الأحد، 26 فبراير 2023

ج1وج2.كتاب البصائر والذخائر أبو حيان التوحيدي

 

ج1وج2.كتاب البصائر والذخائر أبو حيان التوحيدي

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الجزء الأولاللهم إني أسألك جداً مقروناً بالتوفيق، وعلماً بريئاً من الجهل، وعملاً عرياً من الرباء، وقولاً موشحاً بالصواب، وحالاً دائرة مع الحق؛ نعم، وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر، وراحة جسم راجعة إلى روح بال، وسكون نفس موصولاً بثبات يقين، وصحة حجة بعيدة من مرض شبهة، حتى تكون غايتي في هذه الدار مقصودة بالأمثل فالأمثل، وعاقبتي عندك محمودة بالأفضل فالأفضل، مع حياة طيبة أنت الواعد بها ووعدك الحق، ونعيم دائم أنت المبلغ إليه.
اللهم فلا تخيب رجاء من هو منوط بك، ولا تصفر كفاً هي ممدودة إليك، ولا تذل نفساً هي عزيزة بمعرفتك، ولا تسلب عقلاً هو مستضيء بنور هدايتك، ولا تعم عيناً فتحتها بنعمتك، ولا تحبس لساناً عودته الثناء عليك، وكما أنت أولى بالتفضل فكن أحرى بالإحسان: الناصية بيدك، والوجه عان لك، والخير متوقع منك، والمصير على كل حال إليك، ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة، وحلني في تلك الدار الباقية بزينة الأمن، وأفطم نفسي عن طلب العاجلة الزائلة، وأجرني على العادة الفاضلة، ولا نجعلني ممن سها عن باطن ما لك عليه، بظاهر ما لك عنده، فالشقي من لم تأخذ بيده، ولم تؤمنه من غده، والسعيد من آويته إلى كنف نعمتك، ونقلته حميداً إلى منازل رحمتك، غير مناقش له في الحساب، ولا سائق له إلى العذاب، فإنك على ذلك قدير.
ثبت - أطال الله بقاءك - الرأي بعد المخص والاستخارة، وصح العزم بعد التنقيح والاستشارة، على نقل جميع ما في ديوان السماع، ورسم ما أحاطت به الرواية، وأشتملت عليه الدراية، منذ عام خمسين وثلاثمائة، مع توخي قصار ذلك دون طويله، وسمينه دون غثه، ونادره دون فاشيه، وبديعه دون معتاده، ورفيعه دون سفسافه، ومتى أنصفتك نفسك، وهدتك الرأي، وملكتك الزمام، وجنبتك الهوى، وحملتك على النهج، وحمتك دواعي العصبية، علمت علماً لا يخالطه شك، وتيقنت تيقناً لا يطور به ريب، أنك ممن كفي مؤونة التعب بنصب غيره، ومنح شريف الموهبة بطلب سواه، وذلك بين عند تصفح ما تضمن هذا الكتاب؛ فإنك مع النشاط والحرص ستشرف على رياض الأدب، وقرائح العقول، من لفظ مصون، وكلام شريف، ونثر مقبول، ونظم لطيف، ومثل سائر، وبلاغة مختارة، وخطبة محبرة، وأدب حلو، ومسألة دقيقة، وجواب حاضر، ومعارضة واقعة، ودليل صائب، وموعظة حسنة، وحجة بليغة، وفقرة مكنونة، ولمعة ثاقبة، ونصيحة كافية، وإقناع مؤنس، ونادرة ملهية، عقل ملقح، وقول منقح، وهزل شيب بجد، وجد عجن بهزل، ورأي أستنبط بعناية، وأمر بيت بليل، وسركتم على الزهد، وحجة أستخلصت من شوائب الشبه، وشبهة أنشئت من فرط جهالة، وبلادة طباع رويت بلسان عي، ولفظ مرذول عن صدر حرج، وفؤاد عبام.
جمعت ذلك كله في هذه المدة الطويلة مع الشهوة التامة، والحرص المتضاعف، والدأب الشديد، ولقاء الناس، وفلي البلاد، من كتب شتى حكيت عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الكناني، وكتبه هي الدر النثير، والنور المطير، وكلامه الخمر الصرف، والسحر الحلال؛ ثم كتاب النوادر لأبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، ثم كتاب الكامل لأبي العباس محمد بن يزيد الثمالي، ثم كتاب العيون لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكاتب الدينوري، ثم مجالسات ثعلب، ثم كتاب ابن أبي طاهر الذي وسمه بالمنظوم والمنثور، ثم كتاب الأوراق للصولي، ثم كتاب الوزراء لابن عبدوس، والحيوانات لقدامة. هذا إلى غير ذلك من جوامع للناس مضافات إلى حفظ ما فاهوا به، وأحتجوا له، وأعتمدوا عليه، في محاضرهم ونواديهم، وحواضرهم وبواديهم، مما يطول إحصاؤه، ويمل استقصاؤه، وسيعتزي في التفصيل كل شيء منه إلى معدنه وينتسب إلى قائلة ةالعرض من الكتاب مسوق إليك والمراد فيه معروض عليك، فلا عائدة إذن للإطالة، إلا بقدر التلطف والأستمالة.
وأنا ضامن لك أنك لا تخلو في دراسة هذه الصحيفة من أمهات الحكم، وكنوز الفوائد:

أولها وأجلها ما يتضمن كتاب الله تعالى الذي حارت العقول الناصعة في رصفه، وكلت الألسن البارعة عن وصفه، لأنه المطمع ظاهره في نفسه، الممتنع باطنه بنفسه، الداني بإفهامه إياك إليك، العالي بأسراره وغيوبه عليك، لا يطار بحواشيه، ولا يمل من تلاوته، ولا يحس بإخلاق جدته، كما قال علي ابن أبي طال كرم الله وجهه: ظاهرة أنيق، وباطنه عميق، ظاهره حكم، وباطنه علم.
والثاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنها السبيل الواضح، والنجم اللائح، والقائد الناصح، والعلم المنصوب، والأمم المقصود، والغاية في البيان؛ والنهاية في البرهان، والفزع عند الخصام، والقدرة لجميع الأنام.
والثالث حجة العقل؛ فإن العقل هو الملك المفزوع إليه، والحكم المرجوع إلى ما لديه، في كل حال عارضة، وأمر واقع، عند حيرة الطالب، ولدد الشاغب، ويبس الريق، وأعتساف الطريق، وهو الوصلة بين الله وبين الخلق، به يميز كلام الله عز وجل، ويعرف رسول الله، وينصر دين الله، ويذب عن توحيد الله، ويلتمس ما عند الله، ويتحبب إلى عباد الله، ويساس عباد الله، ويتخلص عباد الله من عذاب الله؛ نوره أسطع من نور الشمس، وهو الحكم بين الجن والإنس، التكليف تابعه، والحمد والذم قريناه، والثواب والعقاب ميزانه، به ترتبط النعمة، وتستدفع النقمة، ويستدام الوارد، ويتألف الشارد، ويعرف الماضي، ويقاس الآتي، شريعته الصدق، وأمره المعروف، وخاصته الأختيار، ووزيره العلم، وظهيره الحلم، وكنزه الرفق، وجنده الخيرات، وحليته الإيمان، وزينته التقوى، وثمرته اليقين، والرابع رأي العين؛ وهو يجمع لك بحكم الصورة، وأعتراف الجمهور، وشهادة الدهور، نتيجة التجارب، وفائدة الأختيار، وعائدة الأختبار، وإذعان الحس، وإقرار النفس، وطمأنينة البال، وسكون الاستبداد.
هذا سوى أطراف من سياسة العجم، وفلسفة اليونانيين، فإن الحكمة ضالة المؤمن، أين ما وجدها أخذها، وعند من رآها طلبها، والحكمة حق، والحق لا ينسب إلى شيء، بل كل شيء ينسب إليه، ولا يحمل على شيء، بل كل شيء يحمل عليه، وهو متفق من كل وجه، يطرب به الراضي، ويقنع به الغضبان، مشرق في نفسه، موثوق بحكمه، معمول بشرطه، معدول إلى قضيته، به خلق الله عز وجل السماء والأرض، وعليه أقام الخلق، وبه قبض وبسط، وحكم وأقسط.
فأستدع - أيدك الله - نشاطك الشارد، وراجع بالك الرخي، وجل بفهمك في رياض عقول القدماء، وأنظر إلى مآثر هؤلاء الحكماء، وأطلع على نوادر فطن الأدباء، وأجمع بين طيب السلف، وخبيث الخلف، فما تخلو عند جولانك فيها من جد أنت سعيد به، وهزل أنت مداري فيه، ورأي أنت فقير إليه، وأمر لعلك محمود عليه: البسيط
فالدهر آخره شبه بأوله ... ناس كناس وأيام كأيام
وإذا حفظت ما مضى، حذرت ما بقي.
وأجعل نهاية حالك، وقصارى أمرك، فيما تستفيد من هذا الكتاب، وعساه يجمع ألفي ورقة، أن تكون سالياً عن هذه الدنيا، قالياً لأمورها، واثقاً بالله تعالى، مطمئناً إليه، ممترياً لمزيده، منتظراً لموعوده، عالماً بأنه أولى بك، وأملك لك، وأقرب إليك، فإنه متى خلاك من توفيقه عثرت عثاراً بعد عثار، وأسرت إساراً بعد إسار، وأستمررت في الخزي استمرارً بعد استمرار، وتلك حال من غضب الله عليه، وأرسله من يده، ووكله إلى حول خفيف، ومتن ضعيف؛ لا أذاقك الله كرب هذه البلوى، ولا أخلاك أبداً من متجدد النعمى.
وأصرف ما أستطعت همتك عن هذا الظل القالص، والزخرف الغاطل، والعيش الزائل، إلى ما وعدك الله، فإن الهامة إياك متى صادف طاعتك له، ودعاءه لك متى وافق إجابة منك، مدت السعادة جناحها عليك، وصافحت يد اليمن كفك، ونجوت من معاطب عالم: الساكن فيه وجل، والصاحي من أهله ثمل، والمقيم على ذنوبه خجل، والراحل عنه مع تماديه عجل؛ وإن داراً هذا من آفاتها وصروفها، لمحقوقة بهجرانها وتركها، والصدوف عنها، خاصة ولا سبيل لساكنها إلى دار قراره إلا بالزهد فيها، والرضى بالطفيف منها كبلغة الثاوي وزاد المنطلق.

عرفنا الله حظنا، وسلك بنا في طرق رشدنا، وسل حب الدنيا من قلوبنا، وحط ثقل الحرص عليها عن ظهورنا، وفتح على ما عنده بصائرنا، وغمض عما ها هنا أبصارنا، ولا أبتلانا بنا، ولا أسلمنا إلينا، إنه ولي النعمة ومانحها، ومرسل الرحمة وفاتحها، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ جل مذكوراً، وعز مراداً.
اللهم فأسمع، وإذا سمعت فأجب، وإذا أجبت فبلغ، وإذا بلغت فأدم، فإنه لا يشقى من كنت له، ولا يسعد من كنت عليه، وصل على نبيك المبعوث من لدنك إلى خلقك، محمد وآله الطاهرين، ولا تنزع من قلوبنا حلاوة ذكره، ولا تضلنا بعد إذ هديتنا، وقرب علينا طريق الاقتداء بأمره، والاهتداء بهديه، فإنك تصرف من تشاء إلى ما تشاء؛ لا راد لقضائك، ولا معقب لحكمك، ولا محيط بكنهك، ولا مطلع على سرك، ولا واصف لقدرك، ولا آمن لمكرك؛ أنت الإله المحمود، وأنت نعم المولى ونعم النصير.
قد تلطفت إلى قلبك بحثي إياك على حظك في فنون من القول، وضروب من الوصايا، وأرجو أن يكون صوابي عندك فيها متقبلاً، وخطأي فيها عندك متأولا، لا لأني لذلك أهل، ولكن لأنك حقيق به، وله خليق، ومهما شككت فيما يرد عليك مني في هذا الكتاب، فلا تشك أني قد نثرت لك فيه اللؤلؤ والمرجان، والعقيق والعقيان، وهكذا يكون عمل من طب لمن حب.
ثبت الله نعمه لديك، وخفف مؤونة شكرها عليك، وتابع لك المزيد، في كل يوم جديد، وحرسك من نفسك، وعصمك من بني جنسك، وعرفك الخير، وحبب إليك الإحسان، ووفقك للرشاد، وختم أمرك بالطهارة بعد بلوغ الأماني ودرك المطالب، بمنه وقدرته.
1 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا كرم كالتقوى، ولا قرين كحسن الخلق، ولا ميراث كالأدب، ولا فائدة كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كثواب الله تعالى، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالزهد في الحرام، ولا علم كالتفكر، ولا عبادة كأداء الفرائض، ولا إيمان كالحياء والصبر، ولا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم، ولا مظاهرة أوفق من المشورة؛ فأحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وأذكر الموت وطول البلى.
2 - وقال صلى الله عليه وسلم: حب المال والشرف أذهب لدين أحدكم من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم إلى الصباح، فماذا يبقيان فيها؟ 3 - وقال الحسن البصري: إنا لو أتعظنا بما علمنا، أنتفعنا بما عملنا، ولكنا علمنا علماً لزمتنا فيه الحجة، وغفلنا غفلة من لا تخاف عليه النقمة، ووعظنا في أنفسنا بالتحول من حال إلى حال: من صغر إلى كبر، ومن صحة إلى سقم، فأبينا إلا المقام على الغفلة بعد لزوم الحجة، إيثاراً لعاجل لا يبقى، وإعراضاًً عن آجل إليه المصير.
4 - وقال بكر بن عبد الله المزني: المستغني عن الدنيا بالدنيا كمطفىء النار بالتبن.
5 - وقال الثوري: إذا استوت السريرة والعلانية فذلك العدل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل.
6 - قيل لمحمد بن واسع: ألا تتكئ؟ قال: تلك جلسة الآمنين.
7 - وقال الحسن: أعمل كأنك ميت غداً، ولا تجمع كأنك تعيش أبداً.
8 - وأنشد لأبي الجهم: السريع
والمرء منسوب إلى فعله ... والناس أخبار وأمثال
يا أيها المرسل آماله ... من دون آمالك آجال
9 - خاصم حجام بصنعته حذاء، فقال الحجام للحذاء: أنت تمشط وتسرح، وأنا أمشط وأسرح، وأنت تخرق وأنا أخرق، وأنت تشق الجلد بشفرتك وأنا أشقه بمشراطي، فأي فضل لك علي؟ 10 - قال الرقاشي، سمعت الأصمعي يقول، سمعت الأعراب تنشد: البسيط
يا باري القوس برياً ليس يحكمه ... لا تفسد القوس أعط القوس باريها
هكذا، ولعل القطع مراد بالاختلاس.
11 - قال أبو هفان: كان مزين يخدم رئيساً، وكان الرئيس قد خالطه بياض، وكان يأمر المزين بلقطه؛ فلما أنتشر البياض وتفضغ الشيب قال المزين: يا سيدي، قد ذهب وقت اللقاط، وحان وقت الصرام، فبكى الرئيس من قوله.
12 - قال الأصمعي، سمعت أعرابية تقول: إلهي، ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، وأوحشه على من لم تكن أنيسه.
13 - وقال الحسن البصري: من عمل بالعافية فيمن دونه، رزق العافية ممن فوقه.

14 - أوصى المخرمي، وكان ذا يسار، فقيل له: ما تكتب؟ فقال: أكتبوا: ترك فلان ما يسوءه وينوءه، مالاً يأكله وارثه، ويبقى عليه وزره.
15 - نظر زاهد إلى باب ملك فقال: باب حديد، وموت عتيد، وفزع شديد، وسفر بعيد.
16 - وقال المغيرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن بخير ما أبقاك الله لنا، فقال له عمر: أنت بخير ما اتقيت الله تعالى.
17 - ذم أعرابي آخر فقال: أفسد آخرته بصلاح دنياه، ففارق ما عمر غير راجع إليه، وقدم على ما أخرب غير منتقل عنه.
18 - يقال: من اعتراه الحدب طال أيره، وأشتد شبقه، وأحدثت الحدبة له خبثاً وظرفاً.
19 - قيل لابن الجصاص وقد كان مات له إنسان: لا تجزع وأصبر، فقال: نحن قوم لم نتعود الموت.
20 - وقال شملة لرملة: تعال حتى لا نفلح أبداً، فقال: أما أنا فأقعد حيث شئت، فإن شئت أنت فتعال.
21 - سئل أبو الريان الحمصي عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: متى تقوم الساعة؟ فأشار بأصابع يده الثلاث، فتأوله على ثلاثمائة سنة؛ قال: إنه أراد الطلاق، لأنه لا يدري متى تقوم الساعة.
22 - وقال المنصور للربيع: كيف تعرف الريح؟ قال: أنظر إلى خاتمي فإن كان سلساً فشمال، وإلا فهي جنوب. وقال المنصور للطلحي: كيف تعرف أنت؟ قال: أضرب بيدي إلى خصيتي فإن كانتا تقلصتا فهي شمال، وإن تدلتا فهي جنوب، فقال المنصور: أنت أحمق.
23 - قال الحسن البصري: اللهم لا تجعلني ممن إذا مرض ندم، وإذا استغنى فتن، وإذا افتقر حزن.
24 - قال العتبي: سأل أعرابي قوماً فقال: أنا جاركم في بلاد الله عز وجل، وأخوكم في كتاب الله عز وجل، وطالب من فضل الله عز وجل، فهل أخ يواسي في ذات الله عز وجل؟ 25 - قال إسماعيل بن عياش، سألت عبد الله بن عثمان بن خثيم: ما كانت معيشة عطاء؟ قال: جوائز السلطان وصلات الإخوان.
26 - خطب عبد الملك بن مروان أهل المدينة فقال: لا نحبكم أبداً ما ذكرنا عثمان، ولا تحبوننا أبداً ما ذكرتم يوم الحرة.
27 - كتب عبد الملك إلى الأحنف بن قيس يدعوه إلى نفسه، فقال الأحنف: يدعوني ابن الزرقاء إلى ولاية أهل الشام؟! فو الله لقد وددت بأن بيننا وبينهم جبلاً من نار، فمن أتانا منهم احترق، ومن أتاهم منا احترق.
28 - قال الهيثم بن عدي: خرج معاوية يريد مكة، حتى إذا كان بالأبواء، أطلع في بئر عادية فأصابته اللقوة، فأتى مكة، فلما قضى نسكه وصار إلى منزله، دعا بثوب فلفه على رأسه وعلى جانب وجهه الذي أصابه فيه ما أصابه، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، وعنده مروان بن الحكم فقال: إن أكن أبتليت فقد أبتلي الصالحون قبلي، وأرجو أن أكون منهم، وأن عوقبت فقد عوقب الظالمون قبلي، وما آمن أن أكون منهم، وقد أبتليت في أحسن ما يبدو مني، وما أحصي صحيحي، وما كان لي على ربي إلا ما أعطاني؛ والله إن كان عتب علي بعض خاصتكم، فقد كنت حدباً على عامتكم، فرحم الله رجلاً دعا لي بالعافية؛ قال: فعج الناس له بالدعاء، فبكى، فقال مروان: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: كبرت سني، وكثر الدمع في عيني، وخشيت أن تكون عقوبة من ربي، ولولا يزيد لأبصرت قصدي، وأنشد: الكامل
وإذا رأيت عجيبة فأصبر لها ... فالدهر قد يأتي بما هو أعجب
ولقد أراني والأسود تخافني ... فأخافني من بعد ذاك الثعلب
29 - قال أعرابي للحسن: أيها الرجل الصالح، علمني ديناً وسوطاً، لا ذاهباً شطوطاً، ولا هابطاً هبوطاً، فقال الحسن: أما إن قلت ذلك: إن خير الأمور أوساطها.
30 - قال العتبي: كان من دعاء الحسن بن علي رضي الله عنهما: اللهم أرزقني خوف الوعيد، وسرور الموعود، حتى لا أرجو إلا ما رجيت، ولا أخاف إلا ما خوفت.
31 - قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال له رجل: لا تألت أمير المؤمنين، فقال عمر: دعهم فلا خير فيهم إذا لم يقولوها، ولا خير فينا إذا لم تقل لنا، ومنه قوله تعالى " وما ألتناهم " أي ما نقصناهم.
32 - قال ابن الأعرابي: يقال: قد انفلقت بيضتهم عن كذا، إذا وضح لهم ما يريدون.
33 - وقال ابن الأعرابي: تركت فلاناً يضرب ظهر الأرض وبطنها، ورأس الأمر وعينه، إذا روى فيه.
34 - وقال ابن الأعرابي: قيل لعبد الملك: أقتلت عمراً؟ قال: قتله وهو أعز علي من دم ناظري، ولكن لا يجمع فحلان في شول.
35 - قال آخر: الطويل

ألا أيها الغادي تحمل رسالة ... إليها وبلغها سلامي مع الركب
فكم في حمى القلب الذي نزلت به ... لها من مراد لا وخيم ولا جدب
36 - قال ثعلب: قولهم: ليس له أصل ولا فصل؛ الأصل: الوالد، والفصل: الولد.
37 - خرج عيسى عليه السلام على الحواريين فرآهم يضحكون فقال: لا يضحك من خاف، فقالوا: يا روح الله، مزحنا، فقال: لا يمزح من تم عقله.
38 - قالت عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يعفو عن زلة السري.
39 - أنشد ثعلب، قال: أنشد إسحاق بن إبراهيم الموصلي: الطويل
أأن غبت عن مولاك دمعك سافح ... بشوق وسهم في فؤادك جارح
كفى حسرة أن المسافة بيننا ... قريب وأني غائب عنك نازح
وإن يك شخصي غاب عنك فإنني ... لشوقي لغاد كل يوم ورائح
وما زلت مذ غيبت عني يعودني ... سقام له في الجسم نار وقادح
40 - عمر بن أبي ربيعة: الطويل
إذا خدرت رجلي أبوح بذكرها ... ليذهب عن رجلي الخدور فيذهب
هذا البيت شاهد في مصدر خدر مع لطف المعنى فيه.
41 - يقال: سمت العاطس وشمته، فأما السين فمن السمت، كأنه قال: جعلك الله على السمت الحسن، وأما الشين فمن قولك: تشمتت الإبل، إذا اجتمعت في المرعى، فكأن المعنى: سألت الله أن يجمع شملك؛ هكذا قال ثعلب؛ قال ابن دريد: الشوامت: اليدان والرجلان وأطراف الرجل، فكأنه قال: حفظ الله أطرافك.
42 - قال المسيح عليه السلام: يا معشر الحواريين، إني بطحت لكم الدنيا على بطنها، وأقعدتكم على ظهرها، فإنما ينازعكم فيها اثنان: الملوك والشياطين، فأما الشياطين فاستعينوا عليهم بالصبر والصلاة، وأما الملوك فخلوا لهم دنياهم يخلوا لكم آخرتكم.
43 - وقيل لمدل بشرف: لعمري لك أول ولكن ليس لأولك آخر.
44 - وقيل لشريف آخر ناقص الأدب: إن شرفك بأبيك لغيرك، وإن شرفك بنفسك لك، فافرق الآن بين ما لك وما لغيرك؛ ألا ترى بأنك لو وصفت أنك تام الأدب أو ظريف الغلام، كان الأدب لك والظرف لغيرك، ولا تفرح بشرف النفس فإنه دون شرف الأدب، وإياك أن يكون إعجابك بشرف غيرك مثل إعجاب الخصي بأير مولاه إذا أتى ربة بيته.
45 - قال بزرجمهر: مما يدل على أن القدر حق تأتي الأمور لأهل الجهل، وتحرفها عن العلماء مع علمهم.
46 - يقال في اللغة: الحصان - بفتح الحاء - العفيفة، والجمع الحواصن، ولا يصرف هذا الوزن؛ والحصان - بكسر الحاء - الفرس، والجمع حصن، يا هذا. يقال: فاد يفيد فيداً وفيوداً إذا مات؛ ويقال: الغطاط أول الصبح؛ ويقال: السريس العنين، وهو الحافظ أيضاً؛ وتقول عنين بين التعنين، وأجتنب قول الفقهاء بين العنة فإنه كلام مرذول؛ وقد مرنوا على فنون من الخطأ لسوء عنايتهم بلغة نبيهم عليه الصلاة والسلام.
47 - يقال: الوعد وجه والإنجاز محاسنه.
48 - وقال جعفر بن محمد: الفتن حصاد الظالمين، وأنشد: المتقارب
إذا عظمت محنة عن عزاء ... فعادل بها صلب زيد تهن
وأعظم من ذاك قتل الوصي ... وذبح الحسين وسم الحسن
49 - قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: لا ينقضي عجبي من ثلاثة أشياء: إفلات عباس بن عمرو من القرمطي وهلاك أصحابه؛ ووقوع الصفار وإفلات أصحابه؛ وولاية أبي الحسن وأنا متعطل.
50 - وكان للمتوكل مضحكان، يقال لأحدهما شعرة وللآخر بعرة، فقال أحدهما لصاحبه: ما فعل فلان في حاجتك؟ فقال: ما فتني وما قطعك.
51 - عزى سهل بن هارون رجلاً فقال: مصيبة في غيرك لك أجرها خير من مصيبة فيك لغيرك ثوابها.
52 - قال أبو العيناء: قال ملك من الأكاسرة لبنيه: صفوا لي شهواتكم من النساء، فقال الأكبر: تعجبني القدود والخدود والنهود؛ وقال الأوسط: تعجبني الأطراف والأعطاف والأرداف، وقال الأصغر: تعجبني الثغور والنحور والشعور.
53 - قال المدائني: قرأت على قبر بدمشق: نعم المسكن لمن أحسن.
54 - قال رجل لعبد الملك: قلت دراهمي وأنت بحري، إذا فضت فضت، وإذا غضت غضت.
55 - قال جحظة: وصف لي خياط يقول الشعر، فذهبت إليه لأسمع وأهزأ به، فأستنشدته فأنشدني: مجزوء الوافر
أيا من وصله نعم ... ويا من قوله نعم
تقول لقد سعى الواشو ... ن في التحريش لا سلموا

وقد راموا قطيعتنا ... فقلت له: أنا لهم
قال: فحيرني حسنها.
56 - قال المعذل بن غيلان: أخذنا عن غسان بن عبد الحميد أدباً حسناً؛ قال لجاريته: إذا استسقيتك خوضاً فأخثريه، فإنه لا يستحي الرجل أن يدعو بماء فيرقه، ولا ترقيه فإنه يستحي أن يدعو بخوض فيخثره.
57 - وقال علي كرم الله وجهه: قليل للصديق الوقوف على قبره.
58 - كتب رجل إلى طاهر وقعة يسأله فيها، فوقع له عليها: ما شاء الله كان؛ فوقع الرجل في أسفلها: إن الله شاء المعروف؛ فلما قرأها طاهر وصله.
59 - قال أبو هفان: كنت أنزل في جوار المعلى بن أيوب، وكان ابن أبي طاهر قد نزل عندي، وكنا على ضيقة شديدة، فقلت لابن أبي طاهر: هل لك في شيء لا بأس به؟ تجيء حتى أسجيك وأمضي إلى منزل المعلى وأعلمه أن رفيقاً لي توفي، وآخذ ثمن الكفن، فنتسع به أياماً إلى أن يصنع الله، فقال: أفعل؛ وكان المعلى قد أقام وكيلاً يكفن كل من مات ولم يخلف ما يكفن به بثلاثة دنانير؛ قال أبو هفان: فصرت إلى منزل المعلى وأعلمتهم ذلك، فجاء الوكيل ليعرف حقيقة الخبر، ولما دخل منزلي وكشف عن وجه ابن أبي طاهر استراب به، فنقر أنفه فضرط، فالتفت إلي وقال: ما هذا؟ فقلت: هذه بقية روحه كرهت نكهته فخرجت من استه! فضحك حتى استلقى، ودفع لي ثلاثة دنانير وقال: أنتم ظرفاء مجان، فاصرفوها فيما تحتاجونه.
60 - قال محمد بن راشد: كنا يوماً مع إسحاق بن إبراهيم الطاهري نتحدث ونخوض في ضروب من الآداب، إذ أقبل علينا فقال: ما أراد امرؤ القيس بقوله: الطويل
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
فكل قال بما حضره فقال: لم يرد هذا، قلنا: ما أراد؟ قال: أراد تملكين قلبك فإن أردت صرمي قدرت عليه، وإن أردت صلتي قدرت عليها، وأنا لا أملك من قلبي إلا صلتك؛ ومعنى أغرك أي جراك علي.
61 - وكان الثوري يعظ أصحابه فيقول: ما تصنعون بشيء إذا بلغتم منه الغاية تمنيتم أن تنجوا منه كفافاً؟ 62 - قال ثعلب: سئل عنك الخبير، أي عرفك فأثنى عليك، ولا يجوز: سأل عنك الخبير، لأنه لا يجهله فيسأل عنه.
63 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي بتسع: الإخلاص في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضى، وأن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبراً.
64 - قال علي بن عبيدة: العقل ملك والخصال رعيته، فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها.
سمع هذا الكلام أعرابي فقال: هذا كلام يقطر عسله.
65 - مدح رجل هشام بن عبد الملك فقال له هشام: يا هذا، إنه قد نهي عن مدح الرجل في وجهه، فقال له: ما مدحتك وإنما ذكرتك نعم الله عليك لتجدد له شكراً، فقال له هشام: هذا أحسن من المدح، وأمر له بصلة.
66 - قال عمر بن عبد العزيز: ما أطاعني أحد من الناس فيما عرفت من الحق حتى بسطت له طرفاً من الدنيا.
67 - لفضل الشاعرة: الكامل
يا من تزينت العلوم بفضله ... وعلا قباب مراتب الأدباء
صرف الإله عن المودة بيننا ... وعن الإخاء شماتة الأعداء
68 - كتب ابن الحرون إلى حمويه اليزدجردي صاحب أبي دلف: أيها السيد الذي جل قدره، وعظم خطره، إن الكتابة والبلاغة عندك شديدة، ولديك وافرة، وفيك كاملة، وقد أهديت إليك من آلتها ما خف محمله، وقلت قيمته، ليجدد عند مشاهدتك إياه، وأستعمالك له، ذكر حرمتي، فيؤكد عقد مودتي، وهي أقلام من القصب، كقداح النبل في أوزانها، وقصب الخيزران في اعتدال قوامها، وسمر القنا في تمالك أجسامها، فكأنما خرطت بشهر استدارتها، وقسمت بقياس أجزاؤها، فهي أحسن اعتدالاً من الأسل الخطية، وأنقى وأبهى من الصفائح اليمانية، فلو كانت رجالاً لوجب أن تكون في ذروة من الشرف من آل آكل المرار وعبد المدان، وفي النجدة كملاعب الأسنة وصناديد الفرسان، وفي الجود كحاتم وابن جدعان، وفي السياسة كأزدشير وأنوشروان، وفي الجمال كما قال الشاعر: الطويل
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وكما قال الآخر: المتقارب
وبيض رقاق خفاف المتو ... ن تسمع للبيض فيها صريرا
مهندة من عتاد الملوك ... يكاد سناهن يعشي البصيرا

69 - وقال الشاعر: الطويل
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الرأي عنك لعازب
بلوتك في أشياء منها منحتني ... أماني محاج وفيك مخالب
70 - وقال آخر: الطويل
فليس أخي من ودني رأى عينه ... ولكن أخي من ودني في المغايب
ومن ماله مالي إذا كنت معدماً ... ومالي له إن عض دهر بغارب
فما أنت إلا كيف أنت ومرحباً ... وبالبيض رواغ كروغ الثعالب
71 - يقال: أرغى القوم إذا أرادوا الرحيل فرغت إبلهم. العد: الماء الذي له مادة. والجميع الأعداد؛ والشياهم هي الدلادل. يقال: الأرش والإتاوة في الحرب ما يشترى به السرب.
72 - قال ابن الكلبي: العرب كلها سدوس. إلا سدوس بن أصمع في طيء، مضموم السين.
73 - ويقال: العرب كلها عدس إلا عدس بن زيد في تميم، فإنه مضموم 74 - وقال معاوية يوماً، وعنده الضحاك بن قيس الفهري، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، ويزيد ابنه: ما أعجب الأشياء؟ فقال الضحاك: إكداء العاقل، وخفض الجاهل؛ وقال سعيد: أعجب الأشياء ما لم ير مثله؛ وقال عمرو: أعجب الأشياء غلبة من لا حق له ذا الحق على حقه؛ فقال معاوية: أعجب من ذلك أن تعطي من لا حق له ما ليس له بحق من غير غلبة، قال يزيد: أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء والأرض، لا يدعمه شيء.
دعم يدعم دعماً إذا أمسك، والدعامة منه، والجماع الدعائم؛ هكذا قال الثقات.
75 - قال أعرابي لآخر: حاجيتك، ما ذو ثلاث آذان يسبق الخيل بالرديان؟ يعني سهماً. حاجيتك معناه فاطنتك، والحجى: العقل والفطنة؛ والرديان: ضرب من المشي في سكون؛ هكذا قال الثقة.
76 - قال أبو عمرو: قد صرمت سحري منه، أي يئست منه. ويقال: إني منك غير صريم سحر؛ والسحر: الرئة؛ والرئة مهموزة، وأما الرية - بالتشديد - ما أوريت منه النار، هكذا قال أبو حنيفة صاحب النبات. وأما الروية فقد جرت بينهم غير مهموزة، ولها الهمز بحق الأصل كقولك روأت في الأمر، وأما رويت رأسي من الدهن، وأرويت مشاشي من الماء، فلا همز فيه، ومعناه أكثرت ونقعت. يقال: إذا رويت - من الري - نقعت ونقعت غيري بكذا؛ هكذا قال الكسائي في النوادر.
77 - قال يزيد بن المهلب: الكذاب يخيف نفسه وهو آمن.
معناه أنه قد عرض نفسه للمطالبة بحقيقة ما قاله، فهو خائف من الفضيحة، وملاحظ لعار التكذيب، ومستوحش لما فيه أنس الصادقين.
78 - وقال بعض الأدباء: لو لم أدع الكذب تأثماً لتركته تكرماً.
79 - وقال بعض السلف الصالح: لو لم أدع الكذب تعففاً لتركته تظرفاً.
80 - وقال آخر من الأدباء: لو لم أدع الكذب تحوباً لتركته تأدباً.
81 - وقال أبو النفيس: لو لم أدع الكذب تورعاً اتركته تصنعاً.
82 - وقال صلى الله عليه وسلم، وهو المقدم والمعظم، والمأخوذ بقوله في الحرب والسلم: الكذب مجانب للإيمان.
83 - شاعر: الرجز
تقول إحدى البدن الرعابيب ... ما لي أراك عاري الظنابيب
ممشق اللحم كتمشيق الذيب 84 - وقال العباس بن الأحنف: الكامل
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه ... إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذراً عليك وإنني بك واثق ... أن لا ينال سواي منك نصيبا
85 - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الحق لو جاء محصاً لما أختلف فيه ذو الحجى، وإن الباطل لو جاء محضاً لما اختلف فيه ذو حجى، ولكن أخذ ضغث من هذا وضغث من هذا.
الضغث من الشيء: القطعة والطائفة منه؛ وهو كلام شريف ويحوي معاني سمحة في العقل.
86 - قال علي رضي الله عنه: ليس من أحد إلا وفيه حمقة فبها يعيش.
87 - أنشد لأعرابي: الطويل
كفى لأمة بالمرء والله عالم ... وعندك من علم الكرام يقين
بأن يخرج المشتار من عند صبية ... سغاب ويأتي الأهل وهو بطين
وإن امرءاً يهنا بطعم ومشرب ... وترك جياع خلفه لمهين

يريد باللأمة اللؤم، وهذا اللفظ غريب، فإن اللأمة الدرع، وكذلك يقال: استلأم الرجل إذا دخل في شكته، والشكة: السلاح؛ فأما استلم - بغير همز - فلمس الحجر، والحجر هو السلام، والألائم: اللئام، والملائم: الخصال اللئيمة، فأما الملاوم فالمعايب ومنه " فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون " . هكذا حصلته عن أبي سعيد السيرافي قراءة وسماعاً ومسألة ومراجعة.
88 - قال أبو زياد: لم يلظ به إلا وهو يريد به خيراً؛ قال: الإلظاظ: اللزوم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ألظوا بياذا الجلال والإكرام.
هكذا فسره أبو عبيد القاسم بن سلام - ولا تقل سلام، فقد كان بعض من صحب أبا الفتح ابن العميد إلى مدينة السلام سنة أربع وستين وثلاثمائة يقول ذلك، فعابه بذلك البغداديون. فأما الإلطاط - بالطاء - فالأحتجاب والمطل؛ وقال الثقة: المرجوب: المهيب، وكأن رجباً منه لأنه كان يهاب فيه الحرب.
89 - قال أعرابي في شأن امرأة: إنها والله عربية اللسان، وقلبها أعرب منها؛ هكذا قال ابن الأعرابي.
90 - قال أبو بكر الواسطي: طلبت قلوب العارفين فوجدتها في أوج الملكوت تطير عنه الله، ووجدت وجه عطاء العاملين أن يكون من الله، ووجدت وجه عطاء العارفين أن يكون مع الله، لأن حاجة العامل إلى بره، وحاجة العارف إلى ذاته.
91 - كتب أبو العتاهية إلى سهل بن هارون، وكان مقيماً بمكة: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله الذي لا بد لك من تقاته، وأتقدم إليك عن الله عز وجل، وأذكرك مكر الله فيما دنت إليك به ساعات الليل والنهار، فلا تخدعن عن دينك، فإنك إن ظفرت بذلك منك وجدت الله عز وجل أسرع فيك مكراً، وأنفذ فيك أمراً، ووجدت ما مكرت به في غير ذات الله عز وجل غير راد عنك يد الله، ولا مانع لك من أمر الله؛ فلعمري لقد ملأت عينك الفكر، وأضطربت في سمعك أصوات العبر، ورأيت آثار نعم الله عز وجل تنسخها آثار نقمه حين استهزىء بأمره، وجوهر بمنابذته، وكأن في حكم الله أن من أكرمه فأستهان بأمره أهانه، والسعيد من وعظ بغيره، لا وعظك الله في نفسك، وجعل عظتك في غيرك، ولا جعل الدنيا عليك حسرة وندامة، فقد تقدم إليك مني كتابان، فإن كانا وصلا فقد أخبرا بحال زماننا، والسلام.
92 - وبكوا على محمد بن النضر الحارثي عند موته، ففتح عينيه وقال: ما لكم تبكون؟ قالوا: لأنك تموت، فقال: أما والله ما أبالي أمت أو رميت في البحر، وإنما أنقلب من سلطانه إلى سلطانه.
93 - قال عبيد الله بن محمد بن عبد الملك بن الزيات في كتاب كتبه: وقريش - حفظك الله - بمحل الشرف، وبيت الكرم، وأهل الجلالة، أعظم الناس أحلاماً، وأصحهم عقولاً، وأبعدهم آراء، وأشدهم عارضة، وألسنهم بحجة، قال الله عز وجل: " بل هم قوم خصمون " الزخرف: 58، وهاشم وبنوه منهم. قال: وقال بعض البلغاء يصفهم: وهم طينة التوحيد، وشجرة الإسلام، ونهية الخير، وبيت الرحمة، وينبوع الحكمة، ومعاذ الخائفين، وملاذ الخائبين، ونهاية الراغبين، مهبط جبريل، وربع التنزيل، ومنزع التأويل، وخدن الإيمان، وواسطة النظام، وأوعية القرآن، ليس إليهم مرتقى، ولا فوقهم متمنى، بيوتهم القبلة، وأفعالهم القدرة، وموالاتهم عصمة، ومحبتهم طهارة، ومقاربتهم نجاة، ومباعدتهم سخط؛ ولما اصطفى الله تعالى رجلاً جعله منهم، ولما أحكم كتاباً أنزله عليهم، ولما أرشد أمة دلها عليهم؛ أولهم ذبيح الله، وأوسطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخرهم خلفاء الله في أرضه، وبعصيانهم وطاعتهم أضحى الثقلان فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.
وفي الكتاب أيضاً فصل آخر سأرويه على جهته إذا عثرت به عند النقل. فصرف فهمك ونعم بالك في طرف الحديث، وملح النوادر، وشريف اللفظ، ولطيف المعنى، فإن لك بذلك مزية على نظرائك الذين أصبحوا متناحرين على الدنيا في كسب الدوانيق والحيل والمخاريق، وأصبحت أنت تلتمس موعظة تنهي نفسك بها عن غرورها، وتطلب فضيلة تتحلى بها من شكل الدنيا، وتتحول بها إلى دار القرار.
94 - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الكريم لا يلين على قسر، ولا يقسو على يسر.
95 - وكان سهل بن هارون كاتب المأمون على خزانة الحكمة. وتوفي آخر أيام المأمون.

96 - وكان يقال: بلغ فلان عنان السماء؛ العنان: الغيم الأبيض، وهو أشد الغيوم ارتفاعاً، فأما أعنان السماء فنواحيها؛ هكذا قال الثقات، وبخط السكري مر بي فنقلته، وكان ذلك في كتب أبي بكر القومسي الفيلسوف بمدينة السلام.
97 - وصف أعرابي بعيراً فقال: إذا عصل نابه، وطال قرابه، فبعه بيعاً زليقاً، ولا تحاب به صديقاً. قرابه: خاصرته؛ هكذا وجدته.
98 - العرب تقول: ويل أهون من ويلين، كما تقول: بعض الشر أهون من بعض.
99 - يقال: مشى له الخمر والضراء إذا استنزله وختله، ومشى الملا والبراح إذا مشى ظاهراً بارزاً؛ كأنه في الأول دب خادعاً، وفي الثاني سلك السواء.
100 - وأنشد لحبيب بن خدرة: الطويل
ألا حبذا عصر اللوى وزمانه ... إذ الدهر سلم والجميع حلول
وإذ للصبا حوض من اللهو مترع ... لنا علل من ورده ونهول
الحلول: الحالون، كما تقول: هم قعود أي قاعدون؛ وأما المترع فالمملوء، يقال: إناء مترع إذا كان ملآن، وجرة مترعة إذا كانت ملأى، ولا ينصرفان؛ ويستعار فيقال: عينه مترعة بالدمع، كما يقال: قلبه مطفح بالغيظ؛ وأما العلل فالشرب الثاني، والنهل: الري، والناهل: الريان العطشان، وهكذا جاء في الأضداد؛ وهذا التفسير حفظته سماعاً وأحكمته رواية.
وإذا نحن لم يعرض لألفة بيننا ... تناء ولا مل الوصال ملول
101 - ورجل مغوار: صاحب غارة، ورجل مغيار: من غيرة، والغيرة - بفتح الغين - هذا العارض للزوج على زوجها، وللزوج على زوجه، والزوجة لغة، والأول أعلى - هكذا قيل. وإياك أن تقيس اللغة، وقد رأيت فقيهاً من الناس وقد سئل عن قوم فقال: هم خروج، فقيل: ما تريد بهذا؟ قال: قد خرجوا، كأنه أراد: هم خارجون؛ قيل: هذا ما سمع، قال: هو كما قال الله تعالى: " إذ هم عليها قعود " البروج: 6، أي قاعدون، فضحك به.
102 - والعرب تقول في أمثالها: الغرة تجلب الدرة، أي مع النقصان تؤمل الزيادة، من قولك غارت الناقة إذا انقطع لبنها؛ ويقال: غرة وغرار أي كساد ونقصان - بفتح النون؛ يقال: هلل الرجل إذ فر، وكلل إذا حمل.
103 - قال معاوية: تمردت عشرين، وتفتيت عشرين، ونتفت عشرين، وخضبت عشرين، فأنا ابن ثمانين.
104 - وقال الحسن بن مخلد: كان أحمد بن أبي دواد يستغل عشرة آلاف ألف درهم، وكان ينفق أكثر منها.
105 - يقال: تعلموا العلم وإن لم تنالوا به حظاً، فلأن يذم لكم الزمان أحسن من أن يذم بكم.
106 - يقال في المثل: الرجز
ليس ذنابي الطير كالقوادم ... ولا ذرى الجمال كالمناسم
107 - وسئل ابن عباس عن القدر فقال: هو بمنزلة عين الشمس، كلما أزددت إليها نظراً أزددت عشى.
108 - قال فيلسوف: إن كان من القبيح إذا كان البدن سمجاً بأوساخ وأقذار قد غشيته أن يكون مزيناً من خارج بثياب نظيفة، فأقبح من ذلك أن تكون النفس دنسة بأوساخ العيوب ويكون البدن من خارج مزيناً.
109 - قال فيلسوف آخر: إن كنا نعنى بجميع أجزاء البدن، وخاصة بالأشرف منها، فبالحري أن نعني بجميع أجزاء النفس وخاصة بالأشرف منها، وهو العقل.
يقال عنيت بكذا - بفتح العين وضمها؛ قاله ابن الأعرابي.
110 - وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: صف لي الناس، فقال: خلق الله الناس أطواراً، فطائفة للعبادة، وطائفة للسياسة، وطائفة للفقه والسنة، وطائفة للبأس والنجدة، وطائفة للصنائع والحرف، وآخرون بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر.
111 - قال الفضل بن مروان: مثل الكاتب مثل الدولاب، إذا تعطل انكسر.
112 - قال محرز الكاتب: اعتل عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فأمر المتوكل الفتح أن يعوده، فأتاه فقال له: أمير المؤمنين يسأل عن علتك، فقال عبيد الله: الهزج
عليل من مكانين ... من الإفلاس والدين
وفي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين
فلما عاد إليه وأخبره الخبر وصله بمائة ألف درهم.
113 - لضرار بن الخطاب الفهري: المنسرح
مهلاً أزيلوا لنا ظلامتنا ... إن بنا سورة من القلق
لمثلكم تحمل السيوف ولا ... تغمز أحسابنا من الرقق
إني لأنمى إذا انتميت إلى ... عز عزيز ومعشر صدق
بيض سباط كأن أعينهم ... ثكحل يوم الهياج بالعلق
كان بعض الرؤساء يعجب من هذا الكلام ويتعجب به.

114 - وصف أعرابي أجمة فقال: مناقع نز، ومرعى إوز، قضبها تهتز، ونبتها لا يجز.
115 - الكامل
وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حددت فكل شيء ضائر
الجد - بالجيم، ها هنا بالفتح - هو إنقياد الأمر، والحد - بالحاء - هو أمتناعه ومنعه، ومنه سمي البواب حداداً لأنه يمنع، كذا قال ثعلب؛ ومنه قيل حدود الله عز وجل أي محارمه، كأنها مانعة من التعدي؛ ومنه حدود الدار كأنها حائزو لما أحاطت به، ومانعة من أنفسها ما ليس منها؛ والحداد: البحر، كأنه مانع من الطريق؛ والحدود: المصور، والمصر: الحاجز ويكتب هكذا: أشترى فلان هذه الدار بمصورها. وقال بعض المتكلمين: حد الشيء حقيقته، ومعناه أنه ليس يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج منه ما هو فيه، وكأن الحداد منه أيضاً، لأن المرأة إذا حدت لبست الحداد، وهي الثياب السود، ومنعت نفسها من العادة في النعمة؛ والنعمة: التنعم، والنعمة: ما ينعم به، والناعم: الشيء اللين، والنعم هو منه، وقولهم: نعم، كأنه من اللين في إيجاب الشيء والإجابة فيه.
117 - أنشد ابن السكيت: البسيط
يا راقد الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
أفنى القرون التي كانت مسلطة ... مر الجديدين إقبالاً وإدبارا
يا من يكابد دنيا لا مقام بها ... يمسي ويصبح في دنياه سيارا
كم قد أبادت صروف الدهر من ملك ... قد كان في الأرض نفاعاً وضراراً
117 - يقال في الدعاء: لا ترك الله له شفراً ولا ظفراً، أي عيناً ولا يداً.
118 - وكان واعظ يقول في كلامه: يا أوعية الأسقام وأغراض المنايا، إلى متى هذا التهافت في النار؟ 119 - وأنشد لأبي مسلم: الطويل
تغيرت بعدي والزمان أنيس ... وخست بعهدي والملول يخيس
وأظهرت لي هجراً وأخفيت بغضة ... وقربت وعداً واللسان عبوس
ومما شجاني أنني يوم زرتكم ... حجبت وأعدائي لديك جلوس
وفي دون ذا ما يستدل به الفتى ... على الغدر من أحبابه ويقيس
فإن ذهبت نفسي عليك تحسراً ... فقد ذهبت للعاشقين نفوس
كفرت بدين الحب إن طرت بابكموتلك يمين ما علمت غموس
ولو كان نجمي في السعود لزرتكم ... ولكن نجوم العاشقين نحوس
120 - وقال زاهد: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غيب يوم لم يرد.
121 - أنشد لجحظة: الرمل المجزوء
قلت للحاجب لما ... ردني عنه بجهده
وتألى أنه قد نا ... م من إدمان كده
أنعاساً نام رب البي ... ت أم نام لعبده
112 - وله أيضاً: الكامل
سقياً ورعياً للجزيرة موطناً ... نواره الخيري والمنثور
وترى البهار معانقاً لبنفسج ... فكأن ذلك زائر ومزور
وكأن نرجسها عيون كلها ... كالزعفران جفونها الكافور
123 - وله أيضاً: المتقارب
وقائلة ما دهى ناظريك ... فقلت رويدك إني دهيت
شققت دجاجة بعض الملوك ... فما زلت أصفع حتى عميت
124 - وله: المديد
أنا في قوم أعاشرهم ... ما لهم في الخير عائدة
جعلوا أكلي لخبزهم ... عوضاً من كل فائده
ليت في زماننا من يؤكل خبزه.
125 - قال محمد بن عبد الملك الزيات ليعقوب بن بهرام: كلمت أمير المؤمنين في عمر بن فرج فعزله عن الديوان، فقال له يعقوب: فرغته والله لطلب عيوبك.
126 - قال الماهاني: مررت بمنجم قد صلب فقلت له: هل رأيت هذا في نجمك وحكمك؟ قال: قد كنت أرى لنفسي رفعة، ولكن لم أعلم أنها فوق خشبة.
127 - أتى رجل إلى ابن سيرين فقال له: إني رأيت في المنام كأني أصب الزيت في الزيتون، فقال له: إن صدقت رؤياك فإنك تنكح أمك. فنظر فوجد كذلك.
128 - ناظر شريف الآباء رجلاً شريفاً بنفسه. فقال له الشريف بنفسه: أنت آخر شرف وخاتمته، وأنا أول شرف وفاتحته.
129 - وتناظر آخران في هذا المعنى فقال أحدهما لصاحبه: إن شرفك إليك ينتهي. وشرفي مني يبتدي.

130 - قال ابن الأعرابي: يقال للذي إذا أكل أستظهر بشيء يضعه بين يديه ويضع يده اليسرى عليه ويأكل باليمنى: الجردبان، وأنشد في هذا المعنى: الوافر
إذا ما كنت في قوم شهاوى ... فلا تجعل يسارك جردبانا
يقال: قد جردب إذا فعل ذلك.
131 - أبو الصلت في الصلع: الرجز
بينا الفتى يميس في غراته ... إذ انبرى الدهر إلى لماته
فأجتبها بشفرتي مبراته ... كأن طستاً بين قنزعاته
مرت يزل الطير عن مقلاته 132 - ولمحمد بن يعقوب: المتقارب
وشعر تظرف للعاشقي ... ن فشاع لهم في مكان القبل
سواد إلى حمرة في بياض ... فنصف حلي ونصف حلل
كتاب إلى الحسن توقيعه ... من الله في خده قد نزل
133 - وأنشد ابن الأعرابي: الرجز
ويلك يا عراب لا تبربري ... هل لك في ذا الغرب المخصر
يمشي بعرد كالوظيف الأعجر ... وفيشة متى تريها تشفري
تقلب أحياناً حماليق الحر 134 - قال الكلابي: اللغف - بالغين والفاء - الأكل بالشفة. والندف: الأكل باليد.
135 - وقال فيلسوف: إن كان من القبيح إذا ركبنا الخيل ألا نكون ندبرها ونجريها، ولكن هي التي تدبرنا وتجرينا، فأقبح من ذلك أن يكون هذا البدن الذي لبسناه هو الذي يجري بنا ويدبرنا، لا نحن ندبره.
136 - وقال فيلسوف: الإنسان خير في الطبقة الأولى إذا كان استخراجه للأمور الجميلة من تلقاء نفسه، وهو خير في الطبقة الثانية إذا كان قابلاً للأمور الجميلة من غيره، لأن اللسان يحلف كاذباً، فأما العقل فلا يحلف كاذباً.
137 - وأنشد: الوافر
تقضت سكرتي وأتى خماري ... وما دائي من الراح العقار
بدت صفراء تسرح في كؤوس ... كأن ضياءها ضوء النهار
أرتنا الورد غضا في خدود ... تنير على نضير الجلنار
تقطفه العيون لنا بلحظ ... يؤثر مثل تأثير الشفار
يطوف بها علي قضيب بان ... يهم إذا تأود بانكسار
كأن الخصر منه إذا تثنى ... لدقته يجول على سوار
بها دافعت ضاري الهم عني ... ومنها سكرتي وبها خماري
إذا دارت على الندمان دارت ... نجوم اللهو في فلك مدار
أدمناها فدام لنا عليها اط ... طراح النسك أو خلع العذار
أقامت وهي دون الدن فيه ... لها طمران من خزف وقار
وتاج صاغه الحاني عليها ... فكان خمارها ترك الخمار
بزلناها وستر الليل مرخى ... فكان ضياؤها ضوء النهار
سلالة كرمة خلصت ودن ... كما خلص الهلال من الدراري
138 - قال رجل للفرزدق: إني رأيت في المنام كأنك قد وزنت بحمارك فرجح الحمار بك، فقطع أير الحمار وجعل في استك فرجحت بالحمار، فقطع لسانك وجعل في أست الحمار فأعتدلتما، فقال الفرزدق: إن صدقت رؤياك نكت أمك.
139 - إياك أن تعاف سماع هذا الأشياء المضروبة بالهزل، الجارية على السخف، فإنك لو أضربت عنها جملة لنقص فهمك، وتبلد طبعك، ولا يفتق العقل شيء كتصفح أمور الدنيا، ومعرفة خيرها وشرها، وعلانيتها وسرها؛ وإنما نثرت هذه الفواتح على ما اتفق، وقد كان الرأي نظم كل شيء إلى شكله، ورده إلى بابه، ولكن منع منه ما أنا مدفوع إليه من انفتات حالي، وأنبتات منتي، والتواء مقصدي، وفقد ما به يمسك الرمق، ويصان الوجه، لا عوجاج الدهر، واضطراب الحبل، وإدبار الدنيا بأهلها، وقرب الساعة إلينا؛ فأجعل الأسترسال بها ذريعة إلى جمامك، والأنبساط فيها سلماً إلى جدك، فإنك متى لم تذق نفسك فرح الهزل، كربها غم الجد، وقد طبعت في أصل التركيب على الترجيح بين الأمور المتفاوتة، فلا تحمل في شيء من الأشياء عليها، فتكون في ذلك مسيئاً إليها، ولأمر ما حمد الرفق في الأمور والتأتي لها، وما أحسن ما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله: إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى.
140 - وأنشد لجحظة: الوافر
لقد أصبحت في بلد خسيس ... أمص به ثماد الرزق مصا

إذا رفعت مسناة لوغد ... توهم جوده ما ليس يحصى
رأيت المجد إحساناً وجوداً ... فصار المجد آجراً وجصا
يقال: جص وجص، وفص وفص، وبزر وبزر، ورطل ورطل؛ فتعود المسموع الجاري، ولا تتمقت بأدبك إلى الناس.
141 - يقال: حمي أنفة - ولا تقل بضم الهمزة فإنه من فاحش الخطأ - يحمى محمية - خفيفة - ، وهو ذو حمية معناه: كأنه يمنع مما أريد به؛ يقال: أحمى أرض كذا، أي جعلها حمى، والحمى ما لا يرعاه أحد؛ وقيل: قلب المؤمن حمى، أي لا يطور به ريب؛ وقيل: قلب المؤمن حرم الله، وما أقدم على إيضاح معناه؛ وأحمى الحديد؛ وأحمومي العنب أي أسود؛ وحمى مريضه حمية إذا منعه؛ والله يحمي عبده المختار من الدنيا لئلا يدنس بها إلا من عصمه؛ وحميا الكأس سورتها؛ هذا حفظي من كتاب الأجناس بعد السماع.
142 - قال بطلميوس: دلالة القمر في الأيام أقوى، ودلالة الشمس والزهرة في الشهر أقوى، ودلالة المشتري وزحل في السنين أقوى.
143 - يقال في الأمثال: قد يبلغ الشدو بالقطو؛ الشدو: سير فيه إسراع، والقطو: سير فيه إبطاء؛ كما يقال: قد يبلغ الخضم بالقضم؛ الخضم: أكل الشيء الناعم، والقضم: أكل الشيء اليابس، وكأن الخضم في الرخاء والقضم في الشدة.
144 - والعرب تقول: فلان صل صفاً وذئب غضاً، أي شرير.
145 - ويقال: فلان منقطع القبال، أي لا رأي له.
146 - أهدى أعرابي إلى هشام ناقة فلم يقبلها، فقال: يا أمير المؤمنين إنها مرباع مقراع، أي سريعة الدر؛ مرباع: أي تنتج في الربيع، مقراع: أي تحمل في أول الضراب وهو القرع.
147 - والعرب تقول في أمثالها: عند الصليان الرزمة، أي إلى الكريم تحن؛ وعند القصيص تكون الكمأة، أي عند الحر يكون المعروف؛ والصليان والقصيص: نبتان معروفان، كذا قال أبو حنيفة صاحب النبات.
148 - سأل رجل محمد بن علي عليه السلام عن القدر، فقال: أجبر اللة العباد على المعاصي؟ فقال: معاذ الله، لو أجبرهم لما عذبهم؛ قال: ففوض إليهم؟ قال: معاذ الله، لو فوض إليهم لما احتج عليهم، قال: فما بعد هذين؟ قال: أمر بين أمرين، لا إجبار ولا تفويض، كذا أنزل إلى الرسول.
149 - العرب تقول: رجل مسواف، أي لا يعطش، ورجل ملواح: سريع العطش؛ والعرب تقول: رماه بخشاش أخشن، ذي ناب أحجن، كأنه يراد به حية؛ والعرب تقول: ما أنا إلا درج يدك: أي في طاعتك.
150 - وأنشد لعبد الصمد بن المعذل: الطويل
هي النفس تجزي الود بالود أهله ... وإن سمتها الهجران فالهجر دينها
إذا ما قرين بت منها حباله ... فأهون مفقود عليها قرينها
لبئس معار الود من لا يوده ... ومستودع الأسرار من لا يصونها
151 - العرب تقول في أمثالها: الحسن أحمر، أي لا ينال النفيس إلا بشق الأنفس، كأنه لا ينال إلا بالقتال وسفك الدم؛ ميم الدم خفيفة، وباء الأب خفيفة، فتوق لحن العامة وأشباه العامة من الخاصة، وروض لسانك على الصواب.
152 - قيل للحسن البصري: كيف لقيت الولاة يا أبا سعيد؟ قال: لقيتهم يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وإذا بطشوا بطشوا جبارين.
153 - قال بعض اليونانين: مقدم الرأس للفكر، ومؤخر الرأس للذكر، والدليل على ذلك المتفكر والمتذكر، لأن المتفكر بطأطىء رأسه، والمتذكر يرفع رأسه.
154 - وقال: بنات الدهر المكاره، وبنات الصدر الفكر، وبنات الليل النجوم، وبنات طبق الدواهي، وبنات أوبر الكمأة.
155 - قال محمد بن سلام: غرض أعرابي من امرأته - ومعنى غرض ضجر ها هنا - فقال: الطويل
رزقت عجوزاً قد مضى من شبابها ... زمان فما فيها لذي اللبس ملبس
ترى نفسها زيناً وليست بزينة ... إذا رد فيها طرفه المتأنس
لها ركبتا عنز وساقا نعامة ... وكاهل حرباء بدا يتشمس
وعين كعين الضب في ضمن تلعة ... ووجه لها مثل الصلابة أملس
156 - قيل لجمين: كل من هذا الطين السيرافي، وكان على نبيذ، فإنه أطيب، قال: ولم؟ أبلغكم أن في بطني وكفاً؟ 157 - قال أبو العيناء: تقدم الأصمعي إلى جارية له بعدما كبر فأنقطع، فقال: الحمد لله الذي خلق خلقاً فأماته في حياته.

158 - ويقال: زاحم شاب شيخاً في طريق وقال يماجنه: كم ثمن هذا القوس - يعيره بالأنحناء، فقال له الشيخ: إن طال عمرك فإنك تشتريه بلا ثمن.
يقال: عيرته كذا وبكذا، وحذف الباء أغرب، وبالباء أحرى.
159 - وقال أعرابي: حماقة تمونني أحب إلي من عقل أمونه. وهذا عليه كلام في معرفة سداده وفساده، ولكن ألقيته إليك كما علقه القلب ورواه اللسان.
160 - أهدت متيم جارية علي بن هشام إلى مولاها كأساً مخروطة وكتبت في خرطها: الرمل المجزوء
قالت الكأس خذوني ... كم إلى كم تحبسوني
إن جسمي من زجاج ... فاحذروا لا تكسروني
وأجعلوا الساقي غلاماً ... ذا دلال وفتون
فإذا أنتم سكرتم ... فخذوه في سكون
161 - قال القاسم بن الحسين: كان لبعض الظرفاء جاريتان مغنيتان إحداهما حاذقة والأخرى متخلفة، وكان إذا قعد معهما وغنته الحاذقة خرق قميصه، وإذا غنت الأخرى قعد يخيطه.
162 - قال أبو السلام الأسدي: الرجز
تسألني ما عندها وعن دد ... فإنني يا بنت آل مرثد
راحلتي رجلي وآمراتي يدي الدد: اللهو؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا من دد ولا الدد مني.
163 - سأل رجل الحسن البصري: أمؤمن أنت؟ فقال: إن كنت تريد قول الله عز وجل " آمنا بالله وما أنزل إلينا " البقرة: 136، فنعم، به نتناكح ونتوارث ونحقن الدماء؛ وإن كنت تريد قول الله تعالى " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " الأنفال: 2، فنسأل الله أن نكون منهم.
164 - قال فيلسوف: إن الذي يطلب ما ليس له نهاية هو جاهل؛ اليسار شيء ليس له نهاية.
165 - قيل لفيلسوف: لم أخترت السكني في مدينة كذا وهي وبيئة؟ قال: حتى إذا لم أمتنع من الشهوات لمضرة النفس امتنعت منها من خوف مضرة البدن.
166 - قال ابن الأعرابي: قال خالد بن صفوان لرجل: رحم الله أباك. فما رأيت رجلاً أسكن فوراً، ولا أبعد غوراً، ولا آخذ بذنب حجة، ولا أعلم بوصمة، ولا أنبه في كلام منه.
167 - وقال ابن الأعرابي: دفع رجل رجلاً من العرب، فقال المدفوع: لتجدني ذا منكب مزحم، وركن مدغم، ورأس مصدم، ولسان مرجم، ووطء ميثم، أي مكسر.
168 - قال ابن الأعرابي، قيل لأعرابي: ما أشد البرد؟ قال: إذا كانت السماء نقية، والأرض ندية، والريح شآمية.
توق تشديد ياء ندية وشآمية؛ ألا ترى أنك تقول: هذا تراب ند، وروض ند، ورجل شآم، وامرآة شآمية؟ 169 - وقال ابن الأعرابي، قال آخر: إذا صفت الخضراء، ونديت الدقعاء، وهبت الجربياء، يعني في شدة البرد؛ الخضراء: السماء، والدقعاء: الأرض، والجربياء: الشمال؛ هكذا حفظته.
170 - مدح أعرابي نفسه فقيل له: أتمدح نفسك؟ فقال: أفاكلها إلى عدو يشتمني ويذمني؟ 171 - وأنشد ابن الأعرابي لشاعر: الطويل
لحا الله أنآنا عن الضيف بالقرى ... وألأمنا عن عرض والده ذبا
وأدخلنا للباب من قبل آسته ... إذا القور أبدى من جوانبه ركبا
القور: جمع قارة، وهو الجبل الصغير، كأنه يريد طلوع الركب من هذا الوجه.
172 - وأنشد: الطويل
إذا كنت تبغي شيمة غير شيمة ... جبلت عليها لم تطعك الضرائب
وكم من عديم العقل جد بجده ... ومن عاقل أعيت عليه المكاسب
173 - وأنشد: الوافر
وجرح السيف تدمله فيبرا ... وجرح الدهر ما جرح اللسان
174 - وقيل لفيلسوف: هل رأيت إنساناً أشد تقشفاً منك؟ قال: فلان الملك وفلان الملك، قيل: كيف؟ قال: لأني رفضت هذه الأشياء القليلة اللبث، القصيرة الزمان، ودأبت في طلب الأشياء الدائمة الثابتة، وأولئك اقتصروا على تلك الأشياء القليلة الصحبة والإمتاع، فهم باقتصارهم عليها أشد تقشفاً مني.
175 - وقال سقراطيس: لتكن عنايتك بحسن استعمال ما يكتسب أحسن من عنايتك بأكتساب ما يكسب.
176 - وقال فيلسوف: إذا تزين المرء بالذهب والفضة، فقد دل على نقصه في نفسه عنهما، لأنه عدم الكمال، والفاضل هو الذي يزين بنفسه الذهب والفضة بحسن السياسة فيهما والتدبير في تصريفهما.
177 - للمقنع الكندي: الكامل
وإذا رزقت من النوافل ثروة ... فأمنح عشيرتك الأداني فضلها

وأستبقهم لدفاع كل ملمة ... وارفق بناشئها وطاوع كهلها
وأعلم بأنك لن تسود فيهم ... حتى ترى دمث الخلائق سهلها
178 - وكان أبو حامد ابن بشر المروروذي إذا سمع تراجع المتكلمين في مسائلهم ورأى ثباتهم على مذاهبهم بعد طول جدلهم ينشد: الرجز
ومهمه دليله مطوح ... يدأب فيه القوم حتى يطلحوا
ثم يظلون كأن لم يبرحوا ... كأنما أمسوا بحيث أصبحوا
179 - عاد الخليل بعض تلامذته، فقال له تلميذه: إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومزوراً.
180 - وأنشد: المديد
يا نسيم الروض في السحر ... ومثال الشمس والقمر
إن من أسهرت مقلته ... لقرير العين بالسهر
181 - قيل للحسين بن علي رضي الله عنهما: إن فيك عظمة، قال: لا، بل في عزة، قال الله تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8.
182 - قال الحسن بن سهل: لا يكسد رئيس صناعة إلا في شر زمان وأخس سلطان.
183 - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عليكم بأوساط الأمور فإنه إليها يرجع العالي، وبها يلحق التالي، وشبه ذلك بالحبل إذا قبض على وسطه، فالقابض قريب من طرفيه، والآخذ بأحد طرفيه بعيد من الآخر.
184 - وقال ابن هرمة: الكامل
جعلوا الألى سبقوا إليك فرشتهم ... للأخرين معالماً وسبيلا
فأخذ هذا المعنى الحسن بن وهب وكتب إلى بعض العمال: إن حسن ثناء الصادرين إلينا عنك يزيد في عدد الواردين عليك من قبلنا.
185 - قال حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي: كان لأبي إسحاق غلام يسقي الماء لمن في داره على بغلين، فرآه أبي يوماً وهو يسوق البغل وقد قرب من الحوض الذي يصب فيه الماء فقال: ما خبرك يا فتح؟ قال: خبري يا مولاي أنه ليس من أحد في هذه الدار أشقى مني ومنك، وكيف ذلك؟ قال: لأنك تطعمهم الخبز وأنا أسقيهم الماء، فضحك منه ثم قال له: فما تحب أن أصنع بك؟ قال: تعتقني وتهب لي هذين البغلين، ففعل ذلك.
قيل للنظام: أتناظر أبا الهذيل؟ قال: نعم، وأطرح له رخا من عقلي.
قال المتوكل لمحمد بن عبد الله بن ظاهر: أتجانبني؟ قال: أنا إلى مواصلة أمير المؤمنين أقرب.
قال علي بن عبيدة: قلت أبياتاً من الشعر ووجهت بها إلى إسحاق الموصلي وقلت: إنها عارية فاكسها، فغنى فيها.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي ذر: من أغبط الناس؟ قال: رجل بين أطباق الثرى، قد أمن العقاب، وهو يتوقع الثواب، فقال عمر: لو كان أعد هذا الكلام منذ حول ما زاد على هذا.
ذم رجل عاملاً فقال: لا يضبط حاشيته فكيف يضبط قاصيته؟ وقال عمر بن عبد العزيز لإياس بن معاوية: دلني على قوم من القراء أولهم، فقال له: إن القراء ضربان: ضرب يعلمون للآخرة، وأولئك لا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا فما ظنك بهم إذا مكنتهم منها، فقال: ما أصنع؟ قال: عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأنسابهم ويرجعون إلى أعراقهم فولهم.
وقال بعض الأوائل: أجعل سرك إلى واحد ومشورتك إلى ألف.
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر لولده: عفوا تشرفوا واعشقوا تظرفوا.
جلس ذو اليمينين يوماً من الأيام للمظالم، فعرض عليه رقعة رجل أدعى أجرة على رجل آخر وأحال المدعي على رجل آخر، فوقع: يرجع إلى الفصل الثاني من كتاب كليلة ودمنة، فرجع إلى ذلك الفصل فوجد فيه: أجرة الأجير على من استأجره، فعمل بذلك.
عاتب الفضل بن سهل الحسين بن مصعب في أمر طاهر والتوائه وتلونه، فقال له الحسين: أنا أيها الأمير شيخ في أيديكم، لا تذمون إخلاصي، ولا تنكرون نصيحتي، فأما طاهر فلي في أمره جواب مختصر، وفيه بعض الغلظ، فإن أذنت ذكرته، قال: قل، فقال: أيها الأمير، لو أخذت رجلاً من عرض الأولياء، فشققت صدره، ثم جعلت فيه قلباً قتل به خليفة، وأعطيته آلة ذلك من الرجال والأموال والعبيد، ثم تسومه بعد ذلك أن يذل لك ويكون كما كان أولاً، لا يتهيأ لك هذا إلا أن ترده إلى ما كان، ولا تقدر على ذلك؛ فسكت الفضل.

قال المكي: كنت عند سفيان بن عيينة وجاء رجل فقال له: إن جاري قد آذاني، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من آذى جاره ورثه الله داره، فقال له: إن هذا لفي كتاب الله عز وجل، قال الرجل: وأين ذلك؟ قال: قال الله عز وجل " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين. ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " إبراهيم: 13 - 14، فقال المكي وقبل رأسه.
كتب أحمد بن إسماعيل إلى ابن المعتز رقعة في فصل منها يصف الحق بقوله: ولم أر كالحق أصدق قائلاً، ولا أفضل عالماً، ولا أجمل ظاهراً، ولا أعز ناصراً، ولا أوثق عروة، ولا أحكم عقدة، ولا أعلى حجة، ولا أوضح محجة، ولا أعدل في النصفة، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري على أحد إلا جرى له، يستوي الملك والسوقة في واحته، ويعتدل البغيض والحبيب في محضه، طالبه حاكم على خصمه، وصاحبه أمير على أميره، من دعا إليه ظهر إليه برهانه، ومن جاهد عليه كثر أعوانه، يمكن دعاته من آلة القهر، ويجعل في أيديهم آلة النصر، ويحكم لهم بغلبة العاجلة، وسعادة الآجلة؛ ولم أر كالباطل أضعف سبباً، ولا أوعر مذهباً، ولا أجهل طالباً، ولا أذل صاحباً، من اعتصم به أسلمه، ومن لجأ إليه خذله، يرتق فينفتق، ويرقع فينخرق، إن حاول صاحبه بيعه بارت سلعته، وإن رام ستره زادت ظلمته، لا يقارنه البرهان، ولا يفارقه الخذلان، قد قذف عليه بالحق يدمغه ويقمعه فيمحقه، صاحبه في الدنيا مكذب، وفي الآخرة معذب، إن نطق دل على عيبه، وإن سكت تردد في ريبه.
قال بعض السلف: الخيل تجري في المروج على أعراقها، وفي الحلبة على جدود أربابها، وفي الطلب على إقبال فرسانها، وفي الهزيمة على آجالهم.
وأنشد لخلف: المتقارب
وحق المراشف من ثغره ... وملتثم طاب من نحره
لما غاب عن ناظري شخصه ... ولا شغل القلب عن ذكره
وإني لأزداد وجداً به ... إذا ازداد بالبخل في هجره
ووالله لو قال مت حسرة ... لبادرت طوعاً إلى أمره
قال جحظة: قلت لإسماعيل بن بلبل وقد ولي الوزارة: الوزارات عوار، واصطناع الخير نهزة، فأغتنم الوجدان قبل الفقدان؛ قال: فضحك وقال: أفعل.
دخل سفيان بن عيينة على الرشيد وهو يأكل من صحفة بملعقة فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني عبيد الله بن أبي يزيد عن جدك ابن عباس في قوله عز وجل " ولقد كرمنا بني آدم " الإسراء: 70 أي جعلنا لهم أيدياً يأكلون بها، فكسر الملعقة.
كتب كلثوم بن عمرو إلى خالد بن يزيد وهو بملطية يستوصله بقصيدة يقول فيها: الكامل
ولكل قوم في مجاري سيلهم ... مرعى ولكن ليس كالسعدان
فوجه إليه بعشرة آلاف درهم.
أعرابي: البسيط
تفتر عن واضح الأنياب ذي أشر ... كعاتق الراح ممزوجاً به العسل
بعد الرقاد إذا ما النوم قلبها ... جنبا لجنب وجافى جسمها الكسل
قال بعض أصحاب أبي حنيفة لأحمد بن المعذل: كتب مالك تكتب في حواشي كتب أبي حنيفة، قال أحمد: " قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " المائدة: 100.
مدح أعرابي رجلاً فقال: هو كالمسك، إن خبأته عبق وإن تركته عتق، أي جاد.
ولما مرض هبة الله بن إبراهيم بن المهدي جزع إبراهيم وقلق، فكان يقول: الرجز
هب واحداً لواحد يا واحد ... فقد علمت ما يلاقي الوالد
أنشد أبو عثمان المازني لأبي لهب بن عبد المطلب: الطويل
سأكتمه سري وأحفظ سره ... ولا غرني أني عليه كريم
حليم فينسى أو جهول فيتقى ... وما الناس إلا جاهل وحليم
لقي عبد الله بن عمر صديقاً له فقال: إني لأغيب عنك بشوق، وألقاك بتوق، فسمع أعرابي كلامه فقال: لو كان كلام يؤتدم به لكان هذا.
لأبي دلف: الكامل
إن المكارم كلها حسن ... والبذل أحسن ذلك الحسن
كم عارف بي لست أعرفه ... ومخبر عني ولم يرني
أحتبس المعتز عبيد الله بن عبد الله بن طاهر للمنادمة، فلما غنت شارية، ولم يكن سمعها قبل يومه، قال له المعتز: كيف ما سمعت؟ قال: يا أمير المؤمنين، حظ العجب أكثر من حظ الطرب.
شاعر: المديد

قد وجدنا غفلة من رقيب ... فسرقنا لحظة من حبيب
ورأينا ثم وجهاً مليحاً ... فوجدناه حجة للذنوب
وقع المعتز تحت دعاء بإطالة البقاء: كفى بالانتهاء قصراً.
وقال: من كان عاقلاً لم يستشر إلا عاقلاً.
قال طاهر بن الحسين لأحمد بن أبي خالد: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي غير ضائع، فتعينني عند أمير المؤمنين؛ فتلطف له عنده حتى قلده خراسان، فلما خرج إليها أرسل إلى أحمد عشرة آلاف درهم.
قيل لفيلسوف: ما بال الثمرة غشاؤها هو المأكول منها والنواة في جوفها، والجوزة بخلاف ذلك؟ قال: لم يكن العناية بما يؤكل من حال الأكل، وإنما كانت العناية ببقاء النوع، فحفظت النواة بالغشاء والجوزة بالقشر.
قال ثعلب: حدثني عبد الله بن شبيب قال: كتب إلي بعض إخواني من البصرة إلى المدينة: أطال الله بقاك كما أطال جفاك، وجعلني فداك وإن جازني نداك: الوافر
كتبت ولو قدرت هوى وشوقاً ... إليك لكنت سطراً في كتاب
قال أبو العيناء: اشتري للواثق عبد فصيح من البادية، فأتيناه وجعلنا نكتب عنه كل ما يقول، فلما رأى ذلك منا قلب طرفه وقال: الرجز إن تراب قعرها لمنتهب يقال ذلك للرجل تسر الناس رؤيته لانتفاعهم به، والأصل فيه أن الحافر يحفر، فإن خرج التراب مراً علم أنه ملح فلم يحفر، وإن كان طيباً علم أن الماء عذب فأنبط، فإذا خرج طيباً آنتهبه الصبيان سروراً به ومضوا إلى الحي يخبرونهم.
وكتب أبو العيناء إلى الوزير أبي الصقر: أنا - أعزك الله - طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي عند عثرة الدهر، وكبوة الكبر، وعلى أية حال حين فقدت الأولياء والأشكال، الذين يفهمون من غير تعب، فحللت مني عقدة الخلة، ورددت إلي بعد النفور النعمة، وكتبت كتاباً إلى الطائي، فكأنما كان منك إليك، لقد أتيته وقد أسكعت به الأمور، وأحاطت به النوائب، فكاثر من بشره، وبذل من يسره وعسره، وأعظى من ماله أحسنه، ومن بره أكرمه، مكرماً مدة ما أقمت، ومنفلاً من ماله لما ودعت، حكمني في ماله فتحكمت، وأنت تعرف جوري إذا تمكنت، فأحسن الله جزاءك، وأعظم حباءك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك ويوم حمامك، فلقد أنفقت علي مما ملكك الله، وأنفقت ما تيسر لي من القول، والله تعالى يقول: " لينفق ذو سعة من سعته " الطلاق: 7، وقد أنفق كل مما ملكه الله، فالحمد لله الذي جعل لك اليد العالية، والمرتبة الشريفة، ولا أزال عن هذه الأمة ما بسط لها من عدلك، وبث فيها من رفدك، والسلام.
قال أبو العيناء: لما أدخلت على المتوكل عابثني جلساؤه، فلما برزت عليهم قال المتوكل: ادفعوا إليه عشرة ألاف درهم اتقاء للسانه، فقلت: د قتلتني والله يا أمير المؤمنين، قال لي: ويحك، وكيف ذلك؟ قلت: لأن من خفته لا يعيش، فقال: ليس خوف فرق ولكن خوف صيانة.
ودخل أبو العيناء يوماً على عبد الرحمن بن خاقان، وكان يوماً شاتياً، فقال له عبد الرحمن: كيف تجد هذا اليوم يا أبا عبد الله؟ قال: تأبى نعماك أن أجده.
وكان أبو العيناء يوماً بحضرة عبيد الله بن سليمان، فأقبل الطائي فعرف مجيئه فقال: هذا رجل إذا رضي عشنا في نوافل فضله، وإذا غضب تقوتنا بقايا بره.
سأل أبو العيناء إبراهيم بن ميمون حاجة، فدفعه عنها وأعتذر إليه وأعلمه أنه قد صدقه فقال له: والله قد سرني صدقك لندور الصدق عندك، فمن صدقه حرمان كيف يكون كذبه؟ قال الزيادي: كان في حواري رجل ضعيف الحال، فعملت هريسة ودعوته ليأكل معي فلم ألحق معه إلا لقمتين، فقلت له: دعوتك رحمة فصيرتني رحمة!

قال أبو العيناء: قال لي عيسى بن زيد المراكبي، وكان من أملح الناس: كان لي غلام من أكسل خلق الله، فوجهته يوماً ليشتري عنباً رازقياً وتيناً، فزاد وأبطأ على العادة، ثم جاء بعد مدة بعنب وحده، فقلت له: أبطأت حتى نوطت الروح ثم جئت بإحدى الحاجتين؟! فأوجعته ضرباً وقلت: إنه ينبغي لك إذا استقضيتك حاجة أن تقضي حاجتين، لا إذا أمرتك بحاجتين أن تجيء بحاجة؛ ثم لم ألبث بعدها أن وجدت علة فقلت له: امض فجئني بطبيب وعجل، فمضى وجاءني بطبيب ومعه رجل آخر، فقلت له: هذا الطبيب أعرفه، فمن هذا؟ قال: أعوذ بالله منك، ألم تضربني بالأمس على مثل هذا؟! قد قضيت لك حاجتين وأنت استخدمتني في حاجة، جئتك بطبيب ينظر إليك، فإن رجاك وإلا حفر هذا قبرك، فهذا طبيب وهذا حفار. أيش أنكرت؟ قلت: لا شيء يا ابن الزانية! كان أحمد بن سليمان بن وهب يكتب، فدخل أبوه فقال: يا بني، سألت علي بن يحيى أمس أن يؤنسني اليوم بمصيره إلي، فاكتب إليه رقعة وسله فيها إنجاز وعده، فأخذ القلم والقرطاس وكتب: السريع
يا من فدت أنفسنا نفسه ... موعدنا بالأمس لا تنسه
لما ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغروا سنه، فقال له رجل: كم سن القاضي أعزه الله تعالى؟ فقال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؛ فجعل جوابه احتجاجاً.
وأنشدت لعلية بنت المهدي: الطويل
سأمنع طرفي أن يلف بنظرة ... وأحجبه بالدمع عن كل منظر
وأشكر قلبي فيك حسن بلائه ... أليس به ألقاك عند التفكر
الحمدوني: السريع
وليلة قصر لي طولها ... بدر على غصن من الآس
بات يسقيني وألحاظه ... أسرع في عقلي من الكاس
قال أحمد بن الطيب السرخسي: سمعت الكندي يقول، قال بقراط: سلوا القلوب عن المودات فإنها شهود لا تقبل الرشا.
قال إسحاق الموصلي، قال بعض الأوائل: أول العشق النظر، وأول الحريق الشرر.
وقال خالد الكاتب: الكامل
أين الفرار وحب من هو قاتلي ... أدنى إلي من الوريد الأقرب
إني لأعمل فكرتي في سلوتي ... عنه فيظهر في ذل المذنب
قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: ولدت علية بنت المهدي سنة ستين ومائة، وماتت سنة عشرين ومائتين، ومن شعرها: الكامل
لا حزن إلا دون حزن نالني ... يوم الفراق وقد خرجت مودعا
فإذا الأحبة قد تفرق شملهم ... ووقفت فرداً والهاً متفجعا
وأنشد لمروان بن أبي حفصة: الطويل
يقول أناس إن مرواً بعيدة ... وما بعدت مرو وفيها ابن طاهر
وأبعد من مرو رجال أراهم ... بحضرتنا معروفهم غير حاضر
قال رجل للإسكندر: إن عسكر دارا كثير، فقال الإسكندر: إن الغنم وإن كثرت تذل لذئب واحد.
رأى الإسكندر سمياً له لا يزال يهزم فقال له: إما أن تغير فعلك وإما أن تغير اسمك.
رأى فيلسوف مدينة حصينة بسور محكم فقال: هذا موضع النساء لا موضع الرجال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي الدرداء: ما أشرقت الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان: اللهم عجل لكل منفق خلقاً، اللهم عجل لكل ممسك تلفاً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الدنيا حلوة خضرة، من أخذها بحقها بارك الله فيها، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة وفي رواية: له النار يوم يلقاه.

وروي عن أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول كلكم مذنب إلا من عافيت، فأستغفروني أغفر لكم، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فأستغفرني بقدرتي غفرت له ولا أبالي، وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أرزقكم، ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على قلب أتقى عبد من عبادي لم يزيد ذلك في ملكي جناح بعوضة ولو أن حيكم وميتكم وأولكم وآخركم ورطبكم ويابسكم يسأل كل سائل أمنيته فأعطيت كل سائل ما يسأل، لم ينقصني إلا كما أن أحدكم مر على سيف البحر فغمس إبرة ثم أنتزعها؛ ذلك لأني جواد ماجد واجد، أفعل ما أشاء، عطائي كرم، وإذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي. وبيصه وبصيصه: بريقه.
قال الله عز وجل: " فلا تغضلوهن " البقرة: 232؛ قال الأصمعي وغيره: يقال عضل الرجل أيمه أي منعها التزوج، وأعضل الأمر: اشتد، وعضلت الحامل إذا نشب ولدها في بطنها؛ ومعنى نشب: كأنه صار كالنشاب في ولوجه ولصوقه، ومنه قول أبي ذؤيب: الكامل
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
المنية: المقدورة، منى الماني: قدر القادر، وأنشبت: أدخلت بشدة أظفارها، واحدها ظفر، ومنه يقال: ظفرت بالرجل فهو مظفور به، كأنك تمكنت بيدك وأصابعك منه؛ ومعنى ألفيت: وجدت، والتميمة: التعويذة وما يرقى به، وأما الرتيمة فما تعقده بأصابعك تتذكر به الحاجة، قال الشاعر: الطويل
أبا حسن إن الرتائم إنما ... تذكر بالأمر العبام المغمرا
فأما الذي عيناه حشو فؤاده ... فليس بمحتاج إلى أن يذكرا
العبام: الفدم، والفدم: ذو الفدامة، والفدامة - مخففة - : الوخامة، والمغمر: الغمر، وهو الذي لم تسمه الأيام بصروفها ولم يعان فيها غيرها.
قال أوس في التعضيل: الطويل
ترى الأرض منا كالفضاء عريضة ... معضلة منا بجمع عرمرم
ويقال: ضاقت بنا الأرض كما يضيق الولد بالرحم؛ ويقال: ما كان بذي عضل، ولقد عضل عضلاً، والعضلة كل لحمة صلبة، وداؤه عضال أي صعب، وعقام أيضاً، وهو الذي قد أعيا، قالت الأخيلية: الطويل
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة ثناها
ويقال: ما أبين الضلاعة في جملك، أي ما أبين الشدة والوقاحة، وضلع فلان مع فلان أي ميله، وفي الخلقة ميلها - محركة الياء - ، فكأن الميل من مال يميل ميلاً إذا فعل الميل، والميل خلقة كالعرج والشلل والحدب والقعس. ويقال: لتجدنه مطلعاً لذلك الأمر أي غالباً له، ورأيته مضطلعاً لذلك أيضاً، وبعير ضليع أي شريج، والشريج: الغليظ، والوشيج: المتصل، والعجيج: الصوت، والضجيج: الضوضاء، والفضيج: المكسور، ومنه انفضاج الشيء. والحجيج: الحاج إلى الكعبة، والحجيج أيضاً: المحجوج، والمحجوج: الذي بهرته الحجة، ومنه فحج آدم موسى.
جرى هذا الحديث في مجلس الرشيد، أعني قوله: فحج آدم موسى، فقال رجل من ولد المنصور كان شاهد المجلس: وأين التقيا حتى تحاجا؟ فسمعها الرشيد فقال: كلمة زنديق، أتتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا؟! أضربوا عنقه؛ فما زال الشهود يضرعون إليه سائلين العفو عنه حتى كف، وأنا أروي لك الحديث على وجهه:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن موسى قال: يا رب، أبونا آدم هو الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم فقال: أنت آدم؟ فقال: نعم، فقال: الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر ملائكته فسجدوا لك؟ قال: نعم. قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له آدم: ومن أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه؟ قال: نعم، قال: أفما وجدت في كتاب الله تعالى أن ذلك كائن قبل أن أخلق؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني في شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: فحج آدم موسى، أي أخذه بالحجة.
والمحجوج: المقصود، والمحجة: المقصد، والحاجة: ما تكون طلع القصد وتلو المراد.
وهذا الحديث الذي رويته لك هو الذي استفاض بين رواة الأثر وحملة الخبر، والمتكلمون يعتريهم عنده وعند أمثاله قشعريرة وتنكر، ولو حمل الأمر على رأيهم في جميع أركان الشريعة سقط ثلثا الشريعة وحصل الثلث. وما أحوج الناظر في الدين إلى حسن الظن واليقين، وإلى متن متين فيه، فإنه متى حاول معرفة كل شيء بالرأي والقياس كل ومل، ومتى استرسل مع كل شيء زل وضل، والأعتدال بينهما الجمع بين الرأي والأثر، والقياس والخبر، مع التخفف إلى ما بان وأشرق، والتوقف عما أبهم وأغلق.
فأما الأجيج فهو تأجج النار وهو اشتعالها، وأما تأجيجها فإشعالها، وأما الشجيج فالمشجوج، والشحيج للبغل بمنزلة الصهيل للفرس، وأما الوديج فالذي ودج، يقال: ودج دابته، والودج للدابة بمنزلة الفصد للإنسان، وأما الحليج فالمحلوج من القطن، والفليج: المفلوج، وهو المفلج، والفلج: النهر لانفتاحه، والفلج في الأسنان: تفتحها - ضد الضزز - وهو محمود، والفلج: الظفر، كأنه ينفتح فؤاد الظافر، يقال: فلج على خصمه إذا ظهرت حجته عليه، وأفلج الله حجته إذا أظهرها وبهرها؛ وفلج الرجل إذا استرخى جانبه، كأن معاقد عصبه تفلجت وتحللت.
هذا فن لا تستغني - أعزك الله - عنه عند موازنة الكلام، وتشقيق اللفظ، وإيضاح المراد، وتمييز المتشابه؛ فغص على بابه بالقياس الصحيح والسماع الفصيح، وستقع من ذلك على شيء كثير في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وإنما أقلبك من فن إلى فن لئلا تمل الأدب، فإنه ثقيل على من لم تكن داعيته من نفسه، والله يهديك كافياً ونصيراً.
سمعت القاضي أبا حامد المروروذي يقول في كتاب أدب القاضي حاكياً أن الشهادة كانت شائعة بين المسلمين ولم تكن مقصورة على ناس معروفين: قد اتخذوا العدالة حبالة، ونصبوها شركاً ومحالة. وكان الثوري يقول: الناس عدول إلا العدول. وكان بعض البصريين يكره أن يقول العدول ويقول هؤلاء المعدلون. نعم، قال: حتى ظهر إسماعيل القاضي صاحب المبسوط على مذهب الإمام مالك، فجعلها في بيوت منسوبة معروفة، وأستمر القضاة بعده على ذلك، وقال: رحم الله أبا عمر القاضي، فإنه عدل بعض البغدايين، فبلغه عنه في تلك الحال أنه رقص فرحاً، فأسقطه لفرحه وخفته، وقال: كان ينبغي أن يزداد وقاراً في الدين، ورصانة فيما تحمل من المسلمين للمسلمين.

وقال أيضاً أبو حامد: حدثني علي بن أبان الطبري، وكان علامة، قال: كتب لي عهدي على قضاء أصبهان، فتجهزت إليها قاصداً، فلما دانيت المدينة جمعت سوادي في عيبة كانت على الحمار، ولففت رأسي بالفوطة، وتلثمت متنكراً، وخرج العدول مستقبلين، وكانت الشهادة في الدهاقين وأرباب السياسة؛ وأنسلخت من القافلة مقدماً، فسألوني عن القاضي فقلت: إنه قد دخل البلد، فرجعوا يتراطنون بينهم؛ ثم إني وافيت البلد فدخلت المسجد الجامع ولبست السواد وجلست، فما عني بي أحد ولا عاج علي إنسان ولا عرف أحد مكاني، وكان ذلك عن مؤامرة جرت بينهم لكراهية نالت قلوبهم مني بتنكري عليهم. فلما رأيت راسلت صديقاً لي حتى أكترى لي مثوى وثبت الشهود على التقاعد، وأشرفت على الأستيحاش والأنصراف؛ ثم إني تداركت الأمر وقلت للصديق: صف لي قوماً مستورين وحلهم وأحص أسماءهم وأذكر صنائعهم، وأجعل جل ذلك في التجار، ففعل ذلك كله. وكان المحلون عشرين نفساً، فأختلفت إلى مساجدهم ومشاهدهم ومساكنهم، متصفحاً لأحوالهم ومتتبعاً لأمورهم ومتقصياً لآثارهم ومستشفاً لأخبارهم، حتى وضح لي أمر ثمانية عشر نفساً، ثم عدت إلى مجلس الحكم، فتقدم خصمان فثبت الحكم بينهما بشهادة أولئك؛ فلما بلغ العدول ذلك أضجرهم وأقلقهم، فجاءوا معتذرين خاضعين، فقلت: إني لا أعرفكم إلا أن يزكيكم هؤلاء الذين قد عرفتهم وقبلت أقوالهم؛ فأعطوا الصفقة وأظهروا الذلة وألتحفوا بالندم، ثم أستتب أمري بعد ذلك.
النقص في العدول فاش جداً، وفي الناس من بعد؛ أنا سمعت رجلاً من كبار الشهود، كان ابن معروف يقدمه وغيره يعظمه، وقد جرى شيء فأنبرى قائلاً: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعقرها وتوكل، فاستثبته مغالطاً لسمعي، فكان أشد؛ فلما شملنا الأنس على المائدة عرفته وجه الصواب، فكان سبب عداوته لي وإفساده لحق كنت مطالباً به بعض التجار في قطيعة الربيع. والحديث في هذه الضروب يطول، ولعله يمر في عرض ما رسم في هذا الكتاب ما يكون باعثاً على طلب الفضيلة ومجانبة الرذيلة، إن شاء الله تعالى.
قيل لفيلسوف: أي الحيوان أكثر صنعة مع محبة لها؟ فقال: أما ما ينتفع به الناس فالنحل، وأما ما لا ينتفعون به فالعنكبوت.
وجاء بعض الكلبيين، وهم جنس من اليونان، إلى الإسكندر فقال له: هب لي مثقالاً واحداً، فقال له الإسكندر: ليس هذا عطاء الملوك، فقال له: فأعطني قنطاراً، فقال الإسكندر: ولا هذا بسؤال كلبي.
وأشير على الإسكندر بالبيات في بعض الحروب فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر.
آيين: لفظ فارسي يراد به السير والصورة والزي والرسم، وما تعرفه العرب. وإنما ألقي الشيء على حد ما سمعته الأذن، ووعاه الصدر، والعون من الله تعالى على نصرة الحق، والذب عن الصواب، فيما يتعلق بالدين وعاد إلى سياسة الحياة.
كان يوسف بن عمر يقول إذا ركب: الحجاج كان الدخان وأنا اللهب.
قال عبد الله بن عباس: الخط لسان اليد.
قال معن بن زائدة: ما رأيت قفا رجل إلا عرفت عقله، قيل له: فإن رأيت وجهه؟ قال: ذاك حينئذ كتاب أقرأه.
قال ابن السماك: أفضل العبادة الإمساك عن المعصية والوقوف عند الشبهة.
ولأبي محمد اليزيدي: الطويل
وآنسني حتى أنست بقربه ... فلما رأى أنسي به باعد القربا
ونولني نيلاً فلما قبلته ... جفاني كأني نلت ما نلته غصبا
ورغبني في فضله فالتمسته ... فصار التماسي فصله عنده ذنبا
هذا من جيد الكلام وشريفه، وإذا نظرت إلى طابعه وسمته وجدته منقطع القرين محمي الحريم، لا يستأذن على القلب ولا يحتجب عنه العقل ولا يستطيل معه النفس، يعالق الروح معالقة، ويعانق السرور معانقة.
وأنشد ابن أبي طاهر صاحب كتاب بغداد وصاحب المنثور والمنظوم لشاعر: الطويل
فسقياً لأيام الشباب الذي مضى ... ورعياً لعيش عنده غير عائد
لهونا بها حيناً وما كان مرها ... على طولها إلا كرقدة راقد
وأنشد ابن أبي طاهر أيضاً لشاعر: البسيط
وقد رجوتك دون الناس كلهم ... وللرجاء حقوق كلها يجب
فأعطني منك ما أملت في عجل ... فإنني من تقاضي الجد مكتئب
إلا تكن لي أسباب أمت بها ... ففي العلا لك أخلاق هي النسب

قال الحسن البصري: ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر.
وكان يقال: من أنذر كمن بشر.
وكان يقال: من عدم فضيلة الصدق في منطقه فقد فجع بأكرم أخلاقه.
ويقال: القصد ما إن زيد عليه كان إسرافاً، وإن نقص منه كان تقتيراً.
قال بعض الحكماء: توق الفاحش صديقاً، والأحمق رفيقاً، وأحذر أن تفعل فعلاً يدع الرأي عاقراً، والعقل عقيماً، والحس كليلاً، والحد مفلولاً.
قال محمد بن حجر: لي همة لو غرقت الدنيا فيها ما طلبت إلا بالغاصة، ولو كانت لليل ما تنفس له صبح.
وقيل لأرسطاطاليس: ما بال الحسدة يحزنون أبداً؟ قال: لأنهم لا يحزنون لما ينزل بهم من الشر فقط، بل لما ينال الناس أيضاً من الخير.
وكان بعض السلف يقول: اللهم أحفظني من أصدقائي، فسئل عن ذلك فقال: إني أحفظ نفسي من أعدائي.
وقال فيلسوف: حيث يكون الشراب لا تسكن الحكمة، ولا تلبث العفة.
وقال صاحب المنطق: الإقلال حصن للعاقل من الرذائل، وطريق إليها للجاهل.
وكان بعض الفلاسفة يقول: استهينوا بالموت حتى يهون عليكم فراق الدنيا.
كان أبو هشام الرفاعي يعشق جارية سوداء سمينة ضخمة، وكان يمص لسانها ويشم صنانها ويستنشي ريحها عجباً بها.
وكان أبو الخطاب صاحب المستغلات بسر من رأى عشق جارية يقال لها عنان، فكان ينومها على قفاها ويرفع رجليها ويقرقر في جوفها رطل نبيذ، ثم يضع شفتيه على شفرها ويمصه حتى يشربه، ثم يلتمس بولها وهي حائض.
هذا أيدك الله مرض ظريف، والناس في الدنيا على ضروب البلاء؛ نسأل الله الستر السابغ، والقبول للنصيحة، والأمن من الفضيحة.
وكان ابن الكلبي على بريد بغداد يستطيب الخرء، وكان يقدمه في جام، وكان يأخذ منه بإصبعه ويمسحه على شاربه ثم يقول: كذب العطارون، أنت والله أولى من العنبر الشحري.
وكان كاتب زيرك يعشق يهودية، وكان يمص بظرها، ثم يدخل إصبعه في استها ويخرجها، ويصير ما خرج عليها على طرف لسانه ويقول: هذا الماح من الراح، أشهى إلي من التفاح.
وأبو أيوب ابن أخت أبي الوزير، أدخل يوماً إصبعه في استه، فأخرج شيئاً، فدلكه ثم مسح به تحت إبطه وقال: لا يقطع الشر إلا الشر، هكذا قال أبو العنبس.
وأما عبد العزيز بن أبي دلف فإنه دعا بجارية كان يرى الدنيا بعينها فضرب عنقها، فقيل له: لم فعلت ذلك؟ فقال: مخافة أن أموت في حبها فتبقى هي بعدي تحت غيري.
وهذا أيضاً نمط من الجنون؛ إلى الله المفزع منه، ومن كل أمر يجلب السخط ويصلي جهنم.
قال عبد الله لبني نهشل: البسيط
لا أخمد النار أخشى أن يبينها ... عان يريد سناها جائع صرد
لكن أقول لمن يعرو مناكبها ... ألقوا الضرام عليها علها تقد
إما أقوم إلى سيفي فأشحذه ... أو يستهل عليهم محلب زبد
إني لأحمد ضيفي حين ينزل بي ... أن لا يكلفني فوق الذي أجد
يقال: ليس في الطيور أوفى من قمرية، فإنه إذا مات ذكرها لم تقرب ذكراً آخر بعده، ولا تزال تنوح عليه إلى أن تموت.
وكان بايكباك التركي اشترى جارية، وكانت قبله لفتى يحبها وتحبه فمات عنها، فجعلت لله على نفسها أن لا يجمع رأسها إلى رأس رجل وساد؛ فبيعت في الميراث، فلما حصلت بالشراء لبايكباك، نظرت إلى وجهه وخلقته - وكان منكراً متفاوتاً - فبكت، فقال لها: يا بنت الزانية! أيش تبكين؟ في حر أم أمس، وفي بظر أم غد، الشأن في اليوم، قومي حتى نتنايك ونأكل ونشرب، فوقع عليها الضحك واسترخت له وأمكنته.
قال الفرزدق: الرجز
يا رب خود من بنات الزنج ... تمشي بتنور شديد الوهج
أخثم مثل القدح الخلنج قدم بلال بن أبي بردة البصرة أميراً، فقال خالد بن صفوان، سحابة صيف عن قليل تقشع، فقال بلال لما بلغته هذه الكلمة: أما إنها لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب؛ وأمر به فضرب مائة سوط.
والشؤبوب: الدفعة، ويقال للجيل: شؤبوب من الناس، كأنه الطائفة منهم.
قال أعرابي: بلوت فلاناً فلم يزدني اختباره إلا اختياراً له.
وأراد زيد بن ثابت أن يركب، فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، قال زيد: أدن يدك مني، فأدناها، فقبلها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.

قالت ماوية بنت النعمان بن كعب بن جشم لزوجها لؤي بن غالب: أي بنيك أحب إليك؟ قال: الذي لا يرد بسطة يده بخل، ولا يلوي لسانه عي، ولا يغير طبعه سفه، وهو أحد ولدك بارك الله لنا ولك فيه - يعني كعب بن لؤي. ولؤي تصغير لأي، وهو بقر الوحش.
شاعر: الطويل
إذا أمل يوماً غزاني حبوته ... كتائب يأس كرها وطرادها
سوى أمل يدني إليك فإنه ... يبلغ أسباب المنى من أرادها
قيل لسقراطيس الفيلسوف - وكان من خطبائهم - : ما صناعة الخطيب؟ قال: أن يعظم شأن الأشياء الحقيرة، ويصغر شأن الأشياء العظيمة.
يقال: فلان قد جمع طهارة المروءة وأريحية الفتوة.
قيل للبوشنجي شيخ خراسان: ما المروءة؟ قال: إظهار الزي؛ قيل: فما الفتوة؟ قال: طهارة السر.
وقال بعض السلف: العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان.
لأبي زبيد الطائي: الوافر
إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء والحسب الوثيق
فكل إمارة إلا قليلاً ... مغيرة الصديق على الصديق
فلا تك عندها حلولً فتحسى ... ولا مراً فتنشب في الحلوق
أعاتب كل ذي حسب ودين ... ولا أرضى معاتبة الرفيق
وأغمض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق
قال الماهاني: سار رجل أبخر رجلاً أصم، فلشدة ما صدم خياشيم الأصم قال للأبخر: قد قهمت ما قلت؛ فلما ولى قيل للأصم: ما الذي قال لك؟ قال: والله ما أدري ولكنه فسا في أذني.
شاعر: الطويل
وقد علم العوج المراضيع تقتري ... عشاء على النيران هدلاً جنوبها
نداي إذا ما الناس جاعوا وأمحلوا ... فكانت كأقراب النعام سهوبها
يقال في مثل من أمثال العرب: لا در إلا بإيالة؛ الإيالة: السياسة. رأيت من صحف بايالة، وكان وجهاً في اللغة، فعد من سقطاته.
شاعر: الكامل
أيديكم نعم تعم بنفعها ... وسيوفكم من كل باغ تقطر
فكأن أنصلها إذا حمي الوغى ... شقق الرياط صباغهن العصفر
ولد المختار بن أبي عبيد سنة هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وأمه دومة بنت عمرو بن معتب، أتاها آت في نومها فقال لها: الرجز
ألا آبشرن بولد ... أشبه شيء بالأسد
إذا الرجال في كبد ... تغالبوا على بلد
كان له حظ الأسد قال حميد الطويل: لقد غسلنا الحسن البصري وإن في بطنه لعكناً؛ واحدتها عكنة وهي مثاني البطن عند السمن.
هلك ابن عباس سنة إحدى وسبعين، وهلك ابن عمر بعده بسنة.
لمعن بن زائدة وهو إذ ذاك بالسند: الرجز
لو أبصرتني وجوادي ثورا ... والسرج فيه قلق ومور
لضحكت حتى يميل الكور قال شاعر: المديد
ما على الأيام معتبة ... هل من الأيام منتصف
وجدت بي ما وجدت بها ... فكلانا مغرم كلف
قال الصولي: رأيت الفضل بن الحباب أبا خليفة الجمحي وقد قال له إنسان: ما أحسبك أيدك الله تثبتني، قال: وجهك يدل على علو سنك، والإكرام يمنع من مسألتك، فأوجد السبيل إلى معرفتك.
أنشد الأصمعي: الرجز
عام يرى الأفق به مغبرا ... قد أصبح الضر به مفترا
وأوغل الزارع فيه شرا ... وأبت الحلوب أن تدرا
وموتت فيه الخشاش طرا ... فكل جحر قد خوى واقفرا
وأشبع الكلب فعم هرا ... غادر ذا الشدة مقشعرا
قد أظهر العبوس وأقمطرا

الأغبرار: الغبرة، والغبراء: الأرض، والأفترار: الأنكشاف، ومنه: أفتر فلان، أي ضحك، كأنه أبدى أسنانه؛ وفر الرجل إذا ذهب، كأنه انكشف عنك، وعينه فراره أي عيانه خبره؛ والفاء مكسورة، كذا قال أبو سعيد السيرافي، وقد لج في ضمه بعض من لا يعتد برأيه، ومنه قول الحجاج: وفررت عن ذكاء كما تفر الدابة فينظر إلى سنها. وسمعت في البادية بفيد رجلاً من العرب يقول لأخر عند قاضيها أبي العباس: أنا الضامن المخبور والجذع المفرور؛ فحفظت عن غير معرفة، ثم سألت العلماء فوضح الجواب. ورأيت في رواية السكري ديوان امرىء القيس: فلانة حسنة الفرة - خفيفة الراء. وأما الأقترار - بالقاف - فتبردك بالماء وحثيك على يديك، ويقال حثوك، وكأنه من القر وهو البرد. وقرة العين خلاف سخنة العين، كأن دمعة الفرح باردة عن سكون الأخلاط، ودمعة الهموم حارة عند ثوران الأخلاط؛ والقرار: السكون والهدوء، وقر البرد: سكن، وقر فلان: سكن وهدأ، وأقر فلان بكذا أي دخل في الهدوء والسكون، أي لا يضطرب عند المطالبة بما اعترف به، وهي بمنزلة أشهر فلان أي دخل في الشهر، وأحرم أي دخل في الحرام أو الحرم. وأما الاعترار فالزيادة أو الفضل، والمعتر: الذي يغشى رحلك، والقانع: السائل، في قوله عز وجل " القانع والمعتر " الحج: 36، والقنوع: السؤال، والقناعة: الاقتصار على ما دون الكفاية، وخطأ أشباه الخاصة في القنوع إذا وضعوه موضع القناعة ظاهر، وكأن القانع يستر حاجته؛ والقانع في السؤال: الكاشف قناعه، والقناع: خمار المرأة، وهو ما تتقنع به، والقناع: طبق توضع عليه الفاكهة، وذلك لستره وتغطيته. وأما الاجترار للبعير إذا رد إلى فيه ما في جوفه وأعاد جرته؛ وأما الابتيار فأفتعال من برت إذا تحيرت؛ وأما الابتهار فرميك بما لا علم لك فيه. والخشاش - بفتح الخاء - : المنكر كرأس الحية، كذا قال الأموي في النوادر بخط ابن الكوفي، وها هنا يريد جميع الدبيب، والخشاش - بكسر الخاء - خشاش الناقة، هذا لفظ الأموي أيضاً؛ وقال الأموي: ليس الكلام على نبرة واحدة، بالنون.
وقال الأموي أيضاً: إذا استسقى المستسقي الماء فأنتضخ عليه - بالخاء معجمة - من الدلو، فذلك السقي - بتشديد الياء.
وقال الأموي أيضاً: خفس لهم الشراب إذا سقاهم صرفاً، أو أقل فيه من الماء، وكذلك اللبن.
وقال الأموي: نكيت العدو أنكيه، وهو ينكي العدو، ونكيت أنا - بالكسر.
قال فيلسوف: عادم بصر البدن يكون قليل الحياء، كذلك عادم عين العقل يكون كثير القحة - القاف من القحة تفتح وتكسر، هكذا قال سيبويه وغيره.
وقال فيلسوف: ليس ينبغي أن يرام الأنقياد ممن وضع في نفسه ألا يقبل شيئاً، وذلك أنه لا ينقاد إلا للأمتناع من القياد.
وقال أرسطاطاليس: كما أن البهيمة لا تحس من الذهب والفضة والجوهر إلا بثقلها فقط ولا تحس بنفاستها، كذلك الناقص لا يحس من الحكمة إلا بثقل التعب عليه منها ولا يحس نفاستها.
يقال: أحسست الشيء وبالشيء، وفي القرآن بحذف الباء، والفقهاء يخطئون فيه.
تركت حروفاً في أبيات الأصمعي لأن الكلام آخذ بعضه برقبة البعض فلم يقع منه مخلص، كذلك الحديث ذو شجون لأعتراض بعضه بعضاً: وأما قوله خوى وأقفرا: خوى معناه خلا، وخوي النوء معناه إخلاف مطره، وخوى نجمه - في الاستعارة - كقولهم ركدت ريحه، وباح ميسمه، وكبا جواده، وخمد ضرامه، ونضب ماؤه، وانثلم ركنه، وانهار جرفه، ونقب خفه، ودمي ظلفه، ورغم أنفه، وخر سقفه، وجذب عطفه، وعطفه رداؤه، وقد يراد به جماله، وبار ماؤه - نضب، وسقط بهاؤه - ذهب، وقلق وضينه، وعرق جبينه، وانخزل قرينه، وقرينه نفسه، وكذلك قرونه، وجمح حرونه، وساخت قدمه، وانتهى أمره، ونحو ذلك مما يتصرف فيه أرباب صناعة البلاغة ويطبعونه في طابع كلام العرب، وينسجون على منوالهم، بعد التمكن من طرائقهم، والتشبه بخلائقهم، وليس لمن لم يكن ذا مهارة في هذا أن يتعرض لشيء منه، فإنه يصير على صير أمر ما يمر ولا يحلي.

وأما قوله واقفرا، فإنما هو وأقفر مخففة، فشدد ضرورة. وأما قوله وأشبع الكلب لأنه قال وموتت فيه الخشاش طرا، فكأنه أكل ذلك وعاث فيه ثم أشر فهر، وأما المشرة فالكسوة، برفع الكاف وكسرها، هكذا قيل. وقال أبو حنيفة صاحب النبات: المشرة ورق الشجر، وكأن الكسوة للعريان المقشعر كالورق للنبات والشجر. وقال أبو عبيدة في الغريب ما هذا قريب منه؛ ولا أقول: ما هو قريب من هذا، فيكون استطالة على العلماء ومجانبة لمحمود الأدب. ولقد رأيت متكلماً - وقد سمع من فيلسوف مذهب أرسطاطاليس في شيء شرحه فأوضحه - فقال: هذا قول أبي هاشم وبه قال أرسطاطاليس، فعد ذلك من سقطاته، لأن صاحب المنطق قديم، ومن عزا إليه صواب قوله حديث، والثاني يأخذ من الأول ويقتفي أثره ويستقي مما أنبطه وينشر ما بسطه.
وأما قوله العبوس - بضم العين - فمصدر عبس، وأما بفتح العين فهو العابس بعينه والفرق بينهما بقدر الفرق بين الفاعل والمفعول، إذ أحدهما يدل على إنشاء الفعل وهو المفعول، والآخر يدل على استحقاق الاسم، وعل هذا الخائط والخياط، والغادر والغدار، والماكر والمكار. وأما قوله واقمطرا فمعناه اشتد، في قوله عز وجل " يوماً عبوساً قمطريراً " الإنسان: 10، كفانا الله سوء ذلك اليوم، ووقانا كيده وشروره، ولقانا نضرته وسروره.
قال الأموي في النوادر: قال أبو ذر: إن في مالك شركاء ثلاثة - لا تصرف شركاء ولا ما كان في وزنه من الجمع - أنت أحدهم، والقدر يقع فيأخذ خيرها وشرها، ووارثك مجنب لك على الطريق ينتظر متى تضع خدك فيستفيئها وأنت رميم، فلا تكن أعجز الثلاثة.
قال الأموي: يستفيئها أي يرتجعها، من الفي، وهو الرجوع، وقيل: معنى قوله " وما أفاء الله على رسوله " الحشر: 6 ما رجعه عليه، يقال: رجعت أنا ورجعت غيري، ومنه قول الله عز وجل " فإن رجعك الله " التوبة: 83.
قال الراعي: الطويل
إذا ابتدر الناس المكارم عزهم ... عراضة أخلاق ابن ليلى وطولها
يمد إلى المعروف كفاً طويلة ... تنال العدى بلة الصديق فضولها
كذا أنشدهما الأموي عن البكائي، بضم العين من العدى، وكسرها جائز، وفتح العين من عراضة، وفتح الهاء من بلة، وكسر القاف من الصديق.
قال أفلاطون: ينبغي لك مع معرفتك بأنك من هذا البدن بمنزلة من هو في حبس، ألا تروم لنفسك إطلاقك منه من قبل أنك لم تحبس نفسك فيه، لكن تنتظر الذي حبسك فيه أن يطلقك منه.
قال ابن دريد: وفي كلام بعض أهل التوحيد: فما على الأرض مدب راشحة، ولا مستن سابحة؛ هكذا في كتاب الجمهرة.
نظر حمصي إلى ابنته وأعجبته عجيزتها فقال: يا بنية طوبتنا لو كنا مجوسيين.
هذا لفظ هذا الجاهل، والصواب فيه يخل بالنادرة، ولا تنكر اللحن والخطأ إذا كانت الحكاية عن سفيه أو ناقص. وإني سمعت تميمياً من عسكر شيراز، وكان انتجع الملك عضد الدولة، يقول: ملح النادرة في لحنها، وحرارتها في حسن مقطعها، وحلاوتها في قصر متنها، فإن صادف هذا من الراوية لساناً ذليقاً، ووجهاً طليقاً، وحركة حلوة، مع توخي وقتها، وإصابة موضعها، وقدر الحاجة إليها، فقد قضي الوطر، وأدركت البغية. وهذا القائل كان يعرف بأبي فرعون مطل بن حرب التميمي، شاهدته سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وكان طلاب الحديث يثبتون عنه ما يحكي مما يستظرف. ولا يقال في الكلام طوبتك، وإنما يقال طوبى لك.
قال الماهاني: رأيت ثلاثة من الهراسين ببغداد يتكايدون، وقد أخرج أحدهم هريسته على المعرفة وهو يقول: انزلي ولك الأمان؛ والثاني يقول: يا قوم أدركوني الحقوني، أنا أجذبها وهي تجذبني، والغلبة لها؛ والثالث يقول: أنا يا قوم لا أدري ما يقولون، من أكل من هريستي ساعة أسرح ببوله شهراً.
قال الماهاني: رأيت جارية جاءت إلى بقال ببغداد فقالت: تقول لك مولاتي: أحب أن تطيب فمي ببصلة، فأعطاها بصلة وقال لها: قولي لمولاتك: يا قذرة، أكلت خرا حتى تطيبي فمك ببصلة؟! قال كاتب: تفكري في مرارة البين يمنعني من التمتع بحلاوة الوصل، فلي عند الأجتماع كبد ترجف، وعند النأي مقلة تذرف.
قال أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان: الكامل المجزوء
قوم حصونهم الأس ... نة والأعنة والحوافر
نزلوا البطاح ففضلت ... بهم البواطن والظواهر
قال أعرابي لصاحب له: أجعل العوض منه النزوع منه.

كاتب: أنت في زمان إن لم تغالط أهله وتحتلهم عما في أيديهم، وتصبر على مكاره الأمور وبعد المطالبة، لم تصر إلى شيء، ولم تجد أحداً منبهاً عل فضل منك وإن عرفه فيك، ولم يفتنه من محاسنك شيء إلا وجد في مساوىء غيرك عوضاً منه، وكان بذلك أثلج وإليه أسكن؛ فعليك بالصبر، فإن عاقبته إلى خير، وأقل ما فيه أن صاحبه لا يلوم نفسه ولا يلومه أحد، ولعله أن يظفر ويدرك.
كتب عامل إلى المأمون: قل من سارع في بذل الحق من نفسه إذا كان الحق مضراً به، وقل من ترك الاستعانة بالباطل إذا كان فيه صلاح معاشه وسبب كتسبه، وإذا تفرق الحق في أيدي جماعة فطولب به تشابهت في الكره لبذله، وتعاونت على دفعه ومنعه بالحيل والشبه قولاً وفعلاً، واحتاج المبتلى بإستخراج ذلك الحق من أيديها إلى مجاهدتها ومصابرتها.
إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب: وصل كتابك بخط يدك المباركة، فلم أر قليلاً أجمع لكثير، ولا إيجازاً أكفى من إطناب، ولا اختصاراً أبلغ في معرفة وفهم منه، وما رأيت كتاباً على وجازته أحاط بما أحاط به.
قال أعرابي: حق الجليس إذا دنا أن يرحب به، وإذا جلس أن يوسع له، وإذا حدث أن يقبل عليه.
قال أعرابي: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة.
قال أعرابي: هلاك الوالي في صاحب يحسن القول ولا يحسن العمل.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المحسن أمير على المسيء حيث كان.
كتب الكرماني: فإنك ممن إذا أسس بغى، وإذا غرس سقى، لاستتمام بناء أسه، واجتناء غرسه، وأسك في بري قد وهى وقارب الدروس، وغرسك في حفظي قد عطش وشارف اليبوس، فتدارك بالبناء ما أسست، وبالسقيا ما غرست، والسلام.
أمسك رجل بلجام الفضل بن سهل بخراسان وقال: أما بعد، فسلام ممن عرف فضلك فأضمر ودك، وتحية ممن تعود برك فأوجب شكرك، واستغاثة ممن تذكر جاهك فرجا عونك.
قال أعرابي: مروءة الرجل في نفسه نسب لقوم آخرين، فإنه إذا فعل الخير عرف له، وبقي في الأعقاب والأصحاب، ولقيه يوم الحساب.
قال أعرابي: الناس رحلان، عالم لا غنى به عن الأزدياد، وجاهل الحاجة به إلى التعلم أعظم، وليس في كل حال يكون العالم لما يبدهه من الأمور مفيداً، ولا المتعلم على استفادة ما يستفيد منه قادراً.
كاتب: إذا أنت عطلتنا من أمورك، وأعفيت ظهورنا من حمل أثقالك ومؤنتك، وتركتنا غفلاً في ولايتك من تنبيهك وتحريكك، فقد أنزلتنا منزلة من لا خير عنده: وجعلت نفسك أسوة من لا يعبأ به، وكفى بذلك لنفسك ظلماً.
نظر أعرابي إلى ابن أبي دواد فقال: ضفته شافية للقلوب، ونصيحته جالبة للمنافع.
كاتب: يرى حفظ الحرمة ديناً، ورعاية الذمام فرضاً، يأوون إلى كنف رحب من كرمه، ويردون على منهل عذب من فضله، ويتصلون بحبل متين من رعايته؛ فنسأل الله الذي أهله لهذه المنزلة واختصه بمزيتها، أن يجعله في مزيد من أجمل ما آتاه منها، واكمل ما أنعم به عليه فيها.
قال أعرابي في الثناء على الرشيد عام حج: قد أصبح المختلفون مجتمعين على تقريظك ومدحك، حتى إن العدو يقول اضطراراً ما يقوله الولي اختياراً، والبعيد يثق من إنعامك عاماً بما يثق به القريب خاصاً.
كاتب: أتاني كتابك فطامن من قلبي وطرفي بعدما كان شاخصاً إليه، ومتشوقاً إلى وروده، ثم ملأني سروراً بما رأيت فيه من آثار برك، وكريم تفقدك، واتصل بما عندي وقبله مما إن ذكرته فللاستراحة إلى الذكر، وإن أمسكت فللعجز عن الشكر، فأما الضمير فمبني على الإقرار بفضلك، والنية خالصة بشكرك، وقليل ذلك لك.
دخل يحيى بن الحسين الطالبي على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين حيرتني عارفتك حتى ما أدري كيف أشكرك، قال: لا عليك، فإن الزيادة في الشكر على الصنيعة ملق، والنقصان عي، وحسبك أن تبلغ حيث بلغ بك.
شاعر: الوافر
يطيب العيش أن تلقي أديباً ... غذاه العلم والنظر المصيب
فيكشف عنك حيرة كل ريب ... وفضل العلم يعرفه الأديب
قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف صرت تقتل فأكون أنا ونفسه عليه.
وقال رضي الله عنه: من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.

دخل ميمون بن مهران على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال له - وقد قعد في أخريات الناس - : عظني، فقال ميمون: إنك لمن خير أهلك إن وقيت ثلاثة، قال: ما هن؟ قال: إن وقيت السلطان وقدرته، والشباب وغرته، والمال وفتنته، فقال: أنت أولى بمكاني مني، ارتفع إلي؛ فأجلسه على سريره.
فصل من تعزية لكاتب: إن الله جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبي، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وجعل ثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً.
أعرابي: كانت لهم الكرة علينا وعليهم الدبرة، فحملوا حملة كاذبة أتبعناها بأخرى صادقة.
ذم أعرابي رجلاً فقال: لا أصل نبت في الأرض، ولا فرع بسق في السماء، من شكر أو وفاء أو حياء.
كاتب: ولفلان لدينا حرمة واجبة، وله مع الهوى منا فيه فضل ودين ومذهب.
قال محمد بن مسعر: كنت أنا ويحيى بن أكثم عند سفيان، فبكى سفيان، فقال له يحيى: ما يبكيك يا أبا محمد؟ فقال له: بعد مجالستي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بليت بمجالستكم، فقال له يحيى، وكان حدثاً: فمصيبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجالستهم إياك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من مصيبتك بمجالستنا، فقال سفيان: يا غلام، أظن السلطان سيحتاج إليك.
لبعض العرب: الكامل المجزوء
يا دار بالبلد الخراب ... والمنزل القفر اليباب
ومجر أذيال الهوى ... ومصب أوداق السحاب
دار التأسف والبلى ... ومحل نأي وأغتراب
بيدي فيك دفنت عم ... راً بين أطباق التراب
كشبا المهند أو كشبل ال ... ليث أو فرخ العقاب
ماذا صنعت بوجهه ... وبسنه الغر العذاب
قالت لنا دار البلى ... والدار تنطق بالصواب
أوما علمت بأن عم ... راً يا أبا عمرو ثوى بي
فسكوته ثوب البلى ... وسلبته جدد الثياب
ومحوت غرة وجهه ... بالترب محوك للكتاب
قال فيلسوف: كما لا تشفق على عضو منك إذا وقع فيه شيء من القطع مخافة أن يسري بك ذلك، كذلك ينبغي أن تشفق على اختلاف التعب والصبر في المكروه على إصلاح النفس.
وقال فيلسوف: من القبيح أن تكون حاجة الإنسان إلى العقل أكثر من حاجته إلى المال.
سئل فيلسوف: أي الرسل أحرى بالنجح؟ قال: الذي له جمال وعقل.
وقال فيلسوف: الحساد مناشير لأنفسهم.
رأى فيلسوف غلاماً جميلاً لا أدب له، فقال: أي بيت لو كان له أساس؟! سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة؛ قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام؛ قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال جهد المقل؛ قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما حرم الله؛ قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بنفسه وماله؛ قيل: فأي القتل أفضل؟ قال: من هريق دمه في سبيل الله عز وجل.
يقال أهرقت الماء وأرقت الماء، وقيل: أهرورق الماء؛ قال الشاعر: الطويل
شربنا فأهرقنا على الأرض فضلة ... للأرض من كأس الكرام نصيب
الجريض: الذي يغص بريقه، وفي المثل: حال الجريض دون القريض؛ والوسق: الطرد، وجماعه وسائق؛ الطلي: ولد الضائنة، والطلا: الصغير من ولد الظلف، وإنما سمي طلياً لأنه يطلى في رجله بخيط، هكذا حفظت من المجالس.
يقال: ما فلان بخل ولا خمر، أي ليس عنده خير ولا شر.
يقال للرجل: نبلني، أي أعطني سهماً، والعرب تقول: أتتني خطوب تنبلت ما عندي؛ قال الشاعر: الطويل
ولما رأيت العدم قيد نائلي ... وأملق ما عندي خطوب تنبل
ويقال: أردمت الحمى عليه وأغبطت عليه، أي لزمته؛ وكساء ليس فيه متردم، أي مرقع.
ويقال: ما زلت أصاده أي أرفق به.
ويقال: ما عندي فرج ولا نفس، ويقال منفس، والمنفس: النفيس، وكأن المنفس ذو النفس، وكأن النفيس المنفوس به، أي المضنون به، أي المأخوذ في النفس؛ والنفساء: لأنها تعالج نفسها. والنفس يذكر ويؤنث، والنفس مردود إلى النفس، لأنه إذا انقطع بطل ذو النفس.

وسئل بعض المتكلمين، وأنا أسمع، عن النفس فقال: هي النفس، وسئل عن الروح فقال: هي الريح؛ فقال السائل: فعلى هذا كلما تنفس الرجل خرجت نفسه، وكلما ضرط خرجت روحه؟! فأنقلب المجلس ضحكاً.
والكلام في النفس والروح صعب ضاق، ومن الحقيقة بعيد، ولأمر ما ستر الله معرفة هذا الضرب عن الخلق حيث قال: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " الإسراء: 85. والروح من الروح، والراحة أيضاً من ذلك، والأستراحة: طلب الراحة، والرائحة جالبة للروح وملاطفة للروح - هذا متى لم تكن عاصفاً، فكأنها مؤذية للروح إذا كانت عاصفاً أو معصفاً.
قال العتبي: رأيت أعرابياً في طريق مكة يسأل الناس ولا يعطونه شيئاً، وبين يديه صبي صغير له؛ فلما ألح وأخفق قال: ما أراني إلا محروماً، فقال الصبي: يا أبة، المحروم من سئل فبخل، ليس من سأل فلم يعط؛ قال: فعجب الناس من كلامه، وأقبلوا يهبون له حتى كسوه.
العرب تقول: رضيت من الوفاء باللفاء، أي من النفيس بالخسيس.
قال الواقدي: رأيت بالمدينة بقالاً وقد أشعل سراجاً بالنهار ووضعه بين يديه، فقلت: ما هذا يا هذا؟ قال: أرى الناس يبيعون ويشرون حولي ولا يدنو مني أحد، فقلت: عسى ليس يراني إنسان، فأسرجت.
أنشد لشاعر: الكامل المجزوء
يا نفس قد حق السفر ... أين المفر من القدر
كل امرىء مما يخا ... ف ويرتجيه على خطر
من يرتشف صفو الزما ... ن يغض يوماً بالكدر
قال أعرابي: الدنيا دحض فحد عنها.
العرب تقول: الخنق يخرج الورق.
أتي عتاب ن ورقاء بخوارج فيهم امرأة فقال: أي عدوة الله، ما دعاك إلى الخروج؟ أما سمعت قول الله عز وجل:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
فقالت: يا عدو الله، إنما أخرجني حسن معرفتك بكتاب الله تعالى.
قيل لأبي هارون الخياط: أنت تسبح كثيراً، فما تقول في تسبيحك؟ قال: أقول في دبر كل صلاة ألف مرة: حسبي الله.
العرب تقول: أصبحوا في مخض وطب خاثر، وفي أبي جاد ومرامر، أي في غير شيء.
دخل الحجاج بن هارون على نجاح، فذهب ليقبل رأسه، فقال: لا تفعل، فإن رأسي مملوء دهناً، فقال: والله لأقبلنه ولو أن عليه ألف رطل خراء.
دخل رجل على ابن الجصاص وهو يقرأ في مصحف، فأستحسن خطه، فقال ابن الجصاص: ما بقي اليوم من يكتب مثل هذا الخط، وبعد: هذا كتب منذ خمسمائة سنة.
قال الماهاني: دعاني ابن الكلبي يوماً، فأجلسني في بيت خيش على فرش ميساني وأطعمني فجلية، ثم قال في حديثه: لما مات أبي ندم أمير المؤمنين أشد ندامة في الدنيا، قلت: أكان نديمه؟ قال: لا، قلت: أفجليسه؟ قال: لا، قلت: أفمات حتف أنفه؟ قال: نعم، قلت: فما سبب ندامة أمير المؤمنين؟ قال: كذا أخبرني سعيد غلامنا.
قيل للفضل بن عبد الرحمن: ما لك لا تتزوج؟ قال: إن أبي دفع لي ولأخي جارية، قيل: ويحك دفع إليك وإلى أخيك جارية؟! قال: أيش تعجبون من هذا؟ هذا جارنا أبو زريق القاضي له جاريتان.
قال ابن الجصاص يوماً: أشتهي بغلة مثل بغلة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسميها دلدل.
وجد على خاتم ملك الهند: من ودك لأمر ولى عنك عند انقضائه.
وكان على خاتم أفلاطون: تحريك الساكن أسهل من تسكين المتحرك.
وكان على خاتم ملك الصين: من رد ما لا يعلم فهو أعذر ممن قبل ما يجهل.
قيل لفيلسوف: أي السباع أحسن؟ قال: المرأة.
قال المغيرة بن شعبة: ملكت النساء على ثلاث طبقات: كنت أرضيهن في شبيبتي بالباه، فلما أسننت أرضيتهن بالمداعبة والفكاهة، فلما هرمت أرضيتهن بالمال.
قال ركن بن حبيش: لما خلق الله المرأة قال إبليس لها: أنت رسولي، وانت نصف جندي، وأنت موضع سري، وأنت سهمي الذي أرمي بك ولا أخطىء.
وقال صاحب المنطق: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء آنس منه بلين العيش مع السفهاء.
وقال فيلسوف: الدنيا لذات معدودة، منها لذة ساعة، ولذة يوم، ولذة أسبوع، ولذة شهر، ولذة سنة، ولذة الدهر؛ فأما لذة ساعة فالجماع، وأما لذة يوم فمجلس الشرب، وأما لذة أسبوع فلين البدن من النورة، وأما لذة شهر فالفرح بالعرس، وأما لذة سنة فالفرح بالمولود الذكر، وأما لذة الدهر فلقاء الإخوان مع الجدة.
سئل عمار بن ياسر عن الكوفة فقال: رأيتها حلوة الرضاع، مرة الفطام، يعني الولاية. يقال: رضاع ورضاع.

قال نضلة: أجتزت في درب الزعفران يوماً فرأيت بين يدي جاريتين تمشيان وتتماجنان ولا تشعران بمكاني، فضرطت إحداهما وقالت: غلالة شرب، وضرطت الأخرى وقالت: رداء أصبغ الأصل، وعادت الأولى فضرطت وقالت: سراويل نيلي، وضرطت الثانية فقالت: طاق فستقي؛ قال نضلة: فضرطت أنا من خلفهما، فالتفتت واحدة وقالت: هذا أيش؟ قلت: منديل دبيقي يشدون فيه الثياب.
والعرب تقول في أمثالها: آخر الذلة إحراز المرء نفسه وإسلامه عرسه.
العرب تقول: أفضيت إليه بشقوري وبقوري، أي بحت له بكل ما في نفسي، وهو نظير قولهم: أخبرته بعجري وبجري.
ومن كلامهم: القول رداف والعثرات تخاف.
ومن كلامهم: اندب إلى طعانك من تدعوه إلى خوانك.
ومن كلام العرب: قليل الماء يروي من الظلماء، وكثيره يتلف الأحشاء.
ومن كلام العرب: من أشترى اشتوى؛ فأما قولهم: المستري، أي طالب سراة الشيء، فغير هذا، ويقولون من هذا اللفظ: استرى الموت بني فلان، أي أخذ سراتهم وأماثلهم؛ والسروة النبل، والشاعر يقول: الكامل
إن السري هو السري بنفسه ... وابن السري إذا سرا أسراهما.
ومن كلام العرب: هو كالأرقم، إن يقتل ينقم، وإن يترك يلقم.
ومن كلام العرب: الحيلة لعطف المتجني أعسر من نيل التمني.
سئل أعرابي من عبس عن ولده فقال: ابن قد كهل، وابن قد رفل، وابن قد عسل، وابن قد فسل، وابن قد مثل، وابن قد فضل.
سئلت أعرابية عن ابنها فقالت: أنفع من غيث، وأشجع من ليث، يحمي العشيرة، ويبيح الذخيرة، ويحسن السريرة.
وكان عبد الله بن الزبير يسب ثقيفاً إذا فرغ من خطبته بقدر أذان المؤذن، وكان فيما يقول: قصار الخدود، لئام الجدود، سود الجلود، بقية قوم ثمود.
العرب تقول: العقل وزير ناصح، والهوى وكيل فاضح.
العرب تقول: رب واثق خجل، ورب آمن وجل.
كتب عبد الحميد الكاتب عن مروان كتاباً إلى أبي مسلم صاحب الدعوة، وقال لمروان: إني قد كتبت كتاباً إن أنجع فذاك، وإلا فالهلاك؛ وكان من كبر حجمه يحمل على بعير، وكان نفث فيه حواشي صدره، وجمع فيه غرائب عجره وبحره، وقال: إني ضامن أنه متى قرأ الرسول على المستكفين حول أبي مسلم بمشهد منه اختلفوا عليه، وإذا اختلفوا عليه كل حدهم وذل جدهم. فلما ورد الكتاب على أبي مسلم أخذه ودعا بنار فطرحه فيها إلا قدر ذراع، فإنه كتب عليه هذين البيتين جواباً: الطويل
محا السيف أسطار البلاغة وأنتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
فإن تقدموا نعمل سيوفاً شحيذة ... يهون عليها العتب من كل عاتب
ورده؛ فحينئذ وقع اليأس من معالجته.
قال أعرابي: اللهم إنك كفلت لنا الرزق وأمرتنا بالعبادة، فاكفنا ما شغلتنا به عما خلقتنا له، فإن ما عندنا يفنى، وما عندك يبقى.
ومر بي في كتاب الرتب مثل للعرب: ربضك منك وإن كان سماراً؛ السمار - خفيفية - : اللبن الممذوق؛ معناه فيما زعم: القريب منك وإن كان ردياً، كأنه شقيق قولهم: عيصك منك وإن كان أشباً. والعيص: الأصل، والأشب: الذي فيه خلط، ومنه نسب مؤتشب - بفتح الشين - إذا كان مغموراً.
دعا الحجاج رجلاً ليوجهه إلى محاربة عدو فقال له: عندك خير؟ قال: لا، ولكن عندي شر، قال: ذلك الذي أردتك له؛ امض لوجهك.
شاعر: الوافر
سأرحل عنك معتصماً بيأس ... وأقنع بالذي لي فيه قوت
وآمل دولة الأيام حتى ... تجيء بما أؤمل أو أموت
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا تجالسوا أصحاب القدر ولا تفاتحوهم.
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، فاحمر وجهه وغضب وقال: أبهذا أمرتم؟ إنما هلكت الأمم قبلكم بهذا.
وقال أبو الدرداء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة عاق ولا مكذب بقدر ولا مدمن خمر.
والكلام في القدر لطيف، وسأحكي لك عنه مسألة جرت في مجلس كبير، وأوضح المعنى والاسم، وأدرس لك مقالة الناس، ليتبين لك الحق إن شاء الله تعالى؛ والعرب تقول: الحق أبلج، والباطل لجلج، ومعناهما واضح ومشكل؛ والسكوت عن هذه الأشياء أنفع، ولكن الحكاية ما على صاحبها لوم ولا عتاب، فتوقع ذلك من بعد.
لمست أعرابية كف أبيها فألقتها خشنة فقالت: الرمل

هذه كف أبي خشنها ... ضرب مسحاة ونقل بالزبيل
فأجابها أبوها: الرمل
ويك لا تستنكري خشن يدي ... ليس من كد لعز بذليل
إنما الذلة أن يمشي الفتى ... ساحب الذيل إلى باب البخيل
وقال فيلسوف: لأن تستغني عن الشيء وتكفاه خير من أن تسأله وتعطاه.
وقال المغيرة بن حبناء التميمي، وقدم على طلحة الطلحات: الطويل
لقد كنت أسعى في هواك وأبتغي ... رضاك وأرجو منك ما لست لاقيا
وأبذل نفسي في مواطن غيرها ... أحق وأعصي في هواك الأدانيا
حفاظاً وتمساكاً بما كان بيننا ... لتجزيني ما لا إخالك جازيا
رأيتك ما تنفك منك رغيبة ... تقصر دوني أو تحل ورائيا
أراني إذا أملت منك سحابة ... لتمطرني عادت عجاجاً وسافيا
إذا قلت جادتني سماؤك يا منت ... شآبيبها أو ياسرت عن شماليا
وأدليت دلوي في دلاء كثيرة ... فأبن ملاء غير دلوي كما هيا
فإن تدن مني تدن منك مودتي ... وإن تنأ عني تلقني عنك نائيا
إذا أنت أكرمت امرءاً أو أهنته ... وأخفيت فأعلم أنه ليس خافيا
وتجعل دوني من يقصر رأيه ... ومن ليس يغني عنك مثل غنائيا
فلا تحسبني عن ثوابك غافلاً ... ولا للذي استودعتني منك ناسيا
قال بعض السلف: الناس ثلاثة: فقير وغني ومستزيد؛ فالفقير من منع حقه، والغني من أعطي ما يستحق، والمستزيد من طلب الفضل بعد درك الغنى.
قال أعرابي لصاحب له: عليك بالثريد فإنه يجلو البصر، ويجلب الخير، ويجتمع فيه ربيعة ومضر.
وقال فيلسوف: بلوت الأشياء فلم أجد شيئاً أشد من صالح يلي أمر صالح، ولم أر لهذا الدهر دواء إلا الصبر عليه، ولم أر هلاك أهله إلا في الطمع.
وقال بزرجمهر: من رجا الحزم بغير روية، والحمد بغير استحقاق، والمحبة بغير لين الكلمة، ومناصحة الأنصار بغير التوسعة، وما عند القضاة بغير حجة، فقد رجا ما يصعب على رجائه، واتكل على ما الغرور في الاتكال عليه.
أنشدت لبعض علوية الكوفة: الوافر
أرى ناراً تشب على يفاع ... لها في كل ناحية شعاع
وقد رقدت بنو العباس عنها ... ونامت وهي آمنة رتاع
كما رقدت أمية ثم هبت ... لتدفع حين ليس لها دفاع
هذا الأبيات نظيرة أبيات نصر بن سيار حين جاشت خراسان بالمسودة إلى مروان، وهي: الوافر
أرى تحت الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الشر مبداه الكلام
وقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن يك أصبحوا وثووا نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام
فما نفعت، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
وقال مروان لكاتبه: إذا انقضت المدة لم تنفع العدة.
قيل لفيلسوف وقد مات أخوه: ما كانت علته؟ قال: كينونته في الدنيا.
قال أعرابي في وصف اثنين: أين المنسم من السنام؟ وأين النحيت من النضار؟ وأين الخروع من النبع؟ وأين الخوافي من القوادم؟ وأين المغاني من المعالم؟ وأين الثمد من الغدير؟ وأين الجزر من المد؟ وأين القبول من الرد؟ وأين الوصل من الصد؟ قال أبو عبيدة: القرآن على عشرة أحرف: حلال. وحرام، ومحكم، ومتشابه، وعظه، وأمثال، وبشير، ونذير، وأخبار الأولين. وأخبار الآخرين.
أنشد الحارثة بن بدر الغداني: الطويل
طربت بفاثور وما كدت تطرب ... سفاهاً وقد جربت فيمن يجرب
وجربت ماذا العيش إلا تعلة ... وما الدهر إلا منجنون يقلب
وما اليوم إلا مثل أمس الذي مضى ... ومثل غد الجائي وكل سيذهب
وقال محمد بن هاشم: التعليق في حواشي الكتب كالشنوف في آذان الأبكار.
قال فيلسوف: أحسن الكلام ما كان له نظام، وعرفه الخاص والعام.
وصف أعرابي نساء فقال: أقبلن بحجول تخفق، وأوشحة تقلق، فمن أسير ومطلق.
شاعر: الطويل
إذا افترشت أعناقها الأرض طيرت ... دقاق الحصى أنفاسها وزفيرها

شددنا بها الأنساع وهي قصيرة ... فطال على طول السفار قصيرها
قال سفيان: يا ابن آدم، إن جوارحك سلاح الله عليك، بأيها شاء قتلك.
قال بكر بن عبد الله، قائد التوكل الإخلاص، وخطامه حسن الظن، وزمامه نفي الحرص.
وقال أعرابي: لا تقل ما لا تعلم، فتتهم فيما تعلم.
قيل لمعاوية: أنت أمكر أم زياد؟ قال: إن زياداً لا يدع أن يتفرق الأمر عليه، وإنه ليتفرق علي فأجمعه.
كان ملوك الدهر الأول، وكذلك الخلفاء، يراجعون الحديث، وينازعون الكلام، ويسألون عن علل الرأي المقول به، والحكم المصير إليه، فكانت الحكم تنثر عنهم، والفوائد تنشر منهم، والدعاء يكثر لهم، والثناء يحسن عليهم؛ وإنك ترى زمانك فاسد المزاج، أبي الخير، معدوم الفضل، قليل الناصر، بعيد المنعطف؛ لا جرم، والله الموت متمنى، والحياة مقلية، واليأس واقع، والرجاء برقع.
شاعر يصف جيشاً: البسيط
في جحفل كسواد الليل منبعق ... فيه الردى وهو بالأبطال منعقد
لا يجمع الطرف أدناه وآخره ... ولا يسايره التحصيل والعدد
إذا أناخت على قوم كلاكله ... لم تطف حرته إلا وقد خمدوا
قال ابن أبي طاهر: ذكر أعرابي البراغيث فقال: قبحها الله، ليلها ناصب، وطالبها دائب، ومددها ثائب.
وقال إسحاق: ذكر آخر البراغيث فقال: أخزاها الله ما آذى صغارها، وما أشر كبارها، وما أخفى انطمارها، وما أسرع مطفارها، وأقبح آثارها. كذا حكي لي.
لبعض أهل المغرب: الوافر
أتضحي في كتامة ذا اكتئاب ... تقارعها قياماً في قيام
إذا ما وقعة دارت رحاها ... بحز معاصم وبفلق هام
أتت أخرى تطم وتعتليها ... يشيب لوقعها رأس الغلام
أألتذ الحياة بخفض عيش ... معاذ الله والشهر الحرام
ولكن التجلد لي خدين ... فسني ضاحك والقلب دام
لعل الله يجمعنا جميعاً ... وقد تمت لنا رتب الكرام
قدم حماد بن جميل من فارس، فأتى آل المهلب في حق لهم وعليه جبة وشي، فنظر إليه يزيد بن المنجاب وقال: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً " الإنسان: 1، فقال حماد: " كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم " النساء: 94.
ومن نوادر كلام الأعراب قيل لأعرابي: أتأكل الضب؟ قال: وما ظلمني أن آكله؟ أي ما منعني؛ قال أبو عثمان سعيد بن هارون: ومنه قول الله عز وجل " ولم تظلم منه شيئاً " الكهف: 33، أي لم تمنع.
قال التوزي: دابة مهزول ثم منق إذا سمن قليلاً، ثم شنون، ثم سمين، ثم ساح، ثم مترطم الذي قد انتهى سمناً.
قال الأشنانداني: كل نار يشتوى عليها فالمشتوى حنيذ.
يقال شارب وشاربون وشرب، مثل: صاحب وصحب، وشربة، مثل: كاتب وكتبة وحاسب وحسبة، وشرباء، مثل: عالم وعلماء، ويكون شرباء جمع شريب، مثل: نديم وندماء؛ ورجل شريب وشراب وشروب بمعنى واحد؛ الشاربة: الذين يردون الماء فيشربون.
هكذا حفظت عن أئمة هذا اللسان، وما لي منه إلا حظ الرواية، إن وقعت موقعها منك، وحلت محلها عندك، وإن تكن الأخرى فما أقدرك على رد ما أروي، وإفساد ما أقول، حتى يصير ما جمعته ونقلته، وكددت نفسي فيه، خاملاً في عينك، ومهين القدر بحكمك، وغير هذا أجمل بمطبوع على الخير، ومغذو بالأدب، وناشىء مع البر، وجار على طرق الطهارة. ولا أقول إن ما تمر بك ها هنا لا تصيبه في الكتب، ولا تجده عند الشيوخ، ولكن كم بين من يستقبل كفاية غيره، وبين من يستأنف كفاية نفسه. أنصف وأحسن، وانظر إلي بعين الرضا، ثم اقتحم بي حمر الغضا، ومهما أثبت فاقصد به تأديبي وتهذيبي، لتكون لائمتك عن غير حسد، وإنكارك خارجاً عن التنافس، فإني أخاف أن يقلينا قال: ويشبك حالنا شابك، فأستحي لك من جنايتك علي برد ما أثبته، وتزييف ما نقدته، والسلام عليك شبت أو خلصت، وزدت في إحساني أو نقصت، ورحمة الله وبركاته.
يقال: مصير ومصران ومصارين، مثل بعير وبعران وأباعير؛ هكذا السماع.
قال التوزي عن أبي عبيدة: سمعت العرب تقول: تمر وخواخ، ولا حلاوة فيه؛ وقال أيضاً: العرب تقول لجماعة الغيم: غيوم، ولجماعة الحمير: حمور.
قال فيلسوف: المحسن معان والمسيء مهان.

الغراث: الجياع؛ جوع يرقرع، وجوع هلقس، وجوع هنبغ بالغين معجمة - ، إذا كان شديداً؛ هذا من الغريب المتروك لثقله، وإنما آتي به مع غيره كالمازج خمراً بماء. فإن الشيء يظهر حسلنه الضد.
قال التوزي: تحيرت البقاع والغدران إذا امتلأت، كأن تحير النفس بالأمر الوارد عليها والمعنى المبحوث عنه إنما هو من هذا.
ويقال: ماث الملح بالماء يميثه ميثاً إذا أذابه به.
ويقال: اشتغر عليه الحساب أي انتشر، واشتغرت الإبل: كثرت وأختلطت، ويقال: داهية وزباء ووبراء. وشغر الكلب برجله إذا رفعها وفرج إذا بال.
ويقال: حفاه يحفوه حفواً أي منعه وحرمه، ويقال: تحفاه أي بش به تحفياً، وأحسن مسألته، ومثله حفي به حفاوة، وأنا حفي به إذا فرحت به، وأحفي في المسألة والوصية إذا بالغ، وأحفى شاربه إذا استأصله، وأحفى دابته إذا سارها حتى تحفى؛ يقال: سرت الدابة، هذا هو الفصيح، وينشد: الطويل
فلا تخرجن عن سنة أنت سرتها ... وأول راض سنة من يسيرها
وأول راضي سنة على الإضافة يروى أيضاً؛ والبيت لابن أخت أبي ذؤيب، وله حديث، ولعله يعتن لك في عرض النوادر؛ وحفي فلان إحفاء بفلان أي يلزق به ما يكره، وحفي الرجل إذا رق أسفل قدمه من المشي، ورجل حاف وناعل، فأما الحفاء - مديدة - فالأسم، ويقال في المثل بيت: الخفيف
لا تزدني على الحفاء شقوقا ... فمن البر ما يكون عقوقا
شاعر: الطويل
وما رفع النفس الدنية كالغنى ... ولا وضع النفس الكريمة كالفقر
قال المأمون: من أراد أن يطيب عيشه فليدفع الأيام بالأيام.
قال محمد بن الحنفية: من كرمت نفسه عليه هانت الدنيا في عينيه. محمد هذا قليل الكلام، لكنه مفيد شريف، وكان ذا إيجاز شديد.
وحد الإيجاز بعض أشياخ العلم فقال: هو تقليل الكلام من غير إخلال؛ كأنه إقلال بلا إخلال. وهذا الشيخ حد البلاغة فقال: هي ما أدى المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ. وله حدود كثيرة في كتاب صنفه في القرآن، وأصحابنا يأبون طريقته. وكان البديهي يقول فيه: ما رأيت - على سني وتجوالي وحسن إنصافي لمن صبغ يده بالأدب - أحداً أعرى من الفضائل كلها ولا أشد ادعاء لها من صاحب الحدود، فإني مع وزني له، ونظري إليه، واستكثاري منه في عنفوان شبيبتي، لم أقطع على كفره حتى راجعت العلماء في أمره، فقال المتكلمون: ليس فنه من الكلام فننا، وقال النحويون: ليس شأنه في النحو شأننا، وقال المنطقيون: ليس ما يزعم أنه منطق منطقاً عندنا؛ وقد خفي مع ذلك أمره على عامة من ترى.
وكان البديهي هذا شاعراً، وكان شهرزورياً، وكان مغسول الشعر، ما طن له بيت. وإنما هاجه على هذا الثلب اختلافه إلى يحيى بن عدي المنطقي، ولم يحل منه بشيء من الفلسفة قليل ولا كثير، ولكن كان يجعل إصابته في حفظ العروض، وعقد القافية، وإقامة الوزن، ورواية اللغة، وحفظ الغريب المصنف، إعجاباً بنفسه، ويتدرع به على الناس، متذرباً ببذاء وسفه. ولقد شاهدته وهو على شفير عمره فما كان يحلي ولا يمر، وسمعته يقول: بين الجلوس والقعود فرق، وبين صد وعاق فصل، ولكل كلمة من كلام العرب معنى يخصها، وغرض منوط بها، وعجز من لم يدرك لا يصير حجة على من أدرك ذلك؛ وحديثه طويل، وكان لنا شيخ يستحلي أبياتاً له وهي: الكامل
لا تحسدن على تظاهر نعمة ... شخصاً تبيت له المنون بمرصد
أوليس بعد بلوغه آماله ... يفضي إلى عدم كأن لم يوجد
لو كنت أحسد ما يجاوز خاطري ... حسد النجوم على بقاء سرمد
وقال محمد بن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له من ذلك فرجاً ومخرجاً. وهذا كلام عجيب من معدن شريف، ومكانة تامة.
وقال محمد أيضاً: الحسن والحسين أشرف مني، وأنا أعلم بحديث أبي منهما. هكذا حكاه الكعبي، وناهيك بأبي القاسم عالماً وراوياً، وثقة وأمانة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحفة الصائم الطيب، هكذا رواه الحسن بن علي عن أبيه.
العرب تقول: جاز الله عنه، أي تجاوز؛ حكاه ابن الأعرابي.

وقال راشد بن أبي الحمد الحسني: السبب أولى من النسب، والسبب التقوى، وبها تظهر الكرامة، قال الله تعالى: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الحجرات: 13. هكذا سمعته من أبي حامد القاضي، شيخ أصحاب الشافعي.
وكان يقول عند هذا: إن النسب لا يمدح به ولا يثاب عليه، وإنما هو كالطول في الطويل، والقصر في القصير، والحسن في الحسن، والقبح في القبيح؛ وإنما المدح والذم، والثواب والعقاب، راجعة إلى الفعل، والفعل موقوف على الأمر والنهي، والأمر والنهي ظاهران عند تمام العقل بحكم العقل، مع التمكين من النظر، والوصول إلى الدليل؛ ثم إن الأمر والنهي مؤيدان بالشرع من قبل المبعوث من الله تعالى، إلا ما خرج إلى تجويز العقل من باب الإيجاب، فإنه حينئذ يرد ما أختلف فيه إلى ظاهر الكتاب المنزل، وباطن معناه المتأول. وكان يقول: فليس إذن في حكم العقل أن هذا الشخص متى خلق من صلب هذا الشخص، وأرتكض في رحم هذا الشخص، وأنه لاحق به في طريق الخير، أو راجع إليه في باب الشر، بل ليس له إلا ما سعى، ولا يزر وازرة غيره، وهو مأخوذ بما أخذ به سلفه من حكم العقل، وتوقيف الشرع، ومن ظن غير هذا فإنما يتعسف طريقاً مظلماً، ويعتقد أمراً مبهماً.
طال أيدك الله هذا الفضل، وما أدري كيف لصوقه بفؤادك، ولا كيف صحبته لقبولك.
قال محمد بن الحنفية أيضاً: ليس بعاقل من أشتاق إلى غير نفسه.
وقيل لمحمد بن الحنفية: كيف كان علي عليه السلام يقحمك في المآزق، ويولجك في المضايق، دون الحسن والحسين؟ قال: لأنهما كانا عينيه، وكنت يديه، فكان يتقي بيديه عن عينيه. هكذا الدر من البحر.
كان عروة بن الزبير قضى شطر عمره بالمدينة، ثم هاجه رأي في سكنى العقيق، فتجهز إليه واتخذ به قصراً، فقيل له: لم تركت الناس وحديثهم ومناقلتهم قال: لأني رأيت الناس قلوبهم لاهية، ومجالسهم لاغية، والفاحشة فيهم فاشية، فخفت عليهم الداهية، فتنحيت عنهم ناحية، وصرت منهم في عافية.
قال فتح الموصلي: رأيت صوفياً في البادية فقلت له: أين الزاد؟ فقال لي: قدمته في المعاد، قلت: فأبن الراحلة؟ قال: مناخة في الآخرة.
شاعر: المتقارب
سقى الله أيامنا بالنقا ... وأيامنا بذرى الأجفر
وإذ لمتي كجناح الغدا ... ف تضمخ بالمسك والعنبر
وأنت كلؤلؤة المرزبا ... ن بماء شبابك لم يعصر
قال علي رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته.
قيل لرابعة، وكانت ناسكة مفوهة، وشأنها شهير، وأمرها خطير: كيف حبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إني لأحبه، ولكني شغلني حب الخالق عن المخلوق.
هذا الكلام عويص التأويل، خرط القتاد دونه، ولقط الرمل أسهل منه، وهي موكولة فيه إلى الله تعالى، وقد رويته كما رأيته.
قال يحيى بن معاذ الرازي: إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه، وإن سخط نفاه وأقصاه.
وقالت أعرابية عند الكعبة: إلهي لك أذل، وعليك أدل.
وقال أبو القاسم الجنيد الصوفي: إذا أحبك سترك وغار عليك، وإذا أحببته شهرك ونادى عليك.
وفخار أهل بغداد بالجنيد عظيم، وهم يقدمونه على أبي يزيد البسطامي، وكان أبو يزيد أيضاً غزير الركية، بعيد القعر، عويص الإشارة، غريب العبارة، وكان مع ذلك بعيداً قريباً، بغيضاً حبيباً، معك إلا أنه غائب عنك، غائب عنك إلا أنه معك. ومن مليح قوله أنه قال لبعض خدمهمن تلامذته وهو يعظه ويرقق الكلام له، وذلك التلميذ في غلوائه وعدوائه، فقال أبو يزيد: يا هذا، والله إذا وافقتني كنت ثقيلاً علي، فكيف إذا خالفتني؟! وقال أبو زيد أيضاً: من لم يكن الله تعالى في جميع المعاني همته، كان منقوصاً من الله في جميع المعاني حظه.
وقال الجنيد: من أحبنا أفلس، ومن أبغضنا توسوس.
وقال أبو يزيد: لا يزال العبد عارفاً ما دام جاهلاً، فإذا زال جهله زالت معرفته.
وقال الزقاق: لولا أن الله تعالى أمرنا بحفظ هذه النفوس لجعلنا على ذروة كل جبل قطعة منها.
وقال الجنيد: لو علمت أن تحت أديم السماء علماً أجل من علمنا لقصدته وسعيت إليه.

ما أحوجنا إلى عالم منطيق يكشف لنا كلام هذه الطائفة، وسأسوق إليك من غرائب ألفاظ الصوفية، وبدائع كلام النساك، ومحاسن كلام أرباب المقالات، وطرائق ما لاح لذوي الآراء والديانات، على غيلا إطالة مملة، ولا إيجاز مخل، ما يكون غرة هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
وصف أعرابي رجلاً فقال: ذاك رجل سبق معروفه إلي قبل طلبتي إليه، فالعرض وافر، والوجه بمائه، وما أستقل بحمل نعمة منه إلا أثقلني بأخرى، وكان والله مع هذا منهاجاً للأمور المشكلة، إذا ما تناحى ذوو الألباب باللائمة.
وصف آخر قوماً فقال: منهم من يقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه، ومنهم من لا يبلغ كلامه أذن جليسه، ومنهم من يغشى كلامه الآذان فيحملها إلى الأذهان شراً طويلاً.
وقال يونس النحوي: إني لفي ظل دار ابن عامر، في يوم من أيام ناجر: قد اتقدت فيه الهواجر، إذ أقبلت امرأة لم أر مثلها في شبابها وهيئتها، فما ملكنا أنفسنا حتى رمينا بأبصارنا نحوها، فأنعطفت في زقاق ومضت؛ فإنا لفي حديثهان إذا بفتى في مثل هيئتها قد أقبل مدهوشاً، فقال له بعض القوم: ها هنا حاجتم، وأشار إلى الزقاق، فقال بوجه مسفر، وقلب مجتمع، ولسان عضب: الطويل
إذا سلكت قصد الطريق سلكته ... وإن هي عاجت عجت حيث تعوج
يقال في اللغة: أزففت الإبل إذا حملتها على الزفيف، وهو سير سريع. وأما الرفيف فهو الخفيف من مر الريح وصوت النار. وأما الجفيف فهو الشيء اليابس. وأما الكنيف فهو موضع الغنم وما أشبهه. وأما الغريف فهو المغروف، والمعرفة يقال لها المقدحة أيضاً. وأما الرفيف فهو بريق الشيء. وخم اللحم خموماً إذا أروح بعد الطبخ، والخمامة ما كنس من البيت، والمخمة المكنسة، وهي المقمة أيضاً والمكسحة، وقيل: هو السمن الذي لا يخم، يعنى به الثناء.
ولما ولى يزيد بن المهلب ابنه جرجان قال له: استظرف الكاتب، واستعقل الحاجب. ولا أدري لم خص الكاتب بالظرف والحاجب بالعقل.
قال أكثم بن صيفي: يا بني تميم، لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي؛ إن بين حيزومي وصدري لبحراً من الكلم لا أجد له مواقع غير أسماعكم، ولا مقار إلا قلوبكم، فتلقوها بأسماع صاغية، وقلوب واعية، تحمدوا عواقبها. إن الهوى يقظان والعقل راقد، والشهوات مطلقة والحزم معقول، والنفس مهملة والروية مقيدة، ومن جهة التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشداً، والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل؛ من سمع سمع به، ومصارع الألباب تحت ظلال الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام، وعلى الاعتبار طريق الرشاد، ومن سلك الجدد أمن العثار، ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه ويشغل فكره ويوري غيظه، ولا يجاوز ضره نفسه. يا بني تميم: الصب على جرع الحلم أعذب من جني ثمرة الندم، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، وكلم اللسان أنكى من كلم الحسام، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت فهي سبع حرب أو نار تلتهب، ولكل خافية مختف، ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في الحرب أنفذ من الطعن والضرب.
قال ابن سيابة: حضرت جنازة بمصر فقال لي بعض القبط: يا كهل، من المتوفي؟ قلت: الله عز وجل، فضربت حتى مت.
لمحمد بن ياقوت: الخفيف
يا بديعاً طغى به الحسن جدا ... وتصدى جماله فتعدى
مشبهاً للغزال والبدر والغص ... ن جميعاً عيناً ووجهاً وقدا
لابساً فوق در فيه عقيقاً ... فارشاً تحت نرجس العين وردا
لو تبدى في ظلمة لاستنارت ... أو تمشى على الصفا لتندى
وأستعار الهوى له لحظات ... كن في عسكر الصبابة جندا
لا تلمني فلست أول حر ... صار للحب والأحبة عبدا
الذي رويته وحكيته عن أكثم رواه أبو بكر ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي.
قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس شعراً؟ قال: والبة ابن الحباب: قال صدقت، قال: فما منعك من منادمته يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله: السريع
قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من راسي
وأدن وضع رأسك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسي
أفتريد أن ينكحنا لا أم لك؟!

أتى رجل من الخوارج الحسن البصري فقال له: ما تقول في الخوارج؟ قال: هم أصحاب دنيا، قال: ومن أين قلت، وأحدهم يمشي في الرمح حتى ينكسر فيه ويخرج من أهله وولده؟ قال الحسن: حدثني عن السلطان أيمنعك من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والعمرة؟ قال: لا، قال: فأراه إنما منعك الدنيا فقاتلته عليها.
قال إسحاق: فحدثت بهذا الحديث الغاضري، وكان ظريفاً بالمدينة، فقال: صدق الحسن، ولو أن أحدهم صام حتى يتعقد، وسجد حتى يحز جبينه، واتخذ عسقلان مراغه، ما منعه السلطان، فإذا جاء يطلب ديناراً أو درهماً لقي بالسيوف الحداد والأدرع الشداد.
خطب رجل من قريش إلى الكميت بن زيد، فظل يفتخر عليه ويذكر فضل قريش، وأكثر من ذلك، فقال له الكميت: يا هذا، إن أنكحناك لم نبلغ السماء، وإن رددناك لم نبلغ الماء، وقد رددناك.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فأصبر، فبكليهما أنت مختبر.
ذكر أعرابي آخر فقال: ما أقوم الطريقة، وأكرم الخليقة، وأكف الأذى، وأبعد القذى، وألين الجانب، وأرغب الصاحب، يصبح جارك سالماً، ويمسي غانماً.
قال العتبي: من كلام العرب: طالت خصومتهم بأطراف الرماح.
وقال أعرابي: لا يلفى حلمه إلا حديداً.
وقال أعرابي: غيث كسا الأرض حلل النبات.
وقال أعرابي وذكر قوماً: هرمت بعدهم الدنيا.
وقالت أعرابية: لهم صبر على غصص الهوان.
وقالت أعرابية وسمعت كلاماً أعجبها: هذا كلام يشبع منه الجائع.
وقالت أعرابية: ثوب كأنه نسج بأنوار الربيع.
وقال آخر لصاحبه: كفاك من القطيعة سوء ظنك بي.
وقال أعرابي يمدح: له كف ضمنت يسار المعدمين.
وقال آخر: الناس نهب المصائب.
وقال أعرابي من عذرة: لو أطاعني الهوى أطعت العاذلين.
وقال آخر: العجز شريك الحرمان، واليأس من أعوان الصبر.
قد ظن هذا القاتل أن العجز حارم والقوة منيلة، وهذا الإطلاق تحته تقييد، إذ العجز قد يقترن به الحرمان، ويقترن هو بالحرمان، والقوة تصادف النيل، وقد يصادفها النيل، ولكن ليس النيل مجلوب القوة ولا الحرمان مكسوب العجز؛ كيف وأنت متى حققت العجز وجدته فقدان الفعل وعدمه، وعدم الشيء لا يكون سبباً لوجود شيء آخر، ولا علة له ولا مشيراً، فأما القوة فإنما هي حال معرض بها للنيل، وقد يحرم لا بها ولكن معها، والعجز فإنما هي حال معرض بها للحرمان، وقد ينال لا بها ولكن عندها. وإنما لبس عليهم وهمهم أنهم رأوا النيل قرين القوة والحرمان قرين العجز في الغالب أو في الظاهر، ونسوا ما قدر فيهما من الحرمان مع القوة والنيل مع العجز؛ ومن صفا لبه وأجتمع قلبه، ولحظ المعنى الملقى إليه، علم أن العالم بأسره منساق إلى غاية واحدة في تفصيله وجملته، والإنسان أحد ما ضم إليه العالم، فهو تابع لحكمه الذي هو من شؤونه، لا ينفرد عنه شيء، كيف وكله فائدة العالم، ونسجه وتأليفه، وإنما هو مجموع مفرقه، ومؤلف أجزائه، وهو على هذا ينساق لما غلبه ويسوق لما غلب عليه، وهذه النسبة وإن اختلفت بالعبارة والإضافة، فإنه مطرد فيها ومحمول عليها، تارة بالإكراه الشديد، وتارة بالدواعي العارضة، وتارة بالقصد الذي يترجح بين الأسباب الحاضرة والغائبة، والأختيار الذي هو مستند إلى الضرورة التي هي محيلة للأختيار.
وقد طاب الكلام في هذا الفصل لأنه شيء مجاوز للنفس، وجار مع النفس، ومع ذلك أراني أمد الكلام فيه قليلاً، آخذاً بما يكون زائداً في الشرح وجامعاً للفهم، إن شاء الله تعالى. وأروي لك أبياتاً من قبيل ذلك، فإنها تلم بالمعنى الذي قرعنا بابه، ونوعنا أسبابه؛ قال محمد بن عبد الله النجراني أو البحراني الشك مني - : الهزج
صبرت النفس لا أجز ... ع من حادثة الدهر
رأيت الرزق لا يكس ... ب بالعرف ولا النكر
ولا بالعقل والدين ... ولا بالجاه والقدر
ولا بالسلف الأمث ... ل أهل الفضل والذكر
ولا بالسمر اللدن ... ولا بالخذم البتر
ولا يدرك بالطيش ... ولا بالهزل والهذر
ولكن قسم تجري ... بما ندري ولا ندري

انظر إلى الصدق كيف يلوح لك من خلل هذا الكلام، وإذا صح لك النظر في حاشية من حواشي أسباب العالم وأمور الكون بمثال واضح، أو قياس مستنبط، أو علة ظاهرة، أو سبب قائم، فانته إليه، وأعتكف عليه، ولا تدندن، فإن الرأي يموج بك، والمطلوب يتوارى عنك، فافهم الآن أكرمك الله ما يلقى إليك، ويورد عليك، واجمع لتحصيله بالك، وخذ برفق منه ما لك، فقد بان من مكنون الغيب ما يزول معه كل ريب: أعلم أن الأضطرار موشح بالأختيار، والأختيار مبطن بالأضطرار، وهما جاريان على سننهما، وماضيان في عنهما، لا ينفرد هذا عن هذا، ولا يخلو هذا من هذا، والملحوظ فيهما بالعين البصيرة معنى واحد، وإن كانت العبارة مصروفة على معنيين، إما لعسر المراد في هذا المقصود، وإما لضيق الإعراب عن عين الحقيقة، وإما للأصطلاح الذي يجهل سببه؛ فإن تباعد عن منال فهمك، وغمر عقلك، فأرجع إلى نقصك في تعرف رسم الحق، تجد منه نفس الحق، وليكن ذلك الرسم خط كاتب وخط كاتب: أما ترى أيها المعتبر القياس أن خط هذا الكاتب يماثل خط هذا الكاتب من جهة الأختيار، حين أدى هذا أعيان حروف ذاك، وقوم صور تلك الكلم؟ ثم أعطف عليه ثانياً بإعتبار جديد وأنظر: هل يباين خط هذا الكاتب من جهة حقائق أشكال خط هذا الكاتب، وحقائق خواص هذا الكاتب؟ فإنك تجد المباينة عياناً لا تحتاج إلى ترجمان، كما وجدت المشابهة حساً لم تحتج إلى بيان. أفليس المعنى الذي وقعت الشركة به بينهما إنما هو الأختيار الذي أدى هذا الكاتب به كلام هذا الكاتب في رسم ألف وميم، ولام وجيم، وحاء وكاف، وفاء وقاف، والمعنى الذي وقعت به المباينة بينهما إنما هو الأضطرار، حتى صار هذا الخط منسوباً إلى هذا، وهذا الخط مقصوراً على هذا، يقومان لهما مقام الحلية المميزة، والصورة المقررة؟ فقد برزت لك اللطيفة التي بها يكون الأضطرار موشحاً بالأختيار، ولاح لك السر الذي به يكون الأختيار مبطناً بالأضطرار، في هذا الرسم الحاوي متني الخط في حال وأصل الفعل بحركة واحدة وزمان واحد.
وإن قاصر الأختيار على الإنسان ذاهل عما نطق به الأختيار من الأضطرار، وكذلك مدعي الأضطرار للإنسان ساه عما وشح به الأضطرار من الأختيار، وكمال المعرفة في تفصيل ما أشكل منهما، وتلخيص ما التبس بهما.
وهذا فصل كاف على اختصاره، مع لطفه ودقته، وليس يدق على صارف الهوى عن نفسه دقيق، ولا يضح لأسير الهوى جليل. ولا يصرفنك عن استشفاف ما تضمنه هذا الفصل ما تجد فيه من ألفاظ غير ألفاظ المتكلمين فإنها تجل عن ألفاظهم ولا تسقط، وتعلو عليها ولا تنحط.
وسيمر في عرض الكتاب ما يكون رافداً لهذا الذي مضى وشاهداً، وعوناً له وناصراً، إن شاء الله تعالى.
وقال أعرابي: الأمثال مصابيح الأقوال.
وقال أعرابي: استقلال الكثير يعرض للتقتير.
وقال أعرابي: الحفاظ عمود المؤاخاة.
قال أعرابي: النبيذ قبل الحديث.
وقال المأمون: لا تستعن في حاجتك من هو لمطلوب إليه أنصح منه لك.
لا تطالبني بأن أقول: لا تستعن في حاجتك بمن، فإن الباء تدخل من ها هنا وتخرج والمعنى على صحته، ويدلك عليه قوله تعالى " إياك نعبد وإياك نستعين " الفاتحة: 4، ولا تقل به، وقولك: اللهم إنا نستعينك.
وإنما محصت لك هذا لنقص بان لي من كاتب كبير ذي رزق واسع وجاه عريض، قرأ عليه صاحب لي من رقعة هذه الكلمة بحذف الباء فقال له: من كتب هذا؟ قال: أبو حيان، فقال: يا قوم، ما اغتراركم بما يكتب هذا الرجل ويقول؟! أما كتبه فثقيلة، وأما هذا الكلام فلا يجوز أن يكون له لرشاقته وحسنه، وإن كان له فمن قبل هذا الخطأ الفاحش الذي قد دل على عورته؛ أما يعلم أبو حيان أنه لا يقال اشتغلت كذا إلا بعد أن يقال بكذا، ولا يقال استعنت كذا حتى يقال بكذا؟ فأعاد صاحبي هذا علي، فبقيت مبهوتاً لا أحير حديثاً. ولم يكفه ذلك حتى دخل دواوين الكتاب فحكى ذلك لهم وأراهم أنه قد ظفر، فعل من لم يقع له مثل ما وقع له.

وأعلم أن شين أشتغلت ليست نظير سين أستعنت، لأن الاشتغال افتعال، والشين من سنخ الكلمة، وهي أحد أجزائها، بها تتم وعليها تنتظم، وأما الأستعانة فإن سينها مجتلبة، لأن أصل الكلمة أعان يعين، ثم تجلب بها السين للمعنى المراد، وهو سين استفعل التي هي في قولك استمال من مال، واستقال من الإقامة، وأستمتع من المتعة، وكان الأصل على التمام استعونت، ولكن قصد التخفيف على جاري العادة في كلامهم. فظن هذا البائس أن هذا الوزن إذا جمعهما فالحكم قد جمعهما، والشيء قد يخالف منظره مخبره، وظاهره باطنه، وجليته سره.
لا تنكر - أيدك الله - تدافع الحديث فيما يشتمل عليه هذا الكتاب، فالشرط قد سلف مقروناً بالأعتذار، وبقي أن تجري على عادتك في تحسين ما لم يملك هواك، ولم يظفر بإختيارك. وقد تطلع في هذا الكتاب على من أختياره فيما تبغيه، وهواه فيما تقع فيه. وقد قيل: لكل كلمة قائل، كما قيل: لكل طعام آكل؛ وبعض الكتاب يقول: وما خلق الله شيئاً لا موضع له حتى يسقط ألبتة.
وهذا من رسالة لبعض من أنتجع بها الرئيس أبا الفضل ابن العميد، وبقي على بابه أسير طمع، يزلقه على مداحض الذل، ومتوقع يأس لا يصح له، فينتهي إلى العز. فكتب إليه بعد ملاحم رسالة، أولها: محاسبة النفس على الواجبات كرم، أقتضاؤها قضاء الحق، والتسهيل في اللوازم كإقامة الفرائض، وتوفية العمال أجورهم قوام الدنيا، والتغميض في واجب التعويض من الرأي المريض، وحرمان المجتهد من الرئيس ككفران النعمة من المؤوس وفي فصل منها يقول لأبي الفضل: وليعلم المرء وإن عز سلطانه، وعلا مكانه، وكثرت حاشيته وغاشيته، وملك الأعنة، وقاد الأزمة، أنه ينعم له في الحمد على الحسن والذم على القبيح، وأن المخوف يغتاب من ورائه كما يقرع المأمون في وجهه، فأعلاهما حالاً أكثرهما عند التقصير وبالاً، وهذا باب يعرفه من أساس الناس.
وله فصل منها: ولو أستطعت أن أمسك نوابض عروقي عن النبض، وخياشيمي عن روح النفس، وشفتي ولهاتي عن الهمس، كل ذلك لجدوى أحظى بها من حظ أو جاه، لفعلت.
وهذا نمط حسن الوشي، دقيق المرام، حلو المقتضب، ولعلي أكتب لك الرسالة على ما هي إن شاء الله تعالى.
أنشد المأموني: السريع
داء قديم في بني آدم ... صبوة إنسان بإنسان
قال أعرابي لصاحبه: لا تقل ما لا تعلم، فتتهم فيما تعلم.
قال المعتمد لبعض الندماء: إذا عدم أهل التفضل، هلك أهل التجمل.
وقال أعرابي: قليل النار يكوي، وكثيرها يتوي ومعنى يتوي يهلك.
وقال فيلسوف: لا يزكو طبع بلا أدب، ولا يكون علم بلا طلب.
وقال أعرابي: قلما ينصف اللسان، في وصف إساءة أو إحسان.
وقال أعرابي: من منع أخاه مساعدة، أعتاض منها معاندة.
قال فيلسوف: حوائج الدنيا تنهك القوى.
وقيل لسهل بن هارون: خادم القوم سيدهم، فقال: هذا من أخبار الكسالى.
قيل لقاضي الفتيان: نيك الرجال زينة، قال: هذا من أراجيف الزناة.
وقيل لابن ماسويه: الباقلاء بقشرة أصح في الجوف، قال: هذا من طب الجياع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الخيل تجري بأحسابها، فإذا كان يوم الرهان جرت بجدود أربابها.
أنشد ماجن: الكامل
لا يغضبن منادمي إن نكته ... إني لنيك منادمي معتاد
وكذا النديم إذا أراد ينيكني ... ولقد علمت كما أكيد أكاد
اشترت مدينة من رجل ثوباً في شعبان على أن تسوق إليه الثمن في رمضان، فقال الرجل: أخاف أن تمطليني، قالت: لا أمطلك والذي خاتمه على فمي، قال: وما الخاتم؟ قالت: علي بقية من رمضان الماضي، قال: أذهبي، قد ماطلت ربك سنة فكيف أثق بك؟ سمعت شيخاً نبيلاً يقول في مجلس خلوة وأنس: اجتمع بغاء ولوطي، فشمرخ البغاء أير اللوطي فرأى مثل ذراع البكر، فقال: يا هذا، انبسط بنيكي، بخت أي بخت؟! قال: وما معنى بخت أي بخت؟ قال: إما أن تشقني وإما أن يندق أيرك.
قال حمل بن بدر بن جؤية بن لوذان: الطويل
قتلنا بعوف مالكاً وهو ثأرنا ... فإن تطلبوا شيئاً سوى الحق تندموا
خذوا الحق منا قد أخذناه منكم ... وهل بعد عقل كامل متكلم
وإن تقطعوا ما بيننا من قرابة ... وبينكم عند التشاجر فأعلموا

بأن سوف يحدوكم لذبيان جحفل ... إلى جحفل منه الوشيح المقوم
وإنكم لا تلبثون ببلدة ... من الأرض إلا والقلوب ترجم
بني عمنا لا تجزعوا إن حربنا ... يغص بها ذو النخوة المتقدم
؟قال أعرابي: الكتب لا تستنفر، والحديد لا يستعصر، والصخور لا تستمطر.
؟قال حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، جاهلي: البسيط
ولوا عيينة من بعدي أموركم ... وأستوسقوا أنه بعدي لكم حامي
إما هلكت فإني قد بنيت لكم ... عز الحياة بما قدمت قدامي
ولى حذيفة إذ ولى وغادرني ... يوم الهباة يتيماً بين أيتام
لا أرفع الطرف من ذل ومحقرة ... ألقى العدو بوجه خده دامي
حتى أخذت لوا قومي فقمت به ... ثم أنثنيت إلى الجفني بالشام
والدهر آخره شبه بأوله ... ناس كناس وأيام كأيام
؟قالت أسماء بنت عميس لما تفاخر بنوها من جعفر وأبي بكر وعلي، وقال علي لها: أقضي بينهم، قالت: ما رأيت شاباً أطهر من جعفر، ولا شيخاً أفضل من أبي بكر، وإن ثلاثة أنت أحسنهم لفضلاء. هكذا حكاه الهيثم بن عدي؛ وفي اللفظ تحريش وإن كان على مذهب العرب.
؟؟ولما قدم عبيد الله بن علي يدعو الناس قال الأحنف: جنبونا حسناً وأبا حسن، فإنا لم نجد عندهما علماً بالحرب ولا إيالة للمال.
وقيل لأبي برزة الأسلمي: لم اخترت صاحب الشام على صاحب العراق؟ قال: وجدته أطوى لسره، وأملك لعنان جيشه، وأفطن لما في نفس عدوه.
هذا رأي معكوس لأن صاحب العراق لم يؤت عن عجز في جميع ما نعت به صاحب الشام، ولكن كان شعاره الدين ودثاره الدنيا، وإلى الله عز وجل أمره، ولعله يرحمه فما أحوجه إلى الرحمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو الدرداء: لتدخلن الجنة كلكم أجمعون إلا من شرد على الله عز وجل شراد البعير.
رأى أبو الدرداء منزل رجل قد شاده فقال: ما أحكم ما تبنون، وما أطول ما تأملون، وأقرب ما تموتون.
قال فيلسوف: القوب أوعية السرائر، والشفاه أقفالها، والألسنة مفاتيحها، فليحفظ كل منكم مفتاح وعاء سره.
قال فيلسوف: أعلم الناس بالدهر أقلهم تعجباً من أحداثه.
يقال: من أثر الخير سار به ذكره، وتوفر عليه أجره.
شاعر: المنسرح
لاح له بارق فأرقه ... فبات يرعى النجوم مكتئبا
يطيعه الطرف عند دمعته ... حتى إذا حاول الرقاد أبى
قال أعرابي: خير المعروف ما لم يتقدمه مطل ولم يتبعه من.
قال ابن السماك: لولا ثلاث لم يسل سيف، ولم يقع حيف: سلك أدق من سلك، ووجه أصبح من وجه، ولقمه أسوغ من لقمة.
قال فيلسوف: الموت ساحل الحياة.
قال الحسن بن سهل في رجل: افتديت مكاشفته، واشتريت مكاشرته، بألف ألف درهم.
قال سهل بن عبد الله: الإرادة باب القدرة، والمشيئة باب العلم، ثم قال: ألا تراه يقول " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، ثم قال: ألا ترى إلى قوله " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " النحل: 40.
قال أعرابي: الرجز
ليس من الحنظل يجنى العسل ... ولا من البحر يصاد الورل
قال معاوية: مهما كان في الملك فإنه لا ينبغي أن يكون فيه أربع خصال: الكذب، فإنه إن وعد خيراً لم يرج، وإن أوعد شراً لم يخف؛ والبخل، فإنه إذا بخل لم ينصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة؛ والحسد، فإنه إذا حسد لم يشرف أحد في دولته، ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم؛ والجبن: فإنه إذا جبن اجترأ عليه عدوه، وضاعت ثغوره.

وكان معاوية جيد الكلام، عجيب الجواب، عظيم الحلم، صبوراً على الخصم، معتاداً للكظم، ماضي الجنان، مفلق البيان، عارفاً بالدنيا، متأتياً لها، مالكاً لزمامها، جاذياً لخطامها، راكباً لسنامها؛ وكان عمرو بن العاص باقعة؛ وكان زياد أنكر القوم؛ وكان المغيرة لا يشق غباره، ولا تصطلى ناره؛ وليس علي كرم الله وجهه يجري في مضمارهم: علي بحر علم، ووعاء دين، وقرين هدى، ومسعر حرب، ومدره خطب، وفارج كرب، مضاف السبب إلى النسب، معطوف النسب على الأدب، ولكن شيعته شديدة الخلاف عليه، قليلة الانتهاء إلى أمره، وكلهم الله إلى أمرهم، وإلى الله إيابهم، وعليه جزاؤهم وحسابهم.
كتب أبو الحسن الفلكي - وكان بليغاً، وكان بصرياً ومات بأذربيجان، هكذا حدثني شيوخ المراغة - إلى أخ من إخوانه: لو لم يكن الأنس - أعزك الله - بيننا نسباً يوجب التشارك في الأرواح دون سائر الأموال، وما يضن به من سائر الأملاك، لكان يجب أن لا أنشد مشروباً من الراح سواك، إذ كنت أخاها في نجارها، وكانت أخلاقها أخلاقك، وأعراقها أعراقك، التي حليتها بالآداب، وفضلتها بكرم الأنساب، فكيف وأحوالنا فيما نملكه متكافية، وأمورنا فيه متساوية؟ ونحن - أعزك الله - روح اقتسمه جسمان، ونفس مثل بها شخصان، وأنت بموضع الأنس والثقة إذا انقبض سائل من مسؤول، فأحب أن تأمر لي بملء الظرف الذي مع الغلام، وتتوصل بالإشراف عليه بوجهك، ليزيد في رونقه رونقك، وصفاته صفاؤك، ويباشر نسيمه منك نسيماً فيحمله إلينا، وطيباً يمثل به لدينا، أبو فلان، فيجمع شمل السرور، وهو شراب ثان نلتذ منه قربه، إذا التذ من ذلك شربه، وهو والله يصفو صفاء الراح ويروق، وأنا وحياتك إليه صب مشوق، فإن آثرتنا به زدت في إحسانك، وكان من شكرنا عن امتنانك، وإن شاححتنا عليه سامحناك، إيثاراً لهواك، والتماساً لرضاك، والسلام.
قال أعرابي: مدة الأبد في اليوم أو غد.
قال أعرابي: ما أساء من تاب، ولا جهل من أناب.
قال آخر: الجهل هوة، والعلم قوة.
وأنشد لابن عرفة: الكامل
يا أحمد بن محمد يا أحمد ... نفسي فداؤك أين ذاك الموعد
حسبي بقلبي شاهداً لي في الهوى ... والقلب أعدل شاهد يستشهد
إن كنت أوحد في الجمال فإنني ... في صدق ودي والوفاء لأوحد
وإذا القلوب تفرقت أهواؤها ... فهواك مجموع لدي مجدد
سأل أعرابي رجلاً حاجة فمنعه، فقال: الحمد لله الذي أفقرني من معروقك، ولم يغنك عن شكري.
قال أعرابي: نبو النظر عنوان الشر.
كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: إذا قرأت كتابي هذا فاطلب لي رجلاً يحب أن يعدل في النصيحة، وينصف في المودة، سيماه سيما الشيوخ، وقلبه قلب الفتيان، وعقله عقل الكهول، لا يغابن من يواصل، ولا يرائم من يخالل، أحب الأشياء إليه الأثرة، وأحسن الأشياء عنده حسن المؤازرة، معروف في القلوب بالصدق، مقدم في النفوس بالأمانة. فكتب إليه الحجاج: يا أمير المؤمنين، هذه شهوة خفية لا توجد أبداً، فاسل عنها، والسلام.
سمعت شيخاً من النحويين يقول: المعاني هي الهاجسة في النفوس، المتصلة بالخواطر، والألفاظ ترجمة للمعاني، وكل ما صح معناه صح اللفظ به، وما بطل معناه بطل اللفظ به؛ فالأسم ما وقع على معنى غير مقرون بزمان محصل، ويعرف أيضاً بدخول الجر عليه، ويصلح فيه ضربي ونفعني، ويدخل عليه أيضاً الألف واللام على واحده وتثنيته؛ والفعل يعم ما تصرف بالزمن، كقولك ضرب للماضي، ويضرب للحال وللمستقبل من الزمان؛ والحرف ما كان جامداً لا يدل على معنى، نحو هل وبل وقد. وكأنه يريد أن معاني الحروف تتضح بقرائنها، فكأنه لا تأثير لها بتجريدها حتى يصحبها غيرها.
وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول: والإعراب حركة تحل بآخر حرف من الأسم كالدال من زيد؛ وكان غيره يقول: الأسماء أصول والأفعال فروع عنها.
وسمعته يقول: المذكر أصل والمؤنث فرع، والمذكر أخف والمؤنث أثقل، والنكرة أخف من المعرفة، لأن النكرة حال الاسم في الأول؛ والوصف أثقل من الموصوف، لأن الموصوف أصل والوصف أصل والوصف تابع له لأنه تشبيه بالفعل في وقوعه موقعه، كقولك: هذا رجل يضرب زيداً، فتصفه به، كما تقول: هذا رجل ضارب زيداً.

وسمعت غيره يقول: الأفعال ثلاثة: ماض، وهو مبني على الفتح؛ ومستقبل، وهو محتمل للزوائد التي هي الياء والتاء والنون والألف؛ والدائم؛ وهو الحال.
وسمعت أبا حفص الأشعري يقول: لا معنى للحال، إنما هو الماضي والمستقبل، وتحصيل الحال محال، وتوهمها باطل، لأنك لا تفرغ من الماضي إلى المستقبل، ومتى فرضت واسطة بينهما كنت فيها واهماً. فقيل له: إن الذي يوضح الحال إذا أتيت بالسين في قولك: سيصلي، لم يكن المعنى إلا في الاستقبال، فلولا أن هذا الغرض قد كان كامناً في قولنا يصلي لم توضحه السين، وكأن الشبهة أن يصلي دالة على الحال متضمنة معنى الاستقبال حتى يقترن باللفظ ما يصبه على الغرض الواضح. وكان يكابر عند هذا البيان ويقول: لو صح هذا لصح قول الفلاسفة في الفصل بين الشيئين إن ما يكون مشتركاً بين شيئي كأنه مركب من بدنيهما. فقيل له: وهذا أيضاً كما قاله من خالفته، وأنت في ذلك أجهل من هرة فإنها تمشي على حافة الجدار غير متمكنة على سمته وتريغ مع ذلك مكاناً آخر للقصد الذي يتلوح لها، لا تمسك نفسها وترسلها، فما ظنك يا أبا المبارك بشبهة تكشفها عنك هرة؟! ويقال في المثل: الدخان وإن لم يحرق البيت سوده.
شاعر: الوافر
أسر بمر يوم بعد يوم ... وبالجولين والعام الجديد
وأفرح بالمحاق وبالدآدي ... يسقن البيض في أكناف سود
وفي تكرارهن نفاذ عمري ... ولكن كي يشيب أبو يزيد
غلام من سراة بني لؤي ... منافي العمومة والجدود
خليق عن تكامل خمس عشر ... بإنجاز المواعد والوعيد
في هذا البيت معنى لطيف ربما غفل عنه، وذلك أن الذين أبوا الوعيد وحققوا الإنجاز، زعموا أن الأعراب لا تتمادح بتحقيق الوعيد وإنما تتمادح بإنجاز الموعود، لأن في تحقيق الوعيد ضرباً من اللؤم وفي إنجاز الوعد كل الكرم؛ فعلى هذا، إذا قال الله تعالى في الوعيد ما قال فأمره إليه، إن شاء حقق وإن شاء صفح، ورووا بيتاً أنشده أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد في منازعة هذا المعنى وهو: الطويل
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
ونفسهم في نصرة هذا الرأي قصير؛ ولعل دليلهم من غير هذا الوجه أوكد، وعذرهم بغير هذا الكلام أمهد. هذا أبو وجزة السعدي يقول مادحاً بلسانه، جارياً على فطرته: الكامل
صدق إذا وعد الرجال وأوعدوا ... فأحث بادرة وأوفى موعد
أنشدني هذا البيت أبو سعيد السيرافي وقلت له: إن أبا وجزة إسلامي، قال: فما تصنع بقول بعض الأسديين، وهو جاهلي: الطويل
رويدك يا ابن المستهل ولا تته ... بجهل فحد الجهل بين الغوائل
أنا الصاب إن شورست يوماً وإنني ... جنى النحل إن سومحت إلا لآكل
بسيط يد بالعرف والنكر إن أقل ... بوعد وإيعاد أقل قول عامل
صؤول على الصعب المنوع وممسك ... عرامي عن الواهي القوى المتضائل
وما أخلت الأيام كفي من يد ... إلى الناس في إشرافها والأصائل
إذا سنة حالت بأزم تلقحت ... بمعروفنا حتى ترى غير حائل
وقرأتها عليه في جملة أبيات من كتاب الشدة.
وأعلم بعد هذا أن الكلام من الحكيم وإن اختلفت صفاته بأن يكون مرة خبراً ومرة استخباراً، ومرة وعيداً ومرة وعجاً، ومرة نهياً ومرة أمراً، ومرة إباحة ومرة حظراً، ثم لا يكون الحظر إباحة، ولا الأمر بالشيء نهياً عنه، ولا الخبر بالشيء استخباراً عنه، وهو مع هذا التفاوت الواقع فيه لا يخلو من أن يكون حقاً وصدقاً، كما لا يخلو أن يكون مفهوماً معلوماً، لأنا قد جعلناه الحكم. فإذا كان هذا البحث صحيحاً، وهذا الكلام ظاهراً، فقد وضح أن كلام الله عز وجل يتضمن الحق، ويتغشى الصدق، وأن ذلك من خواص نعته، وأوائل موجبه، وإن اختلفت أقسامه، فما لا يكون قادحاً في صدقه، ولا مبطلاً لحقيقة حقه. ومتى ثبت هذا، وهو ثابت، ذهب ظن من ظن ما ظن في مدارج السيول ومهاب الرياح، وكان ربك نصيراً للحق بصيراً بالخلق.

سمعت في مجلس أبي سعيد شيخاً من أهل الأدب يقول: ومن الأفعال ما له وجهان، كشيء ينصرف على معنيين، مثل: أصاب عبد الله مالاً، وأصاب عبد الله مال، إذا أصابه مال من قسمة، ووافق زيد حديثنا إذا صادفهم يتحدثون، ووافق زيداً حديثنا إذا سره وأعجبه، وأحرز زيد سيفه إذا صانه في غمده، وأحرز زيداً سيفه إذا خلصه من القتل وشبهه؛ ولو قلت أحرز امرؤ أجله لم يجز، لأن الرجل لا يحرز أجله ولكن أجله يحرزه، إلا أن تذهب إلى قولك: أحرزت أجلي بالعمل الصالح.
انظر - فديتك - إلى أثر النحو في هذا القدر اليسير، وتعجب عنده من أبي حنيفة الصوفي حين قال لك: إن الله عز وجل أمرنا بالطاعة والإيمان وإن لم يأمرنا بالنحو، وإلا فهات أنه يدل على أنه أمرنا بأن نتعلم ضرب عبد الله زيداً. وقد رأيت روغانه عن تحصيل الحجة في معرفة ذلك: ألا يعلم أن الكلام كالجسم والنحو كالحيلة، وأن التمييز بين الجسم والجسم إنما يقع بالحلى القائمة والأعراض الحالة فيه، وأن حاجته إلى حركة الكلمة بأخذه وجوه الإعراب حتى يتميز الخطأ من الصواب كحاجته إلى نفس الخطاب. وليس على كلامه قياس، ولا في ركاكة بني جنسه التباس، وإنما غره من هو أنقص منه فطرة، وأخس نظراً وفكرة. أتراه يصل إلى تخليص اللفظ المبني على معنى دون اللفظ المبني على معنى آخر، إلا بحفظ الأسماء وتصريفها؟ أتراه يقف على تحصيل المعنى المدفون في هذا اللفظ دون المعنى المدفون في هذا اللفظ إلا بتمييز وجوه حركات اللفظ؟ فبان لك أن الحالف بالتورية في يمينه: والله ما رأيته، وهو يريد ما ضربت رئته، ووالله ما قلبته، وهو يريد ما ضربت قلبه، ليدفععن نفسه ضيماً نزل به بما يفهم من الرؤية والقلب الذي هو العكس، إنما يبرأ من الحنث ويتخلص من الضيم لقيامه بحفظ اللغة، كذلك من يعرف الفرق الواقع بين الإعراب الذي هو حركة آخر الكلمة في قوله: أنت طالق إن دخلت الدار، وأنت طالق أن دخلت الدار، وفي قوله: " فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " يس: 76 وأنا نعلم فرق، متى لم يقف عليه زل إلى الكفر، وكذلك في قوله " أن الله بريء من المشركين ورسوله " التوبة: 3، فرق يتوسط بين الصواب والخطأ، صوابه إيمان وخطأه كفر. وبسبب هذا الحرف وضع النحر، لأن علياً ابن أبي طالب رضي الله عنه سمع قارئاً يقراً على غير وجه الصواب، فساءه ذلك، فتقدم إلى أبي الأسود الدؤلي حتى وضع للناس أصلاً ومثالاً وباباً وقياساً، بعد أن فتق له حاشيته، ومهد له مهاده، وضرب له قواعده؛ وإنما فشا اللحن للسبايا التي كثرت في الإسلام من الأعاجم وأولادهن، فإنهم نزعوا في اللكنة إلى الأخوال، وأما قوله: قد نقض على النحويين ابن الراوندي نحوهم، فإنه ذاهب بهذا القول عن وجه الرشد، لأن ابن الراوندي لا يلحن ولا يخطىء، لأنه متكلم بارع وجهبذ ناقد وبحاث جدل ونظار صبور، ولكنه استطال باقتداره على علل النحويين، ورآها مفروضة بالتقريب، وموضوعة على التمثيل، لأنها تابعة للغة جيل من الأجيال، ومقترنة بلسان أمة من الأمم، فلم يكن للعقل فيها مجال، إلا بمقدار الطاقة في إيضاح الأمثال وتصحيح الأقوال.
طال هذا الفصل أيضاً، وإذا كنت منقاداً للحديث كلفاً بفنونه، فأنا رهن في يديه في كل ما عثرت عليه، وأنت أولى من أخذ فائدته شاكراً، وترك ما عداها عاذراً.
يقال في مثل هذا الفن الذي كنا فيه: وقف رجل حسن الشارة حلو الإشارة على المبرد، فسأله عن مسألة وأطال ولحن وتسكع في الخطأ، فقال المبرد: يا هذا، ما أنصفتنا من نفسك: إما أن تلبس على قدر كلامك، وإما أن تتكلم على قدر لباسك! فعجب الناس من بديهته في هذه الحكمة الجامعة للزجر، الباعثة على القبول، المثيرة للائمة.
قيل ليزيد بن المهلب: إنك لتلقي نفسك في المهالك، قال: إني إن لم آت الموت مسترسلاً، أتاني مستعجلاً؛ إني لست أتي الموت من حبه، إنما آتيه من بغضه، ثم تمثل: الطويل
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
شاعر: الوافر
فما منك الصديق ولست منه ... إذا لم يعنه شيء عناكا
دخل مزبد بيته يوماً وبين رجلي امرأته رجل ينيكها، وباب الدار مفتوح وقد علا نفسها، فقال: سبحان الله، أنت على هذه الحال وباب الدار مفتوح؟ لو كان غيري أليس كانت الفضيحة؟!

مر رجل بأبي الحارث جمين فسلم عليه بسوطه، فلم يرد عليه، فقيل له في ذلك فقال: إنه سلم علي إيماء فرددت عليه بالضمير.
لمحمد بن طاهر: الطويل
عيون إذا عاينتها فكأنما ... دموع الندى من فوق أجفانها در
محاجرها بيض وأحداقها صفر ... وأجسامها خضر وأنفاسها عطر
بروضة بستان كأن نباته ... تفتح وشي حين باكره القطر
أتي نوفل بن مساحق بابن أخيه وقد أحبل جارية من جيرانه فقال: يا عدو الله، لما ابتليت بالفاحشة هلا عزلت؟ فقال: يا عم، بلغني أن العزل مكروه، فقال: أفما بلغك أن الزنا حرام؟! لبعض الطالبيين: الطويل
لقد فاخرتنا من قريش جماعة ... بمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا الفخار قضى لنا ... عليهم بما نهوى نداء الصوامع
ترانا سكوتاً والشهيد بفضلنا ... عليهم جهير الصوت من كل جامع
بأن رسول الله لا شك جدنا ... ونحن بنوه كالنجوم الطوالع
كتب جوهر غلام المعز الفاطمي بمصر موقعاً في قصة رفعها إليه أهلها: سوء الاجترام أوقع بكم حلول الانتقام، وكفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاجتناب، لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعديتم، فابتداؤكم ملوم، وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة تقتضي إلا الذم لكم، والإعراض عنكم، ليرى أمير المؤمنين رأيه فيكم.
سمعت من بعض النحويين يقول: الرفع في الكلام على سبعة أوجه بأربعة ألفاظ: بالواو والضمة والألف والنون؛ فالأوجه: الفاعل، وما شبه به، والمبتدأ والمبني عليه، والوصف، وما يرفعه الظرف، وأسم كان وأدواتها، وخبر إن. فالفاعل قولك: ذهب زيد؛ وما شبه به: ضرب زيد لأنه يقام مقام الفاعل؛ المبتدأ: زيد قائم، فقام مبني على زيد؛ وما يرفعه الظرف نحو: عندك أخوك، فعندك في معنى الفعل كأنه استقر عندك زيد؛ واسم كان مثل: كان زيد قائماً؛ وخبر إن وأخواتها مثل: إن زيداً قائم. وموضع آخر رفع على غير الوجه المعتاد، وإنما هو بإسكان الواو والياء نحو يغزو ويرمي.
كتب علي بن الجهم إلى جارية كان يهواها: الطويل
خفي الله فيمن قد بتلت فؤاده ... وتيمته حتى كأن به سحرا
دعي البخل لا أسمع به منك إنما ... سألتك شيئاً ليس يعري لكم ظهرا
فكتبت إليه على ظهر الرقعة: إنه إن لم يعر لنا ظهراً فإنه يملأ لنا بطناً. الرجال؛ وأما التبل - بتقديم التاء - فإنه العداوة؛ وأما النبل فالسهام؛ وأما العبل فالضخم؛ وأما الكبل فالقيد؛ وأما الهبل فمصدر هبلته أمه؛ وأما الطبل فالخلق، يقال: ما أدري أي الطبل هو؛ وأما السبل فمصدر سبلت الشيء فأنسبل؛ وأما السدل فكذلك، ويقال منه انسدل؛ وأما الأبل فمصدر الأسم الذي هو الإبل، وهو من أبل إذا كان حسن القيام على الإبل؛ وأما الوبل فأشد الجود من المطر وهو المنتهى، كما أن الطرف الآخر هو الطل؛ وأما الزبل فمصدر زبل يزبل، ومنه الزبال، وكأن الزبيل منقول فيه ذلك، والزبل هو ما أخذه الزبال، وفي كلام العرب: ما رزأته زبالة أي ما نقصته ما تحمله النملة.
وسألت رجلاً كان يتعاطى هذا النمط قلت: ما الفرق بين الرزان والرازن؟ فتلعثم. وأراد شيخ من سراة أذربيجان أن يخجلني فخجل، وذلك أنه قال لي: ما تقول في رجل زنا؟ فقلت: الحال معتبرة، فإن كان بكراً فالجلد، وإن كان ثيباً فالرجم، والتغريب على ما يرى الإمام، ففيه الخلاف؛ فقال لي: أخطأت، إني ما أردت إلا غير هذا المعنى، قلت: كأنك أردت رجلاً زنا بامرأة، قال: أردت صعد الجبل، قلت: فأعلم أيها المخطىء أنك مخطىء، قال: كيف؟ قلت: لأن ذاك بالهمز لا غير، ومتى حذفت الهمز فسد المعنى، فالتقم حصاة سكوتاً.
دخل الجماز على صاحب قيان وعنده عشيقته، فقال له الرجل: أتأكل شيئاً؟ قال: قد أكلت، فسقاه نبيذ عسل، فلما كظه جعل يأكل الورد كأنه ينتقل به، ففطنت الجارية فقالت لمولاها: يا مولاي أطعم هذا الرجل شيئاً وإلا خرج خراه جلنجبين معسل.

قال مسعر، حدثني علي بن الحسين العلوي قال: كان بهمذان رجل يعرف بأبي محمد القمي، وكان متصرفاً بها، وكان شديد الحماقة في بغضه معاوية؛ فورد البلد غلام بغدادي، وكان يكتب الحديث، وبلغ القمي خبره، وأنه صبيح الوجه موصوف بالملاحة، فوجه غلاماً له إليه بدينارين، ودعاه إلى منزله، فمضى الغلام وأحتفل القمي في المائدة والزينة والكرامة، حتى إذا كان وقت النوم قام الغلام وطرح جنبه ناحية، فنهض وراءه القمي وراوده وداوره، فلما أجاب كرهاً أقحم عليه أيره، فتأوه الغلام وصرخ وقال: أخرج أمك بظراء، فقال القمي: دعني من هذا وانزل على أحد ثلاثة أمور: إما أن تلعن معاوية، وإما أن ترد الدينارين، وإما أن تستدخل أيري كله، فقال الغلام: أما لعن معاوية فلا سبيل إليه، وأما الديناران فقد أنفقت أحدهما ولا ترضى أرتجاعه إلا مع الآخر، وأما الصبر على مرادك فأنا أستعين بالله عليه؛ فغمز عليه بالحمية، وجعل الغلام يتلوى ويقول: هذا في رضاك يا أبا عبد الرحمن قليل.
لما انصرف عبد الله بن جعفر من الحج، وقفت عليه امرأة من غطفان معها دجاجة مشوية فقالت: بأبي وأمي إن دجاجتي هذه كانت مؤنستي في الخلاء، ومزينتي في الملاء، ومعينتي على الدهر، وإني شكرت لها ذلك، فحلفت ألا أدفنها إلا في أكرم بقعة، وما وجدت ذلك إلا بطنك؛ فضحك عبد الله وأمر بأخذها وقال لها: ائتني المدينة، فأتته، فأمر لها بعشرة آلاف درهم وعشرة أحمال دقيقاً وسويقاً وزيتاً، فلما رأت ذلك قالت: لا تسرف إن الله لا يحب المسرفين.
اعتل ذو الرياستين الفضل بن سهل بخراسان مدة طويلة، ثم أبل وأستقل، فجلس للناس ودخلوا عليه يهنئونه بالعافية، فأنصت لهم حتى تقضى كلامهم، ثم أندفع فقال: إن في العلل لنعماً لا ينبغي لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها، منها تمحيص الذنب، والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الغفلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، وأستدعاء التوبة، والحض على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعد الخيار؛ فأنصرف الناس بكلامه ونسوا ما قال غيره. وكان الفضل فضلاً كما هو، وكان مع ذلك يرتضخ ركاكة وضعفاً، وسأبين ذلك من بعد.
شاعر: الطويل
وما نلت منها محرماً غير أنني ... أقبل بساماً من الثغر صافيا
وألثم فاها تارة بعد تارة ... وأترك حاجات النفوس كما هيا
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا كتب إلى أهل الكوفة يكتب لهم: رأس العرب ورمح الله الأطول.
قال عمرو بن دينار: توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد أبيها عليه الصلاة والسلام وهي ابنة أربع وعشرين سنة.
أكل أعرابي من بني عذرة مع معاوية، فجرف ما بين يدي معاوية ثم مد يده ها هنا وها هنا، ثم رأى بين يدي معاوية ثريدة كثيرة السمن فجرها؛ فقال معاوية: " أخرقتها لتغرق أهلها " الكهف: 71، فقال الأعرابي: لا ولكن " سقناه لبلد ميت " الأعراف: 57.
قال الحسن البصري رحمه الله: من وسع الله عليه في ذات يده فلم يخف أن يكون ذلك مكراً من الله عز وجل فقد أمن مخوفاً، ومن ضيق الله عليه في ذات يده فلم يرج أن يكون ذلك نظراً من الله تعالى له فقد ضيع مأمولاً.
لو كان كلام الناس حجراً لكان كلام هذا الرجل ذهباً وفضة؛ لله دره فقد أوتي عقلاً وفقهاً وزهداً وبياناً. وكان شيخ لنا يحدث أن ثابت بن قرة الحراني الصابىء الفيلسوف كان يقول: فضلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم العربي على جميع الأمم الخالية بثلاثة لا يوجد فيمن مضى مثلهم:

بعمر بن الخطاب في سياسته، فإنه قلم أظفار العجم، ولطف في إيالة العرب، وتأتى لتدبير الحروب، وأشبع بطون العرب، وألبس الدين جلباباً، وفتح له أبواباً، وهيأ له شرائط وأسباباً، ثم لم يرزأ من جميع الغنائم والفتوح شيئاً، وصحب عمره بالقناعة التي لا تجيب إليها نفس، مع القدرة والتمكين والسلطان والسطوة والهيبة والطاعة والإجابة، ومزج الدنيا بالدين، وأعان الدين بالدنيا، ودارى في موضع المداراة، ومارى في موضع المماراة، وأظهر الضعف مع قرة، وأظهر القوة مع رأفة، وأظهر الرأفة مع التقصي، فدانت له القلوب، وذلت له الرقاب، وتناجت القلوب بمحبته، وتناصرت الألسنة بالثناء عليه، نومه لليقظة، وراحته للدأب، وقسوته للرحمة، ومنعه للعطاء، وصمته للعبرة، وقوله للفائدة، ومشيه للإغاثة، ينفض الليل بنفسه، ويعترف في كل أمر بتقصيره، ولا يرضى ببذل مجهوده، نقاب يحدث بالغائب، إن آرتأى لم يقل، وإن قال لم يخل، وإن تواضع لم يذل، أحواله تتناسب، وأموره تتشابه، ليله كنهاره، وسره كإجهاره، وإبطانه كإظهاره، وعلانيته كإسراره، لا يقفوه قاف وإن تقصى السداد، ولا يلحقه لاحق وإن ركض الجواد؛ والحسن البصري، فإنك إذا نظرت إلى كلامه ومواعظه وزهده وحكمته، عرفت علو درجته، وسلطان دينه، وقوة عقدته، وانفتال مريرته، ونقاء طويته، مع العفة في الدين، والصبر المتين، والأحتساب العظيم؛ وأبي عثمان الجاحظ، فإنك لا تجد مثله، وإن رأيت ما رأيت رجلاً أسبق في ميدان البيان منه، ولا أبعد شوطاً، ولا أمد نفساً، ولا أقوى منة، إذا جاء بيانه خجل وجه البليغ المشهور، وكل لسان المستحنفر الصبور، وانتفح سحر العارم الجسور؛ ومتى رأيت ديباجة كلامه رأيت حوكاً كثير الوشي، قليل الصنعة، بعيد التكلف، حلو الحلى، مليح العطل، له سلاسة كسلاسة الماء، ورقة كرقة الهواء، وحلاوة كحلاوة الناظل، وعزة كعزة كليب وائل. فسبحان من سحر له البيان وعلمه، وسلم في يده قصب الرهان وقدمه، مع الأتساع العجيب، والأستعارة الصائبة، والكتابة الثابتة، والتصريح المغني، والتعريض المنبي، والمعنى الجيد، واللفظ المفخم، والطلاوة الظاهرة، والحلاوة الحاضرة، إن جد لم يسبق، وإن هزل لم يلحق، وإن قال لم يعارض، وإن سكت لم يعرض له.
هذا رأي ثابت بن قرة وأعجابه، أتينا به على ما عن لنا، فإن وقع موافقاً لرأيك، مطابقاً لأختيارك، فأعتد به، وإن نفيته بحكمك، وزيفته بنظرك، فدعه لغيرك: الطويل فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم كان بهلول المجنون يقول: الهزج
كم تمرض وكم تبرا ... وكم تأكل وكم تخرا
وكم تستقبل اليوم ... وكم تستدبر الشهرا
وكم تنقل من يفنى ... بمن يفنى إلى الصحرا
وقال محمد بن يزيد الأموي: الخفيف
فطمتك الأيام قبل الفطام ... وأتاك النقصان قبل التمام
بأبي أنت ظاعناً لم أمتع ... بوداع منه ولا بسلام
كنت أرجوك للمهم من الأم ... ر وأنسى تعرض الأيام
حاربتني فيك الليالي ولم يح ... فظن عهدي ولا رعين ذمامي
أيها القبر إن فيك لروحي ... نزعت من مفاصلي وعظامي
وبرغمي أمسيت أمنحك الود ... وأهدي إليك صوب الغمام
تقول العرب: من طال أمده نفد جلده.
دخل على معاوية رجل مرتفع العطاء، فرأى في عينيه رمصاً فحط من عطائه وقال: أيعجز أحدكم إذا أصبح أن يتعهد أديم وجهه؟ ومن جود عبد الله بن عباس أنه أرعى رجلاً من الأعراب إبلاً فأسمنها وردها كأنها قصور، أو عذارى حور، فقال: كيف تراها؟ قال: تسر الناظر، وتخصب الزائر، قال: فإنها لك، ولك أجرك، فبكى الأعرابي فقال له: ما يبكيك؟ قال: أبكي ضنا بهذا الوجه أن يعفر في التراب، فقال: هذا القول أحسن من قصيدة.
قال أعرابي: اللهم أجعل لي قلباً يخشاك كأنه يراك، إلى يوم يلقاك، وأدعوك دعاء قليلة حيلته، متظاهرة ذنوبه، ظنين على نفسه.

الظنين: المظنون، والمظنون: المتهم، وقد قرىء " وما هو على الغيب بظنين " التكوير: 24 أي بمتهم، وقرىء بضنين، أي ببخيل، أي لا يسأل أجراً على ما يخب به على الله عز وجل؛ وكان أبو نصر السدي يقول: بالضاد أقوى في المعنى، وأخلص إلى الحق، وذلك أن التهمة أسرعت إليه من المشركين المباينين، ومن المنافقين المخالطين، فلو كان معنى النفي صحيحاً على الإطلاق، كان لا تقع التهمة، ولا تعرض الريبة، فقيل له: وتأويله أنه غير متهم في نفسه أو عند الله، فقال - وأنا أسمع - : إن زوال التهمة عنه عند الله، أو عن نفسه، لا يصح به مدح ولا يتم به إطلاق، لأنه يبقى على المعارض أن يقول: هذا دعوى بغير برهانها. فأما الضن فهو الشح، يقال: هو به ضنين، أي بخيل، من ضن به ضنا وضنانة.
قال معاوية لقريش في خلافته: أنا أقع إذا طرتم، وأطير إذا وقعتم، ولو وافق طيراني طيرانكم للأختلفنا. هذا يحتاج إلى تفسير إلا عند من هو أعلم ممن هو في طبقتي.
وأنشد للحماني علي بن محمد الكوفي العلوي: الكامل المجزوء
كم منزل لك بالخور ... نق ما يوازى بالمواقف
بين الغدير إلى السدي ... ر إلى ديارات الأساقف
فمواقف الرهبان في ... أطمار خائفة وخائف
دمن كأن ؤياضها ... يكسين أعلام المطارف
وكأنما غدرانها ... فيها عشور في المصاحف
تلقى أوائلها أوا ... خرها بألوان الرفارف
بحرية شتواتها ... برية فيها المصايف
درية الحصباء كا ... فورية منها المشارف
باتت سواريها تمخ ... ض في رواعدها القواصف
وكأن لمع بروقها ... في الجو أسياف المثاقف
ثم أنبرت سحاً كبا ... كية بأربعة ذوارف
فكأنما أنوارها ... تهتز في الدرج العواصف
طرر الوصائف يلتقي ... ن بها إلى طرر الوصائف
دافعتها عن دجنها ... بالغلب والبيض الغطارف
يغنون يوم البأس شر ... أبون في يوم المعارف
سمح بحر المال وق ... افون في يوم المتالف
واهاً لأيام الشبا ... ب وما لبسن من الزخارف
وزوالهن بما عرف ... ت من المناكر والمعارف
أيام ذكرك في دوا ... وين الصبا صدر الصحائف
واهاً لأيامي وأي ... ام النقيات المراشف
والغارسات البان قض ... باناً على كثب الروادف
والجاعلات البدر ما ... بين الحواجب والسوالف
أيام يظهرن الخلا ... ف بغير نيات المخالف
وقف النعيم على الصبا ... وزللت عن تلك المواقف
وقال الفضيل بن عياض: قال إبليس: يا رب، الخليقة تحبك وتبغضني، وتعصيك وتطيعني، فقال الله سبحانه: لأغفرن لهم طاعتهم إياك ببغضهم لك، ولأغفرن لهم معصيتهم إياي بحبهم لي.
وأنشد لبشار بن برد: البسيط
حتى متى أنا مربوط بذكركم ... أهذي وقلبك مربوط بنسياني
لهفي عليها ولهفي من تذكرها ... يدنو تذكرها مني وتنآني
إني لمنتظر أقصى الزمان بها ... إن كان أدناه لا يصفو لحران
قال ابن هبيرة: الشجاعة لمن كانت معه الدولة.
وقال ناسك: ما تبالي حسنت جوراً ودخلت فيه، أو قبحت عدلاً وخرجت منه.
وصف أعرابي فرساً فقال: كأنه شيطان في أشطان.
قال الأحنف: الأدب في الإنسان نور العقل، كما أن النار في الظلمة نور البصر. وهذا بكلام الفلاسفة أشبه، ولكن كذا أصبته في كتاب ابن أبي طاهر في الحلي والحلل صاحب المنظوم والمنثور، وإنما أحكي ما أجد.
وأنشد ابن أبي طاهر لبشار: الكامل
فسد الزمان وساد فيه المقرف ... وجرى مع الطرف الحمار الموكف
فدع التبحث عن أخيك فإنه ... كسبيكة الذهب الذي لا يكلف
قال الحسن: إن من أعظم نعم الله على خلقه أن خلق لهم النار تحوشهم إلى الجنة.
وقال العتبي: لا تنازع الرأي من لا ينازعك الحظ.

قيل لراهب: متى عيدكم؟ قال: كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد.
قيل للنظام في علته: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أشتهي.
شاعر: المتقارب
جرى والجياد فلما جرى ... حثا في وجوه الجياد الثرى
قيل لعابد: أمن أطال في القنوت أحسن أم من أطال في الصلاة أم من أطال في السجود؟ قال العابد: بل من أخلص فيها.
قيل لديوجانس، وكان يونانياً: أملك الروم أفضل أم ملك الفرس؟ فقال: من كان منهما أملك لهواه.
وقيل لصوفي: أرفع اليدين في الصلاة أفضل أم إرسالهما؟ فقال: رفع القلب إلى الله تعالى أنفع منهما.
سئل دغفل عن قومه فقال: يسمنون في الحرب ويهزلون في السلم.
العرب تقول: نعوذ بالله من الشظف والضفف والجفف؛ الشظف: الشدة، والضفف: أن يكون المأكول بإزاء الأكلة، والجفف: اليبس، وهو أن يكون المال دون الأكلة.
قال أعرابي في دعائه: قطع الله مفصله، وبتر مقوله.
ويقال: هؤلاء زوار هؤلاء، وزيارهم الذي يمنعهم، ومنه زيار البيطار؛ هكذا حفظت حفظك الله.
قال أبو العباس الكرخي: دب شيخ إلى غلام فأنتبه، فولى قليلاً فقال الغلام: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً " الأحزاب: 25، ثم دب إليه ثانية فقضى حاجته، وانتبه فقال الشيخ: " ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها " القصص: 15.
روى التوزي، قال أعرابي: الرجز
يغنيك عن سلمى وعن دهانها ... ونقطها الوجه بزعفرانها
مري يد لا عيب في بنانها وأنشد: الرجز
إن العجوز حين شاب صدغها ... كالحية الصماء طال لدغها
وأنشد: الرجز
إن العجوز حين شاب راسها ... وسقطت من كبر أضراسها
وطاب في خبائها اندساسها ... محقوقة بأن يخاف باسها
قال فيلسوف: العجب فضيلة يراها صاحبها في غيره فيدعيها لنفسه.
قال فيلسوف: الذي يعلم الناس الخير ولا يفعله بمنزلة الأعمى الذي في يده سراج، غيره يستضيء به وهو خال من منفعته منه.
فيلسوف: ما اخترت أن تحيا عليه فمت دونه.
شاعر: الخفيف
حي طيفاً من الأحبة زارا ... بعدما صرع الكرى السمارا
قلت ما بالنا جفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال إنا كما عهدت ولكن ... شغل الحلي أهله أن يعارا
قال زاهد: من بلغ أقصى أمله فليتوقع دنو أجله.
لما غصب المعتضد منازل الناس لبناء دار عزم أن ينتقل إليها في علته، كتب إليه القطربلي: الكامل
قل للإمام مقال ذي العلم ... لا تطلبن شفاك بالظلم
لا ترحلن إلى المعاد بها ... فتصير من سقم إلى سقم
أنشد اليشكري: البسيط
لا تنكحي ابن حبيب عن مؤامرة ... ولا ابن ريطة منحوساً ولا وزرا
ثلاثة كفلوس النقد أمثلهم ... عبد تبين فيه النوك والخورا
جنباه جنبا حمار ساف محرأة ... لما قضى نهمة الصادي لها نثرا
كعتق الرأل رجته قوائمه ... يرى طويلاً وإن هزهزته انكسرا
كأنه حين تلقاه وتخبره ... عير شددت على حمائه الثفرا
يقال: كان من دعاء شريح: اللهم إني أسألك الجنة بلا عمل عملته. وأعوذ بك من النار بلا ذنب تركته.
قيل لإبراهيم البلخي: فيك حدة، فقال: أستغفر الله مما أملك، وأستصلحه لما لا أملك.
قال بعض العرب: من لقيك بالسؤال الملحف، فالقه بالمنع الحابس.
قال بعض العباد: أضل عباد الله من يسأل حاجة غير الله.
قيل لراهب: كيف سخت نفسك عن الدنيا، فقال: أيقنت أني خارج منها كارهاً، فأحببت أن أخرج منها طائعاً.
ذكر أعرابي مسيره فقال: خرجت حين انحدرت النجوم، وشالت أرجلها، فما زلت أصدع الليل حتى أنصدع الفجر.
قال أعرابي: استشر عدوك العاقل ولا تستشر صديقك الأحمق، فإن العاقل يتقي على رأيه الزلل كما يتقي الورع على دينه الحرج.

وقال أبو الدرداء: أحب ثلاثة لا يحبهن غيري: أحب المرض تكفيراً لخطيئتي، وأحب الفقر تواضعاً لربي، وأحب الموت اشتياقاً إليه. فذكر ذلك لابن سيرين فقال: لكني لا أحب واحدة من الثلاثة؛ أما الفقر فو الله للغنى أحب إلي منه، لأن الغنى به يوصل الرحم، ويحج البيت، وتعتق الرقاب، وتبسط اليد إلى الصدقة؛ وأما المرض فو الله لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر؛ وأما الموت فو الله ما يمنعنا من حبه إلا ما قدمناه وسلف من أعمالنا، فنستغفر الله عز وجل.
انظر بالله إلى خروج ابن سيرين من كل ما دخل فيه أبو الدرداء، حتى كأن الصدق في جلبه أبين، والبرهان على ما قاله أقرب، ولولا أن الطرق إلى الله مختلفة، ما عرض هذا الرأي للأول ولا عارضه هذا الثاني.
وكان أبو حامد القاضي يقول: الزهد في الدنيا لا يصح، لأن الإنسان خلق منها وعمرها وسكن فيها، فلا سبيل إلى انسلاخه منها على ما يرى جفاة الصوفية وما يقولون، فإنهم يرون الجلالة له حجاباً وحجازاً، ويجعلونها مانعة من إصابة الزهد وسلوك محجته وإقامة مناره، وزعم أن الزهد إنما أريد به القيام بالأمر والنهي على قدر الطاقة، وكنه القوة، مع التقلب بين الرجاء والخوف، وإصلاح القلب بحسن النية في الخير، وبذل المجهود من الموجود. لمن يحسن معه الجود.
وكان أبو بكر الفارسي صاحب كتاب الأصول بخراسان يشرب في آنية الذهب والفضة، وإذا قيل له: أما تروي في كتاب المزني أن الذي يشرب في آنية الفضة والذهب فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم؟ يقول: إن الله عز وجل يقول: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده " الأعراف: 32 وإن النبي لا يحرم ما أحل الله، والخبر لا يرفع القرآن، لأن القرآن أساس والخبر بناء وفرع، على أن الخبر معتمده على حسن الظن بالرواة والنقلة، والقرآن يبرأ من رجم الظنون، ولو صح هذا المأثور لكان لاحقاً بباب النهي على التنزيه، ومحمولاً على تفخيم الأمر إشفافاً من البطر، وتذكيراً بالخبر، لأن الخبر متى لم ينطبق على علة بها يقع النهي، ومن أجلها يرد الأمر، كان الخبر موقوفاً دونه ومسكوتاً عنه؛ وإذا كان هذا الذي قتله قريباً وممكناً، وكان الخبر يتضمن معنى النهي عن البطر، فأنا وأضرابي من العلماء في نجوة من البطر، وفي مأمن من السطوة والشر، ومن جرى منكم مجراي فحكمه حكمي. وكان له كلام كثير في هذا النمط، وكان إماماً من أصحاب الشافعي رضي الله عنه.
وأما أبو سعيد البسطامي، وكان من عجائب الرجال، فإنه سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً وأحشرني مسكيناً، فأندفع مغضباً يقول: من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسكين فهو كافر، وقال للسائل: والله لولا أنني أعلم أنك جاهل وغر لأمرت بك حتى تستحب على وجهك وتضرب بالسياط، ولكنك تلقفت هذا من هؤلاء الحمقى المكدين المحتالين الملحدين الذين وصموا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النعت وبما يجري مجراه. إن النبي صلى الله عليه وسلم كان غنياً، ولا أعني بقولي كان غنياً غنياً بالله، ذاك غنى مربوط بالإيمان والتوحيد والإخلاص والطهارة، وما أريد شيئاً من ذلك، فإن ذلك موفور له في العاجل ومذخور له في الآجل، إنما أعني الغنى الذي هو الأثاث والثياب والدواب والخدم، فقيل له: فإن الله عز وجل يقول: " ووجدك عائلاً فأغنى " الضحى: 8، قال: هذا حجتي، فإن العائل المثقل بالدين، وقد كان هذا قبل المبعث؛ فلما بعثه الله أزاح علله فنور قلبه، وملأ من الدنيا كفه، وإلا فبم جيش الجيوش، وعقد السرايا، وهادى الملوك، ونحل الصحابة، وزود الوفود، وأنفق على النساء، وأين بغلته دلدل، وأين سيفه الصمصامة، وأين بردته وحلته، وأين ما كان يدخره لنفقة عامه، وقوت عياله؟ والله ما أتيتم إلا من تقليدكم لقوم تحلوا عندكم بأدعاء الدين، وخاتلوكم عما حوته اليمين. وأنتم أيها الأغنياء أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصحابته من هؤلاء الذين لبسوا الأخضر والأحمر والأصفر والأسود، ورقعوها بالتكليف.
وكان مع هذا يتعدى طبقة زمانه إلى أبي يزيد البسطامي ويقول: أبو يزيد من بلدي، وأنا أعرف به وبأصله وفصله، وحديثه عندنا غض، وأمره عندنا بين، وإنه بعيد من دين المسلمين.

وكان شديد التهور، عظيم العجرفة، وأنا سمعته يقول بأصبهان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وقد قال له قائل: أيها الأستاذ - وكذا كان يخاطب - إن فلاناً يقول: متى عرض كلام أستاذكم أبي سعيد على كتاب الله عز وجل خالفه ولم يوافقه، فقال جهلاً: كلام الله عز وجل ينبغي أن يعرض على كلامي! ومضى على ذلك، فلم أجد نكراً من أحد حضر من أصحابه ولا من غيرهم، وكنت حينئذ وحيداً غريباً حديث السن، فوقذتني الحمية لله عز وجل ولرسوله عند جهله. وكان اعتماده على الهذيان، ولم يكن هناك - مع طول النفس، وبلة الريق، والصبر على الكرم - شيء من التحصيل. ولقد سمعته يقول: نقضت على الفلاسفة سبعين ألف ورقة، فلما طولب بأن يذكر أسماء خمسة من كتبهم أفتضح وأفحم، وكان ذلك سبب طرده من أرجان. وحديثه طويل، وكان كلامياً لا يحسن من المذهب إلا النص، فإذا نازعه الخصم أفلت وأنحص.
أنشد ابن أبي طاهر في البعوض: الرجز
أرقني وكنت بالعراق ... بعوضة ذات شوى دقاق
تسفعني بمبضع مزاق ... كأن صوت شارب مشتاق
صوت تغنيها على التراقي قيل لسعيد بن المسيب: لم صارت قريش أضعف العرب شعراً؟ قال: لأن مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قطع متن الشعر عنها.
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم وقدره، ولكنه يطالبهم من حيث نهى وأمر، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك تنج.
شاعر: البسيط
يا أم عتبة إني أيما رجل ... إذا النفوس أدرعن الرعب والرهبا
لا أمدح المرء أبغي من فضائله ... ولا أظل أداجيه إذا غضبا
ولا يراني على باب أراقبه ... أبغي الدخول إذا ما بابه حجبا
وذكر أعرابي الملوك فقال: أقرب ما يكون إليهم أخوف ما يكون منهم، شاهد يظهر حبك، وغائب يبتغي غيرك.
كتب علي بن الحسين رضي الله عنهما إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك أعز ما تكون بالله أحوج ما تكون إليه، فإن عززت به فاعف له، فإنك به مقدر، وإليه ترجع.
ابن أبي عيينة في عيسى بن سليمان: الطويل
أفاطم قد زوجت من غير خبرة ... فتى من بني العباس ليس بطائل
فإن قلت من آل النبي فإنه ... وإن كان حر الأصل عبد الشمائل
بشار بن برد: الكامل
وإذا نسيبك غل ساعده ... ونأى فليس بنافع نسبه
خذ من صديقك غير متعبه ... إن الجواد يؤوده تعبه
قال أعرابي: من فاس الأخلاق بالصور حسن منه النظر.
قال أعرابي: الهرم يعدم الأطيبين، ويحدث الأخبثين؛ والأطيبان: النوم والنكاح، والأخبثان: السهر والبخر.
قال أبو روق المقراني: رأى النهدي في المنام كأنه يصلي بالناس إلى الكعبة، وكأن شريك بن عبد الله يصلي إلى غيرها، فأهتم بذلك وقال للربيع: سل عن تعبيره، قال: فسأل، فقيل له: هذا رجل مخالف لرأي الخليفة، فأمر المهدي الربيع بأن يحضر شريكاً، فمضى إليه، فرأى شريك في وجه الربيع أزوراراً، فسأله عن ذلك فقال: إن أمير المؤمنين رأى رؤيا غلظ قلبه عليك لها، قال: ما هي؟ قال: سيخبرك، فلما دخل على المهدي سلم عليه فلم يرد عليه، فقال: حييت أمير المؤمنين بتحية الإسلام، فلم يرد عليه، وما كانت هذه من أفعاله، فقال: إني رأيت رؤيا دلتني على خلافك إياي وساد طويتك في طاعتي، فقال: يا أمير المؤمنين إنها ليست رؤيا يوسف عليه السلام؛ إن الرؤيا على أربعة أوجه: منها وحي عن الله عز وجل؛ منها حديث الرجل نفسه؛ ومنها أحلام؛ ومنها تلعب الشيطان؛ فمن أي الوجوه رؤيا أمير المؤمنين؟ قال: تلعب الشيطان، يا ربيع أخلع على شريك وأحسن إليه.
قال أبو ذر عن عبيد الله: إن أول رام رمى بسهم في سبيل الله عز وجل سعد.
مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التحريش بين البهائم.
نافع قال، سئل ابن عمر: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت في الصلاة؟ فقال: لا، ولا في غير الصلاة.
وقال أبو مسعود الأنصاري: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعمل العمل أستره فيظهر فأفرح به، فقال: كتب لك أجران، أجر السر وأجر العلانية.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الدنيا لا تصفو للمؤمن، هي سجنه وبلاؤه.

بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس لفاسق غيبة.
قال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفة والغنى.
وسمعت القاضي أبا حامد يقول: قيل لشريح: أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين؟ قال: هذا يدل على تيسير الأمر، لأن الذي ذبح بغير سكين لا يكون كالمذبوح بسكين، فكأنه أخبر عن سلامته.
وقال أبو حامد: كان شريح لا يقبل قول من يركب البحر ويقول: هذا لا يحفظ نفسه، كيف يحفظ أمور المسلمين عليهم؟ سمعت هبة الله بن الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشيخ شاب في حب اثنين: في حب الحياة وفي حب المال، ثم رواه بإسناد عن أبي هريرة، هذا سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
وروى أبو ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صمت الشهر فصم ثلاث عشره، وأربع عشره، وخمس عشره؛ قال أبو بكر العلاف: إنما قال بحذف الهاء فيها وهو يريد الأيا، وهذه عبارة عن الليالي، لأن تاريخ الشهور بالعربية إنما هو بالأهلة، فأول الشهر الليلة التي يهل فيها، ولهذه العلة عبر عن الأيام بالليالي، ثم المعلوم من الصوم أنه يقع في النهار دون الليل، والمعلومات يتسع فيها ويعول على ما علم من معانيها.
وحكى لنا أبو بكر: قال عبد الله بن المبارك، قال سفيان: كان يقال: إذا عرفت نفسك لم يضرك ما قيل لك.
وقال سفيان: قال رجل من الأنصار: ما استوى رجلان أحدهما يشار إليه والآخر لا يشار إليه.
وقال سفيان: قال رجل لمحمد بن واسع: إني أحبك لله، قال: أحبك الله الذي أحببت له، اللهم إني أعوذ بك أن أحب لك وأنت لي ماقت.
أبو نواس: الكامل
عين الخليفة بي موكلة ... عقد الحذار بطرفها طرفي
صحت علانيتي له وأرى ... دين الضمير له على حرف
فلئن وعدتك تركها عدة ... إني عليك لخائف خلفي
سلبوا قناع الطين عن رمق ... حي الحياة مشارف الختف
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف
هذا أختيار ابن المعتز.
قال أعرابي يصف آخر: هو بحر يزجر عند العطاء، وأسد يزار عند اللقاء.
شاعر: الكامل
الله يعلم أن فرقة بيننا ... مع ما أرى شيء علي يهون
ولد لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لصلبه: الحسن، والحسين، ومحسن، وزينب، ورقية، وأم كلثوم من فاطمة رضي الله عنها، وولد له من خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية: محمد؛ ومن ليلى بنت مسعود الدارمية: عبيد الله وهو أبو بكر؛ ومن أم البنين بنت حزام الكلابية: العباس، وعثمان، وعبد الله، ومحمد الأوسط؛ ومن الصهباء التغلبية: عمر، وأسماء، ويحيى، وعون؛ ومن أم ولد: محمد الأصغر؛ ومن أمامة بنت العاصي: محمد الثالث.
يقال: أقلل طعامك تحمد منامك.
قال أحمد بن مؤمل: قاتل الله رجالاً كنا نؤاكلهم، ما رأيت قصعة رفعت من بين أيديهم إلا وفيها فضل، وكانوا يعلمون أن الجدي إنما هو شيء من زينة المائدة الرفيعة، وإنما جعل كالخاتمة والعاقبة، وعلامة الفراغ، ولم يحضر للتمزيق، وأن أهله لو أرادوا به الأكل لقدموه قبل كل شيء حتى تقع به الحدة، ولقد كانوا يتحامون بيضة البقيلة، واليوم إن أردت أن تمتع طرفك بنظرة إليها أو إلى شيء من بيض الشلقة لم تقدر على ذلك.

سمعت شيخاً من النحويين يقول: النصب في الكلام يكون من اثني عشر وجهاً، ثم عدها، ثم قال: هذه الوجوه هي المفعول به، والمصدر، والظرف، والحال، والتعجب، والنداء، والتبييين والتفسير، والتمييز مع التبيين واحد، وإن وأخواتها، والوصف، والأستثناء، والنفي، وخبر لات وما، عملهما واحد. تقول: ضربت زيداً الظريف اليوم ضرباً شديداً قائماً، فزيد مفعول به، والظريف وصف له، واليوم ظرف، وضرباً مصدر، وشديداً وصف ضرب، وقائماً حال، وإنما يتولد الحال من المعرفة؛ وسمي المصدر مصدراً لأنه صدر من لفظ الفعل، ويسمى الظرف ظرفاً لأنه كالوعاء، ألا ترى أنك إذا قلت: سرت اليوم، فالسير كان في اليوم؛ والتعجب: ما أحسن زيداً، فزيد منصوب بفعل التعجب، لأنه وقع في التقدير موقع المفعول به، والنداء قولك: يا عبد الله، ويا رجلاً، فبها أقبل؛ والتبيين قولك: عشرون درهماً، لأنك لما قلت عشرون أبهمت، ثم بينت بالدرهم، والدرهم لا يقدم على العدد؛ وأما إن فقولك: إن زيداً قائم؛ والأستثناء: أتاني القوم إلا زيداً؛ والنفي: لا ثوب لك، ولا بأس عليك؛ وخبر لات قولك: لات حين مناص، فالأسم مضمر في لات لأنها أجريت مجرى ليس، وقد يجوز الرفع في حين والجر، وأما الرفع فعلى اسم لات، والجر على تشبيه لات بمن.
قال الشاعر: الرجز
قالوا تمن ما هويت واجتهد ... فقلت قول مستكين مقتصد
حضور من غاب وفقد من شهد خطب معاوية رضي الله عنه عند مقدمه المدينة فقال: أما بعد، فإنا قدمنا على صديق مستبشر، وعدو مستبصر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون، " فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " التوبة: 58، ولست أسع الناس كلهم، فإن تكن محمدة فلا بد من لائمة، فليكن لوماً هوناً، إذا ذكر غفر، وإياكم والعظمى التي إذا ظهرت أوبقت، وإذا خفيت أوتغت.
الإيباق: الإفساد، والإيتاغ أيضاً مثله في الدين.
قال عبد الملك بن صالح للرشيد: سرك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه جزاء للشاكر. وثواباً للصابر.
دعبل: الطويل
وأصبحت تستحيي القنا أن تردها ... وقد وردت حوض المنايا صواديا
إذا الناس حلوزا باللجين سيوفهم ... رددت السيوف بالقلوب حواليا
مساعي لا يعيا المقال بذكرها ... وينفذ ذكر الناس وهي كما هيا
وله: الرجز
يصافح الموت بوجه دام ... حر رقيق واضح بسام
يسل من فكيه كالحسام ... صفيحة تلعب بالكلام
كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني أسد بن خزيمة ومن تألف إليهم من أحياء مضر: إن لكم حماكم ومرعاكم، ولكم مفيض السما حيث انتهى، وصديع الأرض حيث ارتوى، ولكم مهيل الرمال وما حازت، وتلاع الحزن وما جاورت.
أنشد ثعلب: البسيط
تلقاهم وهم خضر النعال كأن ... قد نشرت كتفيها فيهم الضبع
لو صاب واديهم سيل فأترعه ... ما كان للضيف في تغميره طمع
الضبع: السنة، وهو الجدب، والجدب: قلة المطر وذهاب النبات، والتغمير: الشرب دون الري، والإتراع: الملء، والملء مصدر ملأ يملأ، والملء: ما حمل الظرف، يقال: أعطى ملأه وملأيه وثلاثة أملائه.
وقال ابن الغمر: أول ما يخرج البقل والعشب فهو البذر ساعة يخرج، يقال: قد بذرت الأرض، ويقال: قد بذر البقل، وقد ظفر البقل تظفيراً في أول ما يخرج كأنه أظفار الطير، ثم لا يزال البذر ما كان ورقتين، فإذا زاد على ذلك قيل: قد تشعب ورقه وعرف وجهه، وذلك أنه إذا خرجت الورقة الثالثة عرف أي الضروب هو، فيعرف وجوه البقل والعشب، ويعرف بعضها من بعض؛ كذا قال يعقوب ابن السكيت عن ابن الغمر.
كتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: أعلم أن عليك عيوناً من الله عز وجل ترعاك وتراك، فإذا لقيت العدو فأحرص على الموت توهب لك السلامة، ولا تغسل الشهداء من دمائهم فإن دم الشهيد يكون نوراً له يوم القيامة.
قال معاوية: العيال أرضة المال.
وقيل لمعاوية: ما بلغ من عقلك؟ قال: لم أثق بأحد.
ونظر إلى يزيد وهو يضرب غلاماً له فقال: لا تفسد أدبك بتأديبه.

وقيل لسهل بن هارون: ما البلاغة؟ فقال: الكلام المتحدر عن الغريزة على رسل تحدر الدر من عقد أسلمته كف جارية إلى حجرها، لا يحمل فيه اللسان على غير مذهب السجية فيظهر فيه قبح التكلف.
وقال أرسطاطاليس في كتاب للإسكندر: الملك لزحل؛ والوزارة للشمس، والعدل للمشتري، والزينة للزهرة، والتدبير لعطارد، والخدمة للقمر، والجوز للمريخ.
أعرابي ذكر الريح فقال: أصبحت الشمال تتنفس الصعداء.
قيل لأم البنين: ما أحسن شيء رأيته؟ قالت: نعم الله مقبلة.
قال أعرابي لرجل: لا جعلك الله آخراً يتكل على أوله.
قيل لأعرابية: ما خبر قدرك؟ قالت: حليمة مغتاظة، أي هي ساكنة الغلي لم تبرد.
وكتب علي بن هشام إلى الموصلي: ما أدري كيف أصنع، أغيب فأشتاق، وألتقي فلا أشتفي، ثم يحدث لي اللقاء نوعاً من الحرقة للوعة الفرقة.
وكتب آخر: من العجب إذكار معني، وحث متيقظ، وأستبطاء ذاكر، إلا أن ذا الحاجة لا يدع أن يقول في حاجته، حل بذلك منها أو عقل، وكتابي تذكرة والسلام.
وكتب آخر: شاهدك وأجتماع الوصف بالجميل لك يبسطان ذا الأنقباض، ويؤنسان ذا الحشمة بك، والله يديم لك النعمة ويبقيها لديك.
وقال بكر بن عبد الله المزني: ما رأيت أحداً إلا رأيت له الفضل علي، لأني من نفسي على يقين، ومن الناس في شك.
قيل لابن هبيرة: ما حد الحمق؟ قال: لاحد له.
أنشد لابن النطاح: الرمل المجزوء
وندامى كاملي الوص ... ف شباباً وكهولاً
باكروا في شمال الري ... ح من الراح شمولا
فأجتنوا منها سروراً ... وآجتنت منهم عقولا
قال معاوية: ينيت الدنيا على نسيان الأحبة.
وقال أعرابي: من العجز والتواني نتجت الفاقة.
وقال فيلسوف: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به، والتفكر في الشر يدعو إلى تركه.
قال فيلسوف: عقل الغريزة سلم إلى عقل التجربة.
قال واصل بن عطاء: كان الحسن له خشوع الناسكين، وبهاء الملوك.
شاعر: الخفيف
رب ليل وصلته بنهار ... ورضاب مزجته بعقار
ومدام أدرتها بيمين ... وسلاف أخذتها بيسار
وكبار شربتها لحبيب ... وحبيب صرعته بصغار
قال فيلسوف: اذكر حسرات التفريط تلتذ الحزم، والحظ مصارع الهزل تؤثر الجد، والق خطرات الهوى تذكر عواقبه.
قدم إلى عثمان بن عفان في جناية فقال: انظروا هل أخضر إزاره.
كاتب إلى محمد بن عبد الملك: إن من النعمة على المثني عليك أن لا يخاف الإفراط، ولا يأمن التقصير، ولا يحذر أن تلحقه نقيضة الكذب، ولا ينتهي به المدح إلى غاية إلا وجد في فضلك عوناً على تجاوزها، ومن سعادة جدك أن الداعي لك لا يعدم كثرة المادحين، ومساعدة النية على ظاهر القول.
كاتب: ما قصرت بي همة صيرتني إليك، ولا أقعدني إرشاد دلني عليك، ولا أخرني رجاء حداني إلى بابك، وحسب معتصم بك ظفراً بفائدة وغنيمة.
قال ابن عباس: لا كبيرة مع توبة وأستغفار، ولا صغيرة مع لجاجة وإصرار.
ولما أحتضر معاوية رفع يديه وقال متمثلاً: الطويل
هو الموت لا أدهى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم فأقل العثرة، واعف عن الزلة، وعد بحلمك على جهل من لا يرجو غيرك، ولا يثق إلا بك، فإنك واسع الرحمة تعفو بقدرة، وما وراءك مذهب لذي خطيئة موبقة، يا أرحم الراحمين.
فبلغ سعيد بن المسيب قوله فقال: لقد وفق عند الموت في الطلب إلى من لا مثله مطلوب إليه، فإن ينج أبو عبد الرحمن من النار غداً فهو الرجل الكامل؛ ما أخوفني عليه! كان سبب استتار أبي علي ابن مقلة أنه أصاب في طيارة رقعة قرأ منها: الكامل
ثكلتك أمك يا ابن رأس المنقب ... فبخست صبرك حين تضرب فأضرب
الأمر محتد وقد خردلتها ... وعليك ألف مضرب ومؤلف
فأنظر بعينك ما صنععت تأملاً ... فأرحم قذالك والدراهم فأهرب
كتب أحمد إلى محمد بن عبد الملك ابن الزيات: إن مما يطمعني في بقاء النعمة عليك، ويزيدني بصيرة في دوامها لك، أنك أخذتها بحقها، وأستدمتها بما فيك من أسبابها، ومن شأن الأجناس أن تتقادم، والشيء يتقلقل إلى معدنه، ويحن إلى عنصره، فإذا أصاب منبته، ركن في مغرسه، وضرب بعرقه، وسما بفرعه، وتمكن للإقامة، وثبت ثبات الطبيعة.

كاتب إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان: رأيتني فيما أتعاطى من مدحك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على ناظر، وأيقنت أني حيث أنتهي من القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فأنصرفت من الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
قال العتبي: وسمعت أعرابياً يقول: ليس المبتدي كالمعتدي.
عرض على الحجاج عطاء الكلابي، وكان دميماً، فأقتحمته عينه، فقال عطاء: قد علم القوم أني أطعن بالرمح شزراً، وأضرب بالسيف هبراً، وآخذ المستلئم أسراً، فقال المهلب: صدق أيها الأمير.
الدميم - بالدال غير معجمة - هي القصر والقبح، ودممت القدر: أصلحتها، ودام الماء: وقف، وشجر الدوم: شجر المقل، والدوام: دوار يصيب الرأس، والديمة: مطرة، يقال: دامت السماء وديمت، وجمع الديمة ديم. فأما الذميم - بالذال معجمة - فالمذموم، والذمامة: الذمام، وسمعت من يقول: أذمني، أعطاني الذمام، وأما كلام العرب: أذم الرجل - مثل ألام - إذا أتى ما يذم به ويلام عليه.
كاتب: ابتدأتنا بمعروفك تفضلاً بلا استحاق، ثم أردفته جفاء بغير استجاب، فالمقدم من فضلك مرعي مشكور، والمترادف من جفائك منسي مهجور، ومثلك مأمول ورب الابتداء بالتفضل.
كاتب: كيف تشكو جفائي إياك بتأخري عن لقائك، وذلك إيثار مني بموافقتك على سروري بمؤانستك، مخافة استدعاء الملالة بكثرة الزيارة، والتعرض للقلى بإدمان التعهد، فتركت ما أحب فيك لما أكره منك.
قال المأمون لعبد الله بن طاهر: تثبت فإن الله عز وجل قد قطع عذر العجول بما يمكنه من التثبت، وأوجب الحجة على القلق بما بصره من فضل الأناة؛ قال ابن طاهر: أكتبه؟ قال: نعم.
سمع عبادة من جوف ابن حمدون النديم قرقرة فقال: يا ابن حمدون، ولدت في شباط؟ أي أنت كثير الرياح.
شاعر: السريع
أستغن بالرحمن عن خلقه ... تغن عن الكاذب والصادق
واسترزق الرحمن من فضله ... فليس بعد الله من رازق
من ظن أن الناس يغنونه ... فليس بالرحمن بالواثق
وظن أن الرزق في كفه ... زلت به النعلان من حالق
سمع طلحة امرأة تقول: من جسر أيسر، ومن هاب خاب.
وسمعت امرأة بغدادية تقول: من ليس له علقة ليس له حرقة.
قال الجماز: حرم النبيذ على ثلاثة عشر نفساً: على من غنى بالخطأ، واتكأ على اليمين، وأكثر النقل، وكسر الزجاج، وسرق الريحان، وبل ما بين يديه، واقترح الغناء، وقطع البيت، وحبس أول القدح، وأكثر الحديث، وآمتخط في منديل الشراب، وبات موضعاً لا يحتمل المبيت، ولحن المغني.
المهلبي: البسيط
جاءت بمعمولة من جنس قامتها ... ليناً وفي كفها من خدها قبس
حتى إذا قربت من ذيل صاحبها ... أصغى إلى سرها فالرأس منتكس
فنم بينهما ما كان مكتتماً ... ما نمه اللفظ لكن نمه النفس
يعني المجمرة.
كانت الفرس تقول: من قدر على أن يتحرز من أربع خصال لم يكن في تدبيره خلل: الحرص، والعجب، وأتباع الهوى، والتواني.
لقد صدقت الفرس في هذا، والأمم كلها شركاء في العقول، وإن اختلفوا في اللغات، ولا أحد قد نطح إلى الكمال وتطاول إلى الفضل إلا وهو يعلم أن الحرض يسلب الحياء، والعجب يجلب المقت، وأتباع الهوى يورث الفضيحة، والتواني يكسب الندامة، ولا أحد أيضاً إلا وهو متسم بهذه الأشياء على هذا التفاضل الواقع؛ نسأل الله الهداية والعصمة.
محمد بن أبي أمية: الوافر
أقني قد ندمت على الصدود ... وبالإقرار عذت من الجحود
أنا استدعيت سخطك من قريب ... كما أستدعيت عفوك من بعيد
فإن عاقبتني فبسوء فعلي ... وإن ظلمت عقوبة مستفيد
وإن تصفح فإحسان جديد ... عطفت به على شكر جديد
قال الحسن بن زيد العلوي: مرت بي امرأة وأنا أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتقيتها بيدي فوقعت على فرجها، فقالت: يا فتى، ما أتيت أشد مما أتقيت.
عرضت جارية على المعتز فقال لها: ما أنت من شرطي، قالت: ولكنك من شرطي والله، فأعجبته فأشتراها وحظيت عنده.
طالب الجماز امرأته بالجماع، فقالت: أنا حائض، ثم تحركت فضرطت، فقال لها: قد حرمتينا خير حرك فأكفينا شراستك.

قال الجماز: حضرت مجلساً فيه مغنية، وفيه رجل بغير جبة، والدنيا باردة، فقال وهو يرعد للمغنية: أشتهي أن أعانقك، فقالت له: أنت إلى أن تعانق جبة أحوج منك إلى عناقي.
وقال الجماز: قلت لمغنية وقد غنت صوتاً: أين الصيحة؟ فقالت: خبيتها لثالثك؛ هذا لفظ النساء.
قال أحمد بن يوسف: كنت أعزل عن جارية فقالت لي يوماً: يا مولاي ما أقل حاجة الدرد إلى السواك.
عرضت جارية على المتوكل فقال لها: أيش تحسنين؟ فقالت: عشرين لوناً من الرهز، فأعجبته فاشتراها.
خطب مدائني عراقية، فأبته وكرهته، فقيل لها: لم أمتنعت؟ قالت: لأنهم يقلون الصداق، ويعجلون الطلاق، ويعتري النساء من نيكهم حلاق.
قال أبو العيناء: اشتريت جارية مليحة ماجنة، فلما قمت إليها لم يقم، فأخذته بيدها وقالت: يا مولاي هذا يصلح للمضيرة، قلت: كيف؟ قالت: أليس هو البقلة الحمقاء.
سأل الحسين أخاه الحسن عن المروءة فقال: الدين وحسن اليقين.
قالت أعرابية سائلة: وقاكم الله هول المطلع، وضيق المضطجع، وبعد المرتجع.
قال بعض العلماء: الشعر على أربعة أركان: مديح رافع، وهجاء واضع، وتشبيب واقع، وعتاب نافع.
قيل لرجل مستهتر بجمع المال: ما تصنع بهذا المال كله؟ قال: إنما أجمعه لروعة الزمان، وجفوة السلطان، وبخل الإخوان، ودفع الأحزان؛ وقال الحسن البصري: دأب فيه الليل والنهار، وقطع فيه لجج البحار والقفار، جمعه فأوعاه، وشده فأوكاه، من باطل جمعه، ومن حق منعه.
قال جحظة: حدثني محرز الكاتب قال: كتب الحسن بن وهب إلى صديق له يدعوه: افتتحت الكتاب - جعلني الله فداك - والآلات معدة، والأوتار ناطقة، والكأس محثوثة، والجو صاف، وحواشي الدهر رقاق، ومخايل السرور لائحة، ونسأل الله عز وجل إتمام النعمة بتمام السلامة من شوب العوائق، وطروق الحوادث، وأنت نظام شمل السرور، وكمال بهاء المجلس، فلا تخرم ما به ينتظم سروري، وبهاء مجلسي.
قال فيلسوف: كل مخلوق يجري إلى ما لا يدري.
العرب تقول: الحسود لا يسود.
العرب تقول في أمثالها: ليس من أنمى كمن أصمى، أي ليس من تحاملت رميته من بين يديه فنجت أو هلكت كمن أصاب رميته.
قال أعرابي: خير المال نعجة صفراء في أرض خضراء.
قال أعرابي: علة الكذب أقبح علة، وزلة المتوفي أشنع زلة.
قال أعرابي: من لم تسمه التجارب دبت إليه العقارب.
العرب تقول: الواقية خير من الراقية.
قال بعض الأدباء: أهتك الناس من إذا لزمه الحق صعب عليه، وإذا سنح له الباطل أسرع إليه.
الفرس تقول: لم يجتمع ضعفاء إلا قووا حتى يمنعوا، ولم يتفرق أقوياء إلا ضعفوا حتى يخضعوا.
قال أعرابي: إن أمامي ما لا أسامي به، أي أسود به.
قال فيلسوف: من أيسر فتن، ومن أعسر حزن، وفي ممر الأيام معتبر الأنام.
قال بعض السلف: من آثر عاجل الخسيس، فقد ضيع آجل النفيس.
العرب تقول: الأظلاف لا ترى مع الأخفاف.
قال أعرابي: هو أملح من المدارى في شعور العذارى.
العرب تقول: المدائح على الرجاء أبلغ من المراثي على الوفاء.
قال رجل من أصحاب الحديث لأحمد بن حنبل: ما ينبغي لك إن منعك السلطان حقك من الدنيا أن تمنعنا حقنا من الدين، ولا إن جار عليك أن تجور علينا، أعطنا ميراث نبينا عندك.
شاعر: السريع
يا أيها الظاعن في حظه ... وإنما الظاعن مثل المقيم
حظك يأتيك وإن لم ترم ... ما ضر من يرزق ألا يريم
كم من أديب عاقل قلب ... مصحح الجسم مقل عديم
قال فيلسوف: كيف السلامة لمن ليست له إقامة.
قال بعض السلف: خير الرزق ما يكفي، وخير الغنى ما يخفي.
ويقال في المثل: بطني عطري؛ هذا رجل كان جائعاً، فجاءته امرأته ببخور، فقال لها: بطني عطري.

أو لم طير فأرسل رسله ليدعو إخوانه، فغلط بعض الرسل فجاء إلى الثعلب فقال: أخوك يقرأ عليك السلام، ويسألك أن تتجشم العناء إليه في يوم كذا، وتجعل غداءك عنده، فقال الثعلب: قل له السمع والطاعة؛ فلما رجع وأخبر الطير بغلطه، اضطربت الطيور من ذلك، وقالوا له: يا مشؤوم أهلكتنا، وعرضتنا للحتف، ونغصت أمرنا علينا، فقالت القنبرة: إن أنا صرفت الثعلب بحيلة لطيفة ما لي عندكم؟ قالوا: تكوني سيدتنا، وعن رأيك نصدر، وعلى أمرك نعتمد، فقالت: مكانكم؛ ومشت إلى الثعلب فقالت له: أخوك يقرأ عليك السلام ويقول: غداً يوم الأثنين، وقد قرب الأنس بحضورك، فأين تحب أن يكون مجلسك؟ مع الكلاب السلوقية أم الكلاب الكردية؟ فتجرعها الثعلب ثم قال: أبلغي أخي السلام، وقولي له: والله أنا مسرور بقربك، شاكر لله سبحانه على ما منحني من مكانك، ولكن تقدم لي نذر، منذ دهر، بصوم الاثنين والخميس، فلا تنتظروني.
كتب عبيد الله بن زياد إلى معاوية يستشيره في تولية الأحنف بن قيس السند، فأجابه معاوية: بأي أيامه يستحق ذلك؟ أبخذلانه أمير المؤمنين يوم الجمل، أم بقتاله يوم صفين، أم بمشورته على علي يوم صفين بأمر الحكمين؟ أضرب عنه.
سمعت أبا الحسن ابن كعب الأنصاري يقول: القياس ينقسم ثلاثة أقسام: جلي، وواضح، وخفي، فالجلي لا يرد الشرع بخلافه مثل " فلا تقل لهما أف " الإسراء: 23، و " ما يملكون من قطمير " فاطر: 13؛ والواضح أن يرد الشرع بخلافه مثل: العبد قياس الأمة، بعلة الرق، والنبيذ قياس الخمر، بعلة الشدة؛ عرضت هذا على أبي حامد المروروذي فلم يهش له ولم يقدح فيه.
وسمعت أبا الحسين القطان يقول: حد النص مساواة باطنه لظاهره؛ وحد الظاهر ما كان أحد الأحتمالين أولى من الآخر؛ وحد العموم مساواة بعض ما تناوله لبعض بغير مزية، وأقله ما تناول شيئين فصاعداً؛ وحد الخصوص ما تناول شيئاً واحداً. ثم قال: وقد يكون الشيء عاماً إلى جنب ما هو أخص منه، وخاصاً إلى جنب ما هو أعم منه. قال: حد المجمل مالا يفهم المراد به؛ وحد الأمر مالا يجوز تركه بحال؛ وحد المندوب إليه ما كان فعله أفضل من تركه؛ وحد الجائز ما كان فعله وتركه سواء؛ وحد النهي الأمتناع، وهو على قسمين: نهي تحريم، فحده وجوب الأمتناع منه، ونهي تنزيه، فحده ما كان تركه أفضل من فعله؛ وحد الشرط ما يقر الحكم بوجوده وعدمه؛ وحد العلة ما طلب الحكم من جهتها بالسبب، وحد السبب ما وافق الحكم، فقد يكون علة له ويكون مضادا؛ وحد المطلق إرسال الكلام؛ وحد المقيد حصر الكلام؛ وحد الإجماع عدم الخلاف بين من يسمع وينسب القول إليهم؛ وحد التخصيص بيان المراد باللفظ العام؛ وحد التفسير بيان المراد بالمجمل؛ وحد النسخ بيان مدة التعبد به وانقضاء وقته، ويجمع هذا كله اسم البيان؛ وحد البيان الكشف عن الشيء.
وفي شرح هذا الكلام كثير، وليس في جميع ما قاله مقروناً بالسلامة، لكني رويته على ما علقته، ولم أزين لفظه، ولا نمقت عبارته. وكان رديء اللفظ طويله، قليل الحلاوة، وكان مع هذا قوي النفس في النظر، وقح الوجه، ومات في آخر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. وسيمر في الكتاب فن آخر من حدود الفلاسفة للأمور الطبيعة والمنطقية والإلهية على قدر ما وقع لي منهم باللقاء والمذاكرة، ولا عليك أن تستقصي النظر في جميع ما حواه هذا الكتاب لأنه كبستان يجمع أنواع الزهر، وكبحر يضم على أصناف الدرر، وكالدهر الذي يأتي بعجائب العبر.
قال عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية لأخ له - وكان من صالحي قريش - : أترضى بما أنت فيه؟ قال: لا، قال: فأجمعت على أن تقلع؟ قال: لا، قال: فلك دار غير هذه تعمل فيها؟ قال: لا، قال: أفتأمن أن يأتيك الموت الساعة؟ قال: لا، قال: فهل رأيت عاقلاً رضي بهذا؟ شاعر: المجتث
لما ملكت قيادي ... وحزت صفو ودادي
وصرت أعرف مني ... بما يجن فؤادي
هجرت من غير جرم ... كهجر جفني رقادي
أنت الحبيب ولكن ... هذي فعال الأعادي
قال عطاء الخراساني: يقتدى من قول العالم بما لا يقتدى به من فعله.
شاعر، وهو مالك بن حريم الهمداني: الطويل
ولا يسأل الضيف الغريب إذا شتا ... بما زخرت قدري به حتى ودعا
فإن يك غثاً أو سميناً فإنني ... سأجعل عينيه لنفسه مقنعا

الزبر: الكتب في الكتاب - بفتح الكاف - ، والزبر: الذي يعجب به النساء ويعجبنه، وكأنه أخذ من الزيارة، وأما الزئير فصوت الأسد. قال النابغة: البسيط ولا قرار على زأر من الأسد والقير والقار معروف، والبئر معروف، يذكر ويؤنث ويجمع على آبار وبئار، والكير والكور للحداد، والعير: رفقة تحمل المتاع، والصير، تقول: أنا على صير أمر، إي إشراف منه، والصير شيء يؤكل رأيته بجدة، ولا أدري أهو من أسامي العرب أم لا، والظئر: الداية، وفي أمثالها: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، أي لا تدخل مرضعة في دور الناس، وكأن هذا الأسم مأخوذ من ظأرته أي عطفته، والمصدر الظأر. والنير: خشبة البقرة الحارثة، والعرب تقول: فلان لا ينير - بفتح الياء - ولا يسدي، ولا يعيد ولا يبدي، ولا ولا يردي؛ والنير للثوب أيضاً، ومنه المنبر.
قيل لراهب: قد أطلت سجن لسانك، فقال: إنه غير مأمون إذا أطلق. فتحت السين لأنك أردت الفعل، ولو أردت الأسم بطل المعنى؛ وتقول مثله: ستر الله عليك ستراً جميلاً، وأسبغ عليك سابغاً، فيتميز الأسم من الفعل.
نظر أعرابي زمن الحجاج إلى ما فيه الناس من الجهد فقال: إنه ليهون علي ما أرى علمي بأنه بعين الله عز وجل؛ كيف الطريق إلى المسجد الجامع.
لقي تميم الداري رجلاً من إخوانه في أزم وشدة فقال: يا أخي ما عندك مما فيه الناس؟ قال: تدبير تكسر به العلة، وصيانة تسد بها الخلة، وصبر تمر عليه الأباء.
وسمعت أرباب النحو يقولون: الفعل خمسة أجناس: فمنها فعل لا يتعدى البتة مثل قام؛ وفعل يتعدى إلى واحد مثل ضرب زيد عمراً؛ وفعل يتعدى إلى مفعولين يقع المعنى عن أحدهما مثل كسوت زيداً ثوباً، وحرمت زيداً عطاءه؛ وفعل يتعدى إلى مفعولين لا يستغنى عنهما مثل ظننت زيداً قائماً، إلا أن تريد بظننت أتهمت فيقف على مفعول واحد، وكذلك حسبت وخلت، ولهما مفعولان فلا غنى البتة عنه؛ وفعل يتعدى إلى ثلاثة غنى عنهم مثل أعلم أن الله خلق زيداً بشراً خير الناس. وهذه الأجناس كلها يتعدى إلى الزمان والمكان، لأن الفعل والفاعل لا يستغنيان عنهما ولا يجدان بدا منهما.
قال ابن أبي طاهر: حدثني علي بن سليمان البرمكي قال: كانت وظيفة المنصور كل يوم لطعامه ملبقة، وخمسة ألوان، وجنب شواء، وجام فالوذج أو عصيدة، وكان يؤثر العصيدة.
قال السندي بن شاهك: كان السواد الذي يلبسه المنصور مرقوع الجربان.
قال محمد بن عبد الملك الرقاشي البصري: حدثني دينار الحجام قال: حجمت أبا جعفر المنصور في خلافته فأعطاني أربعة دوانيق فضة، وأخذت شعر سعيد بن أبي عروة فأمر لي بقوصرة فارغة.
ولد الرشيد بالري.
قال الربيع: نظر في نفقة المنصور فإذا مبلغها في كل يوم ستة آلاف درهم.
قال الربيع: لقب المنصور بأبي الدوانيق لأنه لما أراد حفر الخندق بالكوفة، قسط على كل رجل منهم دانق فضة، وأخذه وصرفه في حفر الخندق.
قال محمد بن الجهم: العيون التي تبص - أي تضيء - بالليل عين الأسد والنمر والسنور والأفعى.
ويقال: كل حيوان إذا أكل حرك فكه الأسفل إلا التمساح، فإنه لا يحرك ألا فكه الأعلى.
شاعر: المتقارب
ألا إن قلبي له خلقة ... ولست أرى مثلها في الخلق
سريع العلوق إذا ما اشتهى ... سريع النزوع إذا ما علق
فبينا يرى عاشقاً إذ صحا ... وبينا يزى صاحياً إذ عشق
قال بعض السلف: الأقارب عقارب، وأمسهم بك رحماً أشدهم لك ضرراً.
قال سليمان بن مهاجر لما قتل السفاح أبا سلمة الخلال، وكان يقال له وزير آل محمد: الكامل
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
إن السلامة قد تسيء وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
قال يعقوب بن السكيت: الأمنة كثير الأمن للناس، مثل نومة على القياس؛ قال يعقوب: والأمنة الأمن والسكون، قال الله تعالى " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " الأنفال: 11. وقال غيره: الأمنة الكثير التصديق لما يسمعه، كأنه أخذه من قوله " وما أنت بمؤمن لنا " يوسف: 17، أي مصدق لنا. وقال آخر: رجل أمنة إذا كان يأمن الناس كثيراً، وهو يثق بهم.
قال ابن أبي عيينة يعاتب طاهر بن الحسين: المتقارب
أيا ذا اليمينين إن العتا ... ب يسفي صدوراً ويغري صدورا

وكنت أرى أن ترك العتا ... ب خير وأجدر أن لا يضيرا
إلى أن ظننت بما قد ظنن ... ت بأني لنفسي أرضى الحقيرا
ولا يلبث الماء في مرجل ... على النار يغلي به أن يفورا
ومن أشرب اليأس كان الغن ... ي ومن أشرب الحرص كان الفقيرا
يقال: صديق المرء عقله ورفيقه، وعدوه جهله وخرقه.
وفي القرآن: " ظهر الفساد في البر والبحر " الروم: 41. قال: قلة المطر.
قيل لسفيان بن عيينة: أفهذا البر كيف البحر؟ قال: إذا قل المطر قل الغوص وعمت الحيتان ودواب البحر.
وسمعت أبا النفيس الرياضي يقول: " ظهر الفساد في البر والبحر " ، أي في النفس والقلب، أي في السر والعلانية.
العرب تقول: بر وبحر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخبر تقله، الهاء زعم الرواة أنها للسكت.
وقال بعض السلف: أقل تخبر، أي أبغض فقد وقع الخبر، أي أنك غني عن اختباره لأنه من بني جنسه فهو يخلفك كما أخلفك غيره.
قال عبد الملك بن مروان: من كان الحرص شعاره، كان البخل دثاره.
سمعت بدوياً من المنتهب وكان قد ورد فيد ممتاراً يقول: منشيء الأرماق متكفل بالأرزاق.
قال أعرابي: حافظ على الصديق ولو في الحريق.
قال فيلسوف: القناعة عز، والأعتبار كنز، والخنوع عجز.
قال أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه: أفضل الناس عند الله من عز به الحق، وانتشر عنه الصدق، ورتق برأيه الفتق.
هذا آخر الجزء الأول، وقد مر به ما إذا أعرتني رضاك علمت أني قد وفيت بما وعدت به، وزدت وأربيت، فتوقع ما يتلوه على رسم الأول إن شاء الله تعالى.
الحمد لله وحده، وصلى الله على سيد المرسلين محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه، وحسبي الله ونعم الوكيل. أنجز في الرابع من شهر جمادى الآخرة من سنة ثمان وعشرين وستمائة. والله ينفع به، ويغفر لكاتبه.
بسم الله الرحمن الرحيمرب أعن بمنك وكرمك
الجزء الثانياللهم إنك الحق المبين، والإله المعبود، والكريم المنان، والمحسن المتفضل، وناعش كل عاثر، ورائش كل عائل، بك أحيا، وبك أموت، وإليك أصير، وإياك أؤمل، أسألك أن تحبب إلي الخير وتستعملني به، وتكره إلي الشر وتصرفني عنه، بلطفك الخافي، وصنعك الكافي، إنك على ما تشاء قدير.
وبعد: هذا الجزء الثاني من بصائر القدماء، وسرائر الحكماء، ونوادر الملحاء، وخواطر البلغاء، وقد صار إليك الأول على اضطراب من تشتت أجناسه وفصوله، وليس يبعد منه الغرض المستفاد والأدب المقتبس، إذا صحت النية، وصدقت الشهوة، وتمت الإرادة، وساعدت القريحة، وأستجابت النفس، وكان تقدير الله من وراء اللطف بك، وتدبيره أمام الصنع لك، وتوفيقه مشتملاً عليك، وإحسانه متتابعاً إليك، فكد أيدك الله عز وجل الذي بيده ينقاد الصعب، ويذل الشرس، وينجلي المظلم، وينفتح المبهم، ويؤاتي الممتنع، ويعود البعيد قريباً، والقريب سهلاً، والسهل حاضراً، والحاضر هنياً، والهني مستداماً، وأجتهد في طلب العلم، وأقتباس الأدب، وتحصيل الحكمة، اجتهاد من لا يرى لكونه فائدة إلا بها، ولا يعرف لحياته عائدة إلا منها، ولا لعقله مرجوعاً إلا معها، وصن نفسك بأمتهانها في مطانها، وأبل العذر منها غير تارك ممكناً، ولا مهمل مستطاعاً، وخذ بزمامها إلى البصرة، وأشعرها حلاوة الحكمة، وألبسها جلباب المعرفة، وزينها بأنوار العصمة، وبصرها مواقع اليقين، وروحها بمواد السكون، وشوقها إلى مقعد الصدق، وأطرابها بأغاني الملكوت، وأجلها في رياض القدس، وناغمها بأسرار الحق، فإنها إن أجابتك - أعني نفسك - أفقت من سكرة الدنيا. وربحت الآخرة والأولى، وشهدت غيباً لا عبارة عنه، وأصبت نعيماً لا متمنى فوقه، وأعلم أنك وعاء قد ملىء سراً، وظرف قد حشي نوراً، وجرم أسكن حكمة، وبحر أودع دراً، وإنما ينبغي لك أن تعرف منك ما هو فيك، بترتيب العقل الموهوب لك، وتنبىء عنه بتفصيل اللسان الخطيب عليك، فلا تأس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تثق بالعلم ما دمت مقصراً في العمل ولكن أجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما، فإنك إن وهبت للعمل كلك أقعدك وأكلك، وإن منحت للعلم كلك حيرك وأضلك، وآفة العمل تعلقه بالرياء، وآفة العلم تعلقه بالكبرياء، والخير بين طرفيهما مرتفع.

قال واصل بن عطاء في هذا المعنى الذي قد طال القول فيه: ما آذى شيء كما آذى رجلان: عالم فاسق ترك الناس علمه لفسقه، وعابد جاهل أخذ الناس بجهله لعبادته، والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة، إذا تفضل الله تعالى بالرحمة، وتمم على عبده النعمة.
وإياك والمدافعة والوكال وحب الهوينا والأسترسال، وإيثار الخفض والدعة، والميل إلى الراحة والسعة، فإن خواتم هذه الخصال مذمومة، وعقباها كريهة وخيمة، وتجنب الهوى طاقتك، ولا تعره من طرفك لامحا، ولا من قلبك سامحاً، وأقبض عنه يدك، وأحبس دونه أذنك، فإنه سحار خدوع، وقرن جدوع، وقرين خلوب، وله تمويه وتشبيه، يستمدهما من حاشية العقل، وقد قال بعض الأولين: كيف يفلح الإنسان وعقله أسير الهوى في الشهوة، ولهذا يعسر الحكم في كل مطلوب، ويشتبه القضاء على كل مراد، وكأنه - أعني الهوى - مركب من فرط الشهوة وفاضل العقل، يخدع بالشهوة ويعذر بالعقل، ويجر الدواعي كلها، ويستعبد الحواس بأسرها، ولا سلامة إلا بسابق توفيق، وحادث رأي وثيق.
ودع الضجر والكسل وحب العاجلة، فإنها من أخلاق البهائم، وهي داء دوي، واجنح نحو الأجتهاد، فإنه كاسب النجح وجالب الظفر، وتحرك فإن التحرك طريق إلى المنالة، مشرف على حميد العاقبة، ولذلك قيل: الحركة ولود والسكون عاقر؛ فإن قلت: وما أصنع بالحركة والأجتهاد، والسعي والأرتياد، في طلب العلم، وأنتجاع الرزق، والتماس المأمول، والأمر كله مرقوم بالقدر، ومردود إلى القضاء، فأعلم أن كلامك مشوب، ورأيك فائل، وحسبانك باطل، وظنك محلف؛ أما تعلم أن الأجتهاد والحركة مدمجان في أثناء القدر، والقصد والسعي مدرجان في طي القضاء، وأن الذي عليك بحكم عقلك، وصحيح نظرك، أن تعمل بظاهر ما ألقي إليك، لأنك جاهل بحقيقة ما غيب عنك، فكيف تجنح إلى خفي عنك، وتستوحش من جلي عندك، إنك إذن لمن الجاهلين.
قد خوفك العقل، وسنح لك الخاطر، ونبهك الداعي، وأبلغك الواعظ، وعرفت آثار الله عز وجل في الظالمين، وثوابه للمحسنين، وتوبيخه للعاصين، وتحذيره للغاوين؛ أفمن بعد هذا يغمض عينه بصير، ويسد أذنه سامع؟ إن ذلك لهو الضلال المبين.
سأل ابن الكواء علياً رضي الله عنه عن القدر فقال: بحر عميق فلا تلجه، فأمهل ثم سأل، فقال: ستر الله فلا تكشفه، نقول بظاهر ما نرى، ثم يقضي الله تعالى بغيب ما يعلم؛ هذا ما قاله.
وقد تردد الحديث في هذا المعنى، وذلك بسب ظاهر لا يحتاج الناظر إليه إلى تحديق، وإن كان الباطن يحتاج فيه إلى تحقيق: لما كان التفاوت واقعاً بين الخلق في السعادة والشقاء، والشدة والرخاء، والبلادة والذكاء، والعلم والجهل، والعي والإفصاح، والشجاعة والجبن، والصدق والكذب، والحسن والقبح، والكرم واللؤم، والحب والبغض، والكراهة والإيثار، والتوقي والأسترسال، والشراسة والأستخذاء، والأمن والخوف، والعدل والحيف، والغنى والحاجة، والعز والمذلة، والسلامة والعطب، والراحة والتعب، والرجاء والقنوط، والأرتقاء والهبوط، والإجابة والإباء، والعافية والبلاء، والفسولة والغناء، والمنع والعطاء، أحب كل أحد أن يقف من ذلك على غيبه، وحقيقته المطلوبلة من عقله، فمن مضيف جميع ذلك إلى إله واحد، ومن مضيف إلى اثنين، ومن ظان أنه اتفق اتفاقاً، وانبجس جزافاً، ومن متوهم أنه على ذلك ممتد الماضي من الزمان، وممتد الباقي من البرهان، ومن راجع إلى الحيرة، ومتسكع في متشابه الأدلة، ومن مقرب بالجدل، ومبعد بالنظر، ومن ظان أنه جار على التناسخ مع إقامة الجزاء على قدر الخير السالف، والطاعة المتقدمة، ورأس هذا الأمر كله وأنفه في التسليم، فإنه الدين كله، والإسلام الذي شرفنا الله به وجعلنا من أهله، ومن القائلين بفضله، والناضحين عن حوزته، والذابين عن حريمه، هو معقود بالتسليم، لكن ينبغي أن يكون التسليم والتفويض سابقين للنظر والجدال، والمراء والضلال، والحيرة في تناقض الأقوال، لأن التلاعب بحجج الله عز وجل، والأجتراء على عقول عباد الله عز وجل، ليس من سنن أنبياء الله، ولا من أدب أولياء الله تعالى، وقلما يظفر من المتكلمين بمتأله له حرقة من قد فاته مطلوب، أو توفي من قد حصل له يقين، هكذا شهدت من شهدت طوال هذا السنين بالعراقين والحجاز وفارس والجبال، ولولا الإطالة لسميت لك واحداً بعد واحد، وأنت بكل عارف، وعلى أحوالهم واقف.

وكان أبو حامد شديد الأزورار عن الخلاف، شديد القعة في أهله. وكان أدنى ما يقول فيهم: الفقهاء إذا قالوا: قال الإجماع، وأنعقد الإجماع، أنهم لا يرادون بهذا اللفظ، لأن الإجماع لا ينعقد بهم، والخلاف منهم لا يعتد به، وشريعة النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي الحلال والحرام، والنظر في قواعد الأحكام، وتسليم ما غمض في هذه الفصول على الأفهام؛ وكان يقول أشياء غير هذا سأرويها لك.
وإنما أولع بذكر ما يقوله هذا الرجل لأنه أنبل من شاهدته في عمري، وكان بحراً يتدفق حفظاً للسير، وقياماً بالأخبار، وأستنباطاً للمعاني، وثباتاً على الجدل، وصبراً في الخصام.
ومن قبل ذلك أعود إلى العادة في نثر شيء من البصائر والنوادر، لئلا أكون خارجاً عما عقدت الكتاب عليه، وسقت ضماني إليه، ثم أذكر مسائل من فنون مختلفة، على قدر ما تم لي في الحفظ، وإذا وقع التمكن من جواباتها في الجزء الثالث ألممت بالبيان الشافي على وجه الأختصار، إن شاء الله تعالى.
قال بعض السلف: إذا صح العقل التحم بالأدب التحام الطعام بالجسد الصحيح، وإذا مرض العقل نبا عنه ما يسمع من الأدب، كما يقيء الممعود ما أكل من الطعام، وإن آثر الجاهل أن يتعلم شيئاً من الأدب تحول ذلك الأدب جهلاً، كما يتحول ما خالط جوف المريض من طيب الطعام داء.
وقال أيضاً: أحمد العقلاء من عقله عن صحة طبيعة، ورأيه عن سبب معرفة، وعلمه من قبل حجة، ومنطقه عن صدق مقال، وفعله عن حسن نية، وأدبه عن فضل رغبة، وعطاياه عن شجاعة غريزة، وأمانته عن عفاف، وأجتهاده في قصد سبيل.
وقال أيضاً: ثم وصل صحة الطبيعة بحسن العادة، وذكاء العقل بشدة الفحص، ونفاذ الرأي بدرك المنافع، وحسن المنطق بخير العرض، وحسن العمل بالفقه في الدين، وحسن الأدب بكثرة التعهد، وبث العطايا بصواب الموضع، وفضل الورع بفضل الحرية.
كتب بعض النساك إلى صديق له: أوصيك بتقوى الله العظيم، فإنها أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما أدخرت، أعانني الله وإياك عليها، وأوجب لنا ولك ثوابها.
قال جعفر بن محمد: لأمير المؤمنين عليه السلام تسع كلمات أيمن جواهر الكلام، وأيتمن حقائق البلاغة، وقطعن أطماع المحاولين عن اللحاق بهن، ثلاث منها في المناجاة، وثلاث في الحكمة، وثلاث منها في الأدب؛ فأما اللواتي في المناجاة فقوله: إلهي، كفاني فخراً أن تكون لي رباً، وكفاني عزاً أن أكون لك عبداً، أنت لي كما أحب، فأجعلني لك كما تحب. وأما اللواتي في الحكمة فقوله: أمنن على من شئت فأنت أميره، وآحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأستغن عمن شئت تكن نظيره، وأما اللواتي في الأدب فقوله: قيمة كل امرىء ما يحسنه، والمرء مخبوء تحت لسانه، والناس أعداء ما جهلوا.
قال أعرابي: من طال رشاؤه، كثر متحه.
وقال أبو فرعون التميمي: قل من أجتلب حلف الزمان، إلا رمي بقدم الحدثان.
قال الرشيد: أربعة أشياء ممسوخة: أكل الأرز البارد، والقبلة على النقاب، والنيك في الماء، والغناء من وراء ستارة.
قال الماهاني: قيل لمجنون مرة: نكت أباك وأبوك وأبيك، فأطرق وقال: المسألة في هذا محال والصحيح نكت - بالنصب.
قال أبو زيد الحارثي لابنه: والله لا أفلحت أبداً، فقال له ابنه: لست أحنثك والله يابه.
حمل إلى معاوية مال فصب في صحن داره، وعلى رأسه خصي يذب عنه، فقال: يا سيدي، مر لي بكف مال، فقال: ويحك ما تصنع به؟ أن مت فتركته كويت يوم القيامة به؛ فقال: يا مولاي، إن كان هذا حقاً، ما يساوي جلدك يوم القيامة فلسين! فضحك معاوية وامر له بمال.
وقال صفعان: نحن معاشر الصفاعنة خلقنا حلماء، فإذا خرق علينا الجاهل لقيناه بالتغافل.
وسمعت ابن سيار القاضي يقول: الصفع على الريق أصلح من شربة سويق.
وسمعته يحكي قال، قال الجاحظ: دخلت الجامع ببغداد، فرأيت شيخاً مهيباً فجلست إليه وقلت له: أفدني رحمك الله مما علمك الله، قال: أكتب، إذا جاءتك الفسو فلا تحبسها ولو كنت بين الركن والمقام، قلت: زدني، قال: أستعمل الدهن مع البزاق وأستعن بهما على هذه العفاج الضيقة، قلت: زدني، قال: إذا كانت لك جارية فنكها من خلف ومن قدام حتى تكون كأنها جارية وغلام، قلت: زدني، قال: تمسك بهذه الثلاث وأنت لقمان الحكيم.
شاعر: الكامل
إن كنت تنشط للصبوح فيومنا ... يوم أغر محجل الأطراف

وأرى الغمامة في السماء مخيلة ... مسودة الأوساط والأكناف
طوراً تبلل بالرذاذ وتارة ... تمري عليك بدلوها الغراف
وانعم صباحاً وأتنا متفضلاً ... ودع الخلاف ولات حين خلاف
رفع إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في قصة أن غلاماً أخذ مع فتيان في صحراء، فوقع: ما السبيل على فتية خرجوا لمتنزههم، يقضون أوطارهم على قدر أخطارهم، ولعل الغلام ابن أحدهم أو قرابة بعضهم.
نظر أعرابي في سبع وعشرين من رمضان إلى الهلال فقال: الحمد لله الذي أنحل جسمك، كما أخمصت بطني.
قال الإسكندر: السعيد من لا نعرفه ولا يعرفنا، لأنا إذا عرفناه أطلنا يومه، وأطرنا نومه.
قرىء على قدح: البسيط
اشرب على طرب من كف ذي طرب ... قد قام في طرب يسقي على طرب
قال ابن أبي طاهر: خلا المنصور بأبي أيوب المورياني وسلمة بن مجاهد وعبد الملك بن حميد كاتبه فقال: بمن تشبهونني من الخلفاء؟ فقال ابن حميد: أما أنا فأشبهك بعبد الملك بن مروان، فقال: ذاك شنأة الخلفاء وما أشبهه، قال: بالوليد، قال: ذاك لاعب، قال: بعمر بن عبد العزيز، قال: ذاك شديد الأنقطاع، قالوا: فيزيد، قال: ذاك ماجن، قالوا: فهشام، قال: بخ بخ وما أشبهه، فقالوا: فلا ندري بمن تشبه، قال: أشبه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
سمع هذه الحكاية أبو الفضل ابن العميد فقال: ما كان أحوج أبا جعفر عند هذا القول إلى من يسلح بيد يديه من أن يشبه عمر بن الخطاب، ثم قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.
وأبو جعفر أكبر من ذاك، ولعل الحكاية موضوعة عليه، فآفة الأخبار كثيرة، والظنة إلى أهلها سريعة، وتخليص السقيم من الصحيح صعب، وقد دهي الناس في جميع وأتوا منها، كذاك الرافضي في رفضه، والحروري في تحكيمه، ومجال العقل فيها ضيق، وسلطانه عليها واه، ولسانه فيها كليل، وإنما الأمر في الأخبار موقوف على السابق في النفس، وعلى حسن الظن بالرواية، وعلى مخرج الكلام في التأويل، والكلام كله مصرف ومتعسف، ومتى تدبرت هذا الباب في صروف الدهر وحوادث الليالي، وجدته كما حكيته ورويته؛ نسأل الله عز وجل رب الأولين والأخرين ستر العورة، وإقامة العثرة، ومجانبة الهوى والمعصية، فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول.
قال الحكم بن هشام الثقفي: قيل لأبي حنيفة: أرأيت ما تقوله هو الحق بعينه؟ قال: والله ما أدري، لعله الباطل بعينه. هذا مما كنا فيه.
وقال أحمد بن أبي طاهر: رفع رجل رقعة إلى المنصور يسأله فيها بناء مسجد في محتله، فوقع على ظهر رقعته: من شرائط الساعة كثرة المساجد، فزد في خطاك تزدد في الثواب.
كيف ترى كلام هذا الإمام؟ تعجب ففيه متعجب، ومن أين له أن كثرة المساجد من شرائط الساعة؟ أفقلة المسجد من شرائط بعد الساعة أم ماذا؟ اللهم غفراً. ولعل الخبر من الضرب المعمول، والقول المنحول؛ حرس الله تعالى سرائرنا عن مقت الأئمة، وعداوة الصالحين، والأعتراض على السلف الطيب.
شاعر: الكامل
عند الملوك مضرة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضر وتنفع
إن العروق إذا استسر بها الثرى ... أندى النبات بها وطاب المزرع
وإذا جهلت من امرىء أعراقه ... وقديمه فأنظر إلى ما يصنع
أظن أني رويتها لبشار، ثم ذهبت عني، وقد رواها أبو عثمان الجاحظ في كتاب الإبل.
قال الربيع بن خثيم: إن الله علم علماً فعلمكم منه شيئاً وأصطفى لنفسه ما لستم بنائليه ولا بمسؤولين عنه، وما علمكم من علمه فعنه تسألون، وبه تجزون.
هذا فصل نافع وكلام شريف، وفي تتبعه وتدبره إرشاد وهدى وسلوان.
أنشد أبو محلم: الوافر
غلام وغى تقحمها فأبلى ... فخان بلاءه الزمن الخؤون
فكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت المنون
زعم بعض أصحابنا أن أبا تمام من ها هنا أخذ قوله: الطويل
لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه

ما أكثر أن يقال: أخذ فلان من فلان، وأغار فلان على فلان، والخواطر تتلاقى وتتواصل كثيراًن والعبارة تتشابه دائماً، ومن عرف خواص النفس وقوى الطبيعة وأسرار العقل لم يستنكر توارد لسانين عل لفظ، ولا تسانح خاطرين على معنى حاضر، وباطنه ظاهر.
قال أبو ذكوان: سمعت الثوري يقول: سأل أعرابي فقال: داووا سقمي بصحتكم، أي فقري بغناكم. الغنى مقصور، والغناء - ما يسمع - ممدود.
ونظر أعرابي إلى رجل جالس على ماء غدير يرمي فيه الدنانير، فقال: يا هذا، لقد أراحتك النعمة وأتعبتها.
قال المهلب: ما رأيت أحداً بين يدي قط إلا أحببت أن أرى ثيابي عليه، وأعلموا يا بني أن ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم.
قال العتبي: رأيت أعرابياً وقد دفن ابناً له، فلما حثا عليه التراب وقف على شفير قبره فقال: يا بني، كنت هبة ماجد، وعطية واجد، ووديعة مقتدر، وعارية متفضل، فأسترجعك واهبك، وقبضك مالك، وأخذك معطيك، فألحفني الله عليك الصبر، ولا حرمني بك الأجر. ثم قال: أنت في حل وبل من قبلي، والله أولى بالتفضل عليك مني، ثم أنشأ يقول: الكامل
نفسي ونفسك والنفوس معارة ... يدعو بها إما يشاء معيرها
فلئن ذهبت فقد ذهبت ومقلتي ... صبابة يجري عليك غزيرها
فعليك من منح الإله صلاته ... وسقى عظامك في الضريح عبورها
تقدم رجل وامرأته إلى أبي ديشة القاضي فقال الزوج: لي عليها - أيد الله القاضي - ألف درهم، فقال القاضي: ما تقولين رحمك الله؟ فقالت: يسخر بك أيها القاضي، فنظر إلى الرجل مغضباً، فقال الرجل: أصلح الله القاضي لا تصدقها، فإنك لو عرفتها حق معرفتها ابزقت في استها.
يقال في كلام العرب: ذهبت بلة الشباب.
ويقال: بينهم نوى أي مناوأة، وذربت معدته أي فسدت.
ويقال: لئن بللت منه لتبلن بما يسوؤك، أي إن صادقته.
ويقال: الخرص برد مع ندى، والخصر برد بلا ندى.
ويقال: لا أدخل قريعة بيت أي وسطه، وفلان قريع قومه أي رئيس، كأنه واسطة بينهم يفزعون إليه من كل جانب.
ويقال: مصر فلان خيره إذا قلله.
ويقال لقوائم الدابة الشوى، والشواة: جلدة الرأس، وشوى اللحم شياً وأنشوى هو، وهذا أمر شوى أي هين، ورماه فأشواه أي أصاب غير مقتله.
ذكرت في هذا المكان شيئاً حدثنا به ابن الجعاني، وكان حافظاً متقدماً، وشاهدته سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة قال: كان لنا جار يؤم بنا، فقرأ يوماً " نزاعة للشوى " المعارج: 16 بكسر الشين.
وروى أيضاً عن الباغندي أنه قرأ على أصحاب الحديث " وكل شيء فعلوه في الزبر " القمر: 52: في الدبر، فقالوا له: ما هذا؟ فقال: الباء منقوطة. وزادنا بعض أصحابنا فيه شيئاً قال: زعم الباغندي لما حاجهم أن الذي يدل على أنه بالباء أن السورة فيها مقعد.
وهذا من النوادر مضحك معجب من شيخ سرى ثوب شبابه ولبس خلع الإمام، فكان هذا فائدته. وأصحاب الحديث لا يبرؤون من مثل هذا، وقد شبهوا بحاطب ليل.
ويقال: فلان حسن سنة الوجه، والوجه المسنون: الذي فيه انصباب وأنخراط، وسن الماء على وجهه إذا صبه، وأستنت الإبل على وجه، وسن فاه: إذا استاك بالسنون - بفتح السين.
ويقال: ما تمالك عن كذا أن وقع فيه، أي ما تماسك. وفلان في سر قومه أي في خالصتهم، وهذا سرارة الوادي أي وسطه، وسري عن المريض أفاق، وكذلك الغضبان، وتسرى فلان: تزوج سرية، وسرى ثوبه: ألقاه، وفلان يقرد بعيره ويحمله أي ينزع قردانه وحلمه، ونضج الثمام إذا سال شيء منه كالعسل، وهذا من حديث الملاحم أي الفتن. والعقار: أصل الدار، والعقار: الخمر، والعقر: المهر، والعاقر: التي لا تلد. وحم الأمر أي قضي، وأحمني أي أقلفني. وما نحن إلا في رجيع من القول أي مردود، وألقى عصاه أي أقام، قال الشاعر: الطويل
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
ومر فلان يعتصي على عصاً أي يتوكأ عليها، وعصاه أي ضربه بالعصا. والعصا من العصية أي بعض الأمر من بعض؛ هذا كله عن الأصمعي.
قال أرسطاطاليس: سوء العادة كمين لا يؤمن وثوبه.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: خلتان ليس معهما غربة: حسن الأدب وتجنب الريب.
شاعر: الطويل
فتى لا تراه الدهر إلا مشمراً ... ليدرك مجداً أو ليرغم لوما

تبسمت الأموال عن طيب ذكره ... وإن كان يبكيها إذا ما تبسما
وقال علي رضي الله عنه لرجل حروري: نوم على يقين خير من صلاة على شك.
دخل ابن عباس على بعض الأنصار في وليمة لهم فقاموا له، فأستحيى من ذلك وقال: بالإيواء والنصر إلا جلستم.
حكى هذا ابن كعب الأنصاري، وكان أديباً متكلماً، جاحظياً حافظاً، وكان يذهب مذهب ابن الإخشيد.
نظرت امرأة إلى شعرة بيضاء في رأس زوجها فقالت له: ما هذا؟ قال: رغوة الشباب.
قال رجل لسفيان بن عيينة: ما بال قريش كانت يتعلم بعضها من بعض المثالب؟ قال: تعلموها لينتهوا عنها.
قال الغاضري: أعطانا الملوك الآخرة طائعين، وأعطيناهم الدنيا كارهين.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الحسن البصري: أعني بأصحابك، فأجابه الحسن: من كان من أصحابي ييد الدنيا فلا حاجة لك فيه، ومن كان منهم يريد الآخرة فلا حاجة له قبلك، ولكن عليك بذوي الأحساب، فإنهم إن لم يتقوا استحيوا، وإن لم يستحيوا تكرموا.
صدق والله الحسن، وكان صدوقاً، وقد رأيت من توقى بحسبه ما لم يتوقه ذو الورع بورعه.
قال فيلسوف: إذا غلب الهوى العقل صرف محاسن خصاله إلى المساؤى، فجعل الحلم حقداً، والعلم رياء، والعقل مكراً، والأدب فخراً، والبيان هذراً، والجود سرفاً، والقصد بخلاً، والعفو جبناً. وإذا بلغ الهوى من صاحبه هذا المبلغ تركه لا يرى الصحة إلا صحة جسده، ولا العلم إلا ما استطال به، ولا الغنى إلا في كسب المال، ولا الذخر إلا في أتخاذ الكنوز، ولا الأمن إلا في قهر الناس، وكل ذلك مخلف في الظن، مباعد من البغية، مقرب من الهلكة. وإذا غلب العقل الهوى صرف المساوىء إلى المحاسن، فجعل البلادة حلماً، والحدة ذكاء، والمكر عقلاً، والهذر بلاغة، والعي صمتاً، والعقوق أدباً، والجرأة عزماً، والجبن حذراً، والإسراف جوداً.
شاعر: الكامل
قوم شراب سيوفهم ورماحهم ... فيكل معترك دم الأشراف
رجعت إليهم خيلهم بمعاشر ... كل لكل جسيم أمر كاف
يتحننون إلى لقاء عدوهم ... كتحنن الألاف للألاف
ويباشرون ظبى السيوف بأنفس ... أمضى وأقطع من ظبي الأسياف
ضريت على سفك الدماء نفوسهم ... وأكفهم ضريت على الإتلاف
وعروا من العار المدنس مثل ما ... عريت مواعدهم من الإخلاف
جعلوا الطعان محللاً لوجوههم ... ومحرماً منهم على الأكتاف
فإذا هم صدموا العدو بصارم ... خضبوا الأسنة من دم الأجواف
فسيوفهم تفني نفوس عداتهم ... وعطاؤهم يفني سؤال العافي
جاء الجماز إلى صديقة له فوجد بابها قد أغلق، فقال لها: افتحي، قالت: لا يمكنني، قال لها: فقبليني من خلف الباب، فأدارت استها إليه، فلما قبل فقحتها فست، فقال لها: سيدتي، تعشيت بكرش! كان لطاهر بن الحسين جارية اسمها السكون، فواعدها الزيارة ثم غفل عنها، وكانت حلقت ونتفت وتهيأت، فكتبت إليه رقعة عنوانها: الخفيف
للأمير المظفر الميمون ... ذي اليمينين طاهر من سكون
وفي الرقعة: الوافر
ألا يا أيها الملك الهمام ... لأمرك طاعة ولنا ذمام
حلقنا للزيارة وانتظرنا ... ولم يك غير ذلك والسلام
فأعجبه ذلك منها ودعا بها.
تزوج صدقة بن سليمان امرأة من كلب، فلما ضاجعها لمسها بيده فقال: إنك لمهزولة، فقالت: الهزال أولجني بيتك.
وقالت ابنة الخس في النيك: الأول داء، والثاني دواء، والثالث شفاء، والرابع نفسي له الفداء.
قيل لرؤبة: ما عندك للنساء؟ قال: أطيل الظمء ثم أورد فأقصب، والقاصب: الذي لا يشرب إلا تمزازاً.
قيل للحطيئة: ما أنكرت من نفسك؟ قال: نومي في الملاء. ويقظتي في الخلاء.
قال أبو إسحاق السبيعي لقثم بن العباس بن عبد المطلب: كيف ورث علي بن أبي طالب عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم دونكم؟ قال: إنه كان أولنا به لحوقاً، وأشدنا به لزوقاً.
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أخبرنا عن أيام جاهليتك، قال: ما داعبت أمة، ولا جالست إلا لمة، ولا دأبت إلا في حمل جريرة، أو خيل مغيرة، وأما أيام الاسلام فكفى برغائها منادياً.

قيل لابنة الخس: أي الهنين أحب إليك؟ قالت: الشديد عتره، والقليل قطره، البطيء قره، الصغير ضمره، العظيم نشره، في عيس جمل، في حر كبش، في رهز كلب، في حقو رجل.
أنشد لمضرس بن ربعي الأسدي: الطويل
وليس يزين الرحل قطع ونمرق ... ولكن يزين الرحل من هو راكبه
كأن الفتى لم يحي يوماً إذا جرى ... على قبره هابي التراب وحاصبه
قال السكري عن الرياشي عن العتبي عن أبيه قال، كان يقال: إذا كانت محاسن الرجل أكثر من مساويه فذلكم الكامل، وإذا كانتا متعادلتين فذلكم المتماسك، وإذا كانت المساوىء أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك.
قال ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، قال: قال عبد الله بن جعفر: كمال المرء بخلال ثلاث: معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالفة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة؛ فذو الثلاث سابق، وذو الأثنتين راهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم يكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق.
قال ابن دريد عن الرياشي عن العتبي، قال: من كلام البغاء: الإنصاف راحة، والإلحاح وقاحة، والشح مشنعة، والتواني مضيعة، والصحة بضاعة، والحرص مفقرة، والرياء محقرة، والبخل ذل، والسخاء قربة، واللؤم غربة، والذل استكانة، والعجز مهانة، والعجب هلاك، والصبر ملاك، والقصد مثراة، والسرف مهواة، والعجلة زلل، والإبطاء ملل، والحقد سخيمة، والصفح غنيمة، والوفاء كيل، والهوى ميل، والحلم عز، والحكم كنز، والعلم حلة زين، والعقل قرة عين، والجهل حيرة حين.
أنشد ابن دريد عن الأشنانداني لأعرابي: الكامل
إن كنت تجعل من حباك بوده ... ظهر البعير فثق بأنك عاقره
من ذا حملت عليه كلك كله ... إلا اشمأز وظن أنك حاقره
كلف جوادك ما يطيق فبالحرى ... أن تستقل بما تطيق حوافره
السكري عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، قال: رأيت صبية تقود أباً لها ضريراً وهو يقول: يا بنية شيمي السماء، فقال له: يا أبة كأن كسف السحاب فيها نوافر خيل تجر جلالها، ثم مشى قليلاً وقال لها: تأملي السماء كيف هي، فقالت: كأنها إبل شوارد همت بالانصرام، فمشى قليلاً ثم قال لها: أبصري السماء، فقالت: كأنها بطن عير أصحر، فمشى قليلاً ثم قال لها: توسمي السماء، فقالت: كأنها عين بعير تنطف، فقال لها: أوضعي قبل أن ترخي عزاليها.
وقال السكري عن الرياشي عن العتبي: رأيت أعرابياً يقول لأخيه: هل لك أن ننتجع أحساء رملات نجد علنا نجد بها رياً، فقال له الآخر: ذاك مطلب لا ينال إلا بشق وبعد، ولعل المحلىء عنه يذود الحوم منه.
السكري عن أبي حاتم عن الأصمعي، قال: وصف أعرابي ناقة فقال: تقطع الأرض عرضاً، وترض الحجارة رضا، وتنهض في الزمام نهضاً، سريعة الوثوب، بطيئة النكوب، مدلاج سروب.
السكري عن الأصمعي قال: قالت أعرابية لزوجها: أنحن أنعم عيشاً أم بنو مروان، فقال: هم أطيب طعاماً منا، ونحن أردأ كسوة منهم، وهم أنعم منا نهاراً، ونحن أظهر ليلاً.
وبإسناده أنشد أبو عمرو بن العلاء: الطويل
يطيل قصير الليل بالسوس عاذل ... وأنى يقص الجود قادمتي وفري
ومستنور والليل يطفىء ناره ... وماء كراه بين أعيننا يجري
قدحت له ناري فبات كأنه ... يساير قرن الشمس صبحاً وما يدري
ثنيت له مسك الجزور موسداً ... وما لي وساد غير أمسكة الجزر
وصارعت عنه الجوع بابنة ملة ... يشيعها أبناء طابخة القدر
وقمت بملء القعب من درة التي ... نحرت له حتى توسد بالسكر
فبات صريع الشبع والري نائماً ... وبت أرى في وجهه ناطق الشكر
قال ثعلب، قال ابن الأعرابي عن الفضل: تكلم صعصعة عند معاوية فعرق، فقال معاوية: بهرك القول، فقال صعصعة: إن الجياد نضاحة للماء.
قال ثعلب، قال ابن الأعرابي عن المفضل الضبي، قال: قال الأحنف بن قيس: السخاء والبخل في الطعام لا في المال.
وبهذا الإسناد قيل لبعض البخلاء: ما أجل الطعام؟ قال: ما أمسك الرمق.

السكري عن الزيادي عن الأصمعي، قيل لأعرابي: إنك لكذوب خوار، فقال: والله لأنا أصدق من قطاة، وأصلب من صفاة.
قال الأصمعي: سئل عبيد الله بن عتبة عن الفصاحة فقال: دنو المأخذ، وقرع الحجة، وقدح المراد، وقليل من كثير.
قال السكري: حدثني صديق لي قال: اشتريت جارية فلما خلوت بها فترت، فجعلت تعضني وتعبث بي، فلما رأته لا يتحرك قالت: يا مولاي ليس هذا من عملي، هذا من عمل المسيح عليه السلام.
المبرد عن التوزي عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال أكثم بن صيفي لبعض ولده: يا بني، الغنى أنفع، والسلطان أرفع، والعدو أمنع، والعافية أوسع.
وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من الأنصار إلى بعض ملوك العجم يدعوه إلى الإسلام، فقدم عليه في وقت ثمار بلاده، فجعل يدور به في بساتينه ويريه عجائب ثمارها ويقول: يا عمري، هل رأيت مثل هذا قط؟ ولم يبق له ثمرة إلا أراه إياها، فقال الأنصاري له: عندنا شجر ينبت على ساق، فمنها ما يناله القاعد، ومنها ما يبسق فيرتقى إليه، إذا كان إبان حملها خرج فيها مثل آذان الحمر، ثم لم ينشب أن ينشق عن مثل اللؤلؤة، ثم لا ينشب أن يصير مثل الزمرد الأخضر، ثم لم ينشب أن يصير مثل الياقوت الأحمر والأصفر، ثم لا ينشب أن ييبس فيصرم فيدخر، فمنه طعام المقيم، وزاد المسافر، وتحفة الصبي إذا بكى، فقال الأعجمي: إن كنت صادقاً فهذه الشجرة التي أهبط بها آدم من الجنة، وأهلها الذين يغلبون على شرق الأرض وغربها.
قال أبو العيناء: رأيت جارية في النخاسين وهي تحلف أن لا ترجع إلى مولاها، فقلت لها: ما له؟ قالت: يا سيدي، ينيكني من قيام ويصلي من قعود، ويشتمني بإعراب ويلحن في القرآن، ويصوم الأثنين والخميس ويفطر شهر رمضان، ويصلي الضحى ويترك الفجر.
العرب تقول: قد أعور الثغر، إذا لم يكن فيه حافظ.
أنشد الأصمعي لحسان: الرمل
آذنت شعثاء صرماً فابتكر ... إنما يدهن ذو القلب الحصر
سألت حسان من أخواله ... إنما يسأل بالشيء الغمر
رب خال لي لو أبصرته ... سبط الكفين في اليوم الخصر
قال ابن المعتز: كان أحمد بن علي الإسكافي عنيناً، فراود امرأة عن نفسها فلما أمكنته عجز، فقام مشيطاً وأخذ السكين ليقطع ذكره، فقالت له الماجنة: لا تفعل يا سيدي، دعه تبول فيه.
طالب مزبد امرأته من خلف فأمكنته، ثم طالبها أيضاً فقالت له: أذكر أنك اليوم تنيك وحدك.
قال بعض الحكماء: إساءة المحسن أن يمنعك جداواه، وإحسان المسيء أن يكف عنك أذاه.
وقال فيلسوف: تأميل الناس خيرك، خير لك من خوفهم نكالك.
قال فيلسوف: كما يتوخى بالوديعة أهل الثقة والأمانة، فكذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر.
وقال أعرابي: الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة الطعام الموضوع على فبر.
كاتب: القلم صائغ الكلام، يسبك ما يفرغه القلب، ويصوغ ما يجمعه اللب.
قال سهل بن هارون: الدواة منهل، والقلم ماتح، والكتاب عطن.
كاتب: شددت بعنايتك ظهري، وسطوت بك على دهري، وحاربت بك الزمان بعد الأستسلام، وأرهبته بعد الرهبة منه، فلا زال معادياً، ولا زلت لي عليه معدياً.
قال أعرابي: أعيمتني والضرع حافل، وأقرمتني وأنت لاحم.
أنشد ثعلب: الطويل
رأيت اليراع ناطقاً عن فخاركم ... إذا هرمت أثباجه وتعبنا
ونحن أناس ينطق الصبح دوننا ... ولم تر كالصبح الجلي مبينا
أي فخركم كالريح في الزمر؛ كذا قال ثعلب.
شاعر: الكامل المجزوء
يا هذه الجبل الأش ... م وضيقة الباع الرحيب
كم أعين ذرفت علي ... ك وأوجعت بك من قلوب
ما أشرقت بك شمسنا ... حتى تدلت للغروب
إن المنون إذا انتضل ... ن رمين بالسهم المصيب
كان ابن الكعبي يعجب بهذه الأبيات، والبيت الأخير شقيق قول أبي يعقوب الخريمي: الطويل
وأعددته ذخراً لكل ملمة ... وسهم المنايا بالذخائر مولع
والقصيدة غراء، وإن فسحت بالك وزدت في نشاطك رويتها لك، وإنما لقطت قصار الألفاظ من هذه البصائر والنوادر لتكون بالقلب أعلق، وإلى الحفظ أسبق.
قال فيلسوف: هيبة الزلل تورث حصراً، وهيبة العافية تورث جبناً.

قال أعرابي: لا ينبغي لأحد أن يدع الحزم لظفر ناله عاجز، ولا يرغب في التضييع لنكبة دخلت على حازم.
قد نطق بالصواب هذا الأعرابي، لأنك متى أضعت الحزم اتكالاً واسترسالاً، جانبت الرشد، وجريت في عنان الغي، وكنت أحد لوام نفسك، وعاذلي رأيك، ومتى أخذت بالحزم ظفرت، فإن لم تظفر لم تقطع نفسك باللوم. على أن ظفر العاجز لم يكن عن تكلف العجز، ولا نكبة الحازم عن اختيار الحزم، ولكن جرياً بالعجز والحزم على ما كانا واقعين عليه، ومصروفين إليه، لأنهما متحركان بمحرك، ومتصرفان بمصرف: الحازم غير مدرك ما ليس له، والعاجز غير محروم مما له، وإنما سعى الساعي وأجتهد المجتهد وكدح الكادح لأنه معلل بالتأميل، ومؤمل بالتعليل، والغاية مقصودة ولكن بالجهد، وكذلك قعد القاعد واستسلم المستسلم وأمسك الممسك لأنه يعلل بالتأميل، ويؤمل بالتعليل، وهو شريك صاحبه في آخر الحساب، وإن باينه في أول العمل.
وكان أبو أحمد الجرجاني القاضي يقول: أهل الدنيا بين تأميل بتضليل، وبين تعليل بتسويل، وهذه أخلاق العالم وأعراقه، وعليه سوسه وطباعه، ولن يحول عن جوهره بكراهة كاره، وغضب غاضب.
الحديث يتدافع كما ترى، وقد أنشأت هذا الكتاب على رواية ما حصلت، لأنه ثمرة العمر، وزبدة الأيام، ووديعة التجارب، وفي حفظ مضمونه، واعتبار ما اجتمع فيه، تبصرة من العمى، وتذكرة من العي، والنجاة من الله عز وجل إنما تكون بالله، والأولى بالمرء اللبيب، والحازم المميز، الأنقطاع إليه، والإناحة بين يديه، فإنك متى دبرت نفسك، وأملت لها، وسقت الأماني إليها، لم تتجاوز حدك من العبودية، لأنك عبد، متى أسلمت وجهك، وخنست من حولك إليه، برك بلطفه، وصرفك بإلهيته، لأنه إله، فهو خير لك منك لنفسك، لأنه أولك وآخرك، ولو كنت أولك، أو رجوت أن تكون آخرك، أو صرفت فيما بين طرفيك نفسك، كان لهربك منه وجه، ولإعراضك عنه تأويل، فأما وأنت محبوس في ملكه، مقيد بحكمه، مرتبط بعلمه، مراد بمشيئته، ملحوظ بعينه، محفوظ بعونه، فلا.
وأنشد لعقيل بن علفة: البسيط
تعجبت أن رأت رأسي تجلله ... من الروائع شيب ليس بالكبر
ومن أديم تولى بعد جدته ... والجفن يخلق فوق الصارم الذكر
يقال خلق الشيء وأخلق بمعنى، هكذا قال يونس في كتاب اللغات وقرأته على أبي سعيد السيرافي، وكأن خلق إذا لزمته الخلوقة ونبا عن الجدة، وهو يجري فيه كالصفة الحالة والنعت المصحوب، وكأن أخلق أخذ في الخلوقة وأمكنها من نفسه، كقوله أقطف العنب أي أخذ في إمكان قاطفه من نفسه، أي آن له أن يقطف، وكذلك أركب المهر.
أهدى جعفر بن سليمان إلى المهدي جارية فقال لها المهدي: أكان من جعفر إليك شيء؟ فكرهت أن تقول لا فتكذب، أو تقول نعم فتهجن، فقالت: كان شيء ينبغي أن يعاد عليه، فأستحسن كلامها ومال إليها.
مرت امرأة يقال لها قرة بماجن، فقال لأصحابه: بارك الله على من حشا هذه، لقد جود حشوها، فقالت المرأة: إن كان قد أعجبك هذا الحشو فابعث بامرأتك إلى من حشاني حتى يحشوها، فخجل الرجل وندم على مجونه.
وللنساء جواب مخوف، وإنما خيف المخنث لأنه يشبه بهن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: لا تسبوا قريشاً فإن عالمها يملأ؟ الأرض علماً، اللهم أذقت أولها نكالاً، فأذق آخرها نوالاً.
لا يعجبك رحب الذراعين بالذم، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت، ولا يعجبك امرؤ كسب مالاً من حرام، فإنه إن أنفق لم يتقبل منه، وإن أمسك لم يبارك له فيه، وإن مات وتركه كان زاده إلى النار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك: أحسنوا جوار نعم الله ولا تنفروها، فقلما زالت عن قوم فعادت إليهم.
قرأت لكاتب: والنعم تألف أهلها ما أحسنوا جوارها، وشكروا معيرها، فالله عز وجل يحب الصابرين، ويزيد الشاكرين.
قيل لفيلسوف: ماذا غنمت من الحكمة؟ فقال: أن صرت كالقائم على الشط أنظر إلى آخرين يتكفأون بين أمواج البحر.
وأنا والله أجد بهذا الكلام وأرتاح إليه، وأراه من الحكم اليتيمة، والكلم المحتومة؛ نسأل الله تعالى ألا يجعل حظنا من الحكمة ونصيبنا من الموعظة الإعجاب بها دون المصير إلى حقها، والقيام بواجبها.

قال فيلسوف: الأعداء يعيرون المرء بمساويه فيرعوي عنها، والأصدقاء يستحيون أن يستقبلوه بها فيتمادى فيها.
قال أعرابي: الإفراط في النصيحة يهجم بك على كثرة الظنة.
قال رجل لابن ماسويه: إني أشكو إليك قصوري عن الباه، أي الجماع، فقال له: عليك بالشراب والكباب وشعر أبي الخطاب - يعني عمر بن أبي ربيعة، لغزله.
قال طبيب العرب الحارث بن كلدة: من أحب أن لا يولد له فليدهن حشفته عند الجماع بدهن.
أنشد جحظة: المتقارب
ولي صاحب زرته للسلام ... فقابلني بالحجاب الصراح
وقالوا تغيب عن داره ... لخوف غريم ملح وقاح
ولو كان عن داره غائباً ... لأدخلني أهله للنكاح
أستأذن جحظة على صديق له مبخل، فقال غلمانه: هو محموم، فقال: كلوا بين يديه حتى يعرق.
قال ثمامة: قال لي مجنون مرة: أنت تزعم أن الأستطاعة إليك؟ قلت: نعم، قال: فإن كنت صادقاً فاخرأ ولا تبل.
قال جحظة: سأل رجل رجلاً عن جارة له أراد أن يتزوجها، فقال: إن كنت تريدها خالصة لك من دون المسلمين فلا تطمع.
قيل للفرزدق: أي الشراب أحب إليك؟ قال: أقربه من الثمانين.
قال جحظة: أكلت مرة مع بخيل، فقال لي: يا هذا، ما رأيت أذل من الرغيف في يدك.
قال إسحاق الموصلي: ما جمشت الدنيا بأطيب من شرب النبيذ، ولا عوتبت بأظرف من الغناء.
قال السدي للجماز: ولد لي البارحة مولود كأنه دينار منقوش، فقال له الجماز: لا عن أمه ويحك! فبلغت النادرة أبا العيناء فقال: بودي أنها لي بجميع ما قلته.
وأنشدت لجحظة: الطويل
ولي كبد لا يصلح الطب سقمها ... من الوجد ما تنفك دامية حرى
فيا ليت شعري والظنون كثيرة ... أيشعر بي من بت أرعى له الشعرى
وقال الجماز: اجتزت في طريق فإذا قيان ملاح، فقلت وقد زحمتهن: الخفيف حمل الله بعضنا فوق بعض فقالت واحدة: عاجلاً في دوام عيش وخفض كان إبراهيم بن العباس الصولي بخيلاً على الطعام، فجلست معه جارية في بعض الأيام على المائدة والخبز مفرق، فقالت: يا سيدي، إبراهيم بن ميمون صديق لك؟ قال: نعم، وما سؤالك عنه؟ قالت: أستعير منه بغلاً من بغال البريد أدور عليه خلف هذا الخبز، فخجل وغير الرسم.
سمعت أبا حامد المروروذي يقول، كان المزني يقول، قال الشافعي رضي الله عنه: آفة المتعلم الملل في قلة صبره على الدرس؛ وقال: الملول لا يكون حافظاً.
وكان أبو حامد يقول: سبيل الحدث أن يدرس، وسبيل الشاب أن يتفهم، وسبيل الكهل أن يناظر، وسبيل الشيخ أن يعلم.
وسمعته يقول لأبي طاهر العباداني، وكان يتصوف ويتفقه: لا ينبغي أن تصحب ثلاثة: الجندي والعلوي والصوفي؛ أما الجندي فإنه يقول: لولا جاهي وعزي لطلبك السلطان؛ وأما العلوي فإنه يقول: متى شئت بعتك، أنت ومالك لي، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأنا وارث النبي؛ وأما الصوفي فإنه يقول - وقد أنفقت عليه جهدك - : من أنت؟ بهذا كله أمرتم.
وسمعت أبا حامد يقول، سمعت يحيى بن حرملة يقول، قال الشافعي رحمه الله، قال لي بشر المريسي: لوددت أنا لم نرد عليك الشاهد واليمين، وأنك لم تخرج عيوبنا.
يقال: الباضع الريان، والشاهد عليه: الطويل
ألا ليت لي من وطب أمي شربة ... تشاب بماء من صبيح فأبضع
أي أروى. وبضع أي قطع، والبضعة: القطعة من اللحم، والباء مفتوحة، فأما بضع سنين فالباء مكسورة، وهي سنون دون العشرة وفوق الخمس؛ وملك فلان بضعها أي حل له نكاحها، ومنه سمي المبضع وجمعه المباضع، والبضاعة لأنها قطعة من المال؛ والبضاع: الجماع؛ قال أبو حنيفة صاحب النبات: وحب القلقل مهيج على البضاع، بكسر القافين.
سمعت ابن قريعة القاضي يقول: رفع إلى السلطان صبي قد افتض صبية، فقال الوالي: انظروا هل نبت قضيبه؟ فقالوا: لم ينبت بعد، وقضيبه صغير لا يفتض مثله جارية، فقالت الصبية: ما هكذا كان، قولوا له ينفحه كما كان، هكذا حكي، والنادرة في قلب الخاء إلى الحاء.
وسمعت ابن قريعة أيضاً يقول: خرجت جارية في جنازة مولاها فأرادت أن تقول: واحزناه، فلم يطاوعها لسانها، فقالت: واخراه، فأخذ الناس الضحك.
كان السلف يقولون: ذهب أهل الدثور بالأجور.

ج2. كتاب : البصائر والذخائر أبو حيان التوحيدي


الدثور جمع الدثر وهو المال الكثير، كأنه من كثرته يغطي عورات الحال بعد أن يسد مفاقر النفس. والبثر: ما يخرج على جثمان الإنسان، والجثمان والجسمان هما بدن الإنسان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى في جسمه بثرة عاذ بالله عز وجل واستكان له وجأر إليه، فيقال له: يا رسول الله، ما هو بأس، فيقول: إن الله عز وجل إذا أراد أن يعظم صغيراً عظم، وإذا أراد أن يصغر عظيماً صغر. هذا يدلك منه صلى الله عليه وسلم على خوفه، وخوفه على قدر معرفته، ومعرفته على قدر موهبته، وموهبته على قدر خصوصيته.
وسمعت ابن كعب الأنصاري يقول في مجلس الزهري سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة في مناظرته: من طال خطابه واشتد لغطه، قل صوابه وكثر غلطه.
قال فيلسوف: بإختلاف الحركة والسكون بادت الأمم والقرون.
قال الطوسي للحسن بن مخلد معزياً: جعل الله مصيبتك تأريخ ما تخشى، ومفتاح ما تحب.
قيل لابن المبارك: ما التواضع؟ قال: التكبر على المتكبرين.
وأنشد جحظة: المتقارب
لقد مات إخواني الصالحون ... فما لي صديق ولا لي عماد
إذا أقبل الصبح ولى السرور ... وإن أقبل الليل ولى الرقاد
قال أعرابي: السرف في القرى من الشرف.
وأنشد لبعض الشعراء: البسيط
خذها أبا جعفر والنجم في الأفق ... صفراء فاقعة في ناصع يقق
والشمس لم تطف أنفاس الظلام ولم ... ينشف صبيب الندى عن ناضر الورق
وقع سكران في الطريق على قفاه فبال، فرجع بوله على وجهه وصدره، فأقبل يقول: يا أهل الدار، هذا الماء نظيف؟! قيل لمحمد بن هارون: أيما أطيب الخريف أم الربيع؟ فقال: الربيع للعين - يعني الزهر - والخريف للفم - يعني الثمر.
شيع الحسن بن سهل المأمون فقال له: حاجتك أبا محمد؟ - نصب، يريد هات حاجتك - أو اذكر حاجتك - قال: حاجتي أن تحفظ علي من قلبك ما لا أستطيع حفظه إلا بك.
قال الموبذ للأسوار، وكان قليل الإفصاح بالعربية: كانت الملوك تقول: حقيق لمن غرس وعداً أن يثمر نيلا.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معدي كرب - تصرفه إذا نكرته، ولا تصرفه إذا جعلته اسم قبيلة أو اسم امرأة - : أخبرني عن قومك، قال: نعم القوم والله قومي عند الطعام المأكول، والسيف المسلول، والمال المسؤول.
نعم وبئس من باب أفعال لا تنصرف، وهما فعلان ماضيان يرتفع فاعلاهما بهما، والفاعلان على ضربين: مضمر ومظهر، والمضمر مفسر، ومثاله: نعم رجلاً عبد الله، وبئس غلاماً زيد، أضمرت الرجل في نعم قبل أن تذكره فلزم تفسيره ليدل على الفاعل، وغلاماً انتصب بنعم، ولا يكون هذا التفسير إلا نكرة؛ فأما مثال الفاعل المظهر فضربان: أحدهما أن يدخل الفاعل الألف واللام فيكون الأسم دالاً على الجنس نحو: نعم الرجل، وبئست المرأة وبئس المرأة، والآخر أن يضاف إلى ما فيه الألف واللام نحو: نعم غلام الرجل وبئس صاحب القوم.
للخباز البلدي: السريع
حوشيت من صحبة خوان ... يأتي من الغدر بألوان
ولعنة الله على كل من ... له لسانان ووجهان
كاتب: إن عتبك لم يوعر علي مذهباً إلا كان الرجاء له مسهلاً، فرأيك في التعطف على من لا يرجع إلا إليك، ولا يعتمد إلا عليك.
نصب رأيك على تقدير: فر رأيك، هكذا قال الشيوخ.
يقال في اللغة: خلا العهد إذا انقضى، وخلا بعيره يخليه إذا علفه الخلى وهو الرطب. ويقال: خلاه بالسيف يخليه إذا قطعه، وخلت المرأة إذا بانت من زوجها، وقد أخليته الأرض إذا أبحته خلاها، وأخليت فلاناً إذا بت له خالياً، وخليته: أرسلته، وفلان خال مال وخائل مال إذا كان حسن القيام عليه، والمال هو النعم والماشية، وكذلك في الفصيح حين تقول: نمى المال أي زاد، والمال يزيده التناسل والسمن عند الرعي. والرعي ما يرعى: الرعي مصدر رعى، وارتعى ورتع، ومضارع نمى ينمي، وينمو نمواً لغة من هذا، ونمياً من ذاك، والنماء الأسم، ونمى إلي حديثك، ونماه الله - في الدعاء - سليخ قولك: زرعه الله، وخيره الله، وزاده الله، وقد قيل: أنماه الله، وهو قليل، والعربية ما قلت لك، وهذا كله سماع بعد تحكيك ومدارسة، وتصحيح ومقايسة.

نعم: وفلان ذو خال ومخيلة إذا كان ذا خيلاء، ورأيت خال السحابة، وسحابة مخيلة - بضم الميم - وذات مخيلة - بفتح الميم - إذا كانت خليقة للمطر، ورجل مخيل كذلك، وفي الأمثال: رب مخيل مخلف، وخال فلان: ظن، وخيل بالأرض إذا نصب أخيلة أي أعلاماً، والخيال خشبة تركز ويلقى عليها كساء علامة للغنم، قال الشاعر: الوافر
وما شيء بأحمق من قشير ... ولا ضأن تريع إلى خيال
تريع أي ترجع، ويقال راع يريع منه، أما راع فمعناه أفزع يفزع، والفرس الرائع لأنه يعجب ويأخذ من النفس بمنزلة الإفزاع، وفي الحديث: هل راع عليك القيء، أي رجع، ومنه هو مروع أي خائف؛ فأما مريع فغير هذا، الميم في مريع من سنخ الكلمة لأنك تقول مرع الوادي وأمرع الجناب وذلك إذا أردت الخصب - والخاء مكسورة والفتح مردود - والجدب ضده، والجيم مفتوحة.
نعم: وخول فلان فلاناً مالاً أي وهبه له، وفلان يتخول إذا دعاه خالاً، وأخذ ماله فتخوله أي جعله في ملكه، وألقى متاعه أخول أخول أي بعضه فوق بعض، والخلية: المطلقة، والخلية أيضاً: السفينة، ويقال: اترك صحبة الخالة أي ذوي الخيلاء، وكأن ذا الخيلاء - الذي هو الكبر - يظن في نفسه أنه أكثر مما فيه، فمعناه راجع إلى خال يخال أي حسب وظن؛ والخال: خال الرجل أخو أمه، وجمعه أخوال، والخال: نكتة بخد الإنسان وجمعه خيلان، ويقال منه مخيل ومخيول لصاحبه؛ هذا أكثره عن الأصمعي.
قال فيلسوف: السعيد من العقل أصح طبائعه، والعلم آنق حديثه، والحكمة أجزل حظوظه، والحسنات أفضل ذخائره، ولا يغنيه إلا القناعة، ولا يؤمنه إلا البراءة، ولا يوجب له الزيادة إلا الشكر، ولا يدفع عنه المكاره إلا الدعاء.
اطلع معاوية ليلاً على عسكر علي فأرتاع وقال: من طلب عظيماً خاطر بعظيم.
وقال معاوية: إني لأكره النكارة في الرجل، وأحب أن يكون عاقلاً.
والنكارة هي فضل عقل، لكنها لا توجد إلا فيمن استفرع عقله لإحراز منافعه ولو بمضارة غيره.
قال معاوية لعمرو بن عتبة: رحم الله أباك، وأحسن الخلافة عليك، لقد لصقت المصيبة بي، وإن كانت قد أخطأتني لقد أصابتني.
وقال معاوية للعرب: أنتم الشعار المستبطن، والدثار المستظهر.
وقال له عمرو بن العاص: لقد أعياني أن أعلم: أشجاع أنت أم جبان؟ فقال: الطويل
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ... فإن لم تكن لي فرصة فجبان
قال أعرابي: كفاك موبخاً على الكذب علمك بأنك كاذب.
قال جعفر بن يحيى: الخط سمط الحكمة يفصل شذورها، وينظم منثورها.
قالت بصرية لأخرى: تعالي حتى نعد من يمر بنا ممن ناكنا، قالت لها صاحبتها: هذا يطول، ولكن نعد من لم ينكنا.
قال الحسين بن فهم: قلت لجاريتي عند غيظي منها وغضبي عليها: اصبري حتى تجيء الغلة، والله لأشترين جارية مثل القمر وأستريح منك، قالت: يا مولاي، اشتر أولاً أيراً تنيك به.
قال الجماز: اشتريت جارية ظريفة، فأنشدت يوماً بيت أبي نواس: الرمل المجزوء
خل جنبيك لرام ... وآمض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
فقالت: ليست الرواية هكذا، قلت: كيف هي؟ قالت:
خل جنبيك لرام ... وآمض عنه بسلام
مت بداء النيك خير ... لك من داء الحمام
قال أحمد بن هشام الكوفي: تزوجت فاطمة بنت أبي زيد الحامض، فلما اجتمعنا ليلة العرس وجلس النساء على الرسم مع العروس قالت لهن: لا أعرف لقعودكن معنى، لا أنا مستوحشة فتؤنسنني، ولا محتشمة فتبسطنني، فأنصرفن في حفظ الله، فقمن، وأقبلت علي فقالت: احتشامك بغض، وأحتشامي أبغض منه، لأنك قد جربت وقد جربت، وكما أنه يكبر عليك أن تراني مع غيرك، كذلك يكبر علي أن أراك مع غيري، فخذ في أمرك، والزم الصحبة يلزمك العمل، وأنا أعطي الله عز وجل عهداً يسألني عنه، ويأخذني به، لئن خالفتني إلى امرأة لأخالفنك إلى ثلاثة رجال.
قيل لعبد الملك بن مروان: كم أتى عليك من السن؟ قال: أنا في معترك المنايا، أنا ابن ثلاث وستين.
قال فليح بن سليمان: لقيت المنصور في الطريق سنة توفي فيها فقال: يا فليح، كم سنوك؟ قلت: ثلاث وستون سنة، قال: هذه سنو أمير المؤمنين، أتدري ما كانت العرب تسميها؟ كانت تسميها دقاقة الرقاب.

قال الفراء: سبعة لا يكنون - يقال: كنيت الرجل وكنوته وكنيته، وكأن الكناية في الكلام إرادة معنى بغير الأسم الموضوع له واللفظ المقصور عليه، وكأنها أخت التعريض، وفي التعريض غرض عليها - ثم قال: وهم الحجام والبيطار والكناس والحارس والسماك والدباغ والغسال.
قال المأمون: خصلتان لا تصنعان على موائد الخلفاء: نكت المخ، وكثرة أكل البقل.
ليته أخبر عن العلة، ولعمري إنها لمن الخصال اللئيمة، ولكن ما أكثر ما يطلق العلماء والرؤساء هذه الأحكام ويوردون هذه الشرائط معراة من العلل، أغفالاً من الحجج، وهب أن هذا جائز لأفناء الناس ومن هو مغمور في العامة وغير ضارب مع الخاصة، كيف يجوز لمن يؤثر عنه اللفظ واللحظ، ويخلف عنه الطيب والخبيث، ويحفظ عليه الحي واللي؟ ولعلهم قد طبقوا المفصل في كل ما نطقوا، وذكروا أسباب ما رتقوا وفتقوا، ولكن الحملة ساء نقلها وقلت عنايتها، وما أخص بهذا هؤلاء، فإني أجد رواة الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم والناظرين في أصول الأحكام والمتصفحين لغريب القرآن على هذه العادة؛ إلى الله عز وجل الشكوى.
قال علي رضي الله عنه: لا تكونن ممن يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، وينهى ولا ينتهي، ويأمر الناس بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم، ويبغض المسيئين وهو منهم، يأخذ من الدنيا ما يفنى، ويترك من الآخرة ما يبقى، يكره الموت لذنوبه، ولا يدع الذنوب في حياته.
قال ابن المبارك: قلت لرجل عاد من سفره: ما رأيت في وجهك؟ قال: رأيت رجلاً أخذ في خراج، فاعتوره رجلان يدفعه هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى خرجت نفسه، ثم قال: وهكذا أنت يدفعك الليل إلى النهار والنهار إلى الليل حتى تكون كذلك.
قيل لابن المدبر يوماً: ما تقول في الشعر؟ قال: يرفع الخسيس، ويضع الشريف.
قال زياد بن أبيه: الشعر أدنى مروءة السري، وأسرى مروءة الدني.
قال المعتمر بن سليمان: الشيب أول مراحل الموت.
قال قيس بن عاصم: الشيب خطام المنية.
وقال فيلسوف: الشيب توأم الموت.
وقال يحيى بن خاقان: الشيب موت الشعر، وموت الشعر علة موت الجسد.
وقال العتابي: الشيب تاريخ الكتاب.
وقال فيلسوف: الشيب نذير الفناء.
وقال أعرابي: الشيب بريد الهلاك.
كتب المتوكل على الله إلى عبد الرحمن بن خاقان لما توفي يحيى بن خاقان، وهو إذ ذاك بالبصرة: أما بعد، فقد جرى من قضاء الله عز وجل في وفاة يحيى بن خاقان على أحسن ما توفي عليه ذو طاعة ونصيحة وقيام بحق أمانة الله في سلطانه ورعيته ما جرى على الأولين، وهو جار على الآخرين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وإليه يرجعون؛ وإن أمير المؤمنين يأمرك بالرجوع إلى الله عز وجل، والرضا بقضائه، وتلقي النعمة برضا أمير المؤمنين عن يحيى، وما أتبعه من الدعاء وخلفه في عقبه بما يستديمها من الصبر والشكر، والشخوص إلى باب أمير المؤمنين إذا ورد عليك كتابه هذا، بعد أن تخلف في عملك من يقوم فيه مقامك، منبسط الأمل، منفسح الرجاء، واثقاً بما يرعى أمير المؤمنين منك بنفسك في طاعتك، وموالاتك في أسبابك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ وكتب بإملاء أمير المؤمنين يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة أربعين ومائتين. ووقع المتوكل على الله بخطه بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن، ثق بالله العظيم، وبالذي لك عند أمير المؤمنين، وطب نفساً ولا تحمل على نفسك من الغم ما لا ينفعك، لا بل يضرك، ويغتم به أمير المؤمنين، وهذا خط أمير المؤمنين إليك، والسلام.
قال أعرابي: لا شيء أهرم للوليد، وأبلى للجديد، من ليل يسري، وقدر يجري.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر: تجهزوا رحمكم الله فقد نودي بالرحيل، وأقلوا الفرحة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما يحضركم من الزاد، فإن قدامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة، لا بد من الممر عليها، والوقوف عندها، فإما برحمة الله عز وجل فنجوتم من فظاعتها، وشدة مختبرها، وكراهة منظرها، وإما بهلكة ليس بعدها خيار.
قال فيلسوف: من عدم العقل لم يزده السلطان عزاً، ومن عدم القناعة لم يزده المال غنى.
سمع هذا الكلام أبو زيد المروزي فقال، قال الربيع بن خثيم: من عدم الإيمان لم تزده الرواية فقهاً.

قال صاحب المنطق: إنما الإنسان عقل في صورة، فمن أخطأه العقل ولزمته الصورة لم يكن إنساناً كاملاً، ولم تكن صورته إلا كصورة تمثال لا روح فيه.
كتب أرسطاطاليس إلى الإسكندر رسالة في السياسة يقول في أولها: أما التعجب من مناقبك فقد نسخة تواترها، فصارت كالشيء القديم الذي قد بسىء به، لا كالحديث الذي يتعجب منه.
يقال بسأت بالشيء وبسئت إذا ألفته.
أصيب الإسكندر بمصيبة، فجاءه أرسطاطاليس فقال: أيها الملك، إني لم آتك معزياً لكن متعلماً للصبر منك، لعلمي بعلمك أن الصبر على الملمات فضيلة نافية لكل رذيلة، فكيف نحض على طاعتك أو تعلم سنتك.
نظر فيلسوف إلى ميت ينقل فقال: حبيب ينقله أحباؤه إلى حبس الأبد.
وعزى فيلسوف آخر فقال: إن كنت تبكي لنزول الموت بمن كنت له محباً، فطالما نزل بمن كنت له مبغضاً.
قال أرسطاطاليس: ليكن غايتك في طلب المال الإفضال به على الإخوان، فإن الشريف الهمة لا يطلب المال ليكتنزه أو ليأكله، ولكن ليتحف الإخوان منه.
قال الهندي: أول البلاغة أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل الحركات، خفي اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم الملوك بكلام السوقة، ويكون في قوته التصرف في كل طبقة.
سئل ابن حرب عن البلاغة فقال: البلاغة أن تجعل بينك وبين الإكثار مشورة الأختصار؛ وهذا يحتاج إلى تفسير.
وقال الرومي: البلاغة هي الأقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة.
وقال الأعرابي: البلاغة وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.
وقال الفارسي: البلاغة معرفة الفصل من الوصل.
وقال إبراهيم الإمام: يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.
وهذا الحكم من إبراهيم مبتور، لأن الإفهام قد يقع من الناطق ولا يكون بما أفهم بليغاً، والفهم قد يقع للسامع ممن ليس ببليغ ولا يكون بليغاً، وليس اشتراكهما في التفاهم بلاغة.
البلاغة أن يصيب الناطق بالطبع الجيد، أو الصناعة المجتلبة، أو بهما، وإن ساء فهم السامع لقصور طباعه، أو بعده عن أسباب الفضيلة. ومن ذا الذي هجا البليغ لأن السامع لم يفهم، أو هجا السامع لأن الناطق لم يفهم؟ وإنما البليغ الذي يبلغ القصد بأقرب طرق الإفهام مع حسن الغرض، وليس أقرب طرق الإفهام تقليل الحروف وأختصار المراد؛ قد يكون هذا، ولكن أقرب الطرق في الإفهام أن تكون الغاية مثالاً للعقل، ثم يكون المعنى مسوقاً إليها، واللفظ منسوقاً عليها، فهم السامع أو قصر. ثم ليس هذا المعنى مقصوراً على العربية، بل هو شائع في النفوس، مستمد من العقول، معروف باللغات، لكن العربية عندنا أحسن الألفاظ مخارج، وأوسعها مناهج، وأعلقها بالقلب، وأخفها على اللسان وأوصلها إلى الآذان، وكل هذه المحاسن تابعة للشريعة التي جعلها الله تعالى تمام الشرائع، ومضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله عز وجل به الأنبياء والرسل؛ جعلنا الله عز وجل يوم الفزع الأكبر في زمرته، كما أخرجنا في زمرة أمته، ورزقنا شفاعته، كما ألهمنا طاعته، بمنه وجوده.

أرى - أيدك الله - أن أطيل الكلام في هذا المعنى، لعلمي بأن هذا المقدار يهيجك ولا يشفيك، ويغريك بمعرفة تمامه ولا يسليك: نظام البلاغة وعقدتها والذي عليه المدار والمحار أن يكون طالبها مطبوعاً بها مفطوراً عليها، قد أعين بشهوة في النفس، وأدب من الدرس، فإنه متى اختل في أحد الطرفين بدا عواره، ولصق به عاره، والآفة فيها من الدخلاء إليها الذين يستعملون الألفاظ ولا يعرفون موقعها، أو يعجبهم الأتساع ويجهلون مقداره، أو يروقهم المجاز ويتعدون حدوده، أو يحسن في حكمهم التصريح ولعل الكناية هناك أتم، والإشارة فيه أعم. وهذه الخلال تجدها في قوم عدموا الطبع المنقاد في الأول، وفقدوا المذهب المعتاد في الثاني، والسر كله أن تكون ملاطفاً لطبعك الجيد، ومسترسلاً في يد العقل البارع، ومعتداً على رقيق الألفاظ وشريف الأعراض، مع جزولة في معرض سهولة، ورقة في حلاوة بيان، مع مجانبة المجتلب، وكراهة المستكره. وركنه الذي يعول عليه، وكنفه الذي يأوي إليه، أن يكون السجع في الكلام كالملح في الطعام، فإنه متى ظفر منه بمقدار الرتبة، وحسب الكفاية، حلا منظره، وبهر بهاؤه، وسطع نوره، وانتشر ضياؤه، ومتى زاد على المقدار ضارع كلام النسأة والكهنة من العرب، أو كلام المستعربين من العجم.
وسأقتص لك فنون البلاغة اقتصاصاً مجملاً تقف به على تفصيلها: أعلم أن الفن الأول منه هو الكلام الذي يسمح به الطبع، وليس يخلو هذا المطبوع من صناعة، والفن الثاني هو الكلام الذي يطلب بالصناعة، ليس يخلو هذا المصنوع أيضاً من طبع؛ والفن الثالث هو المسلسل الذي يبتدر في أثناء المذهبين، وأمثلة هذه الفنون ثابتة في هذه النوادر والبصائر، ومتى أنعمت النظر عرفت الخبر. ومهما أتيت في هذا الشأن فلا تلهجن بالسجع، فإنه بعيد المرام إذا طلب الواقع موقعه والنازل مكانه، ولا تهجرنه أيضاً كله فإنك تعدم شطر الحسن؛ والذي يجب أن يعتمد من ذلك هو مقدار يجري مجرى الطراز من الثوب، والعلم من المطرف، والخال من الوجه، والعين من الإنسان، والسواد من الحدقة، والإشارة من الحركة، وقد علمت أنه متى كثرت الخيلان في الوجه وغمرته كان ترادف أجزاء السواد ذاهباً ببهجة تمام الحسن؛ وقد يسلس السجع في مكان دون مكان، والاسترسال أدل على الطبع، والطبع أعفا، والتكلف مكروه، والمتكلف معنى، والناس بين عاشق للمعاني وتابع لها فالألفاظ تواتيه عفواً، وكلف بالألفاظ والمعاني تعصيه أبداً؛ فأما من جمع بين هذه وهذه، وكان قيماً بمنثورها ومنظومها، عارفاً بأختلاف مواقع تأليفها، فإنه الحاوي قصب الرهان، والمعدود في أفاضل الزمان. فاقصد - أيدك الله تعالى - أن تكون كالصائغ الذي يصيب الشذر فيسكبه ثم يصوغه ثم ينقشه ثم يسوقه ثم يزينه ثم يعرضه. والأدب كثير، والكلام جم، والمحفوظ من ذلك أقل من الضائع، والمكتوم أكثر من الشائع، وإذا صدقت نيتك في طلب مختار العلم، ومذخور الحكمة، أصبت من ذلك ما لا يفرغك لطلب ما نأى عنك. أغناك الله عز وجل عن كل ما سواه، وعرفك ما في الغنى به حين تفتقر إليه، وتقتصر عليه، فما خسر من أناخ بفنائه، ولاذ ببابه، وسعى في ابتغاء مرضاته، ولا اعتاض منه من استجاب للدنيا وانغمس في الهوى.
احلولج الأمر أي التوى.
قال زهير: الطويل
فبتنا عراة عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله
عراة: مؤتزرون؛ يزاولنا: يعالجنا؛ قال أبو عبيدة: عراة، تعرونا عرواء من الزمع، لأنه إذا أراد أن يصيد أرعد، ويقال عراة بالعراء، ليس يحجبنا شيء.

العرب تقول: بقي من ماله عراض أي شيء يسير، والعرض: المال، والعارض: السحاب، والعرض أيضاً: الجنون، والعرض: النفس، وفلان شديد العارضة إذا كان شديد المتن. وفعل ذلك سهواً رهواً أي ساكناً وادعاً، وأفعل ذلك في سراح ورواح أي في يسر، ومكان مروحة أي مهب للريح، والمروحة: هذه المسفوفة المعروفة، والمراح - بضم الميم - مأوى الأبل، والمراح - بفتح الميم - مصدر راح مراحاً ورواحاً، وأراح الطعام: تغيرت رائحته، وأروح أيضاَ. فلان يراح للمعروف ويرتاح له، وهو أريحي: كل هذا كرم وكريم، وكأنه إشارة إلى طيب ريحه أو إلى اهتزازه أو إلى جوده، يقال: فلان كالريح جوداً، وفلان يباري الريح جوداً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كالريح المرسلة في رمضان، ويقال: شهر رمضان، وذلك أنه قيل: رمضان من أسماء الله عز وجل، والشهر منسوب إليه، ولأن القرآن نطق بذلك، وكل جائز.
وفلان يعاني أموراً أي يعالج، وزارنا على شحط بعيد أي على بعد. وأهجر أي هذى. والمأبوض: المشدود الرسغ بالإباض، وهو الحبل. وأجره الله يأجره أي أثابه، وأجار فلان فلاناً أي جعله في جواره، والجوار - بالضم - الأسم، والجوار مصدر جاوره مجاورة وجواراً، كقولك مخاصمة وخصاماً وقتالاً ومقاتلة وخطاباً ومخاطبة، وباب هذا القياس متلثث أي مطرد أي متتابع، ويقال لمن ينزل بحضرته: هو ملاث وهم ملاوث. وأمحلت الأرض إذا قل مطرها، والمحل: الوشاية لأنه ينفي الخير، والخير ها هنا كالمطر ثم، والمحال: المحاولة أي الطلب، والمحالة: الحيلة، والمثل: المرء يعجز - بكسر الجيم - لا محالة، أي الحيل كثيرة ولكن الإنسان عاجز؛ وفي الدعاء: اللهم لا تجعل القرآن بنا ماحلاً أي مزلاً لأقدامنا. وسمي المحل وشاية لأن الواشي يشي، أي يحسن باطله، كما يشي الواشي الثوب، أي ينسجه رائقاً في العين، وتقول في الأمر منه: شه، كما تقول: قه من الوقاية، وفه من الوفاء، والأصل حرف ولكن ضمت الهاء أخرى للسكت، ولأن الكلام بناء، والبناء لا يكون بحرف واحد، إنما يخرج من أحكام الحروف بارتدافه حرفاً آخر؛ والحرف يذكر ويؤنث. وقول الله عز وجل " ومن الناس من يعبد الله على حرف " الحج: 11 أي على جانب، وتحريف المعنى: عدلك إياه عن وجهه، فهو شبيه بتصحيف اللفظ، والمحارف كأنه مصروف عن سعة الرزق، والحريف: فعيل من الحرافة وهو ما فيه حرافة ولذع، وكأنه معدول عن الحلاوة أو عن المرارة. ويقال: عذلته فأعتذل، أي قبل العذل، أس سمعه وأقلع عنه، ويقال أيضاً العذل، وهو قليل ومع قلته شائع - ولا يقال منشاع - ومع ذلك لا يقال في عذلته - بالذال منقوطة - انعذل، هذا ما لم يسمع، والقياس فيه مرذول. تقول: رذلت الشيء فهو مرذول، واسترذلته وقوم رذال حقيقة أي أنذال وتباع كذلك. ولاث عمامته يلوثها إذا كارها على رأسه أي أدارها، ولوث ثيابه إذا مرغها في الطين، والتاثت الدابة أي كلت، والدابة تذكر وتؤنث، والتذكير غريب.
هذا كله عن سماع وحفظ، ولم آت فيه من عندي بشيء إلا ما جرى مجرى بيان وشرح وتشبيه، وأرجو السلامة فيه من خطإ شائن، وصواب بائن، وعلى الله التوكل في كل نائبة، فهو ملجأ القانط، وكهف الآوي، وملاذ الراجي، ومعاذ الخائف.
كاتب: أنت ثمال الآمل، ومنار الواثق، وتحفة الراجي، ومعاذ الخائف، ومناخ الرغبة، ومشوع الهمم، ومعطف الوسائل، ومعرج الأماني، ومجنب الوصلات.
قال ابن الأعرابي: يقال ما يجنب إلى لقائك، ولا تزف نعام القلوب إلى طلعتك، ولا تثنى خناصر الشمال بك.
وقال: قوله لا يجنب إلى لقائك أي لا يصيب من عرفك من الشوق إلى لقائك والمحبة لرؤيتك ما يدخل عليه من المشقة كما يدخل على هذا الجنب الذي قد عطش حتى لصقت رئته عطشاً؛ تقول قد جنب جنباً إذا صار إلى ذلك، ومنه قول ذي الرمة: البسيط كأنه مستبان الشك أو جنب وقوله: لا تزف نعام القلوب إليك، فهذا مثل، يقول: لا يشتاق إليك، ولا يتفكر في ذلك. وقوله: لا تثنى خناصر الشمال بك، يقول: إذا عد الأشراف لم تذكر أولاً ولا ثانياً، ولا بعدما ينقضي عدد أصحاب اليمين، ولا تثنى أيضاً خناصر الشمال بك، وعادة الأعراب أن يثنوا الخمس من اليمين ثم يصيروا إلى اليسار؛ هكذا قال ابن الأعرابي.
قال إبراهيم ابن المهدي لأحمد بن يوسف: لعن الله زماناً أخرك عمن لا يساوي كله بعضك.

سمعت ابن كعب الأنصاري يقول: صار الفضل بن الربيع إلى أبي عباد في مكتبه يسأله حاجة، فأرتج عليه في الكلام، فقال له أبو عباد: بهذا اللسان دبرت خليفتين؟! فقال: يا أبا عباد، إنا اعتدنا أن نسأل ولم نعتد أن نسأل.
قيل لأبي العيناء: هل بقي في دهرنا من يلقى؟ قال: نعم، في البئر.
قال المأمون لقارىء: اقرأ، فقرأ " فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله " المائدة: 29، فحصبه.
صعد عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن منبر المدينة، وكان قد هم بالخروج، فبلغه أن بعض أصحابه تفوه بكلام فقال: إنه لا يزال يبلغني أن القائل يقول: إن بن العباس فيء لنا، نرتع في أموالهم، ونخوض في دمائهم، عزم بلا علم، وفكر بلا روية، وخطة يركبها الغاوون. عجباً لمن أطلق بذلك لسانه، وبسط به يده، أطمع في ميلي معه، وبسطي يدي بالجور له؟ هيهات، فاز ذو الحق بما يهوى، وأخطأ الظالم ما تمنى، حق كل ذي حق في يده، وكل ذي دعوى على حجته؛ لم يخطىء المنصف حظه، ولم يبق الظالم على نفسه؛ حق لمن أمر بالمعروف أن ينهى عن المنكر، ولمن سلك سبيل الحق أن يصبر على مرارة العذل؛ كل نفس تسمو إلى هتمها، ونعم الصاحب القناعة، ثم توارى عن الناس وأضرب عن الرأي والخروج.
هكذا يكون الشريف في دينه ونسبه وعفته وأدبه، لا كقوم نسأل الله عز وجل العياذ من شرهم، والصلاح لهم في أنفسهم، فإن الإسلام لم يخلولق رسمه، ولا عفى أثره، ولا تخلخل ركنه، إلا بما ظهر من الفساد في معدن النبوة وأرض الرسالة، ولله عز وجل أمر هو بالغه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال عبد الله بن عباس بن الحسن لأحمد بن أبي خالد الأحول: إن من العجب ضيق الملك بأموره، واختلاطه في تدبيره، وليس فوق يده يد لأحد من رعيته يدفعها، ولا دون سطوته جنة يجتنها إذا ضاق في ما لا ينازع فيه، واختلط في ما لا يغالب عليه، فكيف لو لقي بمثل عزه، وغولب بمثل سلطانه، وأحترس منه بمثل مواتاة زمانه، هناك يفدحه الضيق، ويغلب عليه الأختلاط، ويؤيس له من راحة الوقار، فما اختلاطك فيما لا تدفع عنه، وما ضيقك بأمر لا تغالب دونه؟! قال فيلسوف: أصدق الناس لك في وده، من بذل لك ملك يده.
قال عطاء بن أبي رباح: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: يا أيها الناس اتقوا الله عز وجل، ولا يحملكم العسر أن تطلبوا الرزق من غير حله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم احشرني في زمرة المساكين ولا تحشرني في زمرة الأغنياء، فإن الأشقياء من جمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة.
هذا الحديث رواه لنا أبو بكر الشافعي ببغداد سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وإنما أحذف الإسناد لأن الغرض يقرب والمراد يسهل، والإسناد يطيل ويمل المستفيد، على أن الإسناد زين الحديث وعلامة السنة وسبب الرواية.
وقال أبو بكر الواسطي: العارفون وحش الله في أرضه، لا يستأنسون بغيره.
قال ابن عباس: سمعت علياً رضي الله عنه يحض الناس بصفين فيقول: معاشر المسلمين، استشعروا الجرأة، وغضوا الأصوات، وتجلببوا بالسكينة، وأكملوا اللأمة، وأقلقوا السيوف في الأغماد قبل السلة، وآلحظوا الخزر، وآطعنوا الشزر، وكافحوا بالظبى، وصلوا السيوف بالخطى، والبنان بالرماح. فإنكم بعين الله ومع ابن عم نبيه.
يقال: علم الزمان لا يحتاج إلى ترجمان.
شاعر: الطويل
ظللنا بيوم عند أم محمد ... نشاوى ولم نشرب طلاء ولا خمرا
إذا صمتت عنا صحونا لصمتها ... وإن نطقت هاجت لألبابنا سكرا
قال فيلسوف: لا ينتفع بالعقل إلا مع العلم، ولا ينتفع بالعلم إلا مع العقل، ولا ينتفع بالعلم والعقل إلا مع الأدب، ولا ينتفع بالأدب إلا مع الأجتهاد، ولا ينتفع بالأجتهاد إلا مع التوفيق.
قال يونس لا يقبل منه صرف ولا عدل هو الحيلة والفداء؛ وقال الحسن، وكان خيراً منه: هو الفريضة والنافلة.

أتى وائل بن حجر النبي صلى الله عليه وسلم فأقطعه أرضاً وقال لمعاوية: أعرض عليه هذه الأرض وأكتبها له؛ وكان معاوية كاتب النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مع وائل في هاجرة شاوية، ومشى في ظل ناقة وائل، فقال له: أردفني على عجز راحلتك، فقال له: لست من أرداف الملوك، قال: فأعطني نعليك، فقال: ما بخل يمنعني يا ابن أبي سفيان، ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلي، ولكن أمش في ظل الراحلة فحسبك بها شرفاً. ثم إنه لحق زمان معاوية ودخل عليه، فأجلسه معه على سريره وتحدث بهذا الحديث.
قال عكرمة الأعرابي: بنى أعرابي على أهله ولم يولم، فأجتمع الحي بفنائه وصاحوا: الرجز
أولم ولو بيربوع
أو بقراد مجدوع
قتلتنا من الجوع
فاحتال لهم وأطعمهم.
رأى بعض الصالحين ابناً له قد أطال السجود فقال: يا بني أرفع رأسك فإنك صبي، فقال: يا أبت كم من زرع أصابته الآفة من قبل أن يدرك؛ كان يونس يعجب من هذا الكلام.
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة حين صفح: فعلوا بك وفعلوا، فقال: إني سميت محمداً لأحمد.
استعرض الحسن بن وهب غلاماً فقال له: اكشف عن ساقيك وذراعيك وكذا وكذا، والغلام يخجل من ذلك، فقال نجاح الكاتب للغلام: لا تخف، إنك أنت الأعلى.
وجهت سحاقة إلى حبيبتها: ابعثي لي بكندرك الذي تمضغين بين دينارين، فبعثت به إليها وقالت للرسول: قولي لمولاتك ردي الطبق والمكبة.
قيل لبهلول المجنون: أتشتم فاطمة وتأخذ درهماً؟ قال: لا، ولكني أشتم عائشة وآخذ نصف درهم.
العرب تقول: إن أعطيت فأجزل، وإن منعت فأجمل.
يقال إن مما فضل به كسرى أن منطقته كانت ستة عشر شبراً، وجيبه كان سبعة أشبار، وكان يأكل كل يوم مهراً مشوياً من الخيل، وعناقاً زرقاء حمراء مغذاة بألبان النعاج، يذبحان بسكين من ذهب، ويسجر له التنور بالعود حتى ينتهي منتهاه، ويسمط ما يسمط بالخمر المغلي بالمسك، ويطلى بالعنبر والمسك والملح، ويعلق في سفود من ذهب، ويارجين من ذهب، وسكين من ذهب، فإذا برد حمل ووضع على خوان من ذهب، فيه أربعة آلاف دينار، ويقدم إليه فيتناول منه ما أحب، ثم يتحف به من أحب من ندمائه، ويكسر التنور، ويجدد كل يوم مثله. وكان له في كل يوم لون ينفق عليه اثني عشر ألف درهم يخرج لؤلؤة صفراء قد شريت باثني عشر ألف درهم وتسحق في ذلك اللون، يتداوى به للجماع، فكان يجامع كل يوم وليلة ستين مرة.
نزل أبو دلامة بدهقان يكنى أبا بشر، فسقاه شراباً أعجبه فقال: الطويل
سقاني أبو بشر من الراح شربة ... لها لذة ما مثلها لشراب
وما طبخوها غير أن غلامهم ... سعى في نواحي كرمها بشهاب

قال عبيد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات: بنو هاشم ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأعظم، والكاهل الأضخم، ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، وهم النصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم، وثهلان ذو الهضبات في الحلم، والسيف الحسام في العزم، مع الأناة والحزم، والصفح عن الجرم، والقضية بعد المعرفة، والصفح بعد المقدرة، وهم الأنف المقدم، والسنام الأكوم، والعز المشمخر، والصيابة والسر، وكالماء لا ينجسه شيء، وكالشمس لا تخفى بكل مكان، وكالذهب لا يعرف بالنقصان، وكالنجم للحيران، والبارد للظمآن، ومنهم الثقلان، والأطيبان، والسبطان، والشهيدان، وأسد الله، وذو الجناحين، وذو قرنيها، وسيد الوادي، وساقي الحجيج، وحليم البطحاء، والبحر والحبر، والأنصار أنصارهم، والمهاجرون من هاجر إليهم ومعهم، والصديق صديقهم، والفاروق من فرق بين الحق والباطل منهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم. وكيف لا تكون العرب على ما ذكرنا، وقريش على ما بينا، وبنو هاشم على ما وصفنا، ومنهم رسول رب العالمين سيد المرسلين، وإمام المتقين، وهادي المؤمنين، والداعي إلى صراط مستقيم، نبي الرحمة والمنقذ من الهلكة، والمبشر بالجنة، صلى الله عليه وسلم وأعلى ذكره، وجعل أمته خير أمة، وجعل رهطه يؤتون من كل فج عميق، وأوب سحيق، إليهم ترد الأخلاق الجميلة، والعقول الكاملة، وكل خلق وكل عقل من كل صنف من أصناف الناس، ومن الآداب واللغات والعادات والصور والشمائل، عفواً بلا كلفة ولا مؤونة، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، ولم يخصص بذلك أحد من الأنبياء غيره، وختم الله عز وجل به النبوة والرسالة، ليستكمل كل فضيلة، والرجل من أهله يوزن بأمة من الأمم، وهو عليه الصلاة والسلام يوزن بجميع الأمم، وصير أمته خير الأمم ليكونوا أعلم الأمم، بما عرفوا من شؤون الأمم الخالية، والقرون الماضية، فلا شبيه له ولا نظير، وهو خير البرية، وأكرمهم على الله عز وجل، فصلوات الله عليه وسلامه وبركاته ورحمته.
قد تضمن - أيدك الله - هذا الكلام كتاب النحل لأبي عثمان، إلا أني نقلت من كتاب الرتب هذا الفصل والفصل المتقدم في الجزء الأول، وعليه سمة كلام أبي عثمان ونوره، ثم لا أدري كيف الحال فيما عدا هذا الظاهر من الباطن، لأن الباطن لا يستقر معه اليقين، ولا تثبت عليه الشهادة، وإنما ينقسم فيه الظن والتوهم والحقيقة من ذلك على بعد. نسأل الله عز وجل أن يصل رأينا بالإصابة، وعلمنا باليقين، وعملنا بالإخلاص، وأعتقادنا بالحق، ولساننا بالصدق، وطويتنا بالخير، وعاقبتنا بالسعادة، فلا مأمول غيره، ولا مرجو سواه.
قال العباس بن محمد: قلت لرقاق: كم تروجين؟ قالت: أنفقه ما نفق، فإذا كسد أطعمته ما كسب.
تزوجت امرأة زباء رجلاً أصلع، فرآها تنظر إليه وتفكر، فقال لها: ما لك؟ قالت: كنت أشتهي أن تكون صلعتك على حري ويكون شعر حري على صلعتك حتى أستريح من النتف ويكون لك جبهة.
سأبت بنت زيات بنت سمان، فقالت لهما أخرى: لا تكثرا، فما الزيات والسمان إلا سلح قطع بنصفين.
العرب تقول: لا تيأس أرض من عمران، وإن عفاها الزمان.
قالت جارية قاسم التمار: لا تفلح امرأة خشنة الشفرين، ولا رابية المنكبين.
قالت امرأة لبشار الأعمى: يا أبا معاذ، هل رأيت وجهك قط؟ قال: لا، قالت: لو رأيت وجهك لا تزرت عليه كما تأتزر على آستك من قبحه، فقال لها بشار: اغربي قبحك الله.
قال أبو عبيدة: أوصى علي بن عبد الله بن عباس إلى سليمان بن علي وترك محمداً، وكان أسن ولده، وقال له: يا بني إني أنفس بك أن أدنسك بالوصية.
وضرط ابن سيابة في جماعة ولم يتشور، وقال غير مكترث: ذلك تقدير العزيز العليم.
وقال أبو بكر الواسطي: العارف ينظر إلى الخلق فيرى فيه ربوبيته، وينظر إلى الدنيا فيرى فيها خيال آخرته.
وقال أبو بكر أيضاً: هيبة العارف بالله تعالى ممزوجة بسروره، وخوف مفارقته ممزوج برجاء اتصاله، وشوقه إلى لقائه ممزوج بالحياء منه، فلا هيبته تذهب بسروره، ولا خوف مفارقته يغلب رجاء اتصاله، ولا الحياء منه ينفره عن الشوق إلى لقائه.
العرب تقول: فلان شمري أحوذي، ويقال سمري أيضاً؛ هكذا وجدت بخط منسوب.

سمعت أبا بكر ابن الأمام المقرىء البغدادي يقول: كان عندنا ببغداد رجل يهوى امرأة جار له، فقال لها ليلة وقد علاها يحشوها: علمت يا فلانة أن الناس يتهمونني بك، قالت: وما عليك أن يأثموا وتؤجر، فقال لها وهو يغوص فيها: الله عز وجل حسيب الظالم.
نزل ابن أبي فنن الشاعر في جوار زريات المغنية، فكايدته جارية من جواريها، فقالت له: يا شيخ، تحول من جوارنا لا يقول الناس إن هذا الهجاء أبو هذه المغنية، فقال لها: الذي يلزمني من العار أكبر، لأن الناس يقولون: هذا الشاعر أبو هذه القحبة.
أنشدنا أبو سعيد السيرافي لأبي هفان يخاطب إبراهيم بن المدبر وقد خرج مصعداً إلى بغداد من البصرة: الرمل
يا أبا إسحاق سر في دعة ... وامض مصحوباً فما منك خلف
إنما أنت ربيع باكر ... حيث ما صرفه الله انصرف
ليت شعري أي قوم أجدبوا ... فأغيثوا بك من بعد العجف
ساقك الله إليهم رحمة ... وحرمناك لذنب قد سلف
وأنشدنا هذه الأبيات المرزباني لأبي شراعة.
قال ذو النون المصري رحمه الله: سألت حكيماً عن العقل فقال: العقل شجرة أصلها العلم، وفرعها العمل، وثمرتها السنة.
وحدث الحسن البصري بحديث، فقال له رجل: عمن أصلحك الله؟ فقال: وما تصنع بعمن؟ أما أنت فقد نالتك موعظته، وقامت عليك حجته.
قال السري السقطي: كل معصية في شهوة يؤمل غفرانها، وكل معصية في كبر لا يؤمل غفرانها، لأن معصية إبليس كانت من كبر، ومعصية آدم كانت من شهوة.
قال الزجاج: إنما سمي الخل خلاً لأنه اختل بالحموضة، قيل له: فإن العسل أيضاً خل لأنه أخل بالحلاوة عن الحموضة، فقال: هذا لا يلزم، لأن الأصطلاح سبق بالمعنى الذي دل على الاشتقاق، ولم يسبق المعنى فيقع عليه قياس.
شاعر: الكامل
ذهب الزمان برهط حسان الألى ... أضحت منازلهم كأمس الدابر
وبقيت في خلف تحل ضيوفهم ... منهم بمنزلة اللئيم الغادر
سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر
يقال: من أخذ نملة حمراء من المقابر وجعلها في داره خرج النمل منها.
اجتمع الرضا والمأمون والفضل بن سهل على مائدة، فقال الرضا مبتدئاً: إن رجلاً من بني إسرائيل سألني: النهار خلق قبل الليل، أم الليل خلق قبل النهار، فما عندكما؟ فقال الفضل للرضا: قل أنت، فقال الرضا: من القرآن أو من الحساب؟ فقال الفضل: من الحساب، فقال: قد علمت أن طالع الدنيا السرطان، والكواكب في مواضع شرفها، وزحل في الميزان، والمشتري في السرطان، والشمس في الحمل، والقمر في الثور، وذلك يدل على أن كينونة الشمس في الحمل في العاشر من الطالع في وسط السماء؛ يوجب ذلك أن النهار خلق قبل الليل. وأما دليل ذلك من القرآن فقوله تعالى " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار " يس: 40.
أنشد: الطويل
غنيت زماناً بالشباب ولم أزل ... بودي أبقى بالشباب ممتعا
فلما تفرقنا كأن الذي مضى ... من العيش لم ننعم به ساعة معا
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الفاجر وجدواه، والغريم وعدواه، والعمل الذي لا ترضاه؛ اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك.
قال يحيى بن كامل: متى دفع رجل إلى صاحبه دراهم ليقضي بها عن نفسه دينه، ويشتري ببعضها خمراً، إن تلك الحركة واحدة وهما فعلان: طاعة ومعصية كانتا لخذلان وعصمة. وقال سعيد المقرىء: بل هي فعل واحد، طاعة من جهة ومعصية من جهة.
وقال يحيى: قد كان يجوز أن يجعل الله الصغائر كبائر والكبائر صغائر.
وقال برغوث: لا يجوز أن يخلق الله عز وجل إلا جزءين ليكون أحدهما مكان الآخر. وقال يحيى: يجوز أن يخلق جزءاً لا في مكان، كما خلق العالم لا في مكان.
وقال برغوث: ليس يجوز أن يعلم الإنسان كل ما يجهله. وقال يحيى: يجوز أن يكون ذلك.
وقال يحيى: الطول مقدار الجزء وليس هو عين الطويل. فقال برغوث: يجوز أن يبقى بعض الخلق ولا يفنى البتة. وقال آخر: الأشياء تفنى على معنى تفرق الأجزاء. وقال آخر: بل على التلاشي.
وقال آخر، قال برغوث: يجوز أن يخلق الله عز وجل صحيحاً بالغاً ولا يخطر بباله شيئاً.

وقال يحيى: ثواب الله عز وجل أكثر من تفضله، وعقابه أشد من بلائه.
وأنشد: البسيط
يا أكرم الناس في ضيق وفي سعة ... وأنطق الناس في نظم وفي خطب
إنا وإن لم يكن ما بيننا نسب ... فرتبة الود تعلو رتبة النسب
كم من صديق يراك الشهد عن بعد ... ومن عدو يراك السم عن قرب
دخل محمد بن كعب القرظي على سليمان بن عبد الملك في ثياب رئة، فقال له سليمان: ما يحملك على لبس هذا؟ قال: أكره أن أقول الزهد فأطري نفسي، أو أقول الفقر فأشكو ربي.
نظر أعرابي إلى رجل جيد الكدنة فقال له: يا هذا إني لأرى عليك قطيفة من نسج أضراسك محكمة.
يقال: حصب في الأرض إذا ذهب.
العرب تقول: شر النساء الحميراء المحياض، والسويداء الممراض.
يقال: ليس على مختف قطع، أي ليس على النباش قطع، يقال خفاه واختفاه إذا أظهره، فكأنه يظهر الكفن، كذا قيل. السمهري: الرمح الشديد، يقال اسمهر الأمر إذا اشتد، وكذلك ازمهر، ويقال ازمهر الحر أيضاً. المذلق: المحدد، وفلان ذليق اللسان وذلق كما قالوا: رهيف اللسان، ويشار بذلاقة اللسان إلى استمرار اللفظ، ويشار بها أيضاً إلى شدة الجواب وإصابته. والربل: نبت، ويقال ربل القوم إذا كثر مالهم وهي الربالة. إناء روي: إذا كان يروي من يشربه، وماء روي ورواء إذا كان لا ينزح؛ جفالة الضائنة: صوفها، وجفالة الناقة: وبرها.
قيل لأعرابي: أي الناس أشد؟ قال: الأعجف الضخم، يعني الذي فيه عبالة، خفيف. هذا كله من كلام ابن السكيت في كتب مختلفة.
قيل لفيلسوف: أي الأشياء ينبغي أن تعلم الصبيان؟ فقال: الأشياء التي إذا صاروا رجالاً استعملوها.
قيل للإسكندر إن داراً قد عبأ جيشاً فيه ثلاثون ألف مقاتل وهو على أن يستقبلك به، قال: إن القصاب لا تهوله الغنم وإن كثرت.
قال فيلسوف: الحساد منهم مناشير لأنفسهم.
قال أرسطاطاليس: محبة المال وتد الشر كله، لأن الشر كله متعلق به.
قال فيلسوف: من القبيح أن يتولى امتحان الصناع من ليس بصانع.
رأى ديوجانس - وكان محمقاً في اليونانيين - زنجياً يأكل خبزاً أبيض محوراً، فقال: يا قوم انظروا إلى الليل كيف يأكل النهار.
رأى ديوجانس رجلاً في الحمام حوله جماعة يخدمونه ويدلكونه ويصبون عليه الماء وهو لا يتحرك، فقال: إني لأعجب كيف لم تعد من يدخل الأبزن مكانك.
ورأى رجلاً حسن الوجه كثير الشر، فقال: أما البيت فحسن، وأما الساكن فيه فخبيث.
ورأى امرأة قد حملها الماء فقال: على هذا جرى المثل: دع الشر يغسله الشر.
ورأى ديوجانس قملة تدب على رأس أصلع فقال: انظروا إلى اللص كيف يروم القطع في قفر.
وقيل له: ما المرأة؟ قال: مسح وخسران.
قال ديوجانس: من أراد أن يكون مذهبه جيداً فلتكن طريقته على ضد طريقة أكثر الناس.
وقال جالينوس: من أصابه قولنج فليأت كلباً نائماً، وليثره عن موضعه وليبل فيه.
قال جعفر بن محمد: من أنصف من نفسه، رضي به حكماً لغيره.
العرب تقول: شر الجيران من عينه تراك، وقلبه يرعاك، إن رأى حسنة سترها، وإن سمع سيئة نشرها.
لأعرابية في زوجها: المتقارب
يحب النكاح أبو مسهر ... وليس يطاوعه أيره
وقد أمسك البخل من كفه ... فأصبح لا يرتجى خيره
فيا ليت ما بحري في آسته ... ويملكني رجل غيره
قيل لأعرابية: ما للبرق البعيد أشوق من القريب؟ قالت: لأن القريب أرجى، والبعيد أيأس.
قال ابن الكلبي: الأقوال والأقيال من العرب: الملوك، والقمامسة: الأشراف، الواحد قمس، والبطارقة من الروم، الواحد بطريق، والمرازبة من الفرس، والطراخنة من الترك، والتكاكرة من السند والهند، الواحد تكرك، والأقاصرة - كذا قال، والسماع القياصرة - ملوك الروم، والأكاسرة مملوك الفرس، والتبايعة ملوك اليمن.
قال الحارث بن كلدة: إذا أردت أن تحبل منك المرأة فمشها في عرصة الدار عشرة أشواط، فإن رحمها ينزل ولا تكاد تخلف.
سمعت أشياخاً يقولون: من أمثال الفرس: ما دخل مع اللبن لا يخرج إلا مع الروح، والعرب تقول: آطبع الطين ما دام رطباً، واغرس العود ما كان لدناً قيل لأعرابي: ما اللذة؟ قال: قبلة على غفلة.
قيل لملك: فيم لذتك؟ قال: في ظفر، بعد دور، وليالي سمر.

وقيل لطفيلي: فيم لذتك؟ قال: في مائدة منصوبة، ونفقة غير محسوبة، عند رجل لا يضيق صدره من البلع، ولا تجيش نفسه من الجرع.
وقيل لتاجر: فيم لذتك؟ قال: في ربح على السوم، ونقد في اليوم.
وقيل لعالم: فيم لذتك؟ قال: في حجة تنبختر اتضاحاً، وشبهة تتضاءل افتضاحاً.
وقيل لراع: فيم لذتك؟ قال: في واد عشيب، ولبن حليب.
وقيل لأبي مزاحم الصوفي: فيم لذتك؟ قال: في سياحة البلاد، وطي البواد، وحضور النواد، ومفاكهة الأنداد، ومنافرة الأضداد.
وقيل لعابد: فيم لذتك؟ قال: في عمل يخلص، ورياء ينقص، وقلب عن الدنيا يسلو، وهمة إلى الله عز وجل تعلو.
وقيل لكاتب: فيم لذتك؟ قال: في معنى أنهيته، وكلام أنشيته.
وقيل لغاز: فيم سرورك؟ قال: في سرية مقبلة، وغنيمة مستقبلة.
وقيل لفقير: فيم لذتك؟ قال: في إزاحة العلل، وقضاء الوطر عللاً بعد نهل.
ساوم أشعب بقوس بندق، فقيل له: هي بدينار، فقال: والله لو كنت إذا رميت عنها الطائر سقط مشوياً بين رغيفين ما اشتريتها بدينار.
قال رجل لصاحب منزله: أصلح خشب هذا السقف فإنه يقرقع، قال: لا تخف إنما هو يسبح، فقال: أخاف أن تدركه رقة فيسجد.
صعد مخنث جبل لكام ليتعبد، فلما صعد فيه أعيا فقال: واشماتتي بك يوم أراك كالعهن المنفوش.
العرب تقول: كان كراعاً فصار ذراعاً، إذا ارتفع.
قال الأصمعي: رؤي أعرابي في حزيران على شاطىء نهر يغوص غوصة ثم يخرج فيعقد عقدة في حبل، فقيل له: ما هذا؟ قال: جنابات الشتاء أقضيها في الصيف.
قال صعصعة: أكلت عند معاوية لقمة فقام بها خطيباً، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت آكل معه فهيأ لقمة ليأكلها وأغفلها، فأخذتها، فسمعته بعد ذلك يقول في خطبته: أيها الناس أجملوا في الطلب، فرب رافع لقمة إلى فيه تناولها غيره.
العرب تقول: زج نضوك يبلغ بك.
دخلت جارية على راشد لتسأله عن مولاتها، فرأت حماراً أدلى، فشغلت بالنظر إليه فقالت: تقول لكم مولاني: كيف أير حماركم؟ فقال لها راشد: قائم والحمد لله.
قال طفيلي لرجل على المائدة: ما ألأمك! فقال الرجل - وكان صاحب المائدة - : سب النفس أهون من وقع الضرس.
قالت جارية عمرو بن العاص للأحنف: ما بال أستاه الرجال ينبت عليها الشعر وأستاه النساء لا ينبت عليها؟ فقال: أستاه ارجال حمى، وأستاه النساء مرعى.
العرب تقول في أمثالها: ويله كيلاً بلا ثمن لو أن له وعاء.
قال الجماز: أردت أن أتزوج جارية بصرية فقالت لرسولي: أريد أن أسمع كلامه، فقعدت قريباً منها فقالت لي: اذكر ما عندك، قلت: عندي دنانير ودراهم وثياب، قالت: ما سألتك عن هذا، إنما سألتك عن الفراش، قلت: واحدة في أول الليل، وأخرى في السحر، قالت: قم رحمك الله، فإنك إلى قبر أحوج منك إلى امرأة.
جازت امرأة بشيخ مؤذن وهو يمرس أيره بيده، فقال له: يا شيخ خله من يدك وعلي ضمانه.
العرب تقول: من احمر قرقر.
قال أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل: كانت لنا جارية مغنية فاحتضرت فقلت لها: قولي لا إله إلا الله، فقالت: الكامل
حضر الرحيل وشدت الأحداج ... وحدا بهن مشمر مزعاج
يقال: الأيكة من الأراك، والعيص من السدر، والغيطلة من الشجر، والعضهة من الطرفاء، والأجمة من القصب، والوشيجة من القنا، والغيصة من العشب، والوهط من العوسج.
يقال: فلان شديد العارضة وفلان شديد الأبهر إذا كان شديد الظهر، وشديد الأخدع إذا كان شديد العنق، وشديد النسا إذا كان شديد الساق.
لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتفعت الواعية بمكة، فقال أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: خطب جلل، فمن الخليفة بعده؟ قالوا: ابنك، قال: أرضيت بذلك بنو أمية وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: سبحان الله! يعارضون النبوة ويسلمون الخلافة، إن هذا لأمر يراد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليكون من أهل الصلاة والزكاة والحج والعمرة، وما يجزى يوم القيامة إلا بمقدار عقله، وفي رواية الطبراني لنا: إلا بمقدار عقله.
وقال أبو الدرداء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: إني والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري.
قال الشعبي: الكبائر: الإشراك بالله، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين، وقتل النفيس.

قال أحمد بن حابط: ابتدأ الله عز وجل الخلق جملة في دار غير هذه الدار، وأسبغ عليهم نعمه، ولم يكلفهم فيها شكره، ثم نقلهم إلى دار أخرى فوجاً بعد فوج، يأمرهم فيها ويختبرهم، فمن أطاعه فيها ولم يعصه رده إلى تلك الدار، ومن عصاه ولم يطعه رده إلى دار العقاب وهي جهنم، ومن عصاه في بعض وأطاعه في بعض أخرجه إلى هذه الدار.
قال الإسكافي وأبو عيسى الوراق: يجوز أن يكون الإنسان قاعدا قائماً، ومتحركاً ساكناً؛ هكذا حكى الكعبي وهو ثقة، وهذا من شنيع القول وفاحش الأعتقاد.
وما أدري ما أقول في هذه الطائفة التي تبعت آراء مشوبة، وأهواء فاسدة، وخواطر لم تختمر، وفروعاً لم يؤسس لها أصول، وأصولاً لم تشرع على محصول، لا جرم اتسع الخرق على الراقع، واشتبه الأمر على المستبصر، وخاست بضائع العلماء، وعاد الأمر إلى الهزل المقوى بجد، والباطل المزين بحق، وذهب التقى، وسقط الورع، وهجر التورع والتخرج، وصار الجواب في كل مسألة دقت أو جلت، أو اتضحت أو أشكلت، لا أو نعم، كأنهم لا يعلمون أنهم لا يعلمون كل شيء، ولا يحيطون بكل شيء، وأن الدين مشروع على التسليم والتعظيم والعمل الصالح، واعتقاد ما عري من الرأي المنقوص والعقل المنقوص، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجب في كل شيء، ولا أثار ما لم يكن مأموراً بإثارته، وأنه أمر بالكف والسكوت إلا فيما عم نفعه، وشملت عائدته، وأمنت عاقبته، بذلك بعث، وعليه حث وحث. إلى الله عز وجل أشكو عصرنا وعلماءنا، وطالبي العلم منا، فإنه قد دب فيهم داء الحمية، واستولى عليهم فساد العصبية، حتى صار الغي متبوعاً، والرشد مقموعاً، والهوى معبوداً، والحق منبوذاً، كل يزخرف بالحيلة ولا ينصف، ويموه عليه بالخداع ولا يعرف.
ولقد رأيت شيخاً من أبناء ستين سنة وهو يقول: ما ناظرت قط في إثبات الرؤية من ينفيها إلا انقطعت، ولا أتيت بحجة إلا زوحمت، ولا عولت على أصل إلا نوزعت، وما أمدي في ذلك إلا هواي في أني أحب إثبات الرؤية، وأستوحش من نفيها، فأنا أتبع ما يقوى في نفسي، لأن الله عز وجل قاذف تلك المحبة في نفسي، ومتوليها دوني، ولو كان العمل على بيان الخصم واحتجاج النظير وشواهد المناظر، لقد كنت تحولت في ألف مقالة، فإني لا أسمع خطبة مقالة، ولا ألحظ ظاهر نحلة، إلا وأرى له من البهاء والحلاوة والحسن والشارة ما لا أجد لغيره، فإن ذهبت إلى تكافؤ الأدلة قهرت العقل، وفارقت المحجة، وإن ملت إلى تخليص الحجة من عوارض الشبهة رمت كؤوداً، ورهقت صعوداً، لكني مع ما ألقي في روعي لأني واثق به، وذلك أني لم أجلبه ولم أكسبه، وإنما هو شيء سبق إلي سوقاً، وشوقت إليه شوقاً، ولأن أكون مع هذه الدواعي أحب إلي من أن أطيل المنازعة وأكثر البحث، فإن آفة المنازعة ثوران الطباع وهيج النفس وعصبية الهوى، وآفة البحث التردد بين الاستيحاش والتحير على غير يقين يمسك الفؤاد، ولا عمل يزود إلى المعاد.
هذا كلام هذا الرجل، ولعل فتنته فيما ذهب إليه، وعقد إصبعه عليه، أخف من فتنة غيره، وإذا كان بعض ما يعتري خائض هذا العمر، وراكب هذا البر، فما نقول بأمور أدق من هذا وأخفى؟! ولهذا قال بندار بن الحسين، وكان شيخ فارس علماً وفضلاً ونبلاً: ما نظرت في الكلام قط إلا رأيت في قلبي منه قسوة، وعلى لساني منه سطوة، وفي أخلاقي مع خصومي جفوة.

وكان أبو زيد المروزي يقول - وشاهدته بمكة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة - : كنت أقرأ علم الكلام على الأشعري أيام حداثتي بالبصرة، فرأيت في المنام كأني قد فقدت عيني جميعاً، فأستعبرت حاذقاً بعلم الرؤيا فقال لي: لعل هذا الرائي قد سلخ دينه، وفارق حقاً كان عليه، فإن أوضح دلائل البصر على الدين والعقيدة. قال: فأستوحشت من هذه العبارة، وأنقبضت عن المجلس، فسأل عني وجد في تعرف خبري وألح على نظرائي، فلم أرتح ولم أهتز، فبينا أنا على انقباضي إذ جمعني وإياه طريق، فبدأني بالسلام، وأطال طرف الحديث، وشهد تعسري في الإجابة، وأستيحاشي من الطريقة، فقال لي عند آخر كلامه: إن كنت تنفر من مقالتنا التي شاهدناها ونصرناها، فاحضر واقرأ أي مقالة أحببت فإني أدرسها لك. قال أبو زيد: فأزددت في نفسي نفوراً، وكان سبب إلحافه وتشدده أني كنت حديث السن، وكان للعين في مجال، ثم ثبتني الله تعالى على هجران هذا الفن، وأقبل بي على الحق والفقه، وبلغني هذه الحال التي أسأل الله عز وجل تمامها وخير عاقبتها.
هذا نص ما حفظته عنه، وإن كنت قدمت بعض اللفظ وأخرت، فإني لم أحرف المعنى، ولم أزد فيه من عندي شيئاً، ولقد سمع هذا ابن المرزبان الشافعي سنة تسع وخمسين مع أصحابه بعد أن عاد أبو زيد من الحجاز والشام إلى مدينة السلام قاصداً إلى خراسان.
قامت امرأة تصلي بلا سراويل، فرآها ماجن، فانتظر بها حتى سجدت ثم وثب عليها وألقى ذيلها وحشا يطنها وهي لا تتحرك، فلما صب وقام أقبلت عليه وقالت: يا جاهل، قدرت أني أقطع صلاتي بسببك؟! قال رجل لجارية أراد أن يشتريها: لا يريبنك هذا الشيب فإني قوي على النيك، فقالت: يا هذا، حدثني: أيسرك أن تبتلى بعجوز مغتلمة؟! قال المقتدر لجارية عرضت عليه: أتشتهين أن أشتريك؟ قالت: إن اشتهيت أن تنيك! فاستظرفها واشتراها.
قال فيلسوف: لا تغتر بحسن الكلام إذا كان الغرض الذي يقصد به ضاراً، فإن الذين يسمون الناس إنما يقدمونه في ألذ طعام، ولا تستجفين الكلام الغليظ إذا كان الغرض سليماً نافعاً، فإن أكثر الأدوية الجالبة للصحة يشعة.
قال فيلسوف في رجل: عنف الناصح به أرضى عنده من ملق الكاشح.
وأنشد لمنصور التميمي المصري: الرمل المجزوء
ليس إلا مستنيل ... أو منيل مستطيل
أو مباه لمباه ... أو مجاز أو بخيل
قال أعرابي: أحسن الغناء ما أفهم السامع وأطرب الخاشع.
وقال أعرابي: إياك أن تكون صاحي اللسان سكران العقل.
لمنصور الفقيه: الرجز
ومغفل ذكر الأجل ... سما به طول الأمل
فما ارتقى حتى نزل ... مستكرهاً؛ ولم يقل
قط لشيء قد كمل ... وقد تناهى واعتدل
إلا تبينت الميل ... والنقص فيه والخلل
بعقب ما قيل؛ وهل ... ينجي من الله الحيل
والله ما شاء فعل ... سبحانه عز وجل
أصبح للناس مثل ... وعبرة لمن عقل
من نال من عز الدول ... ما لم ينل قط رجل
كان إذا قيل رحل ... نحو بلاد وفصل
تطأطأت كل الملل ... ولم تزل على وجل
حتى يقال قد قفل ... أمسى منيفاً كالجبل
ثم تلاشى واضمحل ... كأنه نجم أفل
قال فيلسوف - وهو زينون - لفتى رآه يتلهف على الدنيا: أحسب أنها بأسرها لك وأنت في لجة البحر قد أشرفت على الغرق، أكانت غايتك إلا النجاة بنفسك؟ قال: نعم، قال: فكذلك لو كنت ملكاً فنازعك في ملكك من يريد قتلك هل كنت تريد غير النجاة شيئاً؟ قال: نعم، قال له: فأنت الملك وأنت الغني، إلا أنك قد نجوت بنفسك وربحت لذة ما فاتك، ويبقى طلب ما إذا نلته كان سبيله هذا السبيل.
وقال زيتون: لا تخف موت البدن، ولكن خف موت النفس، فقيل له: لم قلت: خافوا موت النفس والنفس الناطقة عندك لا تموت؟ فقال: إذا انتقلت النفس الناطقة من حد النطق إلى الحد البهيمي، وإن كان جوهرها لا يبطل فإنها قد ماتت من العيش العقلي.
قال فيلسوف آخر: يا هذا لا بقليل تقنع، ولا بكثير تشبع.

قال كشاجم في كتاب النديم: واللحن عندهم يتخون الجمال، كما أن الفصاحة تعفي على القبح؛ وقال، قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس عمه وسمع منه كلاماً فصيحاً: بارك الله عز وجل لك يا عم في جمالك، أي في فصاحتك. قال: وكذلك الحديث الحسن تقبله النفس أولاً وتكرهه معادا؛ قال: وأقول أيضاً: كما أن الألحان أشرف المنطق كذلك نفس الطروب والمستخف لها أشرف النفوس.
وقال أيضاً: كتبت إلى صديق لي: الكامل المجزوء
إن كنت تنكر أن في ال ... ألحان فائدة ونفعا
فأنظر إلى الإبل التي ... هي ويك أغلظ منك طبعا
تصغي لأصوات الحدا ... ة فتقطع الفلوات قطعا
ومن العجائب أنهم ... يظمونها خمساً وربعا
فإذا توردت الحيا ... ض وحاولت في الماء كرعا
وتشوفت للصوت من ... حاد تصيخ إليه سمعا
ذهلت عن الماء الذي ... تلتذه برداً ونقعا
شوقاً إلى النغم التي ... أطربنها لحناً وسمعا
قال فيلسوف: إذا لم تكن كما تريد فلا تبال كيف كنت.
وقال أعرابي: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
يقال في العربية: أرادني بكل ريدة: والفرق بين المريد والرائد أن المريد قد تتوجه إرادته نحو ما لا يصح له ولا يدنو منه، والرائد هو الذي قد نال مراده وتمكن، ومنه راد الفرس، ومرود الفرس، وهذا مراد المال لأنه يريده أي سرح فيه؛ يقال: سرحته وسرح هو فأنسرح، وهو المنسرح في العروض، وفي قول الله عز وجل " وحين تسرحون " النحل: 6 أي ترعون ما لكم؛ قيل لمملوك في العرب يرعى إبلاً: أنت راعيها، قال: الله راعيها وأنا مرعيها؛ هكذا حكاه الأصمعي.
والإرادة في الإنسان مركبة من شهوة وحاجة وأمل، والإنسان وعاء القوى، وظرف المعاني، وطينة الصور، ومعدن الآثار، وهدف الأغراض، وكل شيء له فيه نصيب، ومن كل شيء عنده حيلة، وله إلى كل شيء مسلك، وبينه وبين كل شيء نسبة ومشاكلة، وهو جملة أشياء لا تنفصل، وتفصيل حقائق لا تتصل، وهو أب العالم المتوسط بين العالمين، وله نزاع إلى الطرفين: إلى ما ينحط عنه بالشوق إلى الكمال، وإلى ما يعلو عليه بالتنزه عن النقصان؛ وهو مرتهن بالأسباب العالية والدانية، وتابع للغالب، ومنجذب مع الجاذب، وفاعل فيما علا عليه وقبل أثره، وقابل مما أنحط عنه وسرى إليه أثره.
وهذا فن لا يتسع القول فيه لضيق حدوده وإشكال حقائقه، وإنما نثرت ها هنا ما علق بقلبي من خلصان هذا العلم، وأفاضل هذا الشأن، وما نصيبي منه إلا كنصيب من حكى لغة لا دربة له بها، ولا عادة له في استعمالها، ولا أنس له بفهم اصطلاح أهلها، ولولا أني قد شرطت أن أصرف القول تصريفاً، حاكياً وقائلاً، لما أعرت هذا النمط من نفسي فراغاً، ولا قصدت فيه بلاغاً، فإن فيما جل عن هذا غنى عما دق من هذا.
هذا كتاب الله عز وجل، وهو المقنع والمفزع، وفيه الشفاء والبيان، والهدى والنور، وإليه مرد كل مشكل، وعليه معرج كل حيران: مجمله كاف للقلوب السليمة، ومفصله شاف للصدور السقيمة، وظاهره داعيك بما أوضح لك إلى تسليم ما بطن عنك، وباطنه مناجيك بما أشار إليه لتقف مع ما ظهر لك؛ هذا إن عرفت فرق ما بين الإلهية والعبودية، فأما وأنت مترجح بين الشبهة والبهتان، وبين الحجة والرهان، لا تميز جدب هذا من خصب هذا، ولا تفرق بين حقيقة هذا من تمويه هذا، فما أخوفني على ركنك أن ينثلم، وعلى وجهك أن يتوقح، وعلى نفسك أن تمرض، وعلى عاقبتك أن تكون خسراً.
اللهم فلا تكلنا إلى عجز يقطعنا عنك، ولا تقطعنا عن قوة تصلنا بك، ولا تحجبنا بإملائك لنا عن عادة إحسانك إلينا، فإن الطريق إليك وعر إلا إذا نهجته، والقلب عنك ساه إلا إذا هيجته، والتوكل عليك صعب إلا إذا سهلته، والقول فيك مشوب إلا إذا خلصته، فبك قوام كل شيء ونظامه، وإليك مصيره وانسياقه، ومنك فزعه وفرقه، ولك ذله وخشوعه، وعلى قدرتك دلالته، وإلى وحدانيتك إشارته، وعن إلهيتك نطقه وعبارته، وفي غيب ملكوتك تيهه وحيرته، ولبعده عنك غرارته وخسارته، ولقربه منك علامته وأمارته، ذلك لأنك أول كل شيء وآخره، وباطنه وظاهره، ومالكه وقاهره، فلك الحمد يا مظهر الكون، ويا قديم العين، ويا علياً عنا بلا كيف وأين.

العرب تقول: اعتلج الرجلان، إذا اصطرعا، ومن كلامهم: سوء الأستمساك خير من حسن الصرعة، والصراع: المصارعة، مثل الدفاع المدافعة والخصام المخاصمة، فأما الصراع - بضم الصاد - فداء من خاه ثائر يهيج بالإنسان فيصرعه. والمماغثة: الممارسة.
والشفا: حرف، مقصور، والحرف: جانب وطرف، ويقال: المريض على شفا أي قريب من الهلك والهلاك، والأشفية: الأدوية، وأشفى فلان أي قرب من المحذور، وبعض القبائل يقول: أشاف، فأما شاف فمعناه جلا أي نقى.
وفلان ذو أسرة كريمة أي أهل بيت، كأن أسرة الرجل ما هو مأسور به، أي مشدود به، لأن الرحم والقرابة يضمان على الإنسان ويشدانه، والأسر: الشد، ومن أجله قيل للأسير أسير لأنه مأسور، أي مشدود بالإسار، أي بالقد، واستأسر فلان: أي انقاد حتى شد، واستأسر فلان فلاناً أي أخذه أسيراً، وقول الله عز وجل " وشددنا أسرهم " الدهر: 28 أي أحكمنا خلقهم؛ هذا كله محفوظ.
والطعنة النجلاء هي الواسعة.
ومرد فلان الغصن إذا خرطه ورمى بما عليه من الورق، وكأن الأمرد من ذلك إذ الشعر في عارضيه نظير الورق على الغصن.
ورجل هاع لاع: أي جبان خوار.
ويقال: وقع في أسنانه القادح، أي الفساد.
والمتمطر: السريع، وهو أيضاً المتعرض للمطر أي الطالب له حتى يصيبه.
ويقال: صدر فلان أي اشتكى صدره، ولا يرفع صدره لأن الرجل اشتكاه، فأما الصدر فما اشتكي؛ هكذا قال الناشىء؛ والمصدور: الذي قد أصيب صدره، لأنك تقول بطنته فهو مبطون أي ضربت بطنه، كذلك تقول: صدرته فهو مصدور، والمصدور أيضاً الذي بصدره علة، وفي المثل: لا بد للمصدور أن ينفث، شبه المهموم الذي قد حرج بما كتمه وضاق ذرعاً بما طواه بمن أصاب صدره ما أنفثه، يقال: نفث ينفث إذا ألقى ما أجتمع في صدره، فكأن المهموم يطلب الراحة بإذاعة ما تجنه أضالعه، كما يجد المصدور الراحة بإلقاء ما قد اكتن في صدره.
ويقال: في صدره همهمة أي حشرجة، وهي النخس العارض، ومنه البيت لحاتم وتمثلت به عائشة رضي الله عنها حين احتضر أبوها وشاهدت العلز وأيقنت بالفراق: الطويل
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: لا تقولي هذا، ولكن قولي " وجاءت سكرة الموت بالحق " ق: 19 ويقال: سكرة الحق بالموت، هكذا قرأته، والصوفية تزعم أن هذه القراءة فيها إشارة لطيفة بتقديم الحق على الموت، وكان أبو حامد المروروذي يقول: لعله قرأه هكذا لما غمره من معالجة الموت، فإن اللسان قد يذهب في مثل تلك الحالة عن مذهب الصواب، وكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ بخلاف ذلك ولقنته الصحابة عنه، وسيرته في جزيرة العرب، وقد سمعه أبو بكر أيضاً في جملة الناس، ثم ينفرد عنهم بقراءة تخالف قراءة من نزل القرآن عليه، وأرسل جبريل إليه، إن هذا لعجيب! قال: وما أقول هذا كله بسبب هذا الحرف، ولكن يذكرني هذا أيضاً ما أنفرد به ابن مسعود وغيره، وإن كان بعض هذا ليوحش النفس ويوغر الصدر ويثير سوء الظن. وكنا إذا طال سماعنا منه هذا وأشباهه نقول: أيها القاضي، فكيف الوجه؟ فيقول: لعل الرواية في هذا الباب فاسدة، والإسناد إلى هؤلاء الفاضلين ضعيف، والأمر منظوم الأول والآخر، صحيح الباطن والظاهر، ولولا تكلف من تكلف، واعتراض من اعترض، لكان الأختلاف ساقطاً بواحدة، والوحشة منتفية دفعة، ولكن كثر الدخلاء في الدين، فاضطرب بهم حبل اليقين، وحجب الناس عن الصواب بالخطإ، واشتد المراء بين الجهال.
قال بختيشوع: الصفراء كالصبي، ترضيه التمرة، وتسخطه اللطمة، والسوداء كالحية في الجحر إذا هاجت نكت، والبلغم كالأسد لا ينشب مخالبه في شيء إلا هتك، والدم كالشرطي يغدو مع كل أحد من أسباب السلطان، وكذلك هو في ميله مع كل مائل.
وحدث أبو هفان وابن ماسويه حاضر أن جعفر بن محمد قال: الطبائع أربع: الدم وهو عبد، وربما قتل العبد سيده، والبلغم وهو عدو، إن سددت له باباً أتاك من آخر، والريح وهو ملك يدارى، والمرة وهي الأرض، إذا رجفت ترجف بمن عليها، فقال: أعد علي هذا، فو الله ما يحسن جالينوس أن يرصف هذا الترصيف.
قال أعرابي: كا امرىء يعمل في حظه.
ويقال في المثل: كل امرىء في شأنه ساع.
ويقال: أعشبت فأنزل وأوسعت فآبن: وجدت عشباً وسعة.

قال علي رضوان الله عليه: الصوت للحلق، والحروف للسان، والقلب للعقل، والكبد للحزن، والرأي للكليتين.
قال أعرابي لرجل أطعمه: أطعمك الله عز وجل الذي أطعمتني له، فقد أحييتني بقتل جوعي، ورفعت عني سوء الظن بيومي، فحفظك الله على كل جنب، وفرج عنك كل كرب، وغفر لك كل ذنب.
شاعر: البسيط
ما بات مذ عقدت كفاه مئزره ... قبيصة بن هلال وهو موتور
لا تقرب اللفظة العوراء مجلسه ... ولا يذوق طعاماً وهو مستور
قال ثعلب، قال أبو عمرو الشيباني: يقال للعين العذبة عيلم، وللعين المالحة يقال كذلك.
قال يونس: الجنة واحدها جني وجمع الجمع جن.
قال الزيادي، سمعت الأصمعي يقول: بيض الدجاج وبيظ النمل.
العرب تقول: المرء بكده، والفرس بشده، والسيف بحده؛ لو فطن لقيل في كل هذه بجده.
أنشد الناجم الشاعر: الرجز
رب نديم كلذيذ الغمض ... أعذب من ماء الحياة المحض
عاطيته ما بين نور غض ... صافية كالكوكب المنقض
قال ثعلب، قال ابن الأعرابي: العرب تقول: ساعات آخر النهار في الصيف أطول من ساعات غدواتها، وساعات غدوات الشتاء أطول من ساعات عشياتها، فلذلك قال الشاعر: الطويل
ألا ليت حظي من زيارة مية ... عشيات قيظ لا عشيات أشتيه
هكذا قال ثعلب، وأشتية في جمع الشتاء غريب، وإن كان كثير النظير، وباب الجمع لا أساس له ولا قياس عليه.
أنشد الناجم لأعرابي: الطويل
سقاك وإن سقيتني جرع الأسى ... من الغيث أنفاس غيوث هواطل
سحائب في جو السماء إذا انتحت ... فهن لبطن الأرض منها مناهل
بكين فأضحكن الثرى عن زخارف ... من الروض عنهن الثرى متخايل
كأن عيوناً وكلت ببروقها ... إذا ابتسمت تنهل منها هوامل
تلقحها الأنواء ليلاً بريقها ... فتصبح أبكاراً وهن حوامل
قال أبو عثمان النهدي: أتت علي مائة وثلاثون سنة وما شيء أنكرته إلا أملي، فإنه يزيد.
قال السكري عن الزيادي والتوزي قالا: أخبرنا الأصمعي قال، قال أبو عمرو: تقول العرب: المبلسم، ولا تقول المبرسم إلا لما يلف عليه الإبريسم.
وقال السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو: إذا غطي الشيء ليدرك نحو البسر والبطيخ والموز قيل: مغمول، ولا يقال: مغموم.
وقال أبو عمرو: إذا ضرب البعير الناقة قيل: قاع، فإذا قرع قيل: قعا.
قال أبو عمرو أيضاً: تقول العرب: امرأة مهيرة أي حرة.
والعرب تقول: الاتفاق بعد الأختيار، والفراق بعد الأختيار.
أنشد لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر: الطويل
سقتني في ليل سبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين بالشعر والدجى ... وصبحين من كأس ووجه حبيب
ليم أعرابي على لؤم المكتسب فقال: الأدب ما لم يكن له حلب بمنزلة الحارد من النوق التي لا ينتفع منها بمخض حقين، ولا قارص دفين.
وقال أعرابي: الأدب ما لم يجتلب قوتاً كالأرض الجدبة التي لا يمته عطشاها، ولا يخصب غرثاها.
لما مات مسلمة بن عبد الملك أوصى بثلث ماله إلى أهل الأدب وقال: هي صناعة مجفو أهلها.
قال المنصور لرجل: ما مالك؟ قال: ما يكف وجهي، ويعجز عن بر الصديق، قال: لقد لطفت في المسألة.
قالت عزة: كنت أحسن من الصلاء في الشتاء.
كان عمارة بن حمزة يمضي على خطئه أنفاً من الرجوع ويقول: نقض وإبرام في ساعة واحدة؟ الخطأ أهون من هذا.
هذا والله الكبر الصادر عن الجهل، كأنه ما سمع قول عمر رضي الله عنه وهو غرة الحكماء: الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل؛ وما في نقض وإبرام في ساعة واحدة لمن لا يعلم الغيب، ولا يعدم العيب، والخطأ منه عادة، والصواب منه هفوة؟ إنه لو عرف نفسه لعلم نقصه.
أنشد داود بن علي في خطبته بعد أن قال: نفعل ونصنع ثم أنشد: الكامل
حتى تبيد قبيلة وقبيلة ... ويعض كل مهند بالهام
ويقمن ربات الخدور حواسراً ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام
قال الربيع بن زياد: من أراد النجابة فعليه بالمق الطوال، ومن أراد التلذذ فعليه بالقصار، فإنهن كنائن الجماع.
يقال: إذا طال ساعد المرأة وساقها وعنقها أنجبت.

يقال: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، ومن عفو إلى ظلم.
العرب تقول: من مل اعتل، ومن جنى تجنى.
شاعر: البسيط
أما ترى الأرض قد أعطتك عذرتها ... مخضرة واكتسى بالنور عاريها
فللسماء بكاء في حدائقها ... وللربيع ابتسام في حواشيها
يقال: من فضل الناطق على الصامت أن الناطق يهدي ضالاً ويرشد غاوياً ويعلم جاهلاً.
قال هشام بن الحكم: ما شهد النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا أقربه من الوجه الذي جحده به، وذلك بقولهم: شاعر، فعلمنا أنه قال ما لم يعرفوه، وقال قوم: إنه ساحر، فعلمنا أنه قد أراهم الأعاجيب، وقالوا: كاهن، فعلمنا أنه قد ساحر، فعلمنا أنه قد أراهم الأعاجيب، وقالوا: كاهن، فعلمنا أنه قد أخبرهم بما يكون في غد.
قال بعض السلف: كلوا اللحم فإنه يزيد السمع والبصر، وما تركه امرؤ أربعين صباحاً إلا ساء خلقه.
قال عمر رضي الله عنه لابنه: كل يوماً لحماً، ويوماً سمناً، ويوماً لبناً، ويوماً زيتاً، ويوماً قفاراً.
القفار: هو البحت كأنه أخذ من القفر، وهو المكان العاري من النبات.
قال معاوية: إلصاق كلمة إلى كلمة أشد من وقع عصا على عصا؛ عصا: مقصورة، وإياك أن تقول عصاة.
قال الحارث: رأيت علياً يخطب قاعداً كقائم، ومحارباً كمسالم؛ يريد بهذا تمكنه ومضيه، وأنه لا احتفال عنده ولا تصنع، وأنه بخلاف المتصنع. ولعمري إن التصنع لبئس الخلق، والمفتضح به أكثر من المفتضح بالأسترسال لأن الله تعالى يقي المسترسل على قدر ما يكل المحتفل.
مضغت أعرابية علكاً، فقيل لها: كيف ترينه؟ قالت: فيه تعب الأضراس وخيبة الحنجرة.
منصور الفيه: المجتث
الموت أسهل عندي ... بين القنا والأسنه
والخيل تجري سراعاً ... مقطعات الأعنه
من أن يكون لنذل ... علي فضل ومنه
كاتب: وكان مثلي مع هذا الطبل المخرق، والدف الممزق، وصاحب الأكمام الفيوجية، والشوابر المجونية، والطاق والرواق، المتحلي بحلية أهل الغش والعيارة، التي تلحقه بأهل الخسارة، ما قال القائل: الرجز
والحزم إن ضيعته ... فآبشر بطول التعب
ذم أعرابي آخر فقال: إن الناس يأكلون أماناتهم لقماً، وإن فلانا يحسوها حسواً، وما ميراثه من آدم إلا أنه يسمى آدمياً، ولو نازعته الخنازير لشبهه بها لقضي به لها.
قال سهل بن هارون: تزيوا بزي الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة.
وقع ذو الرياستين: إني آئتمنتك على ديني، وأشركتك في أمانتي، ووضعتك موضع الثقة، فقولك مقبول، وكتابك المعتمد عليه فيه تدبير أمور ناحيتك، فأعرف عظيم الخطر الذي أصبحت فيه، وأد أمانة الله عز وجل فيما أنت بسبيله، تسعد في العاجل والآجل إن شاء الله تعالى.
ووقع ذو الرياستين أيضاً: نعم الشفيع في بقاء النعمة عليك حسن سيرتك، واعتماد الصيانة والعفاف، فدم على هذه الطريقة تبق لك النعمة إن شاء الله تعالى.
ووقع أيضاً: إن أسرع النيران التهاباً أسرعها خموداً، فتأن في أمرك إن شاء الله تعالى.
ووقع ذو الرياستين أيضاً: لا تجعلن توليتي إياك نظراً مني لك دون رجائي فيك للكفاية والغناء والنصيحة، فتنزل بك قدم تورثك الندم.
ووقع أيضاً: استدم بالشكر بقاء النعمة، وبالطاعة علو المنزلة، وإياك أن يورطك هواك فيما لا بقيا معه عليك، إن شاء الله تعالى.
لمنصور الفقيه: الخفيف المجزوء
قل لمصر إذا ترحل ... ت عنها مودعا
يا حمى ما خطا به اللي ... ث إلا مروعا
قل لنا ما الذي أعا ... دك للذئب مرتعا
أهلاك الحماة أم ... عجزهم أم هما معا
قال حكيم: من أمسك عن الفضول، عدلت رأيه أهل العقول.
وقع ذو الرياستين: أجمل في الطلب تكف كالمقادير ما هو كائن، فما كان لك أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقولك.

الحرص - أيدك الله - طباع الخلق، للعجز العارض في أصل البنية، ومما ينبهك على ذلك أنك لو فاتحت الأمة البلهاء، والمرأة الوراء، والشيخ المنجذ، والشاب الغرير، والبدوي القح، الفارسي الأعجم، والهندي الأبكم، والرومي المستغلق، والكيس الذكي، والفطن والغبي، لوجدت في أثناء حديثهم، وأعراض كلمهم، تسليماً إلى غيرهم، وتفويضاً إلى سواهم، وانقطاعاً عن إصابتهم باستطاعتهم، ول ذاناً بمن يجدون المراد بتسهيله عليهم، وهذا الذي هو أصل في الجوهر، وأول في الكون. فأما ادعاء القوة، وضمان الدرك، والأستبداد بالقدرة، والأستغناء عن تقلب القلب، وتصرف النفس، فما لا يقدم عليه إلا من ساء نظره لنفسه، وقل اعتباره في غيره، وحسن ظنه بما أعير من طاقته وتصرفه، ولو أنعم النظر، أو لو أعين بالتوفيق، لعلم أنه ملك أمراً ثم ملك عليه، وولي شأناً ثم استولي عليه، وأن الذي عرض له، وسيق حوه، لا يخلص بعلمه المحتاج إلى تأييده، ونظره الفقير إلى توفيقه.
سئل سقراط: ما الفرق بين من له أدب وبين من لا أدب له؟ قال: كالفرق بين الحيوان الناطق، وبين الحيوان الذي هو غير ناطق.
قال أرمانوس الملك - وكان من اليونانيين - إخوانه: إن عاملتموني كما يعامل الملك، عاملتكم كما تعامل الإخوة، وإن عاملتموني كما يعامل الأخ، عاملتكم كما يعامل الملك.
رأى فيلسوف رجلاً يعظ سكران ويقول له: أما تستحي أن تكون سكران؟ فقال له الفيلسوف: وأنت فلا تستحي أن تعظ سكران؟ قال موزون السوفسطائي: شيخوخة البدن هي منتهى النفس.
فيلسوف ظلمه إنسان فشد عليه فعضه، فقيل له: فعلت ما تفعله النساء، فقال: لا، بل ما يفعله الأسد.
قال رجل لفيلسوف: إنه لعظيم أن ينال الإنسان ما يشتهيه، فقال: أعظم من ذلك أن يشتهي ما لا ينبغي.
دعا بطلميوس، وكان ملكاً، حكيماً إلى المصير إليه، فأستعفى الحكيم من المصير إليه وقال: إن الملوك يعرض لهم كما يعرض لمن بصر بصورة، فإنه ما دام يراها من بعد فهو يتعجب، فإذا دنا منها لم ير موضع تعجب.
سئل مولون - وكان طباخاً من سقلية وقد فرغ من الألوان: إلى ماذا تحتاج؟ قال: إلى قوم جياع.
فيلسوف أتاه إنسان فقال له: إن ابنك قد قتل في حرب، فقال: ذاك لنسبته مني، وأتاه آخر فقال: إنه لم يقتل ولكن سبي، قال: ذاك لنسبته إلى أمه.
قال أفلاطون: ينبغي إذا عوتب الحدث أن يترك له موضع الجحود لئلا يحمله المراء على المكابرة.
وقع ذو الرياستين إلى طاهر بن الحسين في أمر أنكره عليه: يا نصف إنسان، والله لئن أمرت لأنفذن، ولئن أنفذت لأبرمن، ولئن أبرمت لأبالغن. فأجابه طاهر: أنا أعزك الله كالأمة السوداء، إن حمل عليها دمدمت، وإن رفه عنها أشرت، فإن عوقبت فباستحقاق، وإن غفر لها فبإحسان.
شاعر: مخلع البسيط
غصن من البان في وشاح ... ركب في مغرس رداح
تهتز ليناً بغير ريح ... والغصن يهتز بالرياح
غصن ولكنه فتاة ... بديعة الملح في الملاح
كأنما فرعها عليها ... قناع ليل على صباح
ترنو بطرف لها مريض ... بين جفون لها صحاح
تزهو بخد لها رقيق ... يكاد يدمى بلا جراح
قال شيخ من المشرق في عصر ذي الرياستين لأحداث كانوا يقتبسون الأدب من مجلسه: اعشقوا وإياكم والحرام، فإن العشق يطلق لسان العبي، ويفتح جبلة البليد، ويسخي قلب البخيل، ويبعث على التنظف وتحسين الملبوس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء وشرف الهمة.
شاعر: الكامل
مزجت بخمرة ريقها أكواسها ... فسقتك من يدها حياة الأنفس
فكأنما قمر سقاك بكفه ... شمساً تحساها النديم المحتسي
كتبت جارية للمتوكل على جبهتها: هذا ما عمل في طراز الله فتنة لعباد الله.
وكتبت ماجن - وهي جارية - : افتضحنا فأسترحنا.
وكتبت جارية البرمكي: لذتي في حل تكتي.
وكتبت غنج جارية الخزاعي: لا كنت إن خنت.
قيل لابنة الخس: كيف زنيت وأنت عاقلة لبيبة؟ فقالت: طول السواد، وقرب الوساد؛ قال ابن محارب القمي، وكان فيلسوفا: لو زادت: وحب السفاد لكانت قد تممت عذرها.
وقفت أعرابية على قوم فقالت: تيسروا للقاء الله تعالى فإن هذه الأيام تدرجنا إدراجا.

خرج أبو عمرو الأعرج مع نوفل بن عمارة المخزومي أخي الأسود بن عمارة إلى مكة، وكان بخيلاً، فقيل لأبي عمرو: كيف وجدت صحبته؟ فقال: امرأتي طالق إن لم يكن ظن بظني أنه ضربت عنقي، وذلك أنه كان يمكث ثلاثا لا يدخل في فيه شيء.
كانت أم زنين دلالة بالمدينة، وكانت عندها جارية مولدة فارهة تصنعها ترجو بها الرغائب، فلم تعلم إلا وقد أحبلها زنين ابنها، فشقت ثوبها ونتفت شعرها وصاحت، فقال لها زنين: ويلك! الذي حل بها أعظم من الذي حل بك، لأنها كانت ترجو أن تحبل من خليفة أو ابن خليفة فحبلت من ابن أم زنين القوادة.
سأل أعرابي قوماً، فقال رجل منهم: اللهم إن هذا سائلنا ونحن سؤالك، وأنت بالمغفرة أجود منا بالعطية، ثم أعطاه.
وقع بين رجل وامرأته كلام فتهاجرا أياماً، ثم إنه وثب عليها فأخذ برجليها، فلما فرغ قالت له: أخزاك الله، كلما وقع بيني وبينك شيء جئتني بشفيع لا أقدر على رده! قالت عجوز لزوجها: أما تستحيي أن تزني ولك حلال طيب؟! فقال: أما حلال فنعم، وأما طيب فلا.
قال أعرابي: من لم يكن له عند السوء صبر، لم يكن له عند الحسنى شكر.
قيل لحنيف الحناتم من بني الحارث بن تيم اللات بن ثعلبة: ما النشر؟ فقال: ندى الشمال في قصب الوسمي، يستأخر المطر بعد الوسمي فييبس البقل حتى تتحسحس جوانبه وتلتوي عروقه ويمصح ماء البقل وتذوي نورته، ثم إن الله عز وجل يرتاح له بمطر السماك فيصبح وقد أعد وتزهو نوره زرقاً، سوى النورة الأولة، فيزراق وتنتفخ عروقه، ويعرف النشر منه، بل يرى أخضر في عرض يابس، فيكون الأخضر فوق الأبيض، فيطرد الناس عنه أموالهم مخافة السهام.
قيل لابنة الخس: ما آية البرد؟ قالت: الريح تحت الغفار.
الآية: العلامة، والغفار: السحاب؛ هكذا قيل، وكأن الغفار من الغفر، والغفر: الإلباس والتغطية، ومنه غفر الله له، كأن الذنب يستر، ويقال: اصبغ الثوب فإنه أغفر للوسخ.
شاعر: الطويل
وريان من ماء الشباب يعيره ... مراح الصبا نفي الحيا المتلبد
تزودت منه نظرة فكأنها ... إذا خطرت بالقلب وقع مهند
عوتب الكسائي في ترك التزويج فقال: مكابدة العفة عنهن أيسر من الأحتيال لمصلحتهن؛ وقد سمعت هذا الجواب للعتابي، وهو به أليق.
قال الأحنف: نزلت هذه الآية في الثقلاء " فإذا طعمتم فانتشروا " الأحزاب: 53.
وكان علي يقول: أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل.
يقال إن أفلاطون مات مبرسماً، وأرسطاطاليس مات مجدوراً - ويقال أيضاً مات بالسل - وأبقراط مات مفلوجاً، وجالينوس مات مبطوناً.
يقال إن أول من عمل الصابون سليمان بن داود، وأول من عمل القراطيس يوسف، وأول من كتب في القراطيس الحجاج بن يوسف، وأول من عمل السويق ذو القرنين، وأول من خبز له الرقاق نمرود بن كنعان، وأول من لبس الخفاف الساذجة والكتان زياد.
قال أبو عبيدة: قال لي أبو مهدية: أتشرب هذا النبيذ؟ قلت: لا، قال: ولم؟ قلت: إنه يذهب بعقلي، قال: ويحك! إن ذهب اليوم عاد غداً.
قيل لأعرابي: ألا تمزجها؟ قال: حسبها ما شربت في كرمها.
كتب طاهر إلى أبيه رقعة يستزيده فيها ويلومه في تقديم أخيه عليه - وكان أسن منه - فوقع أبوه في ظهر رقعته: أكلت خراك بعود أراك، ليت أباك أشبه أخاك.
لمنصور التميمي الفقيه: الخفيف المجزوء
ربما نال وادع ... حظوة الطالب الملط
وله أيضاً: البسيط
لا والذي جعل الدنيا مغيرة ... الشر مجتنباً والخير متبعا
ما ساءني هجر من لم يرع سالفة ... ولم أكن بدنوي منه منتفعا
العرب تقول: وازنتني بفلان فرجحت عليه. وضع فلان على فلان أي مال. وتباين الأمر أي تباعد، وكذلك تشاخس. ومشى فلان إذا لان بطنه. والأصمعان: القلب الذكي والرأي العازم، أي المعزوم به، أو المعزوم عليه، كذا سمع. والأسودان: التمر والماء، والأيهمان: السيل والجمل الهائج، وهما الأعميان أيضاً.
ويقال: خرج السهم متصمعاً إذا خرج وقد ابتلت قذذه من الدم. وقذذه: ريشه. المدان: الذي قد باع آخر شيئاً بنسيئة، والمدين: المنسىء، والدائن: صاحب الدين، وقعد منتسئاً أي متباعداً.
ويقال: تعارض القوم بئرهم إذا جعل هذا يستقي نوبة وهذا نوبة.

ويقال: قابل نعلك أي اجعل لها قبالاً، أي زماماً، وقبائل الرأس: قطعه المشعوب بعضها إلى بعض، وكذلك قبائل كل شيء. ويقال: مقتبل الشباب: إذا كان في أنف شبابه.
ويقال: قاومني فما أنصفني أي ما بلغ نصفي، وناصفني أي قاسمني، وأنصف النهار ونصف أي بلغ نصفه، والمنصف والناصف: الخادم، والنواصف: مواضع غليظة. ورجل مضبر الخلق أي ملزز الخلق.
ويقال: جبيت الخراج - وجبوت أيضاً - أجبي، وجبا جباوة وجباية، والأجباء: حروف الآبار، والجابية: الحوض.
ويقال: انهلت السماء واستهلت إذا سالت بالمطر، ويقال: أهللنا الهلال أي رأيناه، قال الشاعر: الطويل
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ... كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي
وأهل الرجل إذا صاح، واستهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، وأهل الهلال واستهل، ونحن في مستهل صفر، هذا هو العربية؛ ويقال: وهل فلان إلى ذلك الأمر يهل وهولاً أي ذهب إليه وهمه إليه، ووهل يوهل وهلاً واستوهل إذا فزع. واشرأب الرجل إذا تطاول لينظر إلى الشيء، واسمأل أي ضمر، وارفأن أي سكن وارفأن أي فزع، والوقر: الحمل الثقيل، والوقر: الصمم، والوقار: السكون.
شاعر: الكامل المجزوء
ذهب التواصل والتعاطف ... فالناس كلهم معارف
لم يبق منهم بينهم ... إلا التملق والتواصف
وعناق بعضهم لبع ... ض في التساير والتواقف
لا تعقدن على المود ... دة للجميع ولا تكاشف
وابسط لهم وجه الموا ... فق واطو كشح فتى مخالف
صارفهم عند المو ... دة إنهم قوم صيارف
إني انتقدت خيارهم ... فالقوم ستوق وزائف
الستوق: ضرب من الزيف.
قال أعرابي يصف رجلاً: هو سكيت في بطش عفريت.
قيل لرجل: ما الكرم؟ قال: الاحتيال للمعروف، وقيل له: ما اللؤم؟ قال: الاستقصاء على الملهوف.
قيل لمزيد: في بيتك دقيق؟ قال: لا، ولا جليل.
حصر خطيب عند قوله: الحمد لله، فكررها، فقال مخنث كان بجنبه: الذي ابتلانا بك.
قيل لجحا: سل ربك النجاة من هول يوم القيامة. قال: ومن يبقة في هذه الدنيا إلى يوم القيامة؟! يقال: إذا أردت أن تمتحن دهن البلسان فخذ طاقة كراث واغمرها فيه وقربها من النار، فإن اشتعلت فهو غير مغشوش.
سمعت ابن عبدان الأهوازي يقول: استقبال الكلب إياك عند قصدك حاجة دليل على نجاحك فيها وقضائها.
وكتب آخر: لا عذر في غدر.
وكتب مفلس: اصبر فالدهر دول.
وقيل: كان على خاتم بزرجمهر: من لم يدار عيشه ضنك.
وقال قتيبة: إن الحريص ليتعجل الذلة قبل إدراك البغية.
وقال عون بن عبد الله: لا تكن كمن تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن.
شاعر: الوافر المجزوء
ومطوي على حرق ... يكابد لوعة الأرق
كأن فؤاده قلقاً ... لسان الحية الفرق
تكاد غروب عبرته ... تعم الأرض بالغرق
قال فيلسوف: كيف يرجو العقل النجاة، والهوى والشهوة قد اكتنفاه؟ وأنشد لابن المبارك: البسيط
حتى متى لا نرى عدلاً نسر به ... ولا نرى لدعاة الحق اعوانا
مستمسكين بحق قائلين به ... إذا تلون أهل الجوز ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له ... وقائد القوم أعمى قاد عميانا
قال فيلسوف: قهر البطن أعظم الحلم، فكن له ربا مالكاً، وإلا صار عليك والياً قاسطاً.
القاسط: الجائر، والمقسط: العادل؛ هكذا في القرآن الحكيم.

كتب كشاجم إلى بعض إخوانه يصف طباخاً جمع أشياء من آداب الطبيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، كتبت - أعزك الله - من المحل الجديب، والبلد القفر الذي أنا به غريب، عن سلامة الجوارح والحواس، إلا حاسة التمييز، فإنها لو صحت لما اخترت المقام بهذه المفازة، وأحمد الله عز وجل كثياً على كل نعمة ومحنة، ومن مصائبي - أعاذك الله عز وجل من كل مصيبة، وجنبك كل ملمة - أن نوحاً طباخنا توفي، فأرمضتني مصيبة، والمتنى فجيعته، وكان عنوان النعمة، وترجمان المروءة، وواسطة القلادة، فلهفي عليه، فلقد كان قوام جسمي، وزيادة شهوتي، وممتع زواري وأضيافي، أحذق أهل صناعته، وأبيتهم فضلاً، وأرهفهم سكيناً وأعدلهم تقطيعاً، وأذكرهاهم ناراً، وأطيبهم يداً، ما أكاد أقترح عليه شيئاً إلا وجدته قد سبقني إليه، معب للموائد، ملبك للثرائد، مع كل حار وبارد، كأن مائدته رياض مزخرفة، أو برود مفوفة، مرتب للألوان، منظف للخوان، لا يجمع بين شكلين، ولا يوالي بين طعامين، ولا يغرف اللون إلا وضده، ينضج الشواء، ويحكم الحلواء، ويخالف بين طعام الغداء والعشاء، يكتفي باللحظة، ويفهم بالإشارة، ويسبق إلى الإرادة، كأنه مطلع على الضمير من الزائر والمزور، فأودى فقيداً حميداً، ليس مثله موجوداً طريفاً ولا تلبيداً؛ فما ظنك - أعزك الله - بمبتلى تجمع عليه فقد مثل هذه العقدة النفيسة، وتطاول الأيام بهذه الناحية الممحلة الموحشة، والله - عز وجل - لا أتقي إلا الشماتة، ولست في ثغر فأحتمل عاجل الضنك، ولا بإزاء عدو فيشغلني مقارعته وحلاوة الظفر به والنكاية فيه عن ملاذ الطعام، وأسأل الله عز وجل الكريم المنان أن يختار لي ويعجل مما أنا فيه راحتي، ويبدلني خيراً منه زكاة وأقرب رحماً، بجوده ومنه. وكتابك - أعزك الله - إذا ورد علي نفى عني هذه الوحشة، وأمن غب هذه الهفوة، فإن رأيت - جعلني الله فداك - أن تهدي لي براً وصلة، ووصلة وأنسة فعلت، إن شاء الله تعالى.
إبراهيم بن العباس: الكامل
إن الزمان وما ترين بمفرقي ... صرفاً الغواية فانصرفت كريما
وصحوت إلا من لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما
سألت فنن، وهي جارية أديبة، كانت من آدب الجواري في زمانها، سالماً المعروف باليتيم في مذاكرة جرت بينهما طويلة، فقالت: أي الأمور ألذ عندك؟ محادثة الرجال، أم استماع الغناء، ام الخلوة بالنساء؟ فقالت: سألت عن أمور لا تصلح إلا بثلاثة أشياء، فقالت: وما هي؟ قال: لا تحسن محادث الرجال إلا بحسن التفهم، ولا الغناء إلا بشرب النبيذ، ولا الخلوة مع النساء إلا بالموافقة وسعة القدرة، قالت: فما الذي تختار منهن؟ قال: محادثة الرجال.
شار: السريع
وصاحب أصبح من برده ... كالماء في كانون أو في شباط
ندمانه من ضيق أخلاقه ... كأنه في مثل سم الخياط
نادمته يوماً فألقيته ... متصل الصمت قليل النشاط
حتى لقد أوهمني أنه ... بعض التماثيل التي في البساط
وقال كشاجم: وليجتنب النديم الحديث الطويل الذي تتعلق به النفوس، ويحبس على آخره الكؤوس، فإن ذلك بمجالس القصاص أشبه منه بمجالس الخواس.
شاعر: الرجز
ما حثت الكؤوس بالأوتار
كحثها بالملح القصار
إن الأحاديث من السمار
أجلب للهو من العقار
وقال علي بن الجهم: الرجز
وليلة كأنها نهار
سهرتها وفتية أخيار
لا جاهل فيهم ولا ختار
ولا على جليسه هرار
لهوهم الأسمار والأشعار
وملح تقدح منها النار
بمثلهم تعاقر العقار
وتمتع الأسماع والأبصار
وتدرك الآمال والأوطار
قال نجاح للمتوكل لما دعاه إلى منادمته: في خصال لا تصلح معها منادمة الخلفاء، قال: ما هي؟ قال: سلس في البول، وتنحنح إذا حدثت، ولا أقدر من الشراب على أكثر من رطلين، فقال المتوكل: من حق صدقك عنها أن تسامح فيها.
قال آخر: أمتع الجلساء الذي إذا أجبته عجب، وإذا فكهته طرب، وإذا أمسكت تحدث، وإذا فكرت لم يلمك.
قال أبقراط: الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع.

وقال آخر: خير الغداء بواكره، وخير العشاء بواصره، أي المبادرة به في بقايا النهار وضوئه بحيث يتمكن مه البصر قبل الإمساء والدخول في حد الليل والدنو من النوم والسكون؛ هكذا قال كشاجم.
وقالك سأل المأمون اليزيدي عن أخلاق العباس ابنه، وكان قد أمره بتأديبه وعشرته فأخبره أنه لا يفلح وأنه لا همة له، فقال له: وكيف علمت ذلك؟ قال: رأيته وقد ناوله الغلام أشناناً ليغسل يده، فاستكثر ما وقع في يده منه، فرده في الأشناندانة ولم يلقه في الطست، فعلمت أنه بخيل لا يصلح للملك.
يقال: رئيس سنن العرب المضمضة والسواك والاستنجاء، ورئيس سنن العجم الخلال وغسل اليد قبل الطعام وبعده.
قال أعرابي: هو أملح من المداري في شعور العذارى.
ابن مطير: الوافر
أحب معالي الآخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وأن أعابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا
ويروى للقدسي الكوفي يمدح الكتاب: الكامل
إن كنت تقصدني بظلمك عامداً فحرمت نفع صداقة الكتاب
السائقين إلى الصديق ثرى الغنى ... والناعشين لعثرة الأصحاب
والناهضين بكل عبء مثقل ... والناطقين بفصل كل خطاب
والعاطفين على الصديق بفضلهم ... والطيبين روائح الأثواب
ولئن جحدتهم الثناء فطالما ... جحد العبيد تفضل الأرباب
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: القناعة سيف لا ينبو، والصبر مطية لا تكبو، وأفضل عدة صبر على شدة.
أهدى أبو موسى الأشعري لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ألوانا من الخبيص، فقال له: ما هذا؟ قال: الخير عندنا كثير والمؤونة عندنا تخف. قال: هل أطرفت أحداً م أهل المدينة بشيء من هذا؟ قالك لا، قال: إياك أن يراه أغيلمة قريش فيضيقوا عليكم بلاداً كثيرة.
قيل لأعرابي أسرع في مسيرة: كيف كان مسيرك؟ قال: كنت آكل الوجبة، وأعرس إذا أسحرت، وأرتحل إذا أسفرت، وأسير الوضع، وأجتنب الملع، فجئتكم لمسي سبع.
أنشد الحجاج تميم بن الحارث شعره في أخيه: المنسرح
وسائل عن أخي فقلت له ... مات حميداً وغير مشترك
أليس بالسيف لا ينهنهه ... عن حومة الموت ضنك معترك
يمسي ويضحي عدوه وجلاً ... من خوفه موفزاً على شرك
فقال له الحجاج: أنت والله أشعر من أعشى باهلة حيث يقول: البسيط
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... من كل اوب وإن لم يغز ينتظر
فصير صديقه وعدوه يخشاه، وخصصت أنت عدو أخيك دون صديقه. وهذا مما ينشد في نقد الشعر.
وفي كتب الهند: لا ظفر مع بغي، ولا صحة مع نهم، ولا ثناء مع كبر، ولا صداقة مع غضب، ولا شرف مع سوء أدب، ولا برمع شح، ولا اجتناب محرم مع غرض، ولا محبة مع هزؤ، ولا عذر مع إصرار، ولا راحة مع حسد، ولا سؤدد مع انتقام، ولا رئاسة مع غيرة وعجب، ولا صواب مع ترك المشاورة، ولا ثبات ملك مع تهاون وجهالة.
سئل ملك: أي مكايد الحروب أعظم؟ قال: إذكاء العيون، واستطلاع الأخبار، وإظهار الغلبة، وإفشاء السرور، وإماتة الفرق، والاحتراس من البطانة من غير استقصاء لمن يستنصح، ولا استنصاح لمن يستغش، ولا تحويل شيء عن شيء.
قيل لأعرابية: كيف حزنك على ولدك؟ قال: ما ترك لنا حب الغداء والعشاء حزناً.
شاعرك: الطويل
لعمرك ما النائي البعيد بنازح ... إذا قربت ألطاقه ونوافله
ولكنهما النائي البعيد محجب ... قريب ولا تهدى إلينا رسائله
وما ضرنا أن السماك محلق ... بعيد إذا جادت علينا هواطله
قيل لرجل من العرب كان يجمع بين ضرائر: كيف تقدر على جمعهن؟ قال: كان لنا شباب يظاهرهن علينا، ومال يصورهن لنا، ثم قد بقي لنا خلق حسن فنحن نتعايش به.
شاعر: الخفيف
من ندى عاصم جرى الماء في العو ... د ومن سيفه دماء الجراح
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنا بوجه وقاح
قائم السيف أخضر من نداه ... وعلى مضربيه سم الذباح
يقال: أعصرت المراة فهي معصر، مثل راهق الغلام.

يقال: الغسل: الخطمي، وقد تفتح الخاء أيضاً، والغسل: الماء به الميت، والغسل: الحنظل يدق فيسقاه الأسير فيسهله حتى يقتله.
يقال: ما الأل، وما البل، وما التل، وما الثل، وما الجل، وما الحل، وما الخل، وما الدل، وما الذل، وما الرل، وما الزل، وما السل، وما الشل، وما الصل وما الضل، وما الطل، وما الظل، وما العل، وما الغل، وما الفل، وما القل، وما الكل، وما المل.
أما الأل فمصدر أله يوله إذا أصابه بالحربة، وهو جمع ألة أيضاً وجمعه أيضاً إلال، ورجب منصل الأل: كانوا ينزعون فيه زجاج الرماح تعظيماً له.
وأما البل فمصدر بله يبله بلا، والرحم تبل، وهو استعارة، كأنها إذا وصلت بالإحسان والزيارة والتفقد فقد نديت وابتلت لأن الجفاف مذموم كريه؛ وقولهم بللت به أي ظفرت به منه، والمعنى ينظم هذا الفن ولكن بسبب لطيف.
وأما التل فمصدر تله يتله إذا صرعه، وفي الكتاب المعجز " وتله للجبين " الصافات: 103؛ والتل أيضاً ديون الجبل، وجمعه تلال.
وأما الثل فمصدره ثل الله عرشهم إذا قوضه، وثل هو إذا تقوض وتهدم.
وأما الجل فاللقط، ومنه الجالة والجلالة.
وأما الحل فالشيرج، هذا مسموع، وهو مصدر حله يحله إذا فرق أجزاءه.
وأما الخل فما يصطبغ به، والخل أيضاً الطريق في الرمل، والخل أيضاً مصدر خللت الكساء إذا ضممت بين طرفيه بعود حديد الطرفين؛ والخل أيضاً الشحت من الرجال، أي الخفيف اللحم، والخل أيضاً المحتل.
وأما الدل فهو الشكل - بكسر الشين - أي الملح والتغزل.
وأما الذل فكأنه مصدر ذل، والمسوع هو الذل.
وأما الزل فمصدر زل يزل.
وأما السل فمصدر سله يسله سلا، وهو السرقة، وسل السيف إذا شامه أي جرده، ويقال شامه إذا أغمده، وأغمده إذا أدخله في غمده أي جفنه، ومنه استتلت سخيمة فلان أي استخرجت كامن حقده.
وأما الشل فالطرد، شل النعم والناس إذا ساقهم، والشلل آفة في اليد الشلاء تعطلها من التصرف، وهو استرخاء العصب وخدور الدم.
وأما الصل فمصدر صل اللحم وأصل إذا أروح وأراح، أي فسدت رائحته أي أنتن ونتن.
ومصدر أضل إضلال.
وأما الطل فاضعف المطر، وهو الندى الغامر من غير وقع المطر، ويقال طلت الأرض - بفتح الطاء - أي نديت، هذا الأعرب، وطل دمه أي بطل، ولا أدري كيف ينتظم اللفظان على معنى واحد إلا ان يتوهم الضعف في أخذ الثأر والقصاص كما توهم الضعف في الطل. وأما الطلل فما شخص من آثار الديار، والرسم مثله، وإلا أن الطلل أبين؛ وفلان ذو طلل إذا كان ذا منظر، ورأيت بدوياً بأثال سنة إحدى وستين، وكان يقال له مطلال، فقلت له: مم أخذ اسمك؟ قال: من إطلالي على العدو أي إشرافي عليهم، فقال له أميرك بن ميكال النيسابوري، وكان في الصحبة: ولم لا يؤخذ من الندى الذي هو الطل، كأنك تتندى من الطل على صحبك؟ فقال البدوي: إن الإطلال على العدو أحب إلي منه أي من الطل على صحبي.
وأما العل فالقراد، وهو أيضاً مصدر علة وعلا وعللا، والعلل الاسم، وهو الشرب الثاني، ومنه قيل: علل بعد نهل.
وأما الغل فيقال غل فؤاده غلا إذا صار ذا غل، وهو أيضاً مصدر غل من الغنيمة غلا، والغلول الاسم، وهو الفوز ببعض الغنيمة على وجه الخيانة، وأما الغلل فالماء الجاري على ضاحي الأرض.
وأما الفل فالقوم المنهزمون، وهو أيضاً فلهم أي كسر حدهم فانفلوا أي ذهبوا، وقد قيل سيف أفل كأنه معود الضرب، وبه فلول من قراع الكتائب ومصاع المقانب.
وأما الكل فالثقل، وكذا قيل في الكتاب العزيز " وهو كل على مولاه " النحل: 76 وكأن الحلال الذي هو الإعياء من المشي ثقل الأعضاء، والكلمة لأنها تثقل بما يشد عليها، والكليل كالكل، يقال: فلان كليل اللسان، وكل بصره كلولاً إذات فترت أجفانه واسترخت أهدابه، وقيل في قولهم ك لغنه مأخوذ من الجمع الذي هو الثقل لأنه كثير، وقيل: أهذ من الاشتمال والإحاطة، وهو ما قيل في الكلالة، كأنه تكلل النسب لأن الكلالة ما عدا الوالدين.
وأما المل فمصدر مله إذا أحماه، والملة الرماد الحار، وتسمى به الخبزة المعرفة للبادية؛ ويقال: بفلان مليلة، أي ما يقلقه، والحرارة هي المقلقة وأما السكون فمبرد، وتململ من ذلك، والحمى يقال لها مليلة أيضاً، والملة من ذلك ولكن ضمها إلى الباب لطيف كأنها قوة حامية شملت القائلين بها والصائرين إليها والصابرين عليها.

هذا كله عن سماع ومناقشة وسؤال واستنباط معروض على أهل العلم، وما أبرئ نفسي مع ذلك من النقص والتقصير، وكيف أدعي غير هذا ووطني العجز، ومأواي الذل، وصفتي النقصان؟ هكذا جبلني الجابل، وعليه أخبرني المخبر، وإنما أنسب إلى الكمال لأنه وارد علي، وينسب إلي النقص لأنه صادر عني، فإضافة الكمال إلي استعارة، وإضاقتي إلى النقص حقيقة، وهكذا معيري والشامت بي والضاحك م خطأي، إلا من عصمه الله تعالى فأيده، ورحمه فسدده، فكن - أيدك الله - شاكراً لصواب ما يمر بك في هذا الكتاب، عاذراً في خطا ما يلوح لك، واعمل بحكم الحرية، وعصبية الإنسانية، في نش جميل أنت أولى بنشره، وستر قبيح انت أحق بستره، والسلام.
قال الخراباتي الصوفي: إلهي، لو قلت لي عبدي، كنت أرى ذلي، ولو كنت ذليلاً قطعت من همتي سرور إضافتي إليك، لأنك أجل من أن يكون لك شيء ذليل؛ يا من إذا ذكرتني بأني عبدك أشهدتني مواضع ذلي، وإذا ذكرتني بأني أخبك أشهدتني مواضع عزي، وإذا وصفت نفسك بأنك قاضي الحاجات ذكرتني فقري، فمتى لا أرى نفسي في صفاتك، ومتى أكون لك بلا رؤية شاهدي؛ يا من بان أثري ثبت بالمحبة خبري، كيف لا أكون بلا انا مندرجاً في طي غيري؟ هذا كلام عويص، وإشارة دقيقة، وما أقدم على شرحه، ولو كان حقاً ظاهره مرفوعاً عند لطف باطنه، لتم الأنس به، وحلت الإشارة فيه، ولكن الصفو في هذا وفي غيره عزيز، وستصير من كلام هذه الطائفة المتصوفة إلى ما يجل عن الفهم، ولا يدق على المتفهم.
قال السري السقطي: صدق الانقطاع ألا يكون لك إلى غير الله عز وجل حاجة.
وقال صوفي: حقيقة الحياء من الله عز وجل حسن المراقبة له في السر والعلانية.
وقال الجنيد: معنى الحياء من الله حصر القلب عن الانبساط، والامتناع من ظنون لا يرضاها الله، وعلامة المستحيي ألا يرى في مكان يستحي من مثله.
وقال يوسف بن الحسين: حقيقة الشكر لله أن يتولى الله شكره لنفسه عنك.
وقال آخر: من وفق للشكر فقد ظفر بموهبة هي أجل من النعمة.
وقال صوفي: الحزن يهد البدن، والشوق يهد القلب.
وقال ذو النون: حقيقة الأنس بالله الاستيحاش من القواطع عن الله.
وقال صوفي: من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصراً غير الله تعالى، ولا لرزقك قاسماً غير الله، ولا لعملك شاهداً غير الله.
وقال يحيى بن معاذ: عجبت من ثلاثة: من رجل يريد تناول رزقه بتدبيره وهو يرى تناقض تدبيره، ورجل شغله هم غده عن غنيمة يومه وهو محتاج إلى يومه لأنه شاك في غده، ومن عالم مفتون يعيب على زاهد مغبوط.
قال الجنيد: الحكمة تنهى عن كل ما يحتاج أن يعتذر عنه، وعن كل ما إذا عاب عمله من غيرك أحشمك ذكره في نفسك، قيل له: فبماذا تأمر الحكمة؟ قال: تأمر الحكمة بكل ما يحمد في البدء أثره، ويطيب عند الكشف خبره، ويؤمن في العواقب ضرره.
أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: معاشر المتوجهين إلي لمحبتي، ما ضركم من عاداكم إذا كنت لكم سلماً، وما ضركم ما فاتكم من الدنيا إذا كنت لكم حظاً؛ كيف يفقتر من أكون حظه، وكيف يشتوحش من أكون أنيسه، وكيف يذل من أكون عزه؟ وقيل لناسك: هل من شيء أفضل من البكاء؟ قال: نعم البكاء على البكاء.
قال الجريري: الجلوس للمناظرة سد باب الفائدة، والجلوس للمناصحة فتح باب الفائدة.
قال يحيى بن معاذ: العالم رأى الذنب في الخطيئة فنظر بالغلظة إليه، والعارف عرف موقعه منه فنظر بالشفقة عليه.
قال الجنيد: دخلت على السري وعنده رجل قد غشي عليه، قلت: ما له؟ قال: سمع آية من كتاب الله تعالى، قلت: فتعاد عليه، قال: فأعيدت فأفاق، فقال السري: من أين لك هذا؟ قلت: إن يعقوب ذهب بصره من جهة يوسف، فلما ألقي القميص عليه أبصر، فأخذت هذا من ذاك.
قال الجنيد: إذا أراد الله عز وجل أن يتخذ عبداً ولياً سلط عليه من يظلمه.
قال يوسف بن الحسين: الصدق في البكاء ترك ما منه يبكى.
وقال يوسف أيضاً: المراد من ثلاثة أشياء ثلاثة أشياء: من العلم استعماله، ومن المال إنفاقه، ومن الشرف التقوى.
قال صوفي: الحمد لله الذي قطع العلائق عن المنقطعين إليه، ووهب الحقائق للمتصلين به والمعتمدين عليه.
وقال رجل لناسك: ادع الله لي، فقال: نعم، ثم سأله الرجل: هل دعوت؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: نظرت إلى ما أولاك الله من غير سؤال فانقطعت عن الدعاء.

قال يوسف بن الحسين: علامة المطرود قيامه بالبيان والبرهان، وامتناعه من استعمال ما يصلح اللسان، فيكون الحق منه موجوداً، ويكون هو في الحق مفقوداً.
وقال الخواص: الناس في التوبة على خمسة أوجه: رجل مسوف بالتوبة مدافع عنها، قد اغتر بطول الأمل، ونسي هجوم الأجل، فهذا إن أدركه الموت أدركه على إصرار؛ وآخر تائب ما لم يجد شهوة، فإذا وجد ركب هواه، وأضاع المحاسبة لنفسه، فهذا مستوجب للعقوبة من الله عز وجل؛ ورجل تائب بقلبه إلا أن نفسه تدعوه إلى شيء مما يكره، فهذا يحتاج إلى الأدب لنفسه، وفائدته على قدر مجاهدته؛ ورجل مدقق للحساب، قد قام على ساق مقام الخدم، فهذا مستوجب للعصمة من الله عز وجل؛ ورجل قد هام به خوفه من ذنوبه فلم يبق فيه باقية، فهذا المتوحد بولاية الله عز وجل.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: إلهي، حجتي عندك علمي بأن الحجة لك.
وقال يحيى: لحظ القلوب أسرع خطى من لحظ العيون.
وقال يحيى بن معاذ: على قدر الخروج من الذنوب تكون إفاقة القلوب.
وقال يحيى: وجود الشيء في فقده.
وقال يحيى أيضاً: خوفك من خلقه يوحش، وخوفك من الله يؤنس.
وقال يحيى أيضاً: رجوعك عن ذنب قد عملته إلى الله عز وجل خير لك من رجوعك إليه مع الصلف من بر قد أتيته.
قال ذو النون: عقوبة المربد احتجابه بالأحوال.
وقال الجنيد: العلم علمان: علم البسط، وهو من وحدة الواحد إلى غاية الكثرة، وعلم القبض، وهو من الكثرة إلى الوحدة.
وقال أبو سعيد الخراز: العلم ثلاثة: علم الصناعات في أنواع المركبات، وعلم اللفظ في تأليف العبارات، وعلم التدبير في ضروب السياسات.
وقال رويم: العلم علمان: معقول ومنقول، فالمعقول أبدي والمنقول زماني، والمعقول أصل والمنقول فرع.
وقال ابن عطاء: العلم علمان: إيضاح وتلبيس، فالإيضاح من القلوب، والتلبيس من الألسنة.
هذه الطريقة - أيدك الله - شقيقة طريقة الفلاسفة الكبار، وهذه كتبهم في الإلهيات مملوءة بأخوات هذه الإشارات، ولولا أني رويت ما وجدت لشككت فيه، وفي الجملة الحكمة مشاعة بين الخلق، لا تنسب إلى جيل، ولا تقف على قبيل، وإنما حظوظ الخلق فيها على قدر مشاربهم منها.
وقال رجل من آل الحارث بن ظالم: والله لقد بلغني أن الحارث غضب يوماً وانتفخ في ثوبه، فندر من عنقه أربعة أزرار ففقأت أربع أعين من أعين جلسائه. وكان هذا الرجل مشهوراً بالكذب.
والكذب شعار خلق، ومورد رنق، وأدب سيء، وعادة فاحشة، وقل من استرسل فيه إلا ألفه، وقل من ألفه إلا أتلفه؛ والصدق ملبس بهي، ومنهل عذب، وشعاع منبث، وقل من اعتاده ومزن عليه إلا صحبته السكينة، وأيده التوفيق، وخدمته القلوب بالمحبة، ولحظته العيون بالمهابة.
وصف أعرابي رجلاً فقال: أخذ بزمام الكلام فقاده أسهل مقاد، وساقه أحسن مساق، حتى استرجع به القلوب النافرة، واستوقف به الأبصار الطامحة.
قال إسحاق الموصلي: قالت لي ديباجة الأعرابية: أنت بنغم ألفاظك - دون نغم ألجانك - تطرب إذا تكلمت، فكيف تراك تصنع إذا ترنمت؟! العرب تقول: نومة الضحى في الصيف مبردة، وفي الشتاء مسخنة.
وكان بعض أغبياء النساك آدر، فكان يكشف أنثييه للأنام ليضحكوا منه ويقول: اللهم ليس عندي ما أفرحهم به، فلا تنس لي هذا.
قال ابن المدبر، أنشدني ابن السكيت: البسيط
أقر الهموم إذا ضافت معتقة ... صهباء يحدث فيها الماء تفويفا
تكسو أصابع ساقيها إذا مزجت ... من الشعاع الذي فيها تطاريفا
قال خالد بن صفوان: لسان الرجل أوجه شفعائه، وأنفذ سلاحه بين أعدائه، به يتصل الود، وينحسم الحقد.
أنشد أبو عبد الله النخعي الوراق: المتقارب
وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين
وأدرع الخوف تحت الدجى ... وأستصحب الجدي والفرقدين
وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفي حنين
فقير الصديق غني العدو ... قليل الجدا زاني الوالدين
إلى كم أعيش أخا غربة ... مقلاً من المال صفر اليدين

قال الخليل: الأسم لا يكون أقل من ثلاثة أحرف: حرف يبدأ به، وحرف تحشى به الكلمة، وحرف يوقف عليه، نحو نصر وزيد؛ فإن صيرت البناء مثل: هل وبل وقد ولو اسماً، أدخلت عليه التشديد فقلت: هذه لو حسنة الكتبة، كقول أبي زبيد: الخفيف
ليت شعري وأين مني ليت ... إن ليتاً وإن لوا عناء
وقيل لأبي الدقيش: هل لك في زبد وتمر؟ فقال: أشد الهل وأوحاه، فشدد الهل حتى جعله اسماً.
الرقاشي: البسيط
ماذا انتظارك باللذات والطرب ... قل للسقاة صلوا الأقداح بالنخب
وأفرغوا الماء في راح معتقة ... ما أحسن الفضة البيضاء في الذهب
وله أيضاً: الكامل
وأخ بعثت له السرور بقهوة ... سكنت سورتها بماء سماء
إن صفقت فعقيقة رومية ... والصرف كاليافوتة الحمراء
وحبابها در أطاف بكأسها ... والكأس من كافورة بيضاء
قال جعفر بن محمد في دعائه: اللهم أنت بالذي أنت له أهل من عفوك، أحق مني بالذي أنا أهل له من عقوبتك.
قال عمر: البكر كالبرة، تطحنها وتعجنها وتخبزها، والثيب عجالة الراكب، تمر وأقط.
قال فيلسوف: النظر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن، والقربى محتاجة إلى المودة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنجدة محتاجة إلى الحد.
بعث النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة لتنظر إلى امرأة فقال لها: شمي عوارضها وانظري إلى عقبيها. قال الأصمعي: إذا اسود عقب المرأة اسود سائرها.
الرقاشي: مجزوء الوافر
ألا لا تعذلاني قد ... وهبت للذتي نشبي
إذا ما الماء أمكنني ... وصفو سلافة العنب
صببت الفضة البيضا ... ء فوق قراضة الذهب
قال فيلسوف: العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان، إن تركته ضرك، وإن أكثرت منه قتلك؛ وأنشد: البسيط
بالملح يدرك ما يخشى تغيره ... فما دوا الملح إن حلت به الغير
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يهلك العرب إذا انقطع عنها تقوى الإسلام وحمية الجاهلية.
قال بعض الأدباء: زعم المنجمون أن الهلال نجم نحس، وأجمع أهل العلم أن عامة حاجات الناس إنما تجري مع الأهلة: منها التاريخات كلها، ومحل الديون، وفراغ الصناع والتجار، ويوم الفطر، وآجال المستغلات، وقدوم الولاة، وزيادة المد ونقصان الجزر ما بين الصين إلى المذار.
أكل الخريمي عند رئيس وكسر له رغيفاً، فلما قعدوا يشربون رمى الرئيس عين الخريمي بتفاحة، فوضع يده على عينه وقال: جعلت فداك. دية رغيف عين؟! وأنشد بعض الشعراء: المنسرح
سل جزعي مذ نأيت عن حالي ... هل خطر الصبر لي على بال
لا غير الله سوء فعلك بي ... إن كنت أرضيت فيك عذالي
رحمة بن نجاح: البسيط
يا من رضيت من الخلق الكثير به ... أنت القريب على بعد من الدار
أعملت فيك المنى حلا ومرتحلا ... حتى رجعن المنى أنضاء أسفار
قال مزبد لسقاية مدنية كان يألفها وهو في جماعة: ادخلي صبي لنا ماء، قالت: وحياتك لا أصلي.
قال أبو العيناء: رأيت جارينتين قد طلع عليهما فتى حسن الوجه، فقالت الواحدة لصاحبتها: أرأيت أملح من هذا الفتى؟ قالت: هو مليح ولكنه زرنوق. فتقدمت وقلت: قد سمعت ما كنتما فيه، فما معنى زرنوق؟ قالت: نعم، الكبير البطن، الذي إذا قبل لا يدخل، وإذا أدخل لا يقبل. فبقيت مبهوتاً من قولها ومجونها.
قيل لجارية: أنت بكر؟ قالت: قد كنت، فعافاني الله.
قالت مجرية: لو أن حية افتض امرأة لنزعت نفسها إليه.
هجم رجل على امرأة وهي نائمة ودفع فيها فانتبهت مذعورة، فقال لها: أيش تأمرين؟ أخرجه؟ قالت: دعه يذهب حتى أفكر في شيء.
قال الجماز: أقبلت أنيك جارية، فقالت: الكلوة، الخاصرة، الطحال، فقلت لها: إن كنت تريدين النيك فهذا هو، وإن كنت تريدين التعشير فعليك بالقصاب.
وقع ذو الرئاستين: كل مصيبة عند سخطك جلل، وكل نعمة عند رضاك محتقرة.
ووقع إلى قائد جيش: ما رأينا صنعاً أحسن، ولا نصراً أعز، ولا فتحاً أفضل، من نصثر الله إياك، وصنعه لك، وفتحه عليك، فتولى الله أمرك بأحسن مما ابتدأك به.

ووقع أيضاً: قد استدللت بتضجعك على مداهنتك، وبتقصيرك على ممالأتك، وفي أقل مما أقرعك به ما يردع هواك عما أنت عليه.
ووقع أيضاً: قد أعذرت إليك في التقدمة، فالزم المحجة، وتوق لزوم الحجة، وتوقع حلول المجازاة، إن شاء الله تعالى.
ووقع أيضاً: واتر كتبك، وأبرم الأخبار، واستعن بالله على تزيين نفسك، واحملها على الصيانة تسلم من قول العائب.
جحظة: مجزوء الخفيف
بأبي الزائر الذي ... زار بعد انقطاعه
كشف البدر للورى ... كشفه عن قناعه
لم أزل طول ليلتي ... ساهراً في انخداعه
كلما رمت وصله ... زادني في امتناعه
ثم ولى مودعاً ... حزني من وداعه
قيل لفيثاغورس الفيلسوفك بماذا يمكن الإنسان أن يقتدي بربه؟ قال: بأن يصطنع المعروف.
لفيثاغورس: شتمته امرأته وظلت تسمع به وتؤذيه وهو ساكت، فلما اشتد غيظها من سكوته أخذت غسالة ثياب كانت تغسلها فصبتها على رأسه، وعلى كتاب كان في يده، فرفع راسه وقال: اما إلى هذه الغاية فكنت تبرقين وترعدين، وأما الآن فقد أمطرت.
سموانيدرس رأى رجلاً يمدح نفسه على غلبته في الصراع، فقال له: هل غلبت من هو أضعف منك أو من هو أقوى من؟ فقال: بل غلبت من هو أضعف مني، قال: فما هذا موضع مدح، وذلك أن كل واحد من الناس يغلب من هو أضعف منه، فقال له الرجل: بل غلبت من هو أقوى مني، فقال: هذا محال وباطل، فقال: بل غلبت من هو مساو لي، فقال: من غلبته لا يكون مساوياً لك.
آتى رجل إلى سقراطيس الفيلسوف فقال له: أنا في قلق دائم إن جلست او مشيت أو قمت أو استلقيت، فقال له: ما بقي لك إلا أن تصلب! قال رجل لسقراط: لم صار ماء البحر ملحاً؟ فقال للسائل: إن أعلمتني المنفعة التيب تنالك من علم ذلك أعلمتك السبب فيه.
قيل لسقراط: أي بهيمة أجمل؟ فقال: المرأة.
قال سقراط: إن الملك ألأعظم أن يملك الإنسان شهوته.
وقيل لسقراط: أي الأشياء ألذ؟ قال: الأدب والتعلم وسماع الأخبار.
قال سقراط: كما أن الأطباء بهم يكون صلاح المرضى وتخلصهم، كذلك بالشرائع يكون صلاح الجائرين.
قال سقراط: ينبغي أن يكون الإنسان في حداثته فاضلاً، فإن لم يكن ذلك ففي عنفوان شبابه، فإن لم يكن ذلك ففي شيخوخته.
لكلام هؤلاء القوم موقع عجيب وتأديب محمود، فلا تستوحش منهم فإنهم جنس من الفضلاء؛ نفعنا الله عز وجل بحكمهم، ووقانا شر ما يقال فيهم.
قال أعرابي: توبة المذنب اعتذاره.
وقال لقمان: معم الأدم الجوع.
قال حكيم الهند: الكريم يصول إذا جاع، واللئيم يصول إذا شبع.
قال أعرابيك ليس شيء أقعد برجل عن مكرمة من صغر همة.
شاعر: الكامل
وإذا مضى للمرء من أعوانه ... خمسون وهو إلى النهى لم يجنح
ركدت عليه المخزيات وقلن قد ... ساعدتنا فأقم كذا لا تبرح
وإذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حياً وقال: فديت من لم يفلح
قال المدائني: وقع الطاعون بالكوفة، فخرج الناس وتفرقوا في النجف، وكان لشريح القاضي صديق خرج فيمن خرج، فكتب إليه شريح: أما بعد، فإنك بالمكان الذي أنت في بعين من لا يعجزه هرب، ولا يفوته طلب. وإن المكان الذي خلفته لا يعجل أحداً إلى حمامه، ولا يظلمه شيئاً من أيامه، وإنا وإياك لعلى بساط واحد، وإن النجف من ذي قدرة لقريب.
جلس سليمان بن عبد الملك للمظالم يوماً، فقام إليه رجل فقام: ألم تسمع قول الله عز وجل " فأذن مؤذن بينهم ا، لعنة الله على الظالمين " الأعراف: 43 قال: فما خطبك أيها الرجل؟ قال: وكيلك اغتصب ضيعتي وضمها إلى ضيعتك الفلانية، قال: فضيعتي لك، وضيعتك مردودة إليك؛ وكتب إلى الوكيل برد ضيعته عليه وتسليم ضيعة سليمان إليه والأنصراف عن عمله.
وقال أعرابي: حاجب الرجل عامله على عرضه.
قيل لأعرابية: ما لك لا تحبين زوجك؟ قالت: لخصال كن فيه: خبيث العرق، قليل المرق، ضجعته انجعاف، وشملته التفاف، يشبع ليلة يضاف، وينام ليلة يخاف، ولا يقضيني أمري - أي الجماع.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إذا كان المال عند من لا ينفقه، والسلاح عند من لا يستعمله، والرأي عند من لا يقبل منه، ضاعت الأمور.

قيل لشبيب بن شيبة المنفري وقد اشتد عليه حجاب المهدي: يا أبا معمر، أنت مع شرفك وقدرك وجاهك وسعة ذات يدك، تذل نفسك هذا الذل؟ فقال: نذل لهم لنعز عند غيرهم، فإن من رفعوه ارتفع، ومن وضعوه اتضع.
قالت عائشة رضي الله عنها: في السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، وهو من السنة، تضاعف به الحسنات، ويعين على الحفظ، وينزع البلغم، ويجلو البصر، ويذهب بالحفر، ويشد اللثة، ويفصح اللسان.
قال ابن السماك: تبارك من خلق الإنسان فجعله يبصر بشحم، ويسمع بعظم، ويتكلم بلحم.
أنشد بشر بن موسى: الرمل المجزوء
قد أرحنا واسترحنا ... من غدو ورواح
واتصال بلئيم ... أو كريم ذي سماح
وجعلنا الصبر مفتا ... حاً لأبواب النجاح
شاعر: البسيط
من كان للدهر خدناً في تصرفه ... أبدت له صحبة الدهر الأعاجيبا
من كان خلواً من التأديب سربله ... كر الليالي على الأيام تأديبا
قال النبي صلوات الله عليه: ظهر المؤمن مشجبته، وبطنه جرايته، ورجله مطيته، وذخيرته ربه.
شاعر: الكامل المجزوء
قوم إذا حالفتهم ... لم تخش نائبة الصروف
وإذا وصلت بحبلهم ... حبلاً أمنت من المخوف
قوم تسيل دماؤهم ... بين الأسنة والسيوف
وقال ابن السماك في وصف الدنيا: طاعمها لا يشبع، وشاربها لا يروى، والناظر إليها لا يمل، ولم نر شيئاً أعجب منها ومن أهلها: يطلبها من هو على يقين من فراقها، ويركن إليها من لا يشك أنه راحل عنها، ويعتصم بحبلها من هو على أوفاز.
دخل الشعبي على الحجاج فقال له الحجاج: يا عامر، أدب وافر وعقل نافر، فقال: صدقت أيها الأمير، العقل سنخ والأدب تكلف، ولولا أنتم معشر الملوك ما تأدبنا، قال: فالمنة لنا في ذلك دونكم، قال: صدقت أيها الأمير.
قال عطاء بن أبي رباح ليزيد بن معاوية: أغنني عن غيرك، قال: حسبك ما أغناك به معاوية، قال عطاء: فهو والله الحي وأنت الميت؛ فاهتز يزيد لكلمته وأمر له بجائزة.
قال بعض البخلاء: والله لا أكلت إلا نصف الليل، قيل: ولم اخترت ذلك؟ قال: يبرد الماء، وينقمع الذباب، وينام الصبيان، وتؤمن فجاءة الداخل، وصرخة السائل.
قال بعض الأدباء في رسالة له إلى أخ له: إنك من جوارحي يميني، ومن سوانحي يقيني.
ذكر أعرابي قوماً فسد ما بينهم بعد صلاح ومودة فقال: والله ما زالت عيون العداوة تنجم من صدورهم فتمجها أفواههم، وأسباب المودة تخلق في قلوبهم فتخرس عنها ألسنتهم حتى ما تجد للشر مزيداً، ولا للخير مريدا.
كتب أبو داود الوراق إلى أخ له، وأهدى إليه مقلمة: إذا كان اللطف دليل محبة، وميسم قربة، كفى قليله عن كثيره، وناب يسيره عن خطيره، ولا سيما إذا كان المقصود به ذا همة لم يستعظم نفيساً، ولم يستصغر خسيساً، وقد جعلك الله من هذه الصفة بأجل فضائلها، وأرفع منازلها.
وقال أبو بشر البرجمي: أنشد مسلم بن قتيبة قول الشاعر: الطويل
ذريني فما أعيا بما حل ساحتي ... أسود فأكفي أو أطيع المسودا
فقال: لله دره فما أدري في أي حالتيه هو أكرم، أحين يسود فيكفي، أو حين يطيع المسود.
قال يونس النحوي: لا تعادين أحداً وإن ظننت أنه لا يضرك، ولا تزهدن في صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى تخاف عدوك وترجو صديقك، ولا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره وإن علمت أنه كاذب، وليقل عيب الناس على لسانك.
للصولي: الخفيف
إن يكن سار عائداً لدمشق ... وطواه كما طوى الشمس غرب
فهو للقلب حيثما كان ذكر ... وهو للطرف حيثما دار نصب
كتب الحسن بن وهب إلى صديق له يعلمه صبابته إليه ووحشته لفراقه فقال: وقد قسمك الله بين طرفي وقلبي، ففي مشهدك أنس قلبي، وفي غيبتك لهو طرفي بذكر قلبي.
فكتب إليه: وقفت على الفصل الذي أخبرت فيه، فسيان عليك رأيتني أو لم ترني إذ كان بعضك يؤنس بعضاً فينوبوا عني، ولكني أراك فيخشع قلبي، وأغيب عنك فتدمع عيني، فشتان بين ما ساء أبده، ومن حزن أمده.
فكتب إليه الحسن: يا حانقاً على الجرة ثم تمثل يقول: الوافر
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني

كان بعض أصحابنا ينشد: فلما استد، وهو قريب من الصواب، وقد رأيت من لا يختار غيره، وكلا المعنيين قريب.
قال المازني: سمعت أبا زبد الأنصاري يقول: لقيت أبا حنيفة فحدثني بحديث فيه: يدخل الجنة قوم حفاة عراة منتنين قد أمحشتهم النار، فقلت: قوم منتنون قد محشتهم النار، فقال: من أين أنت؟ فقلت: من البصرة، قال: أكل أصحابك مثلك؟ قلت بل أنا أبخسهم حظاً في العلم، فقال: طوبى لقوم أنت أبخسهم.
قال أبو محلم، قيل لجرير: إن الطرماح قد هجا الفرزدق وقد كبر وضعف، فلو أجبت عنه، فقال: صدى الفرزدق يفي بطيء كلها، وقد أردت ذلك فخفت أن يقال: قد اجتمع فحلاً مضر على مخنث طيء.
أنشد أبو ذكوان: الطويل
سقى دار ليلى حيث حلت وشققت ... عليهن من غر السحاب جيوب
فما يقشعر القلب عند حديثها ... ولكنه يحلو له ويطيب
قال ابن سلام، قلت ليونس: كيف ينشد: الرجز
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي قال: على الثلاثة أوجه، بالرفع على الأستئناف، وبالجر على من، وبالنصب على الحال.
الرياشي قال: دخل أعرابي البصرة فاشترى خبزاً فأكله الفار فقال: الرجز
عجل رب الناس بالعقاب
لعامرات البيت بالخراب
كحل العيون وقص الرقاب
مخززات أحبل الأذناب
مثل مدارى الطفلة الكعاب
كيف لنا بأنمر الإهاب
منهرت الشدق حديد الناب
كأنما برثن بالحراب
يفرسها كالأسد الوثاب
عزى أعرابي رجلاً عن أبيه فقال: والله ما مات من خلفك، ولا خاب من أملك، ولا توحد من أهلك، إن من كنت بغيته لموفور، ومن كنت ثماله لمحبور، ومن كنت وليه لمنصور.
قال أبو هفان: قال المأمون لرجل رآه استضعفه: أبو من؟ قال: أبو القمرين، قال: الكاسفين، لو كان لك عقل كفاك أحدهما.
قال أبو حاتم السجستاني: كان رجل يحب الكلام ويختلف إلى حسين النجار، وكان ثقيلاً متشادقاً ما يدري ما يقول حيناً، ثم فطن له مكان يعد له الجواب من جنس السؤال، فينقطع ويسكت، فقال له يوماً: ما تقول - أسعدك الله - في حد تلاشي التوهمات في عنفوان القرب من درك المطال؟ فقال له حسين: هذا من وجود قرب الكيفوفية على طريق الحيثوثية، وبمثله يقع التنافي والمجانسة على غير تلاق ولا افتراق، فقال الرجل: هذا يحتاج إلى فكر واستخراج، فقال له: أفكر فإنا قد استرحنا.
قال سعيد بن خالد اليماني: كان عندنا قاص يكنى بأبي خالد قال في دعائه: يا ساتر عورة الكبش لما علم من فضله وصلاحه، وهاتك عورة التيس لما علم من قذره وفجوره، استر علينا وارحمنا واهتك ستر أعدائنا. فقيل له: وما فضيلة الكبش؟ قال: لأنه يقال: كبش إبراهيم الذي فدى به ابنه، ولأنه يذبح في العقيقة، قيل: فما ذنب التيس؟ قال: يشرب بوله، وينزو على الشاة التي لم تستحق النزو، ويؤذي المسلمين بنتن ريحه، ويعلم الناس الزنا، وهو عيب على أصحاب اللحى الكبار؛ يقال: جاءني بلحية التيس.
رفع رجل من العامة إلى كسرى بن قباذ: إن في بطانة الملك جماعة قد فسدت نياتهم وخبثت ضمائرهم بقتله بزرجمهر، وقد هموا بما لم يفعلوا، وهم غير مأمونين على المملكة، منهم فلان وفلان، فإن رأى الملك أن يعاجلهم فعل؛ فوقع: إني إنما أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
ووقع في رقعة وكيل يستحثه على بناء قصر: أنت ماش والأوقات راكضة، والعمل باع والعناية فتر.
أنشد لأعرابية: البسيط
من آل فارس أخوالي أساورة ... هم الملوك وقومي سادة العرب
وجدتي تلبس الديباج ملحفة ... غزل الفريد ولم تركب على قتب
ولم تكب على البردات تنسجها ... معاذ ربي ولم تشرب من العلب
قال سليمان بن عبد الملك: العجب منا ومن هؤلاء القوم، كانوا فيما كانوا فيه من الملك فلم يحتاجوا إلينا، فلما صار الملك إلينا لم نستعن عنهم.
قال بعضهم: من المروءة اجتنابك ما يشينك، واجتباؤك ما يزينك.
وقال آخر: لا تجب من لا يسألك، ولا تسأل من لا يجيبك.
وقال فيلسوف: كن حذراً كأنك غر، وفطناً كأنك غافل، وذاكراً كأنك ناس.

وقال فيلسوف: حسن التدبير مع المال القليل، خير من سوء التدبير مع المال الكثير، لأن حسن التدبير قد يكثر القليل، وسوء التدبير يمحق الكثير.
وقال آخر: المنفقون ثلاثة: كريم مقتدر، ومسرف مبذر، ولئيم مقتر.
وقال آخر: العقل أمير والأدب وزير، فإذا لم يكن وزير ضعف الأمير، وإذا لم يكن أمير بطل الوزير.
وقال فيلسوف: الناس كالسيوف والشحذ والجلاء كالأدب.
قال بعضهم: الدين يعصم والدنيا تسلم.
قال علي رضي الله عنه: بقية السيف أنمى عدداً.
ليته أخبر عن السبب فإنه أعجب من الخبر، لأن السبب سر وهذا علانية، والناس شركاء في العيان ومتباينون في الباطن، وما أكثر ما يطلق اللفظ فيه ولا يحقق شيء منه.
للزيات في الفضل بن سهل: البسيط
لم أمتدحك رجاء المال أطلبه ... لكن لتلبسني التحجيل والغررا
ما كان ذلك إلا أنني رجل ... لا أقرب الورد حتى أعرف الصدرا
قيل لرجل شامي: أي الطعام أطيب؟ قال: ثريدة موسعة زيتاً، تأخذ بأدناها فيضرط أقصاها، تسمع لها وجيباً في الحنجرة كتقحم بنات المخاض في الجرف.
شاعر: الطويل
تكاشرني كرهاً كأنك ناصح ... وعينك تبدي أن صدرك لي دوي
قال الحسن: من ازداد علماً فلم يزدد زهداً لم يزدد من الله إلا بعداً.
استعمل علي بن أبي طالب عبد الله بن عباس على البصرة، فأخذ من بيت المال ما كان فيه وخرج إلى مكة، فكتب إليه علي: أما بعد فقد علمت ما قال الله عز وجل في الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن تريد الله عز وجل بجهادك، وكأنك لم تكن على ثقة فيه من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة هذه الأمة، أسرعت العدوة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم، اختطاف الذئب الأزل دامية المعز الكسير، فحملته إلى الحجاز رحب الصدر غير متأثم من أخذ، كأنك - لا أبا لك - إنما حزت لأهلك تراثك من أبيك وأمك؛ فسبحان الله العظيم! أما تؤمن بالمعاد؟ أما تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ أما يكبر عليك أن تنكح النساء وتشتري الإماء بأموال الأيتام والأرامل والمهاجرين، الذين أفاء الله عز وجل عليهم هذه البلاد؟ آردد إلى القوم أموالهم فإنك والله - عز وجل - إلا تفعل، ثم أمكنني الله عز وجل منك، لأعذرن إلى الله عز وجل فيك، فو الله لو أن حسناً وحسيناً فعلا مثل الذي فعلت، لما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني برخصة، حتى آخذ الحق لمظلومهما، إن شاء الله.
فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فقد أتاني بأنك تعظم علي ما أصبت من بيت مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت مال الله لأكثر مما أخذت، والسلام.
فكتب إليه علي: أما بعد، فإن العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت مال الله عز وجل من الحق أكثر مما لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل وادعاؤك ما لا يكون ينجيك من المأثم، أو يحل لك ما حرم الله عليك، فلعمري إنك لأنت المهتدي السعيد إذن. قد بلغني أنك اتخذت مكة وطناً، وضربت بها عطناً، تشتري بها مولدات مكة والمدينة والطائف، تختارهن على عينك، وتعطي فيهن مال غيرك؛ وإني أقسم بالله ربي وربك ورب العزة رب العالمين، ما أحب أن لي ما أخذت من أموالهم حلالاً أدعه لعقبي ميراثاً، فالعجب لاغتباطك به تأكله حراماً؛ فضح رويداً، فكأن قد بلغت المدى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي فيه المغتر بالحسرة، ويتمنى المضيع التوبة، والظالم الرجعة، فذلك وما ذلك، ولات حين مناص، والسلام.
فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فإنك أكثرت علي وإني والله - عز وجل - لأن ألقى الله بجميع ما في الأرض من ذهبها وفضتها وكل ما فيها أحب إلي من أن ألقاه بدم امرىء مسلم، والسلام.
وأنشد لمضرس بن دومي النهدي: الطويل
إذا الحرب شالت لاقحاً وتحدمت ... رأيت وجوه الأزد فيها تهلل
حياء وحفظاً واصطباراً وإنهم ... لها خلقوا والصبر للموت أجمل
وهم يضمنون الجار من كل حادث ... ويمشون مشي الأسد حين تبسل
يرى جارهم فيهم منيعاً مكرماً ... على كل ما حال يحب ويوصل

إذا سيم جار القوم خسفاً فجارهم ... عزيز حماه في عماية يعقل
في عماية يعقل: يعتصم، هكذا سمعت المتقن الضابط يقول ويوضح، فحدثنا كما أخذنا من غيرنا؛ نفعك الله بالأدب، وخفف عنك فيه التعب، ووقاك عثرة الجاهل، وحيرة العالم، وحسرة المحروم، وذلة المظلوم، وكفاك جميع ما يقطعك عن الحق، ويزين لك الباطل، ولا أخلاك من نصره العزيز، وفتحه المبين.
أنشد لمغلس بن لقيط السعدي: الطويل
أبقت لي الأيام بعدك مدركاً ... ومرة والدنيا كريه عتابها
قرينين كالذئبين يبتدرانني ... وشر صحابات الرجال ذئابها
إذا رأيا لي غرة أغريا بها ... أعادي والأعداء تعوي كلابها
وإن رأياني قد نجوت تلمسا ... لرجلي مغواة هياماً ترابها
وأعرضت أستبقيهما ثم لا أرى ... حلومهما إلا وشيكاً ذهابها
فقد جعلت نفسي تطيب لضغمة ... أعضهماها يقرع العظم نابها
وقال موسى بن جابر بن أرقم، وهو حنيفي نصراني يمامي جاهلي، ويعرف بابن ليلى، ويلقب بأزيرق اليمامة، وبه يعرف: الوافر
لبست شبيبتي ما رم خلقي ... ولا سمت العدو ولا هفوت
وما أدع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغش إن مشيت
وما للملك في الدنيا بقاء ... وكيف بقاء ملك فيه موت
السفارة: المشي في الصلح، وكأنها كشف ما غمر الحال بين المتنابذين المتباينين، ويقال للسفرة سفرة لأنها تبسط وتكشف، وكأن السفر أيضاً يكشف عن الأخلاق، والإسفار: ضياء الشمس في ظلام الغلس، والسفر والأسفار: كتب لأنها ضمنت البيان عما يخفى والكشف عما استتر، والمسفرة: المكنسة، كأنها تكشف عن وجه الأرض أي ترفع ما اجتمع عليه. وكما يقال: سفرت بينهم وأنا سفير، يقال: سملت بينهم وأنا سامل، وكأن السامل في الأصل من لاط الحوض، وأصلح المورد، وسهل مكان الشارعة، والكلام كله متداخل، والأشتقاق فيه دائر، ومنه ما يصح ومنه ما يجفى.
قال موسى بن عبد الله بن خازم لما قتل أخوه بخراسان وبلغه نعيه - سمعت أبا سعيد السيرافي يقول: النعي مصدر نعى ينعى، والنعي - بالتشديد - الناعي، والناعي هو المخبر بالموت - : الطويل:
ذكرت أخي والخلو مما أصابني ... يغط ولا يدري بما في الجوانح
دعته المنايا فاستجاب دعاءها ... وأرغم أنفي للعدو المكاشح
فلو ناله المقدار في يوم غارة ... صبرت ولم أجزع لنوح النوائح
ولكن أسباب المنايا صرعنه ... كريماً محياه عريض المنادح
بكف امرىء كز فصير نجاده ... خبيث نثاه عرضة للفضائح
نظر محمد بن المنكدر رجلاً يتبع امرأة في خراب ويناغيها فقال: إن الله عز وجل يراكما، سترنا الله وإياكما.
قال المدائني: شاور معاوية الناس في قتل الحارث بن قيس، فقال له يزيد بن قيس: إن قتلت أصبت، وإن عفوت قلنا أحسنت، فقال: الإصابة أحب إلي من الإحسان لشوقي إلى الإصابة؛ قال بعض المشايخ: أخطأ، لأن الإحسان يستوفي معنى الإصابة ثم يوفي عليها.
وقال المدائني: أخذ رجل من المنصورية فقيل له: ما تقول في أبي بكر؟ قال: أتولاه، فخلي عنه، فرجع وقال: إني ذكرت تزويجه أخته الأشعث فأنا أتبرأ منه، فقتل.
قال نوح بن جرير بن الخطفى لأخيه بلال: أنا أشرف منك، فقال بلال: أمنا واحدة، فقال: ولدتك وهي أمة وولدتني وهي حرة؛ وكانت ديلمية.
قال المدائني، قال ابن عباس في صفين: ليغلبن معاوية، لأن الله تعالى قال وهو أصدق القائلين " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " الأحزاب: 33. وما أدري كيف صحت هذه الرواية؛ إن ابن عباس لو كان معه هذا البرهان لكان مع من جعل الله له سلطاناً، وفارق من جعل الله عليه سلطاناً، ولكن الرواية خبر، والخبر ينقسم بين التصديق والتكذيب، وبالتوقف عنه وسوء الظن به، ولقد عمت آفته الخلق، وإلى الله عز وجل الشكوى.
أنشد ابن المنزل: المنسرح
عيني لحيني تدير مقلتها ... تطلب ما ساءها لترضيني
أف لدنيا أبت تواتيني ... إلا بنقضي لها عرى ديني
شاعر: الوافر
إذا كثر التجني من خليل ... بلا ذنب فقد مل الخليل
كتبت من خط أبي إسحاق: الطويل

وكنا إذا نحن التقينا تخالساً ... وسامحت العينين منا شؤونها
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وأوساطها حتى ترق فنونها
حديثاً كماء المزن وافقه الصدى ... وأشبهه طيب الحياة ولينها
قالت أعرابية: هي أحسن من العقيان، على صدور القيان.
قالت أم هشام السلولية في الإبل: إذا حملت أثقلت، وإذا حلبت أروت، وإن سارت أبعدت، وإن نحرت أشبعت.
خطب أعرابي إلى قوم فقال: الحمد لله الذي يولي الإنعام، والصلاة على محمد والسلام، أما بعد: فإني إليكم خاطب، وفي الألفة بيننا راغب، ولكم علي في من خطبت أحسن ما يجب لصاحب على صاحب، فأجيبوني جواب من يرى نفسه لرغبتي محلاً، ولما دعتني إليه الطلبة أهلاً.
قال أبو عبيدة: أخبرني الزبير بن بكار عن أبيه قال: أهديت إلى هشام بن عبد الملك حين قدم الحيرة يريد الحج ناقة، فلم يقبلها، فلما قوضت سرادقاته وحجره قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، لم رددت ناقتي، وهي هلواع مرياع مرباع مقراع مسياع مسناع، حلبانة ركبانة؟ فضحك وقال: خذوها منه، وأمر لي بألف درهم.
الهلواع: ناقة فيها نزق وخفة؛ والمرياع: التي تقدم الإبل ثم تعود، والمرباع: التي تعجل باللقاح، من قولك: لك المرباع منها والصفايا، والمقراع: التي تعجل باللقاح أول ما يقرعها الفحل، والمسياع: السمينة، والسياع: الطين، والملواح: الخفيفة، والمسناع: الواسعة الخطو.
قيل لصوفي: ما مراد الحق منك؟ فقال: مراده في هو مراده مني، قيل له: فمن أين حققت هذا الحكم؟ قال: لأن قولي مني وفي إضافة، ومراد الحق واحد، قيل له: إن المراد منك قيامك بالأمر، والمراد فيك وقوفك مع النهي، قال: صدقتم، ولكن ما هو مني به يتم، وما هو في له يتم، والحظ فيما هو مني لي، والحكم فيما في له، وما هو له مقدم على ما هو مني، ما أشير بهذا إلى رد أمره، ولكنني أضيف إليه خفية سره، على أن واضح عذري مردود عند مشكل حجته، لأن حجته تنتهي إليه فتقوى بالألهية، وعذري ينسب إلي فيضعف بالعبودية، قيل له: فهذا خلاف العقل، قال: إن فعله بالخلق يسبق إدراكهم بالعقل، لأن العقل أيضاً خلق.
وأنشد: الكامل
تأسو وتجرح في الحديث جليسها ... بكلام لا هذر ولا إطناب
إلا مساقطة تلبس بالحشا ... كتعلق الأحباب بالأحباب
قال الجاحظ: قال رجل مبخل لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب، فقال: هذا خطأ، بل أقول: أغلق الباب وأت بالطعام، فقال له الرجل: أنت حر لعلمك بالحزم.
قال شبيب بن شيبة: لما خلع عبد الله بن عبد الرحمن - وقتل بخراسان - قام خطيب المنصور السكوني فقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد كان حسن المكان عظيم السلطان، كثير الأعوان، وكان مع ذلك فيه آية من كتاب الله عز وجل، كأنها عليه قصرت وفيه نزلت، وهي: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم " المنافقون: 4؛ فالحمد لله الذي أخمد جمرته، وأذل عزته، ولم يقله عثرته.
قال أبو عثمان المازني، عن الأصمعي، عن عيسى بن جعفر، قال: قلت لأعرابي: كم في المسجد من سارية؟ قال: خمسون وخمسمائة بعد الألف؛ قال: وهكذا تقول العرب إذا اجتمع الكثير من العدد والقليل، بدأت بأقل العددين.
قال أنس بن أبي شيخ: اجتماع الضعيفين قوة تدفع عنهما، وافتراق القويين مهانة تمكن منهما، وكان أنس هذا معروفاً بالزندقة، والله أعلم.
قال أبو العيناء: أحضر لإسحاق بن إبراهيم جارية سكرانة أخذت في العسس، فقال لها: ما خطبك يا جارية؟ فقالت على البديهة: الرجز
جارية باكرت المروقا ... تشرب صرفاً وترد رنقا
حتى إذا مرت تمشى العنقا ... علقها الشرطي فيمن علقا
فقال إسحاق لصاحب الشرطة: أمثل هذه تؤخذ لا بارك الله فيك؟ خل عنها ولا تعرض لها.
قال الأصمعي: ولى جعفر بن سليمان رجلاً بعض البدو، ثم وجه من يسأل عنه، فلقي شيخاً من الأعراب، فقال: كيف واليكم؟ فقال: ما يطبق جفناً، ولا يعرف أفنا، وكل يوم يزداد فعله حسناً، يبرىء بدوائه، ولا يستبد برائه، قد أذكى العيون على عيونه، وتيقظ في جميع فنونه، فهو غائب كشاهد، ومانع كمعط، والمحسن آمن، والمسيء خائف.

قال إسحاق: أتي عبد الملك بعود، فقال للوليد بن مسعدة الفزاري: ما هذا يا وليد؟ فقال: خشب يشقق ثم يرقق، ثم يلصق، ثم تمد عليه أوتار، وتضرب به القيان، فتطرب له الفتيان، وتضرب برؤوسها الحيطان. امرأتي طالق إن كان في المجلس أحد إلا وهو يعلم منه مثل ما أعلم، أولهم أنت يا أمير المؤمنين! فضحك، وقال: مهلاً يا وليد.
قال قتيبة لنهار بن توسعة: لست تقول فينا كما تقول في آل المهلب؟ قال: إنهم والله كانوا أهدافاً للشعر، قال: هذا والله أشعر مما قلت فيهم.
قال الأصمعي: ذكر أعرابي رجلاً زالت نعمته: والله لقد كان في ظل عيش مثمر فقدحت عليه من الدهر يد غير كابية الزند.
أنشد لصقلاب: السريع
مل فما تعطفه حرمة ... واتخذ العلات أعوانا
إن ساءك الدهر بهجرانه ... فربما سرك أحيانا
لا تيأسن من وصل ذي ملة ... أطرف بعد الوصل هجرانا
يمل هذا مثل ما مل ذا ... فيرجع الوصل كما كانا
وأنشد لشداد بن عقبة الجهني في محمد بن عبد الله بن الحسن: البسيط
إني مررت على دار فأحزنني ... لما مررت عليها منظر الدار
وحش خلاء كأن لم يغن ساكنها ... بمعتفين وقطان وزوار
من للأرامل والأيتام يجمعهم ... شتى الموارد من حلس وأكوار
مأوى الغريب وساري الليل معتسفاً ... وعصمة الضيف والمسكين والجار
بها مساكن كان الضيف يألفها ... عند التنسم من نكباء مهمار
فيها مرابط أفراس ومعتلج ... وجامل أخريات الليل قرقار
فيها معالم إلا أنها درست ... من واردين ونزال وصدار
فيها مغان وآيات ومختلف ... في سالف الدهر من باد وحضار
ثم آنجلت وهي قد بادت معالمها ... ألقى المراسي فيها وابل سار
وخاويات كساها الدهر أغشية ... من البلى بعد سكان وعمار
جار الزمان عليها فهي خاشعة ... طورين من رائح يسري وأمطار
ففاضت العين لما عيل مجرعها ... فيض القري جفت عنه يد القاري
ودارت الأرض بي حتى اعتصمت بها ... واستك سمعي بعرفان وإنكار
حتى إذا طار نومي ما يفارقني ... ما أوجع القلب من حزن وتذكار
وحان مني أنصراف القلب وانكشفت ... عمياء قلب سراه النوم مهجار
لا يبعد الله حياً كان يجمعهم ... مبدى سويقة أخياراً لأخيار
الباذلين إذا ما الثقل أعدمهم ... جادت أكفهم بالجود مدرار
والرافعين لساري الليل نارهم ... حتى يجيء على شدو من النار
والدافعين عن المحتاج خلته ... حتى يحوز الغنى من بعد إقتار
والقائلين له أهلاً بمرحبة ... لج في انفساح ورحب أيها الساري
والضامنين القرى في كل راكدة ... فيها سديف شظايا تامك وار
والمدركين حلوماً غير عازبة ... والناهضين بجد غير معثار
والعاطفين على المولى حلومهم ... حتى يفيء بحلم بعد إدبار
والعائدين إذا ضنت بدرتها ... أم الفصيل فلم تعطف بإدرار
والياسرين إذا ما شتوة جمدت ... فلم يحس بنار قدر أيسار
والمانعين غداة الروع جارهم ... بكل أجرد أو جرداء مخطار
والرافعين صدور العيس لاغبة ... تبغي الإله بحجاج وعمار
على حراجيج أطلاح معودة ... ترمي الفجاج بركبان وأكوار
فليتني قبل ما أمسي لحزنكم ... وكل شيء بميقات ومقدار
لفت علي شفاه القبر في جدث ... عرى المنون فرادى تحت أحجار
ولم أر العيش في الدنيا ولم يرني ... ولم يجئني بأنياب وأظفار

ولم أفض عبرات من مواكلة ... على كريم بسفح الواكف الجاري
سمع ابن مسعود وهو يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من غنى يطغيني، ومن فقر ينسيني، ومن هوى يرديني، ومن عمل يخزيني.
ومن كلام العرب، تقول: أعرى من مغزل، وأكسى من بصلة.
يقال: معنى قولهم: حين تقلين تدرين، أي غثه من سمينه.
العرب تقول: أطعت الوشاة والمشاة.
لما اشتدت علة عبيد الله بن سليمان أخذ مغرد غلامه المصحف وفتحه، فخرج " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً " يونس: 24 فمات.
يقال: من لم يكن فيه خمس خصال لم يصلح لشيء من أمر الدنيا والآخرة: من لم تعرف الوثاقة في أرومته، والدماثة في خلقه، والنبل في نفسه، والمخافة من ربه، والأتعاظ بغيره.
يقال: التبازي: إخراج الصدور، والتبازخ: إخراج الألية.
يقال: رجل به سلال، ولا يقال سل.
يقال: احتمل ممن أدل عليك، وأقبل ممن اعتذر إليك.
يقال: قد قرعت له العصا، أي نبهته من الغفلة.
كان عمرو بن عبيد يوصي الناس بحفظ وصية زياد، وكان أولها: إن الله عز وجل جعل لعباده عقولاً عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم بها على طاعته، والناس بين محسن بنعمة الله عز وجل عليه، ومسيء بخلاف الله إياه، ولله النعمة على المحسن والحجة على المسيء، فما أولى من تمت عليه النعمة في نفسه، ورأى العبرة في غيره، أن يضع الدنيا بحيث وضعها، فيعطي ما عليه منها، ولا يتكثر مما ليس له فيها، فإن الدنيا دار فناء لا سبيل إلى بقائها، ولا بد من لقاء الله عز وجل، وأحذركم الله عز وجل الذي حذركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخرته العجزة حتى صاروا إلى دار ليس لهم منها أوبة، ولا يقدرون فيها على توبة، وأنا أستخلف الله عز وجل عليكم، وأستخلفه منكم.
العرب تقول: البريء جريء والخائن خائف، ومن أساء استوحش.
ويقال: الجراءة من البذاءة.
قامت أم سلمة امرأة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى المنصور وهو راكب ومعها ابناها فقال: من تكونين؟ فقالت: أنا أم ولد محمد ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن، وهذان ابناي منه، أيتمهما سيفك، وأضرعهما خوفك، فإن رأيت أن تعطف عليهما لشوابك القرابة، وأواصر الرحم، ولا تصعر خدك لهما، فتتبع الأولى الأخرى، فافعل، فقال المنصور: هكذا والله أشتهي أن يكون كلام نساء قريش، يا غلام اردد على ولد محمد ضياع أبيهما، فردت وأحسن إليهما.
أنشد لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: الكامل المجزوء
إن ابن عمك وابن أم ... ك معلم شاكي السلاح
يقص العدو وليس ير ... ضى حين يبطش بالجراح
لا تحسبن أذى ابن عم ... ك شرب ألبان اللقاح
بل كالشجا تحت اللها ... ة إذا تسوغ بالقراح
وانظر لنفسك من يجي ... بك تحت أطراف الرماح
من لا يزال يسوؤه ... بالغيب أن يلحاك لاح
قال أبو بكر الواسطي: العارف يعرف عن الله بالله عز وجل، والعامل يفهم عن الله عز وجل بغير الله، والأشياء كلها دالة على وحدانيته، فإذا وجد الواجد استغنى عن الدليل.
وقال الواسطي في هذا المعنى: ألا ترى إلى قوله تعالى للعاملين " وأعتصموا بحبل الله " آل عمران: 13، وقال للعارفين: " واعتصموا بالله " الحج: 78.
كاتب كتب إلى أخ له: ما اتفككت عن ودك، ولا انفركت عن عهدك.
قال عبد الملك بن مروان: لأن أخطىء وقد استشرت، أحب إلي من أن أصيب وقد استبددت.
قال أحمد بن مهران في كتاب: لا أجمع إلى العجز عن شكر ما أمكن، التسرع إلى الأستبطاء فيما تعذر.
وقال العامري: قاطيغورياس في لغة يونان هو التخاصم والتناصف.
سمعت أبا عبد الله الطبري، غلام أبي إسحاق المروزي يقول: القرآن أصل علم الشريعة ونصه ودليله، والحكمة بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، والأمة المجتمعة حجة على من شذ عنها.
والأصل كل ما تمكن بنفسه وتفرع عنه غيره، والفرع ما لم يعلم بنفسه.
والعلم معرفة الشيء على ما هو به، والكلام على ظاهره وعمومه حتى يقوم دليل الخصوم.

والأسماء المفردة ثلاثة: عام لا خاص فيه، كقولك: شيء، قال الله تعالى " والله بكل شيء عليم " النساء: 175؛ والثاني: عام من وجه خاص من وجه، كقوله " اقتلوا المشركين " التوبة: 6 و " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " التوبة: 30 فهذا عام في جميع المشركين إلا أهل الكتاب، وقال " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله " المائدة: 41 فهذا عام في من سرق ربع دينار فصاعداً خاص فيما دونه، والعموم لا يقع إلا في هذين؛ والثالث: خاص لا عام فيه كقولك: زيد وعمرو، قال الله تعالى " محمد رسول الله " الفتح: 29 فهذا خاص. وأقل العموم شيئان، وأقل الخصوص شيء واحد.
والمطلق ما لم يقيد، والمقيد ما ضمن وصفاً، قال الله تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم " إلى قوله " وأمهات نسائكم " النساء: 22 فأطلق، وقال تعالى في الربائب " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " النساء: 23 فقيد؛ والعموم ما لو كلف إمضاؤه لصح، والجملة ما لو كلف إمضاؤها لم تعلم حتى تفسر.
وأمر الله على الوجوب إلا ما أفرده الدليل، وكذلك أم النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعال الرسول عليه الصلاة والسلام عند طائفة على الندب إلاما قام دليل على وجوبه. والأمر على ضروب: أمر حتم كقوله تعالى " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله والرسول واتقوا الله " النور: 56 وما أشبه هذا؛ وأمر وعيد، كقوله عز وجل " واعملوا ما شئتم " السجدة: 40 " ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " الكهف: 29 وإذا لم تستح فاصنع ما شئت؛ وأمر تعجيز كقوله تعالى " كونوا حجارة أو حديدا " الإسراء: 50؛ وأمر جزاء كقوله " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " المؤمن: 46 أي هذا عقابكم و " ادخلوا الجنة " الأعراف: 48، أي هذا ثوابكم؛ وأمر إباحة كقوله عز وجل " وإذا حللتم فاصطادوا " المائدة: 31 " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " الجمعة: 10، وقال عز وجل " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " البقرة: 194 أي إن شئتم؛ وأمر إرشاد كقوله عز وجل " وأشهدوا إذا تبايعتم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة " البقرة: 282.
وفي القرآن والسنة آيات أولها ندب وآخرها حتم، كقوله عز وجل " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " الأنعام: 141، " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً " النور: 33 " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " النور: 33، وقوله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن " البقرة: 235، فهذه كلها أولها ندب وآخرها حتم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا، وانتبذوا في الظروف واجتنبوا كل مسكر.
والقياس قياسان: قياس جلي وقياس خفي: فالجلي ما لا تجاذب فيه، قال الله تعالى " ولا تقل لهما أف " الإسراء: 23 " وذروا البيع " الجمعة: 9 " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " الزلزلة: 7 " ولا تلهكم أموالكم " المنافقون: 9 " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً " النساء: 9 والذي يشرب في آنية الذهب والفضة، وإذا ولغ الكلب في الإناء، أو لحم خنزير، ولا تضحوا بالعوراء، ونهى عن الثوب المصبوغ بالورس للمحرم، فكان المسك أشد نهياً.
والقياس الخفي ما تتجاذبه الأصول، كالجناية على العبد، فالعبد فيه شبه من الأحرار وشبه من الحيوان، فألحق بالأحرار لغلبة الاشتباه لأنه أشبه الحر في أنه آدمي وأنه مخاطب بالعبادة وأنه يجري القصاص فيما بينهم وأنه في قتله الكفارة، ويشبه الحيوان من جهة أنه مال.

قال العتبي: لما اشتدت شوكة أهل العراق على عبد الملك بن مروان خطب الناس فقال: إن نيران العراق قد علا لهبها، وكثر حطبها، فجمرها ذاك وشهابها وار، فهل من رجل ذي سلاح عتيد، وقلب شديد، ينتدب لها؟ فقال الحجاج: أنا يا أمير المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال: الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عامر، قال: اجلس، ثم أعاد الكلام فلم يقم أحد غير الحجاج فقال: كيف تصنع إن وليتك؟ قال: أخوض الغمرات، وأقتحم الهلكات، فمن نازعني حاربته، ومن هرب طلبته، ومن لحقت قتلته، أخلط عجلة بتأن، وصفوة بكدر، وشدة بلين، وتنبيهاً بازورار، وعطاء بحرمان، وما على أمير المؤمنين أن يجربني، فإن كنت للطلى قطاعاً، وللأرواح نزاعاً، وللأموال جماعاً، وإلا آستبدل؛ فقال عبد الملك: من تأدب وجد بغيته، اكتبوا كتابه.
عوتب أعرابي على الكذب فقال: لو غرغرت لهواتك به ما صبرت عنه.
قال يونس: لا تعادوا القضاة فيختاروا عليكم المذاهب، ولا العلماء فيصنفوا عليكم المثالب، ولا المياسير فيبذلوا في تلفكم الأموال.
قال عمرو بن مسعدة: الأقلام مطايا الفطن.
قال أبو سمير: إن الناس ليختصمون في الأمر وفيه وجوه من الحق تغمض عليهم، فيموجون حتى يرجعوا إليها، فتصح سبل حجتهم، وتوري زناد صدقهم، وتقوم بينة طلبتهم، وتعرب الألسنة بما في نيتهم.
قال بشر المريسي وقد سئل عن رجل كيف هو، فقال: هو على أحس حال وأهنؤها، فضحك الناس من لحنه، فقال قاسم التمار: ما هذا إلا صواب، هو مثل ابن هرمة: المنسرح
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها
فشغل الناس بتفسير التمار عن لحن بشر.
قال أبو عبيدة: أوصت نوار أن يصلي عليها الحسن البصري، فقيل له ذلك فقال: إذا أجنزتموها فأعلموني، فعجب الناس من قوله إذا اجنزتموها.
قال يموت بن المزرع: قال لي ابن صدقة المزني: ضربك الله باسمك، فقلت له: أحوجك الله إلى اسم أبيك.
صلى الشعبي في مسجد باهلة، فقام أعرابي فسأل، فأمر له إنسان من باهلة برغيفين صغيرين رقيقين فلم يأخذهما، ومضى فجاء برغيف كبير حسن وقال: يا باهلة، استفحلوا هذا الرغيف لخبزكم فلعلكم أن تنجبوا.
قال أبو العيناء: ولى المأمون أصرم بن حميد عملاً، فهجاه بعض أهل الأدب فقال: الطويل
فما منبر نجسته باسم أصرم ... بطهر ولو طهرته بابن طاهر
فبلغ ذلك عبد الله بن طاهر، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وقال له: لم نصلك لهجائك لابن أصرم، فلا تعد لمثلها.
قال أعرابي عند ضجره في طلب رزقه: والله لقد تقلبت بي الأسباب، وقرعت جميع الأبواب، واضطربت غاية الاضطراب، وسافرت حتى بلغت منقطع التراب، وحتى رضيت من الغنيمة بالإياب، فما رأيت الحرمان إلا رابضاً، ولا النجح إلا عارضاً.
كتب علي بن الهيثم الثعلبي إلى عباد الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أكرمك الله عز وجل، فإن الخميس أخو الجمعة، ولا سيما في آخره، فإن كنت غير مختضب ولا محتحب، أتيتك في حاجة هي لي دون صاحبها، وسروري بقضائها فوق سرور المتوسل بي فيها، وإن كنت مشغولاً بما لا بد للعباد من الشغل به، أوحيت بقعودي عنك، إذ كان العذر واقعاً حقاً مجدداً، وألزمت نفسك قضاء الحاجة مؤكداً.
قال الحسن بن وهب: قال المأمون - وكان بليغاً - وقد ذكر التفاح بحضرته: اجتمع في التفاح الصفرة الدرية، والحمرة الذهبية، والبياض الفضي، والنور القمري، يلذها من الحواس ثلاث: العين لحسنها، والأنف لعرفها، والفم لطعمها.
شاعر، وهو ابن المعتز: السريع
ما بال صبحي لا يرى فجره ... وما لدمعي دائم قطره
أستودع الله حبيباً نأى ... ميعاد دمعي أبداً ذكره
وقال إبراهيم ابن هرمة: أصحاب السلطان في المثل كقوم رقوا جبلاً ثم وقعوا منه، فأقربهم إلى التلف أبعدهم في المرقى.
كان في الخريمي إبرام، فقال له الجماز، وقد أبرمه في مسألة: قد أنفدت الشكر، وأفنيت البر، وجزت التودد، والله لو لقيت مصلوباً لعانقته، ولو عانيت أبخر لقبلته، ولو رأيت قاتل أبيك لشكرته.
أنشد للمؤمل بن طالوت مولى سكينة بنت الحسين: الرجز
بدر قريش والذي ... برز في المحافل
ذو تدرإ ومدره ... في كل أمر نازل
وذو لقاء صادق ... وذو قضاء عادل

والناس في ادرائه ... محتلطوا القبائل
من راغب وراهب ... ونازل وراحل
ومنصف لا يتقي ... في الله عذل عاذل
وراجح لا يمتري ... درته بالباطل
ليس بخب خادع ... ولا بغر غافل
نعم الفتى لخائف ... ونعمة لآمل
ونعم مسعار الوغى ... في اليوم ذي البلابل
وقد لحن في قوله ونعمه.
قال العتبي: من شريف كلام بعض السلف: لا تذكرن لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زلة، فإنه إن لم يكن في حسناتهم ما يعفى على سيئاتهم، ففي عظيم عفو الله ما يسع سيئاتهم، واعلم أن الله تعالى لم يأمرك باتباعهم وهو يرضى منك بعيبهم، ولا تيأس لمؤمن - مع ما وصف الله من سعة فضله ورحمته - من عظيم عفوه وتطوله، ولا تثقن لعاص - مع تحذير الله من شدة محاله وأليم عقابه - من نقمته وعذابه، فكم شكر الله اليسير من الخير بكرمه فرحم به، وكم من مستخف باليسير من العصيان قد أوبق به.
قال أبو حاتم: قال أبو عبيدة: إن الجواد عينه فراره، قال: يكفيك من رؤيته أن تفره.
قال شبيب بن شيبة: حضرت يحيى بن خالد وقد قال له رجل: والله لأنت أحلم من الأحنف بن قيس، وأحكم من معاوية، وأحزم من عبد الملك بن مروان، واعدل من عمر بن عبد العزيز، فقال له يحيى: والله لعمير غلام الأحنف أحلم مني، ولسرجون غلام معاوية أحكم مني، ولأبو الزعيزعة صاحب شرطة عبد الملك أحزم مني، ولمزاحم قهرمان عمر أعدل مني، وما تقرب إلي من أعطاني فوق حقي.
قال شبيب: فعجبت من سرعة جوابه، وتعديده هؤلاء حتى كأنه عاصرهم.
قيل لأعرابي: كيف ترى الدنيا؟ قال: وهل فرغني شغلي بها أن أراها؟ قال محمد بن إبراهيم كاتب سيما الدمشقي: سألني علي بن الهيثم حاجة ثم تواني عنها، فقلت له: أنمت عن حاجتك؟ فقال: ما ناء عن حاجته من أسهرك لها، ولا عدل بها عن محجة النجح من قصدك بها.
قال الأصمعي: الشرائع جمع شريعة، وهي حيث يشرع في الماء، وكأن الشريعة في الدين من هذا لن صاحبها يشرب منها فيروى، ويكرع فيها فيسلى، ويغسل نفسه بها فيطهر. ويسقى منها بالبادية سفره فيقطع، فكأنه كمن قدم من الشريعة طاعة الله عز وجل بما تضمنه من الأمر والنهى، والتحليل والتحريم، والحظر والإباجة، والرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، والسلامة واليقين.
والحميل: الكفيل، والحمولة - بالفتح - البعران، - والضم - الأحمال. وبار المتاع: كسد - بفتح السين - ، والحمالة - بالكسر - علاقة السيف، والحمالة - بالفتح - الغرم والدية. وأبشمني الطعام فبشمت؛ ويقال: كسدت يا فلان علي بيعي وأكسدت.
وفرت انا وأفارني فلان، وصاح فلان وأصاحه غيره. وعجفت الدابة أي هزلت.
وفلان ما رأى مني ما يقذي عينه.
والمنبذة: الوسادة، والبذاذة من الإيمان أي التقشف وسوء الحال، وبذ فلان فلاناً أي علاه وسبقه.
ويقال: ناولني شعيلة أي فتيلة فيها نار.
وفلان بضفة الوادي إذا كان على شطه وشاطئه، أي حرفه.
ويقال: ماء مضفوف أي مشغول من كثرة الغاشية والماشية، وكذلك: رجل مضفوف أي كثير العيال، وما رؤي علينا حفف ولا ضفف أي بؤس وفاقه.
وفلان حسن الشطاط أي القامة، وشطت الدار بفلان أي بعدت، واشتط فلان أي جار.
وفرى الأديم يفريه فرياً إذا قطع، والفرى العجب، والفرأ - بهمز، ويقصر - حمار الوحش، وجمعه فراء.
والرقوء: دواء الجرح، ويقال ارقأ على ظلعك، اللام ساكنة، وقد رأيت من فتح اللام في مجلس السيرافي فضحك منه ورده عليه، ومعناه لا تكلف ما لا تطيق.
سمعت شيخاً من النحويين يقول: البدل أن تقدر الاسم الأول تقدير الطرح، وتعدي العامل إلى الثاني، وهو على سبعة أنحاء، منها: بدل المعرفة من المعرفة، مثل مررت بأخيك عبد الله، قال الله تعالى " اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين " الفاتحة: 6و7؛ وبدل المعرفة من النكرة كقولك: مررت برجل أخيك، قال الله تعالى " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي " الشورى: 52 و 53؛ ومنها بدل النكرة من المعرفة مثل: مررت بالرجل رجل صالح، قال الله تعالى " لنسفعن بالناصية ناصية " العلق: 15 و 16؛ ومنها بدل النكرة من النكرة كقولك: مررت برجل غلام ظريف، قال الشاعر: الطويل

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
الشين مفتوحة، ولقد غلط فيها مرة مسكويه وكابر إلى أن فضحته المحنة، وسورته المواقعة والإعجاب مصرعه؛ وقل من تكبر على الناس وحقر أهل الفضل إلا عاجلته العقوبة، ونهكته اللائمة، وأمكن منه الدهر.
نعم، ومنها بدل البيان مثل: ضربت زبداً رأسه، وجاءني قومك بعضهم، قال الله تعالى " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " آل عمران: 97، لأن فرض الحج يوجه إلى المستطيع؛ وبدل الأشتمال كقولك: سلب زيد ثوبه، لأن السلب اشتمل على الثوب فأبدل منه لدخوله في المعنى، قال الأعشى: الطويل
لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم
ومنها بدل الغلط، ولا يجوز ذلك في كلام الله تعالى ولا فصيح الشعر، وذلك مثل قولك: مررت برجل حمار، كأنك أردت الحمار فسبق لسانك إلى الرجل ثم استدركت فقلت الحمار.
لشاعر في الفضل بن مروان: البسيط
لا تغبطن أخا الدنيا بمقدرة ... فيها وإن كان ذا عز وسلطان
يكفيك من عبر الأيام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان
إن الليالي لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان
والعيش حلو ومر لا بقاء له ... جميع ما الناس فيه زائل فان
قال رجل لأعرابي: كيف أنت؟ قال: كما يسرك إن كنت صديقاً، ويسوءك إن كنت عدوا.
قيل لإبراهيم بن شكلة: من المغني؟ قال: الذي تفرع في أجناسه، ولطف في اختلاسه، وتمكن من أنفاسه، وقرع بالمعنى سمعك، وصدع به قلبك.
أنشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الكامل
إني لأمنح من يواصلني ... مني صفاء ليس بالرنق
وإذا أخ لي حال عن خلق ... داويت منه ذاك بالرفق
والمرء يصنع نفسه ومتى ... ما تبله ينزع إلى العرق
كتب غيلان الشامي إلى عمر بن عبد العزيز وهو خليفة: أما بعد يا أمير المؤمنين، فهل رأيت حكيماً أمر قوماً بأمر ثم حال بينهم وبينه، ثم عذبهم عليه؟ فتعجب القوم من قوله وعنده رجل فقال: الرسالة ناقصة، لو زدنا فيها شيئاً تمت، قيل: ما هو؟ قال: لو قال: هل رأيت قادراً قاهراً يعلم ما يكون، اتخذ عدواً لنفسه، وهو يقدر على خلاف ذلك؟ فأهدر دم غيلان.
انظر - أرشدك الله - تعالى كيف ماج بالناس هذا الرأي، وغمرهم فيه الهوى، وملكتهم الفتنة، ونأوا عن الحق، وخالفوا إلى الباطل، مع علمنا أن الحق أبلج، والباطل لجلج، وأن الأمر بين، والصواب ضاح؛ لقد جهل الله من استخرج أسرار فعله بعقله، وما قدره حق قدره من وزن إلهيته برأيه ألا ترى أن قدرته وراء عقلك، وحكمته فوق إدراكك، وتدبيره في خفاء من معرفتك، وإنما بين ما بين تشويقاً، وأغمض ما أغمض تحقيقاً، ليبقى بينك وبينه ما تكون به عبداً ويكون لك إلهاً.
اللهم إن خلقك رجموا دونك الظنون، وجانبوا في معرفتك اليقين، بعدما أزحت العلل، وأوضحت السبل، وحققت الحق، وأبطلت الباطل، وزينت المحلى، وحليت العاطل، فراموا الإحاطة بك، والوقوف على سرائرك، والمشاركة في إلهيتك، هذا وقد أعجزتهم عن الإحاطة بأنفسهم، والوقوف على سرائرهم.، ومشاركة بني جنسهم، وعرفتهم تناقض تدبيرهم في خلال أمورهم، ورميتهم بالذل في قعر عزهم، وضربتهم بالحاجة في نفس غناهم؛ اللهم فكن لنا لطيفاً، وبنا رؤوفاً، فإنك إن تركتنا في أوطان عجزنا، ومساكن ضعفنا، تمكن الهوى منا، ولعب الشيطان بنا، واستولى البلاء علينا. اللهم رحمتك نرجو، وعذابك نخاف، ووصالك نبغي، وهجرك نعاف، وإلى رضاك نميل، ومن سخطك نهرب، وإياك نطلب، وفيك نتهالك، فأجعل جزعنا من أحكامك صبراً، واقلب معارضتنا لك تسليماً، وانتصر لفاقتنا إليك بغنانا على يديك، حتى لا يرد علينا من قضائك إلا ما يقرن بالرضى، ولا يصعد إليك من شكرنا إلا ما يمتري المزيد، ولا يهجس في نفوسنا مما فيه هلاكنا إلا محقته من قدرتك بما يكون فيه ملاذنا، إنك أهل لما لاق بإلهيتك، وحكى آثار تفضلك. إلهي لو ظهر سرك كظهور قدرتك، لباد خلقك، ولو خفيت نعمتك كخفاء سرك لجهل حقك، لا إله إلا أنت حقاً، ولا زال خلقك لك خلقاً.

بعث الحجاج أدهم بن محرز الباهلي إلى أهل سجستان وكتب إليهم: أما بعد، فإني قد بعثت إليكم أدهم بن محرز، ومو ما علمته طويل الجلوس، دائم العبوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة، فاسمعوا له وأطيعوا.
قيل لأعرابي مات أخوه: صف لنا أخاك، فقال: كان شديد العقدة، لين العطفة، يرضيه أقل مما يسخطه.
وقال معاوية على المنبر: يا أهل الشام، إنكم والله ما أنتم بخير من أهل العراق، ثم تداركها فقال: إلا أنكم أعطيتم بالطاعة، وحرموا بالمعصية.
لله أبوه من منذر ثم مبشر في ضروب الخير والشر.
دخل نساء من أهل الكوفة إلى سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يعزينها في زوجها مصعب، فقالت: لا جزاكم الله خيراً يا أهل الكوفة: أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة.
أتي محرق غسان بنسوة من تميم، فأراد قتلهن لنذر، فطلبن إليه العفو فأبى، فقالت له امرأة منهن: ما لك أطال الله سهادك، وأطفأ رمادك، والله إن تقتل إلا نساء أعلاهن ثدي، وأسفلهن دمي، والله ما أدركت ثاراً، ولا محوت عاراً. فأمر بتخلية النساء غيرها وقال: ما أقتلك إلا مخافة أن تلدي مثلك.
وقيل لأعرابي: كيف ترى شيخوختك من شبابك؟ قال: كما ترى عمارتك من خرابك.
لعلك - أيدك الله - قد مللت ما سلف من البصائر والنوادر مما هو جد يوهي قواك، أو هزل يلهي قلبك، ولعمري في الهزل دواء النفس، وطرد لجاثم الكرب، وراكد الفكر، ولكني كما أرى لك أن تتداوى به، فإني أنهاك أيضاً عن الأستمرار فيه، لأن مأتاه سهل، ومأخذه شديد، وقل من ألف مواطن العبث، وألفاظ الخبث، إلا استماله الهوى، ولصقت به الغرة، وخيف عليه الهلاك، وإن الذي يتولد من الجد مع كزازة النفس، وسوء التأني، وبعد السهولة، وبغض التشدد، وثقل الروح، أرجح عند الله وأقرب إلى الطهارة وأدخل في باب الورع. جرس الله النعمة عليك، ولا شغلك التمتع بها عن الشكر لواهبها - فإن الشكر مربوط بالمزيد، وحق على واهب النعمة إذا رأى الإخلاص في الشكر أن يصلها، ويتابع المدد منها - وقربك إلى الخير، وصرفك به، وقصر همتك عليه، وجعل لك فيه تمام الرغبة، وغاية الطلبة، وأمنك عند تضاعف النعم من استدراجه، وثبتك عند ترادف المحن على منهاجه، ولا أخلاك من مواد توفيقه، وثمرات تحقيقه، بمنه وجوده، آمين.
فاسمع الآن فنوناً من المسائل قد كان الوعد تقدم بها، والقول سلف فيها، وتأملها تأملاً شافياً، واقتبس فوائدها، واختلس منافعها، واجعل نظرك في الجملة والتفصيل، للتحقيق والتحصيل، ولا ترض لنفسك بالخسيس، فقد أريد بك الشرف، إذ وهب لك العقل الذي به تستجلي خزائن الملك، وإليه تفزع فيما حزبك من أسباب الهلك، وإياه تستشير عند اختلاف اليقين والشك، وعليه يتم كل شيء تعلق بالفتك والنسك، وقد رفدتك الطبيعة، وصحت فيك الغريزة، فما بقي لك إلا المسارعة في طلبه، وصحة الرغبة في التحلي بين أهله، حتى تكون كامل الموهبة في الأصل، محمود التجربة في الفرع، آخذاً بأدب الله عز وجل، جارياً على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناصراً لحق الله، هادياً إلى دين الله، مستحقاً لثناء عباد الله، مذخوراً له ثواب الله، فهناك الراحة والعز، والغبطة والفوز.
ما معنى قول الله عز وجل " وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون " الأنبياء: 31، فلقد رأيت من سأل أبا الحسن الأنصاري وقال: إنما يصح هذا المعنى لو كان الإنسان يحيا بالماء، والحي يموت به إذا شرق، ويموت فيه إذا غرق، وإن كان المعنى أن الحياة مستمدة منه فكذلك جميع ما غذاه مما أمسك الرمق، فما وجه الأختصاص على طريق لا يقع فيه التباس؟ ولم يحصل من الأنصاري لفظ يعتاد، ولا تأويل يستفاد، راغ هكذا وهكذا، وترك السائل على عطنه، يفري ويذر، والجواب سهل قريب، وسيمر بك في عرض غيره إذا وصلت إليه وأشرفت عليه.
وما معنى قوله تعالى " إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم " الزخرف: 88 والصفح: العفو، وكيف يعفو عن قوم لا يؤمنون؟ وإن كان مأموراً بالعفو عنهم وهو المبعوث إنه لأولى بالعفو وهو الباعث، والباعث إله معبود، والمبعوث عبد عابد، فانتظر جواب هذه أيضاً، فما خلص من هذا النمط إلا بهجر الرقاد، ومسح البلاد، ولقاء الجهابذة النقاد.

وما معنى قوله عز وجل " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " الأنفال: 17 فقد رأيت ناساً عرض لهم من ظاهر هذا الكلام ما ينافي المعنى، ولم يصح لهم التأويل الصحيح، وكانوا طوال الأيدي في العلم، حذاق الخواطر في الجدل، فصحاء الألسنة لدى الحجاج وتحكم التشكيك، وانتهوا إلى الترادع والتلاوم، ولو لم يعجبوا بما عرفوا لوضعوا الحد في تعرف ما لم يعرفوا، وفوق كل ذي علم عليم.
وما وجه قوله عز وجل " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " الأنعام: 103 وإذا ضممته إلى قوله " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " القيامة: 22 فإنك إن حملت أحد القولين على الآخر لم تبرأ من تعسف أو تكلف، فقفنا على المعنى الموقوف به فيهما، وعرفنا مراد الله عز وجل منا بهما، فالخطب قد أعضل من أجل هاتين الآيتين حتى صار الباحثون عن الحق فيهما إلى الاختلاف الشديد، والشتات العتيد، واستحل فيه الدم، وعق بسببه الوالد، وهجر الوطن، وأطلق التكفير، وهذه مصائب الدين الذي ندين به، ونعتصم بحبله، وندعو إلى الإذعان له، والإقرار به، وقد عاد غريباً كما بدأ غريباً، وحق قول الرسول الحق حين قال: إن الأسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء.
ولن تجد في القرآن معنى قول علي بن أبي طالب عليه السلام: المرء مخبوء تحت لسانه، ولن تجد معنى قول الناس: لكل مقام مقال، وأين ترى فيه الفرق بين الضياء والنور، وما يدل على شرف أحدهما عند الآخر؟ ولن تجد فيه معنى الجواسيس؛ فقد قيل لسفيان بن عيينة، وكان عجيب الانتزاع عن إلهام: أين الجواسيس في القرآن؟ فأجاب وأصاب. وأين معنى قوله عليه السلام: من آذى جاره أورثه الله داره، فقد أصاب أيضاً سفيان بن عيينة، وقد مر في الجزء الأول إن كنت قد حفظته.
وعرفني موضع الدلالة من قول معتزلي لمجبر: أليس الباطل بين السماء والأرض؟ قال: بلى، قال: فأعلم أن الله ما خلقه لأنه قال: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً " ص: 27 فانقطع الخصم، فأين وجه التأويل على حقيقته؟ وهل ما عرض لهذا المعتزلي حق؟ وبين أيضاً صحة قول من تأول قول الله عز وجل " وجعلنا لهم لسان صدق عليا " مريم: 50 أن المراد به علي بن أبي طالب عليه السلام؛ والقائل بهذا مقدم في النحو على طبقته في العلم، وهو ابن المراغي.
وحدثني عن قول آخر، لا يجوز أن تقرأ " ووجدك ضالاً فهدى " الضحى: 7 وإنما هو ضال، والوجدان لا يتم في الضمير؛ وهذا الرجل من النظارين وأهل الجدل على طريق الإمامية.
هذا طرف مما تصرف فيه المحصلون الذين قالوا على بصيرة في المذهب، وبيان من المقالة، وتعقب لما اختاروه ودانوا به، وأما هواجس الجهال، وتسرع الناقصين فمما لا اعتداد به، ولا اعتماد عليه. أنا سمعت أبا الفرج البغدادي الصوفي، وكان ذا لسان ومنظر وهيبة، وقد سئل عن قوله تعالى " ولا تنيا في ذكرى " طه: 42 فقال: هذا سهل، هذا أريد به النأي، هكذا قال، فصار خطاؤه موشحاً، لأن النأي ليس بشيء، إنما يقال نأى إذا وقع الخبر عن التنائي الذي هو البعد، فاما تنيا فليس من النأي، ولا من نأى، لا من الاسم ولا من الفعل، إنما هو ونى يني، ونى وونياً، ومنه التواني والتقصير، والأمر منه: نه.
وأبو الفرج هذا أشرف على قوم وهم يتازعون بينهم: هل يقال فلان لغوي أو لغوي، وقد انتهب الكلام انتهاباً، وذهب بالصواب عنهم ذهاباً، فقال أحدهم: هذا أبو الفرج سلوه، فأقبلوا عليه وسألوا فقال: ما أبين الجواب وأظهر الحق!! أما سمعتم قول الله عز وجل لموسى " إنك لغوي مبين " القصص: 18، فتحول المجلس ضحكاً ولعباً.
وسمعت رجلاً يذهب مذهباً في الباطن يقول: والله ما أعجب إلا من قوم يعتقدون أن الجنة واحدة، والله عز وجل يقول " وجنات ألفافاً " النبأ، قلت: فكم هي عندك؟ قالك كما قال الله تعالى: ألف ألف، لعلك، من العامة أو أشباه العامة؟! قلت: لا والله أنا بريء منهم.
وكان المقراضي الصوفي يقول: أنا دهقان، والله تعالى وكلني، ومن شك في قولي تلوت عليه من محكم الكتاب ما يسقط بغيه وينفي وهمه.

وقال لي مرة: لم يذكر الله تعالى أبا بكر الصديق في ظاهر الكتاب، وأبو بكر أبو بكر، لا يساجل فضلاً، ولا يباري سبقاً، وذكر المغيرة وهو لا يدخل في زمرته ولا يوجد قريباً من كعبه، قلت: ما أدري وما اعرف للمغيرة ذكراً في الكتاب، قال: بلى ولكنك قليل العناية بالتلاوة، ثم قرأ " فالمغيرات صبحاً " العاديات: 3، وأنشأ يقص، فذهب عقلي تعجباً.
هذا - أيدك الله - ونظراؤه أزاغوا أصل العلم، ونقضوا عرى الحق، ومحوا محاسن الدين.
وما محصول قول سهل بن عبد الله، وهو عند أصحابه العالم الرباني والعالم الإلهي، حين قال: لقد وجدت إبليس أذأمهم، وذاك أنه تراءى لي فعذلته على إبائه السجود لآدم عليه السلام وتركه ما أمر الله عز وجل به، فقال لي: أمثلك يقول هذا؟ أما تعلم أنه أرادني بعلمه ولم يردني بأمره، لأن علمه حتم، وليس أمره حتم، في حكاية طويلة لا طائل في ذكرها، وإنما سقت منها عين الحجاج، وعين المراد.
وما الفرق بين قوله عز وجل " إنما أنت منذر من يخشاها " النازعات: 45 وبين قوله " إنما تنذر من اتبع الذكر " يس: 11؟ وهل قول الزجاج: إنما يقول الله تعالى للشيء كن فيكون، وليس الشيء بحاضر، لأن ما هو معلوم عنده بمنزلة الحاضر، صحيح من المعارضة. سليم عن المناقضة؟! وما معنى قول من قال: قال الله عز وجل " والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء " يونس 25 هو عموم في باب الدعاء، وخصوص في باب الهداية؟ وهل يصح هذا الإطلاق؟ فإن العموم والخصوص معنيان يتبعان جوهر الكلام وعين الخطاب.
وكيف ترى اعتراض آخر حين قال وقد أقبل على جماعة يتناظرون في القرآن: أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: المراء في القرآن كفر؟ فكيف الانفصال من هذا الظاهر، وكيف المخلص؟ فإن خذا متى استمر لزم الإمساك عن البحث، والتفرد للنظر، والإيجاب للسؤال والتكلف، وغير القرآن محمول على القرآن، وهو مخصوص بتعظيم الشان والأمر له والإذعان.
وافسح بالك للسماع والتحصيل والفهم والإدراك حتى أسألك عن مسائل لطيفة: عرفني ما السبب في إطباق الناس على أن التكلف مكروه، وعلى ان المتكلف معنوت عليه، ممقوت فيما اختاره، ومردود إليه ما أتاه وإن كان حسناً وبالغاً، وما عري من التكلف وخلا منه محبوب ملتذ مقبول، وإن كان دون التكلف؟ وقد قال الله عز وجل " وما انا من المتكلفين " ص: 86 في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ومن اتبعني براء من التكلف.
وعرفني معنى الاستطاعة، وما سرها؟ وهل هي على حد ما ذهبت إليه المعتزلة، او على سبيل ما قالته المجبرة، وما حيثيتها وما مثالها؟ وعرفني أيضاً معنى التوفيق فإنه لطيف، ولا أحد إلا وهو يسأل الله وبه التوفيق. الناس - أيدك الله - يلتقون في هذا المعنى على خيط الوفاق، من زعم انه مزاح العلة، ومن زعم أنه محتاج إلى المادة. وهل التوفيق لطيفة من الله عز وجل، متى جاد بها وساق عبده إليها تم الصلاح، وعم النجاح، ونيل المراد، وسقط التمني؟ وإن كان لطيفة فكيف منعها عبده والعبد محتاج بإحواجه، وهو غني بنفسه، وليس هناك بخل، ولا بينه وبين عباده دخل - هذا وانت لا بد من أن تقول: قد فعل فعل الصلاح او الأصلح، ولا تجنح في الجواب إلى انه علم من عبده أنه متى جاد عليه بتلك اللطيفة فسد، ومتى أسبغ عليه النعمة جحد، فقد جحده الجاحد، وكفر به الكافر، ولم يهلك على الله إلا هالك. على أن علمه وبما يكون وبما لا يكون، لو كان كذا وكذا، علم لا يوجب عليه فعلاً دون فعل، ولا أمراً دون أمر. وقد رأيت من يجعل علمه علة لكل شيء، وسبباً في كل شيء، وهذا هو العجز والجهل والتمويه والاحتيال. الحق أنور من ذلك.
وعرفني ما معنى قول أبي يزيد البسطامي: ليس إلا الأنس بالجهل، والتعلل بالتعلم، والرضى بالتافه، والمصير إلى حد مجهول؟ وأبو يزيد هذا من نوادر الرجال، وهو معدود في طبقة الأفاضل، ومضاف إلى ذوي الإشارة.
وعرفني معنى الاتحاد، والمواصلة في حقيقة الانفراد، فقد كبر الخطب في هذا الباب من أرباب هذه العبارات حتى لم يخلص ما ذهبت إليه، ورهنت نفوسها عليه. وكان بعض الناس لا يفرق بين ما يقوله النصاري في الاتحاد وبين ما يقوله هؤلاء في حقيقة الانفراد، والفصل بينهما مبين، والقول فيهما قوي متين.

وعرفني ما به نتشابك ونتشارك، وأين ذلك مما يختلف ويتباين، ويتعادى ويتواصل، وإن كان ذلك محصوراً بعدد فاذكره إلى آخره حتى ننظر إلى كثرة ما به نختلف ، وقلة ما به نأتلف، فإن صح هذا بيننا عرفنا ما بيننا وبين الحق لنا.
وعرفني ما الحاجة إليه أشد، والعائد معه أمد، والقول فيه أسد، والنفع منه أرد: ما تأثير العقل، وما حكمه، وما غاية ما يناله، وما هو أولاً، وما حده وحقيقته من المحجوج به، وهل يستقل بنفسه، وما حكم من عدمه، وما مزية من منحه وأنعم عليه به، وما عوض من حرمه واقتطع عنه، وإلى أين يبلغ في البحث والعرفان، وهل له في الأزل استقلال، وهل له في الآخر استقرار، وما سبب تموجه واضطرابه، وشبهه وانقلابه، ومن أين مادته، وبأي شيء زيادته، وأين أفقه، وما غائلته، ومن أين فساده وما يمر به وعاقبته، وما نسبته إلى العدد، وما تعلقه بالحقن وأين يصيب التكليف به، وكيف اطرد الثواب والعقاب على صاحبه، والمدح والذم على الموسوم به؟ فإن الكلام في هذا الباب عظيم الجدوى، غزير النفع، جم الفوائد، حلو الثمرة، محمود العاقبة. ولو لم يكن في استنباط هذا المعنى، واستخرج هذا المغزى، إلا فساد التقليد، ومفارقة الجهل، ومواصلة الطلب، لكان فيه ما يجعل التعب فيه راحة، والمشقة فيه تنعماً، فكيف وقد قيل عن الله عز وجل إنه لما خلقه قال: بك آخذ وبك أعطي؟ وحدثني بعد هذا عن المحبة، وهل تتصف، وهل يكون الله تعالى محباً للعبد، وإن كان فعلى أي وجه، وأين مكان محبته للعبد من محبة العبد له، ومتى كان للمحبة حقيقة بطل فيها الفصل واستحال عليها التباين.
وأخبرني عن المعرفة - معرفة الله تعالى - وما هي أولاً حقيقتها؟ فقد قال شيخ من شيوخ المتكلمين في صدر كتابه، اعلم أن أول ما يجب على المكلف النظر المؤدي إلى معرفة الله. وكان القاضي أبو حامد المروروذي يقول: قد اعترض على هذا الكلام ناس، وذلك ان هذا الرجل ذكر الوجوب والأول وهذا لا يعرفان إلا بدلائل أخر، وإن من لم يعرف هذه المعرفة لم يعرف الوجوب ولا الأول، ولا الوجوب بأنه مفرد، والعاري من المعارف لا سبيل له إلا التسليم. ثم قال المكلف، والتكليف أيضاً متعلق بمكلف، فمن هذا المكلف؟ أعقله الذي هو حامد شاكر لم يلطخ بالشبه ولا بالمعارض الفاسدة، ولا بالأقوال المتناقضة، ولا بالعادة الرديئة، ولا بالمنشأ المكروه، ولا بدواعي السوء، إنما هو على نور من واهبه، وفطره من فاطره، أو لبه الذي هو في طريق عرفانه؟ ثم قال: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى فخص هذا النوع من النظر دون سائر أنواع النظر، وأني لهذا المبتدئ هذا النظر وهذه القوة وهذا البيان؟ وهل تصفح فنون النظر، ووقف على أصناف المعارف حتى يستخلص النظر المؤدي من سائر النظر الذي لا يؤدي؟! وقال أيضاً أبو حامد المروروذي اعتراضاً على صاحب الكتاب: لولا تجوز أرباب هذا الشأن لما أقدموا هذا الإقدام، لأن معرفة الله تعالى ليست من جنس المعارف؛ ألا ترى أنك تقصد في نفي الإثبات نفس جمع الصفات - أعني الصفات التي تجد عليها جميع الموجودات - فتقول: ليس هو جسماً ولا عرضاً، ولا حالاً في شيء، ولا قائماً على شيء، ولا متصلاً بشيء، فحكم ليس هو حرف نفي على موجود، وهو أول كل شيء ثابت.
وكان إذا امتد نفسه في هذا الباب وما أشبهه، قيل له: كيف الوصول إلى المحصول؟ فيقول: ليس إلا الاستعانة بالله والإقبال عليه، واقتباس النور من لدنه، فما رام العبد قط مراماً فتم إلا به، ولا توجه إلا إليه؛ وكان يشير إلى الله، أن الله يلهم المحتصين، ويمد قلوبهم بدواعي الخير وخواطر الحق، وكان لا يسيغ هذا النمط، وإنما خرج إلي بذات صدره للأنس الذي كنت معه عليه. وكان أصحابنا المتكلمين لا يرون له وزناً في الكلام، ولا يعدونه في طبقة أهل التمام، ويقولون: الفقه مسلم إليه، والسير موقوفة عليه، فأما ما عداهما فهو ظالم فيه إن تكلم، ومقصر إن توهم.
وقال صاحب الكتاب: فأما من استدل على وجوب المعرفة بأن الله تعالى لو لم يوجبها لكان قد أباح الجهل به، فليس يتم، لأن الجهل قبيح، وكون الشيء مباحاً يفيد حسنه. وزعم أن بعض الناس قال: الدلالة على أنها - يعني المعرفة - من أول الفرائض يعني أن الطاعة لا تصح لمن لا يعرف.

قال - وهذا تقريب - : ألا يرى أن، الطاعة إنما كانت طاعة لموافقتها الإرادة، وقد يصح أن يوافق الفعل إرادة الله وإن كان الفاعل لا يعرفه، بأن ينصر مظلوماً أو يغيث ملهوفاً، وإن ذلك يقع حسناً طاعة لله عز وجل مع الجهل به. فقد بان لك أن ما قاله تقريب.
وهذا أيضاً - أيدك الله - كلام طريف، لأن إغاثته الملهوف، ونصرته المظلوم، متى وقعتا موافقتين لإرادة الله، والله إنما أراد وقوعهما منه على صفة معروفة، وهو أن يكون عارفاً بالله غير جاهل به، ومتى لم يوجد على هذه الصفة، كان فعله حسناً وطاعة إذا أضيف إليه لا إلى الله عز وجل، ووقعت عليه لا على الله عز وجل، لأن الفعل لا يصح ان يكون طاعة إلا والفاعل مطيع، والفاعل لا يكون مطيعاً إلا وهناك مطاع، ومتى أجيز لنا المطاع عن معرفة لم نعتد بطاعته، ولم نطمئن إلى حسنه، لأن، ذلك حسن ما دام ظاهره مشاركاً لظاهر العارفين، فأما وباطنه مناف لباطن العارفين فليس فعله بحسن ولا طاعة.
وقال صاحب الكتاب: ليس يجوز أن يكون العلم الواقع عقيب النظر من فعل الله، لأن ذلك كان يقتضي أن لا يعترضه الشك، وأن يجري مجرى سائر العلوم الضرورية التي يفعلها الله عز وجل. قال: وإذا لم يكن فعلاً لله عز وجل فيجب أن يكون فعلاً للإنسان، ويجب أن يكون متولداً عن النظر، لا تقع عين المنظور فيه دون غيره من سائر الوجوه التي يجوز للناظر دون المنظور فيه علمها؛ وهذا أيضاً فيه هضم شديد، وظلم بين؛ متى كان هذا الإنسان فاعلاً هذا العالم مع جهله بموضعه ومقداره ومكانه ومخرجه ومورده؟ وإنما هو كالهدف للخواطر، والمقنص للأفكار، فما لاءم طباعه وشاكه مزاجه ثبت، وما نافر نفسه ونافى جنسه ذهب، فكيف يكون فاعلاً لهذا النظر الذي لو وقع غيره موقعه لما فصل بينه وبينه؟ هيهات! البينة في معرفة الله تعالى عادلة، والشهادة قاطعة، والريبة زائلة، والهمة ساقطه، والمعارضة مرتفعة، والحق فيها ممدود، والسرادق مضروب الأطناب، مغشي المحل، والفطرة بها ناطقة، وإليها داعية، وإنما سنح ما سنح على وجه التطهير، وعلى سبيل التمحيص للنفس، وإلا فمن ذا الذي عبد غير الله فاطمأن مع معبوده؟ ومن هذا الذي نفاه فلم يستوحش؟ أم من هذا الذي اعترض عليه فلم يستوهل؟ أم من هذا الذي ميل فلم يمل إلى إثباته أكثر مما يميل إلى نفيه.
إن معرفتك بالله تابعة لمعرفته بك، وقد عرفك وعرفته، وإنما بقي عليك منك ما حجبك عنه بك، ومتى نقيت من أدرانك ومدانسك بمفارقة شهواتك، ومزابلة شبهاتك، وصفوت من كدرك بطهارة أسرارك، ومخالفة إرادتك، لاح لك المكون مجرياً للكون، وبدا لك الحق جارياً في كل عين، وغنيت في فقرك، واطمأننت في اضطرابك، وعززت في ذلك، وحرست في نفسك، فإنها أسرع أعدائك إليك، وأغمضهم مدرجاً عليك. ولا تعرين هذا الفن من الألفاظ، فقد نقحت تنقيحاً يهدي إليك الإشارة وإن لم تصقل العبارة.
ما أخوفني - أيدك الله - أنك قد مللت هذا الفن وعفته، وأصبته كريهاً في نفسك، وبعيد الملحظ بعينك.
واعلم أن العلم لا يبدو إليك، والفضل لا ينجلي لك، والمجد لا يكلف بك، والصيت لا يعظم عليك، نعم والعمل لا ينقاد لك، والفاقة لا تنفى عنك، ورضا الله لا يجاد به لك، وناره لا ترد برداً عليك، وجنته لا تزدلف إليك، حتى تقف همتك على العلم، وتصرف نهمتك إليه، وتجعله ملهاة لطربك، ومسلاة لحربك، ومنتجعاً لعقلك، ومستمداً لفضلك، وحتى ترى أن ختامك في الموت عليه، واستراحتك في التعب به، حتى تؤثره على ثوبك الناعم، وبدنك الممتع، ومشربك الروي، ومطعمك الشهي، وجاريتك الحسناء، ودارك القوراء، وابنة عمك الموافقة، وعقارك المغل، وصنيعتك الرائعة، وفرسك الجواد، ودرتك اليتيمة، وحديقتك المنورة.
فاستعن الله في خافي أمرك وباديه، وفي فروعه وأواخيه، فإنه مالك الأمور، ومقلب القلوب، والجالب لكل خير، والصارف لكل شر، بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.

وقد بقيت طائفة كبيرة من المسائل، وكان تقديري أنها تتم في هذا الجزء، لكنها شرست علي والتبست، وبان عجزي بها، واختلط تدبري فيها، والمعذرة إليك إن تفضلت بالقبول، وأحسنت التأويل، أو قاربت في التقريع والتأنيب، فعرضي عرضك، وما أطرد على اطرد عليك، ولو انفردت بالإساءة صبرت على التعيير، ولكني أتصل بك، وأنتسب إليك، وشديد علي أن تؤتى من جهتي، كما أنه عزيز علي أن أوتى من جهتك، ومتى سقط التنافس وقع التوانس، وزال العتب، وذهب القبيح، وثبت الحسن، وقد قيل: الطويل وعين الرضا عن كل عيب كليلة حبب الله إليك الطاعة، ورزقك منها الإخلاص، ووهب لك النجاة، إنه عزيز حكيم.
قال زياد على المنبر: أما بعد، فإنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي ملكنا، ونذب عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم حق الطاعة فيما أمرنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا بطاعتكم، وصفو مودتنا بمناصحتكم، مع أني مهما قصرت في شيء فلست مقصراً في ثلاث: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم، ولو أتاني طارقاً بليل ولا مجمراً لكم بعثاً ولا حابساً عنكم عطاء، فادعوا الله لأئمتكم بالصلاح، فإنهم ساستكم المؤدبون، وكهافكم التي إليها تأوون، ومتى يهلكوا تهلكوا، ولا تشعروا قلوبكم بغضاءهم فيطول غيظكم ثم لا تظفروا بحاجتكم؛ نسأل الله أن يعين كلا على كل.
تعجب - حرسك الله - من هذا الكلام، فإنه أسلس من العذب الزلال، وألين من الهواء المنبسط، وأحلى من الشهد المشتار. ولئن كان القوم مع هذا الكلام الدال على ما وراءه من الفعل الرصين آثروا الدنيا على الآخرة، إن العجب ليشتد منهم، والغيظ يكبر عليهم، وإن كانوا نالوا الآخرة مع ما نالوا من الدنيا، إن القوم لصفوة الله وأبرار عباده: نسأل الله أن يجعل حظنا من الآخرة فوق حظنا من الدنيا، فالخاسر من أراد حرث العاجلة دون حرث الآجلة.
قيل لأعرابي: صف لنا أفضل الخيل فقال: المقبلات كالقنا، المعرضات كالدبا، المترصات كالنوى، المدبرات كالفرا.
شاعر: الطويل
وما هي إلا ليلة بعد ليلة ... وحول إلى حول وشهر إلى شهر
مطايا يقربن البعيد من الردى ... ويذهبن أشلاء الأنام إلى القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوافر
قال المدائني: قدم أعرابي من بني هلال يكنى أبا الرغيف من أخوال عبد الله بن عباس البصرة، وعبد الله بها وال، فكان يكرمه ويدنيه فقال له يوماً: هل تتخمون في بلادكم؟ قال: وما التخم أصلح الله الأمير؟ قال: الطسأ، قال: لاها الله إذن ما نطسأ، قال عبد الله: مم ذاك؟ قال: من أنا لا نخلي المعدة فترق، ولا نكظها فتحق، وأنا نأدم الأكل بشيء من الذوب ولا نستكمل التكاة. قال: فهل تلوون؟ قال: وما اللوي؟ قال: المدخر قال: لا، قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا إذا طبخنا اللحم هرتناه، وإذا شويناه أنضجناه، وإذا مضغناه فتتناه، قال: هذا إذن من هذا. قال: فهل تتعرون؟ فتضاحك ثم قال: وأنى لنا بالتعري أصلح الله الأمير، في أجسادنا ربل.
قال ثعلب، قيل لأعرابي: ما تطعم الخرء؟ قال: أذقته؟! كتب بشار بن برد المرعث يعزي أخاً له: أما بعد، فإن أحق ما اغتنمنا حلوه، وصبرنا على مره، واستدمنا مكروهه، ونافسنا فيه أهله، وأحق ما أغلقنا أبوابه، وصرمنا أسبابه، وزهدنا في وده، ومللنا فجائعه، الدنيا التي لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجائعها. وقد خبر الله تعالى عنها وكفى به خبيراً فقال " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح " الكهف: 46 فكتاب الله موعظتنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسوتنا، فأي موعظة بعد كتاب الله، وأي أسوة بعد رسول الله، وقد قال الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " الأحزاب: 21 ثم دعا للميت بالثواب والمغفرة، وللمعزى بإلهام الصبر، وتعويض الأجر.
هذا آخر الثاني، والثالث على أثره إن صرفت عني عتبك في جميع ما غرض من النفس، ودل على العجز، وأغلق باب العذر، والله أسأل معونة تكفي مؤونة، وهداية تنفي ضلالة، وإزاحة تكسب راحة، وحالاً تحمد عاقبة، إنه ولي الخير، ومالك الأمر، لا إله إلا هو سبحانه عما يصفه الظالمون.

انتهى الجزء الثاني من كتاب البصائر والذخائر فرغت من تعليقه يوم الخميس سادس وعشرين جمادى الآخرة من سنة ثمان وعشرين وستمائة والحمد لله كثيراً وصلى الله على سيد المرسلين محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وعترته المكرمين أجمعين حسبي الله ونعم الوكيل.
//بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعني بمنك
الجزء الثالثاللهم أنت الحي القيوم، والأول الدائم، والإله القديم، والبارئ المصور، والخالق المقدس، والجبار الرفيع، والقهار المنيع، والملك الصفوح، والوهاب المنوح، والرحمن الرؤوف، والحنان العطوف، والمنان اللطيف، مالك الذوائب والنواصي، وحافظ الدواني والقواصي، ومصرف الطوائع والعواصي. إلهي، وأنت الظاهر الذي لا يجحدك جاحد إلا زايلته الطمأنينة، وأسلمه اليأس، وأوحشه القنوط، ورحلت عنه العصمة، فتردد بين رجاء قد نأى عنه التوفيق، وبين أمل قد حفت به الخيبة، وطمع يحوم على أرجاء التكذيب، وسر قد أطاف به الشقاء، وعلانية أناف عليها البلاء، لا يرى إلا موهون المنة، مفسوخ القوة، مسلوب العدة، تشنؤه العين، وتقلاه النفس، عقله عقل طائر، ولبه لب حائر، وحكمه حكم جائر، لا يروم قراراً إلا أزعج عنه، ولا يستفتح باباً إلا أرتج دونه، ولا يقبس ضرماً إلا أجج عليه، عبرته موصولة العبرة، وحسرته موقوفة على الحسرة، إن سمع زيف، وإن قال حرف، وإن قضى خرف، وإن آحتج زخرف، ولو فاء إلى الحق لوجد ظله ظليلاً، وأصاب تحته مثوى ومقيلا. إلهي، وأنت الباطن الذي لا يرومك رائم، ولا يحوم على حقيقتك حائم، إلا غشيه من نور إلهيتك، وعز سلطانك، وعجيب قدرتك، وباهر برهانك، وغرائب غيوبك، وخفي شانك، ومخوف سطوتك، ومرجو إحسانك، ما يرده خاسئاً حسيراً، ويزحزحه عن الغاية خجلاً مبهوراً، فيرده إلى عجزه ملتحفاً بالندم، مرتدياً بالأستكانة، راجعاً إلى الصغار، موقوفاً مع الذلالة؛ فظاهرك - إلهي - يدعو إليك بلسان الأضطرار، وباطنك يخبر عنك بسعة فضاء الأعتبار، وفعلك يدل عليك الأسماع والأبصار، وحكمتك تعجب منك الألباب والأفكار، لك السلطان والمملكة، وبيدك النجاة والهلكة، وإليك إلهي المفر، ومعك المقر، ومنك صوب الإحسان والبر، أسألك بأصح سر، وأكرم لفظ، وأفصح لغة، وأتم إخلاص، وأشرف نية، وأفضل طوية، وأظهر عقيدة، وأثبت يقين، أن تصد عني كل ما يصد عنك، وتصلني بكل ما يصل بك، وتحبب إلي ما حبب إليك، فإنك الأول والثاني، والمشار إليه في جميع المعاني، لا إله إلا أنت.
هذا - حرسك الله - الجزء الثالث، وقد سار إلى جزانتك الجزءان قبله، ولولا حسن موقعهما منك، وبهاؤهما في عينك، وتقريظك لهما بلسانك، وإعجابك بهما باستحسانك، لكان نشاطي يقل، وحدي يكل، ويدي ترفض ارفضاضاً، ويميني تنفض انفضاضاً، ولكني أحمد الله الذي زيتك بتعرف المعارف، وجعل ظلك فيها الظل الوارف، حتى خف عليك الغرم الثقيل، وبذل المالا الجزيل، وإكرام العلم وأهله، وتعظيم الفضل وأربابه، فلا زال نصيبك من محبة العلم فوق نصيبك من محبة المال، وقسطك من التعلم فوق قسطك من الدعوى، وقد جبلك الله على خلق لو باهيت به قرناءك، وساجلت عليه عشراءك، كان لك السبق المبر، والخالصة والسر؛ نسأل الله بمجموع همتك، وخلي ذرعك، وفارغ بالك، أن يجبر كسرنا، ويفك أسرنا، ويصرف حسن الدنيا عن قلوبنا، ويوصل حلاوة الآخرة إلى صدورنا، ويهدينا إلى الصراط وأوضح السبل، ولا يكلنا إلى اللهو واللعب فنعطب، ولا يوكل بنا التشمير والجد فتتعب، ولكن قواماً بين ذلك، فخير الخير ما أخذ الواسطة واستقر في المنصف.
وآعلم - لقيت المنى، وجنبت الردى - أنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر، ونائلها قاصر، وعزيزها ذليل، وصحيحها عليل، والداخل إليها مخرج، والمطمئن فيها مزعج، والذائق من شرابها سكران، والواثق بسرابها ظمآن، ظاهرها غرور، وباطنها شرور، وطالبها مكدود، وعاشقها مجهود، وتاركها محمود، والعاقل من قلاها وسلا عنها، والظريف من عابها وأنف منها، والسعيد من غض بصره عن زهرتها، وصرف نفسه عن نضرتها، وليس لها فضيلة إلا دلالتها على نفسها، وإشارتها إلى نقصها، ولعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلباً عقولاً، ولساناً قؤولاً، وعملاً مقبولاً، لا لفظاً مقولاً؛ إلى الله الشكوى من هوى مطاع، وعمر مضاع، فبيده الداء والدواء، والمرض والشفاء، وهو بكل شيء خبير.

فكن - حرسك الله - لنفسك نصيحاً، واستقبل توبة نصوحاً، وآزهد في دار سمها ناقع، وطائرها واقع، وآرغب في دار طالبها منجح، وصاحبها مفلح؛ ومتى حققت الحق، وأمرت بالصدق، بان لك أنهما لا يجتمعان، وأنهما كالضرتين لا تصطلحان، فجرد همك في تحصيل الباقية، فإن الأخرى أنت فان عنها، وهي فانية عنك، وقد عرفت آثارها في أصحابها ورفقائها، وصنيعها بطلابها وعشاقها، معرفة عيان، فأي حجة تبقى لك، وأي حجة لا تثبت عليك؟ أما أنا فقد أيقنت أن بساط عمري مطوي، وأني بعين الله مرعي، وعن صغيري وكبيري مجزي، فإن " من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة: 7 - 8. جعل الله انتباهنا للوعظ طريقاً إلى نيل المراد والحظ، فالمغبون من صدق لسانه وكذب فعله، وآمن ظاهره ونافق باطنه؛ نفعنا الله بمقول القلب ومسموعه، واستعملنا بصالح العمل ومرفوعه، إنه جواد ماجد.
هذا كله شفقة مني عليك، واهتمام بمصلحتك، فإن أعجبك وراقك، وسرك وآنقك، وسفر نقاب الشبه عنك، ورفع حجاب الهم دونك، وأراك الحق في منظره البهي وحليته المعشوقة، والباطل في سمله الزري ولبسته المشنوءة، فالزم هدي كل هاد، وتقبل مذهب كل ناصح، غير معرج على الدنيا، ولا متتبع لفانيها، ولا متوقع لآتيها، ولا متمتع بحاضرها، فليس من شأنها أن تولي إن آتت، وإن آتت فليس من أخلاقها أن تصفو، وإن صفت فليس من طبعها أن تدوم. وقد رأيت مصارع المغترين بها، وعواقب الخافضين فيها، كيف ملأت القلوب عبرة، والعيون عبرة.
وليكن همك مطوياً على العلم والعمل والإخلاص والشكر والعفة والطهارة والصدق، فإن هذه صفات ملائكة الله المقربين، وحلي أنبيائه المرسلين. واطلب الكمال جهدك في كل ما خفف الخير عليك، ونظم شمل الإحسان بين يديك، واتق النقص عائفاً له، متبرئاً منه، هاجراً للناقص، إنه كالعليل الذي لا بد له من التذلل للطبيب، يصبر على من يخرجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن لغب العمى إلى روح البصيرة، ومن خناق العي إلى اتساع البيان، ومن أسر العدو إلى فكاك الولي، ومن شماتة الحاسد إلى مسرة الصديق، ومن حبس العجز إلى ساحة الدرك.
هيهات! أين هذا المعنى بنفسه الذي يرى حياته من مواهب الله النفيسة، وزمانه من نعمه الكريمة، فيدأب في كسب الكمال واستمداد الفضل وطلب العلم، مرة بدرس كتاب، ومرة بمذاكرة نظير، ومرة بخدمة عالم، مستعيناً بالله في تصرفه ومستقره، عالماً أنه لا مانع لما أعطى، ولا معط لما منع. نعم، ولن يتم له ذلك أيضاً حتى يغار على الحكمة غيرته على الحرمة، ويصونها كما يصون العشيقة، وينفر مما قدح فيها أو تحيف منها، كما ينفر من القاذورة الشنعاء والداهية الشعواء، وحتى يخدمه بالتنقيح ساهراً، ويقيه لاحق العيب باطناً وظاهراً، ويبعده من الطعن غائباً وحاضراً، فعند ذلك يشرفه ويفضله، ويزكيه ويعدله، ويقوم في النوادي الحافلة خطيباً بمحاسنه، ويدخله مضمار السابقين، وينزله لسان صدق في الآخرين.
وينبغي أن تعلم أن من أراد خطابة البلغاء على طريقة الأدباء، ومجاراة الحكماء على عادة الفضلاء، احتاج ضرورة إلى تقديم العناية بأصول هي الأساس، وحفظ فصول هي الأركان، ولن ينفعه تقديمها دون إحكامها، كما لا يجدي عليه حفظها دون عرفانها. فمن أوائل تلك العناية جمع بدد الكلام، ثم الصبر على دراسة محاسنه، ثم الرياضة بتأليف ما شاكل كثيراً منه، أو وقع قريباً إليه، وتنزيل ذلك على شرح الحال ألا يقتصر على معرفة التأليف دون معرفة حسن التأليف، ثم لا يقف مع اللفظ وإن كان بارعاً رشيقاً حتى يفلي المعنى فلياً ويتصفح المغزى تصفحاً، ويقضي من حقه ما يلزم في حكم العقل ليبرأ من عارض سقم، ويسلم من ظاهر استحالة، ويتعمد حقيقته أولاً ثم يؤسسه ثانياً ليترقرق عليه ماء الصدق، ويبدو منه لألاء الحقيقة؛ ولن يتم ذلك حتى يجنبه غريب اللفظ ووحشيه، ومستكرهه وبدويه، ويزل عن ربوة ذي العنجهية وأصحاب اللوثة وأرباب الجعظرة، بعد أن يرتقي عن مساقط العامة في هجر كلامها ومرذول تأليفها؛ وبعض بني أسد يقول: الطويل
وإني على ما كان من عجرفيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب

أما ترى هذا الأعرابي كيف يميز بين المطبوع والمتكلف باعترافه أن فيه عجرفية ولوثة، هذا وهو معذور في ذلك لأنه يجري منه على عرق سليم من الأبن، ولسان مفتوق على اللسن، وسليقة مصحوبة بالفطن. فما ظنك بعد هذا بغيره ممن لا يقيم حرفاً إلا على تحريف، ولا يروي كلمة إلا على تصحيف، ويأنف من مسألة من شفاؤه عنده، وكماله بيده، وبرؤه بطبه؟ وهذه لغة قد فشت في زماننا حتى كأنهم فيها أعراب عامر. لقد جرى بعض هذا الفن عند رجل رئيس فقال: الأمر في هذا الشأن أسهل من ذلك وأهون، لأن الأحتفال والتيقظ لا يلزمان إلا في فرائض الدين وآداب الشريعة، والأستظهار والحفظ لا يستعملان إلا في تخليص النفس وحراسة الطبيعة، فأما البلاغة في الكتابة والتوقي فيها من الزلة، وأخذ الأهبة في الإفهام والأستفهام، فمن الكلف الموضوعة والأثقال المحطوطة، واللائمة تلصق بطريقها أكثر، والعيب يلزم من يغلو فيها أشد، وإغفال هذا الباب أشبه بمذاهب أهل الصلاح والنسك من نصحه خوفاً من مكابرته، ودافعاً للدواء مع تمكنه من دائه وتسهيله لشفائه، جاهلاً بثناء الله عز وجل على العلم والعالم في مواضع من كتابه؛ قال الله عز وجل: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم " آل عمران: 18.
ومن عرف المتبوع من التابع، حط التابع عن درجة المتبوع، والعلم هو المتبوع، والعمل هو التابع، وبالعلم يصح العمل، ولا يصلح العلم إلا بالعمل، وقليل العمل مع كثير العلم يسد خللاً ظاهراً، ويرقع فتقاً منكراً، والثواب في الصبر على دفع الشبه إذا حلت، وصرفها بالحجج إذا أطلت، أضعاف الثواب على العمل؛ والعمل أيضاً لا يبرأ من رياء يحبطه، وكبر يفسده، وأكثره لا يخلص، وأقل العلم فيه تنبيه وإفاقة وخبرة بأسرار الله تعالى في خلقه، وإشراف على صنع الله لعبيده، وتشبث بأذيال عزه، واقتباس من نور وجهه، وشوق إلى طلب الزلفى من عنده.
ولعمري فالعلم بالعمل أحسن، كما أن العمل بالإخلاص أزين، ولكن ذاك قليل لعزة الكمال في كل شيء، فإنك لا ترمي بلحظك إلى شيء، ولا ترسل وهمك على شيء، إلا وجدته مبثوثاً ممزوجاً إلا ما برأه الله من ذلك؛ فهل عدا هذا القائل اختيار الحاسدين الذين أصبحوا من النادمين؟ ولقلما يعتري هذا الفساد أحداً إلا من ثقته بنفسه، وجنوحه إليها بحسن ظنه، ولو فطن لجنايتها عليه، عرف إساءاتها إليه، وقد نقصت العلماء نقصاً فلم أجد أثقل عليهم من التعرف والتوقف.
والعلم نور البارىء، وحلية الملائكة، وفطرة الأنبياء، وجوهر الإنسان، ولب الكون، العقل مادته، والتجارب شهادته، والبيان تبعه، واللغة توشيحه، والأمر والنهي عيناه، والإقرار والأفكار جناحاه، والدنيا والآخرة طريقاه؛ وهب الله لك منه الحظ الأجزل، وسلك بك في العمل به الطريق الأسهل، ولا زهدك في العلم فساد العلماء، ولا أقعدك عن العمل مراءاة العاملين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استعينوا بقيلولة النهار على قيام الليل، وطعام السحر على صيام النهار.
كان عروة بن أدية إذا قام الناس بالبصرة خرج في سككهها ونادى: يا أهل البصرة، الصلاة الصلاة " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون " الأعراف: 97.
قال أنس: كان بعضنا يدعو لبعض بهذا الدعاء: سهل الله عليكم صلاة قوم أبرار، يقومون الليل ويصومون النهار، ليسوا بأثمة ولا فجار.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعمني جبريل هريسة أشد بها ظهري لقيام الليل.
قال أبو حرة: أتينا بكر بن عبد الله المزني نعوده، فدخلنا عليه وقد قام لحاجته فجلسنا ننتظره، فأقبل إلينا يتهادى بين رجلين، فلما نظر إلينا سلم علينا ثم قال: رحم الله عبداً أعطي قوة فعمل بها في طاعة الله، أو قصر به ضعف فكف عن محارم الله.
وقال بكر بن عبد الله: كانت امرأة من أهل اليمن عابدة، وكانت إذا أصبحت قالت: يا نفس، اليوم يومك ليس لك يوم غيره، فتعمل في ذلك اليوم ما شاء الله حتى تمسي، فإذا أمست قالت: يا نفس، الليلة ليلتك، ليس لك ليلة غيرها؛ فتعمل في تلك الليلة ما شاء الله حتى تصبح؛ فكان ذلك دأبها حتى ماتت رحمها الله.

قال النعمان بن بشير: مثل الإنسان والموت مثل رجل له ثلاثة خلان، قال أحدهم: أنا مالك خذ مني ما شئت وأعط ما شئت، وقال الآخر: أنا معك أحملك وأضعك فإذا مت تركتك، وقال الآخر: أنا معك أدخل وأخرج معك حييت أو مت؛ أما الأول فماله، وأما الثاني فعشيرته، وأما الثالث فعمله يدخل معه ويخرج معه.
قيل للزهري: من الزاهد في الدنيا؟ فقال: من لم يمنع الحلال شكره، ولم يمنع الحرام صبره.
وقال غيلان بن جرير: عقول الناس على قدر زمانهم.
قال سفيان الثوري، قال وهب: ما عبد الله بمثل العقل، ولا يكون الرجل عاقلاً حتى يكون فيه عشر خصال: يكون الكبر منه مأموناً، والخير منه مأمولاً، يقتدي بمن قبله، وهو إمام لمن بعده، وحتى يكون الذل في طاعة الله أحب إليه من العز في معصية الله، وحتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام، وحتى يكون عيشه القوت، وحتى يستقل الكثير من عمله ويستكثره من غيره، وحتى لا يتبرم بطلب الحوائج قبله، والعاشرة، وما العاشرة، بها شاد مجده، وعلا ذكره: يخرج من بيته فلا يستقبله أحد من الناس إلا رأى أنه دونه.
قال مالك بن دينار: رحم الله عبداً قال لنفسه: يا نفس، ألست صاحبة كذا؟ ثلاث مرات، ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله فكان لها قائداً.
وقال مالك أيضاً: سمعت الحجاج على المنبر يخطب ويقول: آمرءاً أتهم نفسه على نفسه، آمرءاً اتخذ نفسه عدوه، آمرءاً أخذ بعنان عقله فنظر إلى ما يراد به، آمرءاً زود نفسه، آمرءاً حاسب نفسه قبل أن يكون الحساب، آمرءاً نظر إلى ميزانه. فجعل يقول امرءاً حتى أبكاني.
يبكي مالك من كلام الحجاج، ولا يبكي الحجاج من كلام مالك، ولا قتل سعيد.
قال مسمع، قلت لجعفر الصادق عليه السلام: لم خلد أهل الجنة فيها، وإنما كانت أعمارهم قصيرة وأعمالهم يسيرة، ولم خلد أهل النار وهم كذلك؟ فقال: إن أهل الجنة نووا أن يطيعوه أبداً، وإن أهل النار نووا أن يعصوه أبداً، فلذلك صاروا مخلدين.
المتكلمون لا يرضون بهذا الجواب، ولا يعجبون به، ولا يميلون إليه، وما أكثر ما يزيفون الرواية، ويقدحون في الأثر، ويستبدون بالرأي، ويفزعون إلى القياس، وليتهم مع هذه الجرأة على الرد، والإقدام على الحكمة، كانوا يجانبون الهوة، ويعافون الأختلاف، ويعلمون أن الله نهى عن التفرق في الدين، ومنع من إيثار الشك على اليقين، ودين الله محمي الحريم، عزيز الجانب، لا يتلقى بالتعسف والتكلف، ولا يتناول بالتقعر والتنطع، وما شمت الحاسد المرصد، والطاعن الملحد، حتى رأى علماء الدين وأنصار الشريعة يموجون في نحلهم، ويكفرون أهل القبلة على اعتقادهم، ويحيرون المسترشد، ويغوون الرشيد، ويصدون بالأختلاف عن الأئتلاف، ويسرعون إلى الإنكار قبل الأعتراف، ويظنون أن عقولهم كافية، وألفاظهم شافية، وأن الله راض عنهم لصنيعهم، غير مؤاخذ لهم على تضييعهم، فلا جرم والله ذهب بهيبتهم، ونزع البهاء عن وجوههم، ووكلهم إلى أنفسهم حتى خبطوا كما تخبط العشواء، وضلوا كما تضل العمياء، وجعل مصيرهم إلى دار البذاءة، وألجأهم إلى الحسرة والندامة، ولو سكتوا عما سكت عنه، وقالوا بما أمروا به، وضرعوا إلى الله سبحانه فيما أشكل عليهم منه، أراح الله قلوبهم من كد الفكرة، وأزاح عللهم بالأنباء والعبرة، وعذرهم فيما عجزوا عنه، وقبلهم على ما تقدم إليهم به؛ ولكنهم أعجبوا ببعض الإصابة فتهوروا مع كثير الخطأ، وكذلك يفعل الله بمن لا يحفظ شرائط العبودية، ولا يقف عند حدود البشرية، ولا ينصاع لأمر الألوهية، ولا يسلم لله أحكام الربوبية، ولكن يطلب العلة الخافية عليه وما طولب بها، ويبحث عن الحكمة المطوية عنه وما سئل عنها، ويفرض الله كأنه شريكه في الملك، ويقول لم وكيف وهو جاهل بما هو فيه، وبما كوشف به، وبما أطلع عليه، لو سألته عن نفسه ومعناه وعينه، وعن نطقه وصمته، وعرفاته وحديثه، وظنه ويقينه، وشكه وتوثقه، وغضبه ومرضاته، وعما يتعاوره ويتعاقبه، ويتجدد إليه ويتحدد عليه، ويبدو منه ويغور فيه، على دائم الزمان، في كل الزمان، لوجدته بادي العجز، ظاهر الجهل، قريب العر، مستحقاً للرحمة، وأنه مع ذلك يدعي لاوياً شدقه، فاتلاً إصبعه، مدراً وريده، كأنه رب ليس بمربوب، أو مالك ليس بمملوك.

قال قتادة، قال يونس بن حيوة: شيعنا جنيداً فلما انتهينا إلى حصن المكاتب قلنا: أوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالقرآن فإنه نور الليل المظلم، وهدى النهار، فاعلموا به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك، وأعلم أن المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب نفسه، إنه لا غنى بعد النار، ولا فقر بعد الجنة، وإن النار لا يفك أسيرها، ولا يستغني فقيرها.
هذا والله الحد وما سواه تعليل، وبالله المعونة على كل حال.
ذكر أبو حازم عند الزهري فقال: أما والله إنه لجاري، وما جالسته قط، قال أبو حازم: ذاك لأني مسكين، أما والله لو كنت غنياً لجالسني، قال الزهري: قد سببتني، قال: أجل.
قال ابن المبارك: كان في بني إسرائيل جبار يقتل الناس على أكل لحم الخنزير، فلم يزل الأمر يترقى حتى بلغ إلى عابد من عبادهم، فشق ذلك على الناس، فقال له صاحب الشرطة: إني ذابح لك جدياً، فإذا دعاك الجبار لتأكل فكل، فلما دعاه ليأكل أبى أن يأكل فقال: أخرجوه وآضربوا عنقه، فقال الشرطي: ما منعك أن تأكل جدياً مشوياً؟ فقال: إني رجل منظور إليه، وإني كرهت أن يتأسى بي في معاصي الله، ثم قتله.
قال ميمون بن مهران: لو أن أقصركم علماً عمل بما يعلم لدخل الجنة؛ ما منكم إلا من يعلم أن الصلاة خير من تركها، والأمانة خير من الخيانة، والصدق خير من الكذب، والوفاء بالعهد خير من نقضه، والصلة خير من القطيعة.
قال عبد الله بن مسعود: تعودوا الخير فإنما الخير عادة.
قال مطرف: لو أتاني آت من ربي فخيرني بين الجنة والنار وبين أن أصير تراباً، لأخترت أن أصير تراباً.
قال أبو هريرة: تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فأبكى من في البيت، فكان رجل في زاوية البيت تسيل دموعه على خديه لا يسمع له صوت، ولا ترى له عبرة، فجاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، أما إن هذا الباكي قد أطفأ بدموعه بحوراً من جهنم.
قال مالك بن مغول: كان رجل يبكي فيقول له أهله: لو قتلت قتيلاً ثم أتيت أهله فرأوك تبكي هذا البكاء لعفوا عنك، فقال: إني قتلت نفسي.
قال حماد بن زيد: بكى أيوب مرة فأخذ بأنفه ثم قال: هذه الزكمة ربما عرضت؛ قال: وبكى مرة فاستبين بكاؤه، ثم قال: إن الشيخ إذا كبر قبح.
قال عبد الله بن مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبخشوعه إذ الناس يختالون، وبصمته إذ الناس يخوضون.
قيل لرابعة وقد انصرفت من الجبانة في يوم فطر: كيف رأيت الناس في هذا اليوم؟ قالت: رأيتكم خرجتم إحياء سنة وإماتة بدعة، غير أنكم أظهرتم نعمة أدخلتم بها على الفقراء مذلة.
قال ابن مسعود: وقف رجل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فارتعد، فقال: لا تخف فإني ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد.
قال أبو وائل، قال عبد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم كحل عين علي بن أبي طالب بريقه من وجع أصابه.
قال ابن عباس في قوله عز وجل " ونجني من فرعون وعمله " التحريم: 11: أي جماعه.
وقال ابن عباس في قوله " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " الممتحنة: 7 قال: فكانت المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة أخت معاوية بن أبي سفيان.
قيل لعمر بن ذر: أيهما أصلح، طول الكمد أو حدور الدمعة؟ قال: حدور الدمعة إذا رق فقد شفى غليلاً، وإذا كتم أغص بالشجا، فطول الكمد أحب إلي.
قال زياد لأبي الأسود الدولي: لولا ضعفك لاستعملتك على بعض أعمالنا، فقال: للصراع تريدني؟ قال زياد: إن للعمل مؤونة ولا أراك إلا تضعف عنه، فأنشأ أبو الأسود يقول: الكامل
زعم الأمير أبو المغيرة أنني ... شيخ كبير قد دنوت من البلى
صدق الأمير لقد كبرت وربما ... نال المكارم من يدب على العصا
يابا المغيرة رب مبهم كربة ... فرجته بالحزم مني والذكا
نظر أبو الدرداء إلى منزل رجل قد بناه وشاده فقال: ما أحكم ما تبنون، وأطول ما تأملون، وأقرب ما تنتقلون.
قال أبو الحسن المدائني: كان يقال: الشرب في آنية الرصاص أمان من القولنج. الرصاص بفتح الراء؛ قال أبو حاتم: الكسر لا يجوز.
قال المدائني، قال الحجاج: المتقارب

أعائش لا تعجلي بالخلاف ... فمنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد كفر
ونحن أطعناك في قتله ... وقاتله عندنا من أمر
قال ابن عباس " وقد بلغت من الكبر عتياً " مريم: 8، قال: خمس وتسعون.
ليت ابن عباس عرفنا وجه هذا القول، فإنه فتيا مجردة، واللفظ لا يدل عليه، والعرف لا يشهد له.
قال عيسى بن مريم عليه السلام: كن في الدنيا ضيفاً، واتخذ المسجد بيتاً.
قيل لصوفي: كيف ترى الدنيا؟ قال: أرى نعمتها وسنى، ونقمتها يقظى، والناس بينهما روبى، أي نيام.
قال الحسن البصري رضي الله عنه: آنظر إلى الدنيا نظر الزاهد المفارق، لا نظر الراغب الوامق، وأحذر سرورها وغرورها، واعتصم بربك من فتنتها، فإن أقواماً اتخذوا ربهم حرزاً، واتخذوا دينه عزاً.
ودخل النعمان بن بشير على علي بن أبي طالب بعد أن قتل عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، لو نصر عثمان كل من أحبه لما طمعت فيه أوباش مصر ولا أوشاب أهل العراق، ولو بسط عليه كل من أبغضه لما سلم أحد من أهل الدار؛ ولكن المحب هاب الخاذل، والخاذل تركه للقاتل، فتوهم الخاذل أن المحب بإمساكه عن النصرة موافق له في الخذل، وتوهم القاتل أن الخاذل بإظهاره الخذل له مقارب له في القتل، فعضد بعض الأمور بعضاً، وكان الخذل لتعاضدها أصلاً، وأشد ما يقوله اليوم من قبض يده عن نصره: ليتني كنت بسطتها، وأقصى ما يقوله من بسط يده إلى قتله: ليتني كنت قبضتها، ورويداً يعلون الجدد، فقال له علي عليه السلام: اكفني نفسك يا نعمان، وآلحق بأي البلاد شئت؛ فلحق بالشام.
هذا من نوادر الحديث، والكلام كما ترى مرهف الحد، مسنون الشبا، وإلى الله المفر، وعليه التوكل.
وأنشد لخارجي: الوافر
إلى كم يا دعاة الحق فيما ... ندين به نقول ولا نصول
لسان في تناجينا طويل ... وعزم في تناخينا كليل
وأنشد لآخر من الخوارج: البسيط
إني أدين بما دان الشراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب
قوم إذا ذكروا بالله أو ذكروا ... خروا من الخوف للأذقان والركب
أنشد الزبير بن بكار: الوافر
أرى إبلي وكانت ذات زهو ... إذا وردت يقال لها نصيع
تكنفها الأرامل واليتامى ... فصاعوها ومثلهم يصوع
وساقوها وساقهم إليها ... بأكناف اللوى حتف وجوع
وطيب عن كرائمهن نفسي ... مخافة أن أرى حسباً يضيع
عن معنى من: لغة في هذيل، هكذا أظن، وأما قوله: فصاعوها فمعناه فرقوها؛ كذا السماع.
قال ثعلب: فلان نقي الجيب، لأنه أول ما يدنس من الثوب، فإذا نقي نفي سائره.
يقال: هذا على طرف العصا، وهذا على طرف الثمام، وهو لك على حبل الذراع، كل هذا يعنى به التقريب.
قال أبو العباس: قال بعض العرب: نحن إذا عقدنا وفينا، وإذا سئلنا أعطينا، وإذا قدرنا مننا، وإذا نكبنا صبرنا.
امرأة مجعة أي حمقاء، ونساء مجع، ورجال أمجاع.
يقال في الأمثال: الإيناس قبل الإبساس، أي الرفق قبل الطلب.
ويقال: أطيب ما في الجدي شاكلته، وأطيب ما في السمكة راسها، أي خاصرة الجدي وسره السمكة.
وصياح نباح، بربار مزبار، نجناج لحاج، عجاج وطواط، كل هذا متقارب في المعنى؛ هكذا وجدت فرويت.
العرب تقول: إذا كان الليل فأخفض، وإذا كان النهار فانفض، لأن الصوت بالليل يسري، وأما بالنهار فتبعد الجهات منه.
وفي أمثالهم: لا تخلج الفصيل عن أمه.
القعنب: التيس الهرم.
قال أعرابي في كلامه: لو كان رأسه في الجرباء لأخذت حقي منه.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لله امرؤ راقب ربه، وخاف ذنبه، وعمل صالحاً، وقدم خالصاً، واحتسب مذخوراً، واجتنب محذوراً، ورمى عرضاً، وأحرز عوضاً، كابر هواه، وكذب مناه.
يقال: ما الفرق بين الفذ والقذ؛ الفذ: الفرد، والقذ البرغوث؛ هكذا وجدت فرويت.
يقال: الحفا قبل الوجا.
شاعر، وأنشده الأصمعي أيضاً: البسيط
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لشؤون ليس يدركها ... والنفس واحدة والهم منتشر

والمرء ما عاش مبسوط له أمل ... لا تنتهي العين ما لا ينتهي الأثر
لوم الفتى نفسه من دون عاذله ... يثني عليه ولوم النفس يغتفر
جميل بن عبد الله: الطويل
عضضن البنان الفتخ لما عرفنني ... وقلن: أمعلوم مسيرك أم خافي
وضعن الجلابيب التي كن جنة ... وخفضن طرفاً غير كز ولا جافي
أفضن عليها الماء حتى إذا جرى ... بوادر مظلوم من الماء حفحاف
كما جال مبيض الندى فوق بيضة ... جلا الطل والأنداء عن لونها الصافي
حفحاف: له صوت أي إذا قطر؛ يقال: لهذا الثوب حفحفة أي إذا كان جديداً.
قال شيخ من المنجمين: الشمس أجل ما تكون قدراً في ثلاث مواضع: أولها الحمل وهو شرفها، والثاني الأسد وهو بيتها، ولا سيما إذا كانت في قلب الأسد، والثالث إذا كانت في ثماني عشرة درجة من الجوزاء أوجها، وعند ارتفاعها في القوس يجري الماء في العود ويظهر العشب وتزيد المياه وتبتدىء الثمار والبسر، وذلك أنها تأخذ في الأرتفاع من القوس، لأن القوس آخر انحطاطها في ثماني عشرة درجة منه؛ ويقال للجوزاء المنطقة العليا، وللقوس المنطقة السفلى، ويقال للحوت والسنبلة المنطقة الوسطى.
يقال: لط بها عليه، ولا يقال: ألط، ويقال: ألظ - بالظاء - إذا لزم؛ ولط: ستر. قال أبو العباس: وكان في القياس أن يقال: لاط، فجاء على غير القياس.
قال الأموي: لطويل
ومن يلحم الأعداء أعراض قومه ... تنله مرامي معلن أو مكاتم
وقد يخضع الرأس العلي مكانه ... إذا نقبت أدنى بطون المناسم
وريش الخوافي إن تأملت عاضل ... على كل ما حال بريش القوادم
قال بعض المنجمين: إن مواليد الأنبياء بالسنبلة والميزان. وكان طالع النبي صلى الله عليه وسلم الميزان؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ولدت بالسماك، وفي حساب المنجمين أنه السماك الرامح، وكان في ثاني طالعه زحل، فلم يكن له مال ولا عقار.
وقف ابن السماك على قبر داود الطائي، وكان من كبار الزهاد، ومن أصحاب أبي حنيفة، فتكلم على قبره بكلام هذا منه: إن داود الطائي نظر بقلبه إلى ما بين يديه، فأعشى بصر القلب بصر العين، فكان لا يبصر ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تبصرون إلى ما إليه ينظر، فلما رآكم مغرورين، قد دلهت الدنيا عقولكم، وعشقتها أنفسكم، وامتدت إليها أبصاركم، أوحش الزاهد منكم، فكنت إذا رأيته علمت أنه حي بين موتى. يا داود، ما كان أعجب شانك، وقد يزيد في عجبك أنك ألزمت نفسك الصبر، وقومتها بالزهد؛ أذللتها وإنما تريد عزها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، وعزلت نفسك عن الدنيا فلم ترها لك قدراً ولا خطراً، تفقهت في دينك وتركت الناس يفتنون، وسمعت الحديث وتركتهم يتحدقون، وخرست عن القول وتركتهم ينطقون، لا تحسد الأخيار، ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الإخوان هدية، آنس ما تكون إذا كنت خالياً، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس مجالساً، عزلت نفسك في بيتك فلا محدث لك ولا جليس، ولا ستر على بابك، ولا فراش تحتك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا قصعة يكون فيها غداؤك وعشاؤك، فمن صبر صبرك وعزم عزمك؟! لقد أتعبت العابدين بعدك.

قال الرشيد لسفيان بن عيينة: إني عزمت أن أرى الفضيل بن عياض، فقال له سفيان: يا أمير المؤمنين، إنه رجل قد زهد في الناس والدنيا جميعاً، وأخاف أن تأتيه فتستجفيه، فقال له: كلا ما عزمت على إتيانه حتى وطنت نفسي على احتمال ما يكون منه؛ يا سفيان، إن عز القوي عز لا يزحمه منكباً إمرة ولا خلافة. قال: فأتيت فضيلاً بما قال: فقال: ما أعقله لولا أنه يحب العاجل، ثم قال: إني لأحب أن يأتيني وأكره أن يأتيني، فأما محبتي لمجيئه فلعلي أعظه بموعظة ينتفع بها هؤلاء الناس، وأما كراهيتي لمجيئه فلأني أراه يرفل في النعم عارياً من الشكر. قال: ثم أذن، فمضيت مع الرشيد إليه، وقد اختلط الظلام، وعلى الرشيد طيلسان غسيل قد غطى به رأسه، فلما هجمنا عليه في بيته وشم الرائحة سمعته يقول: اللهم إني أسألك رائحة الخلد التي أعددتها لأوليائك المتقين، فرفع طرفه إليه وعينه تقطر فقال: أنت هو يا حسن الوجه؟ ثم وعظه فجعل يبكي حتى اشتد نشيجه، ثم قال له: ازدد من هذا، فما أعرف في هذه الليلة أحداً أحوج إليه منك، ثم وثب إلى صلاته، وما كان ذاك إلا كخطفة الطير. فلما صرنا إلى صحن الدار قال لي الرشيد: يا سفيان، ما رأيت التقوى في وجه أحد قط أبين منها في وجه هذا الشيخ، ولولا التحشم منك لقبلت ما بين عينيه، فقلت له: والله لعلى ودي أن تكون فعلت ذلك، فكتب الله لك ثوابه وأجره، فقال: إني أرجو أن يكون قد كتب لي ثوابه بالنية ولو لم أفعل.
انظر - فديتك - إلى هذا الحديث، وانظر إلى زمانك وإمامك وسلطانك، فإنك ترى فرقاً يوحش القلب، ويورث الأسف، ولله أمر هو بالغه لا نعترض عليه، ولا ننازع فيه، ولكن ناجأ إلى كنفه، ونسأله زيادة من عطفه، فإنه رحيم بعباده ودود.
قال أصحاب النجوم: إنما جعل أول بيت الطالع، لأنه خروج من ظلمة إلى ضياء، وجعل الطالع للحياة لأن المولود لما خرج بين حالتين - بين الموت والحياة - فإن أوجب الطالع الحياة فذاك، وإن أوجب الموت فذاك؛ والثاني للمواد، فإن الحياة إنما تكون بالمواد، فجعل المال؛ والثالث للإخوة، لأنه أول شكل برج يشاكل بالطالع، إن كان الطالع ذكراً فهو ذكر، وإن كان أنثى فهو أنثى، أو نهارياً أو ليلياً فهو مثله، وأول خط خرج من الطالع إليه ما لاح أقرب الأشياء إليه؛ والرابع الآباء، لأنه ابتداء الدور، منه يبتدىء وإليه يرجع، فالمولود الآباء أوله، والخامس الولد، لأنه مالىء بيت الآباء، والولد خلف الأب؛ والسادس بيت العبيد والمرضى والسقاط، لسقوطه عن الطالع ولأنه لا تمازج بين الطالع وبينه؛ والسابع الأضداد والنساء، لأنه بإزاء الطالع، إذا ظهر هذا غاب هذا، وإذا غاب هذا ظهر هذا؛ والثامن ينظر الثاني، فحالته بالضد، فلما كان الثاني سبب المواد، والمواد سبب الحياة، كان الثامن انقطاع المواد، وبانقطاع المواد يقع الموت؛ والتاسع السفر والدأب والحركة والعلم، لأنه برج الشمس وأول الرائد من وتد العاشر؛ والعاشر السلطان والذكر والكرامة والصناعة، لأن العاشر أرفع نقطة في الفلك؛ والحادي عشر بيت الرخاء والإخوان والأصدقاء، لأنه نظير بيت الإخوة وثاني وسط السماء، لأن أول خط في الدائرة من تسديس، فالخط الأول يخرج إلى الثالث، والخط الثاني يخرج من الجانب الآخر إلى الحادي عشر، فيصير نظير بيت الإخوة لهذه العلة، فلذلك صار بيت الإخوان والأصدقاء، ولأنه يأتي العاشر صار موضع الرخاء والسعادة لأن الذي يتلوه السلطان للسعادة؛ والثاني عشر موضع برج زحل؛ والسادس موضع برج المريخ. قال هرمس: إذا كان زحل في حادي عشر والطالع القمر، خيف على قائم الزمان. نقلت هذا من خط القومسي.
العرب تقول: أعل على الوسادة أي ارتفع عليها، وأعل عنها أي انزل عنها.
دعبل الخزاعي: الوافر
ذممتك أولاً حتى إذا ما ... بلوت سواك عاد الذم حمدا
فلم أحمدك من خير ولكن ... رأيت سواك شراً منك حدا
فعدت إليك مجتدياً ذليلاً ... لأني لم أجد من ذاك بدا
كمجهود تحامى لحم ميت ... فلما اضطر عاد إليه شدا

قال عتبة بن أبي سفيان لمعاوية وعنده عمرو ووردان: يا أمير المؤمنين، ما ألذ الأشياء؟ قال: صحة استولت على بدن، وقدرة اشتملت على أمل، وسلطان مكله حزم، قال عمرو: ألذ الأشياء انجلاء الغمرات، وقد بلغت النفس اللهوات. قال معاوية وعمرو لوردان: ما تقول يا وردان؟ قال: قد قلتما، قالا: على حال، قال: ألذ الأشياء من بيع بغير تمنن، ويشتري منناً بعدها تجل عن الإحصاء، وترتفع عن الجزاء، تسود من أسداها، وتشرف من أسديت إليه، فقالا: وما أنت وهذه لا أم لك؟! مواليك أحق بها، قال: قد والله تركتها لكما فلم تأخذاها، ثم ذكرتها فلم تنكراها، فإن شئتما أن تنتحلاها رديفين فشأنكما، قالا له: إن لك في نفسك شأناً، قال: إن رأياً ضمني إليكما وآنسكما بي لخليق أن يكون ذا شأن.
قال ابن السماك: الكمال في خمس: ألا يعيب الرجل أحداً بعيب فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنه لا يفرغ من إصلاح عيب واحد حتى يهجم عليه آخر، فتشغله عيوبه عن عيوب الناس؛ والثانية: ألا يطلق لسانه ويده حتى يعلم أفي طاعة أو معصية؛ والثالثة: ألا يلتمس من الناس إلا مثلما يعطيهم من نفسه؛ والرابعة: أن يسلم من الناس باستشعار مداراتهم وتوفيتهم حقوقهم؛ والخامسة: أن ينفق الفضل من ماله ويمسك الفضل من حاله.
لبعض الخوارج: البسيط
كم من فتى نجدة لا اللهو همته ... ومن خطيب لدين الله وصاف
ليث النهار وقس الليل في ثقة ... للوهن في دينه والضيم عياف
ماض إذا أحجم الأبطال أو نكلوا ... عند النزول إلى الأقران دلاف
لا هائب يوم هيجا من منازلة ... لنفسه في لهيب الحرب قذاف
في الروع ليس بطياش ولا وكل ... نكس وعن شبهات اللبس وقاف
لم ألق مثلهم في الناس أهل هدى ... في طول حل وترحال وتطواف
قوم شروا كدر الدنيا وباطلها ... بمنزل من جنان شربه صاف
ما راقهم زخرف الدنيا وبهجتها ... ولا الترفل في خز وأفواف
ما تركوا من تراث يوم معركة ... لسالب غير أدراع وأسياف
وكل عبل الشوى نهد مراكله ... كالسيد أدهم محبوك القرا صاف
وقدموا فضل دنياهم لآخرة ... ثواب مفروضه أضعاف أضعاف
قال النبي صلى الله عليه وسلم: آستوكف، أي أسبغ الوضوء.
سمع جعفر بن يحيى قبل أن يقبض عليه بساعة ينشد: الوافر
مقيم بالمجازة من شروري ... وأهلك بالأجيفر والثماد
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوماً ... وإن عظمت تصير إلى نفاد
فلو نفديك من حدث الليالي ... فديتك بالطريف وبالتلاد
قال أبو العباس، قال الحسن بن سهل: كل شيء تلبسه يستدفىء بك ثم يدفئك إلا السمور، فإنه يدفئك قبل أن يستدفىء بك.
من الأمثال المنقولة من الفارسية: الرجز
إن الذي تطلبه يدفيكا ... تأكله بشر شيء فيكا
إذا تمنى مائق أمنيه ... يحسبها كائنة مقضيه
يقال: إذا غدوت فبكر، وإذا رحت فهجر، وإذا أكلت فأوتر، أي كل بثلاث أصابع، وإذا شربت فأسئر، أي أبق بقية.
ويقال: أصول الطيب خمسة: المسك والعنبر والعود والكافور والزعفران.
قال فيلسوف: عجباً لمن عومل فأنصف كيف يظلم، وأعجب منه من عومل فظلم إذا عامل كيف يظلم.
شاعر: المتقارب
أعاذلتي أقصري ... أبع جدتي بالمنن
ذريني أفد بالثرا ... ء حمداً فنعم الثمن
فما منك شيء حلا ... ولا لك أنسى الزمن
إذا عز يوماً أخو ... ك في بعض أمر فهن
بلوت صروف الزما ... ن في فرح أو حزن
فسر فلم أبتهج ... وساء فلم أستكن
إذا ما نبا منزل ... فكل بلاد وطن
فليس حياة الفتى ... سوى ساعة لم تئن
يعيش الفتى حاسراً ... ويهلك تحت الجنن
ويخطئه خوفه ... ويصرعه ما أمن

قال معاوية: معاشر قريش، ما بال الناس لأم وأنتم لعلات؟!تقطعون ما أمر الله أن يوصل منكم، وتباعدون ما قرب الله؛ كيف ترجون لغيركم وقد عجزتم عن أنفسكم؟ تقولون كفانا من الشرف من قبلنا، فعندها ترميكم الحجة فاكفوه من بعدكم! إنكم كنتم رقاعاً في جيوب العرب، قد أخرجتم من حرم ربكم، ومنعتم تراث نبيكم حتى جمعكم الله برجل منكم، فردكم إلى بلادكم، وأخذ لكم ما أخذ منكم، فجمعت لكم مكارم العرب، ودفعت عنكم مكايد العجم، فأرغبوا في الألفة التي أكرمتكم بها، وإياكم والفرقة فقد حذرتكم نفسها.
قال أرسطاطاليس: من أخذ ميثاق الصبر، في ألوان الدهر، حسن ثناؤه في كل أمر.
وقال أيضاً: من قارب الناس في عقولهم ولم يستكرههم في تصريف الأمور بما يخرجهم من متعارف نظرهم سلم من غوائلهم.
قال خالد بن صفوان في وصف النخل: هن الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، تخرج أسفاطاً عظاماً وأوساطاً، كما ملئت رياطاً، ثم تتفرى عن قضبان اللجين منظومة باللؤلؤ الأبيض، وتصير ذهباً أحمر منظوماً بالزبرجد الأخضر، ثم تصير عسلاً في نحاء، معلقاً بالهواء، ليس في مسك ولا سقاء، بعيداً من التراب، لا يقربه الذباب، دونه الحراب، ثم يصير ورقاً في كيس الرجال، يستعان به على العيال.
قال أعرابي وقد نظر إلى دينار: قاتلك الله ما أصغر قمتك وأعظم قيمتك.
مر بي في كتاب الرتب، قال أبو ذر: أيها الناس، إن آل محمد صلى الله عليه وسلم هم الأسرة من نوح، والآل من إبراهيم، والصفوة والكلالة من إسماعيل، والعترة الطيبة الهادية من محمد، فأنزلوا آل محمد بمنزلة الرأس من الجسد، بل العينين من الرأس، فإنهم فيكم كالسماء المرفوعة، وكالجبال المنصوبة، وكالشمس الضاحية، وكالشجرة الزيتونة، أضاء زيتها، وبورك وقدها.
قال الزياتون: من مناقب الزيت أنه يعصر أول عصرة فيكون منه زيت للأكل، ثم يعصر ثانية فيكون منه زيت السراج، ثم يعصر ثالثة فتطيب به زقاق الزيت، ثم يباع ثجيره فيجفف وتسجر به النار فتكون ناره أحر نار، ثم يعزل رماد ذلك الوقود فيباع لأصحاب الصابون فيدخلونه في عمله فيجود، فلا يسقط منه شيء.
وصف بعض العلماء الذهب فقال: هو أبقى الجواهر على الدفن، وأصبرها على الماء، وأقلها نقصاناً على النار، وهو أوزن من كل ذي وزن إذا كان في مقدار شخصه، وجميع جواهر الأرض إذا وضع على ظهر الزئبق في إنائه طفاً، ولو كان وزناً عظيماً، وحجماً ثقيلاً، وإن وضع قيراط من ذهب رسب حتى يبلغ قعر الإناء، وميله أجود الأميال، والهند تمره في العين بغير كحل، ولا يسود لصلاح طبعه وموافقة جوهره لجوهر الناظر، ومنه الزرياب والصفائح التي تتخذ لسقوف الخلفاء والملوك، وعليه مدار تبايع الخلق، وهو ثمن لكل شيء، والأرض التي تنبته تحيل الفضة إلى جوهرها في السنين الكثيرة، وتقلب الحديد إلى طبعها في الأيام اليسيرة، والطبيخ الذي يكون في قدوره أغذى وأمرأ وأصح في الجوف.
قيل لأعرابي: كيف أنت مع صديقك؟ قال: نتعايش بالنفاق، ونتجاوز بهجر وفراق.
قال خالد الكاتب في أبي المثنى الطفيلي: السريع
أبو المثنى أبداً في غرام ... قد بات من حب طعام الكرام
يعجبه من غيره دعوة ... حتى يراها أبداً في المنام
قد رسم التطفيل في وجهه ... هذا حبيس في سبيل الطعام
ليس بقواد ولكنه ... يعجبه المشي أمام الغلام
قال أعرابي: ليس الرديف في العشيرة كالصليبة، ولا الهجين كالصريح، ولا التابع كالمتبوع. كل هذا من كتاب الرتب.
قال يزيد بن ضبة الثقفي: الطويل
تواعد للبين الخليط لينبتوا ... وقالوا لراعي الذود موعدك السبت
وفي النفس حاجات إليهم كثيرة ... لإبانها في الحي لو أخر الوقت
ولم أك فيما كان قبل احتمالهم ... على بينهم بالأمس نفسي وطنت
ولكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت
وقال أبو دهبل: الطويل
تبيت النشاوى من أمية نوماً ... وبالطف قتلى ما ينام حميمها
وما أهلك الإسلام إلا قبيلة ... تأمر نوكاها فدام نعيمها
وصارت قناة الدين في يد ظالم ... إذا مال منها جانب لا يقيمها

وقال تميم بن مقبل: الطويل
فأتلف وأخلف إنما المال عارة ... وكله مع الدهر الذي هو آكله
فأيسر مفقود وأهون هالك ... على الحي من لا يبلغ الحي نائله
وقال حميد بن ثور يصف الذئب: الطويل
ترى طرفيه يعسلان كلاهما ... كما اهتز عود الساسم المتتايع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
قال المبرد، قال محمد بن حرب الهلالي: حاجب الرجل نصفه، وكاتبه كله. وينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس، ويديم العبوس، ويستخف بالشفاعات.
قال العتبي: سمعت أعرابياً يقول: الحمد لله حمداً لا يبلى جديده، ولا يحصى عديده، ولا تبلغ حدوده.
قال أعرابي: اللهم إني أسألك الغفيرة، يوم كل نفس إليك فقيرة، فإن النعمة فيه كثيرة.
قال صوفي، وذكر الدنيا: ما أدري كيف أعجب منها، أمن قبح منظرها، أم من سوء مخبرها، أم من عشق الناس لها، وتناحرهم عليها؟! وأنشد: الطويل
تهاع وتستعدي إذا الضر مسها ... وتقسو قسواً حين ينعم بالها
كان حماد عجرد ينادم أبا حنيفة، فلما تنسك أبو حنيفة وطلب الرأي قطعه وكان يعيبه، فكتب حماد: الكامل المجزوء
إن كان نسكك لا يت ... م بغير سبي وآنتقاصي
فاقعد وقم بي كيف شئ ... ت مع الأداني والأقاصي
فلطالما زكيتني ... وأنا المقيم على المعاصي
أيام نأخذها ونع ... طي في أباريق الرصاص
يقال: جاءنا بأفكوهة، وأعجوبة، وأملوحة، وأضحوكة، وأحدوثة، وألعوبة؛ كذا كلام العرب إذا جاء بما يضحك منه ويستملح ويتعجب منه ويتحدث به.
قال العتبي: سمعت أعرابياً يقول: ما طلع على الإنسان طالع أبغض إليه من الشيب.
قال أبو حاتم: سأل رجل أبا عبيدة عن اسم رجل فقال: ما أعرف أسمه، فقال كيسان: أنا أعرف الناس به، هو خراش أو خداش أو رياش أو شيء آخر، فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما عرفته، فقال: إي والله وهو قرشي أيضاً، قال: وما يدريك؟ قال: أو ما ترى احتواءه على الشين من كل جانب؟! قال الأصمعي: كان عثمان البتي يتمثل دائماً: الوافر
وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوى منع الفرارا
قيل لصوفي: كيف أصبحت؟ قال: آسفاً على أمسي، كارهاً ليومي، متهماً لغدي.
قال ابن الكلبي: رأيت قاتل الحسين بن علي عليهما السلام قد أدخل على الحجاج وعنده عنبسة بن سعيد فقال: أأنت قتلت حسيناً؟ قال: نعم، قال: كيف؟ قال: دسرته بالرمح دسراً، وهبرته بالسيف هبراً، ووكلت رأسه إلى امرىء غير وكل، فقال الحجاج: والله لا تجتمعان في الجنة أبداً، فخرج أهل العراق يقولون: والله لا يجتمع ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتله في الجنة أبداً، وخرج أهل الشام يقولون: صدق الأمير لا يجتمع من شق عصا المسلمين وخالف أمير المؤمنين وقاتله في طاعة الله في الجنة أبداً.
أنشد ابن الأعرابي: الرجز
ما سبعة كلهم إخوان ... ليس يموتون وهم شبان
لم يرهم في موضع إنسان
وأنشد: الوافر
فما خضراء في ورق وظل ... وأفنان تدب لها عروق
مضت في ذاك حيناً ثم صارت ... لها لحم يرى ودم وريق
وأنشد ثعلب: البسيط
عينان عينان ما فاضت دموعهما ... في كل عين من العينين نونان
نونان نونان لم يخططهما قلم ... في كل نون من النونين عينان
قال أبو محلم: كان أعرابي باليمامة والياً على الماء، فإذا اختصم إليه اثنان وأشكل عليه القضاء حبسهما حتى يصطلحا ويقول: دواء اللبس الحبس.
وأنشد أبو محلم: الطويل
لعمري لقد قاسيت نفساً ضعيفة ... قليلاً لأيام الممات احتمالها
قال أبو العيناء: كتب رجل إلى صديق له: عافانا الله وإياك من الشر كله، فقرأه من الشوكلة ثم كتب إليه: ما أعرف الشوكلة في العلل فعرفني.
قال المبرد: شكا الفضل بن إسحاق جاريته إلى إبراهيم بن عبد الله الحراني فقال إبراهيم: أرأيت وجهك في المرآة؟ قال: نعم، قال: أفرضيته لنفسك؟ قال: لا، قال: يا عاض بظر أمه، فكيف سمتها أن تحب ما لم تحبه لنفسك؟!

قال المبرد: حدثني الجاحظ أن جعفر بن سليمان لما اشترى الزرقاء جارية ابن رامين قال لها: هل قبلك أحد قط؟ قالت: نعم، يزيد بن عون قبلني ومج في فمي درة بعتها بثلاثين ألف درهم، فطلبه حتى ظفر به فضربه بالسياط حتى قتله.
هذا من جعفر لؤم، ومن الجارية رعونة، ومن يزيد بن عون عشق، وما استحق القتل، ولكن الجهل يعمل أكثر من هذا.
قال أبو صالح المصيصي: سمعت الأصمعي يقول: قدم أعرابي البصرة ومعه متاع فسرق، فدخل الجامع فنظر إلى حلقة فيها شيخ يحدث، فوقف وقال: يا هؤلاء، إني قد توسمت فيكم الخير، ورجوت بركة دعائكم، وإنه كان معي متاع فسرق، فاسألوا الله أن يرده علي، فقال الشيخ: يا هؤلاء، سلوا الذي لم يرد أن يسرق متاع الأعرابي أن يرد متاعه عليه، فقال الأعرابي: كما لم يرد أن يسرق متاعي فسرق، يريد أن يرد فلا يرد.
قال إسحاق الموصلي: جاريت أبا الضحاك الربيع بن عبد الله الشيباني فقال في كلامه: هذا الأمر لا يحصى ولا يقصى، أي لا يبلغ أقصاه.
كان الرشيد يلعب بالصوالج فقال ليزيد بن مزيد الشيباني: كن مع عيسى، فأبى فقال: أتأنف ويحك أن تكون معه؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني حلفت يميناً لا أكون على أمير المؤمنين في جد ولا هزل.
قيل لأعرابي: كيف ترى الدهر؟ قال: خدوعاً خلوباً، وثوباً غلوباً.
قال رجل لمتكلم: ما الدليل على صانع العالم؟ قال: شعرة أمك، فإنها تحلقها فتنبت وتعلم أن لها منبتاً، فقال الرجل: إن كان هذا دليلاً على إثبات الصانع فإن بظر أمك يدل على نفي الصانع، لأنها إذا قطعته لم ينبت؛ فانقطع المتكلم.
والسفه في المتكلمين فاش، وسوء الأدب عندهم من أجود سلاح، والمكابرة من أكبر عدة، ولهذا يجتمعون فلا ينفع الله باجتماعهم وبتعاطيهم وبأهوائهم. وما زال هذا الدين بهي المنظر مهيب المخبر، عذب المورد محمود المصدر، حتى تكلم هؤلاء القوم فأثاروا الشبه، وأقاموا الحجج، وطرحوا في القلوب العار، وحملوا الألسنة على الإنكار؛ كفى الله المسلمين شرهم، إنه نعم الكافي والمعين.
قال أبو عبيدة: السحاب فحل الأرض.
قال المدائني: كان فروخ العلج موسراً، فزوج إلى بعض أشراف البصرة، فكان إذا سمع الأقيشر الأسدي ينشد يقول: ما أجوده، وكان لا يعرف شيئاً؛ فأنشده الأقيشر يوماً شعراً يصف فيه نفسه فقال: الكامل
ولقد أروح بمشرف يافوخه ... عتر المهزة ماؤه يتفصد
مرح يطير من المراح لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتقدد
يتنزع الشيطان في إعراضه ... ويصيح
حتى علوت به مشق ثنية ... طوراً أغور به وطوراً أنجد
فقال له: كيف ترى هذا الفرس؟ قال، بخ! قال: أكنت تركبه؟ قال: نعم، وألين عريكته، فضحك به، وبلغ ذلك الشريف الذي كان زوجه، فأخرج الأقيشر عن البصرة.
وقال خلف بن خليفة: السريع
قد أصبحت سعدة مزورة ... لما رأت شدة إملاقي
وزادها وجداً على وجدها ... ما أبصرت من لين مخراقي
أنشد الرياشي: البسيط
تقنعت برداء الحسن وآشتملت ... على لطائف من ظرف وتقويم
أهدت لنا الشمس شطراً من محاسنها ... فالوجه للشمس والعينان للريم
قيل لصوفي: لم تعتزل الدنيا؟ قال: لأني أمنع من صافيها، وأمتنع من كدرها.
قيل لعبد الملك بن صالح الهاشمي: إن أخاك عبد الله بن صالح ذكر أنك حقود، فقال متمثلاً: الطويل
إذا ما امرؤ لم يحقد الحقد لم يكن ... لديه لذي النعمى جزاء ولا شكر
وهذا كقول الآخر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن دائباً ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما
مر خالد بن صفوان على سليمان بن علي وهو منظرة له بالمربد وخالد على حمار، فقال له سليمان: فأين الخيل والنجائب؟ قال: أصلح الله الأمير، الخيل للقتال، والإبل للأحمال، والركائب للجمال، والبغال للأثقال، والحمير للإمهال.
قال الغلابي: سئل عبيد الله بن محمد التيمي عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم السقيفة كنت زورت في نفسي كلاماً، فقال: معناه كنت أصلحت زوره حتى استقام؛ قال: ومنه قول أبي وجزة: البسيط

يزور الأمر حتى يستقيم له ... فما ترى أبداً في أمره زورا
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: أعوذ بالله من الأسد الأسود، والذنب الأعقد، ومن الشيطان والسلطان، ومن عمل ينكس برأس المسلم، ويغري به لئام الناس.
أنشد عمر بن شبة قال، أنشدنا السهمي: الكامل
خالل خليل أخيك وأحو إخاءه ... وأعلم بأن أخا أخيك أخوكا
وبنيك ثم بني بنيك فكن بهم ... براً فإن بني بنيك بنوكا
وارفق بجدك رحمة وتعطفاً ... ترحم فإن أبا أبيك أبوكا
وأنشد ابن الأعرابي: الطويل
فتى لا يراعي جاره هفواته ... ولا حمله في النائبات غريب
فتى يملأ الشيزى ويهتز للندى ... كما اهتز عضب باليمين قضيب
فتى لا يبالي أن يكون بجسمه ... إذا سد خلات الكرام شحوب
قال العتبي: دخل الوليد بن يزيد على هشام، وعلى الوليد عمامة وشي، فقال هشام: بكم أخذت عمامتك؟ قال: بألف درهم، فقال هشام: بألف؟! - يستكثرها - فقال الوليد: يا أمير المؤمنين، إنها لأكرم أطرافي، وقد اشتريت أنت جارية بعشرين ألفاً لأخس أطرافك.
قال المأمون لإبراهيم بن المهدي بعد اعتذاره: قد مات حقدي بحياة عذرك، وقد عفوت عنك، وأعظم من عفوي ويدي عندك أني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين.
قال المبرد: رجع بعض القرشيين إلى امرأة قرشية وقد حلقت شعرها، وكانت أحسن الناس شعراً، فقال لها: ما خطبك؟ قالت: أردت أن أغلق الباب فلمحني رجل ورأسي مكشوف، وما كنت لأدع علي شعراً رآه من ليس لي بمحرم.
قيل لأعرابي: ما أطيب الروائح؟ قال: بدن تحبه، وولد تربه.
أبو العمثيل: الطويل
وبيضاء مكسال لعوب خريدة ... لذيذ لدى ليل التمام شمامها
كأن وميض البرق بيني وبينها ... إذ حان من بعض البيوت أبتسامها
قال مروان بن أبي حفصة لبشار: أنت باز والشعراء غرانيق.
قال ابن سلام: ذكر عند الأحنف الحضين بن المنذر بن الحارث فقالوا: ساد وهو حدث لم تتصل لحيته، فقال الأحنف: السؤدد مع السواد.
قال المبرد: كان سلم بن نوفل الدئلي سيد بني كنانة، فوثب رجل من أهله على ابنه فجرحه، فجيء به فقال له: ما أمنك مني وجرأك علي، أما خشيت عقابي؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لأنا سودناك لتكظم الغيظ وتحلم عن الجاهل، فخلى سبيله، وفيه يقول الشاعر: الطويل
يسود أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المعروف سلم بن نوفل
قيل لصوفي: لم تركت الدنيا؟ قال: لأنها بخلت علي بكثيرها، وظلفت نفسي عن قليلها، ورأتني أمقتها فهجرتني.
أنشد بشر الحافي: الوافر
قرير العين لا ولد يموت ... ولا حذر يبادر ما يفوت
رخي البال ليس له عيال ... خلي من حربت ومن دهيت
قضى وطر الصبا وأفاد علماًفغايتهالتفرد والسكوت
وصف للإسكندر حسن بنات دارا وجمالهن فقال: من القبيح أن نكون قد غلبنا رجال قوم وتغلبنا نساؤهم.
شاعر: الطويل
فما أشرف الأعلام إلا صبابة ... ولا أضرب الأمثال إلا تداويا
سمعت ابن القصاب الصوفي يقول: اسمع وأسكت، وانظر وأعجب ابن المعتز: الرجز
مل سقامي عوده ... وخان دمعي مسعده
وضاع من ليلي غده ... طوبى لعين تجده
غلت من الدهر يده ... قتالة من تلده
يفنى فيبقى أبده ... والموت ضار أسده
يا من عناني حسده ... يقيمه ويقعده
فإنه في حلقه ... شجاً ولا يزدرده
سهرت ليلاً يرقده ... حظ الحسود كمده
قالوا قليل عدده ... من عار قل ولده
نقلت هذا من خط ابن المعتز.
قال ابن عائشة، قال عمرو بن العاص لمسلمة: إني أعلم أنك تعلم أنك كاذب.
أنشد ليزيد بن معاوية: الكامل المجزوء
قصر الجديد إلى بلى ... والوصل في الدنيا انقطاعه
أي اجتماع لم يصل ... بتفرق منه أجتماعه
أم أي شعب ذي التئا ... م لم يبدده انصداعه
أم أي منتفع بشي ... ىء ثم تم له انتفاعه

يا بؤس للدهر الذي ... ما زال مختلفاً طباعه
قد قيل في مثل خلا ... يكفيك من شر سماعه
قال ابن عائشة: كان يقال: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدأها، ومجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تزكي النفوس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء، قالوا: وكيف يا رسول الله؟ قال: إذا لبسن ريط الشام، وحلل العراق، وعصب اليمن، وملن كما تميل أسنمة النجب، فإذا فعلن ذاك كلفن المعسر ما ليس عنده.
هكذا نقلت من خط ابن المعتز وكأنه كان مسودته، وكان زعم أنه يريد أن يكتب كتاباً في حديث النساء وآفاتهن.
عرض على بلال بن أبي بردة الجند، فمر به رجل من بني نمير ومعه رمح قصير، فقال له: يا أخا بني نمير، ما أنت كما قال الشاعر: الوافر
لعمرك ما رماح بني نمير ... بطائشة الصدور ولا قصار
فقال: أصلح الله الأمير، ما هو لي إنما استعرته من رجل من الأشعريين.
قال يعقوب بن إسحاق الكندي: الغناء شيء يخص النفس دون الجسم فيشغلها عن مصالح الجسم، كما أن لذة المأكول والمشروب تشغل الجسم دون النفس.
قال، وأنشدني إسماعيل بن الغمر لنفسه: المتقارب
رأيتك عند حضور الخوان ... قليل النشاط كثير الصياح
تلاحظ عينك كف النديم ... فترمقه من جميع النواحي
وتشغله باستماع الحديث ... طوراً وطوراً بعظم المزاح
فعال امرىء بخلت نفسهبشيء يؤول إلى المستراح
وذم رجل آخر فقال: دعواته ولائم، وأقداحه محاجم، وكؤؤوسه محابر، وبوارده نوادر.
وأنشد لإبراهيم بن العباس: المتقارب
فأنت منى النفس من بينهم ... وأنت الحبيب وأنت المطاع
ولا منك إن بعدوا وحدة ... ولا منهم إن بعدت اجتماع
وأنشد لكاتب من أرجوزة: الرجز
ثلاثة أصفيتهم إخائي ... كأنهم كواكب الجوزاء
عطارديون يرون رائي ... كأنما أهواؤهم أهوائي
وأنشد كشاجم لأخر: الرجز
خلان لي أمرهما عجيب ... كل لكل منهما حبيب
ما لي في دعواهما نصيب ... كأنني بينهما رقيب
قال: ومر بعض الندماء بجدي سمين فقال: ليت شعري لغلمان من أنت؟ فسئل عن معنى ذلك فقال: يؤخر أصحابنا الجدي فلا يصل إلينا وفينا فضل، ويفوز به الغلمان.
وقال أديب: المودة روح والزيارة شخصها.
ويقال: ثلاثة تضني: سراج لا يضيء، ورسول بطيء، ومائدة ينتظر عليها من يجيء.
قال: وسمعت بعض الأغنياء يعتذر من ترك الاحتفال بعذر ما أحسن الأعتذار قط إلا من مثله، قال: ما يمنعني من الأحتفال إلا الأستظهار، قلت: وكيف ذاك؟ قال: أكره أن أحتفل فيتأخر عني من أدعوه، إما من عمد وإما عن عائق، فتكون قد تكلفت ما لا تنتفع به.
وحكي عن بعض السفلة أنه قال لصديق له: اعمل أنك تصطبح غداً عندي على ماء خصر.
قال كشاجم: بلغ عبد الله بن طاهر أن بعض ندمائه خانه في بعض غلمانه، فتجافى عن ذلك ولم يظهر في إنكاره، ثم أخبر أن بعض الغلمان وجد على بعض الرؤساء، فقام من ذلك وقعد وقال: نحتمل إخواننا في فضيحة غلماننا، ولا نحتمل غلماننا في فضيحة إخواننا.
قال يعقوب الكندي: الجواهر خاصة للجوهر اللازمة له دون المعولات الذي قوامه بذاته، أعني أنه الذي لا يحتاج في قوامه إلى غيره وهو وحده حامل بعينه للأختلاف، غير متبدل في عينه في قبوله للأختلاف.
قال كشاجم، قيل للعتابي: ما المروءة؟ قال: ترك اللذة، قيل: فما اللذة؟ قال: ترك المروءة.
وأنشد: الخفيف
رب حسناء كالمهاة تهادى ... قد دعتني لنفسها فأبيت
لم يكن لي تحرج غير أني ... كنت ندمان زوجها فاستحيت
وأنشد لكاتب: الطويل
تعالوا إلى الخل الذي لم يزل بكم ... يصول على ريب الزمان ويشمخ
فقد حصلت عندي لكم فتعجلوا ... ثلاث دجاجات سمان وأفرخ
وراح وريحان ومسك وعنبر ... نبحر أحياناً به ونضمخ
ومسمعة كالبدر تشدو بصارخ ... تهاوى القلوب نحوه حين يصرخ
وها أنا ذا طباخكم ولربما ... رأيت ظريف القوم يشدو ويطبخ

سوى أنه لا يقطع اللحم كفه ... ولا هو إن لم تشعل النار ينفخ
وإني لأستخذي لأهل مودتي ... وأزهو على أهل المعالي وأبذخ
وأنشد أيضاً: الطويل
وبيض نضيرات الوجوه كأنما ... تأزرن دون الريط من رمل عالج
خدال الشوى لا تحتشي غير خلقها ... إذا الرسح لم يصبرن دون المنافج
يذرن مروط الخز ميلاً كأنها ... قصار وإن طالت بأيدي النواسج
وقال آخر: الكامل
يمشين مشي قطا البطاح تأوداً ... خمص البطون رواجح الأكفال
يمشين بين حجالهنكما مشت ... بزل الجمال دلجن بالأثقال
وقال آخر: الكامل
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيورا
قيل لمخنث: ألا تستحي تناك في آستك؟ فقال: ذوقوا ولوموا.
ونظر مخنث في حمام إلى رجل قصير الأير طويل الخصيتين فقال: سخنت عينك، الغلالة أطول من القميص؟! تزوجت أم مخنث بالمدينة، فلما كان ليلة دخول زوجها إليها جاء ابنها فاطلع من شق الباب وقال لها: يا أمي، تأكلين وحدك؟ لا هناك الله.
خاصم شاعر مخنثاً فقال: والله لأهجونك، فقال المخنث: والله لئن هجوتني لأخرجن حر أمك في الحكاية.
قال الشاعر فيما نقله كشاجم في كتاب النديم، ونقلت محاسنه: الكامل
أشرعت في تفصيل شلو شوائه ... فكأنني أشرعت في أعضائه
أحلى الرجال فكاهة وأبشهم ... بالزور إلا عند وقت غدائه
وقال آخر: الكامل
تأبى خلائق خالد وفعاله ... إلا تجنب كل أمر عائب
وإذا حضرنا الباب عند غدائه ... أذن الغداء لنا برغم الحاجب
وقال آخر: الرجز
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدى رفعت ستوره
وقال آخر في كريم: الكامل المجزوء
إن كنت تأمل حظوة ... ومكانة عند الأمير
فإذا دعا لغدائه ... بخوانه الرحب الكبير
فاسبق إليه مسارعاً ... لا بالتهور ولا الحصور
وآبدأ بأفخاذ الدجا ... ج وثن منها بالصدور
وآقصد لإلحاق الصحي ... ح من الجراذق بالكسير
وآستنطف الحلواء وآس ... تأثر بأصناف التمور
وأجل يديك كما يجو ... ل الطرف بالبطل المغير
إن الأمير يحب ذا ... ك من المواكل والعشير
وقال: حكي عن زياد بن أبيه أنه قال لحاجبه: لا تحضروا طعامنا إلا جائعاً. وآستسقى أعرابي على مائدته، وكان بحيث يراه، ومقبل مولاه على رأسه، فقال زياد: اسقه ما أحب من الشراب، وكان يسقيهم على طعامه اللبن وسلاف الزبيب والعسل، فقال الأعرابي: اسقني لبناً، فناوله عساً ضخماً، فلم يقو على حمله، فأرعدت يده فأراقه على صدره، فقال له مقبل: آرفق، كالمتجهم، فقال زياد: مهلاً، كل ذا عليك، لأنك ناولته إياه وما يستطيع حمله، ولا أنت أمسكت عن تخجيله.
وقال الأخفش: استهدى إبراهيم بن المدبر المبرد جليساً، فندبني لذلك، وكتب معي إليه: قد أنفذت إليك - أيدك الله - فلاناً، وجملة أمره أنه كما قال الشاعر: الوافر
إذا زرت الملوك فإن حسبي ... شفيعاً عندهم أن يعرفوني
غنى مخنث عند أمير، فلما أراد الأنصراف قال: يا سيدي، أنصرف بلا شيء؟ قال: يا غلام، أعطه مائة درهم يدخلها في حر أمه، قال: يا سيدي، مائة أخرى أدخلها في أستها، فضحك وأمر له بمائة أخرى.
نظر مخنث إلى امرأة من منظرة تتحرك فتعجب، وتأمل فإذا فوقها رجل يدفع فيها، فقال: لا عجب من أمر الله، أنا لما رأيت الهرة تتحرك علمت أن التبرم في أصلها.
عبث رجل بمخنث، فقال له المخنث: بالله من أين أنت؟ فقال: من بغداد، قال: عز ربي وجل، عهدي بالقردة تجلب من اليمن، صارت تجلب من بغداد؟! فخجل الرجل.
قال مخنث لرجل طويل اللحية كبير السبال: لا تكلمني من وراء حجاب فإني لا أفهم ما تقول، نح المخلاة من وجهك حتى أفهم.
قيل لمخنث: ما أقبح آستك، قال: يا ابن البغيضة، تراها لا تصلح للخرا؟!

قال أبو حامد المروروذي: كان بالشام قاص يقص ويقول: اللهم أهلك أبا حسان الدقاق فإنه تربص بالمسلمين وفعل السوءى بهم، ومنزله أول باب في الدرب على يسارك.
قال الهيثم بن عدي: كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الكريم حسوداً ولا الشره غنياً، ولا الملول ذا إخوان.
أنشد لعمران بن حطان: الكامل
حتى متى تسقى النفوس بكأسها ... ريب المنون وأنت لاه ترتع
أفقد رضيت بأن تعلل بالمنى ... وإلى المنية كل يوم تدفع
أحلام نوم أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثله لا يخدع
قيل لأعرابي: أين الجد من الأدب؟ قال: هذا مشرق وهذا مغرب.
قال عبد الله بن قيس في بني عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وكانوا أكرموه: الكامل المجزوء
ما إن رأيت بني أب ... في الناس مثل بني عماره
أوفى بموعود وأك ... رم في العطية والنذاره
الجود منهم شيمة ... في العسر يعرف واليساره
لا الفحش في ناديهم ... يخشى الجليس ولا الشراره
وإذا لجأت إليهم ... فلك المناعة والخفاره
من نسل قرم ماجد ... جمع الحلاوة والمراره
يعطي ليحمد ماله ... ويراه من خير التجاره
فأفخر بقوم سادة ... أهل الجمارة والصباره
النذارة: النذير، والصبارة: الكفالة، والصبير والكفيل واحد.
قال الرشيد في جعفر بن يحيى وهو يصفه: جعفر بحر لا ينزح، وجبل لا يزحزح.
شاعر: البسيط
حلو الشمائل مأمون الغوائل مأ ... مول النوافل محض زنده وار
الله ألبسه في عود مغرسه ... ثياب حمد نقيات من العار
دفاع معضلة حمال مثقلة ... دراك وتر ودفاع لأوتار
كاتب: ولئن أوحشني المصاب به، لقد آنسني الثواب عليه، فصار صبري على حادث الرزية به شكراً لله على متقدم العطية فيه.
مر في مذكرات أبي معشر، وكانت بخط القومسي قال، قال أبو معشر، أخبرني محمد بن موسى الجليس - وليس بالخوارزمي - قال، حدثني يحيى بن أبي منصور قال: دخلت وجماعة من المنجمين إلى المأمون وعنده إنسان قد تنبأ ونحن لا نعلم، وقد دعا بالقضاة ولم يحضروا بعد، فقال لي ولمن حضر من المنجمين: اذهبوا فخذوا لي طالعاً لدعوى هذا الرجل في الذي يدعيه، وعرفوني ما يدل عليه الفلك من صدقه وكذبه، ولم يعلمنا المأمون أنه متنبىء؛ فجئنا إلى بعض تلك الحصون، فأحكمنا الطالع وصورناه، فوقع الشمس والقمر في دقيقة واحدة، وسهم السعادة وسهم الغيب في دقيقة الطالع، والطالع الجدي، والمشتري في السنبلة ينظر إليه، والزهرة وعطارد في في العقرب ينظران إليه، فقال كل من حضر غيري: كل ما يدعيه صحيح، وقلت: أنا في طلب تصحيحه، وله حجة عطاردية زهرية، وتصحيح الذي تطلبه لا يتم ولا ينتظم، إنما هو ضرب من التحسين والرونق يتعجب منه، فقال لي: أحسنت لله درك، ثم قال: أتدرون من الرجل؟ قلت: لا، قال: إنه يزعم أنه نبي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أفمعه شيء يحتج به؟ فلنسأله، فقال: نعم، معي خاتم ذو فصين، ألبسه فلا يتغير مني شيء، ويلبسه غيري فيضحك ولا يتمالك من الضحك حتى يدعه؛ ومعي قلم شامي آخذه فأكتب به، ويأخذه غيري فلا تنطلق به إصبعه، فقلت: أيا سيدي، هذه للزهرة وعطارد، قد عملا عملهما، فأمره المأمون أن يفعل ما قاله، ففعل، وعلم أنه من علاج الطلسمات. فما زال المأمون به أياماً كثيرة حتى تبرأ من دعوى النبوة، ووصف الحيل التي احتالها في الخاتم والقلم، فوهب له ألف درهم، ثم لقيناه بعد ذلك فإذا أعلم الناس بالنجوم؛ قال أبو معشر: هو الذي عمل طلسم الخنافس في دور كثيرة من دور بغداد.
قال شاذان: كان أبو معشر على علمه وفهمه وتقديمه في الصناعة يصيبه الصرع عند امتلاء القمر في كل شهر مرة، وكان لا يعرف لنفسه مولداً، ولكنه كان قد عمل مسألة عن عمره وأحواله وسأل عنها الزيادي المنجم لتكون أصح دلالة إذا اجتمع عليها طبيعتان: طبيعة السائل وطبيعة المسؤول، فخرج طالع تلك المسألة السنبلة، والقمر في العقرب في مقابلة الشمس، والمريخ ناظر إلى القمر من الدلو، وهذه الصورة توجب الصرع.

قال فيلسوف: نصحك من أسخطك بالحق، وغشك من أرضاك بالباطل.
قال المدائني: رأيت رجلاً من باهلة يطوف بين الصفا والمروة على بغلة، ثم رأيته بعد ذلك راجلاً في سفرة، فقلت: أراجل في هذا الموضع؟ قال: نعم، إني ركبت حيث يمشي الناس، فكان حقاً على الله أن يرجلني حيث يركب الناس.
قال العباس بن الأحنف: المديد
أنا لم أرزق مودتهم ... إنما للعبد ما رزقا
كان لي قلب أعيش ... به فأصطلى بالحب فاحترقا
قال أبو الغريب: قد علمت كل شيء حتى علمت أن القرطم من الطلع، والخردل من التين، والبلوط من الحطب، خلا القطائف، لا أدري من أين هو.
وقرىء في مذاكرات أبي معشر قال: حضرت وشيلمة والزيادي والهاشمي والشابشتي عند الموفق، وكان الزيادي أستاذ زمانه في النجوم، فأضمر الموفق ضميراً، فقال الزيادي: أضمر الأمير رئاسة وسلطاناً، فقال: كذبت، وقال شيلمة: أضمر الأمير عقد أمر جليل رفيع، فقال: كذبت، فقال الهاشمي: لست أعرف غير ما قالا، الرأس في وسط السماء، وصاحب الطالع ناظر إليه، والكواكب ساقطة، فقال له: وأنت أيضاً كذبت، ثم قال لي: هات ما عندك يا شابشتي، فقلت: أضمر الأمير الله عز وجل، فقال: أحسنت والله، ويلك، أنى لك هذا؟ قلت: الرأس يرى فعله ولا يرى نفسه، وكان في أرفع درجة في الفلك في الضمير، ولم أعرف له مثلاً إلا الله عز وجل، لأن الله تعالى يرى فعله ولا يرى هو، وهو فوق كل رفعة سلطان ليس فوقه - جل ربنا وعز.
وضاح اليمن: السريع
قالت ألا لا تلجن دارنا ... إن أبانا رجل غائر
نعم وإن القصر من دوننا ... قلت فإني فوقه طائر
قالت فإن البحر من دوننا ... قلت فإني سابح ماهر
قالت فإن الليث من دوننا ... قلت فسيفي مرهف باتر
قالت أليس الله من فوقنا ... قلت فربي قادر غافر
قالت فإما كنت أعييتنا ... فأت إذا ما هجع السامر
وأسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا واش ولا زاجر
قال أبو علقمة لخياط: يا خياط، أقطع لي هذه السراويل، وارتق فتقها وافتق رتقها، فقال الخياط: يأخذك والله القولنج قبل أن تفسو في هذه السراويل.
وقع بين أبي علقمة وبين سالم بن أحوز كلام، وكان لسالم مولى نداف يعزى إليه، فقال له: لو وضعت يمين رجليك على حراء ويسراها على بئر زمزم ثم تناولت قوس قزح فندفت ما كنت إلا كلباً.
أصاب أعرابي درهماً في كناسة الكوفة فقال: أبشر أيها الدرهم وقر قرارك، فطالما خضت فيك الغمار، وقطعت فيك الأسفار، وتعرضت فيك للنار.
شاعر: الكامل المجزوء
كل امرىء يعطيك من ... أخلاقه ما كان عنده
ولقد يكون الشيء شك ... ل الشيء ثم يصير ضده
والعلم ليس يحده ... من كان يبغي أن يحده
ولقد جعلت اليأس بي ... ن جوانحي فوجدت برده
وإذا جرى قدر بما ... يقضي فما تسطيع رده
والمرء يولد وحده ... فيعيش ثم يموت وحده
قال ابن الأعرابي: كان عمر بن الخطاب يطوف بالبيت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، إن علياً لطمني، فوقف عمر إلى أن وافى علي فقال له عمر: يا أبا الحسن، ألطمت هذا؟ قال: نعم، قال: ولم؟ قال: لأنني رأيته نظر إلى حرم المسلمين في الطواف، فقال: أحسنت، ثم أقبل على الملطوم فقال: وقعت عليك عين من عيون الله.
قال ثعلب: سألت ابن الأعرابي عن هذا فقال: خاصة من خواص الله.
سأل أبو عروة الزبيري مصعباً الزبيري حاجة فلم يقضها له، فقال: علم الله تعالى أن لكل قوم شيخاً يفزعون إليه، وإنا نفزع منك.
قيل لأبي عروة هذا: أيسرك أنك قائد؟ فقال: أي والله، ولو قائد عميان.
يقال: أول من اتخذ المنابر في المساجد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وأول من دعي له على المنابر عبد الملك بن مروان.
ابن السماك: اللهم إنا نحب طاعتك وإن قصرنا عنها، ونكره معصيتك وإن ركبناها، اللهم فتفضل علينا بالجنة وإن لم نكن لها أهلاً، وخلصنا من النار وإن كنا استوجبناها، اللهم إنا نخاف أن يضطرنا المعاش إلى ما نكره من الأعمال فسلمنا من فتنته وعوارض بلائه.

قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس في شيء ما فالأمر ما عليه أهل الثغور، لأن الله تعالى يقول: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " العنكبوب: 69.
من أمثال العرب: إذا كان لك أكثري فتجاف عن أقلي.
كاتب: أنت أجل قدراً، وأعلى محلاً، وأفسح تفضلاً، من أن يترك عندك مع بلوغ الأمنية، ودرك البغية، ووجوب الأمل، غرضاً لريب الزمان، تصميه أسهمه، وتطوحه صروفه، وتعصف به رياحه، بانقباض يده، وقصور رزقه عن كفايته، وعجزه عن الوفاء بمؤونته كاتب: إن رأيت أن يدعى عندك يانع إحسانك، وجنية من ثمار عيدانك، فتورده شريعة آمتنانك، فقد أنحت عليه الخلة، واستمرت الإضاقة، وبلغت المدية محزها منه، فعلت إن شاء الله.
سمعت أبا سليمان يقول: كنا نحفظ ونحن صغار: احذروا حقد أهل سجستان، وحسد أهل هراة، وبخل أهل مرو، وشعث أهل نيسابور، ورعونة أهل بلخ، وحماقة أهل بخارى.
كان البادي الشاعر وقع إل أذربيجان في نقلته، وكان قبيح الزي، فأتى باب النيرماني الكاتب وآستأذن، فازدراه الحاجب وأهانه وهزل به وقال: لا آذن لك حتى أزبطرك، فصبر له، ثم لم يف الحاجب، وإنما كان نوى به اللهو، فتوصل إلى أن أسمع النيرماني هذه الأبيات، وهي: المتقارب
مدحت الأمير أبا قاسم ... ونفسي لجدواه مستمطره
بشعر كوجه نسيم الرياض ... غلسه الطل أو بكره
وقالوا أمير جزيل العطاء ... كريم الأيادي والمأثره
فلما وصلت إلى بابه ... جزيت على مدحه زبطره
ومكنت من وجهي الحادثات ... وأيقنت أني قتيل الشره
فبك على الفضل والمكرمات ... وناد بهن من المقبره
فقد أسخن الله عين امرىء ... يقال له اليوم ما أشعره
فهل يا محمد من نائل ... يبل اللهاة أو الحنجره
فمن يفعل الخير خيراً يره ... ومن يفعل الشر شراً يره
فأمر من أخذ جميع مال الحاجب ودفعه إلى الشاعر ووصله من عنده.
وقفت أعرابية على قبر أخيها فقالت: نعم السيد كنت لعشيرتك، كنت والله مناخ الضيفان، وحوض الظمآن، وسم الفرسان، لقد كنت عند الغضب حليماً، وعند الله كريماً.
قال الفضيل بن عياض: من أكثر من قول الحمد لله كثر الداعي له، قيل: ومن أين قلت هذا؟ قال: لأن كل من يصلي يقول: سمع الله لمن حمده.
قال البقطري: ما في الأرض مطلوب إليه ألأم من أير، دنا الأصمعي من جارية وقد كبر فلم يتحرك ما عنده فقال: سبحان الذي خلق خلقاً فأماته في حياته.
قال الزيدي: العرب تقول: هو أنكح من ابن ألغز وهو عروة بن أشيم الضبي، وهو القائل: الطويل
ألا ربما أنعظت حتى إخاله ... سينقد للإنعاظ أو يتمزق
فأعلمه حتى إذا قلت قد ونى ... أبى وتمطى جامحاً يتمطق
قال الأصمعي: لما أخذ أبو بيهس الخارجي، قطعت يداه ورجلاه ثم ترك يتمرغ في التراب، فلما أصبح قال: هل أحد يفرغ علي دلوين فإني أحتلمت في هذه الليلة. كتبنا هذا للعجب.
وصف معبد امرأة فقال: كأن ركبها دارة القمر، وكأن شفرها أير حمار مثني.
وقال آخر: الرجز
أنعت نعتاً من حر لم أخبره ... رأيته وليس شيء يستره
مثل سنام طارعنه وبره
وقال عقبة الأسدي لما تزوج عبيد الله بن زياد بنت أسماء بن خارجة: الوافر
جزاك الله يا أسماء خيراً ... لقد أرضيت فيشلة الأمير
بذي صدع يفوح المسك منه ... عظيم مثل كركرة البعير
لقد أهديتها بيضاء روداً ... شديداً رهزها فوق السرير
إذا أخذ الأمير بمنكبيها ... سمعت لها أنيناً كالصرير
تساب صبيتان من الأعراب، أم إحداهما رسحاء وأم الأخرى عجزاء ليست بذاك، فقالت ابنة العجزاء لصاحبتها: يا ابنة الرسحاء، فقالت الأخرى: ويحك، إن أمي تأخذ الجلوة بوجهها قبل أن تحظى أمك بعجزها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أستعيذوا بالله من شرارهن، وكونوا من خيارهن على حذر.
قال الأصمعي: أفرغ من حجام ساباط، لأنه كان يمر بالجيوش فيحجم - من الكساد - نسيئة إلى أن يرجعوا.
قال ابن الأعرابي: كان حجام مطله من حجمه، فكتب إليه: الوافر

حجمتك مرة وجززت شعراً ... فلم تبعث بحق أبي زياد
وإن حديدنا يحتاج صقلاً ... وصقل القين بالورق الجياد
وقال آخر: الوافر
ألم ترني وعمراً حين نغدو ... إلى الحاجات ليس لنا نظير
أسايره على يمنى يديه ... وفيما بيننا رجل ضرير
قال علي بن صالح: خرجنا مع المأمون إلى الشام فقال: ابغني مسامراً، فاخترت رجلاً من أهل سلمية فأوصلته إليه فقال: حاجةيا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قال: إنه إذا أهمني من ورائي لم تصف منادمتي، فقال: صدق، يا غلام أعطه بدرة، ثم قال: حاجة يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قال: ليس من النصفة للنديم أن يكون عليه خلعة دون خلعة صاحبه، فإن ذاك مما يكسر قلبه، قال: صدقت، يا غلام أعطه خلعة، ثم قام فقال: ثالثة يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قال: إنك ستسقيني ما يحول بيني وبين عقلي، فإن كانت مني هنة أو زلة أحتملها وإلا فأعفني من الشرب، قال: نحتمل ذلك، واستحسن شرائطه.
وكان قاص بالكوفة يقول: اللهم ارزق خضراً النبي وليداً يجعله منه خلفاً صالحاً، فإني أخاف أن ينقطع نسله.
خاصم رجل امرأته فشتمته، وكانت خلف الباب، فقال لها: مري فو الله لئن دخلت إليك لأشققن حرك، فقالت: لا والله، ولا كل أيرفي بغداد.
كانت عنان جارية الناطفي عندها جماعة من الشعراء وجمين معهم، وحضرت المائدة فأرادوا أن يوسعوا لعنان فقالت: مكانكم! فلو مددت يدي إلى البصرة لنلتها، ومدت يدها فضرطت، فقال جمين: حطي شراعك حتى نتعشى بواسط.
خطبة كتاب الرتب: الحمد لله داحي المدحوات وباري المسموكات، الذي بنعمه تتم الصالحات، وتزكو الحسنات، وتنال الخيرات، وتنشأ الأمم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وجبل النفوس على فطرها، شقيها وسعيدها، وصلى الله على نبي الرحمة، وخير البرية، والهادي إلى الحق، الخاتم لما سبق، والفاتح لما أغلق، والمعلن الحق بالحق، وسلم تسليماً.
شرب أعرابي شربة من لبن فقال: من رزقه الله الشكر من النعمة باللبن فقد ألهمه الشكر على جميع النعم لأنه يجمعها.
قيل لأحيحة بن الجلاح: أي المال أحب إليك؟ قال: ودية ملمة، أونعجة مرمة.
أنشد أبو نصر غلام الأصمعي: الطويل
لنا صرم ينحرن في كل شتوة ... إذا ما سماء الناس قل قطارها
ونحمي بها العرض الكريم ونتقي ... ويروي ظماء المعتفين شعارها
قال أعرابي من أهل اليمامة: عندنا ثمرة تسمى البردي لهي أحسن من العقيان في صدور الفتيان، فإن جعلتها نبيذاً فهي سم الأساود، والقائم فيها ساجد.
وصف أعرابي رجلاً فقال: كان الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين، لم أر أحداً أرتق لخلل ثأى منه؛ كان بعيد مسافة الرأي ومراد الطرف، إنما يرمي بهمه حيث أشار له الكرم، يتحسى مرار الإخوان ويسقيهم العذب.
أعرابية ترثي: المتقارب
ألا هلك الجود والنائل ... ومن كان يعتمد السائل
ومن كان يطمع في سيبه ... غني العشيرة والعائل
فمن قال خيراً وأثنى به ... عليه لقد صدق القائل
أعرابي: الكامل
لا تنكري أني عريت فربما ... يعرى لجودة جنسه العضب
إني وإن ضاقت علي معيشتي ... وعدا علي زماني الصعب
لأصون نفسي أن يدنسها ... عيب إذا ما آستدنس الوغب
لبعض بني سليم: الوافر
أليلتنا بنيسابور ردي ... علي الصبح ويحك أو أنيري
كواكبها زواحف لاغبات ... كأن سماءها بيدي مدير
تلوم علىالحوادث أم زيد ... وهل لك في الحوادث من مجير
حملت كرامتي وصددت عني ... إلى أجل من الدنيا قصير
فلو شهد الفوارس من سليم ... غداة يطاف بالأسد العقير
لنازل حوله قوم كرام ... فعز الوتر وانقضت الوتور
فقد بقيت كلاب نابحات ... وما في الأرض بعدك من زئير
ومن كتاب الرتب: الطويل
إني لشداد على الخمص مئزري ... وإني لأستحيي وأنت تراني
وإني على القرن الكمي مشيع ... وإني على المولى الضعيف لواني
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: المتقارب==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-الي هنا ---------------------------