: أكان أبو حنيفة يكذب في الحديث؟ قال: كان أنبل من أن يكذب.
قال ابن راهويه: كان أبو حنيفة يفتي ديانة، وكان الشافعي يفتي تفقها.
قال أحمد بن حرب: أبو حنيفة في العلماء كالخليفة في الأمراء.
وقال أبو عاصم النبيل: كان أبو حنيفة يقال له الوتد لكثرة صلاته.
قال ابن عباس: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فقال: مرحباً بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والله إن المؤمن أعظم حرمة عند الله منك، لأن الله حرم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة: دمه وماله وأن يظن به ظن السوء.
قال عبد الرحمن بن أحمد: سمعت أبا العيناء يقول: ما قطعني أحد قبل المهتدي، قال لي: بلغني أنك تغتاب الناس، فقلت: يبطل ما قيل علي شغلي بعيني، قال: ذاك والله أشد لتغيظك على أهل العافية.
قال المتوكل لأبي العيناء: أكان أبوك مثلك في البيان؟ قال؟ والله يا أمير المؤمينن لو رأيته لرايت والله عبدا لك لا ترضاني أكون عبداً له.
وقال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة، قال لي أبي: يا بني، إن الله قرن طاعته بطاعتي فقال تعالى " أن اشكر لي ولوالديك " لقمان: 14 فقلت: يا أبة إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي فقال " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " الإسراء: 31.
قال المتوكل لأبي العيناء: إني لأفرق من لسانك، قال: يا أمير المؤمنين، إن الشريف فروقة ذو إحجام، وإن اللئيم ذو منة وإقدام.
ذكر أبو العيناء الصحابة فقال: هم الذين جلوا بكلامهم الأبصار العليلة، وشحذوا بمواعظهم الأذهان الكليلة، ونبهوا القلوب من رقدتها، ونقلوها من سوء عادتها، فشفوا من داء الشقوة، وغباوة الغفلة، وداووا من العي الفاضح، ونهجوا سبل الطريق الواضح، رحمة الله عليهم أجميعن.
قال أبو العيناء، قال أبو زيد البلخي النحوي، قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأينا شيئاً يمنع سؤدداً إلا وجدناه في سيد من السادات: أول ذلك الحداثة تمنع السؤدد وقد ساد أبو جهل قريشاً وما طرشاربه، ودخل دار الندوة وما استوت لحيته؛ والبخيل لا يسود وقد ساد أبو سفيان بن حرب؛ والعاهر لا يسود وقد ساد عامر بن الطفيل؛ والظالم لا يسود وقد ساد كليب وائل وحذيفة بن بدر؛ والأحمق لا يسود وقد ساد عيينة بن حصن، وقليل القوم لا يسود وقد ساد شبل بن معبد بلا عشيرة؛ والفقير لا يسود وقد ساد عتبة بن ربيعة.
والأخلاق المانعة للسؤدد الكذب والكبر والسخف والتعرض للعيب وفرط العجب؛ وأنشد: الرجز
لا بد للسؤدد من أرماح ... ومن سفيه دائم النباح
ومن عديد يتقى بالراح
قال أبو عمرو بن العلاء: إن أهل الجاهلية لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والبيان والحلم وتمامهن الإسلام.
قال الأصمعي: وسئل أبو عمرو بن العلاء عن أكرمك الله فقال: محدثة، فقيل له: ما تقول في الحلف بحق رسول الله؟ فقال: حلفة محدث.

قال عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني: ضرب في الله بالسياط عبد الله بن ذكوان أبو الزناد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس، وأبو عمرو بن العلاء، ضربه عبيد الله بن زياد، وسعيد بن المسيب، وعطية العوفي، وثابت البناني، وعبد الله بن عون، ويزيد الضبي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وحبس الربيع بن أنس ثلاثين سنة حتى مات في الحبس؛ وحبس إبراهيم بن الربيع التيمي في حبس واسط فمات فرمي به في الخندق، ولم يستجرئ أحد أن يدفنه حتى مزقته الكلاب؛ وإبراهيم الصائغ ضرب حتى مات؛ وأحمد بن حنبل ضرب بالسياط.
قال أبو عمرو بن العلاء: إن عتبة بن ربيعة قال لبنته: إنما خطبك إلي رجلان، خطبك السم ناقعاً وخطبك الأسد عادياً، فأيهما أحب إليك أن أزوجك؟ قالت: الذي أكل أحب إلي من الذي يؤكل، فتزوجها أبو سفيان وهو الأسد العادي؛ والسم الناقع هو سهيل بن عمرو.
قال عبد الوارث بن سعيد، قال أبو عمرو بن العلاء: كانت وقعة الحرة بالمدينة وبها ألف عين تنظر، قد رأت رسول الله، قتل أكثرهم، والله لو أنها عين واحدة لوجب أن تصان وتحمى؛ قال عبد الوارث: صدق أبو عمرو، وكان والله ثقة صدوقاً.
أبو عمرو عن رجل قال: الرجز
أفلح من كانت له كرديده ... يأكل منها وهو ثان جيده
الكرديدة: الغدرة من التمر.
قال أبو عمرو بن العلاء: ذاكرني أبو حنيفة بشيء فقلت: هذا بشع، فقال: ما معنى بشع؟ فعجبت من ذلك.
سمع أبو عمرو أبا حنيفة يتكلم في الفقه ويلحن، فاستحسن كلامه واستقبح لحنه، فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب، ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس.
قال أبو عمرو بن العلاء للأعمش: ما معنى ننكسه، إنما التنكيس لترديد الفعل إنما هو ننكسه، لأن الله جل اسمه لم يفعل هذا بالمعمر إلا مرة.
قال الفضل بن مروان، قال لي المأمون، كان الرشيد يقول: وددت أن لك بلاغة محمد وأن علي غرم كذا وكذا.
قال الفضل: سمعت محمداً يقول وقد عرض عليه كتاب: كلام بليغ وليست له حلاوة، مثله مثل طعام طيب ليست له لطافة.
وقال عبد الله بن صالح: سمعت محمداً يقول لكاتب بين يديه: دع الإطناب والزم الإيجاز، فإن للإيجاز إفهاماً كما أن مع الإسهاب استبهاماً.
قال أبو سهل الرازي: كنت واقفاً على رأس الأمين فقال لكاتب بين يديه: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسين؛ أما بعد، فإن الأمر قد خرج بيني وبين أخي إلى هتك الستور، وكشف الحرم، ولست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد، لشتات ألفتنا، واختلاف كلمتنا، وقد رضيت أن تكتب لي أماناً فأرج إلى أخي به، فإن تفضل علي بالعفو فأهل ذلك هو، وإن قتلني فمروة كسرت مروة، وصمصامة قطعت صمصامة، وأن يفترسني الأسد أحب إلي من أن تنهشني الكلاب. وأمر بختم الكتاب وأرسله مع ثقة إلى طاهر، فلما قرأه طاهر قال: الآن حين انحرف عنه مراقه وفساقه، وبقي مخذولاً معلولاً، يلوذ بالآمال؟! لا والله، أو يجعل في عنقه ساجوراً ويقول: ها أنا ذا قد نزلت على حكمك، فقلنا له: فما الجواب؟ قال: ما سمعتم، فانصرفنا إلى محمد بالخبر فقال: كذب العبد السوء العاض هن أمه، والله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع علي الموت.
أبو العتاهية: الوافر المجزوء
هي الأيام والغير ... وأمر الله ينتظر
أتيأس أن ترى فرجاً ... فأين الله والقدر
قال معاوية ليزيد: إذا دليتني في قبري فأدخل عمرو بن العاص القبر ووله أن يسويني في قبري، واخرج أنت عن الحفرة واسلل سيفك وأمر عمراً يبايعك، فإن فعل وإلا دفنته قبلي: ففعل يزيد ما أمره به معاوية فلما نظر عمرو إلى السيف بايعه وقال: يا يزيد، هذا من عمل صاحب الحفرة وما هو من كيسك.
قال معاوية لخالد بن معمر: كيف حبك لعلي؟ قال: أحبه على ثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وصدقه إذا قال، ووفائه إذا ولي.
أنشد أبو حاتم السجستاني لشاعر: البسيط
واعلم بأن الذي ترجو وتأمله ... من البرية مسكين ابن مسكين
ما أقتل الحرص في الدنيا لصاحبه ... وأسمج الكبر في من صيغ من طين

سمعت السيرافي يقول " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " النساء: 3 ما ها هنا وقعت على من يعقل، وهن النساء، والأصل أن ما تقع على من لا يعقل ومن على من يعقل، فإن هذا جائز؛ ألا ترى إلى قوله " والسماء وما بناها " الشمس: 5، أي: ومن بناها، وإن كان قد قيل فيه وجه آخر وهو: " والسماء وما بناها " أي وبنائها؛ قال: ويجوز أن تكون ما ها هنا بمنزلة الذي، كأنه قال: الذي طاب لكم من النساء، فإن قيل على هذا الوجه، فكيف تكون بمعنى الذي وهو للمذكر، قيل: هذا يجوز لأنه عبارة عن الجنس، ألا ترى إلى قولك: من في الدار صحيح، مع علمك أن في الدار امرأة أو رجلاً وكما قال تعالى " النار الذي كنتم به تكذبون " الطور: 14، ويكون ها هنا عائداً على نفس اللفظ؛ قال: وهذا وجه صالح.
قال: ويجوز على معنى ثالث وهو أن تكون ما عبارة عن أي وقت وزمان كأنه قال: وانكحوا من النساء ما طاب أي وقت طاب، وقال: إن صح هذا فهو جيد.
سمعت علي بن عيسى يقول: كان عندنا صيدناني يقال له أبو شجاع، وكان يتمثل لدوائه ودواء غيره ويقول: مثال ذلك مثال رجلين على أحدهما جبة خلق وعلى الآخر جبة خز دخلا حماماً، فخرجا وقد سرقت جبتاهما، فهذا يبكي ويقول: واجبتاه، وهذا يبكي ويقول: واجبتاه، يريد أنه يبكي كل واحد منهما على قدر جبته.
وسمعته يقول: في قوله تعالى " ومن دخله كان آمناً " آل عمران: 97 وجهان: أحدهما انه على طريق الأمر والحكم كأنه في التقدير: ومن دخله يأمنونه؛ وحكي عن بعض القرامطة أنه قال لما دخل مكة وقتل الناس بها: ألم يقل الله " ومن دخله كان آمناً " ، والله لقد أخفنا السبيل، وأطلنا العويل، فقال له بعض الحاج: يا هذا إنما هو على طريق الأمر: أمنوه، قال: فكأنما ألقمه حجراً.
قال: والوجه الثاني أن المعنى على ظاهره، وذلك أن الله تعالى جبل الخلق في أول الفطرة على الطهارة والخير، إلا أنهم ربما أكرهوا أنفسهم على النجاسة والشر، فعلى هذا التأويل: ومن دخل كان آمناً على حسب ما فطر عليه وتقدم إليه؛ ألا ترى أن الشاة والذئب والحمام تأتلف في الحرم.
سمعت السيرافي يقول، سمعت نفطويه يقول: لحن الكبراء النصب والجر، ولحن الأواسط الرفع، ولحن السفلة الكسر.
سمعت ابن مهدي الطبري يقول، مشايخ بغداد يقولون: ما رأينا أفصح من ابن داود مطبوعاً، ولا أفصح من نفطويه متكلفاً.
شاعر: الطويل
لئن كان قومي قلدوني أمورهم ... ولم أكفهم إني إذن للئيم
علام إذن أدعى أميراً وأرتجى ... وتعصب بي الأمر العظيم تميم
فقل لتميم ما حميت ذماركم ... ولا حطت منكم ما يحوط كريم
إذا أنا لم أغضب جذاماً وحميراً ... بخوف له بين الضلوع نئيم
وأقذف عبد القيس بن بحر ذلة ... تظل به بين التراب تعوم
اعتلت امرأة، فقدم إليها فالوذج، فنظرت إليه وقالت: والله إنك لهين المزدرد لين المسترط، وإنك لتعلم أن العودة إلى مثلك لتطول مدتها، فما يمنعني أن أتلقى حرارتك بحلقوم لهجم، وبلعوم سرطم، ثم يقضي الله في قضاءه.
قيل لأعرابي: هل استمريت ما أكلت البارحة؟ فقال: لو تغذى أحدنا بالدنيا وما فيها لأحب أن يتعشى بالآخرة.
وقال بعضهم: المائدة بلا بقل كالشيخ بلا عقل.
وكتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً فيه: ولا تولين الأحكام بين الناس جاهلاً بالأحكام، ولا حديداً طائشاً عند الخصام، ولا طعماً هلعاً يقرب أهل الغنى، ويبش بأهل السعة، يكسر بذلك أفئدة ذوي الحاجة، ويقطع ألسنتهم عن الإفلاج بالحجة والإبلاغ في الصفة، واعلم أن الجاهل لا يعلم، والحديد لا يفهم، والطائش القلق لا يعقل، والطمع الشره لا تنفع عنده الحجة ولا تغني فيه البينة، والسلام.
قد وليناك كذا لما بلوناه من جميل أثرك، ورضيناه على الامتحان من مختبرك.
وفصل آخر في حديث القضاء من إنشاء بعض البلغاء: يعتمد على الحق وبيناته، ويتجنب الزيغ وشبهاته، ولا يقطع ضعيفاً عن حجته، ولا يطمع خصماً في منزلته، وينعم النظر في مشكلات الأحكام، آخذاً بالاحتياط، معتقداً للإقسام، مجتهداً في الفصل بين الخصوم، والأخذ من الظالم للمظلوم، ويستبطن أهل الحجى، ويستظهر بذوي النهى.

فصل آخر في هذا المعنى: هذا ما عهد عبد الله الإمام أمير المؤمنين إلى فلان حين رداه رداء الشرف، وبوأه المتبوأ العالي المنيف، واعتمد عليه في القضايا والأحكام، وأطلق له النظر بما أمر الله عز وجل في أموال الوصايا والوقوف والأيتام، لدينه المعرى من الشوائب، وورعه المبرإ من المعائب، وعلمه الذي قد جمع أطرافه، وبذ به أشكاله وأخلافه، واقتصاده الذي هو عنوانه، وعليه يجري أصحابه وأعوانه، وتأنيه في إمضاء الحكومات، ودرئه الحدود بالشبهات، واقتداره على كف أربه، واشتماله على ما يقربه من ربه، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يوفق آراءه ولا يعروها فند، ويصل له وبه صلاحاً يبقى على الأبد، ويعين فلاناً على ما تحمله، فإنه عبء ثقيل، وأمر عظيم جليل.
شاعر من الكتاب: الطويل
أعاتك أدني من أبيك السنورا ... فقد أصبحت نار العشيرة أنورا
وجاش بعبد القيس ما في صدورهم ... علينا من الأخبار حتى تفطرا
وما ضرنا أن القبائل أصبحت ... علينا غضاباً ليس تنكر منكرا
وأنا نعد الناس منبر ملكهم ... إذا اضطرب الخيلان حتى نؤمرا
وأنا إذا ما خيرونا وجدتنا ... وإن كثروا منهم أعز وأكبرا
فهاتي سلاحي أكف قومي أمورهم ... وقد قلدوني الأمر أروع أزهرا
وبئس أخو القوم الكرام وشيخهم ... أبوك غداً إن أقدموا وتأخرا
وإن هو لم يركب قرا الحرب كلما ... تسنم منها قاعداً وتنمرا
وإن يسأم الإقدام في الروع آمناً ... ولو خاض بحر الموت حولاً مكدرا
قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله تعالى " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " الشعراء: 100 - 101.
قال بعض السلف: إن الله تعالى خلق النساء من عي وعورة، فداووا العي بالسكوت، واستروا العورة بالبيوت.
قال بعض السلف: مكتوب في الصحف الأولى: إذا أغنيت عبدي عن طبيب يستشفيه، وعما في يد أخيه، وعن باب سلطان يستعديه، وعن جار يؤذيه، فقد أسبغت عليه النعم.
رأى أعرابي في دهليز دار ابن زياد صورة أسد وكلب وكبش، فقال: أسد جائح، وكبش ناطح، وكلب نابح، أما إنه لا يتمتع بها أبداً؛ فما لبث عبيد الله إلا أياماً.
سمعت الحراني الصوفي بمكة يقول: قم في مغاني الأسى، على الترب والحصا، وناد فلعل وعسى.
رفع إلى كسرى: خذلتم ثم سميتم فلاناً مخذولاً، فوقع: لأنه تظلم منا إلى الله تعالى قبل أن يتظلم إلينا.
ووقع الفيض في وزارته على ظهر رقعة معتذر: التوبة للمذنب كالدواء للمريض، فإن صحت توبته كمل الله تعالى شفاءه، وإن فسدت نيته أعاد الله تعالى داءه.
قال أبو الدرداء: معاتبة الأخ أخاه خير من فقده، ومن لك بأخيك كله؛ أطع أخاك ولن له، ولا تسمع فيه قول حاسد وكاشح، غداً يأتيك أجله فيكفيك فقده، ويكفيك مضض الحسرة عليه بعد فقده إذا قصرت في حقه حال حياته، فكيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان المراء قوم من قدح لوجد له غامز.
وقف أعرابي على خالد بن سلمة المخزومي فقال له: يا أعرابي ممن أنت؟ قال: من تميم، قال: أنت من دارم الأكرمين؟ قال: لا، قال: فأنت من حنظلة الأشدين؟ قال: لا، قال: فأنت من سعد الأكبرين؟ قال: لا، قال: اذهب لا تبال أن تكون عربياً؛ فتنحى فقال: من هذا الذي على بابه جالس؟ قالوا: خالد بن سلمة المخزومي، فرجع إله فقال: ممن أنت؟ قال: من قريش، قال: من هاشم المرسلين؟ قال: لا، قال: فمن أمية المستخلفين؟ قال: لا، قال: فمن عبد الدار المستحجبين؟ قال: لا، قال: فاذهب ولا تبال أن تكون قرشياً.
قال ابن الأعرابي عن المفضل: جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطباً، قال: لمن؟ قال: لمودتك، قال: قد أنكحتك إياها، وجعلت الصداق أن لا تقبل في مقالة قائل.
قال المفجع: يقال: مرت الطير لها خوات ومرت الطير لها خواته، أي حس وصوت.
وقال: المهود: الطرف الملهي، وتهود القوم في السير إذا ساروا سيراً ضعيفاً، وبينهم هوادة من هذا أي سكون، واليهود منه.

يقال: ما له حيلة ولا حول ولا محالة ولا حويل ولا حيل، إذا كان لا يتجه لأمره؛ وقال: الحيل: القوة، والحيل أيضاً الحجر الناتئ من الجبل، والجميع الحيلة، حكاه أبو العباس عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
وقال: قارعة الطريق أي محجته.
وقال: تقول العرب: هدهد، وهداهد - بضم الهاء - سواء كل واحد، فإذا جمعوا قالوا: هداهد - بفتح الهاء، وكذلك: عراعر: سيد القوم، فإذا جمعوا قالوا: عراعر، وكذلك: رجل حلاحل للملك الكثير العطاء، والجمع حلاحل، وهذه أحرف يسيرة جاءت ناردة.
وتقول العرب في الذئب: نيه طلسة وغبرة، وغبشة كل ذلك للذي يضرب إلى السواد والحمرة؛ وفي الضبع غبرة وشكلة، وهو لون فيه سواد وصفرة قبيحة.
قال أبو العيناء: سمعت رجلاً يقول لأبي زيد: أتتهمني على دين الله؟ قال: لا ولكني أتهمك عل لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العيناء، حدثني القحذمي قال: دخل خالد بن صفوان الحمام وفيه رجل مع ابنه، فأراد أن يعرف خالداً ببلاغته فقال لابنه: يا بني، ابدأ بيداك وثن برجلاك، ثم التفت إلى خالد وقال: با ابن صفوان، هذا كلام قد ذهب أهله، فقال خالد: هذا كلام ما خلق الله له أهلاً.
قال أبو العيناء: خطب رجل في حسبه شيء إلى رجل شريف قد مسته حاجة، فأنشأ يقول: البسيط
قل للذين سعوا يبغون رخصتها ... ما أرخص الجوع عندي أم كلثوم
الجوع خير لها من فعل منقصة ... ساقت أباها إليه جلة كوم
قدم محمد بن إسحاق البصرة، فكان فتيانها يضعون له المراثي لبنات عبد المطلب فيصلها هو بالسيرة والغزوات.
قال أبو العيناء، قال الثوري: سألت الأصمعي لم سمي الشجاع بهمة، قال: لأن أمره مستبهم لا يدري من أين يتأتى له.
قال الأصمعي: حمل يزيد بن مرة شيئاً على رأس حمال، فعاسره في الكراء، فقال: إن الذي على رأسك لك.
قال المعتمر بن سليمان: كان على أبي دين، فكان يستغفر، فقلت: لو سألت الله أن يقضي دينك، قال: إذا غفر لي قضى ديني.
قال أبو مرثد: العرب تقول: فلان نظورة قومه، أي المنظور له من بينهم.
قال أبو زيد: سمعت رؤبة بن العجاج يقول: ما رأيت أروى لأشعارنا من أبي مسلم، من رجل يرتضخ لكنة، فهو أفصح الناس.
قال يحيى بن خالد: شر الأمور التخليط الذي لا ينقطع.
في أول كتاب إبراهيم الإمام: احذروا العرب فإنها لم تزل تبغينا مذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فينا.
قال جعفر بن محمد: يعرف نفاق الرجل في ولده أن لا يكون باراً بهم رفيقاً عليهم.
قال ابن عباس: إذا أسف الله على خلق من خلقه فلم يعجل لهم النقمة بمثل ما أهلك به الأمم من الريح وغيرها، خلق الله لهم خلقاً من خلقه يعذبهم بهم لا يعرفون الله تعالى.
قال عبد الصمد بن موسى: لما وجد عمر بن فرج كتاباً من أهل الكرخ إلى علي بن محمد بن جعفر عليهم السلام جاء به إلى المأمون، فقال المأمون: محمد أولى من ستر هذا - ولم يشعه، ودعا علي بن محمد فقال: له: قد وقفنا على أمرك، وقد وهبنا ذلك لعلي وفاطمة، فاذهب فتخير ما شئت من الذنوب فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو.
قال عبد الصمد بن موسى: كان متطبب محمد بن إبراهيم أبو خالد نصرانياً ثم أسلم، فغلب على يحيى بن خالد ثم على الرشيد، فلما حضرته الوفاة وجه إلى محمد بن إبراهيم: إن لك علي حقاً أرعاه، فوجه إليي من يفهم عني حتى أوصيك بشيء أنصح لك فيه، فحدثني أبي موسى قال: وجهني محمد بن إبراهيم إليه، فأمرت الغلام بدواة وقرطاس فقال: أقرئه السلام، والأمر أيسر من أن نكتبه، قل له: لا تجامع حتى يأتي عليك من الوقت الذي تجامع فيه إلى ذلك الوقت مقدار ثلاثة أيام بلياليها، فإنك إن فعلت لم يضررك، وذلك أن المني إنما يكون من الدم، ولا يصير الدم في أقل من هذه المدة، ومتى فعلت قبل ذلك استكرهته فقلعته قلعاً تؤذيك عاقبته بعد؛ ولا تغلظ على أضراسك لقمة فتلقيها إلى معدتك فتضر بها لأن المعدة أرق منها، وإذا لم تقدر عليها الأضراس فالمعدة أجدر؛ والدم فمتى هاج بك فأخرجه؛ والحمام فتعاهده في كل خمسة أيام، فإن للأبدان خبثاً فانفضه عنك؛ واعلم أنه ليس شيء أنفع في الجوف من الرائحة الطيبة، فلا تبت ليلة حتى تستعمل الطيب وتعرض نفسك على الخلاء.
ضمرة بن رجاء: الطويل

فإن أك بدلت البياض فأنكرت ... معالمه مني العيون اللوامح
فقد يستجد المرء حالاً بحالة ... وقد يستشن الجفن والنصل جارح
وما شان عرضي من فراق علمته ... ولا أثرت في الخطوب الفوادح
شاعر: الطويل
وسار تعناه المبيت فلم يدع ... له جانب الظلماء في الليل مذهبا
رأى ضوء نار من بعيد فأمها ... وقد شهبتها العين باللمح كوكبا
فقلت ارفعاها بالصعيد كفى بها ... مناراً لساري ليلة إن تأوبا
رفعت له بالقفر ناراً تشبها ... شآمية علياء أو حرجف صبا
فلما أتانا والسماء تبله ... رجعت له أهلاً وسهلاً ومرحبا
قال محمد بن عبد الملك لأبي العيناء: بلغني أنك مأبون، قال: مكذوب علي وعليك أصلحك الله.
دخل مالك بن هبيرة السكوني على معاوية فأدناه، وكان شيخاً كبيراً، فخدرت رجله فهزها، فقال له معاوية: ليت لنا يا أبا سعيد جارية لها مثل ساقيك، قال: متصلان بمثل عجيزتك، فخجل معاوية وقال: البادئ أظلم.
دب رجل إلى آخر فقال له المدبوب عليه: يا شيخ ما تصنع؟ قال: لا تسأل عما تعلم.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: حدثني رجل من أهل الأدب قال: كانت لفتى من قريش وصيفة نظيفة جميلة الوجه حسنة الأدب، وكان الفتى بها معجباً، فأضاق واحتاج إلى ثمنها، فحملها إلى العراق في زمن الحجاج وباعها، فوقعت إلى الحجاج فكانت تلي خدمته، فقدم عليه فتى من ثقيف، أحد بني أبي عقيل، فأنزله قريباً منه وألطفه، فدخل عليه يوماً والوصيفة تغمر رجل الحجاج وكان للفتى جمال وهيئة فجعلت الوصيفة تسارق الثقفي النظر، وفطن الحجاج فقال للفتى: ألك أهل؟ قال: لا، قال: فخذ بيد هذه الوصيفة فاسكن إليها واستأنس بها إلى أن أنظر لك في بنات عمك إن شاء الله، فدعا له وأخذ بيدها مسروراً وانصرف إلى رحله، فباتت معه ليلتها، وهربت مه بغلس، فأصبح لا يدريي أين هي؛ وبلغ الحجاج ذلك فأمر منادياً ينادي: برئت الذمة ممن آوى وصيفة، من صفتها وأمرها كيت وكيت، فلم تلبث أن أتي بها فقال لها: أي عدوة الله، كنت عندي من أحب الناس إلي، واخترت لك ابن عمي شاباً حسن الوجه، ورأيتك تسارقينه النظر، فدفعتك إليه وأوصيته بك، فما لبثت إلا سواد ليلتك حتى هربت، قالت: يا سيدي، اسمع قصتي ثم اصنع ما أحببت، فقال: هات، قالت: كنت لفلان القرشي، وكان بي معجباً فاحتاج إلى ثمني، وحملني إلى الكوفة، فلما صرنا قريباً منها دنا مني فوقع علي، فلم يلبث أن سمع زئير الأسد، فوثب عني إليه واخترط سيفه فحمل عليه وضربه فقتله، ثم أقبل إلي وما برد ما عنده فقضى حاجته، وكان ابن عمك هذا الذي اخترته لي لما أظلم الليل قام إلي، فإنه لعلى بطني إذ وقعت فارة من السقف عليه، فضرط ثم وقع مغشياً عليه، فمكثت ليلاً طويلاً أقلبه وأحركه وأرش على وجهه الماء ولا يفيق، فخفت أن تتهمني به فهربت. فما ملك الحجاج نفسه وقال: ويحك لا تعلمي بهذا أحداً فإنه فضيحة، قالت: يا سيدي على أن لا تردني إليه، قال: لك ذلك.
خرج أبو الحارث جمين مع عيسى بن موسى إلى الصيد فخلا به، فانحنى عيسى على قربوس سرجه فافلت منه ضرطة، فالتفت إلى أبي الحارث جمين فقال: إنك ستجعل هذه نادرة تأكل بها، وإني أعطي الله عهداً لئن بلغني أنك حدثت بهذا لأضربن عنقك، فقال جمين: سبحان الله أيها الأمير، وأنا لا أدري بمن أتعبث وحديث من أتحدث؟! فلما انصرفا قام إليهما بعض أهل الدار فقال: كم اصطدتم؟ قال: فبادر أبو الحارث فقال: لا والله ما اصطدنا شيئاً، وما كان معنا انفلت، وأشار إلى نحو بطن عيسى.
ضرط أشعب في صلاته فقيل له: ويحك، أتضرط في صلاتك؟ فقال: وما خير آست لا تضرط من خشية ربها.
وضرط الدلال في سجوده فقال: سبح لك أعلاي وأسفلي، ففتن الناس في صلاتهم.
أبو عداس النميري: الرمل
أيها اللاحي على ما قد مضى ... إن علمت الرشد فاستقبل لغد
إنما يعرف قومي خلتي ... إن هم نادوا وواراني البلد
سأذب الناس عن أعراضهم ... ذبك الناهل عن حوض الثمد
بلسان حسن تشقيقه ... وسنان مثل كلاب معد

نفس إن الحزم في عاداته ... ما تعرى من زمان محتصد
فاستبدي مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
قال أبو العيناء، قال ابن ماسويه الطبيب، قال لي أخ لعبيد الله ابن يحيى: أخبرني عن الطبائع الأربع، هي من عقاقير الجبل؟ فضحكت، فقال: لم تضحك؟ قلت: أخو وزير الخليفة لا يعرف الطبائع؟ فقال لي: أنا طبيب؟ قال أبو العيناء: وشكا بعض الكتاب في نكبته، وكان قد زور، فقال: أخذوا مالي وقلعوا أسناني، إلا أن داري لم تبرح مكاني.
قال أبو العيناء: سمعت الحسن بن سهل يقول: كان أنوشروان أربع خواتيم: فخاتم للخراج نقشه: العدل وخاتم للضياع نقشه: العمارة، وخاتم للمعونة نقشه: الأناة، وخاتم للبريد نقشه: الوحى، وما نخن من هذا في شيء.
قال أبو دلف: دخلت يوماً على الرشيد وهو في طارمة وعلى بابها شيخ جليل قد ألقيت له طنفسة خارج الطارمة، فلما سلمت قال الرشيد: كيف أرضك؟ قلت: خراب يباب، أخربها الأعراب والأكراد، فقال قائل: هذه آفة الجبل، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن صدقك فأنا سبب إصلاحه، قال: وكيف؟ قلت: أأكون سبباً لإفساده وأنت علي، ولا أكون سبب إصلاحه وأنت معي؟! قال الطالقاني كنا عند ابن منارة الكاتب وعنده ابن المرزبان، فدخل أبو العيناء فقال ابن المرزبان: أريد أن أعبث به، فنهاه ابن منارة فلم يقبل، فلما جلس قال له: يا أبا عبد الله، لم لبست جباعة؟ قال: وما الجباعة؟ قال: التي ليست بجبة ولا دراعة، فقال أبو العيناء: ولم أنت صفديم؟ قال: وما الصفديم؟ قال: الذي بين الصفعان والنديم، فوجم لذلك وضحك أهل المجلس.
بعث سهل بن هارون إلى الحسن بن سهل كتاباً عمله في مدح البخل، واستماحه فيه، فوقع الحسن: قد مدحت ما ذم الله، وحسنت ما قبح الله، وما يقوم بفساد معناك صلاح لفظك، وقد جعلنا ثوابك قبول قولك، فما نعطيك شيئاً.
اعتل بعض إخوان الحسن بن سهل، فكتب إليه الحسن: اجدني وإياك كالجسم الواحد، إذا خص عضواً منه ألم عم سائره، فعافاني الله بعافيتك، وأدام لي الإمتاع بك.
قال سعيد بن حميد: أمر يحيى كاتبين له أن يكتبا في معنى واحد، فأطال أحدهما واختصر الآخر، فقال للمختصر: ما أجد موضع زيادة، وقال للمطيل: ما أجد موضع نقصان.
قال بعضهم: عداوة يحيى خير لعدوه من صداقة غيره لصديقه.
دخل الأحنف بن قيس إلى معاوية بعدما تم له الأمر فقال له: أنت الخاذل لأمير المؤمنين ومقاتلنا بصفين؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت شبراً من غدر، لنمدن باعاً من ختر، وإنك لجدير أن تستصفي قلوبنا وكدرها بفضل حلمك، قال: أفعل.
سأل عمر بن الخطاب عمرو بن معد يكرب عن الحرب فقال: مرة المذاق، إذا شمرت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن ضعف عنها تلف.
كلم الفضل المأمون في وعد رجل تأخر: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تهب لوعدك تذكراً من نفسك، وتذيق سائليك حلاوة تعجيلك، وتجعل فعلك حاثاً لقولك، فافعل.
وقع الفضل إلى مستميح: كن بالباب يأتك الجواب.
وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون، وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات وقعد، فقال له المأمون: اصعد إلى السرير، فصعد وجلس على طرفه، فقال أحمد: يا أمير المير المؤمنين، إن يحيى صديقي وأخي، ومن أثق به في أمري كله ويثق بي، وقد تغير عما أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه فإني له على مثله، فقال المأمون: يا يحيى، إن فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذا النزاع بينكما؟ فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف وأني أثق بمثل ذلك منه، ولكنه رأى منزلتي منك هذه المنزلة فخاف أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك فتقبل مني فيه، فأحب أن يقول هذا ليأمن مني، وإنه لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره عندك بسوء، فقال المأمون: أكذلك يا أحمد؟ قال: نعم، فقال: أستعين الله عليكما، ما رأيت أتم دهاء ولا أبلغ فطنة منكما.
كان أبو فرعون الأعرابي يرقص ابنته ويقول: الرجز
بنيتي ريحانتي أشمها ... فديت بنتي وعدمت أمها
قال علي بن عبيدة: إن أخذت عفو القلوب زكا ريعك، وإن استقصيت أكديت.

لما مات الإسكندر قالت أمه: واعجبا ممن بلغت السماء حكمته، وأقطار الأرض مملكته، وذانت له الملوك عنوة، أصبح نائماً لا يستيقظ، وصامتاً لا يتلكم، ومحمولاً على يدي من كان لا يناله نصره؛ ألا من مبلغ عني الإسكندر بأن قد وعظتني فاتعظت، وعزيتني فصبرت، ولولا أني لاحقة بك ما فعلت ما فعلت، والسلام عليك حياً وميتاً، فنعم الحي كنت، ونعم الميت أنت.
قيل لأم هارون الرشيد: أتحبين الموت؟ فقالت: لا، قيل: ولم؟ قالت: لو عصيت مخلوقاً ما أحببت لقاءه فكيف وقد عصيت الله؟! قال المفجع: اتهم الرجل فهو متهم، من التهمة، وأتهم: أتى تهامة.
وقال أمعن في الأرض: أسرع، وأمعن بحقي: أتى به متبرعاً، وأذعن به: أقر به، واخترف الرجل فهو مخترف إذا اخترف من الكسب.
ويقال: ما أطيب أريجته وأرجه، والأرج: الرائحة الطيبة.
ويقال: وزعت بينهما وورعت أي حجزت.
وأنشد: الرجز
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوماً وأمري مجمع
قال: مجمع، ولم يقل مجموع، كأنه أرد مجمع عليه؛ يقولون: أجمعت على الأمر، وأزمعت عليه.
غلط المفجع في هذا، يقال: أجمعت الأمر، وهو الفصيح، قال الله تعالى: " فأجمعوا أمركم " يونس: 71، وأزمعه مسموع أيضاً.
قال المفجع: لم أره منذ زمنة يا هذا، يريد منذ زمان.
وقال: هذا مطيبة لنفسي ومخبثة لجسمي.
ويقال: تأنقت هذا المكان أي أحببته واخترته؛ قال: وسمعت أبا موسى يقول: أظن معنى قولهم تأنقت في الشيء مأخوذ من النيق، وهو أعلى الجبل، كأنه بالغ في الشيء.
قال: وسمعته يقول: الحق مطيتك مخففة، وقد تثقل.
وقال: وقعوا في مرطلة، يعني طيناً ووحلاً، وقد مرطلت الأرض عليهم.
وقال: ما قارنتهم بلادنا أي ما وافقتهم، وهذا أمر لا يقاييني ولا ينايينني، أي لا يصلح لي ولا يلائمني.
وقال: أخذه إباء شديد، معناه: كلما قيل له شيء يأباه.
وسمعت من يقول: وجرت الدواء إذا شربته.
قال: وسمعت: أخلف الله عليك وخلف أيضاً.
روى أبو عبيدة العسكري في تاريخه عن أبي وائل عن حذيفة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان يستعينه في غزاة، فبعث إليه عثمان رضي الله عنه عشرة آلاف دينار، فصبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها ويقول: غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما أخفيت وما أبديت، وما قدمت وما أخرت، ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا.
قال، وقال سعيد بن المسيب: بلغ عثمان أن قوماً على فاحشة، فأتاهم وقد تفرقوا، فحمد الله وأعتق رقبة.
أهدى الموبذ إلى المتوكل قارورة دهن وكتب: إذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير، فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن، ومن الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أنفع وأوقع، وأرجو ألا أكون قصرت بي همة صيرتني إليك، ولا أخرني زمان دلني عليك، ولا قعد بي رجاء حداني على بابك، وحسب معتمدك ظفراً بفائدة وغنيمة، ولجأ إلى موئل وسند.
قيل لمغنية: صوم يوم عرفة كفارة سنة، فصامت إلى الظهر ثم أفطرت، فقيل لها: لم فعلت؟ قالت: يكفيني كفارة ستة أشهر.
قال أبو العيناء: كان يالري مجوسي موسر فأسلم، وحضر شهر رمضان فلم يطق الصوم، فنزل إلى سرداب له وقعد يأكل، فسمع ابنه حساً من السرداب، فاطلع فيه وقال: من هذا؟ فقال الشيخ: أبوك الشقي يأكل خبز نفسه ويفزع من الناس.
قال الزبير: حدثني عمي مصعب، حدثني موسى بن صالح قال: كان عيسى بن دأب كثير الأدب عذب الألفاظ، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد، وكان يدعو له بمتكأ، ولم يكن يطمع في هذا أحد من خلق الله في مجلسه، وكان يقول له: ما استطلت بك يوماً ولا ليلة، ولا غبت عني إلا تمنيت ألا أرى غيرك، وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة كثير النادرة جيد الشعر حسن الانتزاع له.
قال علي بن عبيدة: ثقف نفسك بالآداب قبل صحبة الملوك، ولا تنظر إلى من نال الحظ بالسخف، فإن كل أحد يوزن بقدره إذا خرج مما كان فيه.

وقال البكائي عن أبيه، وكان أدرك الجاهلية: كان الربيع بن زياد العبسي نديماً للنعمان بن المنذر، وكان يسمى من شطاطه وبياضه وجماله الكامل؛ فقدم وفد من بني عامر - ثلاثون رجلاً - عليهم أبو براء عامر ابن مالك بن جعفر بن كلاب - وهو ملاعب الأسنة، خمسة منهم من بني الحريش، وثلاثة من بني عقيل من بني خفاجة، وخندف بن عون بن شداد بن المحلق ومالك بن ربيعة وهو فارس مدرك، وقتادة بن عوف، ولبيد بن ربيعة بن مالك، وهو يومئذ غلام، وأم لبيد نفيرة بنت حذيم. وكان الربيع من أكرم الناس على النعمان، فضرب النعمان قبة على أبي براء وأجرى عليه وعلى من معه، فلم يزل الربيع يتنقصه عنده حتى نزع القبة عن أبي براء وقطع النزل، وهموا بالأنصراف، فقال لهم لبيد: ما لكم تتناجون؟ قالوا: إليك عنا! قال: أخبروني لعل لكم عندي فرجاً، فأخبروه، فقال: عندي، أرجز به غداً حين يقعد الملك، فقالوا: وهل عندك ذاك؟ قال: نعم، قالوا: فقل في هذه البقلة نبلوك بها، أي نجربك، فقال: هذه البقلة الرذلة لا تستر جاراً، ولا تؤهل داراً، ولا تذكي ناراً، المقيم عليها قانع، والمغتر بها جائع، أقبح البقول مرعى، أقصرها فرعا؛ القوا بي أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه غداً من أمره في لبس. فغدوا وقد جلس النعمان وإلى جانبه الربيع، وأقبل لبيد وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً واحدة، وكذلك كانت تفعل الشعراء في الجاهلية إذا أرادت الهجاء، فمثل بين يديه ثم أنشأ يقول: الرجز
أنا لبيد ثم هذا منزعه ... يا رب هيجا هي خير من دعه
في كل يوم هامتي مقزعه ... نحن بني أم البنين الأربعه
المطعمون الجفنة المدعدعه ... والضاروبن الهام تحت الخيضعه
نحن خيار عامر بن صعصعه ... مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
إن آسته من برص ملمعه ... وإنه يدخل فيها إصبعه
يدخلها حتى يواري أشجعه ... كأنما يطلب شيئاً ضيعه
أف لهذا طامع ما أطعمه فأقامه النعمان وقال: إنك لهكذا؟ فقالك كذب أيها الملك، فطرده وقرب وفد بني عامر وأعاد على أبي براء القبة، فذلك قول لبيد: الرمل
ومعي حامية من جعفر ... حين يدعون ورهط ابن شكل
وقبيل من عقيل صادق ... وليوث بين غاب وعصل
فقال النعمان للربيع: البسيط
شرد برحلك عني حيث شئت ولا ... تكثر علي ودع عنك الأباطيلا
فقد رميت بشيء لست ناسيه ... ما جاوز النيل يوماً أهل إمليلا
قد قيل ذلك إن حق وإن كذب ... فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
كتب ابن مكرم إلى نصارني أسلم: الحمد لله الذي وفقك لعبادته، وأكرمك بهدايته، وطهر من الارتياب قلبك، ومن الافتراء عليه لبك.
ضرط كاتب عمر بن عبد العزيز بين يديه، فرمى بقلمه وقام خجلاً، فقال له عمر: لا عليك، خذ قلمك واضمم إليك جناحك، وأفرخ روعك، فما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي.
يقال سليمان بن ربيعة لعمرو بن معدي كرب: فرسك هذا مقرف، فقال: المقرف يعرف المقرف.
كان أبو جلدة اليشكري بخراسان مع شرب في بيت، فخرج ليبول فضرط، فضحكوا منه، فأخذ السيف وقام على الباب، وحلف ليضربن من لم يضرط، فضرط سائرهم إلا رجل من عبد القيس فإنه قال: يا أبا جلدة، إن عبد القيس ليسوا بأصحاب ضراط، فهل لك أن تقبل عشر فسوات بضرطة؟ فأعرض عنه أبو جلدة وقال: ألم يكن لؤماً بكم أن تضحكوا مما تفعلون.

رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها ما عليه من الدين وقلة الصبر، فوقع المأمون في ظهر رقعته: أنت رجل فيك خلتان: السخاء والحياء؛ فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فبلغ بك ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك، وإن كنا لم نصب إرادتك فتماسك على نفسك، وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له، قال الواقدي: وكنت أنسيت هذا الحديث، فكانت مذاكرته إياي أعجب إلي من صلته.
قال أسامة يوم الفتح: يا رسول الله، أين ننزل غداً إن شاء الله؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ ثم قال: لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكفار؛ قيل للزبير: فمن ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب.
قال الثوري: وسمعت أبا عبيدة يقول: من شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم.
قال أبو حاتم: سمعت أبا عبيدة يقول: إذا كان الملك محصناً لسره، بعيداً من أن يعرف ما في نفسه، متخيراً للوزراء، مهيباً في أنفس العامة، مكافئاً بحسن البلاء، لا يخافه البريء ولا يأمنه المذنب، كان خليقاً ببقاء ملكه.
شاعر: الطويل
وقد أشمت الأعداء طراً بنفسه ... وقد وجدت فيه مقالاً عواذله
ولم يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا واحد العقل كامله
قال الهدادي: لم يقل هشام شعراً إلا بيتاً، وهو: الطويل
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
قال ابن المعتز: وكل مكروه ختم بمحبوب وانتهى إلى السلامة فالهم عنه زائل، والأجر عليه حاصل.
شاعر: السريع
أفرد من أهوى لأن الهوى ... توحيده أفضل من شركه
ولو أراد الله ستر الهوى ... ما سلط الدمع على هتكه
كتب رجل إلى أخ له يعذله على غلبة الهوى عليه فقال: من لم يكن في طبعه الاقتدار على نفسه بحسن سياستها، والانتصاف من هواها، منعه الحزم قيادة، وجاذبه الفهم خطامه، وحرمه الدهر حسن الذكر.
فأجابه المعذول: ليس كل من شاء انتصف من هواه، وقهر غضبه رضاه.
للهيثم بن خالد: المنسرح
ولي صديق ما مسني عدم ... مذ وقعت عينه على عدمي
بشرني بالغنى تهلله ... وقبل هذا تهلل الخدم
ومحنة الزائرين بينة ... تعرف قبل اللقاء في الحشم
وجد على ظهر كتاب من كتب ذي الرياستين بخطه: نسخته في الشهر الذي حين ننتقل إليه تكون النكبة التي نسأل الله دفعها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأتوكل على الله، والأغلب علي إن صح من حساب الفلك شيء أن الأمر واقع، فنسأل الله أن يثبت قوانا حتى ننتقل إلى داره التي وعدها الله أولياءه على خير سبيل.
لأبي البيداء الرياحي: الطويل
إذا ما أبو البيداء رمت عظامه ... وسرك أن يحيا فهات نبيذا
نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تقطر أو خر الذباب وقيذا
قال الأصمعي: مررت بكناس في بعض الطريق وهو ينشد الطويل
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت: عن أي شيء أكرمتها وهذه الجرة على رقبتك؟ فقال: عن الوقوف على باب مثلك.
قال جعفر بن محمد: غسل علي بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا اجتمع الماء في جفون عينيه حساه علي.
قال علي عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لإزالة الجبال أيسر من ملك مؤجل.
قال عبد الملك بن الحر: لما أدخل سعيد بن جبير على الحجاج قال: أنت الشقي بن كسير؟ قال: لا ولكني سعيد بن جبير، فقال الحجاج: اختر أي قتلة فإني قاتلك، فقال له: بل اختر أنت فهو قصاص.
قال جعفر بن بكر بن صاعد: سمعت شريكاً يقول رأيت أبا حنيفة يطوف على الحلق كأن لحيته لحية تيس.

قال عبد الملك بن عمير، قال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحداً أرأف برعيته ولا خيراً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ ولا رأيت أحداً أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله ولا أقوم بحدود الله ولا أهيب في صدور الرجال من عمر بن الخطاب؛ ولا رأيت أحداً أشد استحياء من عثمان بن عفان؛ ولا رأيت أحداً أشجع قلباً ولا أوسع علماً من علي بن أبي طالب؛ ولا رأيت أحداً أعطى للمال عن ظهر يد من غير سلطان أصابه من طلحة بن عبيد الله؛ ولا رأيت أحداً أحلم من معاوية؛ ولا رأيت أنصع ظرفاً ولا أسرع جواباً من عمرو بن العاص؛ ولا رأيت أحداً المعرفة عنده أنفع إلا المغيرة بن شعبة؛ ولا رأيت أحداً أحلم طبعاً ولا أخصب رفيقاً ولا أشبه سرا بعلانية من زياد بن أبيه.
قال حفص بن عتاب: سمعت الأعمش يقول قد رددتموها علي حتى صارت في فمي أمر من العلقم، ما أطفتم بأحد إلا حملتموه على الكذب.
كان ابن سيرين يحدث بالحديث فيقال: من حدثك؟ قال: قوم استكتموني أسماءهم ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فأنا أرى أن أكتم أسماءهم.
قال ابن شبرمة: كان طلحة يشبه بعضه بعضاً.
قال الشعبي: لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة حملوا الواحدة.
قال وكيع: جئنا مرة إلى الأعمش، فحين سمع حساً قام ودخل، فلم يلبث أن خرج فقال: رأيتكم فأبغضتكم فدخلت إلى من هي أبغض منكم فخرجت إليكم.
قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين البطيخ والرطب.
يقال: يطبخ - بكسر الباء - وطبيخ؛ هكذا قال يعقوب.
قال مسعر: من أبغضني، فجعله الله محدثاً.
قال نافع: كان ابن عمر تأتيه الجوائز في كل عام من معاوية وابن عامر وأرزاق ما بين سبعة وسبعين ألفاً وثلاثة وثمانين ألفاً، ما يحول عليه الحول وعنده منها درهم.
وقع رجل في رجل في مجلس عطاء، فجاء ذلك الرجل إلى عطاء فقال: اشهد لي بما سمعت، فقال عطاء: ليس لك عندي شهادة، وإنما كانت أمانة.
قال الشعبي، قال عدي بن حاتم: لو قتل عثمان ما حبقت فيه عناق، فلما كان يوم الجمل فقئت عين عدي، وقتل ابنه طريف يوم الزبير، وهرب ابن له إلى معاوية، فقيل له: يا أبا طريف، هل حبقت في عثمان عناق؟ قال: أي والذي في السماء بيته، والتيس الأكبر.
قال الشعبي: كنية الدجال أبو يوسف؛ ولا أدري من أين له هذا.
قيل للمغيرة: إن آذنك يحابي، فقال: المعرفة تنفع عند الكلب العقور، والجمل الصؤول، فكيف بالرجل المسلم.
قال أبو السائب الهمذاني: سمعت أبا نعيم يقدم إدريس الخزاز إلى شريك عنده بشهادة فقال: أنت الذي تزعم أن الصلاة ليست من الإيمان؟ سمعت أبا حنيفة المتكلم يقول في مجلس: المرجئ إنما أخذ من الرجاء. ومر على الخطأ، وليس كما وهم، أي ذهب وهمه إليه، المرجئ مهموز، وتليين الهمزة جائز، وحذفها لغة، وقد قرئ " أرجه وأخاه " الأعراف: 111، ومعنى الكلمة التأخير. إن المرجئ مؤخر الكلام في عفو الله عن صاحب الكبيرة، والمعتزلي يقطع بتخليده في النار، وليس دخول الرجاء في المعنى على الاتساع بما نشتق الكلام منه في الإرجاء؛ الراجي غير المرجئ، والله تعالى يقول: " وآخرون مرجون لأمر الله " التوبة: 106 ومرجوون أيضاً، لا اختلاف في المعنى بين اللفظتين. المتكلم محتاج إلى معرفة الأسماء والصفات، ليكون كلامه عل أصل ممهود، وأساس موتود.
وقال ثعلب: تقول العرب في أيمانها: لا وقائت نفسي القصير، لا ومعيشتي يريد؛ والقائت من قولك: قات يقوت قوتاً، والقوت: ما يقتات به، والمقيت كالحافظ، هكذا قيل في قوله: " وان الله عل كل شيء مقيتاً " النساء: 85.
وقال ثعلب: تقول العرب: لا والذي خلق الرجال للخيل، وشق الجبال للسيل؛ لا والذي شقهن خمساً من واحدة، زعم أنه يراد بهذه اليمين أن الكف شقت منها الأصابع.
قال: وقال أيضاً: لا والذي وجهي أمم بيته، أي مقابل بيته، قال: ويقال: مرتهن على أمم من طريقتك.
قال ثعلب: وتدعو العرب على الإنسان فيقال: ماله آم وعام، وقد تفسير هذا، وأعيده أيضاً، أما آم: صار أيماً، والأيمة صفة تعتور الذكر والأنثى، وأما عام فمعناه صار مشتهياً للبن، كأنه دعا عليه أن يفتقر ولا يكون له لبن.
ويقال: ما له حرب وحرب، وجرب وذرب، وما له شل عشره، يراد الأصابع، وما له يدي من يده، وأبرد الله محه أي هزله، وأبرد الله غبوقه، أي لا كان له لبن حتى يشرب الماء.

قال ثعلب: ويقولون: قل خيسه، أي خيره، بالخاء منقوطة من فوق.
قالت الفلاسفة: فضائل النفس أربع وفضائل الجسد أربع: للنفس الحكمة، وللجسد بإزائها التمام والكمال؛ وللنفس العدل، وللجسد الحسن والجمال؛ وللنفس الشجاعة، وللجسد القوة؛ وللنفس العفة، وللجسد الصحة.
هذا كلام شريف واعتبار صادق، فكن جامعاً بين فضائل نفسك ومحاسن جسدك بالرغبة التامة في العلم، والنية الصادقة في العمل، والفكر الصحيح في الاستنباط، والعهد المحفوظ في العشرة، والخير المعمول في الخلوة، ولا تمكن الهوى من نفسك، واتهم كل من حسنه عندك فقربه إلى قلبك، وأروح روحك من حبس جسدك بكد جسدك.
قال أفلاطون: إذا أكثرتم جمع النساء في منازلكم انقسمت عقولكم، وإذا انقسمت عقولكم لم تقدروا أن تكونوا حكماء.
وكان أفلاطون إذا أراد تعليم تلامذته يمشي معهم إكباراً للحكمة.
يقال: ما الفقر، والأفر، والوفر، والزفر، والسفر، والضفر، والشفر، والعفر، والغفر، والكفر، والنقر، والذفر.
فأما القفر: فالمكان الخالي الذي لا نبات فيه، ومنه يقال: أكل خبزة قفاراً، إذا أكله بحتاً لا أدم معه. والأدم جمع، والإدام واحد، كقولك: كتاب وكتب. هكذا سمعت ممن يوثق به.
وأما الأفر فالعدو، يقال: أفر يأفر.
وأما الوفر فالمال، يقال: فلان ذو وفر أي ذو مال، ويقال: فر عرض فلان أي لا تدنسه، ووفرت عرضه - بخفة الفاء؛ وأما وفرت - بتشديد الفاء - ففي غير العرض، ومنه التوفير والاستيفار من الوفارة والوفور. والوفرة: شعر كالجمة.
وأما الزفر والزفير والزفر أيضاً: شد الشيء على إحكام.
وأما السفر فالمسافرون.
وأما الضفر فالفتل، يقال: ضفرت المرأة شعرها ولها ضفيرتان، والظاء فيه خطأ، والكتاب يقولون: نحن نتضافر على هذا الأمر، وهو صحيح، لأن المراد نتقابل أي نتفادى ونتعاضد. فأما الظاء فإن المعنى يستحيل لأنه يصير من الظفر، فكأنه يكون: هذا ظافر بهذا، وهذا ظافر بهذا، وليس الغرض ذلك.
وأما الشفر فإنه يقال: ما بالدار شفر أي أحد.
وأما العفر فالتراب، والعفر: البعد، يقال: لقيته على عفر أي على بعد.
وأما الغفر: فمصدر قولك: غفر الله لك غفراً، والغفر: زئير الخز - بكسر الزاي - وهو الصحيح، والغفر أيضاً هو الغطاء، والأصل التغطية، فإذا قلت: غفر الله لك، فكأنك قلت: ستر الله عليك ذنوبك، وكذلك الزئير، يقال: اصبغ الثوب فإنه أغفر للوسخ؛ كذا قال يعقوب.
وأما الكفر فالقرية، ومنه الخبر: يخرجكم الروم منها كفراً كفراً.
وأما النفر فمصدر نفر الناس إلى مكة في المنسك.
وأما الذفر فالنتن، ومنه: يا ذفار للأمة، مبنية، وهي خفيفة، يراد بها المنتنة.
قال بعض مشايخ البصرة: أتيت أبا عبد الله بن عرفة أيام حداثني وغرارتي لأثمر نفسي من فضله، وأحلي جوهري بأدبه، فلحظني متوهماً للنجابة، حاكماً علي بحسن الاستجابة، وقال لي: يا بني هل لك حاد مستحث على طلب العلم؟ فقلت: نعم، فقال: قل نعم، فإن النعم الإبل والبقر، وأراد نشري وبسطي بهذا الرد، قال: أي أقوى في نفسك أن تعلم الحلال والحرام، أو أن تتعمق في الكلام، أو أن تواصل هذا الأدب والبيان؟ فقلت: بل مواصلة الأدب، فقال: ما اختال سحابك ولا خلب برقك، فقال: أما إنك إذ أبيت إلا ذلك لما تجد في طباعك من النزاع إليه، والاشتمال عليه، فخذ من الشعر القديم أفصحه، ومن الخبر المأثور أملحه، واستغن بجليل النحو عن دقيقه، وليكن علمك اللغة، واحرص أن تعلم، ولا تحرص أن ترسم، واكتف بأدنى علمك، ولا تترأس على من دونك، بل إن كان معه شيء فأره أنك دونه حتى تأخذه منه، فإن من استعجل الرياسة قبل حينها ذل.
قال أبو حاتم، قال أبو عبيدة: لا تردن على أحد خطأ في حفل فإنه يستفيد منك ويتخذك عدواً.

هذا آخر الجزء السادس وهو مقطع الكتاب، وقد غرست فيه وصايا شريفة، وحكماً عزيزة، وآداباً غريبة، وأصولاً قوية، وفروعاً بديعة، متى ذللت بروايتها لسانك، وشحذت بحفظها طباعك، وراسلت بمحاسنها سجراءك، وثقفت بأحسنها نفسك، وحبرت بعيونها آدابك، كنت مخصوصاً بالسعادة، معاناً بالتوفيق، متفقاً عليه في الفضل، مشاراً إليه بالنبل، مدركاً نهاية الأصل، مجتنياً ثمرة العمر، رفيعاً عند السلطان، بهياً بين الإخوان، مخيباً عند الخصوم. والذي لا أمل تكراره عليك وإعادته عليك: الزهد في هذه الدار المؤوفة، والحذر من العاقبة المخوفة، والبدار إلى ما أراح الروح من كد الجسم، وأودع النفس روح الخلد، فنيل كل شيء عداه جلل، وطلب كل ما سواه خلل. قرن الله تعالى الهداة بنا وبك، وأفرغ التوفيق علينا وعليك، ورضي عنا وعنك، وجملنا وإياك بالتقوى، وختم لنا ولك بأحمد العقبى.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصواته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وسلامه.
//بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعن
الجزء السابعهذا أبقاك الله هو الجزء السابع من بصائر الحكماء وذخائر الأدباء، وهو يطلع عليك بوجهٍ مشوف، وطراز مكشوف، ينفح من أردانه الطّيب، وينطق عن نفسه بألفاظٍ كأنها حواشي برد، أو مقاطف ورد، فقد اختصر فقراً بديعةً، ولمعاً ثاقبةً، وآداباً جمّةً، وحكماً نافعة، لم أقنع لك بتدوينها دون تبيينها، ولا بطرحها دون شرحها، ولا بتزويرها دون تقريرها، ولا بتنميقها دون تحقيقها، تلقّفتها من لسان الدهر، والتقطتها من اختلاف الليل والنهار، وأخذتها من الصّغار والكبار، ومن يهب الله له عيناً وموقاً، وقلباً علوقاً، ولساناً نطوقاً، سمع ووعى، وقال ورعى، نسأل الله من فضله، إنه ذو الفضل والمجد.
وكان بعض أهل الشّرف والأدب نظر فيما ارتفع من هذا الكتاب فقال لي: لقد شقيت في جمعه، قلت: لو قلت: لقد سعدت في جمعه لكان أحلى في عيني، وألوط بقلبي، وأولج في منافس روحي. قال: إنك جمعت بين الفضل والهزل، وبين العلم والجهل، ومن شمّر في كتاب تشميرك. وكدّ فيه كدّك، نفى المنفيّ واختار المختار، فالعطن يضيق عن تمام العزم في مطالعة الكلمة السخيفة واللفظة الشريفة، ومن مزج هذه بهذه كمن مزج الشراب الصافي بالكدر، وبما يكدّره ويعنّي شاربه ويمنع من تورّده والارتواء به. فقلت له معتذراً بلسانٍ ذي كلول، وحدٍّ ذي فلول: أيها السيد الجحجاح والفاضل المنّاح، لو تمكنت من هذا الرأي لما صددت عنه ولا آثرت عليه؛ لكنّي لمّا اقتبست ذلك من تصفّح العالم واستريته من مسألة العالم. أخذته على ما عنّ وجرى. وهذا أيّدك الله كلام رجلٍ لم يذق حلاوة البيان، ولا ظفر بعزّ الحجة، ولا فرّق بين ما يعانيه من جهة الهزل، وبين ما يكلّفه من جهة الجدّ، وال علم أن هذا الظّرف لذلك المتاع، وهذا التبسّم لذلك الوجوم، وهذا النّطف لتلك الدماثة، وهذه الهيبة لذلك الانبساط، وهذه الرياضة لتلك العافية، ومن كان معجوناً من أخلاط، ومركّباً على اختلاف، وأسيراً للعوارض، فلا بدّ في كلّ حركةٍ وسكون، وقولٍ وعمل، ونقص وكمال، وفضيلةٍ ورذيلة، من محبوبٍ يناله، ومكروهٍ ينال منه.
نرجع إلى سمرنا فقد تباعدنا منه: اعلم أني قد ختمت هذا الجزء بجملةٍ من كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، سوى ما سار في جريدة الكتاب، إذا بلغت إليها، وأشرفت عليها، علمت أنّي منحوس الحظّ من زماني، محسودٌ بين أصفيائي وإخواني، لأني لا ألقى آخذاً بفضلي، ساتراً لنقصي، ومتى بتّ القضاء على العالم بادعاء ما لا يحسنه، وجزم عليه الحكم بالعجز عما لا يقوم به، فقد سقطت بيّنته فيما يحسن، وبارت بضاعته فيما يتصرّف، وإنما الإنصاف إذا فقد الإسعاف، وأن يكون الثناء على قدر البلاء، والتقريع على قدر التضجيع. لا تكذب، فما السعيد إلا من نظر الله تعالى إليه، ونقله سعيداً إلى ما لديه.

اللهمّ لا تحرمنا السلامة إن منعتنا الغنيمة، ولا تحوجنا إلى منازلة خلقك في إبطال باطلٍ وتحقيق حقّ، وتولّنا بالكفاية، واحرسنا بالعصمة، واغمرنا بالرحمة. اللهمّ أنت مناط الهمّة، ومنتهى البال، وصفاء النفس، وخلصان الرّوع، ووليّ النعمة في الأولى والآخرة. نعوذ بك من أملٍ نزداد به إثماً، ومن استدراجٍ نكتسب به ظلماً، ومن طاعةٍ يشوبها رياء، ونعوذ بك من كل ما أبعد عنك، وأيأس منك.
تأهّب أيها الرجل لأمرين جسيمين، لا أمان لك إلا بهما، ولا نجاة لك إلا معهما: لعلمٍ يهديك إلى الله، وعملٍ ينجيك من الله، فبالعلم تقصد وبالأعمال تصل، وبالعلم تعرف وبالعمل تجزى، ولا تستغن بقول من قال: عليك بجمع المال فما المرء إلا بدرهمه، فالمال عرض والعلم جوهر، والجوهر ما قام بنفسه والعرض ما ثبت بغيره، والعلم من قبيل العقل والمال من قبيل الجسم، والجسم فانٍ وتابعه معدوم، والعقل باقٍ وصاحبه موجود، وشهادة المال زورٌ وشهادة العلم حقيقة، وبيّنة كاذبة المال وبيّنة العلم صادقة؛ والعلم يحتاج إلى المال ولكن للزينة، والمال يحتاج إلى العلم ولكن للتمام، فكم حاجتك إلى ما يزينك بعد كمالك؟ اعلم أن الأقطع يحتاج إلى كمٍّ لقميصه لا ليتمّ ولكن للزينة. ولا تطلب العلم إلا بعد أن تعشق الحقّ عشقاً، وتموت على الحجّة موتاً، وتنفر من الباطل نفوراً، وتمقت الشّبهة مقتاً، فعند ذلك ترى منالك منه، وراحتك به أتمّ من تعبك عليه؛ وحينئذٍ ترى العمل زاداً، والإخلاص عتاداً. وأسّ هذه الفضائل وقاعدة هذه المحاسن الزّراية على نفسك، والتودّد إلى بني جنسك، والإقبال على يومك دون الأسف على أمسك، وقطع حبائل الدنيا عن قلبك، والتوجّه في السرّ والجهر إلى ربّك، وبعض هذا كافٍ لمن سبقت له من الله الحسنى، وأمّل حسن العقبى. ففرّوا إلى الله تعالى جميعاً ودعوا مزابل الدنيا لكلابها المتناهسة، فإنّ الدنيا تنكل طالبها، وتغصّ شاربها، وتذبح عاشقها والغالي في حبّها.
أنا سمعت بدوياً من ناحية فيدٍ حين قتل الوزير ابن برمويه يقول لصاحبٍ له: أعندك الخبر؟ قال: لا والله؛ قال: إنّ هذا الوزير الشّرير قد ذبح، قال: ما تقول؟ قال: هو ما أقول لك، ثم أطرق هنيهةً وقال: والله ما علا حتى ساخ، ولا غلا حتى باخ؛ نعوذ بالله من سوء العاقبة وشماتة ابن العم، وعثار الإنسان لليدين والفم؛ والله من قتل قتل، ومن أكل أكل.
أرى أن أجعل فاتحة هذا الجزء فقراً من كلام رسول الله صلّى الله عليه وأله وصحبه وسلّم، وهو الكلام الذي يتلو كتاب الله بهاءً وحسناً، ومنفعةً وخيراً، وحكمةً وبلاغةً، وهو الكلام الذي إن فاته من القرآن عينه فلم يفته أثره، وإن بعد عنه في آيته لم يبعد في دلالته، وهو الكلام الذي فيه: نور الحقّ يلوح عليه، وسناء الهدى يقتبس منه.
قال صلّى الله عليه وآله: " أشرف الحديث كتاب الله؛ وأوثق العرى تقوى الله؛ وخير الملل ملّة إبراهيم عليه السلام؛ وأحسن السّنن سنّة محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وأشرف الحديث ذكر الله تعالى؛ وأحسن القصص هذا الكتاب؛ وخير الأمور عواقبها؛ وشرّ الأمور محدثاتها؛ وأحسن الهدي هدي الأنبياء؛ وأشرف القتل قتل الشهداء؛ وأعظم الضّلالة ضلالةٌ بغير هدّى؛ وخير الهدى ما اتّبع؛ وشرّ العمى عمى القلب؛ واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى؛ وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى؛ ونفسٌ تحييها خيرٌ من إمارةٍ لا تحصيها؛ وشرّ الندامة ندامة يوم القيامة؛ وشرّ الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبراً، ولا يذكر الله إلا سحراً؛ وخير الغنى غنى النفس؛ ورأس الحكمة مخافة الله؛ والنّوح من عمل الجاهلية؛ والغلول من حرّ جهنم، والشعر مزامير إبليس؛ والخمر جوامع الإثم؛ والنساء حبائل الشيطان؛ والشباب شعبةٌ من الجنون؛ وشر المكاسب الرّبا؛ وشر المآكل أكل مال اليتيم؛ والسّعيد من وعظ بغيره؛ والشقيّ من شقي في بطن أمّه؛ وشرّ الرّوايا روايا الكذب؛ وكلّ ما هو آتٍ قريب؛ وسباب المؤمن فسوقٌ وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه " ؛ هكذا وجدت هذا الحديث نفعنا الله وإياك به.

قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: الدنيا وإن طالت قصيرة، والماضي للمقيم عبرة، والميت للحيّ عظة، وليس لأمسٍ مضى عودة، ولا المرء من غده على ثقة، وكلٌّ بكلًّ لاحق، واليوم الهائل لكلٍّ آزف، وهو اليوم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون " إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ " . اصبروا على عملٍ لا غنى بكم عن ثوابه، وارجعوا عن عملٍ لا صبر لكم على عقابه؛ إن الصبر على طاعة الله تعالى أهون من الصبر على عذابه. اعلموا أنكم في نفسٍ معدود، وأملٍ ممدود، وأجلٍ محدود، ولا بدّ للأجل من أن يتناهى، وللنّفس أن يحصى، وللسّبب أن يطوى " وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين " .
انظر إلى انتثار اللؤلؤ في هذا الفصل، فإنك ترى ما يعجب: صدقاً في المعنى وترتيباً في اللفظ، وكلّ كلامه حلوٌ بليغٌ جزل شريف، يأخذ من البراعة أبهى شعارها، ويرتقي إلى أشرف درجاتها، إلا ما يلفّقه المبطلون فتنسبه إليه، فإنك تجد في ذلك أثر التكلّف، ولو حفظ عليه ما له من المحاسن لاستغني عن افتعال الباطل ودعوى الزّور.
وسمعت أبا العباس القنّاد الصّوفي يقول: سمعت بدوياً ورد من المنتهب يقول لابنه: يا بني كن سبعاً خالساً أو ذئباً خانساً أو كلباً حارساً وإياك أن تكون إنساناً ناقصاً.
قال بعض السّلف: يسخّي بنفس العاقل عن الحظوة في البلاغة ما يخاف عيب المنطق، فإذا اضطرّه الأمر إلى ما لم يجد معه بدّاً من المنطق، اقتصر على الجملة دون التفسير.
قال فيلسوف: من مدحك بما ليس فيك فلا تأمن بهته لك، ومن أظهر شكر ما لم تأت إليه فاحذر من أن يكفر نعمتك.
ارتع في رياض هذه الآداب والحكم؛ وإذا فقدت العقول قوتها من الحكمة ماتت موت الأجساد عند فقد الطّعام.
قال الفيلسوف: ارتفاع موضع العقل على سائر الحسّيّات التي هو المدبّر لها كارتفاع العينين على سائر الأعضاء.
قال فيلسوف: ليس متعمّد الذّنب كالمخطئ، ولا المكره عليه كالطائع، ولا المحتاج إليه كالغنيّ، ولا المعطي من قلّةٍ كالمعطي من سعة، ولا الجائر محكّماً كالجائر غير محكّم، ولا الخائن مؤتمناً كالمقتطع من غير أمانة، ولا الحالف على الكذب مصبوراً أو الشاهد بالباطل منصوصاً كمن لا ينص الشهادة ولا يصبر اليمين.
كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام إذا نطر الهلال قال: اللهمّ اجعلنا أهدى من نظر إليه وأذكر من طلع عليه.
قال فيلسوف: ليس ينبغي أن يمنع من معاشقة النّفس النّفس ولكن من معاشقة البدن البدن.
وقال الحسن: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال: لا تصلّها رياءً ولا تدعها حياءً.
هذه إشارةٌ مليحة، لكن الشائع من تأويله غيره.
قال عبد الحميد الكاتب: تعلّمت البلاغة من مروان بن محمد: أمرني أن أكتب في حاجةٍ إلى أخٍ له فكتبت على قدر الوسع، فقال لي: اكتب ما أقول لك: بسم الله الرحمن الرحيم، أما آن للحرمة أن ترعى، وللدّين أن يقضى، وللموافقة أن تتوخّى؟.
قال بقراط: الجسد كلّه يعالج على خمسة أضرب: ما في الرأس بالغرغرة، وما في المعدة بالقيء، وما في أسفل المعدة بالإسهال، وما بين الجلدين بالعرق، وما في العمق وداخل العروق بإرسال الدم.
قال رجلٌ من آل زياد لعارمٍ البصري: يا ابن الزانية! قال: تعيّرني ما ساد به أبوك؟ قال الزّيادي: يا غلام، خذ برجله، فقال: أي غلمانك؟الذي يخلفك في أهلك، أم الذي يأتيك من خلفك؟! سمعت من يقول في قوله تعالى " وإن منكم إلا واردها " هو مثل قوله " حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيّبةٍ " .
أخذ عمر بن الخطّاب في التوجّه إلى الشّام، فقال له رجلٌ: أتدع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم؟ فقال: أدع مسجد رسول الله لصلاح أمّة رسول الله، ولقد هممت أن أضرب رأسك بالدّرّة حتّى لا تجعل الرّدّ على الأئمّة عادةً فيتّخذها الأخلاف سنّة.
وقال ابن الأشتر العلويّ الكوفي: سمعت الكندي يقول المسترسل موقّى، والمحترس ملقّى.
قال سعيد بن العاص: لا تكلّف راجيك خدمة المطالبة.
قال أعرابيّ: إنّ الله تعالى يمتحن بالمنّة عليك المنّة منك.
كتب رجل إلى آخر: أما بعد، فإن استطعت أن لا تكون لغير الله عبداً، وأنت لا تجد من العبودية بدّاً، فافعل.
دعا أعرابيٌّ فقال: اللهمّ إنّي أعوذ بك من نزول الشرّ وسوء الفهم.

قال ابن أبي حفصة الشاعر للحسن بن شهريار: بلغني أنّك يا أبا علي تنيك غلامك هذا الليل؛ فقال الحسن: وأنا بلغني أنه ينيكك بالنّهار. إنما حمد الصّمت عند هذه المواضع، والجواب منصور.
قيل للرّضا عليه السلام: إن إبراهيم يحلف أنّ أباه موسى حيٌّ؛ قال: أيموت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم ولا يموت موسى؟ ثم قال: العجب أن الله يكرم بهذا الدّين العجم أولاد الدّهاقين ويصرفه عن قرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
عزّي السائب بن الأقرع عن ابنٍ له فقال: هكذا الدنيا: تصبح لك مسرّةً وتمسي مساءة.
قال صالح المرّي: أتيت أبا عمران الحربي، فقرّب إليّ الفالوذج، فقلت: يا أبا عمران، أما تخشى أن يكون هذا من الطّيّبات؟ فقال: يا صالح، الماء البارد أطيب منه.
قال الرّضا عليه السّلام لغلامه: اشتر لنا من اللحم المقاديم ولا تشتر من المآخير، فإن المقاديم أقرب من المرعى وأبعد من الأذى.
قال معاوية: من ولّيناه شيئاً من أمورنا فليجعل الرفق بين الأمانة والعدل.
لسع زنبورٌ عروساً في ليلة زفافها في فرجها، فقالت الماشطة: من، ولمن، وفي أيّ مكان، وأيّ ليلة! قال الجمّاز: قلت لرجلٍ رمد العين: بأيّ شيءٍ تداوي عينك؟ قال: بالقرآن ودعاء الوالدة؛ قلت: اجعل معهما شيئاً يقال له العنزروت! قال فيلسوف: ليس في الناس أحدٌ إلا وفيه شبهٌ من شجرةٍ أو دابةٍ، فمنهم الغشوم كالأسد، والخاطف كالذّئب، والخبّ كالثعلب، ومنهم حسن المنظر غير محمود المخبر كشجرة الدّفلى، ومنهم المحمود الظاهر الرّديء الباطن كالثّمرة المرّة؛ ومنهم الرديء الظاهر المحمود الباطن كالجوزة، ومنهم المحبّب إلى كلّ أحدٍ كالأترجّة الجامعة مع الحسن طيب الطّعم والرّيح واللّون.
قال بعض السّلف: الحزن مدهشةٌ للعقل مقطعةٌ للحيلة؛ إذا ورد على العاقل من المكاره ما يحتاج معه إلى الحيلة، قمع الحزن بالحزم.
قال فيلسوف: لا يعدّ الملك الكذوب ملكاً، والناسك الخادع مليكاً، والأخ الخاذل أخاً، ومصطنع الكفور منعماً.
قال فيلسوف: بعد الجاهل من أن يلتحم به الأدب كبعد النار من أن تشتعل في الماء.
قال فيلسوف: إذا كان العالم غير معلّمٍ قلّ غناء فعله وعلمه، كما يقل غناء المكثر البخيل.
قيل لأعرابي: مذ هنت دقّت محاسنك؛ قال: أي والله، ومساوئي.
قال فيلسوف: العقل صنفان: أحدهما مطبوعٌ والآخر مسموع؛ فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذر والماء، فلا يخلص للعقل المطبوع عملٌ ولا يكون له غناءٌ دون أن يرد عليه العقل المسموع فينّبهه من نومه، ويطلقه من عقاله، ويستخرجه من مكامنه، كما يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض.
قال أعرابيّ: يكتفي اللّبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل؛ إذا دخلت الموعظة أذن الجاهل مرقت من الأخرى.
قال أعرابيّ: سيرة الصالح زينةٌ لعقبه، وحياة الفاجر فضيحة الدهر.
قال بعض الفرس: كما أن من السّحاب ما ينقشع عن غير مطر، فكذلك وعد الكذوب من غير وفاء؛ وكما أنّ الإكثار نم الأكل غير رفقٍ من الآكل، فكذلك الإكثار من النطق غير رفقٍ من المتكلّم، وكما أن الحمار البليد لا يخفّ راكبه إلا بالعصا، فكذلك الجاهل لا يقبل الأدب إلا من حذر الضّرب.
قال فيلسوف: يمنع الجاهل أن يجد ألم الحمق المستقّر في قلبه ما يمنع السّكران من ألم الشّوكة تدخل في يده.
قال ابن المبارك: عند تصحيح الضّمائر يغفر الله الكبائر.
أراد الرّشيد الخروج إلى القاطول، فقال يحيى بن خالد لرجاء بن عبد العزيز وكان على نفقاته: ما عند وكلائنا من المال؟ فقال: سبعمائة ألف درهم؛ قال: فتسلّمتها يا رجاء. فلما كان من الغد، غدا إليه رجاءٌ فقبّل يده، وعنده منصور بن زياد، فلما خرج قال يحيى بن خالد لمنصور: قد توهّم الرجل أنّا قد وهبنا له المال، وإنّما أمرناه بتحصيله عنده لحاجتنا إليه، فقال منصور: أنا أعلمه ذلك؛ قال: إذاً يقول لك: قل له يقبّل يدي كما قبّلت يده فلا تقل له شيئاً، وقد تركت المال له.
لعبد الله بن الحسن: الطويل
تخوّفني بالقتل يوماً وإنّني ... أموت إذا جاء الكتاب المنزّل
إذا كنت ذا سيفٍ ورمحٍ مصمّمٍ ... على سابحٍ أدناك ممّا تؤمّل

فإنّك إن لم تركب الهول لم تنل ... من المال ما يكفي الصّديق ويفضل
قيل لابن الجهم بعدما أخذ جميع ماله: أما تفكّر في زوال نعمتك؟ لا بدّ من الزّوال، فزوال نعمتي وأبقى خيرٌ من زوالي وتبقى.
مرّ بعض الأنبياء عليهم السّلام برجلٍ قد نبذه أهله من شدّة البلاء، فقال: يا ربّ، لو عافيت عبدك! فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي: أتحبّ أن أنقله إلى غير حاله؟ فأتاه فسأله فقال: أتحبّ أن ينقلك الله عمّا بك من البلاء؟ فقال: من تمنّى على الله عزّ وجلّ أبى ذلك منه.
شاعر: مجزوء الرمل
سامح الدّهر إذا ع ... زّ وخذ عفو الزّمان
ربّما أعدم ذو الحر ... ص وأثرى ذو التواني
فصل لي: وأنا أعوذ بالله من انتحال الشّره مع إضمار الحرص، وإظهار مقت المنافقين مع استشعار الغشّ، والانتساب إلى الكرم والجرية مع الأفعال الدنيّة والأخلاق الرديّة؛ وأعوذ بالله من انتحال المحاسبة مع إهمال النّفس، وادّعاء التحصيل مع إطلاق اللّسان، وشدة الرهف مع كلال الحسّ، والتشبّث بسلامة الصدر مع لؤم الطّبع.
يقال: ظهر فلان بحاجتي، أي نسيها، وأظهرنا بكذا، أي انتهينا إليه في الظّهيرة؛ وإبل فلانٍ ترد ظاهرةً إذا وردت كلّ يومٍ نصف النهار، واسم هذا الظمء: الظاهرة؛ وظاهر فلانٌ فلاناً إذا مالأه وصار معه.
أتي معن بن زائدة بثلاثمائة أسيرٍ من حضرموت، فأمر بضرب أعناقهم، فقام منهم غلامٌ حين سال عذاره فقال: أنشدك الله تقتلنا ونحن عطاشٌ، فقال اسقوهم؛ فلما سقوا قال: اضربوا أعناقهم، فقال الغلام: أنشدك الله أن تقتل ضيفانك، قال: أحسنت، وأمر بإطلاقهم.
قال أعرابي في وصف رجل: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا شئل سوّف، وإذا حدّث حلف، وإذا حلف أخلف، وإذا صلّى اعترض، وإذا ركع ربض، تنظر نظر الحقود، وتعترض اعتراض الحسود.
نظر رجل لحياني إلى صبيٍّ ومعه سكّين فقال: أفزعه وآخذ السكّين، ففزّعه بلحيته، فقال الصبي: لا بأس عليك، ليس أذبحك! أصيب رجلٌ في سجن الحجّاج قد حبس عشرين سنةً، فنظر في قصّته، فإذا هو قد بال في رحبة واسط، فقال المنتوف: والله لو أحدث في الكعبة ما استحقّ أكثر من هذا! ضرط رجلٌ بحضرة امرأته فقالت: أما تستحي؟ فقال: إنما أردت أونسك.
في أمثال العرب: قيل لجملٍ: أيما أحبّ إليك: تصعد أو تنزل؟ فقال: ذهب الاستواء من الأرض؟! قال الأحنف: ربّ بعيدٍ لا يفقد خيره، وقريبٍ لا يؤمن شرّه.
يقال: شرّ مالك ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت لذة إنفاقه.
يقال: يجد البليغ من ألم السّكوت ما يجد العييّ من ألم الكلام.
قال عبد الله بن ثعلبة: أمسك مذمومٌ فيك، ويومك غير محمودٍ لك، وغدك غير مأمونٍ عليك.
قال ابن المبارك: أدركت أهل العلم وفاتني أهل الأدب.
قال الحسن: إنّ الله تعالى يعطي العبد مكراً به، ويمنعه نظراً له.
رأيت ابن خفيف الصّوفي وقد سئل عن دعاء الإنسان " اللهمّ لا تؤمّنّا مكرك " . قال: الواجب " اللهم أمّنّا مكرك " فإن الله تعالى يقول " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " .
هذا فصلٌ لطيف ولعلّي أعيده إن شاء الله.
قال الحسن: من لم يمت فجأةً مرض فجأةً.
قال المتوكّل لأبي العيناء: إلى متى تمدح الناس وتذمّهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤوا.
وقال الحسن بن سهل: من جهل حرمة إنصافك لم يرع حقّ إفضالك.
قال الخليل: رغبتك في الزّاهد فيك ذلّ نفس، وزهدك في الراغب فيك قصر همّة.
قال عمر بن عبد العزيز: لولا أنّ ذكر الله تعالى عليّ فرضٌ ما تفوهت به تعظيماً له.
قد رأيت من ترك العبادة البتّة وقال شبيهاً بهذا المعنى: زعم أنّ الله تعالى أجلّ من أن يتوسّل إليه بشيء.
ولهذا القائل شركاء في أصناف الناس، لكنّه كان على حلية الصوفيّة، ولولا أنّ هذا الكتاب تذكرةٌ لجميع ما حوته الأذن وحفظه القلب وثبت في الكتب على طول العمر ما جاز إفشاء هذه الأسرار على رؤوس الأشهاد، ولكن الغرض سليم من الآفة، والله وليّ الرحمة والرأفة.
قال العتّابي: لمّا رأيت الأمور العالية مشوبةً بالمتالف، اخترت الخمول ضنّاً مني بالعافية.
قال ابن لبابة: من طلب عزّاً بباطل أورثه الله تعالى ذلاًّ بحقّ. هذا من حرّ الكلام.
وقال فيلسوف: العدوّ الضعيف المحترس أحرى بالسلامة من القويّ المغترّ.

قال فيلسوف: المحدّث خادمٌ والمحدّث مخدوم.
قال ابن المبارك: طلبت العلم للدنيا فدلّني العلم على ترك الدنيا.
قال فيلسوف: إذا وقع شيءٌ لعلّةٍ زال بزوالها، وإذا وقع لغير علّةٍ فهو الذي يبقى.
قال عبد الملك: لا تلحفوا إذا سألتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم.
قال حاتم الطائيّ لغلامه: قدّم إلينا مائدة تباعد ما بين أنفاسنا.
أراد رجلٌ أن يقبل يد هشام فقال: مهلاً، ما فعله من العرب إلا طمع، ومن العجم إلا طبع.
قال رجل للمنصور: أعطني يدك أقبّلها، قال: إنّا نصونك عنها ونصونها عن غيرك.
قال الكميت لذي الرّمّة: كيف ترى تشبيهي؟ قال: إذا شبّهت قاربت، وإذا شبّهت طبّقت؛ قال: لأنك شبّهت ما رأيت وأنا شبّهت ما سمعت، فإذا قاربت فقد بالغت؛فقال ذو الرّمة: هذا هو الحقّ.
قال ابن طباطبا العلوي في كتاب عيار الشعر: التشبيهات على ضروبٍ مختلفة، فمنها تشبيه الشيء بالشيء صورةً وهيئةً، ومنها تشبيهه به معنىً، ومنها تشبيهه به لوناً، ومنها تشبيهه به صوتاً، ومنها تشبيهه به حركةً وإبطاءً وسرعةً. وربما امتزجت هذه المعاني بعضها ببعضٍ، فإذا اتفق في الشيء المشّبه بالشيء معنيان أو ثلاثة معانٍ من هذه الأصناف قوي التشبيه، وتأكد الصّدق، وحسن الشعر، للشّواهد الكثيرة المؤيّدة له.
وقال أيضاً: أما تشبيهه الشيء بالشيء معنىً لا صورةً فتشبيه الجواد الكثير العطاء بالبحر والحيا، وتشبيهه الشجاع بالأسد، وتشبيه الجميل الرواء الباهر بالشمس والقمر، وتشبيه المهيب الماضي في الأمور بالسّيف، وتشبيه العالي الهمّة بالنّجم، وتشبيه الحكيم بالجبل، وتشبيه الحييّ بالبكر، وتشبيه العزيز الصّعب المرام بالمتوقّل في الجبال، وتشبيه أضداد هذه المعاني بأشكالها على هذا القياس، كاللئيم بالكلب، والجبان بالصّفرد، والطائش بالفراش، والذّليل بالنّقد والوتد، والقاسي بالحديد والصّخر. وقد فاز قومٌ بخلالٍ شهروا بها في الخير والشرّ، وصاروا أعلاماً فيها، فربما شبّه بهم فيكونون في المعاني التي احتووا عليها وذكروا بشهرتها نجوماً يقتدى بهم، فأصبحوا أعلاماً يشار إليهم، كالسّموأل في الوفاء، وحاتمٍ في السماحة، وقسٍّ في الفصاحة، ولقمان في الحكمة، فهم في التشبيه يجرون مجرى ما قدّمت ذكره من البحر والجبل والشمس والقمر والسيف، ويكون التشبيه بهم مدحاً كالتشبيه بها، وكذلك أضداد هؤلاء القوم المذمومين فيما شهروا به في حال الذمّ - كما شبّه بهؤلاء في حال المدح - كباقلٍ في العيّ وهبنّقة القيسيّ في الحمق والكسعيّ في الندامة والمنزوف في الجبن ضرطاً.
قال بعض الأدباء لمغنّية: أنت أحسن من جنى الورد ومن نجاز الوعد.
قرأ الكنديّ كتاباً من صنعة ابن الجهم فقال: هتك ستر العافية عن عقله.
قال الواثق لابن أبي داود: كان عندي الساعة ابن الزّيات فذكرك بقبحٍ، فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب عليّ ونزّهني عن قول الحقّ فيه.
قال الجاحظ: دخلت على عليّ بن عبيدة الرّيحاني عائداً فقلت له: يا أبا الحسن ما تشتهي؟ فقال: أعين الرقباء وأكباد الحسّاد وألسن الوشاة.
لعليّ بن عبيدة هذا كتاب يسمّونه المصون يحوي آداباً حسنة وألفاظاً حلوة. وكان بخراسان مع المأمون، وشغف أهل خراسان بكلامه. وكان من الظرفاء، وتنسّك آخر عمره.
قال الشافعي: اغتنموا الفرص فإنها خلسٌ أو غصص؛ معناه: خلسٌ عند الدّرك وغصصٌ عند الفوت.
انظر إلى هذا الإيجاز والإبلاغ.
قال النظام: الذهب لئيمٌ، يدلّك عليه مصيره إلى اللئام، والشيء يقع إلى شكله وينزع إلى جنسه.
قال عمر بن الخطّاب: يحتاج الوالي إلى أن يستعمل مع رعيّته في عدله عليها الإحسان إليها، فلو علم الله تعالى أنّ العدل يسع الناس لما قرن الإحسان به فقال " إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان " .
قيل لأعرابيّ: أتحسن أن تدعو ربّك؟ قال: نعم، قيل: فادع، فقال: اللهمّ إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك، فلا تحرمنا الجنّة ونحن نسألك.
كتب عليّ بن عبيدة إلى صديق له: كان خوفي من أن لا ألقاك متمكّناً، ورجائي خاطراً، فإذا تمكّن الخوف ظننت، وإذا خطر الرجاء خفت.

قال الجاحظ: رأيت أربعة أشياء عجيبة: رأيت رجلاً يسأل الناس ويستقري بيوت الحمّام بيتاً بيتاً، يأخذ مواعيدهم إلى أن يخرجوا؛ ورأيت معلّماً يعلّم الصّبيان القرآن والصّبايا الغناء؛ ورأيت حجّاماً رافضياً يحجم إلى الرجعة نسيئةً من فرط إيمانه؛ ورأيت أربعة حمّالين يحملون جنازةً كلما أعيوا وضعوها عن رؤوسهم وجلسوا يتحدّثون حتى بلغوا شفير القبر.
قيل لأبي سعيد وهو مهموم: ما هذا الذي أثّر فيك؟ قال: دنيا لا تؤاتي، وآخرةٌ لا يعمل لها، وأجلٌ ينقضي، وذنوبٌ لا تحصى.
قال فيلسوف: الدنيا تطلب لثلاثة أشياء: للغنى والعزّ والراحة، فمن زهد فيها استغنى، ومن قنع عزّ، ومن قلّ سعيه استراح.
قال أحمد بن إسماعيل الكاتب: حركات الإنسان ملحوظة، وأعماله محفوظة، وتصرّفه بين وليّ مشفقٍ وعدوٍّ مطرق، وللسانه فلتات، ولقلبه هفوات، ومن الهمّة ما يسمو به ويرفعه، ومنها ما يعرّه ويضعه، وإن لم يحذر زواجره أوبقت دينه وأنغلت أديمه.
قال ابن المقفّع: تعلّموا العلم، فإن كنتم ملوكاً فقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سوقةً عشتم.
قال الفضل الرّقاشي: علامة السّكران أن تعزب عنه الهموم، ويظهر سرّه المكتوم.
سمعت بعض أصحاب أبي حنيفة - وكان خراسانياً - يقول وقد جرت مسألة السّكر وحدّه: حدّ السكران أن لا تعرف الأرض من السّماء، ولا الفرو من القباء، ولا الطاعة من الإباء.
قال العتبي: لا سبيل إلى العقل المستفاد إّلا بصحبة العقل المركّب.
قال الفضل بن سهل: الرأي يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسد ثلم الرأي.
قال ابن المقفّع: من أدخل نفسه فيما لا يعنيه أبتلي فيه بما يعييه.
قال الإسكندر: دفع الشرّ مجازاة، ودفع الشرّ بالخير مكرمة.
قال الحسن: رحم الله عبداً كسب طيّباً، وأنفق قصداً، وقدّم خيراً.
قال العباس لابنه: أنت أعلم مني وأنا أفقه منك.
قال المأمون: من أعمال البرّ التي لا ترتفع إلى الله تعالى شعر طاهرٍ في الزّهد.
قيل للشاعر المعروف بالجمل: لم لم تمدح سليمان بن وهب وهو والٍ ومدحته وهو معزول؟ فقال عزله أكرم من ولاية غيره، وإنما أمدح كرمه لا عمله، وكرمه معه وليّ أم عزل.
قال رجل لعائشة: متى أكون محسناً؟ قالت: إذا علمت أنك مسيء، وتكون مسيئاً إذا ظننت أنك محسن.
قال أبو الدرداء: العالم والمتعلّم شريكان في الأجر، والقارئ والمستمع شريكان، والدالّ على الخير وفاعله شريكان.
قال أبو حنيفة صاحب النّبات: النّسب أصل الرجل، والحسب فعله.
أبو حنيفة هذا من كبار الناس وعلمائهم، وكان ثقةً مأموناً زاهداً حكيماً، وكان بدويّ الكلام، رفيع الطبقة؛ ولد بالدّينور ومات بها.
قال الجاحظ: ما رأينا ملاّحاً متغيّر النكهة لإدمان أكل الصّحناء.
وقف غيلان على ربيعة فقال: أنت الذي تزعم أنّ الله يحب أن يعصى؟ قال: فأنت الذي تزعم أنّ الله تعالى يحبّ أن يعصى قسراً؟! انظر إلى المعنى كيف يتردد في هذا الكتاب عن السّلف بألفاظ مختلفة، والحقّ في ذلك قائم، وهو سرٌّ من أسرار الله والخلق، لا ينكشف إّلا لمن كان صافي القلب من الهوى، قابلاً لما دعا إلى الهدى.

اعلم أنّ الحقّ قد تولاّك بإرادتين: إرادةٌ منك وإرادةٌ بك، فأما إرادته منك فإنّه أبانها لك بلسان التكليف والتّوقيف، وأما إرادته بك فإنه لواها عن كلّ تعريف وتكييف، ثم أقامك بينهما على حدٍّ أزاح فيه عللك، وأوضح إليه سبلك، ثم ساق حقوقك إليك، ثم أثبت حجّته عليك، فلم تبق بقيةٌ تقتضيها آلاء الإلهية بلسان الحكمة وتستوجبها العبودية في حال الحاجة إّلا أدناك إليها، وأناف بك عليها، فإن قابلت الأمر بالائتمار، والنهي بالانتهاء، والدعاء بالإجابة، والهداية بالاهتداء، فقد صادفت إرادته منك وإرادته بك، واستحققت بمصادفتك إرادته منك بالأمر والنّهي ما وعدك، وإن أعرضت عن الأمر عاصياً، وركبت النهي مجترئاً، واستخففت بحقّه متمّرداً، فقد نفذت إرادته بك، وتمّ علمه فيك، ولكن ثبتت حجّته عليك لما أسلفك من التّمكين وأعارك من الطّاقة، وليس لك أن تحتجّ في المقام الثاني بعلمه فيك وإرادته بك، لأن هذا بابٌ كان خافياً عنك مطوياً، ولم تكن محتاجاً إليه، ولا متعلّقاً به، ولا مستحقاً له، فقد بان لك أنك لم تدخل بعلمه فيما نهاك عنه، ولا كانت إرادته بك علّةً لك في معصيتك، لأنّ هذه الإرادة من هذا العالم تكشف لك بعد موافقتك النهي ومجانبتك الأمر، وقبيحٌ بك أن تركب ما تركب جاهلاً بالحجّة، حتى إذا تمّ ركوبك، وتقضّى عليه زمانك، وعلاك النّدم، ولزمك التعقّب، أحلت أمرك على علمه فيك وإرادته بك، هلاّ وقفت عن قبول أمره وسماع نهيه حين أمر، ونهى وزجر، ودعا وبيّن، وهلاّ قلت: إلهي، لم تزح علتي بما أعرتني من القوة، وخلقت فيّ من الطاقة، وأسلفتني من التّمكين، وعرّفتني من الأخبار، فأنا صائرٌ مع هذا كلّه إلى ما أنت عالمٌ به؛ ومتى فعلت هذا وقلته، علم العقلاء أنّك متجنٍّ، لا تحبّ صلاحاً، ولا تتقي فلاحاً، وأنك مقترحٌ اقتراحاً، إن صحّ لك سقط عنك لسان الأمر والنّهي، وزال باب المدح والذم، واستغني عن الثواب والعقاب، وكنت جماداً لا تخاطب ولا تعاتب، وعريت من جلباب معرفة الله عزّ وجلّ، وجهلت نعم الله عندك، وعميت عن حكم الله تعالى فيك، ومن بلغ هذا المكان أسقط عن مكلّمه مؤونة البيان، وعن نفسه كلفة التبيين، وكان في عداد الجاهلين بالله، السّاخطين لنعم الله، المتعّرضين لعقاب الله تعالى. فافتح - حفظك الله - بصرك، وانتصف من هواك، وفارق إلفك، وتنزّه عن تقليدك، وحص عن المعرفة، لائذاً بالله تعالى، مستعيناً به، فهو وليّ خلقه، ناصر اللاجئين إليه.
واعلم أن الله خلقك، ورزقك وكمّلك، وميّزك وفضّلك، وأضاء قلبك بالمعرفة، وفجّر فيك ينبوع العقل، ونفى عنك العجز، وعرض عليك العزّ، وبيّن لك الفوز، بعد أن وعدك وأوعدك، وبعد أن وعظك وأيقظك، وبعدما حطّ عنك ما أعجزك عنه، وأمرك بدون ما أقدرك عليه؛ وإنما حاشك بهذا كلّه إلى حظك ونجاتك، وعرّضك به لسعادتك وخلاصك. أفتجسر من بعد هذه النعمة المتوالية، وهذه الآلاء المتتالية، أن تتوهّم أنه اقتطعك عن مصلحتك أو بخل عليك برأفتك؟ إنّ هذا لا يظنّ بوالدك الذي نسبته إليك عارية، وإضافتك إليه مجاز، فكيف تظنّ بإلهٍ أنعمه تسابق أنفاسك، وأياديه تفضل عن حاجتك، وعفوه يمحو إساءتك، وإقالته ترفع عثرتك، وإزاحته تتقدم علّتك، وصنعه يزيد علثاً قداحك، وعطاؤه يفوت امتياحك، إن أطعته فحظّك تحرز، وإن عصيته فإلى نفسك تسيء، جعلنا الله وإياك من العارفين بحقّه، الطالبين لمرضاته.
قال الرّياشي: قال أبو عبيدة: اجتمع أربع نفر: شرويٌّ وشاميٌّ وحجازيٌّ ونجديٌّ فقالوا: تعالوا ننعت الطعام إيّه أطيب. فقال الشاميّ: أطيب الطعام مويدة موسعةٌ زيتاً، آخذ أدناها فيضرط أقصاها، تسمع لها وجباً في الحنجرة كتقحّم بنات المخاض في الجرف، قال الشرويّ: أطيبالطعام خزيرٌ في يوم قرّ، على جمّة عرّ، موسعٌ سمناً وعسلاً. قال الحجازيّ: أطيب الطعام حيس طيس بإرساله خمس، يغيب فيه الضّرس. قال النجديّ: أطيب الطعام بكرةٌ سنمة، معتبطةٌ نفسها غير ضمنة، في غداةٍ شبمة، بشفارٍ خذمة، في قدورٍ حطمة، قال النجديّ: دعوني أنعت لكم الأكل، قالوا: قل؛ قال: إذا أكلت فابرك على ركبتيك، وافتح فاك، واجحظ عينيك، وأخرج أصابعك، وأعظم لقمتك، واحتسب نفسك.
كان ابن عمر إذا سمع هذا يضحك.
وأنشد: الوافر
وأعلنت الفواحش في البوادي ... وصار الناس أعوان المريب

إذا ما عبتهم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب
وودّوا لو كفرنا لاستوينا ... وصار الناس كالشيء المشوب
وكنّا نستطبّ إذا مرضنا ... فصار سقامنا بيد الطّبيب
فكيف نجيز غصّتنا بشيءٍ ... ونحن نغصّ بالماء الشّروب
قال عليّ بن عيسى: لا يجوز أن يكون التّمكين من القبح قبيحاً، ولو وجب ذلك لكان التّمكين من الحسن حسناً، فيكون حسناً قبيحاً، وهذا متناقض.
قال أبو العيناء: ما أخجلني قطّ إّلا رجلٌ دخل إليّ وقد ولد لي مولودٌ وعندي منجّم يعمل مولده، فقال: أيّ شيءٍ يعمل هذا المنجّم؟ فقلت: يعمل مولداً لابني هذا، فقال: سله قبل هل هو منك؟ يقال: ما خلق الله تعالى شيئاً أطيب من الرّوح، ألا ترى أنها إذا كانت في الجسم كان طيّباً، وإذا خرجت منه صار ميتاً؟ قال الجمّاز: رأيت بالكوفة رجلاً وقف على بقّال، فأخرج إليه رغيفاً صحيحاً فقال: أعطني به كسباً وبصرفه جزراً.
وقف رجل على القنّاد الصوفي وسأله عن المحبّة فقال القنّاد: قد جاءني برأسٍ كأنها دبّة، ولحيةٍ كأنها مذبّة، وقلبٍ عليه مكبّة، يسألني المحبّة، وقيمته حبّة.
قال عبد الحميد الكاتب: لا تركب الحمار فإنّه إن كان فارهاً أتعب يدك، وإن كان بليداً أتعب رجلك.
يقال: إذا كتبت فقمّش، وإذا حدّثت ففتّش.
شاعر: الوافر
أتيأس أن يقارنك النجاح ... فأين الله والقدر المتاح
قيل لرجل: من يحضر مائدة فلان؟ قال: الملائكة، قال: لم أرد ذاك؛ من يواكله؟ قال: الذّباب.
كتب بعض السّلف: أما بعد، فإنّ الجواد مودود، والفاضل محمود، والحاسد مكدود، والحريص مجهود، والكريم مقصود.
مدح أعرابيٌ رجلاً فقال: كان والله إذا أضاع الأمور مضيعها وأزورّ عن الحسناء ضجيعها، يهين نفساً كريمةً على قومها، غير مبقيةٍ لغدٍ ما في يومها؛ وكان أموراً بالخير نهوّاً عن الشرّ.
قال الأصمعي: النّهيك الشجاع، وهي النّهاكة؛ ونهك فلانٌ في بني فلان إذا وقع فيهم وبلغ منهم؛ ونهكه المرض، واستبانت عليه نهكة المرض؛ ونهك هذا الطعام أي بالغ في أكله.
ويقال: تركت فلاناً مبلوغاً مشتركاً أي مهموماً؛ والكلأ في بني فلانٍ شركٌ أي طرائق مستطيلة؛ واحدها شراكٌ؛ وبيني وبين فلان شركةٌ وشركٌ سواء؛ وأشرك فلانٌ نعله وشرّكها؛ وأشرك فلانٌ فلاناً في البيع؛ ومالٌ فيه أشراكٌ، واحدها شرك، بمنزلة أعدال وعدل، وشركه في الأمر: دخل فيه معه.
ويقال: مررات بحّرةٍ فيها فلوقٌ، أي شقوقٌ وصدوعٌ، وهي أرضٌ فيها حجارة سود؛ وحرّة مضرّسة إذا كانت فيها أحجار ناتئةٌ، كالأضراس؛ وفلان ضرسٌ شرسٌ أي صعب الخلق. هذا كله عن الأصمعي. وإنما أمرّ باللغة على قدر ما يصادف منه سماعي ومحفوظي، فلا يضيقنّ صدرك، فكلّ هذا فائدةٌ وأدب وبراعة وحكمة.
لما قتل كسرى بزرجمهر أراد أن يتزوج ابنته، فقالت للثّقات: لو كان ملككم حازماً ما أدخل بين شعاره ودثاره موتورةً.
قال فيلسوف: لا تفرطوا في طلب الحوائج فإنّ العجل إذا ألحّ على أمّه بمصّ الثّدي رفسته.
كاتب: كم بقاء حالٍ تذوب ولا تثوب، وتتلف ولا تخلف.
شاعر: الطويل
ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر
يقال: إن الله عزّ وجلّ إذا استرذل عبداً زهّده في العلم.
قال فيلسوف: إني لأتعجب جداً من أمرين، أحدهما أمر الطبيعة، مع شرفها في نفسها، وترتيبها لمرادها، واستمرارها على عادتها في نظم ما تنظمه، وإصلاح ما تصلحه - كيف أبت طاعة النّفس وعصت أمرها - مع تلطّف النفس في دعائها وحسن فطنة الطبيعة في اهتدائها، والآخر أمر النفس: لقد شغفت بالطبيعة حتى انقادت لها في بعض المواضع فهلكت بانقيادها إليها ومظاهرتها، حتى آلت إلى عالمٍ مظلم دنسٍ. فقد عرضت التعجّب: تارةً من النفس كيف لا تستغني عن الطبيعة وتارة من الطبيعة وكيف لا تقتدي بالنفس، وما هذه الحال التي أورثت النفس الهلاك والطبيعة البوار؟ قيل لطبيب: ما يذهب بشهوة الطّين؟ قال: زاجرٌ من عقل.
قيل لراهب: ما أصبرك على الوحدة؟ قال: أنا جليس ربيّ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتبه، وإذا شئت أن أناجيه صلّيت.
دخلت عزة على أم البنين فقال: اصدقيني عن قول كثيّرٍ فيك: الطويل
قضى كلّ ذي دينّ فوفّى غريمه ... وعزّة ممطولٌ معنًّى غريمها

ما هذا الدّين؟ قالت: وعدته قبلةً فحرجت منها، قالت: أنجزيها وعليّ إثمها.
يقال: أحسن كلمةٍ للعرب: فقد الأحبة غربة.
136ب - قال المنصور للقّواد: صدق القائل: " جوّع كلبك يتبعك " ، فقال له حميد الطّوسي: لكن إن لوّح له برغيفٍ يتركك.
قال الحسن لأبيه عليهما السلام: أما ترى حبّ الناس للدنيا؟ قال عليه السلام: هم أولادها أفيلام المرء على حبّ والدته؟ قال عيسى بن منصور: دعاني المعتصم فقال: أنت القائل ولي مصر مثل ابن طاهر من نظراء طاهر قلت: نعم، فاستحسنه وولاّني مصر.
وصف رجل صنعاء فقال: بلغ من طيب ترابها أنّ الرجل يسجد فلا يشتهي أن يرفع رأسه.
قال بعض الحكماء: الشّيب علّةٌ لا يعاد منها وهي غليظة، ومصيبة لا يعزّى عنها وهي جليلة.
قدم رجلٌ من اليمامة فقيل له: ما أحسن ما رأيت بها؟ قال: خروجي منها.
مدح رجل البخل فقال: كفاك من كرم الملائكة أنه لم يبلهم بالنّفقة وقول العيال: هات! هات! قال الفضل بن سهل: القرآن لا يبلغه عقلٌ ولا يقصّر عنه فهم.
قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: القرآن فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم.
وسئل عن اللسان فقال: معيارٌ أطاشه الجهل، وأرجحه العقل.
قال عمر بن عبد العزيز: لو كنت في قتلة الحسين وأمرت بدخول الجنّة لما فعلت، حياءً من أن تقع عيني على عين محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم.
قال بعض الرافضية: سمّيت فاطمة فاطمة عليها السّلام لأنّ الله تعالى فطم بحبّها من النار.
قال جعفر بن محمد عليه السلام: صحبة عشرين يوماً قرابةٌ.
قيل لابن عباس: أيجوز أن يحلّى المصحف بالذّهب؟ فقال: حليته في جوفه يعني القرآن.
قال ابن مكّرم لأبي العيناء: بلغني أنّك مأبونٌ، فقال: مكذوبٌ عليّ وعليك.
اجتمع الجاحظ والجمّاز بالبصرة فقال الجمّاز للجاحظ: كم ناراً في اللغة؟ قال الجاحظ: نار الحرب، ونار الشرّ، ونار الحباحب، ونار المعدة، والنار المعروفة. قال: تركت أبلغ النيران وأوسعها، قال: وما ذاك؟ قال: نار حر أمّك التي إذا ألقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قال الجاحظ: أمّا نار أمّي فقد قضيت أنّ لها خزّاناً؛ الشأن في نار حر أمّك التي يقال لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ قال عليّ بن أي طالب عليه السّلام: الدّنيا والآخرة كالمشرق والمغرب، إذا قربت من أحدهما بعدت من الآخر.
قال رجلٌ لضيغم العابد: أشتهي أن أشتري داراً في جوارك حتى ألقاك كلّ وقت؛ قال: المودّة التي يفسدها تراخي اللقاء مدخولةٌ.
كتب رجلٌ إلى صديق له: مثلي هفا ومثلك عفا.
قال رجلٌ للنبيّ صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم: إني أحبّ من القرآن " قل هو الله أحد " قال: " بها تدخل الجنّة " .
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: حسن الجوار عمارة الدّيار.
قال رجلٌ للحسن البصريّ: هل للقاتل توبةٌ؟ قال: نعم؛ ثم جاءه آخر فقال: هل للقاتل توبةٌ؟ قال: لا؛ فقيل له في ذلك فقال: توسّمت في الأول أنه قد قتل فقلت نعم، وتوسّمت في الثاني أنه يريد أن يفعل فقلت لا.
قال إسحاق: قلت للرّشيد: الحمد لله عليك، قال: ما معنى هذا الكلام؟ قلت: نعمة حمدت الله تعالى عليها.
مرّ ابن عمر براعٍ فقال له - وكان الراعي مملوكاً - : أتبيعني شاةً؟ قال: ليست لي، قال: فأين العلل؟ قال: فأين الله؟ فاشتراه وأعتقه، فقال العبد: اللهمّ قد رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر.
قال أبو الهذيل للحسن بن سهل: من ذا الذي قد رفعت منزلته؟ قال: منجّمٌ، فأخذ تفاحةً من المجلس فقال للمنجّم: انظر إليها آكلها أم لا؟ فقال: تأكلها، فرمى بها، فقال المنجّم: خذها من الرأس، فأخذ غيرها، فقال: لم لم تأخذها؟ فقال: أخاف أن تنظر فتقول: لا آكلها، فإن رميت بها أصبت، وإن أكلتها كانت التي قلت، فتصيب.
قال العطوي: قلت لجاريةٍ: أشتهي أن أقتلك، قالت: لم؟ قلت: لأنك زانية. قالت: يجب قتل كلّ زانية؟ قلت: نعم، قالت: فعليك بمن تعول.
وقدّم إلى عبادة رغيفٌ يابسٌ فقال: هذا نسج في أيام بني أميّة وقد آمتحى طرازه.
قيل لعبّادة: ابن أبي العلاء المغّني عندنا عليل اليد، بم يضرب عليه؟ قال: ضرسه.

قال أحمد بن الطّيب: كان الكنديّ يستحلي جارية، فقال لها يوماً: إن الأفلاك العلوية تأبى بك إّلا سموّا في الهيولية. وكان كبير اللحية، فقالت: إن العثانين المسترخيات، على صدور أهل الرّكاكات، بالحلق مؤذنات.
قال عليّ بن يحيى المنجّم: كان للمتوكّل بيت مالٍ يسمّيه بيت الشمال، كلّما هبّت تصدق بألف درهم.
وقال الكنديّ لرجل: أنت والله ثقيل الظّلّ، مظلم الهواء جامد النّسيم.
قال أنس بن مالك: قلت لشخصٍ رأيته في النوم: من أنت؟ قال: ملكٌ من ملائكة الله، قلت: فما اسم الله الأكبر؟ قال: الله، ثم تلا " يا موسى إنّي أنا الله " .
جزعت عائشة عند الموت، فقيل لها في ذلك، فقالت: اعترض يوم الجمل في حلقي.
سئل أبو جعفر الشاشي وأنا حاضر: من الغريب؟ فقال: الذي يطلبه رضوان في الجنّة فلا يجده، ويطلبه مالكٌ في النار فلا يجده، ويطلبه جبريل في السموات ولا يجده، ويطلبه إبليس في الأرض ولا يجده، فقال أهل المجلس وقد تفطّرت قلوبهم: يا أبا جعفر، فأين يكون هذا الغريب؟ قال: " في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ " ، فضجّ الناس بالبكاء. فكان يتصرف ويتكلم بالرقائق ويحوش القلوب إلى باب الخير وكان مع هذا يتجاهل ويقول ما لا محصول معه ولا فائدة فيه، وكان يقبل على ذلك ويفدّى.
قال أبو العباس البخاري - ورأيته ببخارى في آخر أيّام نوح وأول أيّام عبد الملك، وأنا إذ ذاك صغير، لكنّي حفظت ما قال، وورد الرّيّ في سنة سبعٍ وخمسين وثلاثمائة وكان يقول: أحفظ ستّين ألف حكايةٍ للزّهّاد والنّساك - : قال مالك بن دينار: لو كنت شاعراً لرثيت المروءة.
قال بعض المغفّلين وقد جرى ذكر الصّحابة: أنا لا أعرف إّلا الشّيخين: الله والنبيّ.
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: كفّارة عمل السّلطان الإحسان إلى الإخوان.
كان سعيد بن وهب من الظّرفاء، وكان خليط أبي العباس الفضل بن يحيى والفضل بن الربيع، قال الفضل بن الربيع: صحبني سعيدٌ على البطالة فأودعته مالاً عند النكبة ظننته أنه لا يرجع إليّ أبداً، ثم طلبته منه، فأتى به والله بخواتيمه، وخاننا من كان عندنا أوثق منه. ثم دخل قلبه فحجّ ماشياً وقال: الرمل
قدميّ اعتورا رمل الكثيب ... واطرقا الآجن من ماء القليب
ربّ يومٍ رحتما فيه على ... نضرة الدنيا وفي وادٍ خصيب
وسماعٍ حسن من محسنٍ ... صخب المربع كالظّبي الرّبيب
فاحسبا ذاك بهذا واصبرا ... وخذا من كلّ فنٍّ بنصيب
إنّما أمشي لأنّي مذنبٌ ... ولعلّ الله يعفو عن ذنوبي
سئل عمر بن عليّ عن الوصية فقال: إن هذا شيءٌ ما سمعناه حتى دخلنا العراق.
قال المنصور لابن عيّاش المنتوف: لو تركت لحيتك طالت، أما ترى عبد الله بن الربيع ما أحسنه؟ قال: أنا أحسن منه، قال عبد الله: أما ترى هذا الشيخ يا أمير المؤمنين ما أكذبه؟ فقال ابن عياش: يا أمير المؤمنين، احلق لحيته وأقمه إلى جانبي ثم انظر أيّنا أحسن، فضحك المنصور حتى استلقى.
قال رجل لأبي حازم: إنّ الشيطان قد أولع بي يوسوس لي أنّي قد طلّقت امرأتي؛ فقال له: أنا أحدّثك أنّك قد طلقتها؛ قال: سبحان الله يا أبا حازم، قال: فتكذّيني وتصدّق الشيطان؟! قال: فانتبه الرجل وذهبت وسوسته.
قيل لأعرابيّ: من أجدر الناس بالصّنيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا حرم صبر، وإذا قدم العهد ذكر.
قيل لأعرابيّ: من أكرم الناس غرّةً؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مدح، وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح.
قيل لأعرابيّ: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك خنع، ظاهره جشع وباطنه طبع.
دخل أعرابيّ مليحٌ على يزيد بن المهلّب، فقال له وهو على فراشه والناس سماطان: كيف أصبحت أيها الأمير؟ فقال يزيد: كما تحبّ، فقال: لو كنت كما أحبّ كنت أنت مكاني وأنا مكانك، فضحك منه يزيد ووصله.
- كان هشام لا يقول برؤية الحركة، فلما ذهب بصره قال: الحركة ترى.
حاجّ معلّم آخر فقال: أين في القرآن " حمل " تعني، فقال الآخر: ألا " من حمل ظلماً " وقال له: أينّ في القرآن " حسن " بمعنى فقال: " فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسنٍ " .

وأخطأ رجلٌ عند رقبة بن مصقلة فقال: تياسرت عن الصواب، فضحك، فقال له رقبة: لقد عجبت من ضحكك من غير عجبْ، وصمتك من غير تفكّرٍ؛ أما الله ما وجهك بالوجه المستصبح، ولا حديثك بالحديث المستملح، ولا أنت بذي السّخاء المستمنح، فقال الرجل: فعلى مثلي إذن يسلح! فأضحك من حضر.
قال الأعمش لإبراهيم النّخعيّ: ما أعلم عندك شيئاً إّلا وقد أخذته؛ قال: فما تقول في امرأةٍ ورثت مالاً من زوجها كلّه؟ قال: لا ادري؛ قال: هذه امرأةٌ أعتقت عبداً ثم تزوجته ثم مات، فورثت الرّبع بالتزويج والباقي بالولاء.
قال غلام ثمامة له: قم صلّ واسترح! قال: أنا مستريحٌ إنّ تركتني.
قال رجل لثمامة: يجوز أن تؤخّر ما قدّم الله تعالى وتقدّم ما أخر الله عزّ وجلّ؟ قال: هذا على ضربين: إن أردت أن أصيّر رأس الحمار ذنبه فلا، وإن أردت أن أقدّم معاوية على علىً عليه السلام فنعم.
وقال له رجلٌ: يا ثمامة، ما تقول في رجلٍ لطم عين رجلٍ فقلعها، أظلمه؟ قال: نعم؛ قال: فما بال الله يذهب بعينه ولا يظلمه؟ قال: لأنّ الله تعالى أعطاه عينين فأخذ واحدةً، وأنت فلم تعطه شيئاً، وإنّ الله تعالى يعوّضه؛ قال: فأنا أعوّضه خمسة آلاف درهم، قال: الفرق أنّ الذي عوّضه الله تعالى لا يمكن أحداً أن يأخذه، وما عوّضته تقدر على أخذه.
187ب - العلّة في هذه المسألة - فيما سمعت عن العلماء - غير ما ذكر ثمامة، وذلك أنّ ثمامة قال: لأنّ الله تعالى أعطاه عينين وأخذ واحدةٍ إنه لا يقول قد يعمى من عينيه دفعةً واحدة؛ وقال أيضاً: فإن الله تعالى يعوّضه، قال: فأنا أعوّضه؛ قال: الفرق كذا وكذا، والفرق لا يغني عنه شيئاً، لأن التعويض قد حصل! وأصحاب التناسخ إذا سمعوا العوض طاروا عجباً.
187ج - وسمعت بعضهم يقول: ولم وجب أن يفعل ما هو شنيعٌ في النّظر وقبيحٌ في العقل من أجل التعويض؟ ومن طالبه بالعوض؟ ومن رضي أن يهان ويؤذى ويفقر ويسلب النعمة وتتوالى عليه المحن على أن يعوّض في الآخرة؟ قال: وهل هذا إلا كمن يصفع آخر، فإذا غضب المصفوع وأنف واستشفع الناظرون إليه قال الصافع: فإنّي أعوّضه وأكرمه وأخلع عليه وأهب إليه. فقيل لهذا الرجل: فهو استصلاح لزيدٍ - أعني ما نزل بعمرٍ ومن البلوى والمحنة وشتات الأهل وشماتة العدى؛ قال: وهذا أيضاً لم وجب؟ هل هو إلا كقّراد يضرب الكلب ليرقص القرد، فإذا رقص وبلغ منه مراده طرح للكلب كسرةٍ وأحسن إليه مستأنفاً؟ وكان يقول: فأين النّظر الذي يقتضيه الكرم؟ أين الواجب الذي يقتضيه العدل؟ وكان يومي بهذا إلى أن كلّ هذا جزاءٌ وقصاص، لأن خالق هذا الخلق غنيٌّ عن آلامهم وفجائعهم، وإنما اكتسبوا على الأيام ما جوزوا به فكوفئوا عليه.
187د - والجواب عن الذي مرّ به ثمامة أنّ فاقئ عين زيدٍ وآخذ مال عمروٍ متعدٍّ حدود الله الذي خلقه ورزقه، وأمره ونهاه، وبالتعدّي استحقّ اسم الظّلم واستوجب العقاب. ألا ترى أنه لما أطلق له ذبح الحيوان كان غير ظالمٍ لأنّه راعى الأمر ووقف مع الإباحة وأتى المأذون فيه، فلما تجاوز الرسم وتعدّى المحدود سمّي بالعاجل ظالماً، واقتصّ منه في الآجل عدلاً؛ وليس كذلك إلهنا عزّ وجلّ، لأنّه خلق زيداً وكان له أن لا يخلقه، ثم وهب له ما رأى متفضّلاً، ثم عرّضه للنعيم الدائم كرماً، ثم ابتلاه اختياراً، ثم قبضه إليه نظراً، ولم يتعدّ في ذلك أمر آمر ولا زجر زاجر، بل تصرّف في ملكه بعلمه وقدرته، غير مسؤولٍ عمّا فعل، ولا معترضٍ عليه فيما أتى، ولو كانت أفعاله موقوفةً على تجويز عقلك وإباحته، وإطلاقه وإجازته، لكان ناقص الإلاهية، لأنّه كان لا يفعل إّلا ما أذن فيه العقل.

واعلم أنّ العقل، وإن كان شريفاً، فإنه خلق الله، حكمه منوط بخالقه، وحاجته إلى الخالق كحاجة الناقص للعاقل، والنّقص لا حقٌ به وجائزٌ عليه، وإنما هو ضياءٌ بيننا وبين الخالق، به نتعاطى ونتواطى، ونتعامل ونتقابل، وعلى مقداره نفصل ونعدل، وبهدايته نرشد ونكمل، فأما أن يكون العقل حكماً بيننا وبين الله تعالى: ما أجازه الله حسن فعله وما أباه قبح فعله، فهذا ما لا يكون. كيف يكون هذا وهو إلهٌ من قبل العقل والعاقل والمعقول، وإنما أبدع هذه كلّها داعيةً إليه لا معترضةً عليه، وواصلةً به لا قاطعةً عنه، ودالةً على قدرته لا مضلّةً عن حكمته، ومتيقّنةً لما بان لا شاكّةً فيما أشكل. وما أحسن ما قاله أبو زيد البلخي، قال: العقل آلةٌ أعطيناها لإقامة العبودية لا لإدراك الرّبوبية، فمن طلب بآلة العبودية حقيقة الرّبوبية فاتته العبودية ولم يحظ بالرّبوبية.
أين يذهب بهؤلاء القوم؟ أما يعلمون أنه كما يرد على العين ما يغشى بصرها من نور الشمس، كذلك يرد على العقل ما يغشى بصيرته من نور القدس؟ ما أحوج هؤلاء المدلّين بعقولهم، الرّاضين عن أنفسهم، العاشقين لآرائهم، أن ينعموا النّظر، ويطيلوا الفكر، ولا يسترسلوا مع السانح الأوّل، ولا يسكنوا إلى اللفظ المتأوّل، ولا يعوّلوا على غير معوّل.
وأنت - حفظك الله - لو أردت أن تقف على أسرار ملك زمانك، وعلى خفايا أمر سلطانك، وعلى حقائق أحوال إخوانك، لم تستطع ذلك ولم تقدر عليه، على أنهم أشكالك وبنو جنسك، أو ليس قد علمت أن الملك لو وقف حارس داره على ما يقف عليه وزير مملكته، واطلّع من دون بابه على ما يطلّع عليه من دون شعاره، لكان ناقصاً مرذولاً، ولم يكن فاضلاً ولا مفضولاً، وأنّ الحال التي قد لبسها، والأمر الذي قد اعتنقه يقضي كتمان أشياء عن جميع الأولياء، وإفشاء أشياء إلى جميع الرعايا، وطيّ أشياء عن بعض الخواصّ، ونشر أشياء على بعض العوام، ولو تساوت رتب جميع الناس معه شركوه في الملك، وكان ذلك داعية الهلك، وأن لو بسط الجميع إلى معرفة ما غيّب ساووه في الإلاهية، وهذا محال، ولو حسم الأطماع عن معرفة ما يمكن لكان غير داعٍ إلى نفسه، ولا حائش إلى أنسه، ولا باعثٍ على الإقرار بالإهيته، والإعتراف بربوبيّته، فأودع العقول ما تمّت به العبودية، ودفع عنها ما تعلّق بالإلاهية، ثم أمدّها بالإحسان والتفضّل على دائم الزمان. فمن ظنّ أنه قد جهله من جميع الوجوه أبطل، لأن آثاره ناطقةٌ بالحقّ، وشواهده قائمةٌ بالصّدق، تقود العقول إلى الإقرار بالاضطرار والاختيار؛ ومن ظنّ أنه قد عرفه من جميع الوجوه أبطل، لأنّ الله تعالى لا يستوفى بمعرفة عارفٍ كما لا ينفى بحيرة واقف: إن جحدته فأنت مكابر، وإن ادّعيت الإحاطة به فأنت كافر ولكن بين ذلك قواماً، فإنه أهدى لقلبك، وأربط لجأشك، وأطرد لشكّك، وأنفى لوحشتك، وأبعد لنفورك، وأجلب لطمأنينتك، وأقرب إلى ما تضمّن الأمر، ووقف عنده النهي.
واعلم أنه لو كشف الغطاء عنك أعظمت الله - جلّت عظمته - عن سير عقلك فيه، وتسليط وهمك عليه، وظنّك أن لو فعل كذا لكان أجمل، ولو لم يفعل كذا لكان أفضل؛ إنك في واد، تحلم في رقاد، وتقدح بغير زناد.
هيهات لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، ولا سائل عن فعله، ولا باحث عن سرّه، ولا معارض لأمره، جلّ عما يجوز على خلقه، مما هو أولى بحقيقته؛ له الخلق والأمر، " ذلكم الله ربّكم فاعبدوه " " مخلصين له الدّين " ، فاعرفوه بعلم اليقين، وكونوا من وعده على نظر، ومن وعيده على خطر، والسّلام.
سأل رجلٌ من أصحاب أبي حنيفة الشافعيّ عن مسألةٍ، فقال له: أخطأت، فقال الشافعيّ: لو كنت في موضعك ثم كلّمتك مثلما كلمتني لاحتجب إلى أدبٍ، فاستحسن الناس كلام الشافعي.
وكان الشافعي بحراً ثجاجاً وسراجاً وهّاجاً، وكان من سراة الناس مع الشرف والسّخاء والبيان والعفّة والفقه العجيب ونصرة الحديث، مع الورع والدّيانة والسّتر، والأمانة والعفّة والنزاهة وظلف النفس والنزاهة، حتى إنه ما رؤي ممن تعاطى الفقه وبنى عليه مثله بياناً وعلماً وفهماً، وسمّي ببغداد ناصر الحديث لحسن مخارج تأويلاته.

وكان أبو حامد يقول: لو ذهب الناس كلّهم مذهب أبي حنيفة لم يكن للشريعة نورٌ ولا للسّنة ظهور؛ قال: وذلك أنّ الحديث في مذهبه قليل، كما أنّ القياس والرأي والاستحسان كثير، والفقه قاعدته معرفة سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستنباط الأحكام من قوله وفعله في جميع أوقاته.
وكان أبو حامد يقول: لولا محمد بن الحسن وأبو يوسف وجانباهما من السلطان، لذهب هذا المذهب وبطل، وكان يقول: لولا أنّ الشافعيّ أتى بالواضحة والجليّة وبما ليس عليه غبار، كيف كان يشيع ويقبل وينصر - وقد استقّر الفقه بمالكٍ وأبي حنيفة وأصحابهما - على قصر عمره وبعده من السلطان وزهده في الدنيا؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكان أبو حامد قليل الطّعن على أئمة الشريعة - أعني أعلام الدّين وأرباب الفقه، وكان على ذلك كثير الطّعن على المتكلّمين، يقول: لعبوا بدين الله عزّ وجلّ، وهتكوا حجابه، وكشفوا غطاءه، وأراقوا ماءه، وجلحوا الوجوه، وجرّوا القلوب، وبثوا الشكوك، وكثّروا المسائل، وأطالوا الألفاظ، ولبّسوا على الناس.
سئل عمرو بن عبيد عن كنائس اليهود وبيع النّصارى في دار الإسلام فقال: لست أمسك عن هدمها حتى أوتى بالحجّة، ولكن أهدمها حتى أوتى بالحجّة، لأنّ كونها منكرٌ حتى أعلم أنه معروفٌ وليس بمعروفٍ حتى أعلم أنه منكر.
وكان عمرو بن عيد يقول: كن مع السائل فإنه المستخرج، والمسألة علّة الجواب، وليس الجواب علّةٌ للمسألة. وكان واصل يقول: كن مع المجيب.
تقدم اثنان إلى عيسى بن حمزة، فاستطال أحدهما فقال: إياك وقبائح القول، فقال: إنه ألطّ بحقٍّ نطقت به أدلّته، فقال عيسى: فلا تلطّ أنت بسفهٍ تلزمك عقوبته.
قال رجل: ما رأيت أعدل من يحيى بن أكثم القاضي في ظلمه، وكيف؟ قال: سوّى بين الناس كلّهم في الظّلم.
تقدّمت امرأةٌ إلى قاضٍ فقال لها: جا معك شهودك كلّهم؟ فسكتت؛ فقال كاتبه: إن القاضي يقول: هل جاء شهودك معك؟ قالت نعم؛ ثم قالت: ألا قلت كما قال كاتبك؟ كبر سنّك، وذهب عقلك، وعظمت لحيتك، فغطّت على عقلك؛ ما رأيت ميتاً يقضي بين الأحياء غيرك.
وصف رجلٌ النجّار المتكلّم فقال: إن قوي عليك كابرك، وإن أعجزته ماكرك.
وقال رجل: نقيع الزّبيب عندي مثل الخمر، وقال الآخر: ليسا بسواء لأنّ ماء الخمر منه، وماء الزّبيب داخلٌ عليه.
قال المعتصم لابن أبي داود: إني أسألك عمّا أعرف، لأسمع حسن ما تصف.
كتب رجلٌ من البصرة:كتبت إليك وقد مضت دولة الكلام: غرق أبو الهذيل ومات النّظّام.
كتب ملك الروم إلى ملك فارس: كلّ شيءٍ تقوله كذب، فكتب إليه: صدقت؛ أي إنّي في تصديقك كاذب.
بلغ عمر اعتراض عمرو على سعد، فكتب إليه: والله لئن لم تستقم لأميرك لأوجّهنّ إليك رجلاً يضع سيفه في رأسك فيخرجه من بين أرجلك؛ فقال عمرو: هدّدني بعليٍّ والله.
قال عمر لأهل الشّورى: لا تختلفوا فإنّ معاوية وعمراً بالشام.
كان هارون حلف أن يقتل كلّ من شكا عليّ بن عيسى، فشكاه رجلٌ، فقال له: قد سمعت يميني، فأيما أحبّ إليك، أقتلك أو أبعث بك إليه؟ قال: ابعث بي إليه، قال: لم؟ أهو أرأف بك مني؟ قال: لا، ولكن يكون خصمي رجلٌ من العامّة أحبّ إليّ من أن يكون خصمي يوم القيامة ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؛ فعفا عنه قال أعرابيّ: قبيح الصورة عاقلٌ خيرٌ من حسن الصورة أحمق.
قال فيلسوف: الشجاعة والصّرامة والنّجدة من أخلاق الملوك والجود والحكمة والسمو من أخلاق الوزراء.
قال أعرابيّ لرجل: ساقتنا إليك حاجة، وليس بنا عنك غنى، فإن رضيت....

سمعت بشر بن الحسين قاضي القضاة يقول - وما رأيت رجلاً أقوى منه في الجدال ولا أخبث مأخذاً للخصم، وله مع أبي عبد الله الطبري حديثٌ في مناظرةٍ جرت بينهما، وقد جرى حديث جعفر بن أبي طالب وحديث إسلامه، وهل يقع التفاضل بينه وبين عليّ عليهما السلام، فقال القاضي أبو سعد: إذا أنعم النّظر علم أنّ إسلام جعفر كان بعد بلوغٍ، وإسلام البالغ لا يكون إلا بعد استبصار وتبيّن ومعرفةٍ بقبح ما يخرج منه وحسن ما يدخل فيه، وإنّ إسلام عليٍّ مختلفٌ في حاله، وذلك أنه قد ظنّ أنه كان عن تلقين لا عن تبيين إلى حين بلوغه وأوان تعقّبه ونظره؛ وقد علم أنهما قد قتلا، وأنّ قتل جعفر شهادةٌ بالإجماع، وقتلة عليّ فيها أشدّ الاختلاف. ثم خصّ الله جعفراً بأن قبضه إلى الجنّة قبل ظهور التباين واضطراب الحبل وكثرة الهرج. وعلى أنّه لو انعقد الإجماع وتظاهر جميع النّاس على أنّ القتلتين شهادةٌ، لكانت الحال التي دفع إليها جعفرٌ أغلظ وأعظم، وذلك أنّه قتل مقبلاً غير مدبرٍ، وأمّا عليٌّ فإنه اغتيل اغتيالاً وقصد من حيث لا يعلم، وشتّان بين من فوجئ بالموت وبين من عاين مخايل الموت وتلقّاه بالصّدر والنّحر وعجل إلى الله عزّ وجلّ بالإيمان فضمّ اللواء إلى حشاه؟ ثم قاتله ظاهر الشّرك بالله، وضارب عليٍّ ممّن صلّى إلى القبلة وشهد الشّهادة وأقدم عليه بتأويل، وقاتل جعفر كافرٌ بالنّصّ الذي لا يحيل. أما تعلم أن جعفراً ذو الجناحين وذو الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة؟ وهذا كله وأضعافه كان يسرده سرداً؛ وكان بيّن اللفظ كثير الإنصاف.
إن كان ما نسبه إليه بشر بن الحسين في معنى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من حقيقةٍ فهو كلام خرف زائل العقل قد ردّ " إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علمٍ شيئاً " ؛ وإن كان ما نسبه إليه تزيّداً منه فهو جاهلٌ معيوبٌ عند القياس، وهو أنشأ مذهب داود إنشاءً، وعادى عليه، ووالى فيه، وبذل عليه، فكثر ارتباكه وخمدت آثاره.
أما يعلم أبو عبد الله أنّ إسلام عليٍّ كان - على ما روي - وهو ابن إحدى عشرة سنة، وقيل عشر سنين، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يدعو إلى الإسلام ولا يخاطب به إلا مكلّفاً، لا سيّما في أوّل دعوته وأوان مبعثه؟ وتخصيص النبيّ صلّى الله عليه وآله إيّاه بدعوته دون غيره ممّن هو في سنّه يدلّ على أنّه كان كامل العقل عارفاً بما يحسن ويقبح في أمر الدّين، وقد يكون ذلك عن وحيٍ من الله عزّ وجلّ في أمره. ثمّ ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه يدلّ على أنه أفضل من أخيه، وهو قوله عليه وآله السلام: " يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي " ، فقد أثبت له جميع منازل هارون من موسى إلى النبوّة، وليس بعد موسى أفضل من هارون.
قال عبد الله بن الأهتم: إني لا أعجب من رجلٍ تكلّم بين قومٍ فأخطأ في كلامه، أو قصّر في حجّة، لأنّ ذا الحجّة قد تناله الخجلة، ويدركه الحصر، ويعزب عنه بابٌ من أبواب الكلام، أو تذهب الكلمة؛ ولكن العجب ممن أخذ دواةً وقرطاساً وخلا بعقله، كيف يعزب عنه بابٌ من أبواب الكلام أو يذهب عنه وجهٌ من وجوهه.
شاعر: السريع
جاريةٌ أعجبها حسنها ... ومثلها في الناس لم يخلق
خبرّتها أنّي محبٌّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي
والتفتت نحو فتاةٍ لها ... كالرشإ الوسنان في قرطق
قالت لها قولي لهذا الفتى ... انظر إلى وجهك ثم اعشق
دخل أحمد بن يوسف على المأمون وعريب تغمز رجله، فخالسها النّظر وأومى إليها بقبلةٍ، فقالت: حاشية البرد، فلم يدر ما قالت، فلما خرج لقي محمد بن يسير، فحدّثه الحديث، فقال له: أنت تزعم أنك فطنٌ، يذهب عليك مثل هذا؟ أرادت قول الشاعر: الطويل
رمى ضرع نابٍ فاستمّر بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهّم
كان عمر بن الخطاب يقسم على كلّ رأس نصف دينار، فأتاه أعرابيٌ فقال: يا أمير المؤمنين، أعطني لنفسي ولأخ لي حبشيّ، فقال له عمر: أخوك الحبشيّ زقٌّ متعمّمٌ في البيت، قال: اللهم نعم، قال: يا غلام أعطه ديناراً: نصفه قسمه، ونصفه لصدقه.
تغدى سليمان عند يزيد بن المهلّب، فقيل له: صف لنا أحسن ما كان في منزله، فقال: رأيت غلمانه يخدمون بالإشارة دون القول.

قال أبو هفّان لرجلٍ: لو شئت أن أخلق مثلك من خرائي وأنفخ فيه من فسائي لفعلت.
نظر رئيسٌ إلى أبي هفّان وهو يسارّ آخر فقال: فيم تكذبان؟ قال: في مدحك.
نظر أعرابيّ إلى أبي هفّان يتكلّم، فقال لمحرز الكاتب: من هذا؟ قال: شيخٌ لنا مصاب، قال أبو هفّان: نعم يا أعرابيّ، بابن أخي هذا؛ فانقلبت النادرة على محرز.
قال أبو هفّان لمغنّية: يا فساية! قالت: ويلي، عبديّةٌ أنا؟! فكاد يموت من حرارة النادرة وتغلغها إلى صميم فؤاده.
سمعت أبا عبد الله الطّبري يقول: التقى في بعض بلاد الهند رجلان، فقال أحدهما للآخر - وكان غريباً - : ما أقدمك بلادنا؟ قال: جئت أطلب علم الوهم، قال له السائل - وكان أحكم - : فتوهّم أنك قد أصبته وانصرف، فأفحم.
كان أبو عبد الله هذا كثير النّوادر، فصيح اللسان، وكان رئيساً في الباطنية، وكان جريء المقدم، متّقى اللسان، وكان ابن العميد يحبّه ويقدّمه، وله إليه رسالةٌ مشهورةٌ تتضمّن عتباً ممضّاً، وأجابه أبو عبد الله عنها فما عجز عن موازنته. على أنّ الكتابة لم تكن ديدنه، ولكنّه كان عجيب الكلام في كلّ فنّ، وكان معتمده على الإبهام دون الإفهام، وسأحكي عنه ألفاظاً علقتها منه في إشارات الصوفية إن شاء الله. وسمعته يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت في دعوى حالٍ، وتمهيد أمرٍ، واصطلاح طريقة، لما تجاوزت ادّعاء النبّوة، ولكنّي مزّقت ثوب الشّباب، وودّعت راحلة الأمل؛ قيل له: فأنت مع نظرك في الحكمة، واقتباسك من الفلسفة، وتميزك إلى الخاصة، تتمنى حالاً صاحبها عند نفسه كاذبٌ وعند بني جنسه مكذوب، مع علمك أنّ دين الإسلام لا يتداعى بنيانه، ولا تتزعزع أركانه، وأنه مبني على أساسٍ قويّ، وأصلٍ سويّ، فقال: هذا كلام من لم يعرف النبوّة ما هي والنبيّ من هو، وما السبب في ظهور الأديان والنحل، وإفشاء المقالات والملل، وما موجبات هذه الأمور، وما خواصّ هذه العلل، وما دواعي جميع ما في العالم، وكيفية نظم ما فيه واطّراده، وكيف استواؤه واستمراره، وما الغاية المنتهى إليها، والغرض المقصود نحوه، وما محصول الإنسان من الحياة، وما فائدته في كونه، وما الأمر الذي إليه توجهه وهو لا يدري، وبه تعلّله وهو لا يشعر، وما ثمرة الجاهل، وأين العالم منه في الآجل، وهل ما شاع بالخبر مقبولٌ كلّه، أو مردودٌ كلّه، أو مقبولٌ بعضه ومردودٌ بعضه. وإن بطل القسمان الأوّلان هل يصحّ القسم الثالث، وإن صحّ فبماذا يبين المقبول منه مما يردّ منه: أبالعقل، أم بالظنّ، أم بسكون النفس عند إخبار المخبر، وقلق النفس عند رواية الراوي؟ فأتى من هذا النّمط بما حيّر الحاضرين وأملّ المستمعين، ولم يحصّل من جميع ما هوّل به شيءٌ.
وكان إذا ركب هذا المركب سبق في عنقٍ لا يباريه جواد، ولا تسري وراءه ريح. ولقد قاوم بالرّيّ أبا يعقوب الجبّائي شيخ القوم، بل أوفى عليه، فكشف عنه، ودلّ على خافي أمره، ومستكنّ شأنه، ومات سنة تسعٍ وخمسين وثلاثمائة. وكان قد أخذ الحديث عن أبي خازم وتفقّه للشافعي، وناظر في الأصول، إّلا أنه باين الجميع بهذه الغرائب التي لم يحل منها في الدنيا بطائل، ولم يتزود بها للآجل، وعاش عاشقاً لفضله، محجوباً عن الله عزّ وجلّ بنعمته، جاهلاً بالشكر الموجب مزيده، وصار إلى الله عزّ وجلّ،وهو أولى به، وهو أحكم الحاكمين.
دخل أبو يونس على المأمون - وكان فقيه مصر - فقال له: ما تقول في رجلٍ اشترى شاةً فضرطت فخرجت من استها بعرةٌ ففقأت عين رجلٍ: على من الدّية؟ قال: على البائع؛ قال: ولم؟ قال: لأنه باع شاةً في استها منجنيق ولم يبرأ من العهدة.
قالت عائشة: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين سحري ونحري، فمتى أوصى إليه؟ كأنها تعني علياً عليه السلام بهذا الكلام.
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: " استفرهوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصّراط " .
قال هشام بن عمّار: خير الأسود كليته.
قال هشام المتكلّم: أوّل شغب الرجل تعلّقه بالألفاظ.
قال رجلٌ لابن أبي داود: متى كان الله عزّ وجلّ؟ قال: ومتى لم يكن؟! قال رجل لهشام بن الحكم: أنت أعلم الناس بالكلام، قال له: كيف ولم تكلّمني؟ قال: رأيت كلّ حاذقٍ يزعم أنه ناظرك وتغلّب عليك، فلولا أنّك الغاية عندهم ما فخروا بذلك أبداً.

سأل غلامٌ أمرد النّظّام عن مسألة فقطعه، فقال له إبراهيم النّظّام: أما إنك تقطعني بحجّةٍ وجبت لك، ولكن قطعتني بالحيرة فيك.
يقال: الطّير الذي خلقه عيسى عليه السّلام في قوله تعالى " وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير " ، هو الخطّاف؛ أما ترى فيه ضعف الآدميين؟ وذاك أنه أضعف من كلّ طائرٍ في مقداره.
قال المسيح عليه السلام: كلّ قتيلٍ يقتصّ له يوم القيامة إلا قتيل الدنيا، فإنه يقتصّ منه.هذا والله كلام عجيب.
نظر ابن أبي عتيق إلى بستانٍ صغير فقال: هذا تسمّده فسوة.
شاعر: المديد
ما لمن تمّت محاسنه ... أن يغادي طرف من رمقا
لك أن تبدي لنا حسناً ... ولنا أن نعمل الحدقا
قال رجلٌ لأبي الهذيل: ما الفرق بين الإنسان والحمار؟ قال: هذه مسألةٌ جوابها فيها؛ لمّا قلت أنت ما الفرق بينهما كنت قد فرقت.
قال بعض المتكلّمين: الدليل على الحدوث أنّ الواهم يتوهّم فيحدث إنسانٌ وشجرة، فقضى ذلك على جميع ما ترى أنه محدث، لأنه أحدثه توهّماً، وكلّ متماثلين يلتقيان في حكمٍ واحد.
قال بعض المتكلّمين: الدليل على أنّ صانعي ليس مثلي أنّي عاجزٌ عن أن أفعل مثلي، فمحالٌ أن يكون فاعلي مثلي.
اعتلّ أبو جعفر الأحول في قول القاضي والله والله ثلاثاً قال: لما قال موسى للخضر عليهما السلام " قد بلغت من لدنّي عذراً " كان هذا في ثلاث قد قطع عذراً.
قيل لمرجفٍ: أحدث شيءٌ؟ قال: نعم، قيل: ما هو؟ قال: لم يبلغنا بعد.
قيل لأبي جعفر: لم حكمت للاستثناء إذا قال له: عليّ عشرة دراهم إّلا خمسة إّلا درهماً فتكون له أربعة؟ فقال: من كتاب الله تعالى " إلا آل لوط نجيناهم بسحر إلا أمرأته " ؛ فاستثنى من المستثنى، ولا يستثنى الكثير من القليل وإنما يستثنى القليل من الكثير، فقال المأمون: أحسنت.
قال هارون لحمويه: صف لي فارس، قال: فيها من كلّ بلدٍ بلدٌ.
لما قتل عبيد الله بن زياد - لعنه الله - الحسين بن علي عليه السلام قال أعرابي: انظروا إلى ابن دعيّها كيف قتل ابن نبيّها.
قيل لبعض الحكماء الزّهاد: يقال جمع فلانٌ مالاً، قال: أفجمع أيّاماً؟ قال أبو الهذيل: ذنب الصامت جرحٌ سريع الاندمال، وذنب الناطق جرحٌ رحيب المجال.
كتب العتّابي إلى المأمون: إن للعرب البديهة، وللعجم الرّويّة، فخذ من العرب آدابها ومباني كلامها، وخذ من العجم مكايدها ونتائج فكرها، تجتمع لك فصاحة العرب ورجاحة العجم.
يقال: من صبّ عليه ماءً بارداً ثم تمسّح وتنّور لم تحرقه النّورة، ومن تنّور وهو عرقٌ أحرقته النّورة لأجل تفتح مسامّ البدن.
اجتمع الجاثليق والموبذ عند المأمون فقال الجاثليق: إنّ هذا يزعم أنّ الجنّة متصلةٌ بحر أمّه، فقال الموبذ: والله لقد أفحشت عليّ، ولقد كنّا نظنّ أنّ الأمر كما وصف حتى رأينا إلهك خرج من ذلك الموضع فزال عنّا الشّك.
قال خالد بن الوليد: إن أبا بكرٍ ولدنا فرقّ علينا رقّة الوالد، وإن عمر ولدناه فعقّنا عقوق الولد.
قيل لصوفيّ: لم لم تعملوا بأبدانكم؟ قال: لأنّ الأبدان تعمل بالقلوب، فلما عملت القلوب سكنت الأبدان.
قال راوية الفرزدق للفرزدق: والله ما تنهاني عن شيءٍ إلا ركبته، قال: فإني أنهاك عن نيك أمّك.
خاصمت امرأةٌ مدنيّةٌ زوجها - وكان في خلقٍ لا يواريه - فقالت له: غيّر الله ما بك من نعمةٍ، قال: استجاب الله دعاءك، لعلّي أصبح في ثوبين جديدين.
قال بعض أهل اللغة: الاستذراء من البرد، والاستظلال من الحرّ، والاستكنان من المطر.
مرّت امرأةٌ جميلة باليعقوبي فقالت له: يا شيخ، أين درب الحلاوة؟ قال: تحت مئزرك يا ستّي.
قال رجل لرقبة بن مصقلة: ما أكثرك في كلّ طريق، فقال له رقبة: إنك مستكثرٌ مني ما تستقلّ من نفسك، هل رأيتني في طريق إلا وأنت فيه؟ قال النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله عن الله عزّ وجلّ: " إنّي تفضّلت على عبادي بأربعة أشياء: سلّطت الدابة على الحبّ، ولولا ذلك لكنزه الملوك كما كنزوا الذهب والفضّة؛ وأنتنت الجسد، ولولا ذلك لنا دفن حميمٌ حميمه؛ وأسليت المصاب عن المصيبة، ولولا ذلك لانقطع النّسل؛ وأقصيت الأجل وبسطت الأمل، ولولا ذلك لخربت الدنيا وما طاب عيشٌ " .

قال جعفر بن محمد عليهما السلام: يهلك الله عزّ وجلّ ستاً بستً: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والتجّار بالخيانة، وأهل الرّستاق بالجهل، والفقهاء بالحسد.
ذكر عبد الملك بن مروان الاشدق بعد أن قتله فقال: كان والله ذا طيٍّ لسرّه، نموماً بإعطاء ماله، فارغ القلب بفهم من حدّثه، مشغول القلب بمعرفة ما أشكل عليه.
قال الحجاّج لرجلٍ من ولد ابن مسعود: لم قرأ أبوك تسعٌ وتسعون نعجةً أنثى؟ أترى لا يعلم الناس أن النعجة أنثى؟ فقال: قد قرئ قبله " ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ " ألا يعلم أن سبعةً وثلاثةً عشرةٌ؟ فما أحار الحجّاج جواباً.
أراد رجلٌ بيع جاريةٍ فبكت فسألها، فقالت: لو ملكت منك ما ملكت مني ما أخرجتك من يدي، فأعتقها.
قالت المضرّية: اللسان العربي لإسماعيل، وقالت القحطانية: أوّل من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، فاحتجت المضريّة فقالت: لو كان هذا هكذا لقالوا: يعربي، ولم يقولوا: عربي.
قال هارون بن مسلم: ما بقي أحدٌ يأنف أو يؤنف منه.
قال ابن عباس في رجلٍ حلف أن لا يكلّم فلاناً حتى حين فقال: الحين في اليوم والليلة وهو قوله تعالى " حين تمسون وحين تصبحون " والحين في ثلاثٍ، وهو قوله تعالى في قوم هود " تمتّعوا حتّى حينٍ " والحين في كل سنةٍ وهو قوله تعالى " تؤتي أكلها كلّ حينٍ " .
قال الجمّاز لعلي الرازي، وأراد شراء جارية حبشية: متاعها الدّهر مزبد، وإبطاها منتنان، وجسدها لا يقبل الطّيب، وإذا شربت احمرت عيناها واخضرّت وجنتاها، وإذا تجرّدت فكأنها نخاعةٌ على يد أسود.
تزوّج مدنيٌّ سوداء فعوتب فقال: عتق ما يملك إن لم تكن ضرطتها في الليلة الشاتية في البيت أنفع من عدل فحم.
وساوم مدينيّ دجاجةٍ بعشرة دراهم فقال: والله لو كانت في الحسن كيوسف، وفي العظم ككبش إبراهيم، وكانت كلّ يومٍ تبيض وليّ عهدٍ للمسلمين، ما ساوت أكثر من درهمين.
قال يحيى بن خالد: الغضب والحزن من جوهرٍ واحد، فإذا كان ممّن فوقك كان حزناً، وإذا كان ممّن هو دونك كان غضباً، فترك الصبر على الغضب سوء قدرة، وترك الصبر على الحزن سوء استكانة.
حمل رزام بن حبيب إلى طحّان طعاماً فقال له: اطحنه؛ قال: أنا مشغولٌ عنك، قال: إن طحنته وإّلا دعوت الله عزّ وجلّ على حمارك ورحاك، قال: أومستجاب الدعوة أنت؟ قال: نعم، قال: فادع الله أن يصيّر حنطتك دقيقاً فهو أروح لك.
قال الأصمعي: كان بالبصرة فتىً يغشاه الفتيان في كوخٍ له من قصب، وكانوا إذا شربوا قال بعضهم لبعضٍ: غداً عليّ ألف آجرّةٍ، ويقول آخر: عليّ الجصّ، ويقول آخر: عليّ أجرة البنّاء. فيصير كوخه قصراً من ساعته، ثم يصبح فلا يرى شيئاً من ذلك، فقال في ذلك:
لنا كوخٌ يهدّم كلّ يومٍ ... ويبنى ثم يصبح جذم خصّ
إذا ما دارت الأقداح قالوا ... غداً نبني بآجرٍّ وجصّ
وكيف يشيّد البنيان قومٌ ... يزجّون الشتاء بغير قمص
قال الأصمعي: فحدّثت الرشيد، فاستضحك وقال: أبا سعيدٍ، لكنّا نبني لك قصراً لا تخاف فيه ما خاف الفتى، ثمّ أمر له بألفي دينار.
قال الجمّاز: اشتريت جاريةً سنديّة، فأردت أن أطأها، وكان شعر حرها كثيراً فلم يدخل أيري، فقالت: يا مولاي، زبّك عمياء.
قيل لسلمان بن ربيعة الباهلي: بم تعرف الهجن من العتاق؟ قال: بنظري إلى الأعناق، قيل: فبيّن لنا ذلك، قال: فدعا بطستٍ من ماءٍ فوضعت على الأرض، ثم قدّمت الخيل إليها واحداً واحداً، فما ثنى سنبكه ثم شرب هجّنه، وما شرب ولم يثن سنبكه جعله عتيقاً، وذلك لأنّ في أعناق الهجن قصراً فهي لا تنال الماء إّلا على تلك الحال حتى تثني سنابكها، وأعناق العتاق طوالٌ فهي تشرب ولا تثني سنابكها.
قال أهل اللغة: الغيلم ذكر السّلاحف، والأنثى سلحفاة ويقال: سلحفية؛ والعلجوم ذكر الضفادع؛ والشّيهم ذكر القنافذ؛ والخزر ذكر الأرانب، وجمعه خزّان؛ والظّليم ذكر النّعام؛ والقطّ والضّيون ذكر السّنانير؛ والحيقطان ذكر الدرّاج؛ والعضرفوط ذكر العظاءة؛ والحرباء ذكر أمّ حبين؛ والحنظب ذكر الخنافس، وهو أيضاً الخنفس؛ واليعاقيب ذكور الحجل، واحدها يعقوب، والسّلك الذكر من فراخها، والأنثى سلكة؛ والخرب ذكر الحبارى؛

والفيّاد ذكر البوم، ويقال هو الصّدى؛ وساق حرّ ذكر القماريّ؛ واليعسوب ذكر النّحل؛ هذه كلّها ينبغي أن تكون في صميم صدرك، قد غلب عليها الحفظ، واهتدى إليها الظنّ، فم القبيح بالإنسان أن لا يعرف ما قرب من الحيوان.
واحفظ أيضاً إناث أشياء من هذا الضرب؛ اعلم أنّ: الأنثى من الذّئاب سلقةٌ وذيبة؛ والأنثى من الثعالب ثرملة وثعلبة، والذكر ثعلبان؛ والأنثى من الوعول أرويّة، وثلاث أراويّ إلى العشرة، فإذا جاوزت فهي الأروى؛ والأنثى من القرود قشبة وقردة؛ والأنثى من الأرانب عكرشة؛ والأنثى من العقبان عقبة؛ والأنثى من الأسود لبؤة؛ بضّم الباء والهمزة؛ والأنثى من العصافير عصفورة؛ ومن النّمور نمرة؛ ومن الضّفادع ضفدعة؛ ومن البرذون برذونة؛ وواحد الذّراريح والذّرّاح ذرحرح وذّروح.
واحفظ ما هو من أسماء الناس من ذلك: يقال إن الهوزة قي القطاة؛ والقطاميّ الصّقر - بضمّ القاف وفتحها - ؛ وعكرمة هي الحمامة؛ والهيثم فرخ العقاب؛ وسعدانة هي الحمامة؛ والحيدرة الأسد؛ وكذلك الهيصم وأسامة والدّلهمس وهرثمة والضّيغم؛ وأما نهشل فالذئب؛ وكلثوم الفيل؛ وشبث: دابة تكون في الرّمل، وجمعها شبثان، كأنها سمّيت بذلك لتشبّثها بما دبّت عليه؛ وأما سيابة فواحدة السّياب - خفيفةً - وهو البلح.
وأما حمزة فبقلة.
شاعر: الوافر
دعوتك للنّدى ففررت منه ... كأنّي قد دعوتك للبراز
ولمّا أن كسوتك ثوب مدحٍ ... رأيتك قد خريت على الطّراز
قال ابن طباطبا في عيار الشعر: وينبغي للشاعر أن يتأمّل تأليف شعره وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتّصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامها فصلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه فينسي السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كلّ بيت، فلا يباعد كلمةً عن أختها ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشوٍ يشينهها، ويتفقّد كلّ مصراعٍ: هل يشاكل ما قبله، فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذلك إّلا من دقّ نظره ولطف فهمه. وربما وقع الخلل في الشّعر من جهة الرّواة والناقلين له: الشّعر على جهةٍ ويؤدوّنه على غيرها سهواً فلا يذكرون حقيقة ما سمعوه منه. كقول امرئ القيس: الطويل
كأنّي لم أركب جواداً للذةٍ ... ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال
هكذا الرّواية، وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كلّ واحدٍ منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النّسج، وكان يروى:
كأنّي لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ للذةٍ ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
وكقول ابن هرمة: المتقارب
وإنّي وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زنداً شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
وكقول الفرزدق: الطويل
وإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... سرابيل قيسٍ أوسحوق العمائم
كمهريق ماءٍ بالفلاة وغرّه ... سرابّ أذاعته رياح السّمائم
كان يجب أن يكون بيت ابن هرمة مع بيت الفرزدق، وبيت الفرزدق مع بيت ابن هرمة فيقال:
وإنّي وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زنداً شحاحا
كمهريق ماءٍ بالفلاة وغرّه ... سراب أذاعته رياح السمائم
وإنّك إذ تهجو تميماً.. ... ... ... ... الخ
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
حتى يصح التشبيه للشاعرين، وإّلا كان تشبيهاً بعيداً غير واقع موقعه الذي أريد له.
وإذا تأملت أشعار الشعراء لم تعدم فيها أبياتاً مختلفة المصاريع، كقول طرفة: الطويل
ولست بحلاّلٍ التّلاع مخافةً ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
والمصراع الثاني غير مشاكلٍ للأوّل؛ وكقول الشاعر: الطويل
وإن امرءاً أهواه بيني وبينه ... فياف تنوفاتٌ ويهماء خيفق

لمحقوقةٌ أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أنّ المعان موفّق
فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفّق غير مشاكل لما قبله؛ وكقوله: البسيط
أغّر أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول، وإن كان كلّ واحدٍ منهما قائماً بنفسه.
وأحسن الشّعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتّسق به أوّله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدّم بيتٌ على بيتٍ دخله الخلل، كما يدخل الرسائل والخطب إذا نقص تأليفها فإن الشعر إذا أسس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلّة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها، لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلّها ككلمة واحدةٍ في اشتباه أوّلها وآخرها نسجاً وحسناً وفصاحةً وجزالة ألفاظٍ ودقّة معانٍ وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنىً يصفه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً على ما شرطنا؛ هذا كله كلام صاحب كتاب العيار.
خرج الأعمش يوماً إلى أصحابه وهو يضحك فقالوا له: ما ذاك يا أبا محمد؟ قال: قالت بنيّتي لأمّها: يا امّه، لم تجدي أحداً تزوّجينه إلا هذا الأعمش؟! قال داود بن الزّبرقان: سفه علينا الأعمش يوماً فكلّمتنا امرأةٌ من وراء الباب وقالت: احتملوه، فوالله ما يمنعه من الحجّ مذ ثلاثون سنة إّلا مخافة أن يلاطم زميله أو يشاتم رفيقه.
قال سعيد بن المسيّب: أعوذ بالله من الزّنا، فقالت امرأة إلى جانبه: هذا شيءٌ قد كفيته لسماحة وجهك، قال: أمّا ما دام إبليس حياً فلا أصدّقك.
قال أعرابيّ بعدما خرف: إن في الأير يا قوم عجباً فاحذروه؛ قالوا له: وما هو؟ يأنس إلى من لا يعرف ويستوحش ممن يعرف.
مرّ سائلٌ بمخنّثٍ فأدخله وسقاه وحمله على نفسه فقال: والله ما أدري بم أكافئك، إّلا أنني وددت أنّ لي أيراً مثل منارة المسيّب، قال المخنّث: إذن كنت أمكّنك من استٍ مثل باب خراسان.
قال محمد بن إسحاق بن عطية: دخلت على إسماعيل بن صبيح وهو مريض فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت تجرّب عليّ الأطباء.
رفع مخنّث إلى السّندي بن شاهك ومعه غلام، فتبعته امرأةٌ فقالت: أما تستحيي من مشيتك ترفع مع مثل هذا؟ فقال: أما والله لو استقبلك بمثل ما استدبرني به ماباليت أن ترفعي إلى ملك الروم.
شاعر: مجزوء الرجز
الصبر مفتاح الظّفر ... والأمر يجري بالقدر
ما كان من خيرٍ وش ... رٍّ ليس يغني من حذر
يقال: لا تقطع القريب وإن أساء، فإنّ المرء لا يأكل لحمه وإن جاع، ولا يقطع يده وإن ضربت عليه.
قال بعض العرب: الق عدوّك بحسن البشر، وأخف عنه ضمير الصّدر، وتربّص به دوائر الدّهر، وال تظهر له سرّك فيكيدك، ولا تمكنّه من قيادك فيرديك، وكثير النّصح يدعوك إلى كثير التّهمة.
قيل لعائشة: إن قوماً يشتمون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله. فقالت: دعوهم، أبعدهم الله، فإنّ الله لما قطع عنهم العمل أحبّ أن لا يقطع عنهم الأجر.
قال المتوكّل لعبّادة: أهب لك هذا الخصيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنا لا أركب زورقاً بلا دقل.
قال عبد الملك بن مروان لابن زبّان القيني: ما لك مغتماً؟ قال: نسأل أمير المؤمنين ما لا نقدر عليه، ويعتذر فيما قد لا يعذر، فقال: ما أحسن ما سألت؛ ووصله.
كاتب: أستجير بك في ما قاسيت من مقارعة الدّهور، وأستعين بك على ما عانيت من ملمّات الأمور.
قال أعرابيٌّ لآخر: من استجار بك من الزّمان، فقد أخذ لنفسه بأوثق الأمان.
كاتب: الشكوى إليك عند النائبة على قدر الشكر لك عند النّعمة، لأنّك في الحالين معاً الرجاء والعدّة، والموئل والعمدة، وكلّ حقٍّ قضيته لأوليائك في عارفة تصطنعها، ونكبة تدفعها، فهو دون قدرتك، وفوق شكرهم.
آخر: محاسن غيرك مساوٍ عند محاسنك، لأنّ إحسانك إجمالٌ وإحسانهم تجمّلٌ.
أعرابيّ: لا على رجائي أخاف التخييب، ولا على أملي أخشى التكذيب.
كاتب: إذا طلبت عند غيرك ما لم أنله، نلت منك ما لم أطلبه، وإذا وجدت عندك ما لم أرجه، عدمت من سواك ما رجوته، فاليأس من خيرك أجدى من الطّمع في فضل غيرك، لأنّك تقول وتفعل، وسواك يقول ولا يفعل، ولأنّك تعتذر من الجزيل إذا تطاول سواك بالقليل، لأنّ الذي أدركته منك من غير تأميلٍ له، عوضٌ مغنٍ مما خانني من الرّجاء في سواك.

كاتب: صافحتني الأيّام بكفّ الغنى إذا قبلتني، ووقفت بي عند أملي إذ حسن رأيك فيّ، وصالحتني بما استصلحت من أمري.
أعرابي: يأسي من عطائك أرجى من رجائي لعطاء غيرك، لان أملي فيك قنيةٌ، ورجائي لك ذخرٌ، لأني أعدّ وعدك غنىً ومطلك إنجازاً.
قال ابن طباطبا في عيار الشعر: ينبغي للشاعر في عصرنا أن لا يظهر شعره إّلا بعد ثقته بجودته وحسنه وسلامته من العيوب التي قد نبّه عليها. وأمر بالتحرّز منها، ونهي عن استعمال نظائرها. لا يضع في نفسه أنّ الشعر موضع اضطرار، وأنّه يسلك سبيل من كان قبله، ويحتج بالأبيات التي قد عيبت على قائليها، فليس يقتدى بالمسيء، وإنما الاقتداء بالمحسن، وكلّ واثق فيه خجلٌ إلا القليل، ولا يغير على معاني الشعراء فيودعها شعره، ويخرجها في أوزان مخالفةٍ لأوزان الأشعار التي يتناول منها ما يتناول، ويتوهّم أنّ تغييره الألفاظ والأوزان مما يستر عليه سرقته، أو يوجب له فضيلته، بل يديم النظر في الأشعار التي قد اخترناها لتلصق معانيها بفهمه، وترسخ أصولها في قلبه، وتصير مواد لطبعه، ويذرب لسانه بألفاظها، فإذا جاش فكره بالشّعر، أدّى إليه نتائج ما استفاده مما نظر من تلك الأشعار، وكانت تلك النتيجة كالسّبيكة المفزغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن، وكما اغترف من وادٍ قد مدّته سيولٌ جارية كثيرة من شعاب مختلفة، وكطبيب يركب على أخلاط من الطّيب كثير، فيستغرب عيانه، ويغمض مستنبطه؛ ويذهب في ذلك إلى ما يحكى عن خالد بن عبد الله القسري فإنّه قال: قد حفّطني أبي ألف خطبةٍ ثم قال لي: تناسها، فتناسيتها، فلم أرد بعد ذلك شيئاً من الكلام إّلا سهل عليّ؛ فكان حفظه لتلك الخطب رياضةً لفهمه، وتهذيباً لطبعه، وتلقيحاً لذهنه، ومادة لفصاحته، وسبباً لبلاغته ولسنه ولخطابته.
واعلم أنّ شعراء العرب أودعت أشعارها من الأصناف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها، وأدركه عيانها، ومرّت به تجاربها، وهم أهل وبر، صحونهم البوادي، وسقوفهم السماء، فليس تعدو أوصافهم ما رأوه فيهما وفي كل واحدة منهما، في فصول الأزمان على اختلافها: من شتاءٍ وربيع، وصيفٍ وخريف، من ماءٍ وهواء، ونار وجبل، ونباتٍ وحيوانٍ وجماد، وناطقٍ وصامت، ومتحرّك وساكن، وكلّ متولد، من وقت نشوته وفي حال نموّه إلى حال انتهائه، فضمّنت أشعارها من التشبيهات إلى ما أدركه من ذلك عيانها وحسّها، إلى ما في أنفسها وطبعها من محمود الأخلاق ومذمومها، في رخائها وشدّتها، ورضاها وغضبها، وفرحها وغمها، وأمنها وخوفها، وصحّتها وسقمها، والحالات المتصرّفة بها في خلقها وخلقها، من حال الطفولة إلى حال الهرم، وفي حال الحياة إلى حال الموت، فشبهت الشيء بمثله تشبيهاً صادقاً، ذهبت إليه من معانيها التي أرادتها، فإذا تأملت أشعارها وفتشت جميع تشبيهاتها وجدتها على ضروبٍ مختلفةٍ سنشرح أنواعها، فبعضها أحسن من بعض، وبعضها ألطف من بعض، فأشبه التشبيهات ما إذا عكس لن ينتقض بل يكون كلّ شبه بصاحبه مثل صاحبه، ويكون صاحبه مثله مشبهاً به صورةً ومعنى، فربّما أشبه الشيء الشيء صورةً وخالفه معنىً، وربما أشبهه معنىً وخالفه صورةً وربّما قاربه وداناه أو سامته وأشبهه مجازاً لا حقيقةً، فإذا اتفق لك في أشعار العرب التي يحتجّ بها تشبيهٌ لا تتلقّاه بالقبول، أو حكايةٌ تستغربها، فابحث عنه ونقّر عن معناه، فإنك لا تعدم أن تجد تحته خبيئة، إذا أثرتها عرفت فضل القوم بها، وعلمت أنهم أرقّ طبعاً من أن يلفظوا بكلامٍ لا معنى تحته. وربّما خفي عليك مذهبهم في سنن يستعملونها بينهم، وحالات يصفونها في أشعارهم ولا يمكنك استنباط ما تحت حكاياتهم، ولا يفهم مثلها إّلا سماعاً، فإذا وقفت على ما أرادوه، لطف موقع ما تسمعه من ذلك عند فهمك.
والكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه؛ كما قال بعض الحكماء: للكلام جسدٌ وروحٌ، فجسده النّطق وروحه معناه، فأما ما وصفته العرب وشبّهت بعضه ببعض مما أدركه عيانها فكثيرٌ لا يحصى عدده، وأنواعه كثيرةٌ، وسنذكر بعض ذلك ونبيّن حالاته وطبقاته إن شاء الله.

وأما ما وجدته في أخلاقها، وتمدّحت به، ومدحت به من سواها وذمّت من كان على ضدً حالها فيه، فخلالٌ مشهورةٌ، منها في الخلق: الجمال والبسطة؛ ومنها في الخلق: الشجاعة والسخاء والحلم والعلم والحزم والعزم والوفاء والعفاف والأمانة والقناعة والغيرة والصّدق والصبر والورع والشكر والمداراة والعفو والعدل والإحسان وصلة الرّحم وكتم السر والمؤاتاة وأصالة الرأي والأنفة والدعاء وعلوّ الهمّة والتواضع والبيان والبشر والجلد والتجارب والنقض والإبرام. وممّا يتفرّع من هذه الخلال التي ذكرناها من الأصناف: قرى الأضياف وإعطاء العفاة وحمل المغارم وكظم الغيظ وقمع الأعداء وفهم الأمور ورعاية العهد والفكر في العواقب والجد والتشمير وقمع الشّهوات والإيثار على النفس وحفظ الودائع والمجازاة ووضع الأشياء مواضعها والذّب عن الحريم واجتلاب المحبة والتنزّه عن الكذب واطّراح الحرص وادّخار المحامد والاحتراز من العدوّ وسيادة العشيرة واجتناب الحسد والنكاية في الأعداء وبلوغ الغايات والاستكثار من الصديق والقيام بالحجّة وكبت الحسّاد والإسراف في الخير واستدامة النعمة وإصلاح كل فاسد واعتقاد المنن واستعباد الأحرار بها وإيناس النافر وحفظ الجار والإقدام على بصيرة. وأضداد هذه الخلال البخل والجبن والطّيش والجهل والغدر والاغترار والفشل والفجور والعقوق والخيانة والحرص والمهانة والكذب وفيالة الرأي والهلع وسوء الخلق ولؤم الظفر والجور والإساءة وقطيعة الرّحم والنّميمة والخلاف والطّبيعة والدّناءة والغفلة والحسد والبغي والكبر والعبوس والإضاعة والقبح والدّمامة والقماءة والخور والعجز والعيّ والاستحلال. ولتلك الخلال المحمودة حالاتٌ تؤكدها وتضاعف حسنها وتزيد في جلالة المتمسّك بها والمفتخر بالاحتواء عليها، كما أنّ لأضدادها أيضاً حالات تزيد في الحطّ ممن وسم بشيءٍ منها ونسب إلى استشعار مذمومها والتّمسك بفاضحها: فالجود في حال العسر موقعه فوق موقعه في حال الجدة وفي حال الصحو أحسن منه في حال السّكر، كما أن البخل من الواجد القادر أشنع منه من المضطّر العاجز، والعفو في حال القدرة أجلّ موضعاً منه في حال العجز، والشجاعة في حال مبارزة الأقران أحدّ منها في حال الإحواج ووقوع الضّرورة، والعفّة في حال اعتراض الشّهوات والتّمكن منها أفضل منها في حال فقدان اللذات واليأس من نيلها، والقناعة في حال تبرّج الدنيا ومطامعها أحسن منها في حال اليأس وانقطاع الرجاء منا؛ على هذا التّمثيل جميع الخصال التي ذكرناها.
وقال أيضاً: وعيار الشّعر أن يورد على الفهم الثاقب: فما قبله واصطفاه فهو وافٍ، وما مجّه ونفاه فهو ناقص. والعّلة في قبول الفهم الثاقب للشّعر الحسن الذي يرد عليه ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله وتكرهه لما ينفيه أنّ كلّ حاسّة من حواسّ البدن إنما تقبل ما يختصّ بها ويتصل بها ممّا طبعت له إذا كان وروده عليها وروداً لطيفاً باعتدال لا جور فيه وموافقةٍ لا مضادة معها. فالعين تألف المرأى الحسن الأنيق، وتقذى بالمرأى القبيح الكريه؛ والأنف يقبل المشمّ الطّيب ويتأذى بالمنتن الخبيث؛ والفم يتلذّذ بالمذاق الحلو ويمجّ البشع المّر؛ والأذن تتشوّف للصّوت الخفيض السّاكن وتتأذى بالجهير الهائل؛ واليد تنعم باللّمس اللّين وتتأذى بالخشن المؤذي؛ والفهم يأنس من الكلام العدل الصواب الحق الجائز المعروف ويتشوّف إليه ويتجلّى له ويستوحش من الكلام الجائر الخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر وينفر منه ويصدأ له. فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً مصفّىً من كدر العيّ، مقوّماً من أود الخطأ واللّحن، سالماً من جور التأليف، موزوناً بميزان الصّواب لفظاً ومعنىً وتركيباً، اتسعت طرقه ولطفت موالجه، فقبله الفهم وارتاح له وأنس به، وإذا ورد عليه ضدّ هذه الصّفة وكان باطلاً محالاً مجهولاً، انسدّت طرقه، ونفاه الفهم، واستوحش عند حسّه، وصدئ له، وتأذّى به كتأذّي سائر الحواسّ بما يخالفها على ما شرحناه. وعلّة كلّ حسن مقبولٍ الاعتدال، كما أنّ علّة كلّ قبيح منفيّ الاضطراب، والنفس تسكن إلى كلّ ما وافق هواها، وتقلق ممّا خالفه، ولها أحوالٌ تتصرّف بها، فإذا ورد عليها في حالةٍ من حالاتها ما يوافقها اهتزّت له وحدثت لها أريحية وطرب وإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت.

وقال أيضاً: وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفةٌ عند الفهم لا تحدّ كيفيتها، كمواقع الطّعوم الطيّبة المركّبة الخفيّة التركيب اللذيذة المذاق، وكالأراييح الفائحة المختلفة الطّيب والنسيم، وكالنقوش الملونة التّقاسيم والأصباغ، وكالإيقاع المطرب المختلف التأليف، وكالملامس اللذيذة الشهية الحسن، فهي تلائمه إذا وردت عليه - أعني الأشعار الحسنة على الفهم - فيلذّها ويقبلها ويرشفها كارتشاف الصّديان للبارد الزّلال، لأنّ الحكمة غذاء الرّوح، فأنجع الأغذية ألطفها.
وقال: قال بعض الفلاسفة: إنّ للنفس كلمات روحانية من جنسّ ذاتها، وجعل ذلك برهاناً على نفع الرّقى ونجوعها فيما تستعمل له، فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللّفظ، التامّ البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم وكان أنفذ من نفث السحر وأخفى دبيباً من الرقى وأشد إطراباً من الغناء، فسلّ السخائم، وحلّل العقد، وسخّى الشحيح، وشجّع الجبان. وكان كالخمر في لطف دبيبه وإلهائه، وهزّه ولذاذته. وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: " إنّ من البيان لسحراً " .
ولحسن الشعر وقبول الفهم إيّاه علةٌ أخرى وهي موافقته للحال التي يعدّ معناه لها، كالمدح في حال المفاخرة، وحضور من يكبت بإنشاده من الأعداء ويسر به من الأولياء، وكالهجاء في حال مباراة المهاجي والحطّ منه، حيث ينكي فيه استماعه له، وكالمراثي في حال جزع المصاب به، وكذكر مناقب المفقود عند تأبينه والتعزية عنه، وكالاعتذار والتنصّل من الذّنب عند سلّ سخيمة المجنيّ عليه المعتذر إليه، وكالتحريض على القتال عنه التقاء الأقران وطلب المغالبة، وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق واهتياج شوقه وخضوعه وحنينه إلى من يهواه. وإذا وافقت هذه المعاني هذا الخلال تضاعف حسن موقعها عند مستمعها لا سيما إذا أيّدت بما يجلب إلى القلوب من الصّدق عن ذات النفس، بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها.
والشعر هو ما إن عري من معنىً بديع لم يعر من حسن الديباجة، وما خالف هذا فليس بشعر. ومن أحسن المعاني والحكايات في الشعر وأشدّها استفزازاً لمن يسمعها الابتداء بذكر ما يعلم السامع له إلى أي معنى يساق القول فيه قبل استتمامه، وقبل توسّط العبارة عنه والتعريض الخفيّ الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه. فموقع هذين عند الفهم كموقع البشرى عند صاحبها لثقة الفهم بحلاوة ما يرد عليها من معناهما انقضى كلامه.
قد دلّ هذا الرجل على مواضع لطيفة واستحقّ المديح بحسب الإصابة.
سأل أبو فرعون رجلاً فمنعه وألح عليه فأعطاه فقال: اللهم اخزنا وإياهم، نسألهم إلحافاً ويعطوننا كرهاً، فلا يبارك الله لنا ولا يأجرهم عليه.
كان عبد الله بن الزبير إذا صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه وخطب الناس وأخذ في سورة الأنعام وقال: إنما يكفيني من الدنيا اليسير، إنما بطني شبر؛ فلما مات أصابوا في خزانته خمسة آلاف طليسان، فقال فيه الشاعر: البسيط
لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد ... أفضلت فضلاً كثيراً للمساكين
لكنّ بطنك باعٌ ليس يشبعه ... خرج العراق ولا مال الدّهاقين
ما زال في سورة الأنعام يدرسها ... حتى فؤادي مثل الخزّ في اللّين
إمّا تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم نبك منك على دنيا ولا دين
هذا من غرائب ما يروى، وهو كالسرّ من أسرار هذا الخلق، ولئن كان حقاً فما ينقضي العجب من قومٍ هذا حديثهم وذاك كلامهم.
دعا أعرابيٌّ فقال: ثبّت الله ودّكم، وأغزر رفدكم، وأمّن وفدكم، وأعلى جدّكم، وجمّل أمركم.
قيل لابن جريج: كم صيفكم بمكّة؟ قال: ثلاثة عشر شهراً.
سأل رجل الشعبيّ عن أكل الذباب فقال: إن اشتهيت فكله.
وسأل آخر الشعبي عن أكل لحم الشيطان فقال: ويحك ويدعك الشيطان تأكل لحمه؟ ارض منه بالكفاف! قال أعرابي: من ولد في الفقر أبطره الغنى، ومن ولد في الغنى لم تزده النعمة إلا تواضعاً.

كان أحمد بن يوسف وناس يختلفون إلى باب المأمون، فقال البّواب يوماً: يا هؤلاء، كم تقفون ها هنا؟ اختاروا واحدةٌ من ثلاث: إما أن ميزتم لوقوفكم ناحيةً من الباب، وإما نزلتم فجلستم في المسجد حتى يدعى بكم، قالوا: والخصلة الثالثة؟ فما تهيأ له، فقال: جئتمونا بكلام الزنادقة؟! فدخل أحمد فحدث المأمون فضحك وأمر للبواب بألف درهم وقال: لولا أنها نادرة جهلٍ لاستحقّ بها أكثر من ذلك.
قال القاسم بن محمد: كانوا يستحبّون استقبال المصائب بالتجمّل، ومواجهة النّعم بالتذلّل.
سمع ابن خلف الهمذاني قوماً يذكرون الموت فقال: لو لم يكن في الموت إّلا أنك لا تقدر أن تنفّس لكفى. هكذا حدثنا أبو نصر الأنماطي الهمذاني.
وعد يحيى بن خالد رجلاً مراراً ولم يف، فرفع إليه رقعة فيها: البسيط
البرمكّيون لا يوفون ما وعدوا ... والبرمكيّات لا يخلفن ميعاداً
فلما قرأها اغتمّ وقال: وددت أني افتديت هذا البيت ما أملك؛ وهرب الرجل.
كان لشيرين مولى بكرم عليها، فسألها مسألة الملك ترفيهه أياماً، فقالت له في أمره فقال: ما كنت لأنقض عهدي مع فلان، قالت: فأنا أسأله ذلك، قال: أنت وذاك، ولا أرى لك، فإنه سفيهٌ ولا آمنه، فأبت، فأذن لها، فكتبت إلى الرجل تسأله ترفيهه، فكتب إليها: إني وإياك تولّينا للملك عملين يجب علينا تنظيفهما، فمتى وقع فيهما شفاعةٌ وقع التقصير، وقد وليت أمر الخراج واستنظافه، ووليت أمر حرك وتنظيفه؛ فإن كنت مشفّعةً في التقصير في عملك أحداً أعلمتني لأشفّعك فيما سألت، وأنا متوقّع ما يرد به كتابك فأعمل بحسبه؛ فكتمت الكتاب، وسأل أنوشروان فأنكرت الكتاب والجواب.
قال أبو الأسود رحمه الله: العمامة خير ملبوس: جنّةٌ في الحرب، ووقايةٌ من الأحداث، ومكنّة من الحرّ، ومدفأة في البرد، ووقارٌ في النّديّ، وزيادة في القامة، وهي تعدّ من تيجان العرب.
شاعر: الوافر
إذا لبسوا عمائمهم ثنوها ... على كرمٍ وإن سفروا أناروا
يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطّعان هم تجار
إذا ما كنت جار بني خريم ... فأنت لأكرم الثّقلين جار
قال فيلسوف: ليس سرور النفس بالمال، ولكن بالآمال.
ويقال: نقل المسرور عن سروره أسهل من نقل المهموم من همومه.
اختلف أصحاب السّهمي أيما أبرّ: الوالد أم الولد إذا اجتمعا في البرّ وتساويا فيه فقالوا: إن الوالد أبرّ، لأنّ برّ الوالد طبيعةٌ، وبرّ الولد فرضٌ، والفرض ثقيل.
لما مرض حميد الطّوسي مرضه الذي مات فيه، ذهب ليقبض إحدى رجليه فلم يقدر فقال: خرينا والله.
ختن صبيّ من آل جميل، وحضر محمد بن جميل فقال للحجّام: ارفق بالصبيّ فإنه أول مرة ختنّاه، فضحك منه.
شاعر: الطويل
فإن تكن الأيام قيدن مطلقاً ... وأطلقن من عقد الحبال أخا أسر
فما زالت الأيام تستدرج الفتى ... وتختله من حيث يدري والا يدري
شاعر: المنسرح
أحسن من منزلْ بذي قار ... منزل خمّارةٍ وخمّار
وشرب كرخيّةٍ معتّقةٍ ... أحسن من أينقٍ وأكوار
وشمّ تفاحةٍ ونرجسةٍ ... أحسن من دمنةٍ وآثار
وقبلةٌ لا تزال تخلسها ... من رشإ عاقد لزنار
أحسن من مهمهٍ أضلّ به ... ومن سرابٍ هناك غرّار
وضرب عودٍ إذا ترجّعه ... بنان رود الشّباب معطار
أحسن عندي من أمّ ناجيةٍ ... وأمّ هندٍ وأمّ عمّار
دخل ابن خلف الهمذاني إلى رجل يعزّيه فقال: عظّم الله مصيبتك وأعان أخاك على ما يرد عليه من يأجوج ومأجوج؛ فضحك من حضر فقال: لم تضحكون؟ إنما أردت هاروت وماروت! نقلت من خطّ أبي سعيد السيّرافي - وكان شيخ زمانه ثقةً ومعرفةً وديناً وفضلاً، ومات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة - : دخل عبد الرحمن بن أمّ الحكم على معاوية فقال: بلغني أنّك قد لهجت بقول الشعر، قال: هو ذاك، قال: فإياك والمدح فإنه طعمة الوقاح من الرجال، وإياك والهجاء فإنك تحنق به كريماً، وتستثير به لئيماً، وإياك والتشبيب بالنساء فإنّك تفضح الشريفة، وتعرّ العفيفة، وتقّر على نفسك بالفضيحة؛ ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأشعار ما تزيّن به نفسك، وتؤدّب به غيرك.

دخل محمد بن الحنفيّة رضوان الله عليه على عبد الملك بن مروان، فلما أراد أن يقوم وضع يده على فخذه فقال: ما هذا؟ فقال: أردت أن أمسّك لتمسّني منك رحمٌ؛ فأمر له بعشرة آلاف دينار.
دخل أيّوب بن جعفر بن سليمان على المأمون، فقال له في بعض خطابه: أنا والله يا أمير المؤمنين أودّك مودةً حرّة، وأبغض أعداك بغضةً مرّة، وأشكرك شكر من لم يعرف الإنعام بعد خالقه إّلا منك، ولا التفضّل من سواك؛ فقال المأمون: إنّك لتقول فتحسن، وتغيب فتؤتمن، وتحضر فتزيّن.
قال بزرجمهر: العاقل لا يجزع من جفاء الولاة وتقدمة الجاهل عليه، لأنّ الأقسام لم توضع على قدر الأحلام.
وشتم رجلٌ عمر بن عبد العزيز فقال: لولا يوم القيامة لأجبتك.فقال الحكماء:المسيء ميت وإن كان في منازل الأحياء والمحسن حي وإن كان في منازل الأموات قال الفضل بن يحيى: الصبر على أخٍ تعتب عليه خيرٌ من صديقٍ تستأنف مودته.
كان أبو سفيان إذا نزل به مستجيرٌ قال: يا هذا، إنك اخترتني جاراً واخترت داري داراً، فجناية يدك عليّ دونك، وإن جنت عليك يدٌ فاحتكم حكم الصبيّ على أهله.
كان على عهد كسرى رجلٌ يقول: من يشتري ثلاث كلماتٍ بألف دينار؟ فتطّير منه، إلى أن اتّصل قوله بكسرى، فأحضره وسأله عنها فقال: حتى يحضر المال، فأحضر، وقال له: قل، فقال: الواحدة: ليس في الناس كلّهم خيرٌ، فقال كسرى: هذا صحيح، ثم ماذا؟ قال: ولا بدّ منهم، فقال: صدقت، ثم ماذا؟ قال: فألبسهم على قدر ذلك، فقال كسرى: قد استوجبت المال فخذه؛ قال: لا حاجة لي فيه، قال: فلم طلبته؟ قال: أردت أن أرى من يشتري الحكمة بالمال؛ فاجتهد به كسرى في قبض المال، فأبى.
قال: كان يونس يقول: لا يحتمل الفقر إّلا بإيمانٍ صلب.
لما افتتحت بلخ في زمن عمر، وجد على بابها صخرةٌ مكتوبٌ عليها: إنما يبين الفقير من الغنيّ عند الانصراف من بين يدي الله عزّ وجلّ بعد العرض.
دخل عطيّة بن عبد الرحمن الثّعلبي على مروان بن محمد، فلما صار على طرف البساط تكلّم، فملأه سروراً، ثم قال: ايذن لي يا أمير المؤمنين أقبّل يدك، فقال له مروان: قد عرف أمير المؤمنين مكانك في قومك وفضلك في نفسك، والقبلة من المسلم ذلّة، ومن الكافر خدعة، ولا حاجة بك إلى أن تذلّ أو تخدع، وأنت الأثير عندنا على كلً حالٍ الخاء من خدعة كانت مضمونة من شكل بخط السيراني وفتحها لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمها جائز.
جاءت امرأةٌ من عبس إلى أمير المؤمنين فقالت وهو على المنبر: يا أمير المؤمنين، ثلاثٌ بلبلن القلوب، قال: وما مات هي؟ قالت: رضاك بالقضيّة، وأخذك بالدنيّة، وجزعك عند البليّة، فقال لها: ويحك، إنما أنت امرأةٌ، فامضي واجلسي على ذيلك ودعي ما لست منه ولا هو منك! فقالت: لا والله، ما من جلوسٍ إّلا في ظلال السّيوف! كتب رجلٌ إلى صديق له: أما بعد، فإن كان إخوان الثّقة كثيراً فأنت أوّلهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحداُ فأنت هو.
قال عثمان لعامر بن عبد قيس العنبري - وكان ظاهر الأعرابية - : يا عامر، أين ربّك؟ قال: بالمرصاد؛ وقال: ما الخير؟ قال خير " كتب ربّكم على نفسه الرّحمة " .
قال عمرو بن العاص لما قتل عمّار بن ياسر رحمه الله: إنما قتله من ألقاه على ظباة سيوفنا وأسنّة رماحنا. فبلغ ذلك علياً عليه السلام فقال: ورسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم إذن قاتل عمّه حمزة إذ أتى به إليكم يوم أحد فقتلتموه، وكذلك كلّ من استشهد معه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
قال عمر بن عبد العزيز: ما شيءٌ كنت أحبّ علمه إّلا علمته، إّلا أشياء كنت أستصغرها فلا أسأل عنها، فبقي جهلها.
كان يحيى بن خالد يجري على سفيان الثوري كلّ شهرٍ ألف درهم، فسمع يحيى سفيان يقول في سجوده: اللهم، إنّ يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته، فلما مات يحيى رآه بعض إخوانه في منامه فقال له: ما صنع الله بك؟ فقال: غفر لي بدعوة سفيان.
دخل يوسف بن يعقوب على الرّشيد فقال: ممّن أنت؟ فقال: خراساني الآباء، بغدادي المنشأ، هاشميّ الولاء.
كان ابن داود يقول: لله درّ البرامكة، عرفوا تقلّب الزمان فبادروا بالفعل الجميل قبل العوائق.
وقف رجلٌ على قبر بعض الجبابرة فقال: أيها الجبّار، كم نفسٍ قتلتها طالباً للراحة منها أصبحت اليوم وهي أكثر شغلك.
أنشد: الطويل

إذا فاخرتنا من معدٍّ قبيلةٌ ... فخرنا عليهم بالأغرّ ابن حاتم
يجرّ رياط الحمد في دار قومه ... ويختال في عرض من الذمّ سالم
لما عقد معاوية لعمروٍ على مصر، جعل وردان مولاه يضع عقبه على عقب عمروٍ ولا يعلم ما أراد بذلك؛ فلما خرج سأله فقال: أردت أن تستدعي منه ما يبقى لعقبك من بعدك.
الصبر صبران: صبر فريضةٍ وصبر نافلةٍ؛ فالفريضة تركك الحرام لخشية الله، والنافلة تركك الحلال للرغبة فيما عند الله.
قيل لابن عيينة: من أفقر الناس؟ قال: ليس أحدٌ دون أحد؛ قال الله عزّ وجلّ " يا أيّها النّاس أنتم الفقراء إلى الله " .
أم الحباب بنت غالب الكلابية: الطويل
تذكّرتك إذ جيٌّ بحرّ بلادها ... وإذ أهل جيٍّ بالسّيال كثير
إذا فزعوا طاروا إلى كل شطبة ... تكاد إذا صلّ اللّجام تطير
وزغفٍ مثنّاة دلاصٍ كأنّها ... إذا أشرجت فوق الكميّ غدير
سمع رجلٌ موسى بن جعفر عليهما السلام يقول في سجوده آخر الليل: أي رب، عظم الذّنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك.
وأنشدت: الهزج
أنا ابن الليل والخيل ... فنزّالٌ ورحّال
وللأموال بذّال ... وللأقران قتّال
نماني السيف والرمح ... فنعم العم والخال
فما تخفضني حالٌ ... ولا ترفعني حال
قيل لبعض الحكماء: لم صار الجواب منصوراً؟ قال: لأنّ الابتداء بغيٌ.
كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام يسأله عن القرآن وما يقول فيه، فكتب إليه عبد الله: عافانا الله وإياك من كلّ فتنة، فإن يفعل فأعظم بها منّة، وإن لم يفعل فهي كالهلكة. نحن نرى الكلام في القرآن بدعةً اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، ولا خالق إّلا الله عزّ وجلّ، وما دون الله تعالى فهو مخلوق، والقرآن كلام الله تعالى، فانته بنفسك والمخالفين إلى أسمائه التي سمّاه الله عزّ وجلّ بها تكن من المهتدين، ولا تسمّ القرآن باسمٍ من عندك فتكون من الضالّين، " وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون " ، جعلنا الله وإياك من " الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من السّاعة مشفقون " .
قال أبو العباس: لمّا علم الله تعالى أنّ أعمال العباد لا تفي بذنوبهم، خلق العلل والأمراض ليكفّر عنهم بها السيّئات.
قال الموبذ بحضرة المأمون: ما أحسنت إلى أحدٍ ولا أسأت، فقال المأمون: وكيف ذلك؟ قال: لأني إن أحسنت فإلى نفسي، وإن أسأت فإليها؛ فلما نهض قال المأمون: أيلومني الناس على حبّ من هذا عقله؟ سخط الرشيد على حميد الطّوسي، فدعا له بالسيف والنّطع، فلما رآه بكى، قفال له: ما يبكيك؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت لأنّه لا بدّ لي منه، وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأنت ساخطٌ عليّ، فضحك وقال: البسيط
إنّ الكريم إذا خادعته انخدعا
قيل الرجل:لم تركت السلطان أحوج ما كنت إليهم محتاجاً فال يغنيني عنهم الذي تركتهم له أنشد: البسيط
نبّهت زيداً فلم أفزع إلى وكلٍ ... رثّ السلاح ولا في الحيّ مغمور
سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره بوجوهٍ كالدنانير
وقّع المنصور: قد أمنّت كلّ مذنب، وشكرت كل بريّ، وجبرت كلّ وليّ.
أنشدت: الطويل
يدي جرحتني أخطأت أم تعمّدت ... فهل لي عن صبرٍ على ذاك من بدّ
ولو غير جلدي رابني لحزرته ... وكنت به طبًّا ولكنّه جلدي
قال أبو يعقوب الأزدي لبعض الولاة: إنّ الناس يتوسّلون إليك بغيرك فينالون معروفك، وإني أتوسّل إليك بك ليكون شكري لك لا لغيرك.
قال عبد الله بن العباس لأمير المؤمنين عليه السلام: اجعلني مع عمرو بن العاص، فلعمري لأعقدنّ له حبلاً لا ينقطع وسطه، ولا ينتهي طرفه، فقال له عليّ عليه السلام: لست من مكره ومن مكر معاوية في شيء، فقال: والله لا تزال حتى يغلب حقّك بالباطل.

لما دخل حذيفة المدائن خطب فحمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم ثم قال: " إن الدنيا دار هدنة ومنزل قلعة، والسّير بكم إلى دار المقامة، فأعدّوا الجهاد لبعد المفازة " .
كان رجلٌ من أهل اليمامة يهوى ابنة عمٍّ له، فبلغه أنها استبدلت بدلاً فقال: الطويل
وقال أناسٌ إنّ ليلى تبدّلت ... فقلت: فإني ناظرٌ من قرينها
فإن يك ذا فضلٍ عليّ عذرتها ... وكانت للبلى بيعةٌ لا تشينها
وإن كان من أوباش من تجمع القرى ... أقل: تعست ليلى فشلّت يمينها
كتب معاوية إلى مروان: ابعث إليّ بالمنبر واقلعه؛ فأصاب الناس ريحٌ مظلمةٌ حتى ظهرت الكواكب نهاراً ثم انجلت، فقال مروان: إنكم تزعمون إنّ أمير المؤمنين أمرني بقلع منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وحمله إليه؟! أمير المؤمنين أعلم بالله عزّ وجلّ، إنما برفعه عن الأرض، ثم عمل عليه ستّ درجات، فما زاد أحدٌ بعده.
ومن كلام الخلفاء: اللسان خادم الفؤاد.
ومن جيّد صفات السيوف: الكامل
إنّي لبست لحربكم فضفاضةً ... كالنهي رقرقه هبوب شمال
ومهنّداً كالبرق ليس لحدّه ... عهدٌ بتمويهٍ ولا بصقال
ترضيك هزّته إذا ما شمته ... وتقول حين تراه: لمعة آل
مكتوب في الإنجيل: الحجر الواحد المغصوب في الحائط عربون الخراب.
عيسى بن عقبة: الوافر
بكينا يوم فرقة آل حزوى ... فلاقت مثل فرقتنا الرّكاب
إذا خطراتها خطرت علينا ... ظللنا لا يسوغ لنا شراب
قال ابن الزيّات الوزير: لا يتصوّر لك التّواني بصورة التوكّل فتخلد إليه وتضيع الحزم، فإنّ الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله أمر بذلك؛ قال الله عز وجلّ " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله " ، فجعل التوكّل بعد العزم، والمشورة قبله، وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم لصاحب الناقة: " اعقلها وتوكّل " .
الآمال مصائد الآجال، تطول ولا تتطاول.
توقّي الصّرعة أسهل من طلب الرّجعة.
أيدي العقول تمسك أعنّة الأنفس.
الجاهل صغيرٌ وإن كان كبيراً.
الكبر ذلٌ لمن تعزّز به.
وأنشد: الطويل
وكم باب رزقٍ قد فتحت بصارمٍ ... حسامٍ ولم يغلق عن الضّيف بالعذر
وما أخذت كفّي بقائم نصله ... فحدّثت نفسي بانهزامٍ ولا فقر
وأنشد: الطويل
سقى ورعى الله الأوانس كالدّمى ... إذا قمن جنح الليل منبهرات
إذا مسن قدّام البيوت عشيّةً ... قطاف الخطا يرفلن في الحبرات
ذهبن بحبّات القلوب فأقبلت ... إليهنّ بالأهواء مبتدرات
لقي يحيى عيسى صلّى الله عليهما فتبسّم يحيى، فقال له عيسى: إنك لتبتسم ابتسام آمنٍ، فقال له يحيى: إنك لتعبس عبوس قانطٍ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى عيسى: الذي يصنع يحيى أحبّ إليّ.
خطب عبد الملك بن مروان، فلما انتهى إلى موضع العظة من خطبته قام إليه رجل من آل صوحان فقال: مهلاً مهلاً، إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتّعظون، أفنقتدي بسيركم في أنفسكم، أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم: اقتدوا بسيرتنا فأنّى وكيف، وما الحجّة، وأين النصر من الله عزّ وجلّ في الاقتداء بسيرة الظّلمة الخونة الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً؟ وإن قلتم: أطيعوا أمرنا، واقبلوا نصيحتنا، فكيف ينصح غيره من يغشّ نفسه؟ وكيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته؟ وإن قلتم: خذوا الحكمة حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممن سمعتموها، فعلام قلّدناكم أزمّة أمورنا، وحكّمناكم في دمائنا وأموالنا وأدياننا؟ وما تعلمون أنّ فينا من هو أفصح بصنوف اللغات، وأعرف بوجوه الكلام منكم، فتحلحلوا لهم عنها، وإّلا فأطلقوا عقالها، وخلّوا سبيلها، يبتدر إليها من شردتموهم في البلاد، وقتلتموهم في كلّ واد؛ وأما لئن ثبتت في أيديكم لاستيفاء المدة، وبلوغ الغاية، وعظم المحنة، إنّ لكلّ قائمٍ يوماً لا يعدوه، وكتاباً يتلوه " لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إّلا أحصاها " " وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون " . هكذا وجدت بخطّ السيرافي، وما رأيت له إسناداً.

ولقد ملكني العجب بهذا الكلام، فإني ما سمعت أحسن موقعاً منه. والذي يزيد في التعجب قيام هذا الرجل إلى ذلك العفريت بهذا الكلام الذي ينفذ منفذ السهم ويعمل عمل السمّ، سبحان الله ما كان أبلّ ريقه، وأجلح وجهه، وأقوى منته، وأصدق نيّته، وأقتل مرّته؛ وما تكاد ترى مثل هذا في زمانك، أي والله ولا من دونه ولا من يحكي هذا القول بعينه. لقد خسّ حظّ الأديب، وخوى نجم الأدب، وانثلم ركن الدين، وخاس عهد المسلمين، وأصبح أهل زمانك أتباع مرغوب إليه ومرهوب منه.
ومن إنشادات إسحاق بن إبراهيم: الكامل
إنّا إليك مع الذّميل رمت بنا ... قلصٌ لها تحت الرّكاب عرام
يحملننا ومدائحاً من لؤلؤٍ ... لو كان من درٍّ يكون كلام
الصّمة القشيري: الطويل
ولمّا رأينا سبخة الرمل أعرضت ... ولاحت لنا حزوى وأعلامها الغبر
شربنا سجال الشوق حتى كأنما ... جرت فاستقرت في مفاصلنا الخمر
يظلّ لعينيك اللجوجين واكفٌ ... من الدّمع أّلا ينطق الطّلل القفر
علام تقول الهجر يشفي من الجوى ... ألا لا ولكن أوّل الكمد الهجر
أنشد: الطويل
ولمّا رأت هند أنابيب رأسه ... كأنّ بجبينها هشيم حماط
بكت عين هندٍ عن بياضٍ وتحته ... رياطٌ من الأحساب أيّ رياط
شاعر: البسيط
ما كان في الأرض إّلا اثنان قد علما ... معنٌ وذو هيدب دانٍ له درر
يحيي البهائم هذا وهي راتعةٌ ... وكان معنٌ حياً للجود ينتظر
فأضحت الأرض قد ولّت غضارتها ... فليس جودٌ ولا معنٌ ولا مطر
انشد: الطويل
وقد كنت أرجو منكم خير ناصرٍ ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن انتم لم تحفظوا لمودّتي ... ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها
عشق مدنيٌّ امرأةً، وكان سميناً، فقالت له: تزعم انك تهواني وقد ذهبت طولاً وعرضاً، فقال: إنما سمنت من فرط الحبّ، لأني آكل ولا أشعر، وأشبع ولا أعلم.
يقال: كلّ شيءٍ إذا كثر رخص إّلا العقل، فإنه إذا كثر غلا هذا من جيد الكلام؛ هكذا كان بخط أبي سعيد فنقلته على هيئته.
أنشد: الكامل
ناهضت بالحسن عمران الندى ... فتنبّهت لرجائه آمالي
سكناته عدةٌ وفي نطقاته ... تفريق جمع خزائن الأموال
وإذا استجرت أجار عدمك ماله ... من صولة الحدثان والإقلال
وجه الواثق رجلاً إلى رجلٍ يعرف مقدار عقله، فمضى وعاد، فسأله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، دخلت على رجلٍ في حصنٍ من عقله.
قال موبذ: مات بعض الأكاسرة، فوجدوا له سفطاً، ففتح فإذا فيه حبّة رمّانٍ كأكبر ما يكون من النّوى، ومعها رقعةٌ فيها مكتوب: هذا حبّ زمّنٍ عمل في خراجه بالعدل.
تعزّ عن الشيء إذا منعته لقلّة ما يصحبك إذا أعطيته، وما خفّف الحساب وقلله خيرٌ مما كثّره وثقّله.
قال زياد لابنه: عليك بالحجاب، فإنّما تجرّأت الرّعاة على السّباع بكثرة نظرها إليها؛ وهذا يخالف ما روي عن سعيد بن المسيّب أنه قال: نعم الرجل عمر بن عبد العزيز لولا حجابه، إن داود ابتلي بالخطإ لحجابه.
في قوله: " فاصفح الصّفح الجميل " ، قال: الرّضا بلا عتاب، وفي قوله: " فاصبر صبراً جميلاً " ، وقال: صبراً لا شكوى معه.
حجّ أبو دلف القاسم بن عيسى، فامتدحه شاعر فقال: أحسنت، فقال الرجل: إن القاضي إذا أسجل عجّل، فقال أبو دلف: إيت الكرج فقال: أخاف العرج؛ فأمر له بخمسين ألف درهم.
" لينذر من كان حياً " قال: من كان عاقلاً.
بعضهم: الدنيا تضرّ بمقدار ما نفعت، وتفجع بمقدار ما متّعت، وتغصّ بمقدار ما أساغت، وتسيء بمقدار ما أحسنت.
قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام: المستدين تاجر الله في أرضه.
خالد الكاتب: المتقارب
مثالٌ من المسك والعنبر ... سباني بطرفٍ له أحور
وكم ذقت من ريقه خمرةً ... جرت بين سمطين من جوهر
سمع يحيى بن معاذ الرازي يقول: لولا ثلاث تثقل المؤمن لهام سروراً؛ قيل له: وما هي؟ قال: ألم المصائب، وتذكّره الذنوب، وشغله بطلب المعاش.
ومن كلامه: الحكمة عروس العلم.

يحيى بن معاذ: عامل الله بالإخلاص، والناس بالمداراة، والنفس بالزّراية عليها.
قال عمر بن الخطاب: إذا رأيناكم كان أحسنكم جهرةً أقربكم من قلوبنا، فإذا كلّمناكم كان أحسنكم بياناً أزلفكم عندنا، وإذا خبرناكم كانت الخبرة من وراء ذلك.
قال عبد الملك بن عمير - وأومأ بيده إلى قصر الإمارة بالكوفة - : دخلت هذا القصر فرأيت عجباً؛ رأيت عبيد الله بن زياد جالساً على سريره وبين يديه ترسٌ فيه رأس الحسين بن علي عليهما السلام ولعن قاتلهما، ثم دخلت هذا القصر فرأيت المختار جالساً على السّرير وبين يديه ترسٌ فيه رأس عبيد الله بن زياد، ثم دخلت هذا القصر فرأيت مصعب بن الزبير بن العوّام وهو جالسّ على السّرير وبي يديه ترسّ فيه رأس المختار، ثم دخلت القصر فرأيت عبد الملك بن مروان جالساً على السرير وبين يديه ترسٌ فيه رأس مصعب.
هكذا وجدت بخطّ السيّرافي، والخبر مشهور، إلا أنني أنست بخطّه.
قال جعفر بن محمد عليهما السّلام: كان أبي لا يتّخذ السّلاح في بيته ويقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " من اتخذ شيئاً احتاج إليه، وأنا لا أحبّ أن أحتاج إلى السّلاح " .
حثّ رجلٌ رجلاً على الأكل من الطعّام فقال: عليك تقريب الطعام، وعلينا تأديب الأجسام.
لمّا أتي الحجّاج بكميل بن زيادٍ وابن ضابئ قال لبعض الحرس: اضرب عنقه، فقال الحرسي: ولي أجره؟ فغضب الحجّاج وقال: إذا قلنا إن الله تعالى ساق إلينا أجراً نتفرّد به سألنا أحدهم أن يشركنا فيه؛ اضرب عنقه، ولك ثلث أجره ولي ثلثاه.
قيل لابن الدكين: ما الدليل على أنّ المشتري سعدٌ؟ قال: حسنه.
مات الهادي وولي الرشيد وولد المأمون في ليلةٍ واحدة.
كان مسلم اليتيم جميلاً فقيل له: ما منعك من مراسلة النساء الحسان مع جمالك ورغبتهنّ في أمثالك، فقال: عفةٌ طباعية، وغيرةٌ إسلامية، وكرمٌ موروث، ومعرفةٌ بقبح العار.
وجّه أبو مسلم قحطبة بن شبيب الطائي يحارب يزيد بن عمر ابن هبيرة - وكان عامل مروان على العراقين - فغرق قحطبة وانهزم يزيد بن عمر، فكتب إلى مروان بالخبر، فقال مروان: هذا والله الإدبار، وإلا فهل سمعتم بميتٍ هزم حياً؟! كانت حربهما فيما أظنّ بالفلج، كذا كان بخطّ السّيرافي.
قام رجلٌ لبعض الولاة فقال له: لم قمت؟ قال: لأجلس فوّلاه.
شاعر: المتقارب
هم القوم إن نابهم حادثٌ ... من الدّهر في شدّةٍ يصبروا
وإن نعمةٌ مسّهم بردها ... مشوا قاصدين ولم يبطروا
خضارمةٌ عسرهم كالغنى ... وهم كالرّبيع إذا أيسروا
سعى للمكارم آباؤهم ... وكانوا بينهم فما قصّروا
آخر: الطويل
تودّعني والدّمع يجري كأنّه ... لآل وهت من سلكها تتحدّر
وتسألني هل أنت بي متبدّلٌ ... فقلت: نعم سقماً إلى يوم أحشر
فقالت: تصبّر لا تمت بي صبابةً ... فقلت لها: هيهات مات التصبّر
قيل لعبد الملك بن مروان: متى ولدت؟ قال عند معترك المنايا، يريد: أيام الشّورى.
قال أنس بن مالك: كنت عند الحسين عليه السلام، فدخلت عليه جاريةٌ بيدها ريحانٌ فحيّته بها فقال بها: أنت حرّةٌ لوجه الله فقلت له: تحييك جارية بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ فقال: كذا أدّبنا الله تعالى قال الله عزّ وجلّ " وإذا حييتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها " وكان أحسن منها عتقها.
وقّع هارون إلى عامله بالكوفة: حاب علية الناس في كلامهم، وسوّ بينهم وبين السّفلة في أحكامك.
قدم بريدٌ من الشام على عمر بن عبد العزيز فقال له عمر: كيف تركت الشام؟ فقال: تركت ظالمهم مقهوراً، ومظلومهم منصوراً، وغنيّهم موفوراً، وفقيرهم محبورا؛ فقال عم: الله أكبر، والله لو كانت لا تتمّ خصلةٌ من هذه إّلا بفقد عضوٍ من أعضائي لكان ذلك عليّ يسيراً.
شاعر: البسيط
لا تعرف الناس أعلاهم وأسفلهم ... وإن ظننت بهم خيراً وإن ظرفوا
حتّى تكلّفهم عند امتحانهم ... في الجاه والمال حاجات فينكشفوا
قيل لعمارة بن عقيل: ما أجود الشعر؟ قال: ما كان كثير العيون، أملس المتون، لا يمجّه السّمع، ولا يستأذن على القلب.
في قول الله تعالى " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم " قال: زاد في طول الثياب شبراً.

قال بعض الحكماء: يحسن الامتنان إذا وقع الكفران، ولولا أنّ بني إسرائيل كفروا النّعمة ما قال الله تعالى " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " .
قال الحجّاج على المنبر: يقول سليمان " ربّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي " إن كان لحسوداً.
دخل على المهديّ وفدٌ من خراسان، فقام إليه رجلٌ من أهل سمرقند فقال: أطال الله بقاء الأمير أمير المؤمنين، إنّا قومٌ نأينا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخطب، وأمير المؤمنين يعرف طاعتنا، وما فيه مصلحتنا، فيكتفي منا باليسير من الكثير، ويقتصر على ما في الضّمير دون التفسير، فقال له المهدي: أنت أخطب من سمعت.
يقال: من كانت فيه لله حاجةٌ لم تزل له إلى الله حاجة - هكذا كانت هذه اللفظة بخطّ السّيرافي ونقلتها كما وجدتها، وأنا أستجفي ما دونها، والمغزى فيها صحيح، وإن كانت العبارة نابيةً، ولولا أنّي وجدتها بخطّ هذا الرجل ما تجوّزت روايتها. على أنّ الله تعالى يتعالى عن جميع ما حوته الضّمائر، وصاغته الأوهام، وعنته الألسن، ونحته الإشارات، فليس يلحقه نقص الناقصين، ولا يكمل بكمال الكاملين.
قال عبد الملك بن مروان لزفر بن الحارث: ما ظنّك بي؟ قال: أنّك تقتلني، فقال: قد أكذب الله ظنّك، وقد عفوت عنك.
قال الحسن: من كانت الدنيا عنده وديعةً أدّاها إلى من ائتمنه عليها ثم راح إلى ربه مخفًّا؛ ما لي أراكم أخصب شيءٍ ألسنة وأجدبه قلوباً؟ قال عمر بن الخطاب: ليت شعري متى أشفي غيظي؛ أحين أقدر فيقال هلاّ غفرت، أم حين أعجز فيقال هلا صبرت!! قال عبيد الله بن يحيى لأبي العيناء: كيف الحال؟ قال: أنت الحال، فانظر كيف أنت لي؛ فأحسن صلته.
وأنشد: المنسرح
يا بدر ليلٍ توسّط الفلكا ... ذكرك في القلب حيثما سلكا
إن تك عن ناظري نأيت فقد ... تركت عقلي عليك مشتركا
أسلمت عيّني للسّهاد كما ... أسلم جفني عليك ما ملكا
ما كنت أرجو السّلوّ من سنن ال ... دّمعة إلا لشانئ فبكى
ولا بدا لي شيءٌ سررت به ... بعدك إلا نظرت لي ولكا
الخليل: الطويل
ألا أيها المهديّ غير مدافعٍ ... رجاؤك خيرٌ من عطاء سواكا
ففعلك موصولٌ بقولك كلّه ... وأطيب ما سمع العباد ثناكا
العرب تقول: الغنى طويل الذيل ميّاس.
ذكر عند سلام بن أبي مطيع الرجل تصيبه البلوى فتبطئ عنه الإجابة فقال: بلغني أن الله عزّ وجلّ يقول: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ شاعر: الكامل
إنّي لأدّرع الفلاة وما أرى ... شبحاً فيسنح ذكرها بحيالها
فأنص راحلتي بها وأهزها ... بعد اتصال كلالها بكلالها
وكأنّني والعيس تدّرع الفلا ... مصغٍ بأذنٍ لاستماع مقالها
فكأنّ طرفي حيث كنت وإن نأت ... دارٍ بها متعلّقٌ بمثالها
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه.
كتب الحجّاج إلى عبد الملك كتاباً يقول فيه: كنت أقرأ في المصحف فانتهيت إلى قوله تعالى " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّقين والشّهداء " فأردت ألحق به: والخلفاء قال: فجعل عبد الملك يقول: يا للحجاج ما أكفره وأجسره قاتله الله! قال إياس: كان لي أخٌ صغيرٌ فقال لي: من أي ّ شيء خلقنا؟ قلت: من طين، فتناول مدرةً فقال: من هذا؟ قلت: نعم منها خلق الله تعالى آدم، قال: أفيعيدنا الذي خلقنا كما كنّا؟ قلت: نعم، قال: لم؟ قلت: ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، قال: فينبغي أن نخافه إذن؟ قلت، أجل، فمات وهو صغير.
شاعر: الطويل
أناقش من ناجاك مقدار لحظةٍ ... ويعتاد نفسي إن نأيت حنينها
وإنّ وجوهاً يصطبحن بنظرةٍ ... إليك لمحسودٌ عليك عيونها
قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: أتفترّ عن واضحة، وقد كسبت الذنوب الفاضحة؟ شاعر: البسيط
موفقٌ لسبيل الرّشد متّبعٌ ... يزينه كلّ ما يأتي ويجتنب
له خلائقٌ بيضٌ لا يغيّرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذّهب

قال أمير المؤمنين عليه السلام: توقّ من إذا حدّثك كذبك، وإذا حدّثته كذّبك، وإذا ائتمنته خانك، وإذا ائتمنك اتهمك.
قطع على قومٍ بالبادية فكتب الحجاج إلى بني عمرو بن حنظلة: من الحجّاج بن يوسف إلى من بلغه كتابه: أمّا بعد، فإنكم أقوامٌ قد استحكمتم على هذه الفتنة، فلا على حقٍّ تقيمون، ولا على باطلٍ تمسكون، وإني أقسم بالله تعالى لتأتينّكم مني خيلٌ تدع أبناءكم يتامى ونساءكم أيامى، ألا وأيّما رفقةٍ مرّت بأهل ماءٍ فأهله ضامنون لها حتى تأتي الماء الآخر والسلام. فكانت الرفقة إذا وردت أهل الماء أخذوها حتى يؤدّوها إلى الماء الآخر.
نازع عبد الملك بن مروان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأربى عليه فقيل له: اشكه إلى عمّك معاوية لينتقم لك منه، فقال: مثلي لا يشكو، ولا يعدّ انتقام غيري لي انتقاماً. فلما استخلف قيل له في ذلك فقال: حقد السلطان عجزٌ.
قال بعضهم: من طالت لحيته تكوسج عقله.
قال أبو الدرداء: بئس المعين على الدّين، قلبٌ نخيب وبطن رغيب.
مما يستدلّ به على شرف الرجل أّلا يزال يحنّ إلى أوطانه، ويصبو إلى إخوانه، ويبكي على ما مضى من زمانه.
كتب رجلٌ إلى أخيه: أنا وإن كنت مستبطئاً لنفسي في مكاتبتك ومواصلتك فإنّي غير مستبطئ لها في العلم بفضلك والتوفّر على إخائك.
قال الأحنف: إنّ الرجل يعذر أّلا يصيب الحقّ، ولا يعذر إذا سمع الصواب أن لا يعرفه.
قال بعض الزّهّاد: أعداء الإنسان ثلاثة: نفسه في دينه، ودنياه، وشيطانه؛ فالاحتراس من النفس بقطع الشّهوة، ومن الشيطان بتعمّد المخالفة، ومن الدّنيا بالزّهد فيها.
شاعر: الكامل
يعطي على الغضب المشدّد والرّضى ... وعلى التّهلّل والعبوس الأربد
كالغيث يسقي العالمين بأبيضٍ ... من غيمه وبأحمرٍ وبأسود
آخر: مجزوء الوافر
له خلقان لم يدعا ... له مالاً ولا نشبا
سخاءٌ ليس يملكه ... وحلمٌ يملك الغضبا
وحلمٌ لم يكن ذلاًّ ... وجودٌ لم يكن لعبا
قيل لصوفيّ: ما علامة حقيقة التعبّد؟ قال: أن يقبل إذا أعطي ويرضى إذا منع.
ومن كلام يحيى بن معاذ: الاقتصاد في العيش ضيعةٌ لم تتكلّف منها؛ تمتّع القلوب في الدنيا غفلتها عن الآخرة؛ الزهد حلوٌ مرّ، أما حلاوته فاسمه والمذاكرة به، وأما مرارته فمعالجته.
كان بالبصرة أهل بيت يلقّبون الناس على الوجه، فخطب إليهم رجلٌ وقال: أتزوج إليكم على شريطة، فقالوا: وما هي؟ قال: على أن لا تلقّبوني وتدعوني رأساً برأس، قالوا: فتلقبّك رأساً برأس، فعرف بذلك اللقب.
قوله تعالى " فإذا جاءت الطّامّة الكبرى " أي إذا دفع إلى مالك؛ وقوله تعالى " فبصرك اليوم حديدٌ " قال إلى عين الميزان.
يقال: من أصبح لا يحتاج إلى حضور باب سلطانٍ لحاجة، أو طبيب لضّر، أو صديقٍ لمسألة، فقد عظمت عنده النّعمة.
قيل لبعض أهل البيت صلوات الله عليهم: أيّما خيرٌ للإنسان: الموت أو الحياة؟ قال: الموت، قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ الله عزّ وجلّ قال " وما عند الله خيرٌ للأبرار " فإن كان برّاً فالموت خير له، وقال في الفجار " ليزدادوا إثماً " فلان لا يزداد إثماً خيرٌ له.
يقال: الحاجات تطلب بالرّجاء وتدرك بالقضاء.
من كلامهم: كلّ مكسوب مسلوب.
دخل حاتم الأصمّ على عاصم بن يوسف فقال: يا حاتم، أتحسن أن تصلي؟ قال: نعم، قال: وممن تعلّمت الصّلاة؟ قال: من شقيق، قال: فكيف تعمل؟ قال: إذا حان وقت الصلاة أتوضأ وأدخل المسجد وأقوم فأرى الخالق عزّ وجلّ فوقي، والصّراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن يساري، وملك الموت وراء ظهري، والكعبة قبلتي، ومقام إبراهيم في قلبي، ثم أكبّر تكبيراً بالخوف، وأقرأ قراءةً بالترتيل، وأركع ركوعاً بالتّمام، وأسجد سجوداً بالتّواضع، وأتشهّد تشهّداً بالرّجاء، وأسلّم بالرحمة؛ فبكى عاصم وقال: يا حاتم، لم أصلّ هذه الصلاة منذ ثلاثين سنةً على هذه الطريقة.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم: عظني، قال: يكفيك من التوسّل إليه صدق التوكّل عليه.

قال المدائني: أوّل من قطع ألسن الناس عن الخطبة عبد الملك: خطب الناس فقام إليه رجل فقال عبد الملك: والله ما أنا بالخليفة المستضعف ولا الإمام المصانع، وإنكم تأمرونا بأشياء تنسونها من أنفسكم؛ والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إّلا أوردته تلفه.
لما تولّع زياد بشيعة أمير المؤمنين عليه السلام، قال الحسن: اللهم تفرّد بموته فإن القتل كفّأرة.
وقال يحيى بن أبي كثير في قول الله عزّ وجلّ " في روضةٍ يحبرون " قال: السمّاع.
قال ابن السمّاك: وجدت الدنيا كحلم نائم، وبرقٍ لامع، وفيءٍ زائل.
ثعلب: الكامل
غيثان مكروهان: غيثٌ سحابةٍ ... يمحو الرّسوم من الحبيب الظاعن
أو غيث عينٍ أسبلت عبراتها ... تبدي مصوناً من سرير صائن
هذا خرابٌ للدّيار وهذه ... فيها خراب محاجرٍ ومحاسن
لما استخلف المهدي أخرج من في السجون من أصحاب الجرائم فقيل له: إنما تزري على أبيك، فقال: أنا لا أزري علىأبي، وإنما أبي حبس بالذّنب وأنا أعفو عنه.
ولي رجلٌ أصبهان، فدخل عليه الناس يثنون ويقرّظون، فدخل في أخريات الناس رجلٌ فقال: قدمت خير مقدم، إن تحسن تجد عندنا شكراً، أو تسئ تجد عندنا غفراً، والثناء من بعد البلاء، والتزكية بعد الاختبار، والشهادة بالإحسان تقع بعد الامتحان؛ فقال الوالي: ما هذا رجل؛ هذا بلد! شاعر: الطويل
وعاذوا عياذاً بالفرار وقبلها ... أضاعوا بدار السّلم حرزاً ومعقلا
بني عمّنا أيقظتم الشرّ بيننا ... وكانت إليكم عدوة الشرّ أعجلا
ولما أشبّوا الحقد تحت صدورهم ... حسمناه عنّا قبل أن يتكهّلا
قدم قومٌ من بني أميّة على عبد الملك بن مروان فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن من تعرف، وحقّنا لا ينكر، جئناك من بعد نمتّ بقرابةٍ، فمهما تعطنا من خير فنحن أهله منك، كما أنّك أهل الشكر منّا. قال: فتطاول عبد الملك وقال: يا أهل الشام، هؤلاء قومي وهذا كلامهم.
أوّل كلام الحسن البصري أنه صلّى بأصحابه يوماً ثم انفتل إليهم وأقبل عليهم وقال: " أيّها الناس، إني أعظكم وأنا كثير الإسراف على نفسي، غير مصلحٍ لها، ولا حامل لها على المكروه من طاعة ربّها، قد بلوت نفسي في السّرّاء، فلم أجد لها تكبير شكرٍ عند الرّخاء، ولا كبير صبر عند البلاء، ولو أنّ الرجل لم يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل في الذي خلق له من طاعة ربّه، لقلّ الواعظون السامعون الدّاعون إلى الله بالحثّ على طاعته؛ ولكن في اجتماع الإخوان واستماع الحديث بعضهم من بعض حياةٌ للقلوب، وتذكيرٌ من النسيان. أيها الناس، إنما الدنيا دار من لا دار له، وبها يفرح من لا عقل له، فأنزلوها منزلتها " ؛ ثم أمسك.
كان من دعاء أمير المؤمنين عليه السّلام: اللهمّ لا تجعل الدنيا لي سجناً، ولا فراقها عليّ حزناً، أعوذ بك من دنيا تحرمني خير الآخرة، ومن أملٍ يحرمني خير العمل، ومن حياةٍ تحرمني خير الممات.
قال الحسن في قوله تعالى " وما نرسل بالآيات إّلا تخويفاً " قال: الموت الذّريع.
وقال رجلٌ لسليمان الشاذكوني: أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان، فقال له سليمان: إن كان ولا بدّ فعلى خراجها، فإنّ أخذ أموال الأغنياء أسهل من أكل أموال الأيتام.
سمع أبو سليمان الداراني يقول: إلهي وسيدي، إن طالبتني بشرّي طالبتك بتوحيدي، وإن طالبتني بذنوبي طالبتك بكرمك، وإن حبستني في النار أخبرت أهلها بمحبتي لك.
استأذن عبد الله بن عمر على الحجّاج ليلاً، فقال الحجّاج: إحدى حمقات أبي عبد الرحمن، فدخل، فلما وصل إليه قال له الحجّاج: ما جاء بك؟ قال: ذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " من مات ولم يبايع إمام عصره وزمانه مات ميتةً جاهليةً " ، فقال له: أتتخلّف عن بيعة عليّ بن أبي طالب وتبايع عبد الملك؟ بايع رجلي فإنّ يدي عنك مشغولة، ومدٌ إليه رجله.
أتي المنصور برأس بشير الرحال، وكان خرج مع محمد بن عبد الله، فقال له: رحمك الله، لقد كنت أسمع لصدرك همهمةً لا يسكنها إلا برد عدلٍ، أو حرّ سنان.

أوصى أبو بكر خالد بن الوليد لما وجّهه إلى بعض غزواته فقال له: استكثر من الزاد، واستظهر بالأدلاّء، وإذا جاءتك رسل أعداءك فامنع الناس من محادثتهم حتى يخرجوا جاهلين، وأقلل الكلام، فإنما لك ما وعي عنك، وكن بعيداً من الحملة، فإنني لا آمن عليك من الجولة، ولا تقاتلنّ على جزعٍ فإنّه فاتٌّ بعضدك.
قال رجلٌ لخالد بن صفوان: علّمني كيف أسلّم على الإخوان، قال: لا تبلغ بهم النّفاق، ولا تقصّر بهم عن الاستحقاق.
دخل صبيٌّ مع أبيه الحمّام فعاد إلى أمه فقال: يا أمّي، ما رأيت أصغر زبّاً من أبي، فقالت: في أيّ شيءٍ كان لأمك بختٌ حتى يكون لها في هذا؟ قال عبد الحميد: إن الله عزّ وجلّ يعطي الكثير من الخير باليسير من العمل، ويعفو عن العظيم من الذّنب بالصغير من الطّلب، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
من دعاء العرب: فتّه الله فتاً، وحتّه حتّا، وجعل أمره شتّى ووصف مدينيّ لرجلٍ مغنيةً بحسن المسموع فقال: والله لو سمعتها ما أدركت ذكاتك.
قيل لأبي الأسود عند الموت: أبشر بالمغفرة، قال: وأين الحياء مما كانت له المغفرة؟ أبو الشيّص: البسيط
يا من تمنّى على الدّنيا منىً شططا ... هلاّ سألت أبا بشرٍ فتعطاها
إذا أخذت بحبلٍ من حبائله ... دانت لك الأرض أدناها وأقصاها
ما هبّت الريح إّلا هبّ نائله ... ولا ارتقى غايةً إّلا تخطّاها
قيل لزياد النّميري: ما منتهى الخوف؟ قال: إجلال الله تعالى عن مقام السؤال؛ قيل: فما منتهى الرجاء؟ قال: تأميل الله تعالى على كل حال.
وصف أعرابي قوماً فقال: يقتحمون الحرب حتى كأنّما يلقونها بأنفس أعدائهم.
دخل الأوزاعي على المهدي فوعظه وذكّره، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى أعطاك فضل الدنيا وكفاك طلبها، فاطلب فضيلة الآخرة فقد فرّغك لها؛ فاستحسن قوله.
قال يزيد بن المهلّب: دخلت الحمّام مع سليمان بن عبد الملك ومعنا عمر بن عبد العزيز، فقال لي عمر: إني محدّثك حديثين: أحدهما سرّ والآخر علانية؛ أما العلانية فإن هذا سيولّيك العراق، فاتق الله، وأما السرّ فإني كنت فيمن دلّى الوليد بن عبد الملك في حفرته، فلما صار في أيدينا اضطراب في أكفانه فقال ابنه: عاش أبي وربّ الكعبة، فقلت: كلاّ، ولكن عوجل أبوك وربّ الكعبة.
كان جوثة الضمري صديقاً لعبد الملك بن مروان وخرج مع ابن الزبير، فلما قتل ابن الزبير استأمن الناس وأحضر جوثة، فقال له عبد الملك: كنت مني بحيث علمت فأعنت ابن الزبير، فقال: لا تعجلنّ حتى تسمع عذري، قال: هاته، قال: هل رأيتني في حربٍ أو سباقٍ أو نضالٍ إّلا والفئة التي أنا معها مهزومةٌ بحرفي؟ وإنما خرجت مع ابن الزبير لتقتله على رسمي فضحك عبد الملك وقال: والله كذبت، ولكن عفوت عنك.
احتاجت امراةٌ العزيز إلى يوسف تسأله، فلما رأته عليه السلام عرفته فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد بطاعتهم ملوكاً، والملوك بمعصيتهم عبيداً.
قال كسرى لشيرين: ما أحسن هذا الملك لو دام لنا، فقالت له: لو دام ما انتقل إلينا.
قيل لفيلسوف: ما بال الحسود أشدّ الناس غمّاً؟ قال: لأنّه أخذ بنصيبه من غموم الدنيا ويضاف إلى ذلك غمّه لسرور الناس.

من دعاء يحيى بن معاذ: اللهم إن كان ذنبي أخافني فإنّ حسن ظنّي بك قد أجارني؛ اللهم إنّي قد جعلت الاعتراف بالذّنب وسيلةً لي إليك، واستظللت بتوكّلي عليك، فإن غفرت فمن أولى بذلك منك، وإن عاقبت فمن أعدل في الحكم منك؟ اللهم إني لا أيأس من نظرك ورحمتك بعد مماتي، ولم تولني غير الجميل في حياتي، تتابع إحسانك إليّ يدلّني على تفضلك عليّ، فكيف يشقى من أسلفته جميل النظر؟ اللهم إن نظرت إليّ بالهلكة عيون سخطك فلم تغفل عن استنقاذي منها عيون كرمك؛ اللهمّ إن كنت غير مستأهلٍ لكرمك ومعروفك فكن أهلاً للتطّول، فإنّ الكريم ليس يضيع جميع مستحقيه إلهي سترت علي في الدنيا ذنوباً أنا إلى سترها يوم القيامة أحوج، وقد أحسنت بي إذ لم تظهرها لعصابةٍ من المسلمين، فلا تفضحني في ذلك اليوم على رؤوس العالمين، يا أرحم الراحمين؛ إلهي إن كان ذنبي عرّضني لعقابك، فقد رجوت الدنوّ برجائي من ثوابك، لولا ما اقترفته من الذنوب ما خفت من العقاب، ولولا ما عرفت من الكرم ما رجوت الثّواب؛ إلهي لو عرفت اعتذاراً من الذنب أبلغ من التنصّل والاعتراف به لأتيته، ولو عرفت شفيعاً لحاجتي ألطف من الاستخذاء لك عملته، فهب لي ذنبي بالاعتراف ولا تسوّد وجهي عند الانصراف؛ إلهي إن كنت لا ترحم إّلا أهل طاعتك فإلى من يفزع المذنبون، وإن كنت لا تكرّم إّلا أهل خدمتك فبمن يستغيث المسيئون؟ اجعلني عبداً: إمّا طائعاً فأكرمت، وإما عاصياً فرحمت.
هذا آخر ما نقلته من خطّ السّيرافي، ولم أضف إليه شيئاً من مواضع أخر، وحكيت خطّه وشكله، وأعود الآن إلى الطريقة الأولى في اعتراض ما يجري حسب ما ينتظم المعنى فيه. على أني شديد المراعاة لقلبك في جميع ما جمعته وقلته، أنفاً واستحياءً وإعظاماً وإكراماً.
قيل لبقراط: صف لنا الدنيا، فقال: أوّلها فوت، وآخرها موت.
قال بزرجمهر: كن شديداً بعد رفقٍ لا رفيقاً بعد شدةّ، لأنّ الشدّة بعد الرفق عزٌ، والرفق بعد الشدّة ذلٌّ.
كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أما بعد، فإنّي كتبت إليك كتاباً في القضاء لمآلك ونفسي فيه خيراً؛ الزم خمس خصالٍ يسلم لك دينك وتأخذ فيها بأقصى حظّك: إذا تقدّم إليك خصمان فعليك بالبيّنة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدن الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه، وتعهّد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقّه ورجع إلى أهله، وإنما ضيّع حقّه من لم يرفق به، وآس بينهم في لفظك وطرفك، وعليك بالصّلح ما لم يستبن لك فصل القضاء وإياك والقضاء بين اثنين وأنت غضبان.
خطب بلال بن أبي بردة فعرف أنّ الناس قد استحسنوا كلامه فقال: لا يمنعكم ما تعلمون فينا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منّا.
وعظ عيسى عليه السلام بني إسرائيل فبكوا وأقبلوا يمزّقون الثياب، فقال: ما ذنب الثياب؟ أقبلوا على القلوب فعاتبوها.
كان رجلٌ من أهل حمص شديد الخلاف جدّاً فقيل له يوماً اجلس فقال: لا أجلس، فقيل له: قم، فقال: لا أقوم، قيل: فما تصنع؟ قال: وما لا أصنع؟! قال رجل لمزبّد: أماتك الله! قال: آمين، بعدك بألف سنة! قال أبان عن أنس، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " الشّؤم في أربع: في الدار والدابّة والسيف والمرأة؛ قالوا: يا رسول الله، وما شؤم المرأة؟ قال: تكون غالية المهر سيّئة الخلق لا تلد؛ قالوا: فما شؤم الدار؟ قال: تكون ضيّقةً على أهلها لها جيران سوء؛ قيل: فما شؤم الدابة؟ قال: تكون حروناً عند القتال في سبيل الله عزّ وجلّ؛ قالوا: فما شؤم السيف؟ قال: كل سيف مطبوع يسلّه صاحبه في غير سبيل الله عزّ وجلّ فهو شؤم عليه " .
قال أبو العيناء: قلت لرقيعً كان في جواري وهو يأكل قشور الموز: ويحك أيش هذا؟ هذا مما يؤكل؟ فقال: هو على كل حال أطيب من الهندبا.
بعثت الزرجونة مع غندر غلامها بقارورة فيها ماؤها إلى الطبيب، فقال الطبيب لغندر: أيّ شيء طبعها؟ قال: قحبة، قال: ويحك عن طبيعتها سألت، قال: خرا يا بغيض، قال: رقيق غليظ أي شيء هو؟ قال: خرا البنت يعرف لا ينكر.==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-الي هنا ---------------------------